المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة المعاد
التوضيح
تشمل 75 مجلساً في كيفية سير الإنسان وحركته في الدنيا وعالم الغرور، وكيفية تبدل نشأة الغرور إلى عالم الحقائق والواقعيّات وارتحال الإنسان إلى الله وغاية الغايات.
وتقع هذه المجموعة في عشر مجلّدات طبعت بأجمعها بالفارسيّة؛ وقد جرى فيها على نحوٍ وافٍ ومستفيض طرح مباحث من قبيل: عالم الصورة والبرزخ وكيفيّة ارتباط الأرواح هناك مع هذه العوالم، كيفيّة خلقة الملائكة ووظائفهم، النفخ في الصور وموت جميع الموجودات ثم إحياؤها وقيام الإنسان في ساحة الحضرة الأحديّة، عالم الحشر والنشر والحساب والكتاب والجزاء والعرض والسؤال والميزان والصراط والشفاعة والأعراف والجنة والنار؛ وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنية وأخبار المعصومين ومن الأدلّة العقليّة والفلسفيّة والمطالب الذوقيّة والعرفانية.
الْخَامِسُ عَشَر: الْمُلأزَمَة بَيْنَ مُشَاهَدَة المَوْجُودَاتِ الْمِثَالِيَّة مَعَ نِسْيَانِ عَالَم الْكِثْرَة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
(مطالب القيت في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك)
الحمد لله ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
اشتراط رؤية الله أو نزول الملائكة للإيمان ناشئ عن الاستكبار
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ، وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا۱
يقول الذين لا يرجون زيارتنا و لقاءنا: لما ذا لا تنزل علينا الملائكة؟ و لما ذا لا نرى الله؟!
أي أنهم يقولون للنبيّ: إنْ أريتَنا الله عياناً، أو أنزلتَ علينا الملائكة فلمسناهم و شاهدناهم لآمنّا آنذاك؛ أمّا و نحن لم نَرَ الله و لم ينزل علينا مَلَك، فهيهاتَ أن نؤمن لك! و كلامهم هذا مُجانب للصواب كثيراً، و ناشئ عن
روح التكبّر و الاستكبار فيهم، إذ حين سيرون الملائكة فإن أمرهم سيكون قد قُضي و انتهى.
على أنّ أمثال هؤلاء المعاندين المتمرّدين الذين لا يخضعون للحقّ بسبب استكبارهم النفسيّ و تعاليهم، لن يتلقّوا من الملائكة أي بشارة، بل سيُهاب بهم بالطرد و المنع فيُحجر عليهم و يُمنعون من الورود في عوالم المسرّة و البهجة.
و لأنّ عملهم في الدنيا لم يدرْ على محور رضانا و الأمل في التقرّب إلينا، فقد قدمنا إليه و استولينا عليه و جعلناه بإرادتنا القاهرة هباءً متناثراً في الفضاء الفسيح، مُضمحلًا مُتبدّداً مُتشتّتاً.
أمّا أصحاب الجنّة الذين كانوا يرجون لقاءنا، فسيستقرّون ذلك اليوم في مكان يفيض طمأنينة و أمناً، و يخلدون إلى الراحة في ذلك المكان المريح.
و تتضمّن هذه الآيات العائدة إلى البرزخ نكاتٍ عجيبة و دقائق جمّة غريبة، في أنّ سبب التمرّد و عدم القبول بالآيات الإلهيّة و برسالة الرسول أمرٌ ناجم عن استكبار النفس. و على هذا فما دام الاستكبار أي التعالي و العُجب و امتداح النفس و تضخيمها باقياً، فإنّ سبيل الوصول إلى الحقائق سيكون مسدوداً، لأنّ هذا العتوّ و التمرّد سيقف حائلًا في وجه جميع الأفكار المنطقيّة الصائبة، و يبرّر منطق جميع الأفكار السقيمة الخاطئة و يوظّفها للوصول إلى نوايا هذه النفوس المتمرّدة. و من ثمّ سيُقبر صاحب النفس المستكبرة و يُدفن إلى الأبد في سجن الجهل و مقبرة النظر الخاطئ و الرؤية الفجّة غير المقبولة النابعة من الغرور و العُجب.
يقول المستكبرون: إنّنا لن نؤمن ما دُمنا لا نرى الله، و ما دامت
الملائكة لم تنزل علينا!
فما أبعد هذا الكلام في ميزان الواقع و وجدان الحقيقة عن الصواب و الاعتبار!
فبعد أنْ علم هؤلاء أنّ النبيّ صادقٌ و مُصيب في دعواه، و أنه مُرسَل من قبل الله تعالى، و أنّ قلبه متّصل بعالم الغيب، و أنه أقام البيّنات و الحُجج للشهادة على ذلك.
و بعد علمهم بأنّ هذا الرجل لا يتحرّك في إطار الموازين العاديّة و الطبيعيّة و أنه مرتبطٌ بعالم الغيب و ملكوت العالم، و مستقرٌ في منهل معدن الوحي و العظمة، فهو يتعامل من هناك مع عالمنا هذا، عالم الطبع و المقاولة و التكليف؛ فإنّ حجّتهم في عدم الإيمان إلّا برؤية الله ستكون حجّة مغلوطة و مرفوضة.
فالأنبياء -أساساً- يأتون بما يمكن من المعجزات اللازمة لإقرار و اعتراف البشر، و حينذاك فإنّ إحالة الإيمان بالله على رؤيته و على نزول الملك -و هو أمر محال للناس العاديّين- لا يمكن أن يُحمل إلّا على التمرّد و عدم الرضوخ لقول الحقّ و الصدق. إنّهم يريدون مشاهدة الله عياناً، و ليس الله بجسم، و لا يُرى بالعين التي تدرك الأجسام و المحسوسات، و الله سبحانه لا يرضى أساساً بذلك الإيمان الذي تريدون أن تصلوا إليه بعد رؤيتكم لله عياناً، إذ ليس ذلك إيماناً، بل هو الكفر المبين.
و كيف من ثمّ -على فرض المحال- يجسّد الله نفسه لكم على هيئة جسم -و ليس ذلك إلّا حقيقة الكفر- لكي تؤمنوا إيماناً صحيحاً من خلال هذه المقدّمة الكفريّة؟ أو يمكن أن يكون الكفر مقدّمة للإيمان؟!
أو هل سُدّت جميع طرق و سبل الإيمان فلم يبقَ إلّا هذه المقدّمة الكفريّة ليستعين بها الله في جعلكم مؤمنين؟!
يقولون: لن نؤمن حتّى تنزل علينا الملائكةُ!
لكنّ نزول المَلَك ملازم لصفاء الروح و تزكية النفس؛ فالنبيّ كان يرى الملك لأنّ قلبه كان ملكوتيّاً، فذلك القلب الصافي المشرق، و ذلك الضمير الواعي الطاهر يمكنه أن يرى المَلَك عياناً.
فطهّروا أنتم أيضاً قلوبكم بأوامر الله و تعاليم هذا النبيّ، و اجلوها من صدأ الشهوة و الغضب و خواطر النفس الأمّارة، و اضطرابات الخيالات التمويهيّة لتسكن و تستقرّ ليمكنكم مشاهدة المَلَك!
أمّا و الحال أنكم لم تؤمنوا بعدُ، فما برحتم مشركين مدنّسين بالرذائل الأخلاقيّة و قبائح الأعمال، فأنى لقلبكم المدنّس المضطرب أن يتمكّن من رؤية المَلَك؟!
عليكم أن تؤمنوا بالله سبحانه تبعاً لأمر هذا النبيّ، ليتجلّى نور الله في قلوبكم شيئاً فشيئاً بالأعمال الصالحة و النزعات الحميدة إلى عالم الغيب. أمّا رؤية الله فليست بالأعين التي في الرأس، بل بعين الباطن، كما أنّ لقاءه إنّما يحصل بالقلب و الوجدان و الضمير، و سيزول الكدر و ينجلي من القلب تدريجياً باتّباع أوامر النبيّ و العمل بالقرآن الكريم، فتتّجهون إلى مقصد الإنسانيّة. و ستزول الملكات الرذيلة تاركة محلّها للملكات الحسنة التي تظهر بالإيمان و المجاهدة و العبوديّة.
رؤية الله بنظر القلب، و مستلزمة لتزكية النفس
إنّ لقاء الله مترتّب على الإيمان به و اتّباع نبيّه، لأنّ القلب سيطهر آنذاك فيجد قابليّة عكس أنوار العالم المجرّدة الملكوتيّة، و لربّما أمكن له رؤية الملائكة أيضاً، بَيدَ أنّ ذلك يحصل بعد الإيمان و العمل الصالح لا قبلهما، و إلّا لزم منه ترتّب العلّة على المعلول، و هو محال! ثمّ إنّ عقلكم و وجدانكم يحكمان بأنّ عليكم الرجوع إلى النبيّ في هذا الأمر و التسليم لأمره، فرجوع الجاهل للعالم من الأحكام الفطريّة و العقليّة. و على الإنسان
أن يرجع إلى أهل الفنّ في كلّ أمر ليس له فيه تخصّص أو بصيرة، فيتّبع إرشاداتهم الواعية، فيرفع بها جهله و يمهّد بها سبيله. فإن قال (إنّني لا أرجع إلى أهل الفنّ حتّى أفهم دليل ذلك) فإنّه سيكون قد ألقى بنفسه في ألف مخاطرة و تهلكة. وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.۱
لقد اوتينا قليلًا من العلم، فكيف سيمكن للإنسان أن يقف بشكل كامل على كلّ علم من علوم الدنيا و من العلوم الإلهيّة و العلوم المجرّدة لعالم الملكوت، ثمّ يكون في صدد العمل و الفعل؟!
ذاك أمر محال، لأنّ وجود الإنسان محدود، و لن يمكنه من ثمّ الإحاطة بالعلوم غير المحدودة.
إنّ المريض الذي يُراجع الطبيب لا يمكنه أن يقول له: إنّني لن أستعمل الدواء الذي تريد إعطاءه حتّى أعلم ما هو، و ما هي تركيباته، و ممّ استُخلصتْ موادّه، و ما الفعل و الانفعالات التي سيؤثرها في بدني؟ و لو قال ذلك، فلن يكون أمام الطبيب من سبيل إلّا أن يقول له: لا تستعمل الدواء، و اذهب لتموت!
الطبيب يقول: لقد درستُ و طالعتُ سنين طويلة متمادية حتّى حصلت على الخبرة، و لقد أنفقت عمري حتّى فهمتُ و أدركت؛ و عليك أنت أيضاً -وفق هذا المنوال- أن تقضي العمر في المطالعة و التجربة لتفهم دليل ذلك!
لكنّك لم تفعل شيئاً من هذا، و ها أنت مريض قد راجعتني بعد ثقتك بإخلاصي و خبرتي، و عليك -بحكم الفطرة- و العقل أن تسلّم أمرك لي و تقلّدني دون مناقشة، فليس هنا مكان ل (لِمَ و بِمَ و لعلّ و لكنّ)!
فإن أصغى المريض لكلام الطبيب هذا، فسينقذ حياته و يحصل على حياة جديدة، و إلّا فإنَّه سيسلك طريق الهلاك و يحفر قبره بيده.
و في موسم الحجّ تتوجّه القوافل إلى بيت الله الحرام، فإن جلس أحد المسافرين في زاوية من المطار قائلًا: إنّني لن أصعد إلى الطائرة حتّى أعلم كيف تتحرّك، و أعلم أي خاصيّة للتحريك يوجدها البنزين في محرّكها، و كيف يتمّ تبديل البنزين إلى الغاز، أ بواسطة المراوح أم بالامتصاص؟ و أعلم أساساً كيف تقوم المكابس فيها بتحشيد الهواء و ضغطه، و كيف تقوم بإخراجه؟ و كيف يتمّ نقل حركة المكبس إلى محور التدوير في محرّك الطائرة؟ و أسئلة اخرى عن آلاف التفاصيل الدقيقة الكهربائيّة و الميكانيكيّة و الفيزيائيّة و الكيميائيّة و غيرها، التي صرف في كلٍّ منها آلاف الأشخاص سنين طويلة من عمرهم فحصلوا على الخبرة و العلم فيها.
فسيُقال في جوابه: لعلك مُختبط قد اضطربت حواسك! تعالَ و اركب فالطائرة ستتحرّك الآن، بينما ستبقى جالساً في زاوية الجهل هذه. حسناً، فلتجلس و تفكر ثمّ اركب بعد ذلك! ثم تتحرّك الطائرة بالحجّاج فيقومون بأداء مناسك بيت الله الحرام، و يتشرّفون بزيارة المدينة المنوّرة ثمّ يعودون بينما هذا السيّد لا يزال جالساً في زاوية المطار مشغولًا في التفكير و في الحصول على برهان و دليل. و كفى به جهلًا يؤدّي إلى البؤس و التخلّف عن قافلة عالم الوجود، و إلى الحرمان من آلاف العبادات السمعيّة و البصريّة و اللسانيّة، و من مشاهدة الآيات الإلهيّة التي وجدت طوال هذا السفر.
إذَاً فعلى من يريد بناء عمارة ما، أن يذهب إلى المهندس المختصّ، و على من يريد خياطة لباس ما أن يراجع الخيّاط. أ فيمكنه ترى أن يقول للمهندس و للخياط: ليس لكما الحقّ في الشروع في عملي هذا ما لم تعلّماني تفاصيله و أسراره و تقوما بشرحها لي؟
و على ضوء ذلك لا يمكن لأيّ إنسان يريد العيش في هذه الدنيا بهذا العمر القصير و بهذه الفرص الضئيلة و الحدود و القيود التي لا تُحصى، أن يُجيز لنفسه الاجتهاد و التخصّص في جميع الفنون. و عليه حتماً أن يقلّد في كثير من الفنون، بل في معظمها، فيرجع فيها إلى المختصّ في ذلك الفنّ و يتبعه. و إذا ما كان الإنسان إخصائيّاً في أحد الفنون، فإنّه مقلّد في الباقي.
أي أنّ الطبيب الأخصّائيّ في معالجة الأبدان هو مقلّد في فنّ الهندسة الميكانيكيّة، كما أنّ المهندس الذي صار مجتهداً خبيراً في علم طبقات الأرض، هو مقلّد في فنّ الطبابة، بل إنّ طبيب العيون مقلّد لطبيب الأسنان و طبيب الأسنان بدوره مقلّد لطبيب العيون.
و الأمر كذلك بالنسبة إلى الطبيب الأخصّائيّ في عمليات القلب الجراحيّة، إذ هو مقلّد للطبيب الأخصّائيّ في فنّ المجاري البوليّة و أمراض الكلية و المثانة، و العكس صحيح. فتلك هي السنّة الجارية منذ القدم في عالم الطبع هذا، و ستبقى كذلك.
اشتراط رؤية الله أو نزول الملائكة للإيمان مخالف لأساس المنطق
و ها هم يتخيّلون أنهم وردوا عالم الملكوت فهم يقولون: إنّنا لن نؤمن حتّى نرى الله عياناً أو تنزل علينا الملائكة؛ يضاهي كلامهم مقولة لأحد الجرّاحين الأخصّائيّين مفادها: أنني لا أعترف بالله لأنني لم أجده تحت مبضع الجراحة.
إنّ كلام المادّيّين و الطبيعيّين في العصر الحاضر يماثل تماماً كلام الدهريّين من السابقين مع تغيير شكل البحث و صورته، و إلّا فإنّ الأصل و المحتوى و المفاد واحد ليس إلّا.
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا في أنفُسِهِمْ.
أي أنّ كلامهم لا يرتكز على منطق صائب، و يفتقر البلاغة و الأصالة و يستمدّ نشأته من الاستكبار و التعالي.
فهؤلاء الأفراد يأبون الاستسلام لمنطق الصواب و الإصغاء إلى أمر الحقّ؛ لذا فإنّهم يعدّون أنفسهم معذورين و مأجورين بمثل هذه الأعذار، أمّا في الحقيقة فإنّ الاستكبار هو علّة عدم قبولهم، إذ يُخال إليهم أنهم أنزه و أقدس و أعلى رتبة من أن يخضعوا لأوامر شخص مثلهم يدعوهم من قِبل الله تعالى باسم النبيّ و الرسول. يشهد على هذا المدّعى كلامهم حيث يقولون: أ بَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا؟!
كثير من انتظارات الناس ناشئة عن الاستكبار
و نظير هذا المرض الروحي موجود في كثيرٍ منّا، حيث نطرح آلاف الأنواع من التشكيكات في مقام تقليد المجتهد العادل، و لا نريد الانضواء تحت تبعيّته العلميّة و العمليّة، ثمّ نتوقّع بالنسبة إلى حكومة الإسلام و دولته أن تتشكّل حتماً على يد إمام العصر أرواحنا فداه، و نعيب على كلّ حكومة و إن أقيمت على يد الفقيه العالم العادل و نسقطها من درجة الاعتبار، و نحصر أمر إجراء الحدود و تعيين الحكّام و إقامة صلاة الجمعة بالإمام عليه السلام.
و مع إمكان تشكيل دولة الإسلام على يد الفقيه الجليل زمن الغيبة، إلّا أننا نرضخ لآلاف المظالم و الجرائم المختلفة، و نلائم أنفسنا مع الحكومات الظالمة الجائرة لأننا نتصوّر أنّ تشكيل الحكومة يجب أن يحصل فقط على يد الإمام عليه السلام.
و لو أصدر الإمام نفسه تبعاً للادلّة و الموازين الشرعيّة، و بعناوين عامّة أو خاصّة، أمراً بتشكيل حكومة، فإنّنا مع ذلك كلّه سنحاول إسقاط تلك الحكومة بأنواع الشبهات الواهية المختلفة، غير عالمين بأنَّ تشكيل حكومات تُقام على أساس العدل في العالم و إجراء الحدود الإلهيّة و نصرة المظلوم يُعدّ بنفسه عاملًا مساعداً في إقامة حكومة العدل العالميّة و في التعجيل بالفرج.
و هذه الخيالات و الشبهات ناشئة بأجمعها من الاستكبار، أي أننا نعدّ
نفوسنا في الذروة من النزاهة، فلسنا -من ثم- مستعدّين للمشاركة في صلاة جمعة يُقيمها فرد مثلنا، و للانضواء تحت حكومة فقيه مثلنا أو مبايعته. حتّى أننا لسنا مستعدّين للحضور في جماعة رجل عادل لنكون مأمومين بدل أن نكون إماماً، إذ ستختلق لنا أنفسنا عذراً و حجّة باسم العدالة على نحو عامّ، كما ستلد آلاف الشبهات و التشكيكات تجاه ذلك الإمام موضوعاً على نحو جزئيّ، بينما لا تصدر أمثال هذه الشبهات في سائر الامور الاخرى بل تقوم -على العكس- بتبرير الشبهات الواقعيّة و تأويلها بنحوٍ ما على محمل صحيح.
و لقد وضع القرآن الكريم اسماً لهذا المرض الروحيّ هو الاستكبار، و ما أعجبها من تسمية!!
و على نحو الإجمال فإنّ أكثر الأعمال ذات الظاهر المقدّس الصادرة من المتلبّسين بالظواهر المقدّسة ناشئة من روح الاستكبار و العُجب، إذ يُقحمها هؤلاء -عمداً أو عفواً- في عنوان القدسيّة، و يقضون أعمارهم معها، و يُمرّرونها على المحرومين و على عوامّ الناس، فيخيّل لُاولئك المساكين أنّ أمثال هؤلاء المستكبرين زهّاد عُبّاد من أهل التقوى و الورع فَضَلّوا وَ أضلّوا عَن سَواء السَّبِيل.
و يذكر القرآن الكريم على لسان المستكبرين أنهم كانوا يتحاشون -على أساس من القدسيّة و الاحتياط و النهج المتحفّظ- أن يتّبعوا رسول الله -لا سمح الله- دون دليل؛ لذا فقد كانوا يسألونه دليلًا محالًا، و هو رؤية الله سبحانه أو نزول المَلَك، و يعدّون ذلك عذرهم الموجّه و حجّتهم القاطعة النافذة؛ بَيدَ أنهم انغمروا في جهلهم المركّب و أغلقوا -بهذا المنطق و البيان- السبيلَ لأيّ تكامل ورقيّ.
إنّ هذا العالم هو عالم المادّة و الجسميّة، أمّا المَلَك فموجود ملكوتيّ
و مجرّد عن المادّة، فإن شاء النزول إلى هذا العالم فإنّ عليه التلبّس بلباس الجسم، بينما ليس الملائكة بجسم؛ أو أنّ على الإنسان من أجل رؤية الملائكة أن يرقى عن هذه الدنيا فيخلع لباس المادّة و الجسميّة، و يذهب إلى عالم المثال و البرزخ ليُشاهدهم. و هذا الأمر بالنسبة إلى الأفراد الذين لم تشرق قلوبهم بنور الله و العاجزين عن خلع البدن و ارتدائه سيحصل بعد الموت الطبيعيّ، و من ثمّ فإنّ رؤية الملائكة للناس العاديّين أمر محال.
لقد كانوا يعترضون على رسول الله: لما ذا لم يرسل الله إلينا مَلَكاً نبيّاً، فلقد كان من الأجدر أن يرسل الله بالرسالة ملكاً نتّبعه، فنزلت الآية:
وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.۱
فافرضوا الآن -على هذا الأساس- أنّ نبيّكم هو مَلَك ارتدى لباس المادّة و هبط إلى هذا العالم، إذ ليس من مَلَك يهبط إلى عالم المادّة إلّا و يرتدي لباس المادّة، و إذا ما شاء الإنسان مشاهدته توجّب أن يراه على هيئة جسم، كما أنّ الإنسان يستطيع رؤية الملك في هيئته الحقيقيّة المجرّدة حين يكون بدوره قد صار مجرّداً.
طلب رؤية الملائكة كلام جائر خارج عن السنّة الإلهيّة
و هكذا فإنّ من يرحل عن هذا العالم؛ إمّا بالخلع الاختياريّ و نسيان عالم الكثرة أو بالموت و الخلع الاضطراريّ؛ فإنّه سيرى المَلَك. كما أنّ الشخص المحتضر يرى مَلَك الموت لأنه اكتسب حالة التجرّد، بينما لا يرى المحيطون به شيئاً لأنهم لم يحصلوا على تلك الحالة و لم تتوفّر لهم شرائطها. لذا فإنّ طلب رؤية الملك بدون حصول شرط التجرّد هو تمنٍ مشروط بدون حصول شرطه:
وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً.
و هو كلام جائر قد تخطّى القاعدة و القانون و السنّة الإلهيّة، كما أنّ أصحاب هذا المنطق هم من الجائرين المعتدين.
و تبعاً للقواعد الفطريّة و العقليّة فإنّه يجب تقليد رسول الله و اتّباعه كما أنّ القاعدة الشرعيّة بدورها تُمضي ذلك و تقرّه؛ و إلّا فإنّ قافلة المؤمنين ستشدّ الرحال و تصل بتعاليم الله إلى حيث مقام قاب قوسين أو أدنى، بينما يبقى المتمرّدون و المستكبرون أسرى جهنّم الجهل و مظاهر عالم البُعد، محرومين معذّبين في شرنقة العُجب و الغُرور.
و في سورة الإسراء، يطالب منكر و رسالة رسول الله بشواهد مادّيّة و ثروات طبيعيّة، و يعتبرون إيمانهم منوطاً بها، ثمّ يطلبون طلباً مماثلًا لموضوع البحث.
تقول الآية:
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ، وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا ، قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ، قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.۱
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً.٢
الإيمان بالغيب شرط الفلاح
إنّ الإنسان سيرى الملائكة حين يكون قد شدّ الرحال عن هذه الدنيا و حال الموت بينه و بين هذا العالم، و لن يكون هناك آنذاك من بشرى للمجرمين، فالطريق قد اغلق و الاختيار قد انتهى دوره، و سيلقون هناك ملائكة غلاظاً شداداً فيهم من حميم جهنّم علامات و آيات، فيقولون لهم: سنحجر عليكم و نمنعكم أشدّ المنع من الورود إلى عالم القُرب و الجنّة. لقد كنتم تريدون رؤيتنا في الدنيا كي تؤمنوا، و هذا الإيمان لا يغني شيئاً، و لقد ربح الذين آمنوا دون أن يشاهدوا: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هم الفائزون و الرابحون.
و قد ورد في الرواية أنّ من نظر إلى امرأة أجنبيّة فغضّ بصره للَه، فإنّ الله سبحانه سيهبه حوريّة في الجنّة جزاء له على فعله هذا.۱
و هكذا فإنّهم يعطون الحوريّة لمن لم يشاهدها جزاء غضّ بصره؛ و إلّا فلو رأى امرؤ الحوريّة أوّلًا ثمّ عمد إلى غضّ بصره فإنّه لن يكون قد فعل ما يستدعي العجب. فمن يا ترى لن يفعل ذلك و يبادل الحوريّة بنظرة واحدة؟!
و إذا تقرّر أن يشاهد الإنسان الجنّة أوّلًا ثمّ يصلّي و يدفع الزكاة و يجاهد و يصمد في المحن و الشدائد باستقامة و صبر، و يخطو في ذلك بقدم صادقة، فسوف لن يوجد في جميع العالم شخص جهنّميّ واحد، و سيكون جميع الأفراد على أساس هذه المعادلة من أصحاب الجنّة متّقين صالحين
مؤمنين بشكل محض.
لكنّ هذه الجنّة هي جنّة العالم الذي سبق هذا العالم، هي جنّة عالم الذرّ لا جنّة عالم التكليف. و ينبغي أن يُصار في جنّة الدنيا إلى التغلّب على المقاصد الشيطانيّة بالصبر و التحمّل و بالإرادة و الاختيار، و من ثمّ ينقسم الناس إلى فئتين: سعيد و شقيّ. و ينبغي على المرء إجمالًا أن يؤمن بالغيب و أن يعمل، و هذا العمل سيوجب ازدياد الإيمان، و سيوجب الإيمان الأكثر بدوره ازدياد العمل، و هكذا ستدعم كلّ مرتبة من مراتب الإيمان و العمل و مراحله المرتبةَ الاخرى و تقوّيها باستمرار، وصولًا إلى مرحلة الإخلاص و عالم القرب. قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
و قال تعالي: وَ قَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً.
و بصفة أنَّ الأعمال التي يقوم بها الكفّار و المشركون، لم تكن لأجل رضانا و تقرّباً إلينا، و باعتبار انبعاثها من النوايا المادّيّة و الدنيويّة من رياء و سمعة وصيت و عُجب و أنانيّة، و من أجل أن تُدوّن أسماؤهم في تأريخ المدنيّة و علم الاجتماع من أجل نيل الجوائز العالميّة و الحصول على المفاخر القوميّة و الغرور الوطنيّ و أمثال هذه الدعاوى التافهة التي لا أساس لها، فإنّها لا تمتلك لدينا قيمة و لا ثمن، و سنعمد إليها بإرادتنا الراسخة فنجعلها هباءً و غباراً متناثراً في الفضاء الفسيح الممتدّ.
و لأنّ هذه الأعمال المشتّتة لم تمتلك أصالة كلمة التوحيد، فإنّها لن تستند إلى أصل و أساس راسخ و متين، و ستتفرّق لذلك و تتشتّت على أساس عالم الكثرة و الاعتبار الواهي، و لن تغني عن أصحابها شيئاً.
أصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَ أحْسَنُ مَقِيلًا.
أمّا أصحاب الجنّة الذين كانوا يرجون لقاءنا، و الذين أرسوا على تلك
القاعدة الأصيلة حياتهم الدنيويّة، و أسّسوا برنامجهم في الاجتماع و الخلوة و الجلوة و سائر جهات امورهم، فإنّهم سيكونون عند نزول ملائكة الموت في أفضل مأوى و مقرّ، مطمئنّين مستقرّين دون دغدغة أو وسوسة أو خواطر شيطانيّة، مخلدين إلى الراحة على أفضل وجه في محلّ الاستراحة الذي يسبق الوصول إلى الهدف الأقصى و المنزل الأسنى، مطمئنّين فارغي البال في استراحة القيلولة الممتعة.
و هذه الآية عائدة إلى البرزخ، لأنّ مَقِيل إمّا بمعنى قَيْلُولَة، أي النوم قبل الظهر، أو بمعنى اسم مكان، مثل مَبِيت، أي محلّ نوم القيلولة و المبيت.
الملازمة بين الموت الدنيويّ و الحياة البرزخيّة
و كما ذكرنا سابقاً، فإنّ الآيات التي يرد فيها ذكر زمانٍ ما، كالصبح و العصر و الظهر و غير ذلك مختصّة بالبرزخ، بالرغم من أنه ليس هناك نوم في عالم البرزخ، إلّا أنّ نفي النوم نسبة إلى الدنيا، لا بشكل مطلق، فالناس الذين يعيشون في هذه الدنيا هم نائمون جميعاً، فإذا ماتوا استيقظوا.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله:
الناس نيام إ ذا ماتوا انتبهوا.۱
و من هنا فإنّ عالم البرزخ هو عالم اليقظة، إلّا أنّ عالم البرزخ هذا هو عالم النوم قياساً إلى القيامة، لأنّ الأخيرة تمثّل الصحو المحض المطلق، أمّا عالم البرزخ الواقع بين الدنيا و القيامة، و الواقع بين العالمين حقيقةً في الآثار و الكيفيّات و سائر الخصائص بلحاظ قوّة الحياة و قوّة العلم و القدرة، فإنّه عالمٌ بين العالمين و برزخٌ بين النشأتين. كما أنّ الحياة و العلم و القدرة في ذلك العالم أقوى بدرجات من الدنيا و أضعف بدرجات من الآخرة، لذا فإنّ
الإدراكات فيه أقوى من الدنيا. فهو -إذَن- قياساً إلى الدنيا في حكم عالم الصحو و اليقظة قياساً إلى عالم النوم. كما أنّ له حكم عالم النوم قياساً إلى القيامة.
يقول أهل البرزخ يوم القيامة لربّهم:
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ.۱
و المراد من الإماتة مرّتين: الإماتة في الدنيا باتّجاه البرزخ، و الإماتة في البرزخ باتّجاه القيامة؛ و المراد من الإحياء مرّتين: الإحياء في البرزخ بالارتحال من الدنيا إليه، و الإحياء في القيامة بالارتحال من البرزخ إليها.
فالإنسان الذي يرحل عن الدنيا و يرد في البرزخ هو ميّت نسبة إلى نشأة الدنيا و مبعوث من الموت بالنسبة إلى نشأة البرزخ. ثمّ إنّه يخرج من البرزخ عند النفخ في الصور فيرد القيامة، فيكون ميّتاً بالنسبة إلى نشأة البرزخ و مبعوثاً من الموت بالنسبة إلى نشأة القيامة، و هناك إذَن تلازم بين الموت من عالم الطبيعة و بين الحياة البرزخيّة، كما أنّ هناك تلازماً بين الموت من عالم البرزخ و بين حياة النفس و القيامة. و من ثمّ فإنّ كلّ موت سيستلزم حياةً بعده، و أنّ أمامنا موتين و حياتين. و بشكل عامّ فإنّ الوصول إلى كلّ درجة من درجات التكامل في سلسلة مدارج الكمال و معارجه سيتلازم مع طيّ الدرجة السابقة و فناء و زوال جميع الدرجات السابقة في هيئة مُعِدّات.
و لذلك فقد سمّى القرآن الكريم هذه الحياة في القيامة بعنوان القيام، لأنّ جميع العوالم ستكون قد انطوت و تصرّمت، و حان الحين آنذاك للقيام
ولحياة النفس و القيامة:
يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ۱
كما ورد لفظ قِيَامُ السَّاعَةِ في كثيرٍ من الروايات.
و يُدعى عالم البرزخ أيضاً بعالم المثال، لأنّ المثال بمعنى النموذج و الشبيه؛ و عالم البرزخ هو نموذجٌ من عالم القيامة و شبيهٌ له، و عالم المثال حاكٍ عن القيامة بقدر سعته و ظرفيّته، و سعة عالم المثال تطابق سعة عالم الصورة الذي يتضمّن الكمّ و الكيف؛ و حاكية بنفس القدر عن الأنوار النفسيّة للقيامة الكبرى و عن درجات الصدّيقين و أصحاب اليمين و عن دركات المنكرين و الجاحدين و أصحاب الشمال. تماماً كما تحكي الصورة المتجلّية في المرآة التي هي وعاء تشكّل و تصوّر الصور بقدر قابليتها وسعتها الإنسان الذي يواجه تلك المرآة، فتشير إليه و تمثّله؛ بَيدَ أنها لا تمتلك إلّا القدرة على حكاية تلك الصورة فقط.
إنّ المرآة تُظهر لون الوجه، البكاء و الضحك، الحزن و الفرح، الكِبر و الصِّغر، الحُسن و القُبح، الإضاءة و العتمة، و الزوايا الناشئة من القسمات و السحنات التي تميّز بها الوجوه عن بعضها. لكنّها لا تستطيع أبداً أن تُظهر الشخصيّة، المقام، درجة السعادة و الشقاء، الصفات الحسنة و السيّئة و الملكات الحميدة و غير الحميدة، كالشجاعة و العفّة و العصمة و العبوديّة أو البُخل و الحسد و الشُّهرة و الطمع.
بلى، إنّ المرآة لا صورة فيها لنفسها، و لا لون و لا شكل و لا كم و لا كيف، بل إنّ صورتها و لونها و كمّها و كيفها تابع للشكل الذي يواجهها و يقف أمامها.
و الأمر كذلك بالنسبة إلى عالم البرزخ، فالموجودات الصوريّة و المثاليّة التي تتحقّق فيه تابعة للحُسن و القُبح المعنويّين، و للسعادة و الشقاء و الإيمان و الكفر، و العدالة و الفسق، و سائر خصائص الشخص الذي تحكي عنه تلك الصورة و المثال.
فسح قبر المؤمن تابع لامتداد نور بصره المعنويّ و بصيرته
و ما أبدع و أبلغ التعبير الوارد عن الصادق عليه السلام في رواية نقلها المرحوم الصدوق في كتابه «الأمالي»، و نقلناها في المجلّد الثاني من هذا الكتاب!
فقد ورد في تلك الرواية أنّ المؤمن حين يوضع في قبره و يأتيه المَلَكان فتّانا القبر منكر و نكير فيسألانه عن ربّه و عن دينه و عن نبيّه فيُجيبهما بالصواب:
فَيَفْسَحَانَ لَهُ قَبْرَهُ مَدَّ بَصَرِهِ.۱
و بطبيعة الحال فإنّ هذا الانفساح و السعة ليسا انفساحاً وسعة خارجيّين، كما أنّ القبر ليس قبراً خارجيّاً؛ بل المراد بالقبر عالم برزخ المؤمن، و المراد بالسعة و الانفساح سعة و فسحة معنويّة مثاليّة، و هذه السعة و الانفساح تابع مباشر لمقدار شعاع نور بصر المؤمن، فهما يفسحان له قبره إلى الحدّ الذي يمكن لعينه أن تبصره. و بالطبع فإنّ مقدار شعاع نور البصر المعنوي لأصحاب اليمين و الأبرار و المقرّبين و المخلصين مختلف، فكلّ واحد من هذه الأصناف له شعاع نور بصر يمتاز عن الفرد الآخر حسب اختلاف العمل و تفاوت درجة الورع. من ثمّ فإنّ شعاع نور أبصار أصحاب اليمين هو مراتب عالم النفس وسعتها الوجوديّة التي أحاطت بالسماوات و الأرض، و أمّا شعاع نور أبصار المقرّبين فقد تخطّى ذلك، فصار يتمتّع
بالأسماء الحسنى الإلهيّة، و أمّا شعاع نور أبصار المخلصين و حملة ألوية مقام الحمد و أصحاب الشفاعة الكبرى؛ أي المقام المحمود؛ فيتخطّى الأسماء و الصفات الإلهيّة و ينتهي إلى الذات القدسيّة للحيّ القيّوم فيفنى فيها؛ هناك حيث يُزال القُرب و البُعد و تمّحى الجهات، فليس غير الحضرة الربوبيّة من أحد يعلم أو يمكنه أن يعلم أو يُدرك مدى هذه السعة و الانفساح. كما جاء في الحديث القدسيّ:
أعْدَدْتُ لِعِبَاديَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأتْ وَ لَا اذُنٌ سَمِعَتْ وَ لأ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَلَهُ مَا أطْلَعْتُكُمْ عَلَيْهِ، إقْرَاوا إِ نْ شِئْتُم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ اخْفِيَ لَهُمْ مِّن قُرَّةِ أعْيُنٍ.۱
و كما جاء في الحديث القدسيّ:
عَبْدِي أطِعْنِي حَتَّى أجْعَلْكَ مِثْلِي؛ أ نَا حَيٌّ لَا أمُوتُ أجْعَلْكَ حَيّاً لَا تَمُوتُ؛ أ نَا غَنِيٌّ لَا أفْتَقِرُ أجْعَلْكَ غَنِيّاً لَا تَفْتَقِرُ؛ أ نَا مَهْمَا أشَاءُ يَكُونُ أجْعَلْكَ مَهْمَا تَشَاءُ يَكُونُ.٢
ثمّ إنّه يقول بعد الآيات التي بحثناها: وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ
وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ، وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ، يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا.۱
هنا يرتفع أنين الإنسان فيضرع أن: ربّ ارجعني إلى الدنيا لأتلافى ما فرّطت في أعمالي. فيصل إليه الخطاب: انّها لقلقة لسان و كلام كنت تردّده مع نفسك في الدنيا! أ وَ لم تكن في الدنيا؟ أ وَ لم تتمّ عليك الحجّة؟ أ ما كان الشمس و القمر يطلعان عليك و يغربان! أ وَ لم ينفد الأجل و المهلة؟
أ لم تصلك الحقائق؟ أ فكنتَ عاجزاً؟ أ فكنتَ من المستضعفين؟
أ وَ لم تمتلك ثروات العمر و العلم و القدرة و الفراغ و الأمن و الاختيار بما يكفيك و يفيك في الاختيار! فَلِمَ لَمْ تعمل؟ لِمَ كنتَ تنام مع الغفلة و تصحو معها؟ أ وَ لم يكن النوم و اليقظة مثالًا للموت و الحياة؟ أ وَ لم نقل لك أن تقول حين تنهض من النوم:
الْحَمْدُ لِلهِ الذي أحْيَانِي بَعْدَ مَا أمَاتَنِي وَ إلَيْهِ النُّشُورُ.٢
ألْحَمْدُ لِلهِ الذي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي لأَحْمِدَهُ وَ أعْبُدَهُ.۱
لقد متنا و بُعثنا مئات المرّات، أ فلم يكن هذا القدر كافياً؟ و لقد
شاركنا مئات المرّات في تشييع الجنائز، و حضرنا مجالس التعزية، و سمعنا بآذان قلوبنا صوت آهات و أنين ذلك المسكين الذي واروه في قبره أن: ربِّ ارجعون لعلّي أعمل صالحًا.
أ فلم يكن ذلك كافياً للتيقّظ و التنبّه، و للسير في طريق لقاء المحبوب المطلق و شرف زيارة أسمائه الحُسنى؟
إذا أنت حملت جنازة فكن كأنك المحمول و كأنك سألت عن ربك الرجوع إلى الدنيا ففعل فانظر ما ذا تستأنف؟
علّة عدم رجوع أهل البرزخ إلى الدنيا
و علينا الآن أن نعلم ما هي علّة عدم رجوع أهل البرزخ إلى الدنيا؟ هل انّهم لا يطلبون العودة حقيقة من الله؟ و ليس الأمر كذلك. و هل -و العياذ بالله- بخل الله سبحانه عليهم بنزول الرحمة في تلك الحال؟ و هذا الآخر ليس صحيحاً، لأنّ الرحمة الواسعة للحقّ تعالى تُفاض على عالم الإمكان بلا شحّة.
فلما -ذا ترى- لا يستجيب الربّ الرحيم دعاء أهل البرزخ و سؤالهم في الرجوع إلى الدنيا إن كانوا صادقين، و ما دام هناك إمكان لتكاملهم و ترقّيهم في الدنيا في هذا الرجوع؟
الرجوع إلى الدنيا مقرون بالخصائص النفسانيّة و القوى الشهوانيّة
إنّ الإجابة على هذه المسألة هي أنّ هذا الطلب و السؤال بالرغم من صدوره منهم على هيئة تمنٍّ صادق، إلّا أنه صدر في حال فقدوا فيها القوى المختلفة من الشهوة و الغضب و الوهم، و اختفى فيهم حقيقةً بسبب فساد البدن و اندراس عالم الطبع تصارع القوى المتضادّة و الأهواء المختلفة و النزعات إلى الذنب و الاعتداء و الظلم لمن يرزح تحت سيطرتهم. و لم يبقَ لديهم بطلوع نور التوحيد و ظهوره في مرايا جلال و عظمة و كبرياء الحقّ
جلّ و عزّ مجالًا لظهور العُجب و النهج الاستكباريّ و النزعات الفرديّة و الغرور و التكبّر و التعالي و الطموح الزائد، فهم معترفون في تلك الظروف بجرائمهم في الدنيا، طالبون العودة للتدارك. لكنّ الدنيا هي عالم الطبع، عالم الكون و الفساد، عالم ظهور القوى المادّيّة و الشهوات و الرغبات الغريزيّة و الأهواء الطبعيّة؛ و هي محلّ ظهور حسّ التفوّق و التكبّر و جمع الثروة و التكاثر في النساء و الأولاد و الاعتبارات، و إلّا لما كانت دنيا.
و على افتراض أنّ اولئك يريدون العودة إلى الدنيا، فإن ذلك بصفة انحصار مجال التكامل و الترقّي فيها. و لو أعادهم الله سبحانه إلى الدنيا، لعادت نفوسهم إليها بوجوداتها الفعلية، إذ لن يخلق الله لهم نفوساً زكيّة نقيّة طاهرة ليعودوا بها إلى الدنيا، إذ إنّهم سيخرجون حينذاك عن ذواتهم، و سيكونون موجودات اخرى لا علاقة لها بتلك الموجودات الاولى، في حين أنّ شيئيّة الموجودات إنّما تتمثّل بصورها الملكوتيّة، و وجود و شخصيّة كلّ إنسان بنفسه الناطقة لا ببدنه و جسمه، و لا بالصور النوعيّة و الكلّيّة الاخرى. و لو عاد اولئكم إلى الدنيا بنفوسهم تلك الموجبة لتشخّصهم، لعادوا من جديد بواسطة هجوم الأهواء و الغرائز، و بعلّة ظهور و بروز الوجود الفعليّ من الغضب و الشهوة و الوهم و حسّ الأنانيّة إلى ارتكاب نفس الأعمال التي كانوا يفعلونها في الدنيا قَبلًا.
وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.۱
و في ضوء ذلك فإنّ صدق كلامهم ليس قياساً إلى الدنيا و شرائطها، بل قياساً إلى عالم البرزخ و الشرائط البرزخيّة، و أمّا قياساً إلى الدنيا فهو كلام مخالف للحقيقة تماماً. و سيتّضح عند نيل تلك الشرائط كيف سيعود
هؤلاء إلى الذنب و الاعتداء و الشرك و الاستكبار، و تتجلّى طبيعة كذبهم و تخرّصهم في ادّعاء الطهارة و طلب تدارك أعمالهم القبيحة، لذا يُهاب بهم بخطاب:
كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها.۱
التوبة و الإيمان حال الاضطرار فقط، ثمّ العودة إلى الحال الاولي
و نظير هذه الحالات يصادف الإنسان في هذا العالم أيضاً، إذ إنّه حين ينهمك في المعاملات، و ينغمر في الأسباب، و ينصبّ اهتمامه و انتباهه إلى الكثرات، فإنّه سيغفل عن الله و قدرته و علمه و حياته و تدبيره، فيستند إلى تلك الأسباب. أمّا حين تقصر يده عن نيل تلك الأسباب، و حين ينقطع أمله و يتصرّم، فإنّه يتّجه إلى الله سبحانه فيضجّ و يضرع و يصرخ أن: اللهم يا رحمان يا رحيم يا عالم الغيب و الشهادة أدركني!
و حين يمرض الإنسان فإنّه لا يعتمد على ربّه و لا يتّكل عليه، بل يسعى جادّاً إلى الطبيب فيستمدّ منه العون، ثمّ يتناول الدواء و يلتزم بالحمية و يستعمل أبر الدواء، و يأخذ صور الأشعة لمحلّ المرض و التحاليل المرضيّة للدم و غيره، و يأمل في أنّ مرضه قد شُخّص تماماً و أنّ التحسّن قطعيّ محرز.
فإن قال له أحد ما: أيّها السيّد، استمدّ العون في شفائك من الله. تصدَّقْ على الفقراء و انحرْ شاةً فأطعمها للمساكين و البؤساء، و أرضِ أبويك الساخطين عليك، و انذرْ إن شُفيت أن تتشرّف بالحجّ الذي هو فريضة إلهيّة في ذمّتك، و أن تستفيد من هذه المناسك الإلهيّة، ثمّ أدم معالجتك في نفس الوقت تبعاً لتعاليم الإسلام، لكن طلبك الشفاء يجب أن يكون من الله وحده، و عليك أن تعدّه المؤثّر في تسبيب الأسباب و تأثير العلاج و الدواء
و عمليّة الدكتور الجراحيّة.
فإنّه سيردّ: لقد تقدّم علم الطبّ اليوم، و صار لنا بحمد الله أطباء أخصّائيّون حاذقون يجترحون الأعاجيب في العمليّات الجراحيّة، و وصل فنّ التحليل و التصوير بالأشعة بدوره إلى ذروة تقدّمه، فصار بالإمكان و باستخدام الحاسبة الإلكترونيّة تحليل ٢٤ قسماً من الدم خلال دقائق معدودات و إعطاء جواب فوريّ. ثمّ إنّ ذبح الشاة و إطعام الفقراء ليس بالأمر الممكن في المنزل أساساً. (ثمّ يتم كلامه بالعبارة التي يحفظها الجميع أنه سيتبرّع بنفقات ذلك إلى «الأسد و الشمس الحمراء».۱
أمّا أبي و امّي فرجعيّان قديمان يدعوانني للمسجد، و يقولان إنّ على امرأتي أن تتحجّب، و إنّ عَلَيّ إخراج كلبي من البيت؛ و لا اريد الخضوع لكلامهما، و أمّا عن الحجّ، فلِمَ ننفق أموالنا على العرب؟ سأذهب إلى باريس للتجوال و النزهة بعد تحسّني فأتنزّه في شارعي (مونت مارت) و (مونت بارناس).
ثمّ يستمرّ في العلاج دون جدوى، و يرقد مخدّراً ليعمل فيه مبضع الجرّاح، و يرقد للاستراحة و النقاهة في أفضل المستشفيات المزوّدة بأحسن المعدّات، و لكن بلا نتيجة! ثمّ يسافر إلى باريس و لندن مرّة و مرّتين فيصبّ في جيوب اولئكم ما أمكن له جمعه من أموال هذا الشعب المحروم الذي يمثّل أبواه الرجعيّان انموذجاً له، و يخضع هناك لعمليّات جراحيّة عديدة، مرّة في الكلية، و اخرى في المثانة، و النتيجة هي الصفر! ثمّ يكتب لأبويه من هناك: توسّلا من أجلي! أطعما الطعام! ثمّ يعود هزيلًا شاحباً ضعيفاً لا يقوى على الكلام، قد هبط وزنه خمسة عشر كيلو غراماً و اتّفقت كلمة
الأطباء أنّ لديه سرطان البروستات، و أنّ العلاج لا نفعه شيئاً.
و ها هو الآن ينذر أن يذهب إلى مكة!
و ها هو يقول لأمّه: أطعمي الطعام و أرسلي ثوابه إلى امّ البنين!
و ها هو يقبّل يدي والده فيقول: إن شُفيت فسآخذك معي إلى مكّة. و يقول: عجباً لهذا الطبّ الذي لا ينفع شيئاً. إنّ الطبابة لا تنفع إلّا نفسها. إنّ هؤلاء الملاعين ماهرون فقط في ملء جيوبهم. إنّهم تجّار لا أطبّاء.
و ممّا يثير العجب أنّ هذا السيّد المريض نفسه لو شُفي، فإنّ هذه الحالة النفسيّة ستزول تدريجياً و تحلّ محلّها تلك الحالة الاولى، فيقع بينه و بين المعنويّات سدّ محكم بواسطة تسويف الحجّ و تصوّر خرافة تأثير القوّة الغيبيّة في العلاج و بالإتّكاء على العلوم الظاهريّة.
فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحقِّ ...
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.۱
الله سبحانه هو الذي يسيّركم في البرّ و البحر، حتّى إذا ركبتم في السفينة و أشرعتم الأشرعة، سارت بكم تحدوها من خلفها ريحٌ رُخاء طيّبة تهبّ من الساحل، فجلستم عند الدفّة فرحين مسرورين غافلين عن الله و عمّا يوجب رضاه من العمل الصالح، منهمكين بالتفرّج و التنزّه (بحيث إنّ أحداً لو قال لكم فرضاً: استعينوا بالله! لقلتم: لقد أهدى اكتشاف «بابن» الفرنسيّ لقوّة البخار و الاختراعات الحاصلة إثره، هذه الموهبة للبشر. عيناً كمثل قارون الذي كان يقول:
إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.۱
فأنتم تقولون أيضاً: من يمكنه أن يُغرق هذه السفينة؟ هذه المدينة العجيبة التي تحمل عدّة آلاف من المسافرين؟)
ثمّ يعصف إعصار الحوادث شيئاً فشيئاً، و يطغى الطوفان الهائل على فضاء البحر، فتتلاطم اللجج مع بعضها، و ما أن يظن اولئكم أنْ قد فات الأوان و أنْ لاتَ حين مناص! و أنّ القدرة اللامتناهية قد وضعت هذه السفينة في يد الغرق و في إرادة الهلاك و الفناء، حتّى يناجوا الله من صميم قلوبهم أن: أيّها الإله الرحيم! لو أنجيتنا من هذه المهلكة لتُبنا و كففنا أيدينا عن الاعتداء و التجاوز، و لما استكبرنا في العمل، و لَكُنّا من الشاكرين.
بلي! إنّ النفس يجب أن تربّى بالرياضة الشرعيّة لتُسلم قيادها و ترتاض، و لتستنير في الصراط المستقيم بنور الله سبحانه، و إلّا فإنّها ستؤمن حين تصل إلى الاضطرار، و تقرّ و تعترف و تتوب و تئن و تضجّ شاكيةً واعدة بالصلاح و الرشاد، و لكن حالما تنتهي حال الاضطرار فإنّها ستقفز كمثل لولب مضغوط مُغلق زالت عنه عتلة الأمان التي كانت تمسكه متّجهةً نحو تلك الحالة العاديّة و تلك الملكات و الأخلاق و السلوك، فتستقرّ في عالم ملكاتها المكتسبة و تُدفن هناك، حيث قبرها و مضجعها.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.٢
لقد كبحنا هذا المحيط الهائج و أنهينا الطوفان و هدّأنا الأمواج
المتلاطمة فهديناهم إلى ساحل الأمن، فعادوا إلى الظلم و الاعتداء و صاروا يبغون في أرض الله بدون حقّ.
فاعلموا أيّها الناس أنّ الظلم الذي ترتكبون سيكون عليكم و بالًا و أنكم في الحقيقة إنّما أنفسكم ظلمتم، و أنّ هذا العمل الذي فعلتموه لصالحكم عن طريق ظلم الآخرين و الاعتداء عليهم، ليس نفعاً لكم، بل هو عين الظلم الذي فعلتموه لأنفسكم، و أنكم ستتمتّعون في هذه الدنيا أيّاماً بهذه الحياة الحيوانيّة الوضيعة ثمّ ترجعون إلينا فنُطلعكم على كلّ ما اجترحتم.
بلى، إنّ الله لا يظلم أحدا، و هذا هو جزاء الظلم الذي يفعله الناس لأنفسهم:
وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.۱
لقد دخل جُنادة على الإمام الحسن عليهالسلام في الساعات الأخيرة من حياته عليهالسلام، فطلب منه أن ينصحه و يعظه؛ و كان عليهالسلام قد شحب لونه و تغيّرت حاله و لم يبقَ له رمق، فقد استغرق السمّ جميع بدنه.
مواعظ الإمام الحسن عليه السلام إلى جُنادة
ينقل المجلسي رضوان الله عليه في «بحارالأنوار» عن كتاب «كفاية الأثر في النصوص على الأئمّة الاثني عشر» تأليف عليّ بن محمّد بن عليّ الخزّاز القمّيّ، عن محمّد بن وهبان، عن داود بن الهيثم، عن جدّه إسحاق بن بهلول [عن أبيه بهلول] بن حسّان، عن طلحة بن زيد الرقيّ، عن الزبير بن عطاء، عن عمير بن ماني العبسيّ، عن جُنادة بن أبي اميّة قال:
دخلتُ على الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهالسلام في مرضه الذي توفّي فيه و بين يديه طست يقذف فيه الدم و يخرج كبده قطعة قطعة من السمّ
الذي أسقاه معاوية لعنه الله،۱ فقلتُ: يا مولاي مالك لا تعالج نفسك؟
فقال: يا عبد الله بماذا أعالج الموت؟
قلتُ: إنَّا لِلَهِ وَ إنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ فَقَالَ: وَ اللهِ لَقَدْ عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِ نَّ هَذَا الأمْرَ يَمْلِكُهُ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً مِنْ وُلْدِ عَلِيٍّ وَ فَاطِمَةَ، مَا مَنَّا إلَّا مَسْمُومٌ أ وْ مَقْتُولٌ، ثُمَّ رُفِعَتِ الطَّسْتُ وَ بَكَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: عِظْنِي يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ!
قَالَ: نَعَمْ، اسْتَعِدَّ لِسَفَرِكَ وَ حَصِّلْ زَأدَكَ قَبْلَ حُلُولِ أجَلِكَ وَ اعْلَمْ أنَّكَ تَطْلُبُ الدُّنْيَا وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُكَ؛ وَ لَا تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ الذي لَمْ يَأتِ عَلَى يَوْمِكَ الذي أنْتَ فِيهِ، وَ اعْلَمْ أنَّكَ لَا تَكْسِبُ مِنَ الْمَالِ شَيْئاً فَوْقَ قُوتِكَ إلَّا كُنْتَ فِيهِ خَازِناً لِغَيْرِكَ.
وَ اعْلَمْ أ نَّ في حَلَالِهَا حِسَابٌ وَ في حَرَامِهَا عِقَابٌ وَ في الشُّبُهَاتِ عِتَابٌ فَأنْزِلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ الْمِيْتَةِ؛ خُذْ مِنْهَا مَا يَكْفيكَ فَإنْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا
كُنْتَ قَدْ زَهِدْتَ فِيهَا، وَ إ نْ كَانَ حَرَاماً لَمْ يَكُنْ فِيهِ وِزْرٌ. فَأخَذْتَ كَمَا أخَذْتَ مِنَ الْمِيتَةِ، وَ إ نْ كَانَ الْعِتَابُ فَإنَّ الْعِتَابَ يَسِيرٌ. وَ اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأنَّكَ تَعِيشُ أبَداً وَ اعْمَلْ لآخِرَتِكَ كَأنَّكَ تَمُوتُ غَداً.
وَ إ ذَا أرَدْتَ عِزَّاً بِلَا عَشِيرَةٍ وَ هَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ فَاخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللهِ إلَى عِزِّ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.
وَ إ ذَا نَازَعَتْكَ إلَى صُحْبَةِ الرِّجَالِ حَاجَةٌ فَاصْحَبْ مَنْ إ ذَا صَحِبْتَهُ زَانَكَ وَ إ ذَا خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَ إ ذَا أ رَدْتَ مِنْهُ مَعُونَةً أعَانَكَ، وَ إ نْ قُلْتَ صَدَّقَ قُوْلَكَ وَ إ نْ صُلْتَ شَدَّ صَوْلْتَكَ، وَ إ نْ مَدَدْتَ يَدَكَ بِفَضْلٍ مَدَّهَا، وَ إ نْ بَدَتْ عَنْكَ ثُلْمَةٌ سَدَّهَا، وَ إ نْ رَأى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وَ إ نْ سَألْتَهُ أعْطَاكَ وَ إ نْ سَكَتَّ عَنْهُ ابْتَدَاكَ، وَ إ نْ نَزَلَتْ إحْدَى الْمُلِمَّاتِ بِكَ سَاءَكَ.۱
مَنْ لَا يَأتِيكَ مِنْهُ الْبَوَائِقُ، وَ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ مِنْهُ الطَّرَائِقُ، وَ لَا يَخْذُلُكَ عند الحقائق، وَ إ نْ تَنَازَعْتُمَا مُنْقَسَماً٢ آثَرَكَ.
ثمّ يقول جُنادة: ثمّ انقطع نفسه و اصفرّ لونه حتّى خشيتُ عليه، و دخل الحسين عليه السلام و الأسود بن أبي الأسود فانكبّ عليه حتّى قبّل رأسه و بين عينيه، ثمّ قعد عنده فتسارّا جميعاً؛ فقال أبو الأسود: إنَّا للَهِ إنَّ الحسنَ قد نُعيتْ إليه نَفْسُه، و أوصى إلى الحسين عليه السلام، و توفّي عليه السلام في يوم الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة و له سبع و أربعون سنة،
و دُفن بالبقيع.۱
شهادة الإمام المجتبى عليه السلام
و قد استشهد عليه السلام بالسمّ الذي دسّته إليه جُعدة بنت الأشعث بن قيس الكنديّ بأمر معاوية؛ و جُعدة هي بنت ام فروة اخت أبي بكر و ابنة عمّة عائشة.
يروي المرحوم الصدوق عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق، عن أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفيّ، عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضال، عن أبيه، عن الإمام الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ عليهم السلام قال:
لمّا حضرت الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام الوفاة بكى فَقِيلَ لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، أتَبْكِي وَ مَكَانُكَ مِنْ رَسُولِ الله الذي أ نْتَ بِهِ وَ قَدْ قَالَ فِيكَ رَسُولُ اللهِ مَا قَالَ وَ قَدْ حَجَجْتَ عِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِياً وَ قَدْ قَاسَمْتَ رَبَّكَ مَالَكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى النَّعْل و النَّعْلَ؟
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّمَا أبْكِي لِخِصْلَتَيْنِ لِهَوْلِ الْمُطَّلَعِ٢ وَ فِرَاقِ الأحِبَّةِ.٣ و دَخَلَ عَلَيْهِ أخُوهُ الْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُ نَفْسَكَ؟ قَالَ: أنَا في آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَ أ وَّلِ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ عَلَى كُرْهٍ مِنِّي لِفِرَاقِكَ وَ فِرَاقِ إِخْوَتِي، ثُمَّ قالَ: أسْتغْفِرُ اللهَ عَلَى مَحَبَّةٍ مِنِّي لِلِقَاءِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أمِيرِ الْمُؤمِنِينَ وَ فَاطِمَةَ وَ جَعْفَرٍ وَ حَمْزَةٍ ثُمَّ أوْصَى إِلَيْهِ.۱
الْمَجْلِسُ السَّادِس عَشَر: الأمَلُ بِالْعَفوِ عَنْ الْمُسْتَضْعَفِيِنَ الَّذِينَ لَا سبيلَ لَهُمْ لِلْوُصُولِ إلَى الْحَقَائِق
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(مطالب القيت في اليوم السادس عشر من شهر رمضان المبارك)
الحمد لله ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.۱
يُجمع فقهاء الشيعة رضوان الله عليهم، بل و جميع فقهاء الإسلام على أنّ جميع التكاليف الإلهيّة مشروطة بالعلم و القدرة، و يعدّون هاتين الصفتين من الشروط العامّة للتكليف، أي أنّ هذين الشرطين لا يختصّان ببعض أوامر الخالق سبحانه أو نواهيه، بل يجب تحقّقهما لدى المكلّفين في جميع التكاليف ليتنجّز التكليف و يتحقّق في شأنهم.
أمّا بشأن العلم، فيستدلّون أوّلًا بالآية الكريمة:
وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.۱
و الآية الكريمة:
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ٢ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.٣
و الآية الكريمة:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.٤
و الآية الكريمة:
وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى.٥
و بكثير من الآيات التي استُعمل فيها لفظ البيّنة، و التي جُعل عذاب الله النازل بامم الأنبياء السابقين منوطاً و مشروطاً بتلك البيّنة. كما يستدلّون بحديث الرفع، و أصل هذا الحديث الشريف في «خصال الشيخ الصدوق» باب التسعة؛٦ و في «اصول الكافي» باب ما رُفع عن الامّة، ضمن حديثين،۷ و في «تحف العقول»،۸ و «وسائل الشيعة» عن الشيخ
الصدوق.۱ و بالرغم من وجود اختلاف يسير في ألفاظ هذا الحديث، إلّا أنها لا تختلف عن بعضها في المعنى. و نورد الرواية هنا وفقاً للألفاظ الواردة في كتاب «الخصال».
التكاليف الإلهيّة مشروطة بالعلم و القدرة
يقول الشيخ الصدوق: حدّثنا محمّد بن أحمد بن يحيى العطّار، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن زيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: رُفِعَ عَنْ امَّتِي تِسْعَةٌ: الْخَطَا، وَ النِّسْيَانُ، وَ مَا اكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَ مَا اضْطُرُّوا إلَيْهِ، وَ الْحَسَدُ، و الطِّيَرَةُ، و التَّفَكُّرُ في الْوَسْوَسَةِ في الْخَلْقِ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِشَفَةٍ.
لقد رفع عن امّتي المؤاخذة و العذاب في تسعة أشياء:
الأوّل: الأعمال التي يفعلونها خطأً دون عمد أو قصد.
الثاني: الأعمال التي يفعلونها نسياناً أو سهواً دون انتباه أو التفات.
الثالث: الأعمال التي يُكرهون عليها، أي التي لا يرغبون في فعلها بَيدَ أنّ شخصاً آخر يُجبرهم على فعلها؛ كأن يقول ظالم ما: إن لم تفطر في شهر رمضان قتلتُك!
الرابع: الأعمال التي يفعلونها دون علم، كأن يجهلون أنّ الله سبحانه كلّفهم بالشيء الفلاني فيتركونه، هذا إن لم يكن جهلهم ناشئاً عن تقصيرهم.
الخامس: الأعمال التي تخرج عن قدرتهم و طاقتهم.
السادس: الأعمال التي يفعلونها اضطراراً، كأن يطرحهم ظالم أرضاً
في شهر رمضان فيصبّ في فمهم الماء؛ أو أن تضطرّهم الضرورة في امور المعيشة التي لا تسدّ الكفاف إلى الاقتراض بالرِّبا.
السابع: الحسد في القلب دون إظهاره و دون أن يستعملوا في الخارج وسائل سلب تلك النعمة التي حسدوا المحسود لأجلها.
الثامن: الطيرة و التشاؤم، إذ ينبغي للإنسان أن لا يتشاءم من شيء فيرتّب عليه أثراً، و عليه كلّما تطيّر و تشاءم أن لا يعتني بذلك و يعمل بخلاف ما تفأل به و يتابع ذلك، أمّا ورود الطيرة و التشاؤم في القلب دون اختيار و دون ترتيب الأثر فليس بذنب و لا يؤاخذ عليه.
التاسع: بعض الخَطَرات التي تخطر على قلبه فيشكّ في مبدأ الخلقة جلّ و عزّ، فيقول في نفسه مثلًا: لقد خلق الخالق هذه المخلوقات، فمن هو خالق الله؟ و نظير هذه الأفكار التي تخالف الواقع و ترجع إلى ارتباط الخلق مع عالم الربوبيّة. فهذه الخطرات إن عرضت أحياناً دون اختيار، فلم يُجرِها الإنسان على لسانه أو يتحدّث بها فإنّه لن يؤاخذ عليها.
تنجّز التكليف و المؤاخذة عند التقصير في التعلّم و السؤال
بلى، هناك موضوع يلزم التذكير به، و هو أنّ عدم التكليف التنجيزيّ و عدم المؤاخذة و العقاب إنّما هو في حال عدم العلم بالأحكام، و في حال أنّ المكلّف في صدد التفحّص عن الدليل لكنّه لم يعثر عليه، أمّا في حال التقصير و عدم البحث و التفحّص عن الدليل، فإنّ العقاب و المؤاخذة سيبقيان مكانهما و لو كان المكلّف جاهلًا بالحكم.
و نذكر عدّة أحاديث هنا كمثال على الأمر:
الأوّل: روى الشيخ البرقيّ في «المحاسن» عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر الأحول و هو محمّد بن النعمان مؤمن الطاق عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال:
لَا يَسَعُ النَّاسُ حَتَّى يَسْألُوا أ وْ يَتَفَقَّهُوا.۱
و يمكن الاستدلال بهذه الرواية الشريفة على وجوب التقليد بالنسبة إلى الأفراد الذين لا يمتلكون القدرة على استنباط الأحكام، و على انحصار الحكم بشكل عامّ في التقليد أو الاجتهاد و عدم جواز الاحتياط كما ذهب إليه المشهور.٢
الثاني: رواه أيضا أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ في «المحاسن»
عنأبيه و موسى بن قاسم، عن يونس بن عبد الرحمن، عن بعض أصحابهما قال: سُئل أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام:
هَلْ يَسَعُ النَّاسُ تَرْكُ الْمَسْألَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ؟ قَالَ: لَا.۱
و قد جرى في هذه الرواية أيضاً بيان لزوم التقليد و وجوبه بشكل صريح.
الثالث: روى البرقيّ أيضاً في «المحاسن» عن الحسين بن يزيد النوفليّ، عن إسماعيل بن أبي زياد السكونيّ، عن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله أنه قال:
افٍّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَا يَجْعَلُ في كُلِّ جُمْعَةٍ يَوْماً يَتَفَقَّهُ فِيهِ أمْرَ دِينِهِ وَ يَسْألُ عَنْ دِينِهِ.
وَ رَوَى بَعْضُهُمْ: افٍّ لِكُلِّ رَجُلٍ.٢
الرابع: حدّث الشيخ المفيد في «المجالس» في تفسير الآية المباركة قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ،٣ عن أبي القاسم جعفر بن قولويه، عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميريّ، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهما السلام و قد سئل عن قوله تعالى فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فقال:
إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ قَالَ اللهُ تعالى لِلْعَبْدِ أكُنْتَ عَالِماً؟ فَإنْ قَالَ: نَعَمْ قَال لَه: أفَلَا عَمِلْتَ؟ وَ إ نْ قَالَ: كُنْتُ جَاهِلًا، قَالَ لَهُ: أفَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّى
تَعْمَلُ؟ فَيَخْصِمُهُ فَتِلْكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ لِلَهِ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى خَلْقِهِ.۱
التكاليف الإلهيّة مشروطة بالسعة
كان ما جرى بيانه حتّى الآن راجعاً إلى لزوم العلم؛ أمّا ما يعود إلى لزوم القدرة في تحقّق التكاليف الإلهيّة، سواء القدرة العقليّة أو القدرة الشرعيّة (و هي السعة و عدم نشوء العسر و الحرج)، فيمكن الاستدلال بآيات من كلام الله المجيد:
۱- وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.٢
و الفضل بمعنى الزيادة؛ أي أنه تعالى يفيض على المؤمنين أكثر من مقدار القدرة، و يبقيهم دوماً في سعة، فهو يبقى للمؤمنين قدراً من التحمّل و القدرة أمام تكاليفه.
٢- إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ.٣
٣- وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.٤
و نظير هذه الآيات التي تصف الخالق بصفة الفضل كثير في القرآن الكريم. و بالطبع فكما أنّ أحد مصاديق الفضل العطاء أكثر من حقّ الجزاء فإنّ أحد مصاديقه أيضاً التكليف أقلّ من مقدار القدرة العقليّة و إبقاء المكلّف في سعة و فسحة و طاقة.
٤- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.٥
٥- ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.۱
٦- هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ.٢
۷- لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها.٣
۸- لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.٤
و يتضمّن مفاد هذه الآيات الطلبات و الأشياء التي تمنّاها رسول الله صلّى الله عليه و آله ليلة المعراج من الربّ العظيم، فاستجابَ له الإله الرحيم تلك الأدعية و الطلبات، كما قد ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ و في تفسير العيّاشيّ أنّ رسول الله حين عرج إلى السماء ليلة المعراج فإنّ ممّا تبودل بينه و بين مقام عظمة الربّ جلّ و عزّ، هذه الطلبات التي الهم قلب النبيّ بسؤالها من الله، فطلبها صلّى الله عليه و آله و استجاب الله له فيها بعد أن جعل سبحانه التكليف مشروطاً بمقدار الوسع. فكان طلب النبيّ أن قال: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. فخاطبه الله: لا أؤاخذك.
ثمّ سأله النبيّ فقال: ربّنا و لا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا.
فخاطبه الله: لا أحملك.
فسأل النبيّ: ربّنا و لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنّا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
فقال الله تبارك و تعالي: قد أعطيتُكَ ذلك لك و لُامّتك.
ثمّ قال الإمام الصادق عليه السلام الذي يروي الحديث: ما وفد إلى الله تعالى أحدٌ أكرم من رسول الله صلّى الله عليه و آله حيث سأل لُامّته هذه الخصال.۱
و الآن و قد علمنا أنّ التكاليف الإلهيّة مشروطة بالعلم و القدرة، فإنّ الأفراد الذين لا قدرة لهم على العمل بالتكليف، أو الذين كانوا قاصرين غير مقصّرين في تعلّمها فحصلت لهم المخالفة للأوامر في النتيجة، سوف لن يؤاخذوا أو يعذّبوا على ذلك.
و إحدى المجاميع التي يؤمّل بالعفو عنها: المستضعفون، إلّا أنهم اولئك الجماعة من المستضعفين الذين ليس لهم سبيل للوصول إلى الحقائق.
و من ثمّ فإنّ المستضعفين ينقسمون إلى فئتين:
انقسام المستضعفين إلى فئتين:
الاولي: المستضعفون الذين لهم سبيل للوصول إلى الحقائق.
الثانية: المستضعفون الذين لا سبيل لهم للوصول إلى الحقائق.
و نجد أنفسنا مجبرين من أجل إيضاح هذا المعنى على تفسير لفظ المستضعف أوّلًا.
معنى المستضعف في القرآن الكريم
إنّ المستضعفين في لغة القرآن هم الذين تعرّضوا في الأرض لاعتداء و غلبة الأفراد الظالمين، ففقدوا اختيارهم و حرّيّتهم نتيجة سيطرة و غلبة اولئكم، و خضعوا لقيموميّة و هيمنة تلك الطائفة الظالمة.
أمّا المستكبرون مقابل المستضعفين فهم الأفراد الذين يدفعهم الطغيان و التعالي و باستمرار إلى الاعتداء على الحقوق البديهيّة للناس و إلى التجاوز عليهم بأنواع الحيل و الأحابيل، و من هنا فإنّ الاستكبار هو في مقابل الاستضعاف.
و قد عُبّر في القرآن الكريم عن المستكبرين بلفظ المَلأ، أي الأفراد الذين ملئوا مواقعهم الظالمة بلحاظ الشخصيّات الاجتماعيّة الجائرة فلم يتركوا نقطة خالية فيها.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.۱
لقد علا فرعون و طغى في الأرض فجعل ساكنيها مجاميع و طوائف، فاعتدى على طائفة منها و هيمن عليها و جعلها في قبضة قدرته و مخالب قهره ضعيفةً لا قدرة لها و لا قيمة، و كان يذبّح الأبناء و يترك النساء للخدمة أو يُجبرهنّ على الأعمال المنافية للعفّة، و لقد كان فرعون من المفسدين في الأرض حقّاً.
و لقد كان من دأبنا و سنّتنا الاختياريّة أن نمنّ على اولئك في الأرض فنجعلهم أئمّة و نجعلهم ورثة الأرض و قدراتها المسخّرة.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.۱
لقد قالت الطائفة المتعالية المستكبرة الباحثة عن الجاه و الشهرة من قوم صالح نبيّ الله لتلك الطائفة من المستضعفين الذين آمنوا به: أ تعلمون أنّ صالحاً ارسل بالنبوّة من قبل ربّه؟
قالوا مجيبين: إنّا مؤمنون بجميع ما جاء به صالح من قِبل الله.
فقال المستكبرون المتجاوزون على حقوق الضعفاء: إنّا كافرون بجميع ما آمنتم به.
وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ، وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.٢
و هذه الآيات راجعة للمستضعفين الذين امتلكوا سبيلًا للوصول إلى الحقائق، بَيدَ أنهم قصّروا بالرغم من ذلك.
فليتك ترى أيّها النبيّ المستكبرينَ و المستضعفين من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، و كلا الطائفتين موقوفة عند ربّها يوم القيامة للعرض و السؤال، و كيف إنّ بعضهم يريد إلقاء التبعة و الذنب و الجرم على البعض الآخر. لو رأيتَ المستضعفين الذين صُودرت حقوقهم من قبل المستكبرين، و الذين كانوا قادرين على رفع نير الظلم و الخروج من ربقة استكبار اولئكم و على تحرير أنفسهم من استضعافهم، أو على الهجرة على الأقلّ إلى محلّ آمن يمكنهم فيه القيام بالتكاليف الإلهيّة بحرّيّة. لكنّهم قصّروا فبقوا رازحين تحت قيموميّة اولئكم و استكبارهم.
لو رأيتَهم و هم يقولون للمستكبرين: إنّ ذنبنا الذي ارتكبناه يقع على عاتقكم فأنتم تبوءون به، فلولاكم و لو لا تسلّطكم لكنّا قد آمنّا و انشغلنا بأداء أعمالنا الدينيّة.
فيردّ عليهم المستكبرون المتعالون: أ فصددناكم عن الهدى جبراً و قهراً بعد إذ عرفتم الحقّ بعقولكم، و بعد أن نزلت عليكم الحجج الإلهيّة؟!
كلّا، بل تبعتم بسوء اختياركم تعليماتنا و إعلامنا، فأنتم أنفسكم المجرمون. فتقول طائفة المستضعفين لطائفة المستكبرين: بل إنّ محن الزمان و شرائط التأريخ و مقتضيات الزمان و إمكاناته التي واجهتنا، و أمركم لنا بهذه الأعمال القبيحة، قد أوجب نسياننا للَه، فجعلنا له شركاء و أنداداً في امور المعيشة، من قبيل الرؤساء الظالمين و الحكّام الجائرين و غيرهم حتّى انحرفنا في نهاية المطاف عن طريق التوحيد و الإيمان و تنكّبنا الصراط المستقيم، و نَهَجنا سبيلَ الغيّ و الضلال.
بلى، حيث يشاهد اولئكم طلائع العذاب و آثاره التي تعود عليهم نتيجة أعمالهم، فإنّهم سيتأسّفون في قرارة قلوبهم و سيسود الأسى و الندم سويداء قلوبهم، ثمّ يضع ملائكة الغضب الإلهيّ الأغلال و السلاسل الثقيلة
في أعناق الكافرين و يقولون لهم: أ ليس هذا الجزاء إلّا تلك الأعمال التي كنتم تجترحونها في الدنيا؟
بلى، كانت هذه الآيات عائدة إلى مقام العرض في القيامة، إلّا أننا أوردناها هنا حيث بحثنا عن البرزخ و عقاب المستضعفين بمناسبة لفظ الاستكبار و الاستضعاف المستعمل فيها، بالرغم من أنّ هذا البحث له عموميّة في إحدى جهاته، و يمكن عنونته في العذاب البرزخيّ و كذلك في عذاب يوم القيامة.
المستضعفون فئتان
و الآن و قد اتّضح معنى الاستضعاف فنقول: إنّ المستضعفين فئتان، الاولى اولئك الذين كانوا يتمكّنون من الخروج بأنفسهم من الاستضعاف و جعل أنفسهم بهجرتهم في محلّ أمين و آمن ليستمرّوا في أعمالهم الدينيّة. و هؤلاء الأفراد سيكونون مورد المؤاخذة و العقاب، لأنهم بالرغم من حرمانهم من أعمالهم الدينيّة تحت شرائط قيموميّة المستكبرين و هيمنتهم، إلّا أنهم كانوا قادرين على الهجرة، و على الإتيان من ثمّ بالأعمال و التكاليف الدينيّة، بَيدَ أنهم لم يأتوا بها.
يقول الاصوليّون:
الوُجُوبُ بالاخْتِيَارِ لا يُنَافِي الاخْتِيَارَ، و الامْتِنَاعُ بالاخْتِيَارِ لا يُنَافِي الاخْتِيَار.
أي أنّ الإنسان لو أوجب على نفسه عملًا ما بالمقدّمات الاختياريّة، أو جعله محالًا و ممتنعاً عليه، فإنّ هذا الوجوب و الامتناع لن يتنافيا مع كون ذلك العمل اختياريّاً.
و الفئة الثانية: فئة المستضعفين الذين لم يمتلكوا بأيّ وجه القدرة الفكريّة أو العمليّة للخروج من تحت نير ظلم المستكبرين، أو أنّ الهجرة إمّا لم تخطر في فكرهم و عقلهم أساساً، أو أنهم لم يمتلكوا القدرة على
الإتيان بها. و قد كانت الآية القرآنيّة التي تؤمّل المستضعفين بالعفو عائدة إلى خصوص هذه الفئة.
وجوب إلهجرة إلى دار الإسلام
و نشرع الآن بتفسير الآية المباركة التي ذُكرت مطلع الحديث لنلحظ ما هي النكات التي تستفاد منها، و ما هي شرائط الاستضعاف الذي تشمله رحمة الله تعالى عند التخلّف عن الأوامر الإلهيّة.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً.
إنّ الفئة من الناس الذين ظلموا أنفسهم بسبب مخالفة التكاليف الإلهيّة و عدم تزكية النفس و التخلّق بالأخلاق الربّانيّة، و لعدم تحصيل المعارف الشرعيّة و الملكات الرحمانيّة و لقاء المعبود جل و تعالى و شأنه قد جعلوا نفوسهم نتيجة لذلك أسرى وادي الحرمان، و حرموها من التكامل و الرقيّ و الوصول إلى مدارج الإنسانيّة و معارجها، و حبسوها في ظلمات البُعد و آثاره من الغفلة و الشهوات.
و هذه المحروميّات التي صارت من سهمهم و حظّهم، إنّما حصلت بسبب استضعاف قوم مستكبرين جعلوهم تحت قيمومتهم، و حرموهم بتسلّطهم عليهم من حقوقهم البسيطة و البديهيّة، و هي الحرّيّة في أداء المناسك الدينيّة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إقامة الشعائر الإلهيّة، و تشكيل حكومة حقّة تؤمن العدل و الإنصاف الإسلامي؛ فجعلوهم أتباعاً و ذيولًا لهم يقتفون آثارهم في العمل و السلوك الفرديّ و الاجتماعيّ.
و هؤلاء سيخاطبهم الملائكة حين يريدون قبض أرواحهم: أين كنتم و في أي ظرف و وضع كنتم؟
ذلك لأن هؤلاء الملائكة حين يصلون إليهم فيشاهدون نفوسهم
المظلمة المعتمة المحرومة الجامدة الراكدة الخاضعة لضغط الكفر، فإنّهم سيفهمون أي مصيبة و بليّة عظيمة صُبّت عليهم فاصيبوا بالحرمان الشديد إذ إنّ هذا البلاء و المصيبة العظيمة يسقطان الإنسان من مستوى العبوديّة للَه لذا فإنّهم سيتساءلون تعجّباً: أي ظروفٍ واجهتكم؟ و في أي بيئة و مجتمع كنتم تعيشون، فأصاب نفوسكم هذا التلف و الفساد؟
فيجيب الأفراد المحتضرون: كنّا من المستضعفين في الأرض، و هذا البلاء و المحنة اللذان لزمانا من قِبل المستكبرين الذين علوا علينا، و إلّا فإنّنا لم نكن لنرغب في الانحراف من تلقاء أنفسنا، و كان البقاء تحت قيموميّة الامّة الكافرة، ذلك البقاء الذي كان يستتبع سلب نورانيّة النفس و سلب عبوديّة الربّ و طاعة نبيّه أمراً يشقّ علينا. أو أننا على أقلّ تقدير لم نكن راضين بذلك و لا مرتاحين له.
فيقول الملائكة: فَلِمَ لَمْ تهاجروا؟ أ فَلَمْ تسعكم أرض الله الواسعة الفسيحة؟
كان عليكم أن تهاجروا إلى بلاد اخرى يمكنكم فيها إقامة شعائركم الدينيّة بأمن و أمان و فراغ بال، و إلى حيث يمكنكم إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و إجراء الحدود الإلهيّة و الخضوع لولاية و إشراف الإمام المعصوم أو حاكم الشرع المطاع و المجتهد الفقيه العادل البصير الخبير بالامور، و حيث تشكّلون حكومة إسلاميّة فيمكنكم من ثمّ إقامة صلاة الجمعة، و انتزاع حقّ المظلوم من الظالم، و الأذان من على المآذن بلا خوف و لا تقيّة، فتوقظوا بنداء «الله أكبر» عند الصلوات الخمس الراقدين من نوم الغفلة و تقودونهم إلى المساجد.
و لمّا كان بإمكانكم الهجرة إلى دار الإسلام أو إلى نقطة اخرى يمكنكم فيها تأسيس حكومة إسلامية بأنفسكم و العمل بأحكام الله، إلّا
أنكم لم تهاجروا اختياراً، فإنّ مأواكم و مسكنكم سيكون في جهنّم و ساءت مصيراً.
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً و باعتبار أنّ هناك فئة بين المستضعفين لا تتمكّن من الهجرة، أو لا تمتلك إمكانيّة فكريّة أو عقليّة، أو قدرة ماليّة أو بدنيّة، أو أنه و العياذ بالله ليس هناك قربهم حكومة إسلاميّة يمكنهم الوصول إليها مثلًا، كبعض الرجال و النساء و الولدان الذين لا يمتلكون أي سبيل و حيلة للخلاص بأنفسهم من تسلّط اولئكم المستكبرين، و لا يهتدون إلى طريق لتحرير أنفسهم. فإنّ هذه الجماعة مصانة من مؤاخذة ملائكة قبض الأرواح و في أمان من المصير إلى جهنّم، لأنّ هناك أملًا بعفو الله عن ذنوبهم و الله هو العفوّ الغفور.
النكات المستفادة من آية استثناء المستضعفين
و هناك نكات جديرة بالتأمّل مستفادة من هاتين الآيتين غير ما ذُكر سابقاً، الاولي: وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ لأنّ توبيخ الملائكة بعدم الهجرة ليس مبتنياً على الأمر بالحياة المرفّهة و المجتمع المنزليّ و المدنيّ، فهذه امور يشترك فيها المؤمنون و الكفّار؛ بل مبتنٍ على لزوم الحياة الدينيّة و العقائديّة بحيث يمكن من خلال الهجرة الانصراف إلى إقامة التكاليف الإلهيّة.۱
و لأنّنا نعلم أنّ الدين الإسلاميّ دين شامل و كامل و كافل جرى فيه مراعاة و ملاحظة الجوانب الاجتماعيّة و السياسيّة على أحسن وجه. و أنّ إجراء الحدود و الأحكام و إقامة الجمعة۱ و القضاء بين المسلمين و سائر
أحكامه العامّة على يد حاكم الشرع المطاع، هو من اسسه الأصيلة و دعائمه التي لا تنفكّ عنه، لذا ينبغي الهجرة إلى مثل هذا المكان المدعو بلسان الشرع ب (دار الإسلام) من أجل العمل بالتكاليف الشرعيّة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سائر التعاليم و الآداب الاجتماعيّة المذكورة، أو الهجرة إلى أي نقطة من نقاط الأرض و تأسيس حكومة الإسلام هناك على يد حاكم الشرع المطاع.
النكتة الثانية: حرمة السكنى و التوطّن في بلاد الكفر، سواءً كان المسلم المتوطّن معدوداً من أتباع تلك البلاد أم لا. فبناءً على فرض كلا التقديرين، فإنّ إمكان الإتيان بالتكاليف الإلهيّة و إقامة الحدود و دائرة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سيكون منتفياً هناك، و سيصبح الشخص المسلم إذا ما صار من أتباع ذلك البلد تحت ولايتهم، و سيكون إن كان مُقيماً تحت حمايتهم و إشرافهم.
وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.۱
شرط ولاية الفقيه إلهجرة إلى دار الإسلام
فإن قيل إنّ السكنى و التوطّن هناك ممكن مع وجود وليّ الشرع المطاع، فإنّه يجب القول في جوابهم إنّ حكومة حاكم الشرع و ولايته إنّما تمضيان من قبل الشارع حين لا يكون قد اختار السكنى في بلاد الكفر، و على فرض توطّنه السابق فإنّ عليه الهجرة إلى دار الإسلام. و من هنا فإنّ مقرّ ولاية حاكم الشرع و و اليه يجب أن يكون في دار الإسلام؛ و توضّح الآية، من السورة ۸: الأنفال هذا الأمَر بجلاء:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
و النكتة الثالثة في الآية المباركة للأمل في العفو عن المستضعفين، هي ضمّها الأولاد إلى الرجال و النساء.
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ.
أي أ نّ الولدان سيكون لهم نصيب من الرحمة الإلهيّة، و أ نّ الأمل بالعفو سيشملهم أيضاً، و بقرينة المقابلة فإنّ تلك الفئة من المستضعفين الذين امتلكوا القدرة على الهجرة بَيدَ أنهم لم يهاجروا، و الذين سيردون جهنّم فتكون مسكنهم و مأواهم، ستشمل أولادهم أيضاً؛ و سيكون الولدان على هذا هدفاً للتوبيخ و الشماتة و العقاب، شأنهم شأن البالغين، و إلّا كان ذكرهم في هذه الآية لغواً.
و ذلك لأنّ الولدان لو لم يكونوا مأمورين بالهجرة، فإنّ التكليف و الخطاب لن يتوجّه إليهم في حالٍ من الأحوال، سواءً أمكن لهم الحصول على سبيلٍ و حيلة للهجرة أم لا.
الأطفال المميزّون مأمورون بإلهجرة إلى دار الإسلام
و يستفاد من هذا أ نّ الولدان الذين لم يدركوا سنّ البلوغ إلّا أنهم مع ذلك يمتلكون إدراكاً و تعقّلًا «و يستطعيون حيلة و يهتدون سبيلًا» فإنّ الهجرة إلى دار الإسلام تجب عليهم أيضاً، من أجل أن يتمتّعوا بجميع المواهب التي منّ الله بها على المؤمنين في دار الإسلام، و ليكونوا في مأمن وصون عن جميع الأضرار التي ستواجههم خلال إقامتهم في دار الكفر.
و ما أكثر ملائمة هذا المعنى مع ما عنونه فقهاؤنا رضوان الله عليهم من أ نّ عبادة الطفل ليست تمرينيّة، بل إ نّ عبادته صحيحة و أنه سيتمتّع
بملاكات و فوائد العبادة و نتائجها شأنه شأن البالغين. كلّ ما في الأمر أ نّ قلم الوجوب و الإلزام قد ازيح عنه، و أ نّ الشارع الحكيم قد خفّف عنه، و أ نّ الشريعة السمحة السهلة قد راعت حاله.
و ينتج من إزالة الإلزام و الوجوب في التكاليف و بقاء أصل ممدوحيّة الفعل أو منكريّته، أ نّ جميع واجبات البالغين ستكون مستحبّة لهم، و أ نّ جميع محرّمات البالغين ستكون مكروهة لهم، إضافة إلى أ نّ مستحبّات و مكروهات البالغين ستبقى على حالها بالنسبة لهم، و ستكون مورد الخطاب الإلهيّ بعنوان مستحبّ و مكروه.
و ليس معنى إزالة قلم التكليف الإلزامي بالنسبة إلى الأطفال أنهم سيكونون أحراراً مجازين في ارتكاب كلّ ذنب، بل يعني انعدام تلك الدرجة من التأكيد و التشديد الموجودة للبالغين.
و على هذا الأساس فإنّ الطفل المميّز لو سرق أو زنى أو ارتكب بعض المحرّمات الاخرى، فإنّ حكومة الإسلام لن تُقيم عليه الحدّ، لكنّها ستعزّره لذلك، فيجلده حاكم الشرع وفق نظره و بصيرته و تقديره للمصلحة من جلدة واحدة إلى خمس و عشرين جلدة.
يروي الشيخ الصدوق في كتاب «الخصال» عن الحسن بن محمّد بن السكونيّ، عن الحضرمي، عن إبراهيم بن أبي معاوية، عن أبيه، عن الأعمش، عن ابن ظبيان، قال:
اتِيَ عُمَرُ بِامْرَأةٍ مَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ فَأمَرَ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أمَا عَلِمْتَ أ نَّ الْقَلَمَ يُرْفَعُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ.۱
و في ضوء ذلك فإنّ الحدّ الشرعيّ لا يقام على الطفل غير البالغ، إلّا أنّ على الحاكم أن يُعزّره.
و بعد ظهور التعارض بين آية وَ الْوِلْدَانِ التي يستفاد منها وجوب هجرة الولدان إلى دار الإسلام، و بين الإجماع المدّعى و الروايات الدالّة على عدم إلزام التكليف بالنسبة للولدان غير البالغين، و تبعاً للقواعد الاصوليّة فلانّ الآية الشريفة مختصّة بأمر الهجرة، و لأنّ هذه الروايات لها العموميّة بالنسبة لهذا المورد و لسائر الموارد، فيجب تقديم الآية الشريفة كمخصّص، مع تخصيص ذلك الإجماع المدّعى و الروايات الواردة بسائر موارد التكليف غير الأمر بالهجرة.
و ربّما كان سرّ هذا الأمر هو أهميّة الهجرة التي تستدعي إعارتها كلّ هذا الاهتمام، بحيث لا يرضى الشارع المقدّس حتّى للأطفال غير البالغين بالمكث في دار الكفر.
النكتة الرابعة: أنّ خصوصيّة حال المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان قد بُيّنت في آية الاستثناء المباركة، و تلك الخصوصيّة هي عدم التمكّن من فعل حيلة أو وسيلة و عدم الاهتداء إلى سبيل للفرار.
لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا.
أي اولئك الرجال و النساء و الولدان الذين من خصوصيّة حالهم عدم إتقانهم فعل وسيلة و حيلة و عدم اهتدائهم إلى سبيل ينجيهم. و قد قال العلماء: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ.
فإن قيل مثلًا: احترز من الرجال الذين يحملون مرضاً معدياً!
فإنّ وجوب الاحتراز ليس من الرجال مطلقاً، بل من الرجال الذين
يحملون مرضاً معدياً، لذا يستفاد من هذه الجملة أنّ علّة الحكم بوجوب الاحتراز هي حمل المرض المعدي.
و بناءً على هذه الاستفادة من علّيّة الحكم فإنّهم يقولون: يجب على الإنسان الاحتراز من كلّ من يحمل مرضاً معدياً، رجلًا كان أم امرأة.
إلحاق الأفراد الذين لا يمتلكون قدرة فكريّة أو عمليّة بالمستضعفين في شمول العفو الإلهي
و ينتج من الآية مورد البحث عموماً أنّ كلّ رجل و امرأة و ولد لا يتمكّن من إيجاد سبيل خلاص لنفسه و لا الاهتداء إلى طريق للنجاة، فإنّه سيكون مصوناً عن مؤاخذة الملائكة و عن الورود إلى جهنّم، و أنّ الأمل بعفو الله عنهم سيشملهم، سواءً كانوا من المستضعفين أم من غيرهم.
و خلاصة الأمر أنه لو كانت هناك جماعة من الناس تعيش في دار الإسلام و لا تخضع لظلم المستكبرين و اعتدائهم، و لا ينطبق عليها عنوان الاستضعاف، بَيدَ أنّ اولئكم كانوا قوماً من الرجال و النساء و الولدان الذين لا يعثرون على سبيل لإدراك الحقائق و المعنويّات و لا يهتدون إلى حيلة و وسيلة للوصول إلى الأحكام الإلهيّة و المعارف الحقّة، فإنّهم سيكونون مصونين من الورود إلى جهنّم، و سيكونون مورد العفو الإلهيّ.
فلو فرض مثلًا أنّ أطفالًا تربّوا منذ نعومة أظفارهم في أحضان آباء و امّهات كفّار، و كانوا على الدوام مورد التلقين السيّئ لوالديهم، فالقيت إليهم المطالب عكس حقيقتها، كأن يُوصف لهم نبيّ الإسلام منذ البدء كإنسان سيّئ، و القرآن ككتابٍ محرّف غير قابل للعمل. و كان هؤلاء الأطفال جاهلين باللغة العربيّة أيضاً كي يقوموا عند بلوغهم سنّ الرشد بالمراجعة بصورة مستقلّة، و كان المسجد قد اتّخذ لنفسه في قلوبهم حكم
معبد الأصنام منذ لحظة الوجود الاولى، و كان قد خُيّل لهم أنّ رسول الله معاند مخالف للأنبياء و المرسلين، و كانوا قد تلقّوا الدين الإسلاميّ الحنيف كدينٍ للانحراف و الاعوجاج، فرسخت هذه التلقينات في أذهانهم بحيث لم يكن خلافها متصوّراً لديهم كي يكونوا على الأقلّ في صدد التحقيق، و اعقب ذلك ابتعادهم عن قافلة الإسلام، إلّا أنهم لم يكونوا ذاتاً مفسدين، و لو كانت الحقيقة قد القيت إليهم كما ينبغي لقبلوها. أو أنّ أطفالًا قد كانوا منذ سنّ طفولتهم في أحضان آباء و امّهات على مذهب أهل السنّة فلقّنوا الحقائق على الدوام بشكل مخالف، بحيث لم يكونوا يحتملون في سويداء قلوبهم حقّانيّةً للتشيّع، و لم يكن لهم من العقل و الذكاء و التفكير ما يجعلهم يستفيدون من العالِم الشيعيّ حين يلتقون به؛ أو أنّ أذهانهم قد لوّثت بحيث عدّوا تلك الحقائق باطلة بصورة حتميّة، و لم يكونوا ليحتملوا الواقعيّة فيها، فكانوا يتخيّلون في عقولهم و أذهانهم و أفكارهم أنّ الذين أعادوا مسير تأريخ الإسلام إلى الوراء هم مؤسّسو التأريخ الحقيقيّ الإسلاميّ. فإنّ هؤلاء الأفراد إذا ما انعدم الإنكار في وجودهم بحيث لو اريت لهم الصورة الحقيقيّة للتشيّع لالتحقوا بمدرسة التشيّع و مذهبه، ذلك المذهب المجسّد للإسلام الحقيقيّ سيكونون هم أيضاً مورد عفو و رحمة الحضرة الأحديّة و سيكونون بمأمن من الدخول في جهنّم.
و يشكّل أهل العامّة من الرجال و النساء و الولدان أغلب هؤلاء الأفراد، خاصّةً إن افتقدوا العقل المتين و الفكر الراسخ، و كانوا من البسطاء الطيّبين. إلّا أنّ كثيراً من الرجال العلماء و المفكّرين قد يكونون غير مصونين من هذا الخطر؛ فقد يكونون مع كثرة مطالعاتهم و تتبّعهم الزائد قد بقوا أسرى إلى آخر العمر في خربة الانزواء إثر رسوخ تلقينات الآباء و الامّهات و المعلّمين و البيئة، فتكون هذه التلقينات قد حجبت بينهم
و بين إدراك الحقائق كسدّ الإسكندر.
و لو صدق في شأنهم عنوان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا و لم يكونوا في نفس الوقت من المنكرين و المعاندين و المتطاولين، بحيث لو فهموا حقيقة النبوّة أو الولاية لخضعوا و أطاعوا على الفور، فإنّهم سيكونون كذلك مورد العفوّ.
أصناف الملحقين بالمستضعفين
و إضافة إلى ما ذكرنا من أنّ جميع التكاليف الإلهيّة مشروطة بالعلم و القدرة، فقد وردت في هذا الشأن روايات من الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، نذكر بعضها هنا كأمثلة:
۱ يروي المرحوم الكلينيّ في كتاب «الكافي» بثلاثة أسانيد متّصلة: و المرحوم الصدوق في «معاني الأخبار» بسند متّصل واحد؛ و العيّاشيّ في تفسيره مرفوعاً، جميعاً عن زرارة، عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر أنه سأل الإمام عن معنى المستضعف فقال عليه السلام:
هُوَ الذي لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً إلَى الْكُفْرِ فَيَكْفُرُ وَ لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا إلَى الإيمَانِ، لَا يَسْتَطِيعُ أ نْ يُؤْمِنَ وَ لَا يَسْتَطِيعُ أ نْ يَكْفُرَ فَهُمُ الصِّبْيَانُ وَ مَنْ كَانَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ عَلَى مِثْلِ عُقُولِ الصِّبْيَانِ مَرْفُوعٌ عَنْهُمُ الْقَلَمُ.۱
٢ و يروي الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده المتّصل؛ و العيّاشيّ في تفسيره، كلاهما عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: سَألْتُهُ عن المستضعفين فقال [عليه السلام]:
الْبَلْهَاءُ في خِدْرِهَا وَ الْخَادِمُ تَقُولُ لَهَا: صَلِّى فَتُصَلِّي، لَا تَدْرِي إِلَّا مَا
قُلْتَ لَهَا، والْجَلِيبُ الذي لَا يَدْرِي إِلَّا مَا قُلْتَ لَهُ، وَ الْكَبِيرُ الْفَانِي وَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ، هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفُونَ.
فَأمَّا رَجُلٌ شَدِيدُ الْعُنُقِ جَدِلٌ خَصِمٌ يَتَوَلَّى الشِّرَى وَ الْبَيْعَ لَا تَسْتَطِيعُ أ نْ تَغْبُنَهُ في شَيءٍ، تَقُولُ: هَذَا مُسْتَضْعَفٌ؟ لَا وَ لَا كَرَامَةٌ.۱
٣ يروي في «الكافي» بسلسلة سنده المتّصل عن عليّ بن سويد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام.
قَالَ: سَألْتُهُ عَنِ الضُّعَفَاءِ، فَكَتَبَ إلَيَّ: الضَّعِيفُ مَنْ لَمْ تُرْفَعْ إِلَيْهِ حُجَّةٌ وَ لَمْ يَعْرِف الاخْتِلَافَ، فَإذَا عَرَفَ الاخْتِلَافَ فَلَيْسَ بِمُسْتَضْعَفٍ.٢
و روى الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده عن رجل من أصحابنا و العيّاشيّ في تفسيره عن أبي بصير، كلاهما عن الإمام الصادق عليه السلام نظير هذه الرواية مفاداً و معنى.٣
٤ يروي الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده المتّصل؛ و العيّاشيّ في تفسيره مرفوعاً، كلاهما عن سليمان بن خالد قال:
سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَ «إِلَّا الْمُسْتَضْعِفينَ مِنَ الرِّجَالِ و النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ».
قَالَ: يَا سُلَيْمَانُ في هَؤلاءِ الْمُسْتَضْعَفينَ مَنْ هُوَ أثْخَنُ رَقَبَةً مِنْكَ.٤
الْمُسْتَضْعَفُونَ قَوْمٌ يصُومُونَ وَ يصَلُّونَ تَعِفُّ بُطُونُهُمْ وَ فُرُوجُهُمْ
لَا يَرَوْنَ أ نَّ الْحَقَّ في غَيْرِنَا۱ آخِذِينَ بِأغْصَانِ الشَّجَرَةِ؛ فَاولَئِكَ عَسَى اللهُ أ نْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ إِ ذَا كَانُوا آخِذِينَ بِالأغْصَانِ وَ إ نْ لَمْ يَعْرِفُوا فَإن عَفَا عَنْهُمْ فَبِرَحْمَتِهِ وَ إ نْ عَذَّبَهُمْ فَبِضَلَالَتِهِمْ.٢
٥ و يروي في «معاني الأخبار» بسنده المتّصل عن عبد الغفّار الجازيّ عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أنهُ ذَكَرَ أنَّ الْمُسْتَضْعَفينَ ضُرُوبٌ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، وَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْلِ الْقِبْلَةِ نَاصِباً فَهُوَ مُسْتَضْعَفٌ.٣
٦ و يروي الشيخ الصدوق في «الخصال» بسنده المتّصل عن محمّد بن فضيل الرزقيّ، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن أبيه عن جدّه أمير المؤمنين عليه السلام، قال:
إِ نَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أبْوَابٍ: بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ النَّبِيُّونَ وَ الصِّدِّيقُونَ، وَ بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ الشُّهَدَاءُ وَ الصَّالِحُونَ، وَ خَمْسَةُ أبْوَابٍ يَدْخُلُ مِنْهَا شِيعَتُنَا وَ مُحِبِّينَا ... إلَى أنْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ:
وَ بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَشْهَدُأنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ لَمْ يَكُنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ بُغْضِنَا أهْلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ.٤
و هو شاهد على أنّ الخلود في جهنّم مختصّ بمعاندي أهل البيت عليهم السلام.
الخلود في جهنّم مختصّ بالمعاندين و المكذّبين
و أمّا سائر الأصناف من العامّة و الكفّار الذين ليس في قلوبهم عداء
للحقّ و الحقيقة، و الذين ليسوا جاحدين أو مستكبرين أو متمرّدين مقابل الله و أوليائه، بل إنّ نزعتهم إلى مدرسة العامّة أو إلى نهج الكفر مبنيّة على عدم طلوع الحقّ و عدم انكشاف الحقيقة لهم، فهناك رواية مفصّلة يرويها سُليم بن قيس الهلاليّ في كتابه، عن أمير المؤمنين عليه السلام يقسّم فيها الإمام الفرق إلى ثلاث و سبعين فرقة، واحدة منها في الجنّة و الفرق الاثنتان و السبعون الباقية في النار. و من بين هذه الفرق الثلاث و السبعين هناك ثلاث عشرة فرقة تنتحل محبّة أهل البيت، منها فرقة واحدة فقط ناجية و الفرق الاثنتا عشرة الباقية من أهل النار.
المراد بالفرقة الناجية من بين الفرق الثلاث و السبعين
ثمّ يقول الإمام:
و أمّا الفرقة الناجية المهديّة المؤمنة المسلمة الموفّقة المرشدة فهي المؤتمنة بي، المسلّمة لأمري، المطيعة لي، المتبرّئة من عدوّي، المحبّة لي المبغضة لعدوّي، التي قد عرفت حقّي و إمامتي و فرض طاعتي من كتاب الله و سنّة نبيّه، فلم ترتدّ و لم تشكّ، لما قد نوّر الله في قلبها من معرفة حقّنا و عرفها من فضلها، و ألهمها و أخذ بنواصيها، فأدخلها في شيعتنا، حتّى اطمأنت قلوبها و استيقنت يقيناً لا يخالطه شكّ أني أنا و أوصيائي بعدي إلى يوم القيامة هداةٌ مهتدون، الذين قرنهم الله بنفسه و نبيّه في أي من كتاب الله كثيرة، و طهّرنا و عصمنا و جعلنا شهداء على خلقه، و حجّته في أرضه، و خُزّانه على علمه، و معادن حكمه، و تراجمة وحيه، و جعلنا مع القرآن و القرآن معنا، لا نفارقه و لا يفارقنا حتّى نرد على رسول الله صلّى الله عليه و آله حوضه، كما قال صلَّى الله عليه و آله. و تلك الفرقة الواحدة من الثلاث و السبعين فرقة هي الناجية من النار و من جميع الفتن و الضلالات و الشبهات، هم من أهل الجنّة حقّاً، و هم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، و جميع تلك الفرق الاثنتين و السبعين فرقة هم
المتديّنون بغير الحقّ، الناصرون دين الشيطان، الآخذون عن إبليس و أوليائه، هم أعداء الله و رسوله و أعداء المؤمنين، يدخلون النار بغير حساب، براء من الله و من رسوله، و أشركوا بالله و كفروا به و عبدوا غير الله من حيث لا يعلمون، و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يقولون يوم القيامة «و الله ربّنا ما كنّا مشركين» يحلفون لله كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء إلّا أنهم هم الكاذبون.۱
قال [سُليم بن قيس]: قيل يا أمير المؤمنين! أ رأيت من قد وقف فلم يأثم بكم و لم يعادكم و لم ينصب لكم و لم يتولّكم و لم يتبرّأ من عدوّكم و قال «لا أدري» و هو صادق.
قال: ليس اولئك من الثلاث و السبعين فرقة، إنّما عنى رسول الله صلّى الله عليه و آله بالثلاث و السبعين فرقة الباغين الناصبين الذين شهروا أنفسهم و دعوا إلى دينهم، ففرقة واحدة منها تدين بدين الرحمن و اثنتان و سبعون تدين بدين الشيطان و تتولّى على قبولها و تتبرّأ ممّن خالفها.
أبناء العامّة من غير المعادين لله و لأهل البيت من أهل النجاة في النهاية
غير المعاندين مصيرهم إلى النجاة
فأمّا من وحّد الله و آمن برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و لم يعرف و لم يتناول ضلالة عدوّنا و لم ينصب شيئاً و لم يحلّل و لم يحرّم و أخذ بجميع ما ليس فيه خلاف بين المختلفين من الامّة و كفّ عمّا فيه خلاف بين المختلفين من الامّة لأنَّ الله أمر به أو نهي عنه، فلم ينصب شيئاً و لم يحلّل و لم يحرّم و لا يعلم و ردّ علم ما أشكل
عليه إلى الله، فهذا ناجٍ و هذه الطبقة بين المؤمنين و بين المشركين هم أكثر الناس و أجلّهم و هم أصحاب الحساب و الموازين و الأعراف و الجهنّميّون الذين يشفع لهم الأنبياء و الملائكة و المؤمنون و يخرجون من النار فيسمّون الجهنّميّون، فأمّا المؤمنون فينجون و يدخلون الجنّة بغير حساب، و إنّما الحساب على أهل هذه الصفات بين المؤمنين و المشركين و المؤلّفة قلوبهم و المقترفة و الذين خلطوا عملًا صالحاً و آخر سيّئاً.
و المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلًا، لا يستطيعون حيلة إلى الكفر و الشرك و لا يحسنون أن ينصبوا، و لا يهتدون سبيلًا إلى أن يكونوا مؤمنين عارفين، فهم أصحاب الأعراف و هؤلاء لله فيهم المشيئة إن أدخل أحداً منهم النار فبذنبه، و إن تجاوز عنه فبرحمته.۱
الآيات الدالّة على أنّ الخلود في العذاب مختصّ بالمكذّبين
و على هذا الأساس المنطقيّ و العقليّ خصّص الربّ عظيم الشأن في القرآن الكريم الخلود في نار جهنّم و حبط الأعمال و الاستدراج و كثير من العواقب الوخيمة باولئك الذين ليسوا كفّاراً فقط، بل مكذّبين بالآيات الإلهيّة، فالعلّة المهمّة لخلودهم في جهنّم إنكارهم و استكبارهم و تكذيبهم بآيات الحقّ، لا نفس الكفر لوحده.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.٢
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.۱
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.٢
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ.٣
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.٤
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ.٥
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.٦
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ۷ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ.۸
و مثل كثير من الآيات الاخرى التي عزت العذاب في الامم السابقة إلى تكذيبهم لا إلى نفس كفرهم، و مثل كثير من الآيات الاخرى التي ذُكر بعضها كأمثلة و التي جيء فيها بعنوان التكذيب بعد الكفر فجُعلا معاً سبباً
للخلود في جهنّم.
احتمال العفو عن «المرجون لأمر الله» الذين يتأخّر حسابهم
لقد تطرّق القرآن الكريم إلى ذكر أفراد غير اولئك المُحسنين الذين محضوا الإيمان، و غير اولئك الذين محضوا الكفر، و غير المستضعفين و من يُلحق بهم، و غير المؤمنين العاديّين الذين خلطوا عملًا صالحاً و آخر سيّئاً؛ و هم الذين لا يُصار إلى حسابهم بمجرّد موتهم، بل يُرجى ذلك و يؤخّر إلى يوم القيامة، فيتمّ آنذاك محاسبة نفوسهم الصالح منها و الطالح.
و حين تقوم القيامة، حيث عالم ظهورات النفوس، فإنّ الله سبحانه إمّا أن يرحمهم تبعاً لحالاتهم النفسيّة أو يسلّمهم إلى العذاب. و يدعى اولئكم ب «المرجون لأمر الله».
فبعد أن يذكر الله سبحانه في سورة التوبة حال الصالحين و الطالحين و حال اولئك الذين خلطوا عملًا صالحاً و سيّئاً، فإنّه يبيّن من ثمّ حال هذه الطائفة بهذه الكيفيّة:
وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ.۱ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ألأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَ مِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأعْرَابِ مُنْافِقُونَ وَ مِنْ أهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبهُم مرَّتَيْنِ٢ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ، وَ ءَاخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.۱
و بعد بيان عدّة آيات يصل إلى هذه الآية:
وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.٢
يروي في «الكافي» بسندين متّصلين عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام روايتين في شأن «المرجون لأمر الله»، و مضمون الروايتين واحد إلّا أننا نورد هنا عبارة الرواية الاولي:
محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن الباقر عليه السلام في قوله عزّ و جلّ «وَ ءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ»
قال: قَوْمٌ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَقَتَلُوا مِثْلَ حَمْزَةَ وَ جَعْفَرٍ وَ أشْبَاهَهُمَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إنَّهُمْ دَخَلُوا في الإسْلَامِ فَوَحَّدُوا اللهَ وَ تَرَكُوا الشِّرْكَ، وَ لَمْ يَعْرِفُوا الإيمَانِ بِقُلُوبِهِمْ فَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤمِنِينَ فَتَجِبْ لَهُمُ الْجَنَّةُ وَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى جُحُودِهِمْ فَيَكْفُرُوا فَتَجِبْ لَهُمُ النَّارُ فَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِمَّا يُعَذِّبَهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.٣
و قد أورد عليّ بن إبراهيم في تفسيره بسنده المتّصل هذه الرواية بالمضمون.٤
هذا و قد عدّت هذه الطائفة في بعض الروايات من زمرة
المستضعفين، فيروي في «معاني الأخبار» و «تفسير العيّاشيّ»، الأوّل بسنده المتّصل و الثاني مرفوعاً عن حمران بن أعين قال:
سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَ: «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ».
قَالَ: هُمْ أهْلُ الْوَلَايَةِ. قُلْتُ: وَ أي وَلَايَةٍ؟ فَقَالَ: أما إنَّهَا لَيْسَتْ بِوَلَايَةٍ في الدِّينِ، وَ لَكِنَّهَا الْوَلَايَةُ في الْمُنَاكَحَةِ وَ الْمُوَارَثَةِ وَ الْمُخَالَطَةِ وَ هُمْ لَيْسُوا بِالْمُؤْمِنِينَ وَ لَا بِالْكُفَّارِ وَ هُمُ الْمُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ.
بعض التفاسير ترى أنّ «المرجون لأمر الله» هم من المستضعفين
و روى في تفسير «الميزان» عن «تفسير القمّيّ»، عن ضريس الكنانيّ، عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام.
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا حَالُ الْمُوَحِدِّينَ الْمُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ لَيْسَ لَهُمْ إِمَامٌ وَ لَا يَعْرِفُونَ ولايَتَكُمْ؟
فَقَالَ: أمَّا هُؤْلاءِ فَإنَّهُمْ في حُفَرِهِمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا: فَمَنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عَدَاوَةٌ فَإنَّهُ يُخَدُّ لَهُ خَدُّ إلَى الْجَنَّةِ التي خَلَقَهَا اللهُ بِالْمَغْرِبِ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الرُّوحُ في حُفْرَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ فَيُحَاسِبُهُ بِحَسَنَاتِهِ وَ سَيِّئَاتِهِ، فَإِمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَ إِمَّا إلَى النَّارِ. فَهَؤْلَاءِ الْمَوْقُوفُونَ لأمْرِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.
قَالَ: وَ كَذَلِكَ يُفْعَلُ في الْمُسْتَضْعَفينَ وَ الْبُلْهِ وَ الأطْفَالِ وَ أوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ.۱
و في تعبير الإمام بالجنّة في جهة المغرب و نفخ الروح من هناك بواسطة هذا الخدّ في أسفل الأرض في عالم قبورهم البرزخيّة، إشارات و كنايات جديرة بملاحظة أهل التأمّل و التفكّر.
و قد روى الكلينيّ هذه الرواية في «الكافي» بسنده المتّصل، ضمن رواية مفصّلة عن ثلاثة طرق، من بينها: عليّ بن إبراهيم عن ضريس الكنانيّ.۱
السؤال في القبر مختصّ بمن محضوا الإيمان و بمن محضوا الكفر، و لا سؤال في القبر لسائر الفرق
ناهيك أنه يستفاد من بعض الروايات أنّ السؤال في القبر مختصّ بمن أخلصوا الإيمان فصاروا من المؤمنين صرفاً، أو أخلصوا الكفر فصاروا من الكفّار صرفاً، أمّا سائر الفرق و الطوائف فلا سؤال لهم في القبر بل يُلهى عن مؤاخذتهم و سؤالهم.
يذكر الشيخ الكلينيّ في «الكافي» أربع روايات في هذين الموضوعين بأربعة أسانيد متّصلة عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام.
و باعتبار تقارب مضامين هذه الروايات فإنّنا سنكتفي هنا بذكر إحداهما:
يروي أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن الحجّال، عن ثعلبة، عن أبي بكر الحضرميّ، قال:
قالَ أبُو عَبدُ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: لَا يُسْألُ في الْقَبرِ إِلَّا مَنْ محَضَ
الإيمَانَ مَحْضاً أ وْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضَاً وَ الآخَرُونَ يُلْهَوْنَ عَنْهُمْ.۱ و٢
و قال العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه في بيان هذه الرواية بعد إيرادها:
بيان: «مَن محض» بفتح الميم اسم موصول، و بكسر الميم حرف جرّ؛ و قراءة محض مصدراً ليكون المعنى أنه لا يُسأل عن الأعمال بل عن العقائد تصحيف يأباه صريح الأخبار. بل المعني: أنه لا يُسأل عن المستضعفين المتوسّطين بين الإيمان و الكفر.٣
و قد صرّح الشيخ المفيد رحمة الله عليه بهذا المعنى، من أنه لا يُسأل في القبر من المتوسّطين بين الكفر و الإيمان، و أنّ السؤال مختصّ بمن محض الإيمان أو محض الكفر، فقد سُئل عن هذه المسائل و عن السؤال في القبر و كيفيّته فقال: الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل.٤
المستضعفون لا يمتلكون مقامات الأبرار
النكتة الخامسة: أنّ ما ورد في آية العفو عن المستضعفين هو الأمل بالعفو، أي أنّ الله سبحانه يغضي عن ذنوبهم؛ أمّا درجة و مقام و منزلة المؤمنين الأخيار و الصالحين و الأبرار و الصدّيقين و الشهداء و أولياء الله التي يُناط كُلّ منها بأعمال خاصّة و اكتساب درجة و مقام من الإيمان و اليقين، فإنّ أيّاً منها لن يكون من نصيبهم و لا من نصيب الملحقين
بالمستضعفين و لا المرجون لأمر الله و لا للذين خلطوا عملًا صالحاً و آخر سيّئاً، و ذلك لأنّ للجنّة منازل و مقامات، كلّ منها يليق بطائفة خاصّة.
يروي الشيخ الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده المتّصل، و العيّاشيّ في تفسيره مرفوعاً، كلاهما عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزّ و جلّ «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا».
فقال: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً إلَى النَّصْبِ فَيَنْصِبُونَ وَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلَ أهْلِ الْحَقِّ فَيَدْخُلُونَ فِيهِ، وَ هَؤلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِأعْمَالٍ حَسَنَةٍ وَ بِاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ التي نَهَى اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْهَا، وَ لَا يَنَالُونَ مَنَازِلَ الأبْرَارِ.۱
النكتة السادسة: أنّ في آية الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ دلالة إجماليّة على السؤال في عالم القبر، أي السؤال في عالم البرزخ، و الأخبار الواردة تدلّ على ذلك، و يشهد على ذلك أيضاً قول الله تبارك و تعالي:
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً.٢
إنّ اولئك الذين كانوا يظلمون أنفسهم حين تأتيهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم، فإنّهم يحاولون من خلال المسالمة و رفيق القول و ليّنه الإيحاء بأنهم لم يكونوا يعملون سوءاً؛ لكنّ الله يخاطبهم: بلى، إنّ الله
عليم بما كنتم تعملون في الدنيا؛ ثمّ يسوقهم الملائكة إلى جهنّم و يخاطبونهم: ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها، انّها ساءت مُقاماً و مثوى للمتكبّرين. ثمّ يقولون للذين احترفوا التقوى في الدنيا: ما ذا أنزل الله؟ فيجيبون: خيراً.
و كما يُلاحظ في هذه الآيات، فإنّ سؤال الملائكة من الظالمين و من المتّقين إنّما يحصل في عالم البرزخ حيث يرتفع الحجاب الملكوتي، فيتكلّمون مع أرواحهم الملكوتيّة.
و هذا النوع من الخطاب الذي ورد في الآيتين موردي البحث و في هذه الآيات من سورة النحل، و الذي يُخاطب به الظالمون أو أهل التقوى و الإيمان، يؤيّد الروايات التي ذكرت أخيراً و عُدّ فيها سؤال القبر منحصراً بمن محض الإيمان و بمن محض الكفر و أمّا سائر الأفراد فيلهى عنهم.
قصّة اشتعال بنت الأفندي شيباً من رؤية عذاب قبر أُمّها في القبر
و قد نقل سماحة الاستاذ العلّامة الطباطبائي مدّ ظلّه العالي۱ عن المرحوم آية الحقّ العارف العظيم الشأن الحاجّ الميرزا على آقا القاضي رضوان الله عليه أنه قال: حصل في النجف الأشرف أن توفّيت قرب منزلنا امّ إحدى بنات الأفنديّة،٢ فكانت هذه الفتاة تضجّ بالشكوى و تئنّ لموت امّها، و الألم و الحزن يغمرانها، ثمّ إنّها صحبت المشيّعين إلى قبر امّها فأنّت هناك و ندبت بحيث انقلب حال جميع المشيّعين.
ثمّ إنّهم أعدّوا القبر و أرادوا وضع الامّ فيه، فكانت الفتاة تصرخ بأنها لا تريد الانفصال عن امّها، و عبثاً حاولوا تهدئتها و تسكينها. ثمّ رأوا أنهم إن فصلوا الفتاة عن امّها قهراً لماتت كمداً دون ريب، فارتأوا أخيراً أن يضعوا الامّ في القبر و يدعوا الفتاة إلى جانبها دون أن يُهيلوا التراب على القبر، بل يكتفون بتغطيته بلوحة خشبيّة و يدعون فيه منفذاً لئلّا تموت الفتاة، و لكي تخرج من ذلك المنفذ متى عَنّ لها ذلك.
و هكذا رقدت الفتاة بجوار امّها في الليلة الاولى للدفن، ثمّ جاءوا في اليوم التالي فأزاحوا الغطاء ليروا ما حلّ بالفتاة، فشاهدوا و يا للهول أنّ شعر الفتاة قد شاب بأجمعه!
سألوها: لما ذا حدث هذا؟
قالت: كنتُ نائمة بجوار امّي، فرأيت في الليل نفرين من الملائكة و قد جاءا فوقف كلٌّ منهما إلى جهة، ثمّ جاء شخص محترم أيضاً و وقف في الوسط.
ثمّ إنّ ذينك الملكين إنهمكا في سؤال امّي عن عقائدها، فكانت تجيبهم فسألاها عن التوحيد فأجابت: إلهي واحد.
ثمّ سألاها عن النبوّة فأجابت: نبيِّي محمّد بن عبد الله.
ثمّ سألاها: مَن إمامك؟
فقال ذلك الرجل المحترم الواقف في الوسط: لستُ لها بإمام.
فانهال الملكان بالدبابيس على رأس امّي بحيث كانت ألسنة النار تتصاعد إلى السماء، فأنا من رعبي و خوفي من تلك الواقعة بهذه الحال التي ترون. و قال المرحوم القاضي رضوان الله عليه: و باعتبار أنّ جميع عشيرة تلك الفتاة كانوا من العامّة، و لأن هذه الواقعة حدثت وفق عقائد الشيعة، فقد تشيّعت تلك الفتاة و تشيّع ببركتها جميع عشيرتها من الأفنديّة.
وَ مَن يُهَاجِرْ في سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً
لقد وردت ذيل الآيات التي كانت محور البحث في شأن المستضعفين آيةٌ اخرى تتعلّق بوجوب الهجرة و أجر الشخص المهاجر:
وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.۱
و المُراغم مشتقّة من الرَّغام بفتح الراء و هو التراب؛ و رَغَمَ أنفُ فلان رغماً أي اخضع و اهين؛ و أرغم الله أنفه من باب الإفعال فعلٌ متعدّ، أي أهانه و ألصقه بالرغام.
و المُراغَم هي الأمكنة التي يُلصق فيها الأنف بالرغام، و هي كناية في القرآن الكريم عن الأمكنة التي يمكن فيها للإنسان تسكين غضبه و تنفيذ نواياه و مقاصده. و باعتبار أنه يمكن للمؤمنين من خلال الهجرة و الخروج من تسلّط المستكبرين، أن يُقيموا شعائرهم الدينيّة بحرّيّة كاملة، و أن يحقّقوا نواياهم و مقاصدهم بتمام المعنى من خلال تأسيس دولة حقّة و حكومة إسلاميّة؛ و باعتبار أنه سيمكنهم بالهجرة إلى النقاط الواسعة التي يُصانون فيها من أيدي الظالمين و بنشر لواء الحمد و بسط راية العدل و القسط، و بإقامة الحدود و الجمعة و الجماعات، تمريغ أنوف أعدائهم في التراب و إخماد سَوْرة غضبهم، ذلك الغضب المكنون في ضمائرهم نتيجة تسلّط قوى الكفر، الغضب الذي لم يمتلكوا من قبل سبيلًا لإظهاره و إخماده، لذا فقد وُصفت هذه الحقيقة في هذه الآية المباركة بتعبير عجيب غاية في الغرابة.
يُقال إنّ عالم البرزخ باعتباره محسوباً من تتمّة عالم الدنيا فإنّه من ثمّ
يمتلك صورةً و كمّاً و كيفاً، لذا فإنّ المؤمنين الذين هاجروا من منازل نفوسهم و خرجوا من بيوتهم و خطوا على طريق الهجرة، إلّا أنهم لم يصلوا إلى مقام كمالهم في الوصول إلى حقيقة الاندكاك في الأسماء و الصفات الإلهيّة، و الوصول أخيراً إلى عالم الفناء المطلق في ذاته المقدّسة، فإنّهم يحصلون على كمالهم في عالم البرزخ، ثمّ يُحشرون يوم القيامة بكمالهم الواقعي.
و هذا المعنى يمكن قبوله وفق العمومات الواردة من الحكمة الإلهيّة القرآنيّة و السنّة النبويّة، ذلك لأنّ من عزم على الهجرة واضعاً نصب عينيه قول رسول الله:
مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ.۱
فإنّه سير افق رسول الله و ينشغل في حظيرة القدس الإلهيّة بالتطلّع إلى جمال الحضرة الأزليّة الأبديّة و السرمديّة، و سيحظى بمقام الولاية المطلقة و العبوديّة المحضة الخالصة.
و على هذا الأساس فإنّ الأفراد الذين لم تصل نفوسهم إلى مقام فعليّتها، و الذين رحلوا عن الدنيا ناقصين، يجب أن يكملوا في البرزخ ثمّ يحضروا قيامة الأنفس.
قصّة السيّد جواد الكربلائيّ و الشيخ السنّيّ المستضعف
و هناك قصّة نقلها سيّدنا الأعظم و استاذنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ تستحقّ التأمّل و الملاحظة.
قال سماحته:
كان هناك في كربلاء واعظ اسمه السيّد جواد، و كان يُلقّب بالكربلائيّ باعتباره من أهل تلك المدينة؛ و كان يقطن كربلاء، إلّا أنه كان قد اعتاد الذهاب أيّام المحرّم إلى النواحي و القصبات و القرى النائية لتبليغ الأحكام، فيصلّي بأهلها صلاة الجماعة و يبيّن لهم المسائل ثمّ يقفل راجعاً إلى كربلاء.
و صادف مرّة أن عرّج على إحدى القصبات التي كان جميع سكّانها من العامّة، فالتقى هناك بشيخ عجوز ذي شيبة نورانيّة. و لأنه رآه سنّيّاً فقد فتح معه باب الحديث و المذاكرة، فشاهد أنه لا يمكنه إفهامه أمر التشيّع فوراً، فقد كان قلب ذلك الرجل الساذج الطيّب قد طفح بحبّ غاصبي مقام الخلافة بحيث لم يكن لديه استعداد لذلك، بل ربّما أدّى بيان الأمر له إلى عكس المتوخّي؛ ثمّ حصل أنه كان يتحدّث معه يوماً فسأله: مَن هو شيخكم؟ (يسمّي العرب كبير العشيرة و رئيسها بالشيخ).
و كان السيّد جواد يرمي من سؤاله هذا إلى فتح باب المذاكرة مع ذلك الشيخ ليجد الإيمان سبيله إلى قلبه تدريجياً، فيجعله شيعيّاً.
أجاب الشيخ: شيخنا رجل مقتدر له عدّة مضائف۱، و له من الإبل و الضأن الشيء الوفير، و له أربعة آلاف نفر من الرماة، أمّا عشيرته و قبيلته فما أكثرهم!
فقال السيّد جواد: أنعِم بشيخكم، ما أكثر قدرته و تمكّنه!
ثمّ التفت الشيخ العجوز بعد هذه المذاكرات إلى السيّد جواد فقال:
و من هو شيخكم؟
قال: شيخنا سيّدٌ يُغيث كلّ محتاجٍ و ملهوف، فلو كنتَ في شرق العالَم و كانَ في غربه، أو كنتَ في غرب العالم و كانَ في شرقه، و انتابك غمّ أو محنة، فما عليك إلّا أن تندبه و تهتف باسمه فإنه يأتيك على الفور فيغيثك و يحلّ لك ما أشكل عليك.
فقال الشيخ العجوز: عجباً! ما أحسنه من شيخ! أكْرِم بالشيخ أن يكون هكذا؛ فما اسمه؟
قال السيّد جواد: الشيخ عليّ!
ثمّ انقطع الحديث إلى هذا الحدّ، و انفرط عقد المجلس و افترق الاثنان عن بعضهما فعاد السيّد جواد إلى كربلاء، لكنّ الإعجاب بالشيخ عليّ كان قد غمر ذلك الرجل العجوز فكان لا يبرح مخيّلته.
و بعد مدّة عاد السيّد جواد إلى تلك القرية بشوق و لهفة ليُنهي المذاكرة و يجعل الشيخ شيعيّاً، و كان يردّد في نفسه: لقد وضعنا الحجر الأساس ذلك اليوم، و علينا اليوم أن نُكمل البناء. لقد تحدّثنا ذلك اليوم عن الشيخ عليّ، و سنعرّفه به اليوم فنهدي الرجل العجوز ذا القلب المشرق إلى
المقام المقدّس لأمير المؤمنين عليه السلام.
ثمّ دخل القرية و سأل عن ذلك الرجل العجوز فقيل له: لقد رحل عن دار الدنيا!
فتأثّر السيّد لذلك غاية التأثّر، و قال في نفسه: عجباً له من رجل عجوز! لقد كنّا و طّنّا النفس على تعريفه بالولاية، لكنّه و يا للأسف رحل عن الدنيا بدونها. لقد أردنا أن نعمل شيئاً فنعين الرجل العجوز، فقد استبان بجلاء أنه لم يكن من أهل العناد و النصب، و أنّ الإعلام السيّئ و الإلقاءات و التلقين قد حرم الرجل العجوز من النزوع إلى الولاية.
و لقد أثّر موت العجوز في كثيراً (و الكلام للسيّد جواد الكربلائيّ)، فحزنتُ له حزناً جمّاً، ثمّ ذهبت لرؤية أولاده و عزّيتهم و سألتهم أن يأخذوني إلى قبره، فقادني أولاده إليه، فقلتُ: يا إلهي! لقد كان لنا أملٌ في هذا الشيخ العجوز، فَلِمَ أخذتَه من عالم الدنيا؟ لقد كان على مشارف أعتاب الولاية، فوا أسفاً على رحيله من الدنيا ناقصاً محروماً!! ثمّ عدتُ من قبر الشيخ العجوز و رافقتُ أبنائه إلى داره فبتُّ هناك ليلتي تلك، فرأيتُ في عالم النوم أني دخلت من باب فشاهدت ممرّاً طويلًا وضع على جانب منه مصطبة عالية جلس عليها شخصان، و الرجل العجوز واقف أمامهما.
فدخلتُ و سلّمتُ و سألتُه عن حاله، ثمّ رأيت أنّ هناك في نهاية الممرّ باباً زجاجيّة تُشاهد منها روضة كبيرة. فسألتُ الرجل العجوز: أين هذا المكان؟
قال: هذا عالم قبري و عالم برزخي، و هذه الروضة في نهاية الممرّ خاصّة بي و بقيامتي.
قلتُ: فلِمَ لَمْ تذهب إليها؟
ردّ قائلًا: لم يحن الوقتُ بعدُ. يجب عَلَيَّ اجتياز هذا الممرّ أوّلًا، ثمّ
الذهاب إلى تلك الروضة.
قلتُ: فلم لا تجتاز و تذهب؟
قال: هذان الشخصان معلّماي، و هما ملكان سماويّان جاءا لتعليمي الولاية، و سأذهب حين تكمل ولايتي. أيها السيّد جواد، لقد قلتَ و لم تقلْ (أي أنك قلتَ إنّ شيخنا الذي لو نودي من شرق العالم أو غربه لأجابَ و أغاثَ اسمه الشيخ عليّ، لكنّك لم تقل إنّ شيخ عليّ هذا هو عليّ بن أبي طالب).
اقسم بالله، ما إن هتفتُ: يا شيخ عليّ أغثني! إلّا و حضر على الفور؟
قلتُ: ما القصّة؟
أجاب: حين رحلتُ عن الدنيا جيء بي إلى القبر فوضعوني فيه، ثمّ جاءني منكر و نكير و سألاني: مَن ربّك و من نبيّك و من إمامك؟
فاضطربتُ و غمرني الخوف الشديد، و مهما حاولتُ الإجابة تلجلج لساني، و مع أنني كنت مع أهل الإسلام فإنّني مهما حاولت أن أقول من هو ربّي و من هو نبيّي، تلجلج لساني فلم ينطق.
ثمّ إنّ منكراً و نكيراً تحرّكا ليمسكا بتلابيبي و يخضعاني لسيطرتهما و عذابهما، فصرتُ بائساً بكلّ ما للكلمة من معنى، و رأيتُ أن ليس لي من محيص. لقد صرتُ ممتحناً أسيراً مضطرباً!
ثمّ خطر في ذهني فجأة أنك قلتَ لي: إنّ لدينا شيخاً لو ناداه مضطرّ و ندبه في شرق العالم أو غربه لحضر لديه فوراً و أغاثه و كشف كُربته. فهتفتُ: يا عليّ أغثني!
فحضر عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام على الفور إلى هذا المكان و قال لمنكر و نكير: دعا الرجل فإنّه ليس معانداً و لا من أعدائنا
فقد رُبِّي هكذا. إنّ عقائده غير كاملة لأنه لم يمتلك سعةً لذلك.
هكذا ردّ الإمام ذينك الملكين، و أمر ملكين آخرين بالمجيء ليكملا عقائدي، فهذان الشخصان الجالسان على المصطبة هما الملكان اللذان جاءا بأمر الإمام ليعلّماني العقائد. و حين ستصبح عقائدي صحيحة فسأكون مجازاً بعبور هذا الممرّ و الدخول إلى تلك الروضة.
إنّ هذه الرؤيا التي توضّح جهات من إعانة المستضعفين و العفو عنهم و التكامل البرزخيّ و جهات كثيرة اخرى، لها دلالة أيضاً على السؤال عن العقائد في عالم القبر.
و هذه الرؤيا نظير أحلام اخرى نبيّنها في هذه الأبحاث، من الوقائع المسلّمة الوقوع في عصرنا هذا.
و على هذا الأساس في تكميل النفوس الناقصة التي رحلت عن الدنيا و التي لم تصل إلى مقام فعليّتها، فقد وردت روايات في أنّ أولاد المؤمنين الذين رحلوا عن الدنيا في سنيّ طفولتهم يُربّون في عالم البرزخ على يد إبراهيم الخليل عليه السلام أو على يد الزهراء سلام الله عليها.
تكامل النفوس الناقصة في عالم البرزخ
يذكر الشيخ الصدوق في كتاب «الأمالي» رواية طويلة في معراج رسولالله صلّى الله عليه و آله، بسنده المتّصل عن عبد الرحمن بن غنم و يذكرضمنها هذه الفقرة:
قَالَ: لَمَّا اسْرِيَ بالنَّبِيّ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَرَّ عَلَى شَيْخٍ قَاعِدٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَ حَوْلَهُ أطْفَالٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ هَذَا الشَّيْخُ يَا جِبْرَئِيلُ؟
فَقَالَ: هَذَا أبُوكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِالسَّلَامُ.
قَالَ: فَمَا هَؤلَاءِ الأطْفَالُ حَوْلَهُ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ أطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ حَوْلَهُ يَغْذُوهُمْ.۱
و روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن تفسير عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن سليمان الديلميّ، عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:
قَالَ: إِ نَّ أطْفَالَ شِيعَتِنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تُرَبِّيهُمْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ.٢
و يروي الشيخ الصدوق في كتاب «معاني الأخبار» عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر الحميديّ، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأيْتُ أكْثَرَهَا الْبُلْهَ.
قَالَ: قُلْتُ: وَ مَا الْبُلْهُ؟
فَقَالَ: الْعَاقِلُ في الْخَيْرِ الْغَافِلُ عَنِ الشَّرِّ، الذي يَصُومُ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ.٣
كما يروي الشيخ الصدوق في «معاني الأخبار» أيضاً، بسنده المتّصل عن أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: يَا عَلِيُّ، إِ نَّ لَكَ كَنْزًا في الْجَنَّةِ وَ أنْتَ ذُو قَرْنَيْهَا، وَ لَا تُتْبِع النَّظْرَةَ بِالنَّظْرَةِ في الصَّلَاةِ فَإِ نَّ لَكَ الاولَى وَ لَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ.٤
و قال الصدوق رحمة الله عليه في تفسير و بيان هذا الحديث:
معنى قوله صلّى الله عليه و آله «إنَّ لَكَ كَنْزاً في الْجَنَّةِ» يعني مفتاح نعيمها، و ذلك أنّ الكنز في المتعارف لا يكون إلّا المال من ذهب أو فضّة و لا يكنز إلّا لخيفة الفقر و لا يصلحان إلّا للإنفاق في أوقات الافتقار إليهما و لا حاجة في الجنّة و لا فقر و لا فاقة، لأنها دارالسلام من جميع ذلك و من الآفات كلّها، و فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين،۱ فهذا الكنز هو المفتاح و ذلك أنه عليه السلام قسيم الجنّة، و إنّما صار عليه السلام قسيم الجنّة و النار لأنّ قسمة الجنّة و النار. إنّما هي على الإيمان و الكفر، و قد قال له النبيّ صلّى الله عليه و آله:
يَا عَلِيُّ حُبُّكَ إيمَانٌ وَ بُغْضُكَ نِفَاقٌ وَ كُفْرٌ. فهو عليه السلام بهذا الوجه قسيم الجنّة و النار.
و قد سمعتُ بعض المشايخ يذكر أنّ هذا الكنز هو ولده المحسن عليه السلام و هو السقط الذي ألقته فاطمة عليها السلام لمّا ضُغطت بين البابين و احتجّ في ذلك بما روي في السقط من أنه يكون مُحْبَنْطِئاً٢ على باب الجنّة فيُقال لَه: ادخُل الجنّة. فيقول: لا حتّى يدخل أبواي قبلي. و ما روي أنّ الله تعالي كفّل سارة و إبراهيم أولادَ المؤمنين يغذّونهم بشجر في الجنّة لها أخلاف كأخلاف البقر، فإذا كان يوم القيامة البسوا و طُيّبوا و اهدوا إلى آبائهم، فهم في الجنّة ملوك مع آبائهم.
الحسنان عليهما السلام هما شَنَفا عرش الله سبحانه
و أمّا قوله صلّى الله عليه و آله «وَ أنْتَ ذُو قَرْنَيْهَا» فإنّ قرني الجنّة الحسن و الحسين لما روي أن رسول الله
صلّى الله عليه و آله قال: إنّ الله عزّ و جلّ يزيّن بهما جنّته كما تزيّن المرأة بقرطيها. و في خبر آخر يزيّن الله بهما عرشَه.۱
فالحسن و الحسين إذَن هما قرطا عرش الله تعالى، و ربّما قيل لهذا السبب عن سقوط سيّد الشهداء عليه السلام من على سرج جواده إلى الأرض:
بلند مرتبه شاهى ز صدر زين افتاد | *** | اگر غلط نكنم عرش بر زمين افتاد٢ |
و ما أروع ما استُعير في وصف هذا السقوط:
يكتا گهرى ز صدر زين افتاده | *** | آويزه عرش بر زمين افتاده |
افسوس كه در معركه كرب و بلا | *** | از خاتم انبيا نگين افتاده٣ |
و لهذا فقد ورد في الرواية:
قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إِ نَّ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ شَنَفَا الْعَرْشِ، وَ إِ نَّ الْجَنَّةَ قَالَتْ يَا رَبِّ أسْكَنْتَنِي الضُعَفَاءَ وَ الْمَسَاكِينَ!
فَقَال اللهُ لَهَا:
ألَا تَرْضَيِنَّ إنِّي زَيَّنْتُ أرْكَانَكِ بِالْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
قَالَ: فَمَاسَتْ كَمَا تَمِيسُ الْعَرُوسُ فَرَحاً.٤
قصّة أُمّ سلمة و استحالة تراب كربلاء دماً عبيطاً
و لهذا فقد أمطرت السماء دماً عند قتله عليه السلام، فاستحال التراب دماً فقد روي عن امّ سلمة رضي الله عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله من عندنا ذات ليلة فغاب عنّا طويلًا، ثمّ جاءنا و هو أشعث أغبر و يده مضمومة، فقلت له: يا رسول الله، ما لي أراك أشعث مغبراً؟ فقال: اسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلا فرأيت فيه مصرع الحسين ابني و جماعة من ولدي و أهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم فها هي في يدي، و بسطها إلَيَّ فقال: خذيها و احتفظي بها. فأخذتُها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة و شددت رأسها و احتفظت بها. فلمّا خرج الحسين عليه السلام من مكّة متوجّهاً نحو العراق كنت اخرج تلك القارورة في كلّ يوم و ليلة فأشمّها و أنظر إليها ثمّ أبكي لمصابه، فلمّا كان اليوم العاشر من المحرّم و هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين عليه السلام أخرجتها في أوّل النهار و هي بحالها، ثمّ عُدت إليها آخر النهار فإذا هي دمٌ عبيطٌ.۱
و روي عن محمّد بن سيرين قال: لَمْ تُرَ هذه الحُمرة في السماءِ إلّا بعد قَتْلِ الحسينِ عليه السلام.٢
و روى سعد الإسكاف، قال: قال أبو جعفر عليه السلام:
كَانَ قَاتِلُ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا وَلَدَ زِناً، وَ قَاتِلُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ وَلَدُ زِناً وَ لَمْ تَحْمَرَّ السَّمَاءُ إِلَا لَهُمَا.
و روى سُفيانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ عليّ بْنِ الحُسَيْنِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا نَزَلَ مَنْزِلًا وَ لَا ارْتَحَلَ مِنْهُ إِلَا ذَكَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَ قَتْلَهُ. وَ قَالَ يَوْماً: وَ مِنْ هَوَانِ الدُّنيَا عَلَى اللهِ أ نَّ رَأسَ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا اهْدِيَ إلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيلَ.۱
الْمَجْلِسُ السَّابِع عَشِرَ: كَيْفِيَةُ ارْتِبَاط عَالَم البَرْزَخ بِعَالمِ الطَّبْعِ وَ القَبْر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(مطالب القيت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك)
الحمد لله ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
يدور بحثنا هنا عن تأثير موجودات عالم الملكوت في موجودات عالم المُلك و ارتباطها بها، و كيفيّة تأثير موجودات عالم الملكوت الأعلى و هو عالم الأسماء و الصفات الإلهيّة الكلّيّة و تأثير الأرواح القدسيّة و النفوس المجرّدة في موجودات عالم الملكوت الأسفل أي عالم المثال و الصورة و أخيراً عن كيفيّة تأثير الموجودات المثاليّة في عالم المُلك و الناسوت أي عالم الطبع و المادّة و هو بحث يمتاز بالدقّة، إلّا أننا سنسعى قدر وسعنا لبيان المطالب بشكل جليّ و يسير.
كما يتطرّق البحث في النهاية إلى كيفيّة ارتباط نفس الإنسان مع مثاله
و برزخه، و إلى كيفيّة ارتباط برزخ الإنسان مع المادّة و الطبع و البدن الوارد في قبره.
و يتوجّب ملاحظة وضع البدن الذي يوضع في القبر، أ لَهُ نصيب من الثواب و العقاب أم لا؟ أو يصل إلى هذا البدن أيضا الثواب و العقاب الواصلان إلى البدن البرزخي في عالم البرزخ، فيُثاب هذا البدن أو يعذّب أم لا؟
بطبيعة الحال فإنّ بحثنا هنا يتعلّق فقط بكيفيّة ارتباط البدن المثاليّ و البرزخيّ مع البدن المادّيّ الملقى في القبر، و ليس بعنوان بحث كلّيّ فلسفيّ، إلّا أننا مجبرون من أجل هذا البحث الجزئيّ على إيراد بحث كلّيّ.
جميع موجودات عالم المادّة تحت سيطرة عالم الملكوت
إنّ جميع الموجودات في هذا العالم تُدار و تدبّر من قبل موجود مدبّر إلهيّ، فالإنسان المادّيّ له مَلَك مقرّب يرشده و يحفظه؛ و كلّ واحد من أصناف الحيوانات و النباتات و الجمادات، بل و كلّ ذرّة من موجودات هذا العالم، و بصورة عامّة فإنّ جميع عالم الشهادة، أي عالم الظاهر و عالم الملك، يخضع لإدارة و سيطرة عالم ملكوتيّ، و ذلك العالم الملكوتيّ هو عالم الحقيقة و المعنى و الباطن الذي له قدرة و عظمة تفوق هذا العالم، و يمكنه لذلك أن يربّى و يسيّر هذه الموجودات ضمن شرائطه، و يُقال لتلك الموجودات: الملائكة.
و الملائكة يضيقون على الحصر، فهناك منهم بعدد الذرّات الموجودة في هذا العالم و المخلوقة في عالم المُلك، و هناك ملك بعدد كلّ قطرة مطر تنهمر من السماء موكّل بحفظها و حراستها و إنزالها.
و هكذا الأمر في كلّ بذرة تنمو في الأرض، و كلّ حبّة تنبت و تنمو
و تنضج، حتّى بذرة الحرمل. حيث ورد في الروايات أنّ هناك ملكاً موكّلًا بكلّ منها ليحفظها وفق الوظيفة و الشرط و السنّة الإلهيّة التي فُوّض بها، و يجعلها تنمو و تنضج و تصل إلى حدّ كمالها، و ليحرسها و يُعنى بها، غير مقصّر في مهمّة رعاية جهات حياتها و تغذيتها و تنميتها. و هكذا فإنّ الريح التي تهبّ لها مَلَك، بل إنّ الرياح المختلفة من شَمال و جنوب و ريح الصَّبا و ريح الدبور لها ملائكة مختلفون، كما أنّ لكلّ واحد من رياح الرحمة و عواصف الغضب، الرياح المهلكة المسمومة و النسائم اللطيفة المنعشة، غيوم السماء البيضاء و السوداء، المتراكمة المثقلة و الخفيفة و غيوم المطر و الثلج ملائكة يمتلك كلّ منهم مهمّة خاصّة تتفاوت حسب اختلاف القوى و المواهب التي أعطاها الله لهم.
ثمّ إنّ مراتب حياة الإنسان، من قوى الهضم و التغذية و النموّ، و القوى الرافعة و الجاذبة و الدافعة و المبدّلة و الماسكة و غيرها تخضع جميعاً لتدبير و إدارة ملائكة مختلفين.
و هذه حقيقة قائمة على أساس حقيقة فلسفيّة، و هي أن موجودات عالم الطبع و المادّة خاضعة لسيطرة موجودات عالم المثال و الصورة، و تلك بدورها خاضعة لسيطرة عالم النفس و الملكوت الأعلى، وصولًا إلى مقام الأسماء و الصفات الإلهيّة، و أخيراً إلى الاسم الأعظم للحضرة الواحديّة و مقام لا اسم و لا رسم للحضرة الأحديّة جلّ و عزّ و تبارك و تقدّس.
و من هنا فإنّ نور الوجود تنزّل أوّلًا من ذاته المقدّسة جلّ و علا إلى مقام الأسماء و الصفات الكلّيّة، و ظهر و تتجلّى من ثمّ تدريجياً في المراتب المختلفة لعالم الإمكان، من الموجودات المجرّدة و المثاليّة، ثمّ في الموجودات الطبيعيّة و الجسميّة. و لم يكن الأمر بحيث تمثّل الطبيعة مبدأ وجود القوى في العوالم، ترقيّاً إلى ظهور عالم المثال و الصورة، ثمّ النفس
و العوالم المجرّدة، و هو ما يمثّل مقولة غير صائبة تمثّل أساس فلسفة المادّيّين القائلين بأصالة المادّة، و الذين يعدّون الروح و الملكوت أثراً ضعيفاً من المادّة و ترشّحاً عنها. و في الحقيقة فإنّ منهجهم و مدرستهم يمكن أن يُدعى بمنهج و مدرسة أصالة المادّة. أمّا منهج المتألهين في المقابل فهو منهج أصالة الله و أصالة التوحيد و أصالة المعنى، و ذلك أوّلًا: لأنه يقول بوجود الله المجرّد البسيط الذي لا حدّ له و لا عدّ، و اللامتناهي بلحاظ القدرة و العظمة و العلم و الحياة، على نحو الاستقلال في الوجود، ثمّ إنّ الموجودات المجرّدة، الروحانيّة و المادّيّة توجد بعد ذلك الوجود المقدّس، على أنّ كيفيّة وجودها على نحو الخلقة و بنفس مجرّد الإرادة، لا على نحو الإخراج و الخروج، أي الولادة.
خلقة الموجودات المادّيّة لا منافاة لها مع الحركة الجوهريّة لصدر المتألّهين
و لا منافاة لهذا الكلام مع مبنى صدر المتألهين في سير الموجودات المادّيّة و تكاملها إلى الموجودات المجرّدة.
فهو يقول في النفس بأنّ مبدأها جسماني و نهايتها روحانيّة:
النّفْسُ جِسْمَانِيَّةُ الْحُدُوثِ، رَوْحَانِيَّةُ البَقَاءِ.۱
از جمادى مردم و نامى شدم | *** | و ز نَما مُردم بحيوان سر زدم |
مُردم از حيوانى و آدم شدم | *** | پس چه ترسم كى ز مردن كم شدم |
حملة ديگر بميرم از بشر | *** | تا بر آرم از ملايك بال و پر |
و ز مَلك هم بايدم جستن ز جو | *** | كُلُّ شيءٍ هالك الّا وَجههُ |
بار ديگر از مَلك قربان شوم | *** | آنچه اندر وَهْم نايد آن شوم |
پس عدم گردد عدم چون ارغنون | *** | گويدم كَانا إلَيهِ رَاجعون |
و إنّ سير تكامل الإنسان و ترقّيه هو من المراتب المادّيّة إلى المراتب المعنويّة و الروحانيّة، و تبعاً للحركة الجوهريّة؛ حيث يتحرّك الجوهر في ذاته و كينونته؛ فإنّ الموجودات المادّيّة تتحرك في ذاتها بنفس قابليّتها الهيولانيّة، ثمّ تصل إلى مرحلة التجرّد بعد خَلْع و لبس متعدّدين.
ذلك لأنّ صدر المتألهين نفسه و هو من أعاظم الفلاسفة المتألهين قائل بسيطرة و هيمنة عالم الملكوت على عالم المُلك، و أنّ كلّ ذرّة في هذا العالم تدار تحت سيطرة القوى المعنويّة و الروحانيّة؛ حتّى أنّ
سلالة الطين و التراب التي تمثّل مبدأ خلقة الإنسان، خاضعة لإرادة و اختيار الموجودات المثاليّة، و النفسيّة و التجرّديّة من الأسماء العليا و الصفات الحسنى الإلهيّة.
كلّ ما في الأمر أنّ هذا الموجود المادّيّ الذي يمثّل مبدأ خلقة الإنسان، و السائر بنفسه درجة درجة إلى التكامل حتّى يصل إلى مرحلة التجرّد و الروحانيّة، خاضع في كلّ حال بلحاظ الوجود و العلم و القدرة و سائر الجهات إلى تعاهُد و مراقبة و معلوليّة العوالم العليا.
و بتعبير آخر، فإنّ من لوازم الحركة من قوس النزول إلى مقام أوج بدء الخلقة، أي إنّا للَه و إنّا إليه راجعون؛ و من لوازم قوس النزول من بدء الخلقة إلى أظلم العوالم، أي المادّة الصرفة و الهيولى المحضة و القابليّة الخالصة، أن ينزل نور وجود الحقّ جلّ و علا من أعظم الأسماء الإلهيّة في مراتب التجرّدات الملكوتيّة، ثمّ في عالم المثال، ثمّ يتنزّل عنه إلى عالم الملك، ثمّ يصعد تدريجياً من عالم المادّة و ظلمة الهيولى التي لا شعور لها و لا علم و لا قدرة، متحرّكاً تجاه الحضرة الأحديّة جلّ و عزّ. و هذا المعنى لا يتحقّق إلّا أن تتحقّق تلك المادّة التي لا شعور لها و لا إرادة، و تلك الهيولى المحضة التي تمثّل القابليّة الصرفة و مبدأ خلقة الإنسان، إثر تدبير و إرادة و سيطرة عوالم التجرّد و الملكوت.
و من ثمّ فلا علاقة لجسمانيّة حدوث الإنسان و روحانيّة بقائه بأصالة المادّة.
و حصيلة القول فإنّ بعض الأفراد الذين شاهدوا أو سمعوا روايات و آيات تدبير الملائكة و حفظهم و حراستهم، أرادوا القول في مقام التحليل وفق تصوّراتهم المنفتحة بأنّ المراد بالمَلَك الذي ينزل بقطرة المطر إلى الأرض، حياة تلك القطرة و الخاصيّة الموجودة فيها، أو أنّ المراد بذلك
الجاذبيّة الأرضيّة. فالبرق و الصاعقة و الغيوم و هبوب الرياح بواسطة قوى الجذب و الدفع و الخواصّ الفيزيائيّة، بل و الكيميائيّة أيضاً، هي التي تُوجد هذه الظواهر، كلّ ما في الأمر أنّ قوى الجاذبيّة و المسائل الفيزيائيّة و الكيميائيّة لم تكن معهودة في ذلك الوقت، فكانوا يعبّرون عن علل الظواهر المادّية بالمَلَك و الجنّ و غيرها؛ و هو كلام خاطئ غير صائب.
العلل و الشرائط الطبيعيّة هي نفسها تحت سيطرة القوى الملكوتيّة
و بطبيعة الحال فإنّ جميع الموجودات المادّيّة لها علل و أسباب مادّيّة، فالرعد و البرق و الصاعقة و الغيوم و الأمطار و العواصف الثلجيّة و الطيف الشمسيّ و الخسوف و الكسوف لها علل و شرائط طبيعيّة، فهي تحدث و تقع بتحقّق تلك العلل. كما أنّ إحدى الجهات المؤثّرة فيها هي قوى الجذب و الدفع، بَيدَ أنّ هذه القوى المادّيّة خاضعة بدورها لحكم قوى معنويّة و سماويّة، كما أنّ الجاذبيّة الأرضيّة خاضعة بدورها للقوى الملكوتيّة.
و على هذا فإنّ جميع الظواهر التي لا تدركها حواسّ الإنسان، مع جميع أسبابها و عللها المادّيّة التي لا تُدرك بالحواسّ، مثل الطاقة الحركيّة و الطاقة الحيويّة و الكهرباء و النور و الأمواج التي ملأت العالم و التي لا تدركها العين هي بأجمعها مادّيّة تدار بإشراف القوى الملكوتيّة للملائكة الإلهيّين، و الكلام إنّما يقع في هذا القسم.
يذكر في الدعاء الثالث من أدعية الصحيفة السجّاديّة المباركة أصناف و أنواع الملائكة المقرّبين و حملة العرش و أنواع الملائكة الثانويّين المأمورين بالحوادث الأرضيّة و الجويّة، ثمّ يذكر جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل، و مَلَك الموت و أعوانه، و منكراً و نكيراً، و رومان فتّان القبور.
و بغضّ النظر عن ذلك فإنّ الموجودات الروحانيّة الطيّبة و الطاهرة في هذا العالم مرتبطة بالملائكة الروحانيّين للعالم العلويّ، كما أنّ لُاولئكم
بدورهم انساً و محبّة و شوقاً إلى الموجودات الطيّبة و الطاهرة في هذا العالم.
فملائكة الرحمة مثلًا يحبّون البيت النظيف و الغرفة النظيفة و الإنسان النظيف المتطهّر، و يحبّون الوضوء و الغسل و الطهارة، و يحبّون الملابس البيضاء، و يحبّون الرائحة الطيّبة، فهم يتوجّهون صوب الرائحة الطيّبة أينما كانت، كما أنهم يحبّون القرآن، و يحبّون منزل الإمام و النبيّ و ولى الله فينزلون هناك.
و مع أنّ الملائكة موجودات ملكوتيّة، و الملكوت مجرّد عن المادّة و لوازم المادّة من الوضع و الكيفيّة و الكميّة و الزمان و المكان، إلّا أنّ تلك الموجودات الملكوتيّة يمكنها أن تتّصل بهذا العالم على نحو ما، و أن يكون لهم نسبة وجهة مع هذا العالم.
ارتباط الملَك بالموجودات الطيّبة؛ و ارتباط الجنّ بالموجودات الخبيثة
كما أنّ أي موجود ملكوتيّ ذي تجرّد قليل إذا كان من الأسماء الجزئيّة للربّ، و كان قريباً من هذا العالم، فإنّه سيمكنه إدارة عالم الملك هذا دون واسطة من خلال توجّهه المعنويّ. فملائكة الرحمة يتوجّهون إلى الموجودات الطيّبة و الطاهرة في هذا العالم، و على العكس فإنّهم ينفرون من المكان المظلم ذي الرائحة العفنة. كما أنّ الملك لا يرد غرفة فيها إنسان جُنب، و لا في مكان يحوي تمثالًا أو صورة ذي روح، و لا يدخل بيتاً فيه كلب، أو تُشرب فيه الخمر، أو فيه آلات للموسيقى و القمار، كما لا ترد الملائكة في مواقد الحمّام و الأمكنة المتّسخة.
و ليس هذا المعنى بلحاظ أنّ الملائكة تعني الوضوء و الغسل و الملابس البيضاء و العطر، إذ إنّ الملك موجود معنويّ بينما العطر موجود مادّيّ؛ بل بمعنى أنّ الارتباط بين ذلك الملكوت و هذه المادّة بهذه الكيفيّة: أنّ ذلك الموجود المعنويّ الطيب له محاذاة و توجّه إلى العطر
و اللباس الأبيض و قراءة القرآن. على العكس من الجانّ و الشياطين الذين يتوجّهون إلى الموجودات الفاسدة في هذا العالم، فيذهبون إلى الأمكنة المظلمة الحالكة، و يحبّون المزابل و الأمكنة المتعفّنة، و يتراكمون و يتحشّدون حيث يُرتكب الزنا و المعصية و حيث يُشرب الخمر و يُلعب بالقمار، و يردون البيوت إذا كان فيها كلب، و في الغرفة التي فيها تصوير لذوات الأرواح، بينما يخرج الملك منها، و يمثّل هذا نوعاً من الارتباط بين عالم الظاهر و عالم المعنى.
و قد ورد في الروايات أن خُذوا من أظفاركم فإنّ الجنّ يجتمعون تحتها، و أنّ هناك محلّا للشياطين و الجانّ.۱ و لا تشربوا من عند عروة قدح الماء، فهناك مقعد الشيطان، و لا تدعوا وعاء النفايات و الأزبال في المنزل ليلًا، فإن تركتموه فغطّوه لئلّا يجتمع فيه الجنّ.
و يُخال للبعض أنه قد تفحّص جميع عالم المُلك و الملكوت و تجوّل فيه، و أنه قد أخضعه لعلومه المادّيّة و عرّضه للتحليل في مختبره الكيميائيّ و الفيزيائيّ، فهم يقولون: إنّ الجنّ هو الميكروب، فالأقذار التي تحت الأظفار إنّما هي الميكروبات، و وعاء النفايات و الأزبال محلّ اجتماع الميكروبات، و عروة قدح الماء باعتبار إمساك الأيدي لها هي محلّ تجمّع الأقذار، و بالنتيجة فهي محل تجمّع الميكروبات. كما أنّ الأقذار و الأوساخ الموجودة في المزابل و مواقد الحمّامات هي محلّ اجتماع الميكروبات التي عُبّر عنها بلسان الروايات بالجنّ.
و هذه تفسيرات خاطئة يفتعلها اولئكم من عند أنفسهم، فليست تلك الامور جنّاً، بل ميكروبات، و الميكروب ظاهرة مادّيّة، في حين أنّ ذلك الموجود ذا الفهم و الشعور و الشيطنة و المكر الذي يأنس بالموجودات الفاسدة لهذا العالم كالأقذار و الميكروبات و يرتبط معها فيذهب إلى الأمكنة المتعفّنة إنّما هو الجنّ، لذا فقد وردت الكراهة الشديدة لارتداء الإنسان ملابس سوداء، فالملابس السوداء لباس أهل جهنّم، بينما يستحبّ للإنسان ارتداء ملابس بيضاء، لأنها لباس الملائكة.
إنّ الجنّ موجود كالإنسان يمتلك شعوراً و فهماً، كلّ ما في الأمر أنه أضعف بكثير من الإنسان، لأنّ خلقته من الدخان، أي من الغازات و الأبخرة و الدخان، لذا فإنّه لا يُرى من قبل الناس العاديّين.
و الجنّ يفرح بدخول الأمكنة التي تُرتكب فيها المعصية، و تُشرب فيها الخمور، و أماكن الزنا و القمار و النميمة، و الأماكن القذرة المتعفّنة، كما يأنس بالنساء اللاتي لا يرتدين حجاباً لرؤوسهنّ، و لو كنّ في المنزل، و هذا بالطبع من أصناف الكفّار من الجنّ. ذلك لأنّ في الجنّ كما في البشر المسلم و الكافر، و قد وردت سورة في القرآن الكريم باسم سورة الجنّ جرى فيها بيان بعض حالاتهم.
و صفوة القول فإنّ الملائكة يهتزّون جذلًا من النساء المحجّبات، و يُسرّون من النساء ذوات الرءوس المغطّاة المحجّبة فيردون منازلهنّ، بينما يخرج الجنّ من أمثال تلك البيوت.
و على كلّ حال فليس هناك من وجهة نظر القرآن الكريم و البحوثَ الفلسفية العقليّة و الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام أي شبهة و لا شكّ في أنّ الموجودات العقلائيّة الملكوتيّة لعالم القدس و التجرّد هي المربّية و الحافظة و المدبّرة لجميع امور هذا العالم.
الآيات القرآنيّة الدالّة على تأثير الملائكة في عالم الطبع
أمّا من وجهة نظر القرآن الكريم فهناك آيات كثيرة جمّة، نكتفي بذكر مثال من بعض النماذج المختلفة.
۱- وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً.۱
قسماً بالملائكة التي تتحرّك عند أمر الله، فتشرع بالنزول بشدّة و جدّيّة من موقف الخطاب لأداء ما امروا به في هذا العالم.
و قسماً بالملائكة الذين ينشطون و يخرجون من موقف الخطاب بتمام معنى الكلمة لإنجاز مهامهم.
و قسماً بالملائكة الذين يُسرعون بعد حركتهم و خروجهم من الموقف غاية السرعة لإنجاز ما امروا به.
و قسماً باولئك الملائكة الذين يسبقون في إنجاز ما امروا به وفق قضاء الله المبرم الحتميّ سائرَ الملائكةَ الذين لم يُبرم بَعدُ ما امروا به، فينجزون ما امروا به على سبيل الجزم و الحتم.٢
٢- وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.٣
٣- قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ.۱
٤- قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.٢
٥- نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ.٣
٦- هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.٤
۷- إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.٥
۸- إِذْ تَقُولُ٦ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ.۷
٩- وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.۸
۱۰- قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.٩
۱۱- الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
۱٢- فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ.٢
يقول اولئك الذين في قلوبهم مرض، ممّن ارتدّوا على أعقابهم القهقرى بعد أن تبيّن لهم الهدى، للمكذّبين بآيات الله المُرسلة: سنطيعكم في بعض الأمر، و الله سبحانه خبير بأسرارهم، مطّلع على بواطنهم. فكيف بهم حين يضربهم ملائكة لغضب الإلهيّ على وجوههم و أدبارهم حين يريدون قبض أرواحهم و انتزاعها؟
۱٣- وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ، وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ.٣
۱٤- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ.٤
حيث بيّن الله سبحانه في هذه الآيات المباركة كثيراً من وظائف الملائكة على اختلافهم و تفاوت أصنافهم.
الأدلّة الفلسفية على كيفيّة نشوء الكثرة من الوحدة
أمّا من وجهة نظر الأدلّة الفلسفيّة فنقول: بعد تماميّة دليل «الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد» و دليل «الواحد لا يصدر إلّا من الواحد» على هذا
الأساس لنزول نور الوجود و الوحدة في عالم الكثرة و الأسباب، فإنّ الحكماء يقولون بعقول عشرة: العقل الأوّل، و العقل الثاني، و العقل الثالث و الرابع ... إلى العقل العاشر أي العقل الفعّال. و كذلك الأمر في النفوس الفلكيّة و نفوس تحت فلك القمر، فقرّبوا و أقرّوا بهذا الترتيب كيفيّة التكثّر في هذا العالم.
و بطبيعة الحال فإنّنا لا نمتلك دليلًا عقليّاً على العقول العشرة و النفوس الفلكيّة بهذه الكيفيّة، بل إنّها فرضيّة محضة صوّروا بها صدور الموجودات الكثيرة من علّة العلل. و لذلك فقد صوّر بعض الحكماء كيفيّة نشوء الموجودات المتكثّرة و أقرّوه بطريق آخر غير طريق العقول العشرة و النفوس الفلكيّة و وضعوا اسسه على فرضيّة اخرى.
في تحقيق المثُل الأفلاطونيّة و المدبّرات أمراً
تحقيق في المُثُل الأفلاطونيّة:
و أمّا بشأن كيفيّة إدارة امور هذا العالم المتكثّرة و الممتلكة لجهات مشتركة بحيث ترتبط جميعها بتلك الجهات و تداوم عليها، فقد استدلّوا عليه و أقرّوه عن طريق المُثُل الأفلاطونيّة، بحيث إنّ هناك موجوداً روحانيّاً معنويّاً مجرّداً عن المادّة يسيطر على جميع أفراد الموجودات المادّيّة التي تمتلك طلّسماً و قالباً جسميّاً، و يقوم بتغذيتها و تنميتها، و من ثمّ فإنّ جهة مشتركة ستظهر في الجميع.
فمثلًا أنّ جميع أفراد البشر في هذا العالم ممّن يمتلكون صورةً و قالباً جسميّاً، و يشتركون في جميع جهات الإنسانيّة المنتزعة من النفس الناطقة، لهم إنسان نوري مجرّد بتمام معنى الكلمة و ممتلك نفساً ناطقة كلّيّة، يحيط بهم بأجمعهم، كما أنّ الوجود و العلم و القدرة و الغرائز و الملكات، و جميع الآثار و الشؤون التي تلزم الإنسان بما هو إنسان،
و الموجودة بلا استثناء في جميع هذه الأفراد الكثيرة، مُفاضة جميعها من ذلك الإنسان المجرّد النوريّ الذي يُقال له «مِثال» هذه الأفراد الكثيرة.
و كذلك الأمر بالنسبة إلى كلّ واحد من أنواع و أصناف الحيوانات الكثيرة في هذا العالم، حيث يوجد لها مثال نوري مجرّد واحد في عالم النور و التجرّد، بحيث يرتبط به جميع هؤلاء الأفراد و يستفيضون منه.
فالإبل الجسميّة لها جَمَل مثاليّ، و البَقَر الجسميّة لها بقرة مثاليّة، و هكذا في الديكة و الغربان و النمل، وصولًا إلى النباتات و الأشجار بأصنافها المختلفة. من ثمّ فإنّ شجرة الصنوبر الجسميّة مع الأفراد الكثيرة التي كانت لها منذ القدم حتّى الآن، و التي ستكون لها بعد الآن إلى آلاف السنين القادمة، و المشتركة بأجمعها بلا استثناء في جهات معيّنة، تمتلك شجرة صنوبر مثاليّة نوريّة لها الهيمنة و السيطرة على جميع أشجار الصنوبر. و الأمر ينطبق كذلك على أشجار الصفصاف و أنواع الأشجار المثمرة كالنخل و أنواع الفواكه و الأعشاب.
و هكذا فإنّ أنواع و أصناف الجمادات و الغازات و الأمواج و الأنوار المادّيّة و الجسميّة يمتلك كلُّ منها مثالًا مجرّداً نوريّاً في عالم النور و التجرّد.
يقول الحكيم السبزواريّ قدّس الله سرّه في هذا الشأن:
فَكُلُّ هَذِي النّسَبِ الْوَضْعِيَّة | *** | أظْلَالُ تلكَ النّسَبِ النُّورِيَّة |
وَ صَنَمٌ لِزينَةٍ جَا زِبرِجَا | *** | فَهُوَ لِنُورِ رَبِّهِ أُنْمُوذَجا |
كَهَذِهِ الألْوَانِ في الطَّاووسِ | *** | بَل كُلُّمَا في الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ |
إنّ جميع هذه النسب الوضعيّة الموجودة هنا ظِلال و ظهورات و تجلّيّات لتلك النسب المجرّدة النوريّة المثاليّة.
و الجسم الذي يوضع للزينة و الجمال فيتخايل بذلك، ليس إلّا
انموذجاً من نور ربّ نوعه و من مثاله المجرّد.
و كمثل هذه الألوان اللطيفة العجيبة في الطاوس، بل و كلّ ما في هذا العالم الخارجيّ المادّيّ الذي ندعوه بالعالم المحسوس هو نماذج من أرباب نوعه و مُثُله النورانيّة المجرّدة.
وَ كُلُّ فِعْلٍ ذِي نما مِنْ جِسْمِ | *** | لَدَيْهِمُ مِنْ صَاحِبِ الطِّلِسْمِ |
دُهْنَ السِّرَاجِ رَبّهُ يَجْذِبْ لَه | *** | شَكْلًا صَنُوبَرِيَّاً أعْطَى الْمِشعَلَه |
بِالرَّبِّ لِلنّحْلِ الْمُسَدَّسَاتُ | *** | وَ لِلْعَناكِبِ الْمُثَلَّثَاتُ |
و عِنْدَنا المثالُ الأفلاطُونيِ | *** | لِكُلِّ نَوعٍ فَردُهُ العَقْلَانيَ |
كُلُّ كَمَالٍ في الطِّلِسْمِ وَزَّعَه | *** | مِنْ جَهَةٍ بنحْوٍ أعْلَى جمعه۱ |
و عند الإشراقيّين القائلين بالمُثُل الأفلاطونيّة فإنّ كلّ فعل ذي حركة و نموّ يحصل في أي جسم من الأجسام، عائد إلى صاحب الطلسم و الجسم، و هو المثال النوريّ المجرّد من الجسميّة و الطلسميّة.
فالدهن داخل السِّراج حين يريد الاشتعال و الإضاءة، فإنّ ربّ نوع ذلك الدهن يعطيه شكلًا صنوبريّاً فيظهر في المشعلة في هيئة شعلة صنوبريّة الشكل. و النحل تبني لنفسها الخلايا السداسيّة، فلم يُرَ أبداً أنّ نحلة واحدة تخلّفت عن هذه السنّة فبنت خليّة مربّعة أو مسبّعة أو مخمّسة الأضلاع. و ما ذلك إلّا بواسطة الاستلهام من ربّ أنواع النحل و الخضوع لأمر تكوينه، و الأمر كذلك في العناكب التي تبني بيوتها بالخيوط الرفيعة للعاب فمها فتجعل بيوتها مثلّثة الشكل، و علّة ذلك أنها كانت بأجمعها مظهر ربّ نوعها الذي له بيت مثاليّ نوريّ مثلّث.
و عندنا أنّ المثال الأفلاطونيّ في كلّ نوع من الأنواع هو فرده
العقلائيّ المنزّه و المبرّأ من الجسميّة و آثارها، و الذي له حكم الكلّيّ لهذه الأفراد الكثيرة، لكنّه ليس كلّيّاً منطقيّاً و لا كلّيّاً عقليّاً و لا موجوداً شخصيّاً طبيعيّاً خارجيّاً ليُدعى بالكلّيّ الطبيعيّ. بل هو فرد نوريّ متشخّص ندعوه بلحاظ سعته و تجرّده بالفرد العقلائيّ، و لذلك الموجود المشخّص (أي الفرد العقلائيّ و ربّ النوع) جميع الكمالات الموجودة في الطلاسم و الأجسام و الموادّ التي تخضع لتدبيره و إدارته و تندرج في إطار سعته؛ و هذه الكمالات الموجودة في هيئة موزّعة و مفرّقة، مجموعة فيه على أتمّ نحو و أكمله.
الروايات الواردة في موجودات العالم العلويّ المؤثّرة في العالم السفليّ
و أمّا من وجهة نظر الروايات فقد عُبّر عن تلك الموجودات المؤثّرة و المدبّرة بعناوين مختلفة، كالنور، و العقل، و الملائكة، و اسم الله و كلمة الله، و الصور العارية المجرّدة عن الموادّ، و غير ذلك.
و نذكر هنا من كلّ منها مثالًا من حديث واحد أو عدّة أحاديث:
۱- روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن كتاب «غوالي اللئالي» لابن أبي جمهور الأحسائيّ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال:
أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي.
و في حديث آخر قال: أوَّلُ مَا خَلَق اللهُ الْعَقْلُ.۱
٢- كما روى المجلسيّ عن «علل الشرايع» باسناد العلوي عن أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ سُئِلَ مِمَّا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ الْعَقْلَ؟
قَالَ: خَلَقَهُ مَلَكٌ لَهُ رُؤوسٌ بِعَدَدِ الْخَلَائِقِ مَنْ خُلِقَ وَ مَنْ يُخْلَقُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَ لِكُلِّ رَأسٍ وَجْهٌ وِ لِكُلِّ آدَمِيٍّ رَأسٌ مِنْ رُؤوسِ الْعَقْلِ. وَ اسْمُ ذَلِكَ الإنْسَانِ عَلَى وَجْهِ ذَلِكَ الْرَأسِ مَكْتُوبٌ. وَ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سِتْرٌ مُلْقى لَا يُكْشَفُ ذَلِكَ السِّتْرُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ حَتَّى يُولَدُ هَذَا الْمَوْلُودُ وَ يَبْلُغُ حَدَّ الرِّجَالِ أ وْ حَدَّ النِّسَاءِ؛ فَإذَا بَلَغَ كُشِفَ ذَلِكَ السِّتْرُ فَيَقَعُ في قَلْبِ هَذَا الإنْسَانِ نُورٌ فَيَفْهَمُ الْفَرِيضَةَ وَ السُّنَّةَ وَ الْجَيِّدَ وَ الرَّدِيَّ. ألَّا وَ مَثَلُ الْعَقْلِ في الْقَلْبِ كَمَثَلِ السِّرَاجِ في وَسَطِ الْبَيْتِ.۱
يقول الحقير: لا شكّ في دلالة هذا الحديث المبارك على المُثُل الأفلاطونيّة بالتقريب المذكور، و كأنه يريد أساساً شرح دعوى المثل الأفلاطونيّة و تقريبه إلى الأذهان.
دعاء الصحيفة السجّاديّة في الصلاة على الملائكة العِلويّين
٣- الدعاء الثالث من الصحيفة السجّاديّة:
اللَهُمَّ وَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ الَّذِينَ لَا يَفْتُرُونَ مِنْ تَسْبِيحِكَ وَ لَا يَسْأمُونَ مِنْ تَقْدِيسِكَ وَ لَا يَسْتَحْسِرُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ وَ لَا يُؤْثِرُونَ التَّقْصِيرَ عَلَى الْجِدِّ في أمْرِكَ وَ لَا يَغْفُلُونَ عَنِ الْوَلَهِ إِلَيْكَ.
اللهمّ صلِّ على الملائكة الموكّلين بعرشك و قصر عظمتك و إرادتك و مشيّتك في مظاهر عالم الإمكان، اولئك الملائكة الذين لا يفترون و لا يسكنون من تسبيحك و تقديسك، و لا يملّون من تنزيهك و تقديسك، و لا يكلّون عن عبادتك.
ثمّ يذكر السجّاد عليه السلام إسرافيل و ميكائيل و جبرائيل و وظائفهم و مهامهم، و يُصلّي على الروح الموكّل بملائكة الحجب، و الروح التي هي
من أمره، و على جميع الملائكة من سكنة السماوات ممّن هم أوطأ درجة و أدنى منزلة، ثمّ يسأل الله تعالى أن يفيض جوده و رحمته و سلامه على سائر أصناف الملائكة على اختلاف وظائفهم، من حملة أسرار الغيب إلى الأنبياء، و من سكنة أطباق السماوات و أرجائها و أكنافها، الذين يفعلون جميع ما وعد الله و نزل به أمره، و على الملائكة من خزّان المطر و زواجر السحب، و مُسبّبي الصواعق، و مُضيئي البروق، و مشيّعي الثلوج و عواصف البَرْد، و الهابطين مع قطر الماء، و القوّام على خزائن الرياح، و الموكّلين بالجبال فلا تزول عن أمكنتها، و على الملائكة النازلين إلى الناس بالبلاء أو الرخاء بأمر الله، و الحَفَظَة الكرام الكاتبين، و مَلَك الموت و أعوانه، و منكر و نكير و رومان فتّان القبور، و الطائفين بالبيت المعمور، و مالك و خزنة جهنّم، و رضوان و سَدَنة الجنان، و أخيراً على جميع الملائكة من سكّان الهواء و الأرض و الماء، و على الموكّلين بالمخلوقات.
تأثير الأسماء الإلهيّة في الامور التكوينيّة
٤- دعاء السمات۱ (و يدعى أيضاً بدعاء الشَبّور)، و هو من الأدعية المشهورة و المعروفة، و فيه الاسم الأعظم. و كان الأعلام الكبار العُلماء بالله لا يتركون قراءته في الساعات الأخيرة من أيّام الجمعة. و قد رواه كثيرٌ من العلماء كالشيخ الطوسيّ و ابن طاووس و الكفعميّ عن عثمان بن سعيد
العمرويّ، و هو أوّل النوّاب الأربعة، و رووه كذلك بأسانيدهم عن الإمام الصادق عليه السلام.۱
اللَهُمَّ إِ نِّي أسْألُكَ بِاسْمِكَ الْعَظِيمِ الأعْظَمِ الأعَزِّ الأجَلِّ الأكْرَمِ الذي إِ ذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى مَغَالِقِ أبْوَابِ السَّمَاءِ لِلْفَتْحِ بِالرَّحْمَةِ انْفَتَحَتْ، وَ إِ ذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى مَضَائِقِ أبْوَابِ الأرْضِ لِلْفَرَجِ انْفَرَجَتْ، وَ إِ ذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ تَيَسَّرَتْ، وَ إِ ذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى الأمْوَاتِ لِلنُّشُورِ انْتَشَرَتْ، وَ إِ ذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى كَشْفِ الْبَأسَاءِ وَ الضَّرَاءِ انْكَشَفَتْ.
يدعو في هذا الدعاء الذات المقدّسة للحضرة الربوبيّة باسمه العظيم المقدّس، ثمّ يدعو الله سبحانه بأسمائه المقدّسة التي تجلّى بها لإبراهيم الخليل و لموسى بن عمران و عيسى و محمّد بن عبد الله عليهم و عليه الصلاة
و السلام، و بأسمائه و كلماته التي تجلّى بها لسائر الأنبياء و تحقّقت بها المعجزات و خوارق العادات. و من الجليّ أنّ المراد بهذه الأسماء الحقائق المجرّدة التكوينيّة لا الأسماء اللفظيّة، ذلك لأنّ الاسم شيء له دلالة على المسمّى؛ و الأسماء الحسنى الإلهيّة هي حقائق تدلّ على ذاته المقدّسة و تحكي عنه بقدر سعتها. فلفظ الله أو الرحمن أو الرحيم الدالّة على تلك الحقائق المجرّدة الإلهيّة هي في الحقيقة اسم الاسم.
ثمّ نقل العلّامة المجلسيّ ذيل دعاء السمات عن «المصباح» للسيّد ابن باقي هذه التتمّة:
اللَهُمَّ بِحَقِّ هَذَا الدُّعَاءِ وَ بِحَقِّ هَذِهِ الأسْمَاءِ التي لَا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا وَ لَا تَأوِيلَهَا وَ لَا بَاطِنَهَا وَ لَا ظَاهِرَهَا غَيْرُكَ.
فَأيّ اسم لا يعلم أحد ظاهره و باطنه و تفسيره و تأويله غير الذات المقدّسة للحضرة الأحديّة جلّ و عزّ؟
٥- الدعاء الذي يُقرأ في ليالي عرفة و ليالي الجمعة، و مطلعه:
اللَهُمَّ يَا شَاهِدَ كُلِّ نَجْوَى وَ مَوْضِعَ كُلِّ شَكْوَى.
و قد ورد في هذا الدعاء:
وَ بِاسِمِكَ الذي تَرْتَعِدُ مِنْهُ فَرَائِصُ مَلَائِكَتِكَ، وَ أسْألُكَ بِحَقِّ جَبْرَئِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ إسْرَافِيلَ.
إلى أن يصل إلى قوله:
وَ بِالاسْمِ الذي مَشَى بِهِ الْخِضْرُ عَلَى قُلَلِ الْمَاءِ كَمَا مَشَى بِهِ عَلَى جُدَدِ الأرْضِ؛ إلى أن يقول:
وَ بِاسْمِكَ الذي شَقَقْتَ بِهِ الْبِحَارَ وَ قَامَتْ بِهِ الْجِبَالُ وَ اخْتَلَفَ بِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ.
حتّى يصل إلى قوله:
وَ بِاسْمِكَ الذي عَلَّمَتَهُ مَلَكَ الْمَوْتِ لِقَبْضِ الأرْوَاحِ.۱
٦- دعاء كميل الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام يقرأه في سجوده و يدعو فيه الله سبحانه بأسمائه الحسنى.
يقول الشيخ: و قد ورد في الرواية أنّ كميل بن زياد رأى أمير المؤمنين ليلة النصف من شعبان يدعو في سجوده بهذا الدعاء:
اللَهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِرحْمَتِكَ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَ بِقُوَّتِكَ التي قَهَرْتَ بِهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَ خَضَعَ لَهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَ ذَلَّ لَهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَ بِجَبَروتِكَ التي غَلَبْتَ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ ... إلى آخر الدعاء.٢
۷- نقل في تفسير «الميزان»، عن تفسير «البرهان»، عن سعدبن عبدالله، بسنده عن أبي بصير، قال: كنتُ مع أبي عبدالله عليهالسلام فذكر شيئاً من أمر الإمام إذا وُلد فقال: استوجب زيادة الروح في ليلة القدر.
فقلتُ:
جُعلتُ فداك أليس الروح هو جبرئيل؟
فقال: جبرئيل من الملائكة و الروح أعظم من الملائكة. أليس انّ الله عزّ و جلّ يقول: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَ الرُّوحُ؟٣ و٤
تأثير الروح و الملائكة و الأسماء الإلهيّة في عالم الإمكان
۸- و جاء في «الغُرر و الدُرر» للآمديّ أ نّ أمير المؤمنين عليهالسلام سئل عن العالم العلويّ، أي عالم المجرّدات الذي يسبق في المرتبة عالم
الأجسام، فَقَالَ عَلَيْهِالسَّلَامُ: صُوَرٌ عَارِيَةٌ عَنِ الْمَوَادِّ، عَالِيَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَ الاسْتِعْدَادِ، تَجَلَّى لَهَا فَأشْرَقَتْ، وَ طَالَعَهَا فَتَلألأتْ، وَ ألْقَى في هُويَّتِهَا مِثَالَهُ، فَأظْهَرَ عَنْهَا أفْعَالَهُ.
وَ خَلَقَ الإنْسَانَ ذَا نَفْسٍ نَاطِقَةٍ إ نْ زَكَّاهَا بِالْعِلْمِ وَ الْعَمَلِ فَقَدْ شَابَهَتْ جَوَاهِرَ أ وَائِلِ عِلَلِهَا؛ وَ إِ ذَا اعْتَدَلَ مِزَاجُهَا وَ فَارَقَتِ الأضْدَادَ فَقَدْ شَارَكَ بِهَا السَّبْعَ الشِّدَادَ.۱
و قد ذكر المجلسيّ رحمة الله عليه هذا الحديث الشريف المعدود من دُرر و غُرر كلمات أمير المؤمنين، و الحاوي لنكاتٍ عميقة و جهات رشيقة عند الأعلام و أرباب فنّ الفلسفة و العرفان، و ذلك في المجلّد التاسع من «بحار الأنوار» الخاصّ بأحوال أمير المؤمنين عليه السلام، نقلًا عن دُرر الآمديّ،٢ حيث أورده شاهداً على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أرجح من جميع الفلاسفة. و لذلك فقد أعقبه تأييداً للمطلب بكلام أبي عليّ بن سينا، حيث قال:
لَمْ يَكُنْ شُجَاعاً فَيْلَسُوفاً قَطُّ إِلَّا عَلِيٌّ عَلَيْهِالسَّلَامُ.
و أورده كذلك الحكيم السبزواريّ قدّس سرّه في «شرح المنظومة» في غرر «في إِثباتِ أنّ أوّلَ ما صَدَرَ هو العقل» في بحث الإلهيّات بالمعنى الأخصّ.٣
بَيدَ أنّ آقا جمال الخونساريّ قال في شرح هذا الحديث: و هذا الكلام يمكن أن يكون مؤيّداً لعدّة اصول من اصول الحكماء، غاية الأمر أنّ
نسبته له صلوات الله و سلامه عليه لم تثبت بعدُ، بل إنّ الفقير يظنّ أنه كان كلام أحد الحكماء فنسبه البعضُ إليه عليه السلام لترويج ذلك، و الله تعالى يعلم.۱
هذا و قد قال الحقير يوماً في محضر استاذنا الجليل العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه: لقد شكّك آقا جمال الخونساريّ في أمر هذا الحديث.
فقال: مَن يا ترى غير أمير المؤمنين عليه السلام يمكنه أن يقول كلاماً كهذا؟ أ أبو حنيفة؟ أم الحسن البصريّ؟
إنّنا لا نعلم أبداً أحداً في التأريخ حتّى القرن الرابع له معرفة بهذه المعاني، أو يمكنه قول عبارة كهذه غير أمير المؤمنين عليه السلام. انتهى نصّ كلامه.
النفس الكلّيّة الإلهيّة في حديث كميل و حديث الأعرابيّ
٩- حديث الأعرابيّ الذي سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن النفس فَقَالَ عَلَيْهِالسَّلَامُ: أي الأنْفُسِ تَسْألُ؟
فَقَالَ: يَا مَوْلَاي هَلِ الأنْفُسُ عَدِيدَةٌ؟
فَقَالَ عَلَيْهِالسَّلَامُ: نَفْسٌ نَامِيَةٌ نَبَاتِيَّةٌ وَ حِسِّيَّةٌ حَيْوَانِيَّةٌ وَ نَاطِقَةٌ قُدْسِيَّةٌ وَ إِلهِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ مَلَكُوتِيَّةٌ.
ثمّ إنّ الأعرابي سأل عن كلّ من الأنفس النامية النباتيّة، الحسيّة الحيوانيّة، و الناطقة القدسيّة، فكان عليه السلام يجيبه.٢ حتّى إذا ما سأله
عن الإلهيّة الكلّيّة الملكوتيّة أجابه عليه السلام بهذه الكيفية:
فَقَالَ: مَا النَّفْسُ الإلهيّةُ الْمَلَكُوتِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ؟
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُوَّةٌ لَا هُوتِيَّةٌ وَ جُوْهَرَةٌ بَسِيطَةٌ حَيَّةٌ بِالذَّاتِ، أصْلُهَا الْعَقْلُ مِنْهُ بَدَتْ وَ عَنْهُ دَعَتْ وَ إِلَيْةِ دَلَّتْ؛ وَ عَوْدَهَا إلَيْهِ إِ ذَا أكْمَلَتْ وَ شَابَهَتْ وَ مِنْهَا بَدَتِ الْمَوْجُودَاتُ وَ إِلَيْهَا تَعُودُ بِالْكَمَالِ. وَ هي ذَاتُ الْعُلْيَا وَ شَجَرَةُ طُوبَى وَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَ جَنَّةُ الْمَأوَى؛ مَنْ عَرَفَهَا لَمْ يَشْقَ أبَدَاً وَ مَنْ جَهِلَهَا ضَلَّ وَ غَوَى.
فَقَالَ السَّائِلُ: مَا الْعَقْلُ؟
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَوْهَرٌ دَ رَّاكٌ مُحِيطٌ بِالأشْيَاءِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا عَارِفٌ بِالشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ؛ فَهُوَ عِلَّةٌ لِلْمَوْجُودَاتِ وَ نَهَايةُ الْمَطَالِبِ.۱
۱۰- حديث كميل بن زياد النخعيّ الذي سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن معرفة النفس:
قَالَ كُمَيْلُ: سَألْتُ مَوْلَانَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقُلْتُ: ارِيدُ أنْ تُعَرِّفَنِي بِنَفْسِي!
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا كُمَيْلُ إِنَّمَا هي أ رْبَعَةٌ: النَّامِيَةُ النَّبَاتِيَّةُ، وَ الْحِسِّيَّةُ
الْحَيْوَانِيَةُ، وَ النَّاطِقَةُ الْقُدسِيَّةُ، وَ الْكُلِّيَّةُ الإلهِيَّةُ.
ثمّ يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام كلّا من القوى الخمس لهذه النفوس و خاصيّتها،۱ حتّى يصل إلى النفس الكلّيّة الإلهيّة فيقول:
وَ الْكُلِّيَّةُ الإلهِيَّةُ وَ لَهَا خَمْسُ قُوًى: بَقَاءٌ في فَنَاءٍ، وَ نَعِيمٌ في شَقَاءٍ وَ عِزُّ في ذُلٍّ، وَ غِنى في فَقْرٍ، وَ صَبْرٌ في بَلَاءٍ.
وَ لَهَا خَاصِّيتَّانِ: الرِّضَا وَ التَّسْلِيمُ.
وَ هَذِهِ التي مَبْدَؤهَا مِنَ اللهِ وَ إِلَيْهِ تَعُودُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَي:
«وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي»؛ وَ قَالَ تَعَالَي: «يَا أيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مرْضِيَّةً»، وَالْعَقْلُ وَسَطُ الكُلِّ.٢
أي أنّ قوام هذه النفوس بالعقل؛ يرتبط به وجودها كما ترتبط الدائرة بمحورها الذي تدور عليه.
تأثير النفوس القدسيّة المجرّدة في عالم الإمكان في دعاء شهر رجب
۱۱- يقول الشيخ الطوسيّ رضوان الله عليه في «مصباح المتهجّد»:
أخبرني جماعة عن ابن عيّاش، قال: حدّثني خير بن عبد الله أنه خرج هذا التوقيع الشريف من الناحية المقدّسة على يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد رضي الله عنه: ادعُ في كلّ يوم من أيّام رجب:
اللَهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أمْرِكَ الْمَأمُونُونَ عَلَى سَرِّكَ، الْمُسْتَبْشِرُونَ بِأمْرِكَ، الْوَاصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ، الْمُعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ.
ثمّ يقول:
أسْألُكَ بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ فَجَعَلْتَهُمْ مِعَادِنَ لِكَلِمَاتِكَ وَ أرْكَاناً لِتَوْحِيدِكَ وَ آيَاتِكَ وَ مَقَامَاتِكَ التي لَا تَعْطِيلَ لَهَا في كُلِّ مَكَانٍ؛ يَعْرِفُكَ بِهَا مَنْ عَرَفَكَ لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهَا إِلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ خَلْقُكَ فَتْقُهَا وَ رَتْقُهَا بِيَدِكَ بَدْؤُهَا مِنْكَ وَ عَوْدُهَا إِلَيْكَ.۱ و٢
ثمّ يقول بعد عدّة فقرات:
بِاسْمِكَ الأعْظَمِ الأعْظَمِ الأجَلِّ الأكْرَمِ الذي وَضَعْتَهُ عَلَى النَّهَارِ فَأضَاءَ و عَلَى اللَّيْلِ فَأظْلَمَ.
و الخلاصة فقد أورد العلماء الأعلام، من أمثال السيّد ابن طاووس و الكفعمي و غيرهما في كتبهم هذا الدعاء الشريف الحاوي لمطالب قيّمة و اصول عرفانيّة، و الدالّ على تأثير النفوس القدسيّة المجرّدة في عالم الإمكان.
دلالة «إرادة الربّ في مقادير أُموره تهبط إليكم» على الولاية التكوينيّة
۱٢- روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ رحمه الله عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه حسن بن راشد، عن الحسين بن ثوير، قال: كنتُ أنا و يونس بن ظبيان و المفضّل بن عمر و أبو سلمة السرّاج جلوساً عند أبي عبد الله [عليه السلام]، و كان
المتكلّم يونس و كان أكبر منّا سنّاً. إلى أن يصل إلى قوله:
قلتُ: جُعلت فداك، إنِّي اريد أن أزوره فكيف أقول و كيف أصنع؟
قَال: إذا أتيت أبا عبد الله عليه السلام فاغتسل على شاطئ الفُرات ثمّ البس ثيابك الطاهرة ثمّ امش حافياً، فإنّك في حرم من الله و حرم رسوله و عليك بالتكبير و التهليل و التسبيح و التحميد و التعظيم للَه عزّ و جلّ كثيراً و الصلاة على محمّد و أهل بيته، ... ثمّ يذكر ليونس زيارةً من جملة فقراتها:
وَ بِكُمْ تُنْبِتُ الأرْضِ أشْجَارَهَا وَ بِكُمْ تُخْرِجُ الأشْجَارُ أثْمَارَهَا وَ بِكُمْ تُنْزِلُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا وَ رِزْقَهَا وَ بِكُمْ يَكْشِفُ اللهُ الْكَرْبَ وَ بِكُمْ يُنَزِّلُ اللهُ الْغَيْثَ وَ بِكُمْ تَسِيخُ۱ الأرْضُ التي تَحْمِلُ أبْدَانَكُمْ وَ تَسْتَقِرُّ جِبَالُهَا عَنْ مَرَاسِيهَا.
إِ رَادَةُ الرَّبِّ في مَقَادِيرِ امُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ وَ تَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ وَ الصَّادِرُ عَمَّا فُضِّلَ٢ مِنْ أحْكَامِ الْعِبَادِ.
و من الجليّ في هذه الفقرات أنّ المراد بتأثير النفوس القدسيّة لأئمّة الدين سلام الله عليهم أجمعين في الكائنات، يعني كونها واسطة فيض الرحمة الإلهيّة، و أنّ نفوسهم مرآة و نافذة لتلقّى الرحمة من مقام العزّ الإلهيّ و بثّها و نشرها في عالم الإمكان.
أمّا احتمال أنّ المراد بذلك أنّ الأرض و السماء ستُملآن بالبركة و الخير ببركة تبليغهم و ترويجهم للُامور الدينيّة و الأحكام التشريعيّة الإلهيّة
فمخالف للظاهر، و هو معنى مجازيّ لا يمكن قبوله دون نصب قرينة عليه. على أنّ بعض الفقرات التي تسبق هذه الفقرات صريحة في تأثير شهادته عليه السلام و سفك دمه المقدّس في الامور التكوينيّة؛ كهذه الفقرات:
أشْهَدُ أ نَّ دَمَكَ سَكَنَ في الْخُلْدِ، وَاقْشَعَرَّتْ لَهُ أظِلَّةُ الْعَرْشِ۱، وَ بَكَى لَهُ جَمِيعُ الْخَلَائِقُ، وَ بَكَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَ الأرَضُونَ السَّبْعُ وَ مَا فِيهِنَّ وَ مَا بَيْنَهُنَّ وَ مَنْ يَتَقَلَّبُ في الْجَنَّةِ وَ النَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا وَ مَا يُرَى وَ مَا لَا يُرَى.٢
فكيف يمكن مع هذه الصّراحة في هذه الفقرات في عموميّة تأثير دمه عليه السلام في جميع المخلوقات أن يُحمل ذلك على المعنى المجازيّ؟!
الأرواح المقدّسة لرسول الله و الصدّيقة و أئمّة إلهدى من عالم النور و التجرّد
۱٣- نقل المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» عن كتاب «المختصر» تأليف الشيخ حسن بن سليمان من تلامذة الشهيد الثاني أنه
روي أنه وُجد بخطّ مولانا أبي محمّد الحسن العسكريّ عليه السلام:
أعُوذُ بِاللهِ مِنْ قَوْمٍ حَذَفُوا مُحْكَمَاتِ الْكِتَابِ وَ نَسُوا اللهَ رَبَّ الأرْبَابَ وَ النِّبِيَّ وَ سَاقِي الْكَوْثَرِ في مَوَاقِفِ الْحِسَابِ وَ لَظَى وَ الطَّامَّةِ الْكُبْرَى وَ نَعِيمِ دَارِ الثَّوَابِ.
فَنَحْنُ السِّنَامُ الأعْظَمُ، وَ فِينَا النُّبُوَّةُ وَ الْوَلَايَةُ وَ الْكَرَمُ وَ نَحْنُ مَنَارُ الْهُدَى وَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَ الأنْبِيَاءُ كَانُوا يَقْتَبِسُونَ مِنْ أنْوَارِنَا وَ يَقْتُفُونَ آثَارَنَا. وَ سَيَظْهَرُ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالسَّيْفِ الْمَسْلُولِ لإظْهَارِ الْحَقِّ.
و هذا بخطِّ الحَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسى بْنِ جَعْفرِ بْنِ مُحمّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسينِ بْنِ عَلِيًّ أميرِ المؤمنينَ.۱
كما رُوي أنه وُجد بخطّ الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام:
قَدْ صَعَدْنَا ذُرَى الْحَقَائِقِ بِأقْدَامِ النُّبُوَّةِ وَ الْوَلَايَةِ، وَ نَوَّرْنَا سَبْعَ طَبَقَاتِ أعْلَامِ الْفَتْوَى بِالْهِدَايَةِ.
فَنَحْنُ لُيُوثُ الْوَغَى وَ غُيُوثُ النَّدَى وَ طَعَّانُ الْعِدْى، وَ فِينَا السَّيْفُ وَ الْقَلَمُ في الْعَاجِلِ، وَ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَ الْحَوْضِ في الآجِلِ. وَ أسْبَاطُنَا حُلَفَاءُ الدِّينِ، وَ خُلَفَاءُ النَّبِيِّينَ وَ مَصَابِيحُ الأمَمِ وَ مَفَاتِيحُ الْكَرَمِ. فَالكَلِيمُ الْبِسَ حُلَّةَ الاصْطِفَاءِ لِمَا عَهِدْنَا مِنْهُ الْوَفَاءَ، وَ رُوحُ الْقُدُسِ في جِنَانِ الصَّاغُورَةِ٢ ذَاقَ
مِنْ حَدَائِقِنَا الْبَاكُورَةَ.۱
۱٤- جاء في زيارة الصدّيقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها:
السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ الذي خَلَقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً.
و في زيارة اخرى لها عليها السلام:
السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ الذي خَلَقَكِ قَبْلَ أ نْ يَخْلُقَكِ وَ كُنْتِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً.٢
و المراد به الامتحان قبل الخلقة في هذا العالم، و لهذا الدعاء دلالة على عالم الذرّ. أي أنّ روحك كانت قد خُلقت و امتُحنت في عالم التجرّد قبل نشوء هذا العالم.
۱٥- الدعاء الذي أورده الشيخ الكفعميّ في كتاب «البلد الأمين» عن ليلة مبعث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
اللَهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِالتَّجَلِّي الأعْظَمِ في هَذِهِ الَّلَيْلَةِ مِنَ الشَّهْرِ الْمُعَظَّمِ.
ثمّ يذكر فقرات كثيرة حتّى يصل إلى هذه الجملة:
وَ بِاسْمِكَ الأعْظَمِ الأعْظَمِ الأعْظَمِ الأجَلِّ الأكْرَمِ الذي خَلَقْتَهُ فَاسْتَقَرَّ في ظِلِّكَ فَلَا يَخْرُجُ مِنْكَ إلَى غَيْرِكَ.
و المراد من هذا الاسم الحجاب الأقرب، و الأوّل الصادر، و الاسم الأعظم الذي يمثّل نقطة الوحدة بين الأحديّة و الواحديّة الذي خُلقت بواسطته جميع الموجودات؛ و هو في سلسلة مراتب عالم الكثرة بشكل مخروط رأسه بلاتشبيه نقطة الذات التي لم تزل و لا تزال، و قاعدته الكبيرة عالم الطبع و المادّة الهيولى، أمّا قواعده الاخرى فالعوالم المختلفة و موجوداتها على حسب القُرب و البُعد من نقطة الوحدة.
و ينبغي العلم أنّ الأدلّة التي تُفصح عن تأثير الموجودات المجرّدة العالية و النفوس القدسيّة و الأرواح الملكوتيّة في هذا العالم، فهي الروايات الواردة عن المعصومين سلام الله عليهم أجمعين و التي تفوق الحصر و العدّ. و قد ذكرنا هنا عدّة روايات كمثال على ذلك.
الملائكة هم للوساطة في التدبير
أمّا بلحاظ المنطق القرآنيّ، فإنّ هذا الكتاب الإلهيّ يُسند الحوادث الكونيّة بشكل قاطع إلى الملائكة، و يعتبرهم مؤثّرين في هذا العالم و واسطة في التدبير بعنوان حكم عامّ و سُنّة دائميّة. و الآيات التي نوردها هنا تبيّن هذه الحقيقة بجلاء، سواءً في مقام إرسال الأنبياء و بيان الأحكام و دفع الشياطين و منع تدخّلهم تسديداً للوحي، و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار، أو في مقام عودة الإنسان إلى الله و ظهور آيات قبض الروح و مسائل البرزخ و القيامة و سَدَنة الجنّة و حَفَظة جهنّم و سائر ملائكة الشفاعة و الحضور و العرض، و لجميع الوقائع التي تقع في ذلك العالم؛ و سواءً في مقام وساطتهم في تدبير امور هذا العالم من المرض و الصحّة و التوفيق و السعادة، و الليل و النهار، و الفصول الأربعة، و التغيّرات الجويّة و الحوادث
الكونيّة البريّة و البحريّة و هبوب الرياح، و السحاب المسخّر بين السماء و الأرض، و تعيين الآجال.
و إذا ما تأمّل شخص ما في آيات: وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً۱، و آية: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ.٢ و آية: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.٣ و آية: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ.٤
فإنّه سيدرك أ نّ الله قد خلق الملائكة لسُنّته و فوّض إليهم وظائف هذا العالم.
الملائكة هم واسطة، و الفعل و الصفة منحصران بالله سبحانه
فالملائكة -إذَن- هم واسطة فقط في الفيض و الرحمة الإلهيّة بين الله و خلقه، و ليس من قبيل المصادفة أن يكونوا أحياناً واسطةً و أن تحصل امور الخلق أحياناً اخرى دونما واسطة، إذ إ نّ الله قد جعلهم لهذا الغرض جَاعِلِ الْمَلَائكَةِ رُسُلًا، و هذه هي وظيفتهم و حدود مهمّتهم، و ليس في السنّة الإلهيّة تغيير أو تحويل:
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.٥
و كذلك:
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.٦
إ نّ ربّي يدبر امور الخلق و يفيضها وفق منهاج مستقيم و صراط
لا أمَت فيه و لا انحراف.
يقول: و هذا الصراط مستقيم، أي أنه ثابت و دائم لا تطرأ على عموميّته و شموله ثلمة و لا يُشاهد فيه خلل أو نقص.
و لا منافاة بين هذه الآيات التي تعدّ الملائكة واسطة في الفيض الإلهيّ على أساس الآية المباركة:
وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.۱
و الآية المباركة:
مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ.٢
أي أ نّ جبرئيل، و هو الأمين على الوحي الإلهيّ، في المقام المقدّس الذي يُطيعه فيه الملائكة.
و الآية المباركة:
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ.٣
أي حين يُزال الفزع و الخوف عن قلوب الملائكة يوم القيامة، و حين تحين مهمّة الشفاعة، فتسأل بعضُ طوائف الملائكة بعضها الآخر: ماذا قال ربّكم؟ قالوا الحقّ.
و كذلك على أساس الروايات المستفيضة، بل المتواترة التي تذكر لهم درجات مختلفة و مقامات متباينة.
و بين آية: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ.٤
و آية: وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ.۱
لأنّ من الممكن أن يكون المراد بعبادة الملائكة و تسبيحهم و سجودهم هو عين وظيفتهم المقرّرة في تدبير امور العالم و إفاضة الفيض و امتثال الأوامر الإلهيّة المفوّضة و الموكلة لهم.
و على هذا فإنّ كلّ ملك من الملائكة منهمك و منشغل بما عُهد إليه، فإنّ فعله عين عبادته و تسبيحه، و عين سجوده.
و ربّما أشار إلى هذا المعنى قوله تعالي:
وَ لِلَهِ يَسْجُدُ مَا في السَّمَوَاتِ و مَا في الأرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ هُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.٢
كما ينبغي العلم؛ بناءً على التحقيق الذي أجريناه في هذا المعنى، و أثبتنا فيه وساطة الملائكة في القيام بالامور التكوينيّة و الحوادث في هذا العالم و بالامور و الوقائع بعد الموت؛ أنه لم يُلاحظ هناك أي جانب للاستقلال في فعل الملائكة، بل كان لهم عنوان الواسطة فقط لا غير. فالمَلَك المقرّب الذي يأخذ من الاسم الأعظم للربّ فيفيض على المَلَك الذي دونه، و منه إلى المَلَك الأدنى، وصولًا إلى الملائكة الثانويّين الذين يتصدّون بأنفسهم مباشرة و يراقبون امور العالم. و أخيراً فإنّ جميع الحول و الإرادة و القدرة و القوّة و العلم و الحياة مختصّ بذات الحضرة الأحديّة؛ أمّا عنوان الواسطة و الآليّة و المرآتيّة، فلا منافاة له أبداً مع انحصار هذه الأسماء و الصفات في ذات الحقّ تعالى.
تعالى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيراً - وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
و لتقريب الذهن فإنّ مثال القلم و اليد و الكتابة الذي أورده الحكماء و المتكلّمون الأعلام تشبيه و مثال جيّد، مع أ نّ أي مثال و تشبيه يقرّب المطلب من جهة و يبعّده من جهة أو جهات اخرى.
يقولون: إ نّ من يمسك القلم بيده فيكتب، يمكننا أن ننسب الكتابة إلى القلم، كما يمكننا نسبتها لليد، أو للكاتب، إلّا أ نّ هذه النسب الثلاث ليست عرضيّة، أي أنها ليست في عرض بعضها، بل هي في طول بعضها. و في الحقيقة فإنّ نسبة الكتابة مختصّة بالكاتب إلّا أنها تُنسب إلى اليد و القلم مجازاً و عَرَضاً، و هذا هو معنى الواسطة. و قد بحثنا هذه المسألة مفصّلًا و أوضحنا المطلب بحمد الله في المجلس السادس، و هو البحث عن قبض الروح من قبل الله تعالى و ملك الموت و سائر الملائكة. و قد جعلنا هذا البحث العامّ فيما يتعلّق بارتباط عالم التجرّد و المعنى مع عالم المادّة و الطبع، لنستنتج منه كذلك ارتباط عالم البرزخ مع القبر.
آداب بدن الميّت باعتبار عدم قطع الروح لعلاقتها به تماماً
إ نّ الإنسان يرحل عن الدنيا و تتّخذ روحه لنفسها شكلًا و صورة في القالب المثاليّ، لكنّها لا تقطع علاقتها بالبدن كلّيّاً، شأن النوم الذي تقلّل الروح فيه علاقتها بالبدن فيبرد حال النوم، إلّا أنها لا تقطع علاقتها به تماماً، بل تعود الروح إلى البدن فيسري الدفء فيه. أمّا عند الموت فإنّ الروح تقطع تلك العلاقة بدرجة أكبر، لذا يرى الإنسان بدنه وقت خروج النفس و يسير خلفه إلى القبر، و من هنا نرى بواسطة هذه العلاقة الجزئيّة، أ نّ قبور الأئمّة الأطهار عليهم السلام و قبور العلماء بالله و أوليائه هي منشأ أثر و نزول البركات و قضاء الحاجات، و إلّا فإنّ من الجليّ أ نّ المخاطب بالسلام و التحيّات و الصلوات هو أرواحهم البرزخيّة لا الأبدان المقبورة.
و على هذا الميزان فإنّ هناك آداباً و سُنناً معيّنة للبدن، فينبغي أن لا يُلقى البدن في المزبلة أو يُترك ملقى في الفلوات، إذ إ نّ احترام هذا البدن احترام للروح.
و على هذا الأساس فقد جرى التعبير عن عالم البرزخ بعالم القبر، و إلّا فإنّ عالم البرزخ أكبر من الدنيا آلاف المرّات فضلًا عن القبر، بَيدَ أنهم عبّروا عنه بعالم القبر لنفس هذا الارتباط و العلاقة. كما عبّروا عن الأسئلة البرزخيّة بالسؤال في عالم القبر. و هكذا فإنّ المؤمن المتوفى يجب أن يُحترم، كما أ نّ بدنه يجب أن يُحترم هو الآخر.
و في ضوء ذلك فإنّه يجب مراعاة أن يكون القبر بقدر بدن المتوفّى، ليضجعوا الميّت في قبره في راحة، ثمّ إ نّ عليهم أن يعمّقوا القبر بقدرٍ كاف و أن يجتنبوا في الأمكنة التي يحتضر فيها شخص ما يمنع نزول الملائكة، فلا يدخلها أحد جُنباً، و ينبغي أن يُتلى القرآن هناك، و أن تُمدّ أرجل المحتضر تجاه القبلة، و أن يُقرأ عنده دعاء العديلة و سورتي يس و الصافّات، و أن لا يُوضع على بطنه حديد أو شيء ثقيل، و الأفضل أن يكون الواردون عليه على وضوء، لأنّ ذلك المكان محلّ نزول الملائكة و الأرواح المقدّسة للمعصومين عليهم السلام.
الآداب المستحبّة للغسل و التكفين و الدفن
أمّا حين يرحل عن الدنيا فإنّ على المؤمنين الاجتماع لتشييعه، و عليهم غسله بماء السدر و الكافور و الماء الخالص ثلاث مرّات، ثمّ تكفينه في ثلاثة أثواب أو في خمسة، و أن يكتبوا على الكفن دعاء الجوشن الكبير و أسماء الله تعالى، و يكتب المؤمنون شهاداتهم على كفنه أيضاً.
ثمّ إ نّ عليهم إدخاله إلى المقبرة و حمله إلى قبره تدريجياً، فإن كان رجلًا سُلّ من قِبَلِ رِجليه، أمّا إن كان امرأة فإنّها تؤخذ بالعرض من قِبَلِ اللحد، ثمّ يكشف عن وجهه في القبر فيُوضع خدّه على التراب، لكأنه
يقول: يا إلهيّ ها أنا اعفّر في التراب أمام عظمتك و جلالك خدّي الذي كان مدعاة لشرفي و حيثيّتي.
ثمّ إ نّ عليهم تلقينه و وضع جريدتين تحت إبطه، و أن يرشّوا من تربة سيّد الشهداء عليهالسلام في أطراف القبر الأربعة، و أن يلبسوه قلادة و سواراً من تلك التربة، و أن يضعوا على عينيه شيئاً منها، و أن يكتبوا على الجريدتين الخضراوين بالإصبع الشهادة بالتوحيد و الرسالة و الولاية.
و بالرغم من أ نّ هذه السُّنن تجري على بدنه المقبور الملقى، إلّا أ نّ روحه تسعد بذلك و تسرّ، كما أ نّ هذه السُّنن تمثّل الاحترام بالنسبة إلى روحه، لأنّ هذا البدن كان وسيلة نفسه عمراً، استخدمه للوصول إلى الكمال، لذا فإنّه يصبح مورداً للاحترام و التقدير. فما أحسن و أفضل من أن يُغسل الإنسان و يكفّن و يُدفن وفق الآداب و السُنن المستحبّة! و حقّاً لو علم الإنسان كيف يُعامل المؤمنون جنازته بمحبّة و عطف لاشتهى الموت. و لقد رحل بعض أصدقائنا و إخواننا الإيمانيّين و الأخلّاء الروحانيّين فاشتركتُ في تجهيزهم، و رغبتُ في الموت و اشتهيتُه حقّاً.
لقد كان المؤمنون سابقاً على هذه الحال، و كانوا يدفنون الجنازة على هذه الكيفيّة، فكان الجيران و الأقارب و الأرحام و المعارف و الأصدقاء يأتون إلى المنزل فيعدّون الماء الحارّ في نفس المنزل، ثمّ يشرعون وسط الصلوات وقراءة التعزية و البكاء و الدعاء و القرآن بغسل البدن و تطهيره و تطييبه، و في تحنيطه بالكافور، ثمّ في تكفينه في الكفن الذي جلبه المتوفى من مكّة أو كربلاء و غَسَلَه بماء زمزم أو الفرات و أخذه للتبرّك إلى الكعبة أو حرم المشاهد المقدّسة فمسحه بها، ثمّ زيّنه بكتابة أسماء الله و وشّحه و ختمه بشهادة أربعين مؤمناً على إيمانه. فأنعم بحال أفراد كاولئكم على تلك النوايا الطاهرة النزيهة و العقائد الراسخة!
أمّا الآن فإنّ الشخص المسكين ذا السنين التسعين يخشى أن يُذكر عنده الموت أو الوصيّة. و ها هو مصاب بأمراض عديدة، قد نزل في عينيه ماء العمى، و صار مرض السُّكّريّ يهدّده كلّ لحظة، إضافة إلى أمراض ضغط الدم و الكلية و الأعصاب و ورم غدد البروستات، و البواسير، و قد اصيب بالسكتة القلبيّة، إلّا أ نّ قلبه و خواطره في الوقت نفسه لا تزال متّجهة صوب الدنيا.
ثمّ إنّهم لم يعودوا يحتملونه في المنزل، و ها هو ولده يصرخ بهم: خذوا أبي إلى المستشفي! فيحملونه مغمى عليه إلى المستشفى فيتنقّل بين الأيدي، يغرسون فيه أبر الدواء حتّى يعجزون عن العثور على أوردته، فقد سُدّت و اغلقت. ثمّ يعمد المستشفى و الطبيب المعالج من أجل إعداد قائمة نفقات مفصّلة إلى جرّ هذا البائس المحتضر من هذه القاعة إلى تلك لإجراء التحليلات و لأخذ الصور الشعاعيّة، ليموت أخيراً ببدن متنجّس بالكحول، فلا من أحد يوجّهه صوب القبلة، و لا مَن يقرأ له القرآن و الدعاء، و لا من سلام و صلوات.
ثمّ إنّهم ينقلونه فوراً إلى ثلّاجة المستشفى و منها إلى «جنّة الزهراء»۱ فليس من أحد ليقول «لأ إلَهَ إِلأ اللهُ». ثمّ يغسله الغسّال دون أن يعرف أحدٌ ماذا كانت نيّته عند الغسل، و ها هو ولده المحترم يتمشّى و قد ألقى على كتفه جهاز التصوير الفوتوغرافي (الكاميرا)، و ها هم أرحامه و أقاربه يخشون دخول المغسلة ليرون كيف يغسل الغسّال، فإن دخلوها دخولها جاهلين لا يعلمون شيئاً. و الأمر كذلك بالنسبة للنساء من الأرحام و الأقارب اللاتي يخشين دخول مغسلة النساء. لذا يجلس الرجال تحت ظلال الأشجار
و السقوف يدخّنون السجائر لا يكفّون عن السؤال: أتمّ الأمر؟ أتمّ الأمر؟ من أجل أن يُسرعوا بتشغيل السيارة و يجلسوا خلف مقودها فيغادروا المقبرة.
عسى أن لا يقسم الله لأحد موتاً كهذا! و رحم الله واعظاً محترماً كان في قم أيّام در استنا فيها، كان رجلًا فاضلًا عالماً من أهل العلم و المطالعة، و كان هناك رجل في قم يغسل الموتى اسمه (مشهدي نوروز)، فارتقى ذلك الواعظ المنبر في مناسبة ما فقال: إذا كان مَن سيغسل الإنسان (مشهدي نوروز) فلا قدّر الله للإنسان أن يموت في قم!
أسباب ضغطة القبر
إ نّ الروايات التي وردت عن عذاب القبر و ثواب القبر عائدة إلى هذا البدن البرزخيّ، حيث عُّبر عنها بعذاب القبر و ثوابه لمناسبة ارتباط عالم برزخ كلّ إنسان بقبره.
يروي المرحوم الصدوق في «علل الشرايع» بسنده المتّصل عن زيدبن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن أمير المؤمنين عليهالسلام:
قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ يَكُونُ مِنَ النَّمِيمَةِ وَ الْبَوْلِ وَ عَزْبِ۱ الرَّجُلِ عَنْ أهْلِهِ.٢
و يروي كذلك بسنده المتّصل عن الإمام الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام:
قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: ضَغْطَةُ الْقَبْرِ لِلْمُؤمِنِ كَفَّارَةٌ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ تِضْيِيعِ النِّعَمِ.٣
و يروي الكلينيّ عن عدّة من الأصحاب، عن أحمد بن محمّد بن
خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير.
قَالَ: قُلْتُ لأبِي عَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أيُفْلِتُ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ أحَدٌ؟
قَالَ: فَقَالَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا؛ مَا أقَلَّ مِنْ يُفْلِتُ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ!
ثُمَّ قَالَ: إنَّ رُقَيَّةَ لَمَّا قَتَلَهَا عُثْمَانُ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلَى قَبْرِهَا فَرَفَعَ رَأسَهُ إلى السَّماء فَدَمَعَتْ عَيْناهُ و قَالَ للنَّاسِ: إِنّي ذَكَرْتُ هَذِهِ وَ مَا لَقِيَتْ فَرقَقْتُ لَهَا و اسْتَوْهَبْتُها مِن ضَغْطَةِ القَبْرِ.
قَالَ: فَقَالَ: اللَهُمَّ هَبْ لي رُقَيَّةَ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ، فَوَهَبَهَا اللهُ لَهُ. ثُمّ قال الصادق عليه السلام:
و إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله. خرج في جنازة سعد و قد شيّعه سبعون ألف مَلَك، فرفع رسول الله صلّى الله عليه و آله رأسه إلى السماء ثمّ قال: مِثْلُ سَعْدٍ يُضَمُّ؟
قال: قلتُ: جُعلت فداك، إنّا نحدَّث أنه كان يستخفُّ بالبول.
فقال: مَعَاذَ اللهِ، إنَّمَا كَانَ مِنْ زَعَّارَةٍ۱ في خُلُقِهِ عَلَى أهْلِهِ.
قال [الصادق عليه السلام]: فقالت امُّ سعد: هنيئاً لك يا سعد!
قال: فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا امّ سعد لا تُحتّمي على الله.٢
كما يروي الكلينيّ بإسناده عن أبي بصير، عن أحد الصادقين عليهما السلام، قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ رُقيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ
رَسُولُ اللهِ: الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثْمَانِ بْنِ مَظْعُونَ وَ أصْحَابِهِ؛ قَالَ: وَ فَاطِمَةُ عَلَى شَفيرِ الْقَبْرِ تَنحَدِرُ دُمُوعُهَا في الْقَبْرِ وَ رَسُولُ اللهِ يَتَلَقَّاهُ بِثَوْبِهِ قَائِماً.
قَالَ: إنِّي لأعْرِفُ ضَعْفَهَا وَ سَألْتُ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أ نْ يُجِيرَهَا مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ.۱
و يروي الكلينيّ أيضاً عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس:
قَالَ: سَألْتُهُ عَنِ الْمَصْلُوبِ يُعَذَّبُ عَذَابَ الْقَبْرِ؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، إِ نَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَأمُرُ الْهَوَاءَ أ نْ يَضْغَطَهُ.٢
و في رواية اخرى: سُئل أبو عبد الله عن المصلوب يصيبه عذاب القبر؟
فقال: إنَّ رَبَّ الأرض هو ربُّ الهواءِ، فيوحي اللهُ عزَّ و جلَّ إلى الهواءِ فيضغطهُ ضغطةً أشدّ من ضَغطة القبرِ.٣
استحباب وضع الجريدتين
و يروي الكلينيّ بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر [الباقر] عليه السلام، قال: قلتُ له: أ رأيت الميّتَ إذا ماتَ، لم تُجعل معه الجريدةُ؟
(الجريدة العود الأخضر الذي يؤخذ من النخل أو من غيره بطول ذراع واحد أي ما يقرب من نصف متر فإذا اريد تكفين الميّت وُضعت الجريدة معه داخل الكفن تحت إبطه).
قال: تجافى عنه العذاب و الحساب، ما دام العود رطباً، و إنّما الحسابُ و العذابُ كلّه في يومٍ واحدٍ في ساعةٍ واحدة، قدر ما يدخل القبر و يرجع
الناسُ عنه، فإنّما جُعل السعفتان لذلك، و لا عذابَ و لا حسابَ بعد جفوفها إن شاءَ اللهُ.۱
كما يروي الكلينيّ بسند آخر عن حريز و فضيل و عبد الرحمن قالوا: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: لأيّ شيءٍ يُوضعَ مع الميّت الجريدةُ؟
قال: إنّه يَتجافى عنه ما دامت رَطبةً.٢
و هذه بأجمعها هي شواهد لارتباط البدن المثاليّ بالبدن الملقى في القبر.
بقاء جنازة الصدوق غضّة طريّة في القبر بعد ما يقرب من ألف سنة
و من جملة مسائل الارتباط عدم بلى بدن الأنبياء و الأئمّة الطاهرين و أولياء الله و بعض الأخيار و الأبرار في القبر. و قد شوهد في بعض المقابر التي تُحفر على شكل سرداب فيه فتوضع الجنائز بجوار بعضها، أنّ جنازة بعض العلماء بالله كانت غضّة طريّة بعد مرور نصف قرن.
و بطبيعة الحال فإنّ مقام الروح و النفس غير مقام البدن، إذ سواءً بليت الجنازة في القبر أم لم تبلَ، فإنّ البدن يمثّل لباساً جرى خلعه، أمّا الروح فمنعّمة في مقامها الشامخ بالنعم الإلهيّة. و لو فرض أنّ البدن قُطّع إرباً إرباً أو احرق فذرّى في الهواء، أو صُلب فظلّ مصلوباً سنوات عديدة فبلي و عشعشعت الحمامة في بطن الميّت، كما فُعل ببدن فقيه الإسلام و متكلّمه القاضي نور الله الشوشتري حين قطّعوه تحت السياط الشائكة إرباً إرباً؛ و كما صلبوا بدن الفقيه الجليل المسلم الشهيد الأوّل ثمّ أحرقوه فذرّوه في الهواء، و كما صلبوا بدن زيد بن عليّ بن الحسين أربع سنوات على خشبة الصلب. إلّا أنه و مع تلك الأوضاع كلّها، فإنّ ثواب ذلك المتوفّى
لن ينقص ذرّة، بل إنّ من الممكن أن تؤدّى تلك الوقائع بواسطة ارتباط البرزخ مع البدن المثاليّ إلى إعلاء درجة و رفعة مقام اولئك الشهداء في طريق الولاية الحقّ.
إلّا أنّ من الممكن مع هذه الامور جميعاً أن لا تبلى الأبدان الموجودة في القبور، و أن تؤثّر درجة تقوى الروح و طهارتها في هذا اللباس الملقى في القبر فتبقيه غضّاً. كما هو الأمر في جنازة الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ، و هو من أعاظم علماء الإسلام الذين يقلّ نظيرهم، و لربّما كان منقطع النظير في فنونه، حيث يقدّمه الكثير من العلماء على الشيخ الكلينيّ من جهة الإحاطة و الدقّة. و هو من فحول العلماء و صاحب كتاب «من لا يحضره الفقيه» أحد الكتب الأربعة الشيعيّة، و صاحب مائة كتاب آخر، و كان قد رحل عن الدنيا سنة ٣۸۱ هجريّة و دُفن في الري.
و لقد أمضى هذا الرجل قدراً من عمره في زمن الغيبة الصغرى، و كان قد جاء إلى الدنيا بدعاء صاحب العصر و الزمان، لأنّ أباه لم يكن له ذريّة، فسأل الولد و وعده صاحب الزمان عليه السلام أن يولد له ولدان، فولد له محمّد و هو الأكبر، و الحسين، و كان كلاهما من العلماء الأخيار الأبرار، و خاصّة محمّد الذي كان متميّزاً.
و هذ العالم الجليل هو ابن بابويه المدفون في جنوب طهران في طريق عبد العظيم الحسنيّ عليه السلام، يلوذ بحماه أهالي طهران بعد عبد العظيم الحسنيّ و الحمزة (و هو من أولاد الأئمّة).
و كان لابن بابويه في السابق بقعة صغيرة متروكة، و حصل في زمن فتح على شاه القاجاريّ أن هطلت الأمطار بغزارة فحصل في قبره ثغزة، فرأى الأفراد الذين كانوا يعملون من ترميم القبر سرداباً يرقد فيه
رجل له بدن سالم بكلّ معنى الكلمة. ثمّ إنّهم أوصلوا الخبر إلى طهران، فطرق أسماع فتح على شاه، فتحرّك مع جماعة من العلماء و الوجهاء صوب ابن بابويه، و كان الشاه يرغب في دخول السرداب بنفسه ليُشاهد جنازة الصدوق، فمنعه الأعلام و قالوا له: لا تذهب بنفسك ودع الآخرين يذهبون فيأتون لك بالخبر اليقين. فلم يدخل فتح على شاه بنفسه، و دخل العلماء و الوجهاء و الأعيان الواحد تلو الآخر فجاءوا بالخبر متّفقين أنّ هناك رجلًا نائماً، و كان قد كفّن إلّا أنّ كفنه قد ازيح فتعرّى بدنه، و كان بدنه عرياناً إلّا أنّ هناك عنكبوتاً كان قد نسج على عورته نسيجاً ساتراً. و كان هناك فوق الكفن المتهرّئ المستحيل تراباً شيء كحبل ملفوف على بدنه، لكأنه من تلك الحبال التي تلفّ على بدن الميت فتحيط بالكفن.
و كان ذلك البدن طويلًا و وسيماً ذا قامة حسنة، و كانت شيبته بلون الحنّاء، و يداه و أسفل رجليه بلون الحناء، و على أظفاره صفار من لون الحناء.
و قد حصلت هذه الواقعة سنة ۱٢٣۸ هجريّة، أي قبل حدود ۱٥۸ سنة لأننا الآن في شهر رمضان لسنة ۱٣٩٦ هجريّة.
هذا و قد أصدر فتح على شاه أمراً بسدّ تلك الفتحة و بنى على مزاره هذه القبّة و المقبرة الحاليّة.
و قد نقلنا هذه المطالب عن «روضات الجنّات» للخونساريّ، و «تنقيح المقال» للمامقانيّ، و «قصص العلماء» للتنكابنيّ، و «الفوائد الرضويّة» للقمّيّ.
يكتب آقا سيّد محمّد باقر الخونساريّ في «روضات الجنّات»:
و قد جاء إلى أصفهان بعض الذين ذهبوا بأنفسهم في معيّة فتح على شاه و شرحوا لبعض أساتيذنا الأمر.
و يكتب الشيخ عبد الله المامقانيّ في «التنقيح»:
روى لي بسند صحيح قبل أربعين سنة عن العدل الثقة الأمين السيّد إبراهيم اللواسانيّ الطهرانيّ قدّس سرّه ... و كان هو ممّن دخل القبر و رأى أنّ جسده الشريف صحيح سالم لم يتغيّر أصلًا.
و يقول المامقانيّ: و هذه القضيّة هي عندي من المسلّمات، فلا يرقى إليها الشكّ.۱ و٢
و ينقضي من زمن الشيخ الصدوق حتّى الآن ۱۰۱٥ سنة، و إلى زمن كشف هذه الواقعة ۸٥۷ سنة. أ فيمكن العثور على محملٍ آخر لهذه القضيّة غير ارتباط عالم البرزخ مع البدن المقبور في الأرض؟
ثمّ يأتي دكتورٌ ما فيكتب في كتابه: و أمّا قولهم إنّ بدن الصدوق غضّ طري، فلأنه كان يُمارس الرياضة، و الأفراد الذين لا يتناولون الأطعمة الدسمة و اللحم يتصلّب بدنهم، و إذا ما وضع في محفظة بحيث لا يكون له تماسّ مع الهواء و الرطوبة فإنّ من الممكن أن يبقى البدن عدّة أيّام.
فَتَعَالَ أيُّهَا العزيزُ و آمِنْ بِاللهِ وَ عَالَم الْغَيْبِ!
لقد كان الصدوق يتناول اللحم و الأطعمة الدسمة، و كان بديناً،
و لم يكن يمارس رياضةً، لكنّ بدنه تحت الأرض الرطبة كان لا يزال غضّاً طريّاً بعد ما يقرب من ألف سنة على وفاته.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.۱
فما أعجبه مرضاً مهلكاً: التغرّب و التأثّر بالغرب، بل عبادة الغرب! إنّ هؤلاء السادة المتأثرين بالغرب يحاولون تأويل جميع اسس عالم الغيب وفق صيغ معيّنة، و إلى حبسها في إطار العلوم التجريبيّة، و كفى به جهلًا!
قصّة الشاه إسماعيل الصفويّ و الحرّ بن يزيد الرياحيّ
ينقل المامقانيّ في كتاب «تنقيح المقال» عن الحائريّ، عن السيّد نعمة الله الجزائريّ في كتاب «الأنوار النعمانيّة» قوله: حدّثني جماعة من الثقات أنّ الشاه إسماعيل لمّا ملك بغداد أتى إلى مشهد الحسين عليه السلام و سمع من بعض الناس الطعن على الحرّ، أتى إلى قبره و أمر بنبشه، فنبشوه فرآه نائماً كهيئته لمّا قُتل، و رأوا على رأسه عصابة مشدودٌ بها رأسه، فأراد الشاه نوّر الله مضجعه أخذ تلك العصابة لما نقل في كتب السير و التواريخ أنّ تلك العصابة هي دسمال٢ الحسين عليه السلام شدّ به رأس الحرّ لمّا اصيب في تلك الواقعة و دُفن على تلك الهيئة، فلمّا حلّوا تلك العصابة جرى الدم حتى امتلأ منه القبر، فلمّا شدّوا عليه تلك العصابة انقطع الدم، فلمّا حلّوها جرى الدم، و كلّما أرادوا أن يعالجوا قطع الدم بغير تلك العصابة لم يمكنهم، فتبيّن لهم حُسن حاله، فأمر فبُني على قبره و عيّن له خادماً يخدم قبره.٣
و هذه المسائل بأجمعها تدلّ على ارتباط عالم البرزخ مع هذا العالم، كما أنّ الروايات الدالّة على اطّلاع عالم الأرواح على امور هذا العالم غاية في العجب و الغرابة.
رؤيا آقا ميرزا نجم الدين شريف العسكريّ، جدّتنا بشأن الغذاء الملكوتيّ
حصل في سنة ۱٣٦٤ هجريّة (أي قبل ٣٢ سنة) أن سافر إلى إيران المرحوم شيخ الفقهاء و المحدّثين، مجلسيّ زمانه، آية الله آقا الميرزا محمّد الطهرانيّ أعلى الله تعالى مقامه الشريف (و هو خالي لأبي) لزيارة ثامن الائمّة عليهم السلام مع جميع أقاربه، و كان من علماء الإسلام الأعلام، و كان يقيم في سامرّاء، و له تأليفات نفيسة منها كتاب «مستدرك بحار الأنوار» الذي لم يؤلّف مثله منذ زمن العلّامة المجلسيّ.
و كان له من العمر آنذاك خمس و ثمانون سنة، و كان رجلًا عابداً متهجّداً زاهداً حسن الخُلق، كما كان أولاده و أصهاره جميعاً من العلماء و أصحاب الفضل و الكمال و التقوى.
و بطبيعة الحال فقد ورد على والدنا المرحوم آية الله الحاج السيّد محمّد الصادق الطهرانيّ و كان من علماء طهران، للقرابة و الصلة بينهما، فكان يتردّد عليه لزيارته كلّ يوم جماعة من العلماء الأعلام و التجّار و ذوي الحرف المحترمين، فكان المنزل يحتشد بهم.
و كان أشخاصُ عدّة قد اختصّوا باستقبال الواردين، و من بينهم أعمامنا (أبناء اخته) سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد تقي، و الحاجّ السيّد كاظم، و الحاجّ السيّد محمّد رضا، فكانوا يأتون في بداية موعد تقديم طعام الفطور و يمكثون إلى ما بعد تقديم طعام العشاء و انقضاء شطر من الليل ثمّ يعودون إلى منازلهم.
و انقضت على هذه الحال أيّام، ثمّ حصل يوماً أن التفتَ الابن الأكبر للمرحوم خالنا الميرزا محمّد (و هو الميرزا نجم الدين و كان بدوره من
العلماء البارزين و من ذوي التأليفات العديدة) إلى أحد أعمامنا (الحاجّ السيّد محمّد رضا) فقال له: رأيتُ ليلةَ البارحة عمّتي (أي والدة المُخاطَب) فقالت لي في عالم الرؤيا: قل لمحمّد رضا: لما ذا لم تُرسل طعامنا منذ عدّة ليالٍ؟ فحاول عمّنا أن يتذكّر شيئاً بَيدَ أنه لم يفلح، ثمّ جاء إلى منزلنا في اليوم التالي فقال: لقد وجدتُ معنى هذه الرؤيا و تفسيرها، فلقد اعتدتُ منذ ثلاثين سنة أن اصلّي ركعتي صلاة الوالدين بعد صلاة المغرب و العشاء فأهدي ثوابها إلى روح أبي و امّي. و ها قد مرّت عدّة ليال لم استطع خلالها أداء تلك الصلاة لانشغالي باستقبال الواردين، فجاءت والدتي في عالم النوم إلى الميرزا نجم الدين فعتبت عليّ لعدم إرسالي طعامها الملكوتيّ. و كان الميرزا نجم الدين يسكن سامرّاء و كان قد قدم حديثاً إلى طهران، أمّا عمّنا فكان يسكن طهران، و لم يكن للميرزا نجم الدين اطّلاع على عمل عمّي أبداً. فكانت هذه الرؤيا مدعاة لإثارة تعجّب جميع الحاضرين، و هذا هو ارتباط عالم الأرواح مع عالم الطبع و الشهادة.
اليوم هو السابع عشر من شهر رمضان و يوم وقعة بدر التي منّ الله تعالى فيها على المسلمين، فنصر اولئك القلّة على تلك الجموع الكثيرة التي جاءت بعدّتها و عددها بهدف استئصال المسلمين و القضاء على رسول الله.
رؤيا أمير المؤمنين لرسول الله ليلة التاسع عشر سَحَراً و شكواه له من أُمّته
و قد صادفت شهادة أمير المؤمنين عليه السلام في شهر رمضان لسنة أربعين للهجرة، و كان عليه السلام قد أحيا ليلة التاسع عشر من الشهر إلى الصباح شكراً للَه على الفتح الذي منّ به على المسلمين يوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانيّة من الهجرة، و كان قد أبقى أهل بيته أيقاظاً لإحياء تلك الليلة.
ورد في نهج البلاغة:
وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في سُحْرَةِ۱ الْيَومِ الذي ضُرِبَ فِيهِ:
مَلَكَتْنِي عَيْنَايَ وَ أنَا جَالِسٌ فَسَنَحَ لي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَاذَا لَقِيتُ مِنْ امَّتِكَ مِنْ الأوْدِ وَ اللَّدَدِ!
فَقَالَ: ادْعُ عَلَيْهِمْ، فَقُلْتُ: أبْدَلَنِي اللهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَ أبْدَلَهُمْ بِي شَرَّاً لَهُمْ مِنِّي.٢
و يروي ابن أبي الحديد المعتزليّ في «شرح نهج البلاغة» عن أبي الفرج الإصفهانيّ، عن محمّد بن جرير الطبريّ بإسناده المذكور في كتابه عن عبد الرحمن السلميّ:
قَالَ: قَالَ لي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خَرَجْتُ وَ أبِي يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إنِّي بِتُّ الَّليْلَةَ أوقِظُ أهْلِي لأنهَا لَيْلَةُ الْجُمْعَةِ صَبِيحَةُ يَوْمِ بَدْرٍ، لِتِسْعِ عَشْرَةَ لَيْلَة خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَلَكَتْنِي عَيْنَايَ فَسَنَحَ لي رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَاذَا لَقِيتُ مِنْ امَّتِكَ مِنَ الأوْدِ وَ الَّلدَدِ! فَقَالَ لِي: ادْعُ عَلَيْهِمْ فَقُلْتُ: اللَهُمَّ أبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَ أبْدِلْهُمْ بِي مَنْ هُوَ شَرُّ مِنِّي. قَالَ الْحَسَنُ: وَ جَاءَ ابْنُ أبِي السّاجِ٣ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ فَخَرَجَ فَخَرَجْتُ خَلْفَهُ، فَاعْتَوَرَهُ الرَّجُلَانِ، فَأمَّا
أحَدُهُمَا فَوَقَعَتْ ضَرْبَتُهُ في الطَّاقِ، وَ أمَّا الآخَرُ فَأثْبَتَهَا في رَأسِهِ.۱
و كان ينادي في تلك الحال: فُزْتُ وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ، فقد كانت الشهادة فوزاً لديه عليه السلام، و القتل في سبيل الله سعادة و نعيماً و جنّة.
قدوم أمير المؤمنين عليه السلام إلى كربلاء و شمّه تربتها
يروي ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» عن نصر، بإسناده عن هرثمة بن سليم، قال: غزونا مع عليّ عليه السلام صفّين، فلمّا نزل بكربلاء صلّى بنا، فلمّا سلّم رفع إليه من تربتها فشمّها ثمّ قال:
وَاهاً لَكِ يَا تُرْبَةُ لَيُحْشَرَنَّ مِنْكِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
قال: فلمّا رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته جرداء بنت سمير و كانت من شيعة عليّ عليه السلام حدّثها هرثمة فيما حدث فقال لها: أ لا أعجبك من صديقك أبي حسن؟ قال: لمّا نزلنا بكربلاء و قد أخذ حفنة من تربتها و شمّها و قال:
وَاهاً لَكِ يَا تُرْبَةُ لَيُحْشَرَنَّ مِنْكِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، و ما علمه بالغيب؟
فقالت المرأة له: دعنا منك أيّها الرجل، فإنّ أمير المؤمنين لم يقل إلّا حقَّاً.
قال: فلمّا بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين عليه السلام كنتُ في الخيل التي بعث إليهم، فلمّا انتهيتُ إلى الحسين عليه السلام و أصحابه عرفتُ المنزل الذي نزلنا فيه مع عليّ عليه السلام و البقعة التي رفع إليه من تربتها و القول الذي قاله، فكرهتُ سيري، فأقبلتُ على فرسي حتّى وقفتُ على الحسين عليه السلام فسلّمتُ عليه و حدّثته بالذي سمعتُ
من أبيه في هذا المنزل.
فقال الحسين عليه السلام: أمعنا أم علينا؟ فقلتُ: يا بن رسول الله لا معك و لا عليك! تركتُ ولدي و عيالي أخاف عليهم من ابن زياد.
فقال الحسين: فتولّ هرباً حتّى لا ترى مقتلنا، فو الذي نفسُ حُسين بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحد ثمّ لا يُعيننا إلّا دخل النار.
قال: فأقبلتُ في الأرض أشتدّ هرباً حتّى خفيَ عليّ مقتلهم.
و روي نصر عن أبي جحيفة، قال: جاء عروة البارقيّ إلى سعد بن وهب فسأله و قال: حديث حدّثتناه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
قال: نعم، بعثني مخنف بن سليم إلى عليّ عليه السلام عند توجّهه إلى صفّين، فأتيته بكربلاء فوجدتُه يُشير بيده و يقول: هَا هُنَا هَا هُنَا.
فقال له رجل: و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟
فقال: ثَقَلٌ لآلِ مُحَمَّدٍ يَنْزِلُ هَا هُنَا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكُمْ وَ وَيْلٌ لَكُمْ مِنْهُمْ.
فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟
قال: ويلٌ لهم منكم: تقتلونهم، و ويلٌ لكم منهم: يدخلكم الله بقتلهم إلى النار.
قال نصر: و قد روى هذا الكلام على وجه آخر، أنهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَوَيْلٌ لَكُمْ مِنْهُمْ وَ وَيْلٌ لَكُمْ عَلَيْهِمْ.
فقال الرجل: أمّا ويلٌ لنا منهم فقد عرفناه، فويلٌ لنا عليهم ما معناه؟
فقال: تَرَوْنَهُمْ يُقْتَلُونَ لَا تَسْتَطِيعُونَ نُصْرَتَهُمْ.
وروى نصر بسنده، عن الحسن بن كثير، عن أبيه أنّ عليّاً عليه السلام أتى كربلاء فوقف بها، فقيل له: يا أمير المؤمنين هذه كربلاء.
فقال: ذَاتُ كَرْبٍ وَ بَلَاءٍ. ثمّ أومأ بيده إلى مكان، فقال:
هَا هُنَا مَوْضِعُ رِحَالِهِمْ وَ مُنَاخُ رِكَابِهِمْ، ثمّ أومأ بيده إلى مكان آخر فقال: هَا هُنَا مُرَاقُ دِمَائِهِمْ، ثمّ مضى إلى سَابَاط.۱
أورد المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» عن «الخرائج و الجرائح» عن الإمام محمّد الباقر، عن أبيه عليهما السلام، قال:
مَرَّ عَلِيٌّ عَلَيْهِالسَّلَامُ بِكَرْبَلَا فَقَالَ لَمَّا مَرَّ بِهِ أصْحَابُهُ وَ قَدْ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ يَبْكِي وَ يَقُولُ: هَذَا مُنَاخُ رِكَابِهِمْ وَ هَذَا مُلْقَى رِحَالِهِمْ هَا هُنَا مُرَاقُ دِمَائِهِمْ، طُوبَى لَكِ مِنْ تُرْبَةٍ عَلَيْهَا دِمَاءُ الأحِبَّةِ.٢
و قال الإمام الباقر عليه السلام:
خَرَجَ عَلِيٌّ يَسِيرُ بِالنَّاسِ، حَتَّى إ ذَا كَانَ بِكَرْبَلَا عَلَى مِيْلَيْنِ أ وْ مِيلٍ تَقَدَّمَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ حَتَّى طَافَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْمِقْذَفَانِ.
فَقَالَ: قُتِلَ فِيهَا مَائِتَا نَبِيٍّ وَ مَائِتَا سِبْطٍ كُلُّهُمْ شُهَدَاءُ، وَ مَنَاخُ رِكَابٍ وَ مَصَارِعُ عُشَّاقٍ شُهَدَاءٍ، لَا يَسْبِقُهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ؛ وَ لَا يَلْحَقُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ ٣
...۱
نيست فرقى در ميان حبّ و عشق | *** | شام در معنى نباشد جُز دمشق |
و لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام طافحاً بالمحبّة للإمام الحسن و الإمام الحسين عليهما السلام، فكان يمنعهما من التقدّم في الحروب و يقول إنّ اهتمام معاوية منصبّ في قتل نور بصر رسول الله هذين و في إخلاء الأرض من نسل رسول الله و ذرّيّته. لكنّه عليه السلام كان يعطي السيف لمحمّد بن الحنفيّة ولده الشجاع الرشيد الآخر من غير الزهراء عليها السلام، فيأمره بالفتح و يقول له في حرب الجمل:
تَزُولُ الْجِبَالُ وَ لَا تَزُلْ، عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أعِرِ اللهَ جُمْجُمَتَكَ، تِدْ في الأرْضِ قَدَمَكَ. ارْمِ بِبَصَرِكَ أقْصَى الْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ وَ اعْلَمْ أ نَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ.۱
الْمَجْلِسُ الثَامِنْ عَشِر: ارْتِبَاط الأرْوَاح مَعَ أهْلِ الدُّنْيَا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(مطالب القيت في اليوم الثامن عشر من شهر رمضان المبارك)
الحمد لله ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلَّى اللهُ على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
أرواح المؤمنين في البرزخ في هيئة إنسانيّة
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
ذكرنا أنّ أرواح المؤمنين الذين يرحلون عن الدنيا تتمثّل و تتصوّر في عالم البرزخ في صور برزخيّة إنسانيّة؛ بينما تتمثّل أرواح الكفّار في عالم البرزخ في صور الشياطين و الملكات التي كانت لديهم، و التي نشأت من صفاتهم البهيميّة.
يروي الشيخ الطوسيّ في كتابه «الأمالي» عن الشيخ المفيد، عن ابن قولويه، عن محمّد بن همام، عن الحميريّ، عن ابن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن الحسين بن أحمد، عن ابن ظبيان قال: كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام، فقال: ما يقول الناس في
أرواح المؤمنين بعد موتهم؟
فقلت: يقولون: تكون في حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ.
فقال: سبحان الله! المؤمنُ أكرمُ على الله من ذلك، إذا كان ذلك أتاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و معهم ملائكة الله عزّ و جل المقرّبون، فإن أنطق الله لسانَه بالشهادة له بالتوحيدِ، و للنبيّ صلّى الله عليه و آله بالنبوّة، و الولاية لأهل البيت شهد على ذلك رسول الله صلّى الله عليه و آله و عليٌّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و الملائكة المقرّبون معهم؛ و إن اعتقل لسانُه خَصَّ اللهُ نبيَّهُ صلّى الله عليه و آله بعلم ما في قلبه فشَهَد به، و شهدَ على شهادةِ النبيّ عليُّ و فاطمة و الحسن و الحسين، على جماعتهم من اللهِ السلامُ، و من حَضَرَ معهم من الملائكة، فإذا قبضه الله إليه صيَّر تلك الروحَ إلى الدنيا في صورةٍ كصورته فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.۱
كما يروي الكلينيّ نظير هذه الرواية في «الكافي» بسند آخر عن الإمام الصادق عليه السلام.٢
و يروي في «الكافي» أيضاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد الحنّاط، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قلتُ له: جُعلت فداك! يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش.
فقال: لّا، الْمُؤْمِنُ أكْرَمُ عَلَى اللهِ منْ أ نْ يَجْعَلَ رُوحَهُ في حَوْصَلَةِ
طَيْرٍ، لَكِنْ في أبْدَانٍ كَأبْدَانِهِمْ.۱
كما يروي في «الكافي» بسنده المتّصل عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
إِ نَّ الأرْوَاحَ في صِفَةِ الأجْسَادِ في شَجَرَةِ الْجَنَّةِ تَعَارَفُ وَ تَسَاءَلُ، فَإِذَا قَدِمَت الرُّوحُ عَلَى الأرْوَاحِ تُقُولُ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا قَدْ أفْلَتَتْ مِنْ هَوْلٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ يَسْألُونَها: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ وَ مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟
فَإِنْ قَالَتْ لَهُمْ: تَرَكْتُهُ حَيّاً، ارْتَجَوْهُ؛ وَ إ نْ قَالَتْ لَهُمْ: قَدْ هَلَكَ، قَالُوا: قَدْ هَوَى هَوَى.٢
و يروي في «الكافي» بسنده المتّصل عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
سَألْتُهُ عَنْ أرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَالَ: في حُجُرَاتٍ في الْجَنَّةِ يَأكُلُونَ مِنْ طَعَامِهَا وَ يَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِهَا وَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أقِمْ لَنَا السَّاعَةَ وَ أنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا وَ ألْحِقْ آخِرَنَا بِأوَّلِنَا.٣
و أورد البرقيّ في «المحاسن» بسنده المتّصل عن الإمام الصادق عليه السلام نظير هذه الرواية مضافاً إليها حال أرواح الكفّار الذين يسكنون في حُجرات في النار و يأكلون من أكل أهل النار و يشربون من شرابهم.٤
و بطبيعة الحال فإنّ الأخبار الواردة في هذا الباب، في أنّ صورة المؤمن في البرزخ في هيئة إنسانيّة، كثيرة و متعدّدة، إلّا أننا ذكرنا عدّة روايات من باب المثال.
نزول الأرواح إلى الدنيا لرؤية أهليها
كما أنّ أرواح المؤمنين تزور أهليها و تلتقي معهم، إذ تنزل روح
المؤمن إلى الدنيا بتلك الهيئة المتصوّرة فتلتقي مع أرحامها و أهليها و بمن تحبّ، و تطّلع على أحوالهم و ما يجري عليهم.
يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن حفص ابن البختريّ، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَزُورُ أهْلَهُ فَيِرَى مَا يُحِبُّ وَ يُسْتَرُ عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، وَ إِ نَّ الْكَافِرَ لَيَزُورُ أهْلَهُ فَيِرَى مَا يَكْرَهُ وَ يُسْتَرُ عَنْهُ مَا يُحِبُّ.
قَالَ: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَزُورُ كُلَّ جُمُعَةٍ، وَ مِنْهُمْ مَنْ يَزُورُ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ.۱
و روى في «الكافي» بسنده عن أبي بصير، أنّ الصادق عليه السلام قال: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ وَ لَا كَافِرٍ إِلَّا وَ هُوَ يَأتِي أهْلَهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِذَا رَأى أهْلَهُ يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ حَمِدَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَ إ ذَا رَأى الْكَافِرُ أهْلَهُ يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ كَانَتْ عَلَيْهِ حَسْرَةً.٢
و يروي في «الكافي» بسنده عن إسحاق بن عمّار، عن الإمام أبي الحسن مو سى بن جعفر عليهما السلام، قال:
سَألْتُهُ عَنِ الْمَيِّتِ يَزُورُ أهْلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقُلْتُ: في كَمْ يَزُورُ؟ قَالَ: في الْجُمْعَةِ وَ في الشَّهْرِ وَ في السَّنَةِ عَلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ.
فَقُلْتُ: في أي صُورَةٍ يَأتِيهِمْ؟
قَالَ: في صُورَةِ طَائِرٍ لَطِيفٍ يَسْقُطُ عَلَى جُدُرِهِمْ وَ يشرِفُ عَلَيْهِمْ؛ فَإنْ رَآهُمْ بِخَيرٍ فَرِحَ، وَ إِ نْ رَآهُمْ بِشَرٍّ وَ حَاجَةٍ وَ حُزْنٍ اغْتَمَّ.٣
كما يروي في «الكافي» بسنده عند عبد الرحيم القصير، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الْمُؤْمِنُ يَزُورُ أهْلَهُ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، يَسْتَأذِنُ رَبَّهُ فيأذِنُ لَهُ، فيَبْعَثُ مَعَهُ مَلَكَيْنِ فَيَأتِيهِمْ في بَعضِ صُوَرِ الطَّيْرِ يَقَعُ في دَارِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ.۱
و بالطبع فإنّ قول الإمام هنا بأنّ الأرواح تقع على الجدران في هيئة الطيور ليس المقصود منه أنّ روح المؤمن سترتبط بهيئة الطير و الحيوان، أو أنّ الإنسان حين يرى أحياناً طائراً واقفاً على جدار البيت فإنّما هو روح ميّته المتوفي؛ بل إنّ الإمام عليه السلام كان يمثّل بهذه الطريقة أنّ روح المؤمن تتردّد و تطّلع على أحوال أهلها بنفس السهولة التي تقع فيها الطيور على جدران بيوتكم.
ورد في «جامع الاخبار» أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال:
فَوَ الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ يَرَوْنَ مَكَانَهُ وَ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ لَذَهَلُوا عَنْ مَيِّتِهِمْ وَ لَبَكَوا عَلَى نُفُوسِهِمْ، حَتَّى إ ذَا حُمِلَ الْمَيِّتُ عَلَى نَعْشِهِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوقَ النَّعْشِ وَ هُوَ يُنَادِي:
يَا أهْلِي وَ يَا وُلْدِي! لَا تَلْعَبَنَّ بِكُمُ الدُّنْيَا كَمَا لَعِبَتْ بِي، فَجَمَعْتُ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، ثُمَّ خَلَّفْتُهُ لِغَيْرِي، فَالْمَهْنَا لَهُ وَ التَّبِعَةُ عَلَيِّ؛ فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَا حَلَّ بِي.٢
إنّ ارتباط أرواح تلك الدنيا و علاقتها مع هذه الدنيا، من القوّة و المتانة بحيث إذا ما فُعل عمل خير هنا فإنّه سيسري إلى الأرواح المتّصلة و المرتبطة في ذلك العالم.
يروي الصدوق في «الأمالي» بسنده المتّصل عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: مرّ عيسى ابن مريم عليه
السلام بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: يا ربّ مررتُ بهذا القبر عام أوّل فكان صاحبه يُعذَّب، ثمّ مررتُ به العام فإذا هو ليس يُعذَّب؟
فأوحى الله عزّ و جلّ إليه: يا روح الله إنّه أدرك له ولدٌ صالح فأصلح طريقاً و آوى يتيماً فغفرتُ له بما عمل ابنُه.۱
و على هذا الأساس فقد قال الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله في الحديث المتّفق عليه بين الشيعة و العامّة:
مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَلَهُ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا.
و خلاصة الأمر، فإنّ الأخبار الواردة في أنّ صورة المؤمن و هيئته في البرزخ في صورة إنسان و هيئته كثيرة، و كذلك الروايات الدالّة على أنّ المؤمنين بل و الكافرين أحياناً يزورون أهليهم.
و لكن، أ يذهب الاحياء أيضاً لزيارة الموتى؟ نعم!
يروي الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» بسنده المتّصل عن عبد الله بن سليمان، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام:
قَالَ: سَألْتُهُ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ.
قَالَ: إ ذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَزُرْهُمْ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ في ضِيقٍ وُسِّعَ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ يَعْلَمُونَ بِمَنْ أتَاهُمْ في كُلِّ يَوْمٍ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانُوا سُدى.
قُلْتُ: فَيَعْلَمُونَ بِمَنْ أتَاهُمْ فَيَفْرَحُونَ بِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ، وَ يَسْتَوحِشُونَ لَهُ إ ذَا انْصَرَفَ عَنْهُمْ.٢
فوائد زيارة أهل القبور
إنّ لزيارة أهل القبور فائدة كبيرة، و خاصّة زيارة قبور العلماء و الشهداء و المقرّبين لساحة الله عزّ و جل. كما أنّ زيارة قبور الأئمّة عليهم السلام لها حكم الورود في الماء الكرّ الذي ينزّه الزائر و يطهّره من كلّ لوثٍ و دنس، لأنّ نتيجة الزيارة هي الارتباط مع روح المتوفى، حيث يستعين الزائر بتلك الروح و يطلب المساعدة منها.
و عليه فكلّما كانت روح المتوفى أطهر و أنزه و أسمى، كان نصيب الزائر أكثر و أوفر.
و باعتبار أنّ روح المتوفى لها ارتباط أوثق و أكثر بقبره، فإنّ زيارة الأرواح عند قبورها لها أثر أكبر و أعمق، لذا فإنّ المؤمن الزائر يربط نفسه بواسطة نافذة القبر بروح ذلك المعصوم المقرّب إلى ساحة الله تعالى، و يرتبط بهذه الطريقة مع عالم المعنى و الأرواح بكلّ سعته فيفيد منه.
و من المشهور أنّ الحاجات تُقضى و تُستجاب أكثر عند قبور العلماء، و أساساً فإنّ هناك نورانيّة و وحدة أكثر في الأمكنة التي دُفن فيها الأجلّاء و أولياء الله، إذ من المحسوس أنّ هناك إضاءة وسعة خاصّة و انشراحاً في تلك البقاع و الأماكن، و أنها تخلو من الإحساس بالظلمة و الضيق، خلافاً لقبور الكفّار المظلمة و الباعثة على الملل و الضيق و الانقباض.
يقول المرحوم آية الحقّ العارف بالله الحاجّ الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ الهمدانيّ رضوان الله تعالى عليه: كنت في قديم الأيّام لا أذهب لزيارة قبور غير المعصومين و الأئمّة، فقد كنت أتصوّر أنّ الانبساط و الانشراح يحصل فقط من قبور الأئمّة عليهم السلام الذين وصلوا إلى مقام الطهارة المطلقة، و أن ليس من أثر مترتّب على زيارة قبور غيرهم، حتّى تشرّفت بالسفر إلى العتبات المقدّسة للمرّة الاولى لأداء الزيارة مع جمع من تلامذتي الروحيّين. حيث توجّهنا يوماً من أيّام الإقامة في الكاظمين
عليهما السلام من بغداد إلى المدائن للتفرّج على بناء المدائن و طاق كسرى المكسور، و كان حقّاً باعثاً على العِظة و الاعتبار.
ثمّ إنّنا تحرّكنا بعد التفرّج على المدائن و أداء ركعتي الصلاة المندوبة في ذلك الطاق، إلى قبر سلمان و حذيفة الواقعين قرب ذلك الطاق، فجلسنا قرب قبر سلمان في جمع من الأحباب و الأصدقاء، ليس بقصد أداء الزيارة بل لمجرّد الاستراحة و إزالة التعب، فاستقبلنا سلمان فجأة و تجلّي على حقيقته و في هيئته الواقعيّة، فكانت روحه في غاية الصفاء و اللطافة ليس فيها ذرّة من الكدورات، و كانت في غاية السعة و النقاء بحيث أغرقتنا في عالم من اللطف و المحبّة و السعة و الصفاء، و أدخلتنا في فضاء وسيع و لطيف من عالم المعنى خالٍ من أي مشكلة و عقدة، بحيث أشبه في منتهي لطافته و صفائه فضاء الجنّة، و كان كالضمير المنير للعارف بالله أشبه بالماء الصافي الزلال الرقراق و بنسائم الهواء اللطيفة، فأحسست بالخجل يعتريني من عدم قدومي عنده للزيارة، ثمّ إنّنا شرعنا بأداء الزيارة. و صرت منذ ذلك الوقت أذهب أيضاً لزيارة قبور غير الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، من العلماء بالله و المقرّبين و أولياء الله، و أستعين بهم، و صرت أذهب لزيارة قبور المؤمنين في المقبرة، و اوصي تلامذتي بأن لا يُحرموا من هذا الفيض الإلهيّ.
كيفيّة زيارة أهل القبور
نقل في «مستدرك الوسائل» عن السيّد علي بن طاووس في «مصباح الزائر» إذا أردتَ زيارة المؤمنين فينبغي أن يكون ذلك يوم الخميس، و إلّا ففي أي وقت شئت، و صِفتها أن تستقبل القبلة و تضع يدك على القبر و تقول:
اللَهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتَهُ، وَ صِلْ وَحْدَتَهُ، وَ آنِسْ وَحْشَتَهُ، وَ آمِنْ رَوْعَتَهُ، وَ أسْكِنْ إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَتِكَ رَحْمَةً يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ، وَ ألْحِقْهُ
بِمَنْ كَانَ يَتَوَلَاهُ، ثُمَّ اقْرَأ إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
و روي في صفة زيارتهم رواية اخرى عن محمّد بن مسلم قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: نزور الموتى؟ فقال: نعم.
قلتُ: فيعلمون بنا إذا أتيناهم؟ قال: إي و الله، ليعلمون بكم و يفرحون بكم و يستأنسون إليكم.
قلتُ: فأيّ شيءٍ نقول إذا أتيناهم؟ قال: قُلْ:
اللَهُمَّ جَافِ الأرْضَ عَنْ جُنُوبِهِمْ، وَ صَاعِدْ إِلَيْكَ أ رْوَاحَهُمْ، وَ لَقِّهِمْ مِنْكَ رِضْوَاناً، وَ أسْكِنْ إِلِيْهِمْ مِنْ رَحْمَتِكَ مَا تَصِلْ بِهِ وَحْدَتَهُمْ، وَ تُؤْنِسُ بِهِ وَحْشَتَهُمْ، إنَّكَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
و إذا كنت بين القبور فاقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إحدي عشر مرّة و أهد ذلك لهم فقد روي أنّ الله يُثيب من يفعل ذلك على عدد الأموات. و قد تقدّم باقي أخبار الباب في كتاب الطهارة في أبواب الدفن.۱
أقول: روي الحرّ العامليّ الرواية الاولي التي أوردها السيّد في «مصباح الزائر»، و ذلك عن الشيخ الطوسيّ بسنده عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال: مررت مع أبي جعفر [محمّد الباقر] عليه السلام بالبقيع، فمررنا بقبر رجل من الشيعة. قال: فوقف عليه ثمّ قال: اللَهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتَهُ إلى آخر هذا الدعاء.
كما ذكر في «وسائل الشيعة» ج ۱، ص ۱٦۷ و ۱٦۸، كتاب الطهارة، في أبواب زيارة أهل القبور و قراءة الأدعية الواردة رواياتٍ كثيرةً بهذه المضامين. و يروي في ص ۱٦۸ من نفس المجلّد عن محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن
سنان، قال:
قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام:
كَيْفَ التَّسْلِيمُ عَلَي أهْل الْقُبُورِ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، تَقُولُ: السَّلَامُ عَلَي أهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤمِنِينَ وَ الْمُسْلِمِينَ، أ نْتُمْ لَنَا فَرْطٌ؛ وَ نَحْنُ إ نْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَا حِقُونَ.
و أورد كذلك عدّة روايات اخرى قريبة من هذا المضمون. و الخلاصة فإنّ آثار نورانيّة روح المؤمن ظاهرة في قبره أيضاً، و آثار ظلمة روح الكافر مشهودة في قبره أيضاً.
اجتماع أرواح المؤمنين في وادي السلام
و قد ورد في روايات عديدة أنّ أرواح المؤمنين تجتمع في وادي السلام؛ وادي السلام الذي هو وادي الأمن و الأمان و السلامة، حيث نداء الملائكة للمؤمنين:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ.۱
إنّ ظهور ذلك الوادي في هذه الدنيا، أرضٌ في النجف الأشرف وادي الولاية، في ظهر الكوفة، ذلك لأنّ النجف الأشرف لم تكن قد صارت مدينة في سابق الأيّام قبل دفن الجسد المطهّر للإمام أمير المؤمنين عليه السلام، بل كانت صحراء تبعد عن الكوفة بفرسخ واحد، لذا يقال للنجف: ظهر الكوفة. يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن أحمد بن عمر، مرفوعاً عن الإمام الصادق عليه السلام:
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِ نَّ أخِي بِبَغْدَادَ، وَ أخَافُ أ نْ يَمُوتَ بِهَا.
فَقَالَ: مَا تُبَالِي حَيْثُمَا مَاتَ؛ أمَا إنَّهُ لَا يَبْقَي مُؤْمِنٌ في شَرْقِ الأرْضِ وَ غَرْبِهَا إِلَّا حَشَرَ اللهُ رُوحَهُ إلى وَادِي السَّلَامِ.
فقلت له: و أين و ادي السلام؟
قال: ظهر الكوفة؛ أما إني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون.۱
كما يروي في «الكافي» بسنده عن عِبَايَة الأسَدِيّ، عن حَبَّة العُرَنِيّ قال: خرجتُ مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى الظَّهْر، فوقف بوادي السلام كأنه مخاطِبٌ لأقوام، فقمتُ بقيامه حتّي أعييت، ثمّ جلستُ حتّي مللت، ثمّ قمتُ حتّي نالني مثل ما نالني أوّلًا، ثمّ جلستُ حتّي مللتُ، ثمّ قمتُ و جمعت ردائي فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إنّي قد أشفقتُ عليك من طولِ القيام فراحةُ ساعة، ثمّ طرحتُ الرداء ليجلس عليه، فقال: يا حبّة إن هُو إلّا محادثةُ مُؤمِنٍ أو مُؤَانسته. قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين، و إنّهم لكذلك؟
قال: نَعَمْ، وَ لو كُشفَ لَكَ لرأيتَهُمْ حلقاً حلقاً محتبين٢ يتحادثون.
فقلتُ: أجسامٌ أم أرواحٌ؟ فقال: أرواحٌ، و ما من مؤمنٍ يموتُ في بقيعةٍ من بقاعِ الأرضِ إلّا قيلَ لروحه: إلحقي بوادي السَّلَامِ؛ و إنّها لَبقعةٌ مِنْ جنّةِ عَدْن.٣
و قال في كتاب «المختصر» للشيخ حسن بن سليمان و هو من معاريف تلامذة الشهيد الثاني: روي الفضل بن شاذان في كتاب «القائم» عليه السلام، عن ابن طريف، عن ابن نباته في حديث طويل يذكر فيه أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خرج من الكوفة و مرّ حتّي أتي الغريّين٤ فجازه
فلحقناه و هو مستلقٍ على الأرض بجسده ليس تحته ثوب، فقال له قنبر: يا أمير المؤمنين، أ لا أبسط لك ثوبي تحتك؟
قال: لا، هل هي إلّا تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟
قال الأصبغ: يا أمير المؤمنين، تربة مؤمن قد عرفناه كانت أو تكون فما مزاحمته في مجلسه؟
فقال: يا ابن نباته، لو كُشف لكم لرأيتم أرواح المؤمنين في هذا الظَّهْر۱ حلقاً يتزاورون و يتحدّثون، إنَّ في هذا الظَّهر روحَ كُلِّ مؤمنٍ و بوادي بَرَهُوت نسمة كُلِّ كافرٍ.٢
فالمؤمنون في وادي السلام في التذاذ و مسرّة، ثملون بكأس المحبّة و الولاية، و طافحون بالعشق و البهجة و السرور، لذا فإنّهم لا يحسّون بمرور الزمن البرزخيّ إلى يوم القيامة.
اجتماع أرواح الكفّار في برهوت
أمّا الكفّار الذين قصرت أيديهم عن العلم و المعرفة، و حُرمت أرواحهم من بلّ الصدي من كأس معين الولاية المتدفّق، فهم مجتمعون في الصحراء القاحلة ل «برهوت اليمن».
ذرّة ذرّة كاندرين أرض و سماست | *** | جنس خود را همچو كاه و كهرباست |
نوريان مر نوريان را جاذبند | *** | ناريان مر ناريان را طالبند٣ |
إنّ طيّ الزمان إذا ما كان أمراً نسبياً فإنّه يوضّح هذه المسألة جيّداً، فكم هو صعب و عسير مرور الزمان لأهل البرهوت! و كم هو طويل و مليء بالحوادث و كم هو قاصم و مؤذٍ! لكأنّ كلّ لحظة منه سنوات طوال. و كم هو مريح لطيف سريع الانقضاء لأهل وادي السلام، الوادي الأيمن! لكأنّ سنةً منه تمرّ و تطوي في لحظة واحدة.
و على كلّ حال فإنّ الإحساس بمرور الزمن معدوم في مجالس الأنس و الخلوة بالحبيب، و في مقام الوحدة ذلك، حيث تتنزّه الأرواح من صدأ الكثرات و التعلّقات و تمتزج معاً في مقام الصفاء و المودّة و المؤانسة، و تذوب في بعضها كما يمتزج اللبن و السكّر و الشهد، فليس من سبيلٍ هناك للإحساس بمرور الزمن الذي هو من آثار المادّة، و لا لإدراك طيّه التدريجيّ، و ربّما كان معنى طيّ الزمان لأولياء الله تعالى هو هذا المعنى.
و على العكس من ذلك، فإنّ كلّ لحظة تمرّ في سجون الفراق و البُعد عن الحبيب و التعلّقات كأنها سنة، فالتوغّل في الكثرات و توهم هذه التعلّقات يُطيل الزمان في القوي المتخيّلة، بحيث تبدو كلّ ساعة منه طويلة كأطول ليلة من ليالي الشتاء۱، بحيث يبقي الشخص المنتظر مترقّباً على الدوام لطلوع فجر صبح الأمل و الوصول و الخلوة و الانس.
من پير سال و ماه نيم يار بي وفاست | *** | بر من چو عمر مىگذرد پير از آن شدم٢ |
و بطبيعة الحال فكما أنّ الأموات يتجسّدون في صور معيّنة، فإنّ الأفراد الذين وصلوا إلى مقام القُرب من الحضرة الأحديّة لله عزّ و جلّ و الذين انفتحت بصائرهم، يستطيعون أن يشاهدوا اولئك الأموات و يتحدّثون معهم.
يروي محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب «بصائر الدرجات» بسنده المتّصل عن الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام، قال:
خرجتُ مع أبي إلى بعض أمواله، فلمّا برزنا إلى الصحراء استقبله شيخ أبيض الرأس و اللحية فسلّم عليه، فنزل إليه أبي أسمعه يقول له: جُعلت فداك! ثمّ جلسا فتساءلا طويلًا، ثمّ قام الشيخ و انصرف و ودّع أبي و قام ينظر في قفاه حتّي تواري عنه، فقلتُ لابي: من هذا الشيخ الذي سمعتُك تقول له ما لم تقله لأحد؟ قال: هذا أبي.۱
كما يروي في نفس كتاب «بصائر الدرجات» بسنده المتّصل عن أبي البلاد قال: قلتُ لأبي الحسن الرضا عليه السلام: حدّثني عبد الكريم بن حسّان عن عبيدة بن عبد الله بن بشير الخثعميّ، عن أبيك أنه قال: كنتُ ردف أبي و هو يريد العُرَيض.٢ قال: فلقيه شيخ أبيض الرأس و اللحية يمشي. قال: فنزل إليه فقبّل بين عينيه، فقال إبراهيم: و لا أعلمه أنه قبّل يده ثمّ جعل يقول له: جُعلت فداك، و الشيخ يوصيه، فكان في آخر ما قال له: انظر الأربع ركعات فلا تدعها. قال: و قام أبي حتّي تواري الشيخ ثمّ ركب، فقلتُ: يا أبه، مَن هذا الذي صنعتَ به ما لم أرك تصنع بأحد؟ قال: هَذا أبي يا بُنيّ.٣
تجسّد الأعمال القبيحة في البرزخ في هيئة شيطان
و مجمل الأمر أنّ على الإنسان أن يعمل لئلّا يُمتحن في البرزخ، إذ لو سُلب منه إيمانه لا سامح الله بسبب جحوده و إنكاره، فإنّه سيبتلي بالسقوط في وادي البرهوت. بل إنّ على المؤمن أن يتحرّي طريق القُرب بواسطة الأعمال الصالحة لتستقرّ روحه و تأمن في وادي السلام و ليذهب يوم القيامة بشفاعة محمّد و أهل بيته عليهم السلام إلى جنّة الفردوس فيخلّد هناك، إذ ليس من شفاعة في البرزخ، و إذا ما كان سلوك المؤمن و أفعاله غير مرضيّة فإنّه سيوبّخ في البرزخ.
يروي الكليني في «الكافي» بسنده المتّصل عن عمرو بن يزيد قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إ ني سمعتك و أ نت تقول: كل شيعتنا في الجنة علي ما كان منهم.
قال: صدقتك، كلهم و الله في الجنة.
قال: قلت: جعلت فداك، إ ن الذنوب كثيرة كبائر.
فقال: أما في القيامة فكلهم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو و صي النبي و لكني و الله أتخوف عليكم في البرزخ.
قلت: و ما البرزخ؟
قال: القبر منذ موته إلى يوم القيامة.۱
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا.٢
يرحل الإنسان عن الدنيا فيُطوى ملفّ عمله، اللهم إلّا الأفراد الذين خلّفوا ذكري منهم تبقي بعدهم صدقةً جارية، كالوقف للُامور الخيريّة
و الأثر العلميّ و الدينيّ الذي يستفيد الناس منه، و الولد الصالح التي تُعدّ باقياتهم الصالحات.
أمّا نفس موجوديّة الإنسان التي هي نتيجة مجموع أعماله الصالحة أو الطالحة، فإنّها ستبقي قرينة مع الإنسان، فيبقي الإنسان مع قرينه إمّا مسروراً أو معذّباً. فإن كانت نفس موجوديّته صالحة فإنّ الإنسان سيلتذّ بها دوماً، أمّا إذا ما أعرض عن ذكر الله تعالى، فإنّ الله سبحانه سيجعل موجوديّته في هيئة شيطان يكون قرينه و صاحبه.
يروي في «الكافي» بسنده المتّصل عن بشير الدهّان، عن الإمام الصادق عليه السلام ضمن رواية طويلة عن البرزخ و سؤال الملكين منكر و نكير، أنّ المؤمن حين يجيب على سؤال الملكين عن التوحيد، فإنّهما يسألانه عن رسول الله فيقولان:
مَا تَقُولُ في هَذا الرَّجُلِ الذي خَرَجَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ؟
فَيَقُولُ: أعَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ تَسْألَانِي؟
فَيَقُولَانِ لَهُ: تَشْهَدُ أ نهُ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؟
فَيَقُولُ: أشْهَدُ أ نهُ رَسُولُ اللهِ.
فَيَقُولَانِ لَهُ: نَمْ نُوْمَةً لَا حُلُمَ فِيهَا، وَ يُفْسَحُ لَهُ في قَبْرِهِ تِسْعَةُ أ ذْرُعٍ وَ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلى الْجَنَّةِ وَ يرى مَقْعَدَهُ فِيهَا.
وَ إ ذَا كَانَ الرَّجُلُ كَافِراً دَخَلَا عَلَيْهِ وَ اقِيمَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ، عَيْنَاهُ مِنْ نُحَاسٍ؛ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَ مَا دِينُكَ؟ وَ مَا تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ الذي قَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ؟
فَيَقُولُ: لَا أ دْرِي.
فَيُخَلِيَّانِ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْهِ في قَبْرِهِ تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ تِنِّيناً؛ وَ لَوْ أ نَّ تَنِّيناً وَاحِداً مِنْهَا نَفَخَ في الأرْضِ مَا أنْبَتَتْ شَجَراً أبَداً، وَ يُفْتَح
لَهُ بَابٌ إلى النَّارِ وَ يرى مَقْعَدَهُ فِيهَا.۱
وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ.٢
فهذا الشيطان هو في الحقيقة ظهور و بروز نفسه الأمّارة و موجوديّته التي كانت تخفي عن الأنظار بواسطة الحُجب، و ها هي الحجب قد هُتكت في البرزخ فصارت موجوديّته جليّة للعيان يتمنّي الإنسان لو بَعُد عنها بُعد المشرقين.
أمّا إذا كان المتوفي مؤمناً ذا عمل حسن جميل، فإنّ ذلك القرين و الصاحب الملازم سيتجلّي أمامه في هيئة إنسان وسيم معطّر في هيئة حسنة.٣
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.٤
يحذّر أمير المؤمنين عليه السلام الإنسان من بداية نهج البلاغة إلى خاتمته، من الموت و عواقبه، و يوصيه في أمر التوحيد و المعاد و التقوى.
و لقد منّ الله تعالى على الإنسان برسولين، أحدهما العقل و هو الرسول الباطن الملازم للإنسان على الدوام، و الآخر الرسول الظاهر، و هو نبيّه صلّى الله عليه و آله، و لقد حرّض الإنسان و رغّبه في اتّباع دعوة
الرسول الباطن. لذا فإن لم يطوِ الإنسان طريق الحقّ، و لو تغافل عن الرسول الباطن و كَتَم عليه، و رفض الرسول الظاهر، فإنّه سيكون بذاته المقصّر دون ريب.
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ وَ أنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.۱
يقول الإنسان: إلهي، لما ذا جعلت جزائي هكذا؟
فيجيبه: هذه هي أعمالك التي سبق و قدّمتَها، قد جري تدوينها و تسجيلها في جهاز منظّم دقيق، و هذا هو حاصل و نتيجة عملك أنت، و هو عين عملك الذي تجلّي في هذا العالم في هذه الهيئة؛ لم أظلمك و لم اعاقبك و لم أبتلك بعقوبة سبقت عملك.
لقد كان نفس عملك في الدنيا فاسداً طالحاً، فظهر ذلك الفساد الآن و تجلّي؛ كما كانت الأعمال الصالحة للمؤمن في الدنيا حسنةً جميلة، و ها هو ذلك الحُسن قد ظهر الآن و تجلّى.
إنّ الإنسان يعجز بعينيه الطبيعيّتين هاتين أن يرى الشيء إذا تناهى في الصغر، فالميكروب لا يمكن رؤيته للعين التي لم تتسلّح بسلاح المجهر، لكنّه يصبح قابلًا للمشاهدة تحت العدسات المكبّرة التي تكبّره آلاف المرّات أو أكثر من ذلك.
و على هذا فإنّ أعمال الإنسان بلحاظ الصحّة و الفساد و الرياء و التظاهر و التجمّل و حبّ النفس و عبادة الشخصيّة، أو بلحاظ التقرّب إلى الله تعالى و الوصول و مقام اللقاء و الرضوان ستكون مختفية و مستترة في عالم المادّة و الطبع هذا، فهذه الجهة مختفية و كامنة في بطون الأعمال و أعماقها. و من ثمّ يبرز ظاهر العمل و يبدو للعيان، إلّا أنّ روحه كامنة
مستترة، لأنها لطيفة و دقيقة و مجهريّة تبعد عن منال أفكار العامّة. أمّا في ذلك العالم فإنّ الباطن سيتجلّي و يكبر آلاف المرّات، فيحاول الإنسان الفرار من أعماله السيّئة و يشمئزّ منها و يقرف، بينما سيُسرّ بأعماله الحسنة و يفرح و تغمره البهجة و الحبور بحيث يعجب من ذلك بنفسه، فهو لم يكن أساساً ليتصوّر أنّ الهيئة الحقيقيّة لأعماله الحسنة بهذه الفتنة و الروعة التي تخطف القلوب و تأسرها، فيسأل أعمالَه التي ظهرت و تجلّت في صور ملكوتيّة جميلة: من أنت؟
فتجيب: أنا الصلاة التي صلّيتها، و الزكاة التي أدّيتها، و أنا الحجّ الذي قُمتَ به، و الصدقة التي أعطيتها للفقير سرّاً في سبيل رضا الله تعالى.
و أنا الإعانة التي قدّمتها لمن ملكتَ أمرَه، و أنا ذلك الأدب و الاحترام الذي أبديتَه للكبار، و أنا مقام العبوديّة ذلك الذي كنتَ فيه مقابل الله سبحانه.
هيئة الأعمال التي تتجسّد في القبر
يروي البرقيّ في كتاب «المحاسن» بسنده عن أبي بصير، عن أحد الصادقين عليهما السلام قال: إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستّة صور، فيهنّ صورة أحسنهنّ وجهاً، و أبهاهنّ هيئة، و أطيبهنّ ريحاً، و أنظفهنّ صورة؛ قال: فتقف صورة عن يمينه، و اخرى عن يساره، و اخرى بين يديه، و اخرى خلفه، و اخرى عند رجله، و تقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه، فإن اتي عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلى أن يؤتي من الجهات الستّ. قال: فتقول أحسنهنّ صورة: و من أنتم جزاكم الله عنّي خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، و تقول التي عن يساره: أنا الزكاة، و تقول التي بين يديه: أنا الصيام، و تقول التي خلفه: أنا الحجّ و العمرة، و تقول التي عند رجليه: أنا برّ من وصلتَ من إخوانك؛ ثمّ يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، و أطيبنا ريحاً، و أبهانا هيئة؟
فتقول: أنا الولاية لآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.۱
عسى الله أن يجعل الإنسان تحت ولاية محمّد و آل محمّد، فكلّ ما هو موجود انّما هو في هذه الولاية، و هي الحبل المتّصل بين الإنسان و بين الله تعالى، فإن تمسّك به الإنسان على الدوام، رفعه من حضيض الناسوت و من أسفل السافلين فأوصله إلى أوج اللاهوت؛ و إلّا بقي الإنسان أسيراً في حضيض هوّة الطبع و النفس الامّارة، و ساقته الشياطين إلى الظلمات و التعاسة، و أوصلته إلى آلاف المحن و الابتلاءات التي يفوق كلّ منها الآخر تعاسةً و سوءاً.
و قد ورد في الرواية أنّ الإسلام بُني على خمس: الولاية و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ، وَ مَا نُودِيَ بِشَيْءٍ مِثْلَ مَا نُودِيَ بِالْوَلايَةِ.
فالولاية روح الأعمال، فإن وجدت الولاية قُبلت تلك الأعمال، و إلّا رُدّت، لأنّ العمل بدون الولاية ليس إلّا كمثل جسد ميّت لا روح فيه.
إنّ الصلاة و الصيام و الجهاد و الزكاة و الحجّ و الصدقات و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كلّها حيّة بالولاية، ميّتة بدونها و متعفّنة.
لقد كان أهل الكوفة و خوارج النهروان الذين كان أمير المؤمنين عليه السلام يئنّ و يشكو منهم في خطبه، بأجمعهم من ذوي الأعمال التي لها ظاهر يستلفت الأنظار في الزهد و الصلاح، و كانوا من أهل التعبّد و التهجّد، و كان بعضهم يحفظ القرآن و يجعل له حمائل فيتمسّك به، لكنّهم لم يكونوا يعرفون إمامهم، و كانوا يثورون عليه و يقفون في وجهه فيحاربونه.
كان العمل في هيئة صالحة، لكنه في الباطن طالح و فاسد و ملوّث
و مدنّس و ميّت متعفّن.
المخالفة لولاية أمير المؤمنين عليه السلام
لقد كان الخوارج يحاربون أمير المؤمنين عليه السلام بتهمة الكفر حيث حاولوا قتله بجرم الكفر، و كانوا أفراداً لم يتغلغل الإيمان من ظواهرهم إلى قلوبهم فيرسخ فيها، و لم تكن تلك الأعمال الصالحة لتؤثّر شيئاً في نفوسهم أو تُحيي أرواحهم و توقظها، و كانوا ممّن يفتقد هذا الربط و العلاقة، فكانوا يعيشون معزولين عن عالم المعنى.
و اولئكم هم الذين قال عليه السلام في حقّهم: اللهم أرحني منهم، و أرحهم مني، اللهم إنّي قد مللتهم و ملّوني وسَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي، بعد أن شكي منهم متألماً لمخالفتهم إيّاه.
يقول عليه السلام في خطبته:
وَ إنِّي وَ اللهِ لأظُنُّ أ نَّ هَؤلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَي بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إمَامَكُمْ في الْحَقِّ، وَ طَاعَتِهِمْ إمَامَهُمْ في الْبَاطِلِ، وَ بِأدَائِهِمُ الأمَانَةَ إلى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ، وَ بِصَلَاحِهِمْ في بِلَادِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ فَلَوْ ائْتَمَنْتُ أحَدَكُمْ عَلَي قُعْبٍ لَخَشِيتُ أ نْ يَذَهَبَ بِعِلَاقَتِهِ.
اللَهُمَّ إنِّي قَدْ مَلَلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي، فَأبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَ أبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي، اللَهُمَّ مُثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ في الْمَاءِ.۱
إخبار أمير المؤمنين عليه السلام عن شهادته
و كان عليه السلام يُخبر تكراراً عن شهادته على يد أشقى امّته، و كان ينتظر ذلك اليوم و يترقّبه بفارغ الصبر.
ورد في «الخرائج و الجرائح» للراونديّ، أنه ورد في الروايات
المتواترة أنه عليه السلام كان يُخبر عن شهادته، و عن أنه سيرحل عن الدنيا شهيداً، و يقول:
وَ اللهِ لَيَخْضِبُهَا مِنْ فَوْقِهَا يُومِئ إلى شَيْبَتِهِ.
و يقول: مَا يَحْبِسُ أشْقَاهَا أ نْ يَخْضِبَهَا بِدَمٍ!
ويقول: أتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَ فِيهِ تَدُورُ رَحَي السُّلْطَانِ،۱ ألَا وَ إنَّكُمْ حَاجُّوا الْعَامَ صَفّاً وَاحِداً وَ آيَةُ ذَلِكَ أني لَسْتُ فِيكُمْ.
وَ كَانَ يَفْطُرُ في هَذَا الشَّهْرِ لَيْلَةً عِنْدَ الْحَسَنِ وَ لَيْلَةً عِنْدَ الْحُسَيْنِ وَ لَيْلَةً عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ زَوجِ زَيْنَبٍ بِنْتِهِ لأجْلِهِا، لَا يَزِيدُ عَلَي ثَلَاثِ لُقَمٍ، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فقال: يأتيني أمر الله و أ نا خميص، إنما هي ليلة أ و ليلتان، فَاصِيبَ مِنْ اللَّيْلِ.٢
و يقول ابن شهرآشوب في «المناقب»:
رُوِي أنهُ جَرَحَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وَد رَأسَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَاءَ إلى رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَشَدَّهُ وَ نَفَثَ فِيهِ فَبَرَأوَ قَالَ: أيْنَ أكُونُ إ ذَا خُضِبَتْ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ؟٣
و يقول في «تذكرة الخواصّ»: يقول أحمد بن حنبل في «الفضائل»: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله:
يَا عَلِيُّ أتَدْرِي مَنْ أشْقَي الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ؟
قُلْتُ: اللهُ وَ رَسُولُهُ أعْلَمُ.
قَالَ: مَنْ يَخْضِبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ هَامَتِهِ.۱
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَ كَانَ أمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَبْطِئُ الْقَاتِلَ فَيَقُولُ: مَتَي يُبْعَثُ أشْقَاهَا؟٢
و قال: قدم على عليّ عليه السلام وفدٌ من الخوارج من أهل البصرة و فيهم رجل يُقال له الجعد بن نعجة، فقال له:
يَا عَلِيُّ اتَّقِ اللهَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ!
فَقَالَ: بَلْ أنَا مَقْتُولٌ بِضَرْبَةٍ عَلَي هَذَا فَتُخْضَبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ؛ يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأسِهِ؛ عَهْدٌ مَعْهُودٌ وَ قَضَاءٌ مَقْضِيُّ وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.٣
و روي عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاريّ (و كان أبو فضالة من أهل بدر و استشهد في صفّين في ركاب أمير المؤمنين عليه السلام) قال:
خرجتُ مع أبي عائداً لعليّ بن أبي طالب من مرض أصابه فَبِلَّ منه فقال له أبي: ما يُقيمك هاهنا بين أعراب جهينة، تحتمل إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك و أصحاب القرآن و صلّوا عليك. فقال عليّ عليه السلام: إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله عهد إليّ أن لا أموت حتّى تخضب هذه من هذه، أي لحيته من دم هامته.٤
و أورد ابن سعد في «الطبقات» عن أبي الطفيل، قال:
دعا علي الناس إلى البيعة، فجاء عبد الرحمن بن ملجم المراديّ، فردّه مرّتين، ثمّ أتاه فقال:
مَا يَحْبِسُ أشْقَاهَا لتُخْضَبَنَّ (أ وْ لَتُصْبَغَنَّ) هَذِهِ مِنْ هَذَا، يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأسِهِ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
اشْدُدْ حَيَازَ يمَكَ لِلْمَوْتِ | *** | فَإِنَّ الْمَوْتَ آتِيكَ |
وَ لَا تَجْزَعْ مِنَ الْقَتْلِ | *** | إ ذَا حَلَّ بِوَادِيكَ۱ |
و أورد في «الطبقات» عن محمّد، عن عبيدة، قال: قَالَ عَلِيٌّ: مَا يَحْبِسُ أشْقَاكُمْ أ نْ يَجِيءَ فَيَقْتُلُنِي؛ اللَهُمَّ قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمْونِي، فَأرِحْهُمْ مِنِّي وَ أرِحْنِي مِنْهُمْ.٢
كما روي في «الطبقات» عن سليمان بن القاسم الثقفيّ، قال: حدّثتني امّي عن امّ جعفر سُريّة عليّ، قالت:
إِنِّي لأصُبُّ عَلَي يَدَيْهِ الْمَاءَ إِذْ رَفَعَ رَأسَهُ فَأخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَرَفَعَهَا إلى أنْفِهِ فَقَالَ:
وَاهاً لَكِ لَتُخْضَبَنَّ بِدَمٍ!
قَالَتْ: فَاصِيبَ يَوْمَ الْجُمعَةِ.٣
الْمَجْلِسُ التَّاسعَ عَشِرَ: تَقَارُن الْمَلَكُوت الْبَرزَخِيّ لِلانْسَانِ مَعَهُ في الْبَرزَخِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(مطالب القيت في اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك)
الحمد لله رب العالمين و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم
و صلى الله على محمد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
جنة آدم و جنة البرزخ جنتان دنيويتان
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ۱
إن الإنسان الذي يرحل عن الدنيا يرد جنة أو جهنما تدعيان بالجنة و بجهنم البرزخيتين، و هما أضعف بكثير من جنة القيامة وجهنمها، و من ثم فقد جاء التعبير في بعض الروآيات الواردة بأنهم في عالم القبر و البرزخ يفتحون بابا للمتوفي إلى جنته الخاصة بالقيامة، أو إلى جهنمه الخاصة بالقيامة. و بنفس ميزان التذاذ الإنسان بفتح ذلك الباب، و بالتطلع إلى المناظر البديعة المدهشة، أو اضطرابه و انزعاجه من رؤية الدخان و النار و السعير و الزقوم و الحميم و الثعابين و الأفاعي؛ فإن هذه الجنة
البرزخية أو جهنم البرزخية هما مثالان و أثران من القيامة بنفس الميزان و القدر، حيث اكتسبا على هذا الأساس موجوديتهما التابعة للجنة أو لجهنم.
و قد دعيت هذه الجنة في بعض الروآيات بجنة الدنيا، كما عبر المرحوم المجلسي رضوان الله عليه في كتاب المعاد من «بحار الأنوار» عنهما بجنة الدنيا وجهنم الدنيا، و عقد بابا في هذا العنوان.
و العلة في ذلك أن عالم البرزخ من تتمة عالم الدنيا، لذا فقد عبر أيضا عن الجنة التي كان فيها آدم أبو البشر بجنة الدنيا، لأنها من مقدمات الدنيا و متصلة بها و باعثة على الاستعداد و التهيؤ للقدوم إليها.
روي الصدوق في «العيون» بسنده عن الحسن بن بشار، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام:
قال: سألته عن جنة آدم، فقال: جنة من جنات الدنيا تطلع عليه فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنات الخلد ما خرج منها أبدا.۱
و أورد الكليني نظير هذه الروآية في «الكافي» عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن البزنطي، عن الحسين بن ميسر، عن الإمام الصادق عليه السلام.٢
و أورد في «تفسير علي بن إبراهيم» ذيل الآية: و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة، عن أبيه مرفوعا قال:
سئل الصادق عن جنة آدم من جنات الدنيا كانت أ م من جنان الآخرة؟
فقال: كانت من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر؛ و لو كانت من جنات الآخرة ما اخرج منها أبدا.۱
ثمّ إنّ البرزخ ينقضي و يتصرّم و يُنفخ في الصور، فيذهب الإنسان إلى جنّة القيامة.
تجسّد الملكات في القبر و فوائد العمل الصالح
إنّ الإنسان الذي يرد البرزخ، يرده بموجوديّته و فعليّته، فقد كانت مَلكاته و شخصيّته مختفية مستترة في هذه الدنيا، أمّا البادي للعيان فيها فظاهره و ظاهر أعماله و سيرته. لكنّ هذه المخفيّات ستجد درجة من الظهور في عالم البرزخ، فتتجلّي أعماله و تتمثّل بصورة ملكوتيّة، و تظهر في البرزخ مع الإنسان ملكاته التي أثّرت في شخصيّته.
وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَي يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا ، لَقَدْ أضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولًا ، وَ قَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُوراً.٢
و يتّضح في هذه الآيات التي عبّرت عن الشيطان بالخذول المضلّ، و عبّرت في الوقت نفسه عن فلان بالمضلّ عن الذكر و القرآن، أنّ فلاناً كان محلّ ظهور الشيطان و النفس الأمّارة، و كان في نهاية الأمر مركزاً و محوراً لتجلّيات نفسه. و في الحقيقة و المعنى إذَن فإنّ الإنسان يتذمّر من نفسه و يعتب على موجوديّته، فتلك الشخصيّة هي التي تسبّبت في انصباب جميع المصائب و الابتلاءات و الامتحانات علي الإنسان، و هي التي كانت محوراً لقبول أو رفض السعادة و كلام الحقّ.
و هذا هو ذلك القرين الذي كان الإنسان يرغب لو كان بينهما بُعد المشرقين، و الذي عبّر عنه بتعبير:
وَ قَدْ خَابَ مَن دَسَّيهَا.
أو هو تلك النفس الملكوتيّة الرحمانيّة الجميلة البديعة السريعة الإدراك و محلّ اللطف و مركز المحبّة و ترشّح الخيرات التي عبّر عنها بتعبير: قَدْ أفْلَحَ مَن زَكَّيهَا.
إنّ هذه النفس ستلازم الإنسان الذي يذهب في القبر و تكون قرينه، فيسألها: من أنت فإنّي لم أر مثلك بهاءً و محبّة و انساً؟
فتجيب: أنا عملك، أنا ثمرة سيرتك و سلوكك، أنا تجلّي ملكاتك و سجاياك و شخصيّتك. لقد قدمتُ معك هنا من الدنيا، و سأكون معك إلى يوم القيامة، و حين ستقوم من قبرك سأرد معك إلى المحشر و أحضر في ساحة العرض و مقام العدل الإلهيّ.
يروي الصدوق في «الأمالي» بسنده المتّصل عن العلاء بن محمّد بن فضل، عن أبيه، عن جدّه قال: قال قيس بن عاصم: وفدتُ مع جماعة من بني تميم إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله، فدخلتُ و عنده الصلصال ابن الدلهمس، فقلت: يا نبيّ الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنّا قومٌ نعبر في البرية.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: يَا قَيْسُ، إِ نَّ مَعَ الْعِزِّ ذُلًّا، وَ إ نَّ مَعَ الْحَيَاةِ مَوْتاً، وَ إِ نَّ مَعَ الدُّنْيَا آخِرَةً، وَ إِ نَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً، وَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً، وَ إِ نَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَاباً، وَ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ عِقَاباً، وَ لِكُلِّ أجَلِّ كِتَاباً، وَ إِ نَّهُ لَابُدَّ لَكَ يَا قَيْسُ مِنْ قَرِينٍ يُدْفَنُ مَعَكَ وَ هُوَ حَيُّ، وَ تُدْفَنُ مَعَهُ وَ أ نْتَ مَيِّتٌ.
فَإِنْ كَانَ كَرِيماً أكْرَمَكَ، وَ إِ نْ كَانَ لَئِماً أسْلَمَكَ؛ ثُمَّ لَا يُحْشَرُ إِلَّا مَعَكَ، وَ لَا تُبْعَثُ إِلَّا مَعَهُ، وَ لَا تُسْألُ إِلَّا عَنْهُ؛ فَلَا تَجْعَلُهُ إِلَّا صَالِحاً.
فَإِنَّهُ إِ نْ صَلُحَ أنَسْتَ بِهِ، وَ إِ نْ فَسَدَ لَا تَسْتَوْحِشُ إِلَا مِنْهُ، وَ هُوَ فِعْلُكَ.
فقال (قيس): يا نبيّ الله احبّ أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب و ندّخره، فأمر النبيّ صلّى الله عليه و آله من يأتيه بِحسّان۱ (بن ثابت)، قال (قيس): فَأقبلتُ أفكّر فيما أشبه هذه العظة من الشعر فاستتبّ لي القول قبل مجيء حسّان، فقلتُ: يا رسول الله قد حضرتني أبيات توافق ما تريد، فقلتُ:
تَخَيَّرْ خَلِيطاً مِنْ فعَالِكَ إِنَّمَا | *** | قرِينُ الْفَتَي في الْقَبْرِ مَا كَانَ يَفْعَلُ |
وَ لَا بُدَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أنْ تُعِدَّةُ | *** | لِيَوْمِ يُنَادَي الْمَرءُ فِيهِ فَيُقْبلُ |
فَإِنْ كُنتَ مَشْغُولًا بِشيءٍ فَلَا تَكُنْ | *** | بِغَيْرِ الذي يَرْضَي بهِ اللهُ تَشْغَلُ |
فَلَنْ يَصْحَبَ الإنْسَانُ مِنْ بَعْد مَوْتِهِ | *** | وَ مِنْ قَبلهِ إِلَّا الذي كَانَ يَعمَلُ |
ألَا إنَّمَا الإنْسَانُ ضَيفٌ لإهْلِهِ | *** | يقيمُ قَلِيلًا فِيهم ثُمَّ يَرْحَلُ |
انتهى.٢
و قد نقله المجلسيّ في «روضة البحار» عن «أعلام الدين» للديلميّ
بفارق أنّ منشد الأشعار كان شخصاً من الصحابة حاضراً في المجلس يدعي الصلصال.۱
يقول ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: خطب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم آخر عمره الشريف، فقال:
أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَ بَيْنَ أحَدٍ نَسَبٌ وَ لَا أمْرٌ يُؤْتِيهِ بِهِ خَيْراً أ وْ يَصْرِفُ عَنْهُ شَرّاً إِلَّا الْعَمَلُ، ألَا لَا يَدَّعِيَنَّ مُدَّعٍ، وَ لَا يَتَمَنَّيَنَّ مُتَمَنٍّ.
وَ الذي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَا يُنْجِي إلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَ لَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ اللَهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟٢
و ينقل المجلسيّ رضوان الله عليه عن كتاب «صفات الشيعة» للصدوق رحمه الله قال: لمّا فتح رسول الله صلّى الله عليه و آله مكّة قام على الصفا فقال: يا بني هاشم! يا بني عبد المطّلب!
إنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ وَ إنِّي لَشَفيقٌ عَلَيْكُمْ؛ لَا تَقُولُوا: إِ نَّ مُحَمَّداً مِنَّا؛ فَوَاللهِ مَا أوْلِيَائِي مِنْكُمْ وَ مِنْ غَيْرِكُمْ إِلَّا الْمُتَّقُونَ.
فَلَا أعْرِفُكُمْ تَأتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا عَلَي رِقَابِكُمْ، وَ يَأتِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الآخِرَةَ.
ألَا وَ إِنِّي قَدْ أعْذَرْتُ فِيمَا بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ فِيمَا بَيْنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، وَ إِ نَّ لي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ.٣
و ما أروع ما أنشد الصادق عليه السلام في وجوب اجتناب المعصية:
تَعْصِي الإلَهَ وَ أنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ | *** | هَذَا لَعَمرِي في الفِعَالِ بَدِيعُ |
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأطَعْتَهُ | *** | إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ يُطِيعُ |
الفرق بين جنّة الخلد و جنّة عدن
و الخلاصة فإنّ الجنّة البرزخيّة ليست جنّة الخُلد، لأنّ هناك خلوداً في جنّة الخلد، فمن دخلها لم يخرج منها، كما مرّ قريباً عن جنّة آدم أنها لو كانت جنّة الخُلد لما كان اخرج منها.
و قد ورد في شأن جنّة عدن أنها جنّة برزخيّة، و ذلك لأنّ أيّام سكنتها مقسّمة إلى بكرة و عشيّ، بينما ليس هناك من صبح و لا ليل في جنّة القيامة:
جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُبِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأتِيًّا، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا.۱
و ورود في «تفسير عليّ بن إبراهيم»:
قَالَ: ذَلِكَ في جَنَّاتِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْقِيَامَةِ؛ وَ الدَّلِيلُ عَلَي ذَلِكَ قَوْلُهُ: بُكْرَةً وَ عَشِيّاً، فَالْبُكْرَةُ وَ الْعَشِيُّ لَا تَكُونُ في الآخِرَةِ في جَنَّاتِ الْخُلْدِ، وَ إنَّمَا تَكُونُ الْغَدَاةُ وَ الْعَشِي في جَنَّاتِ الدُّنْيَا التي تَنْتَقِلُ أ رْوَاحُ الْمُؤمِنِينَ إِلَيْهَا وَ تَطْلُعُ فِيهَا الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ.٢
أرواح الكفّار تذهب إلى برهوت
و ورد في الأخبار المستفيضة أنّ أرواح المؤمنين في وادي السلام و أنّ أرواح الكفّار و المعاندين في برهوت٣ اليمن.
و برهوت اسم بئر يقع في أرض حضرموت جنوب اليمن، و بطبيعة الحال فإنّ ذلك من باب تعلّق عالم البرزخ و ارتباطه بعالم القبر.
أي أنّ تلك الصور البرزخيّة مرتبطة و متعلّقة من الدنيا بتلك الأمكنة الأوضع و الأحقر و الأرذل و الأكثر بعثاً على الملل، و الأكثر اكتظاظاً بالآفات فهناك في تلك البئر من الحيّات السوداء و العقارب و البوم و الحيوانات الوحشيّة بالقدر الذي يعجز معه كلّ إنسان عن العبور، فضلًا عن الحرارة اللاهبة التي لا يمكن الصبر عليها دقيقة واحدة.
يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده قال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
شَرُّ بِئرٍ في النَّارِ بَرَهُوتُ الذي فِيهِ أ رْوَاحُ الْكُفَّارِ.۱
كما يروي في «الكافي» بسنده عن قدّاح، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه:
شر ماء علي وجه الأرض ماء برهوت، و هو الذي بحضرموت يرده هام الكفار.٢
و يروي كذلك في «الكافي» بسنده عن السكونيّ عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: شَرُّ الْيَهُودِ يَهُودُ بَيْسَان، وَ شَرُّ النَّصَارَي نَصَارَي نَجْرَان، وَ خَيْرُ مَاءٍ عَلَي وَجْهِ الأرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، وَ شَرُّ مَاءٍ عَلَي وَجْهِ الأرْضِ مَاءُ بَرَهُوتٍ وَ هُوَ وَادٍ بَحَضَرمَوْتَ تَرِدُ عَلَيْهِ هَامُ الْكُفَّارِ وَ صَدَاهُمْ.٣
و قال المجلسيّ نقلًا عن الجزريّ في «النهاية»:
الهامة: الرأس، و اسم طائر و هو المراد في الحديث ...
قيل: إنّ العرب كانت تزعم أنّ روح القتيل الذي لا يُدرك بثأره تصير هامة، فتقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت، ... فنفاه الإسلام و نهاهم عنه.
ثمّ قال: و المراد بالهام و الصدي في الخبر: أرواح الكفّار، و إنّما عبّر عنها بهما لأنهم كانوا هكذا يعبّرون عنها، و إن كان ما زعموه في ذلك باطلًا.۱
و يروي في «الكافي» بسنده عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال:
إِ نَّ مِنْ وَرَاءِ الْيَمَنِ وَادِياً يُقَالُ لَهُ وَادِي بَرَهُوتَ، وَ لَا يُجَاوِرُ ذَلِكَ الْوَادِي إِلَا الْحَيَّاتُ السُّودُ وَ الْبُومُ مِنْ الطَّيْرِ؛ في ذَلِكَ الْوَادِي بِئرٌ يُقَالُ لَهَا: بَلَهُوتٌ يُغدَي وَ يُرَاحُ إِلَيْهَا بَأرْوَاحِ الْمُشْرِكِينَ يُسْقُونَ مِنْ مَاءِ الصَّدِيدِ.٢
و يروي الصفّار في «بصائر الدرجات» بسنده عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّ محمّد بن مسلم قال:
جَاءَ أعْرَابِيٌّ إلى أبِي جَعْفَرٍ (الباقر) عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مِنْ أينَ جِئْتَ يَا أعْرَابِي؟
قال: مِنَ الأحْقَافِ أحْقَافِ عَادٍ. قَالَ: رَأيْتُ وَ ادِياً مُظْلِماً فِيهِ الْهَامُ وَ الْبُومُ لَا يُبْصَرُ قَعْرُهُ.
قَالَ: وَ تَدْرِي مَا ذَ اكَ الْوَادِي؟
قَالَ: لَا وَ اللهِ، مَا أ دْرِي.
قَالَ: ذَاكَ بَرَهُوتَ، فِيهِ نَسَمَةُ كُلِّ كَافِرٍ.۱
و ورد في رواية أنّ أرواح المؤمنين تجتمع في ليالي الجمعة عند صخرة بيت المقدس.
سؤال ملك الروم للإمام الحسن عليه السلام
و يذكر في «تفسير عليّ بن إبراهيم» ذيل الآية: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ رواية مفصّلة عن حرب أمير المؤمنين عليه السلام مع معاوية و اطّلاع ملك الروم على ذلك فيقول: ثمّ كَتَبَ (ملك الروم) إلى معاوية أن ابعثْ إليّ أعلم أهل بيتك، و كتبَ إلى أمير المؤمنين عليه السلام أن ابعث إلَيَّ أعلم أهل بيتك، فأسمع منهما ثمّ أنظر في الإنجيل كتابنا ثمّ أخبركما مَن أحقّ بهذا الأمر ... فبعث معاوية يزيد ابنه و بعث أمير المؤمنين الحسن ابنه عليهما السلام ... ثمّ يذكر القضيّة بالتفصيل و كان فيما سأل مَلِكُ الروم الإمام الحسن أن سأله عن أرواح المؤمنين أين تكون إذا ماتوا؟ فقال عليه السلام:
تَجْتَمِعُ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ في لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَ هُوَ عَرْشُ اللهِ الأدنى مِنْهَا يَبْسُطُ اللهُ الأرْضِ وَ إِلَيْهَا يَطْوِيهَا، وَ مِنْهَا الْمَحْشَرُ، وَ مِنْهَا اسْتَوَي رَبُّنَا إلى السَّمَاءِ، أي اسْتَوْلَى عَلَى السَّمَاءِ وَ الْمَلَائِكَةِ.
ثمّ سأله عن أرواح الكفّار أين تجتمع؟ قال عليه السلام:
تَجْتَمِعُ في وَادِي حَضْرَمَوتَ، وَرأءَ مَدِينَةِ الْيَمَنِ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ نَاراً مِنَ الْمَشْرِقِ وَ نَاراً مِنَ الْمَغْرِبِ وَ يُتْبِعُهُمَا بِرِيحَيْنِ شَدِيدَيْنِ فَيُحْشَرُ النَّاسُ.٢
و روى الشيخ المفيد في «الاختصاص» بسنده عن الحسن بن عليّ بن
بقّاح، عن ابن جبلّة، عن عبد الله بن سنان، قال:
سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الحوض، فقال لي: حوضٌ ما بين بُصرى إلى صَنعاء، أ تحبّ أن تراه؟
قلتُ: نعم، جُعِلتُ فِداكَ!
قال: فأخذَ بيدي و أخرجني إلى ظهر المدينة، ثمّ ضرب برجله فنظرتُ إلى نهر يجري لا تُدرك حافّته إلّا الموضع الذي أنا فيه قائم، فإنّه شبيه بالجزيرة، فكنت أنا و هو وقوفاً، فنظرت إلى نهر يجري من جانبه هذا ماء أبيض من الثلج، و من جانبه هذا لبن أبيض من الثلج، و في وسطة خمر أحسن من الياقوت، فما رأيت شيئاً أحسن من تلك الخمر بين اللبن و الماء. فقلت له: جُعِلْتُ فِداكَ، من أين يخرج هذا؟ و من أين مجراه؟
فقال: هذه العيون التي ذكرها اللهُ في كتابه أنهار في الجنّة، عين من ماء، و عين من لبن، و عين من خمر تجري في هذا النهر.
و رأيت حافّتيه عليهما شجر فيهن حور مُعلّقات برءوسهن شعر ما رأيتُ شيئاً أحسن منهنّ و بايديهنّ آنية ما رأيت آنية أحسن منها ليست من آنية الدنيا، فدنا من إحداهنَّ فأومأ إليها بيده لتسقيه، فنظرت إليها و قد مالَتْ لتغرفَ فمالت الشجرة معها، ثمّ اغترفتْ فناولَتْهُ فناولني فشربتُ فما رأيت شراباً كان ألينَ منه و لا ألذَّ منه. و كانت رائحته رائحة المسك، فنظرت في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب،
فقلت له: جُعِلْتُ فِداكَ، ما رأيتُ كاليوم قطّ، و لا كنتُ أرى أنّ الأمر هكذا.
فقال لي: هذا أقلُّ ما أعدّه الله لشيعتنا، إنّ المؤمنَ إذا تُوفي صارت روحُه إلى هذا النهرِ و رَعَتْ في رياضِهِ و شربتْ من شرابِهِ، و إنّ عدوَّنا إذا توفّي صارت روحُه إلى وادي بَرَهوت فاخلدتْ في عذابهِ، و اطعمتْ من
زقّومِهِ، و اسقيتْ من حَميمِهِ، فاستعيذوا بالله من ذلك الوادي.۱
و قد ذكر محمّد بن الحسن بن الصفّار هذه الرواية في «بصائر الدرجات» مع بعض الإضافات؛٢ كما نقلها المرحوم المجلسيّ في «البحار» باب جنّة الدنيا و نارها، كتاب «العدل و المعاد» نقلًا عن «الاختصاص» و «البصائر».٣
و حقّاً فإنّ وادي برهوت هذا قليل في حقّ أعداء آل محمّد الذين هم في صدد إطفاء نور الحقيقة، و في صدد إلحاق الأذي بهم بكلّ قواهم.
عداء الأشعث بن قيس لأمير المؤمنين عليه السلام
و لقد كان الأشعث بن قيس، أحد أعداء أمير المؤمنين عليه السلام رجلًا شرّيراً يتحرّي الشرّ و يسعي له، و كان أحد زعماء الكوفة، و كان قائداً مغواراً مقتدراً له قوم و عشيرة، و ينتمي إلى قبيلة بني كندة.
و كان قد تزوّج امّ فروة،٤ اخت أبي بكر و كانت عمياء، فاستغلّ مصاهرته لأبي بكر في تعزيز كيانه و شخصيّته.
و كان من أهل الفتنة و الشرّ إلى الحدّ الذي كان أبو بكر يأسف و يندم لعدم قتله و ضرب عنقه حين جيء به أسيراً إليه.
ورد في «مروج الذهب» أنّ ذلك كان أحد الامور الثلاثة التي كان أبو بكر يتأسّف عليها عند احتضاره؛ قال:
وَ الثَّلَاثُ التي تَرَكْتُهَا وَ وَدَدْتُ أنِّي فَعَلْتُهَا: وَدَدْتُ أنِي يَوْمَ اتِيتُ بِالأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أسيراً ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ خُيِّلَ لي أ نهُ لَا يرى شَرّاً إِلَّا أعَانَهُ.۱
و كان هذا الرجل قد صمّم على مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام علناً، و كان الإمام قد لجأ إلى تعيينه في حرب صفّين رئيساً لبني كندة بناءً على النفوذ و السلطة اللذين كانا له في الكوفة، فجعله ضمن رؤساء عسكر صفّين في جيش من عشرة آلاف نفر من كندة، فأحرز بادئ الأمر بعض الانتصارات، منها أنه استعاد مع مالك الأشتر شريعة الماء التي كان معاوية قد منعهم منها. و لكن، و ما إن أشرف جيش الإمام على الفتح و الظفر، و ما إن لجأ معاوية إلى الحيلة و المكر فرفع المصاحف على أسنّة الرماح مُلقياً بذلك التفرقة و التشتّت بين جيش الإمام، حتّي كان الأشعث بن قيس من بين الأفراد الذين جاءوا إلى أمير المؤمنين طالبين منه الكفّ عن القتال.
فلقد جاء الأشعث مع عشرة آلاف من الجيش بسيوف مُشهرة مسلولة فقالوا: يا عليّ! أمّا أن تكفّ عن الحرب فوراً، و إلّا قطّعناك بسيوفنا هذه إرباً إرباً.
قال عليه السلام: أمهلوني ساعة، فلقد أشرف جيشنا عي خيمة معاوية و لم يبقَ بيننا و بين النصر الحاسم إلّا ساعة، و لقد وصل مالك الأشتر و قيس بن سعد بن عبادة، كلّا منهما مع عشرة آلاف مقاتل بالسيف إلى خيمة معاوية، و ها هو الأمر على و شك الحسم النهائيّ.
قالوا: لا مفرّ من ذلك أبداً، فادعُ الأشتر و استقدمه إليك و قُلْ له أن يكفّ عن الحرب و إلّا قطّعناك إرباً إربا.
و هكذا أحاط اولئك الآلاف العشرة بأمير المؤمنين و تحلّقوا حوله بسيوفهم المشهرة، فأرسل الإمام إلى مالك و قيس أن: عودا فوراً!
فقالا، يا علي! أمهلنا ساعة فقد وصلنا إلى خيمة معاوية.
فأرسل إليهما: أ فتريدان عليا حيّاً في هذه الساعة أم لا؟
هكذا كان الأشعث بالنسبة للإمام، رجلًا ساعياً للفتنة، متحيّناً للفرص، عدوّاً لدوداً.
أمّا ولده محمّد بن الأشعث، و امّه امّ فروة العمياء بنت أبي بكر، فقد كان مأموراً بالمسير إلى كربلاء في أربعة آلاف فارس لمحاربة الإمام سيّد الشهداء عليه السلام.
و أمّا ابنته جُعْدَة فهي التي سمّت الإمام الحسن المجتبي عليه السلام بسمّ الحقد و العداوة.
وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ.۱
حكومة أمير المؤمنين عليه السلام كانت حكومة إلهيّة
و لقد كان لأمير المؤمنين عليه السلام حكومة عجيبة، اقترنت فيها تلك القدرة و العظمة باللين و الرفق و العدالة المميّزة، فكان عليه السلام يتغاضي عن جميع الجرائم التي كانت ترتكب بحقّه، و كان يتجاهل مصالحه الشخصيّة و لا يقيم لها وزناً أمام مصالح النوع و حقوق الناس، و كان يُعرض عن المقاصد السيّئة و الإهانات و يغضّ عنها طرفه.
لذا فإنّنا نري أفراداً كمثل أحمد أمين المصريّ و ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» يقولان: إنّ حكومة أمير المؤمنين كانت أشبه بالنبوّة منها بالحكومة، كما أشبه الأشخاص الذين رباهم حواريّي عيسي ابن مريم
عليه السلام، و من ثمّ فإنّ ذلك لم يكن أسلوباً للحكم، و على أساس هذا الصدق و العدالة فقد كانت الغلبة لمعاوية في حرب صفّين.
بلي! يجب أن يقال لهذين و لأمثالهما ممّن يعدّون الحكومة سياسة مقارنة للمكر و الخداع و الكذب، ممّن لا يتورّعون عن ارتكاب أي جناية للوصول إليها: إنّ الحكومة الإلهيّة الحقّة هي حكومة الحقّ، و ليس الهدف منها التسلّط على أعراض الناس و أموالهم و نفوسهم، و ليس القصد منها التظاهر و الصراع في ساحة الأماني و عبادة الفرد؛ بل الهدف منها غرس براعم العدالة و إرساؤها في قلوب الناس، و إحقاق الحقوق، و بالطبع فإنّ مثل هذه الحكومة الإلهيّة ينبغي أن تحصل على يد أمير المؤمنين و من تربّوا و ترعرعوا في مدرسته.
و لقد جاء الأنبياء ليقيموا حكومة الحقّ، و ليقطعوا يد الشيطان و أعوانه، فيكفّوهم عن أرواح الناس و أموالهم و نواميسهم، و ليطووا بساط عبادة الشخصيّة و الاستبداد، و ليُخرجوا الناس من تحت نير تسلّط المستبدّين القساة الأفظاظ الذي يرزحون تحته، و لينالوا حقوقهم الحقّة البديهيّة و ليتمتّعوا بأفضل المواهب الإلهيّة في عالمٍ من السلام و الصفاء و الاستقرار.
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.۱
و قد روي في «أمالي الصدوق» بسنده المتّصل عن قرن أبي سليمان الضبّي قال: أرسل عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى لُبَيْد العَطَارُديّ بعض شرطه، فمرّوا به على مسجد سمّاك، فقام إليه نعيم بن دجاجة
الأسديّ فحال بينهم و بينه، فأرسل أمير المؤمنين عليه السلام إلى لبيد فجيء به، قال: فرفع أمير المؤمنين شيئاً ليضربه، فقال نعيم:
وَ اللهِ، إِ نَّ صُحْبَتَكَ لَذُلٌّ وَ إِ نَّ خِلَافَكَ لَكُفْرٌ!
فَقَالَ أمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ!
قَالَ: خَلُّوهُ!۱
ثناء أبي أمامة الباهليّ على أمير المؤمنين و امتداحه له عند معاوية
يقول المجلسيّ: رأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا: روي أنه دخل أبو أمامة الباهليّ على معاوية، فقرّبه و أدناه، ثمّ دعا بالطعام فجعل يُطعم أبا أمامة بيده، ثمّ أوسع رأسه و لحيته طيباً بيده، و أمر له ببدرة من دنانير فدفعها إليه، ثمّ قال: يا أبا أمامة بالله أنا خيرٌ أم عليّ بن أبي طالب؟
فقال أبو أمامة: نعم و لا كذب، و لو بغير الله سألتني لَصَدَقْتُ، عليُّ و الله خيرٌ منك و أكرمُ و أقدمُ إسلاماً، و أقربُ إلى رسول الله قرابةً، و أشدُّ في المشركين نِكايةً، و أعظمُ عند الامّةِ غناءً. أ تدري مَن عليّ يا معاوية؟ ابنُ عمِّ رسولِ الله صلّى الله عليه و آله و زوجُ ابنتِهِ سيّدةِ نساءِ العالمين، و أبو الحسنِ و الحسينِ سيّدي شبابِ أهلِ الجنّةِ، و ابنُ أخي حمزةَ سيّدِ الشهداءِ و أخو جعفرٍ ذي الجناحينِ؛ فأين تقع أنتَ من هذا يا معاوية؟ أ ظننتَ أنيّ سأخيّرك على عليّ بألطافكَ و طعامكَ و عطائكَ فأدخُلُ إليك مؤمناً و أخرجُ منك كافراً؟ بِئسَ ما سَوَّلَتْ لكَ نَفْسُك يا معاوية. ثمّ نهض و خرجَ من عنده فأتبعه بالمالِ فقال: لَا و الله لا أقبل منك ديناراً واحداً.٢
يقول ابن أبي الحديد: و كان الأشعث بن قيس من المنافقين في خلافة علي عليه السلام و هو في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام كما كان عبد الله بن ابيّ بن سَلُول في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله كلّ واحد منهما رأس النفاق في زمانه.۱
و يروي ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» عن يحيي البرمكيّ عن الأعمش أنّ جريراً (البجليّ) و الأشعث خرجا إلى جبّانة الكوفة، فمرّ بهما ضبّ يعدو و هما في ذمّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فناديا:
يَا أبَا حَسَل [يا أمير المؤمنين] هَلُمَّ يَدَكَ نبايعك بالخلافة!
فبلغ عليّاً عليه السلام قولهما فقال: إنّهما يُحشران يوم القيامة و إمامُهُمَا الضبُّ.٢ و٣
و عن «الخرائج و الجرائح» أنّ الأشعث بن قيس استأذن على عليّ عليه السلام فردّه قنبر فأدمي أنفه، فخرج عليّ عليه السلام فقال: مَا لي وَ لَكَ يَا أشْعَثُ؟٤ و٥
و يقول ابن أبي الحديد: قال أبو جعفر محمّد بن جرير في التاريخ:
وَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَلْعَنُونَ الأشْعَثَ وَ يَلْعَنُهُ الْكَافِرُونَ أيْضَاً وَ سَبَايَا قَوْمِهِ، وَ سَمَّاهُ نِسَاءُ قَوْمِهِ عُرْفَ النَّارِ وَ هُوَ اسمٌ لِلْغَادِرِ عِنْدَهُمْ.۱
و كان أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة يخطب، فمضي في بعض كلامه شيء (عن التحكيم) اعترضه الأشعث، فقال: يا أمير المؤمنين هَذِهِ عَلَيْكَ لَا لَكَ!
فخفض عليه السلام إليه بصره، ثمّ قال:
مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ وَ لَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ!
حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ، مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ، وَ اللهِ لَقَدْ أسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَ الإسلَامُ اخْرَى، فَمَا فِدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَ لَا حَسَبُكَ. وَ إِ نَّ امْرِءًا دَلَّ عَلَي قَوْمِهِ السَّيْفَ، وَ سَاقَ إِلِيْهِمْ الْحَتْفَ، لَحَرِيُّ أ نْ يَمْقُتَهُ الأقْرَبُ وَ لَا يأمَنُهُ الأبْعَدُ.٢
هذه عدالة عليّ و شجاعته و فتوّته و مروءته، حين يغضّ طرفه عن هذه الإهانة و يعفو عنها تكرّماً، و هذه هي الولاية الحقّة و طهارة النفس التي كان أمثال الأشعث يسيئون استغلالها، فكان علمهم بحلم عليّ و بتغاضيه عن جساراتهم يجرّؤهم عليه.
صلّى اللهُ عَلَيْكَ يَا أبَا الْحَسَنِ!
هنا يخرس اللسان عن مدحك و الثناء عليك، و يقصر الفكر و العقل
عن نيل اسس معاني معاليك، و يتشظّي القلم عن شرحها و بيانها، فلا يبدو في نظره إلّا إظهار العجز و الخذلان أمام عظمتك و بهائك و جلالك الروحيّ كما ذكر الفاضل الشاعر و الأديب الماهر عبد العزيز ابن السرايا المشهور بصفيّ الدين الحلّيّ، و هو من التلامذة المبرّزين لمولانا المحقّق الحلّيّ أعلى الله تعالى مقامهما الشريف، فأبان عنه في أبياته:
أشعار صفيّ الدين الحلّيّ في شأن أمير المؤمنين عليه السلام
جُمِعَتْ في صِفَاتِكَ الأضْدَادُ | *** | فَلِهَذَا عَزَّتْ لَكَ الأنْدَادُ |
زَاهِدٌ حَاكِمٌ حَلِيمٌ شُجَاعٌ | *** | فَاتِكٌ نَاسِكٌ فَقِيرٌ جَوَادُ |
شِيَمٌ مَا جُمِعْنَ في بَشَرٍ قَطُّ | *** | وَ لَا حَازَ مِثْلَهُنَّ الْعِبادُ |
خُلُقٌ يُخْجِلُ النَّسِيمَ مِنَ اللُّطْفِ | *** | وَ بَأسٌ يَذُوبُ مِنهُ الْجَمَادُ |
ظَهَرَتْ مِنْكَ لِلْوَرَي مُكْرَماتٌ | *** | فَأقَرَّتْ بِفَضْلِكَ الْحُسَّادُ |
إِنْ تُكَذِّبْ بِهَا عِدَاكَ فَقَدْ | *** | كَذَّبَ مِنْ قَبْلُ قَوْمُ لُوطٍ وَ عَادُ |
جَلَّ مَعْنَاكَ أنْ يُحِيطَ بَكَ الشِّعْرُ | *** | وَ يُحْصِي صِفَاتِهِ النُّقَّادُ۱ |
انعكاس مخالفات الناس لأمير المؤمنين عليه السلام
هنا تتجلّي مظلوميّة أمير المؤمنين عليه السلام، أ فهذا القدر من العفو و التغاضي مع غاية الاقتدار و القوّة؟ أو هذا القدر من الاحتمال و الصبر مع امتلاك جميع الإمكانات و الوسائل؟
سُبحانَ الله! لقد جاء الأشعث إلى باب بيت أمير المؤمنين فمنعه قنبر؛ أ فمن الواجبات استقبال امرئٍ ما في بيت شخصي، فضلًا عن حصول ذلك دون استئذان و علم سابق؟ أو ليس لأمير المؤمنين حقّ في الراحة؟
و من هنا يتّضح أنّ ذهاب الأشعث مع هذه السابقة السيّئة و هذا الملفّ المشحون بالجرائم لم يكن إلّا لطلب أمر غير مشروع من أمير المؤمنين.
ثمّ إنّ أمير المؤمنين هو رئيس الكيان الإسلاميّ و حاكمه، فبأيّ
مجوّز تنهال بقبضتك على وجه و أنف غلامه و حارس بيته و صاحب إذنه و حاجبه فتدمي أنفه؟!
فانظروا ما ذا قال أمير المؤمنين عليه السلام حين علم بالأمر:
مَا لي وَ لَكَ يَا أشْعَثُ؟
يحقّ لعرش الله هنا أن يهتزّ، و لغضب الله أن ينصبّ بكل نقمة على هذه الجماعة المستكبرة المغرورة المعتدية، و أن يركسهم في الذلّ و الهوان و يعدّلهم في الآخرة تلك النيران الموعودة.
جاء في «الخرائج» أنّ أمير المؤمنين حين خرج و شاهد أنف قنبر مدمي قال:
مَا ذاكَ يا أشْعَثُ! أما و اللهِ لَوْ بِعَبْدِ ثَقِيفٍ مَرَرْتَ لَاقْشَعَرَّتْ شُعَيْرَاتُ اسْتِكَ. قَالَ: مَنْ غُلَامُ ثَقِيفٍ؟ قَالَ: غُلَامٌ يَلِيهِمْ، لَا يَبْقَي بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا أدْخَلَهُمُ الذُّلَّ. قَالَ: كَمْ يَلِي؟ قَالَ: عِشْرِينَ إِ نْ بَلَغَهَا. قَالَ الرَّاوِي: وَلِيَ الْحَجَّاجُ سَنَةَ خَمْسٍ وَ سَبْعِينَ وَ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَ تِسْعِينَ.۱
وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً.٢ وَ٣
و لقد كان الأشعث بن قيس حقّاً من الأعداء الذين لازموا أمير المؤمنين و سبّبوا له الأذى. و كان أمير المؤمنين يئنّ و يضجّ من أمثال
هؤلاء: اللهمّ أرحني منهم و أرحهم منّي!
ثمّ إنّ الله تعالى سلّط الحجّاج على الكوفة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، فقتل من هؤلاء الشيعة سبعين ألفاً، و في الروايات مائة و عشرين ألفاً، لم يرحم امرأة و لا رجلًا و لا عجوزاً و لا شابّاً، في جنايات لم يسبق أن شهد التأريخ أمثالها.
مساواة أمير المؤمنين بين الرعيّة في الحقوق و العطاء
و أساساً فقد كانت إحدي الجهات التي خالف الرؤساء المعروفون في ذلك الوقت أمير المؤمنين فيها أمر التسوية في العطاء، فقد كان السياسيّون و الزعماء العرب يسيرون على أساس سُنّة عمر، فلا يقسّمون بيت المال بالسواسية بين جميع طبقات الناس، بل كانوا يقسّمونه على أساس اختلاف الطبقات فيفرّقون بين عطاء المسلمين العرب عن غير العرب، و يفضّلون العرب في العطاء على غيرهم. و كان عثمان و معاوية و جميع الولاة الذين كانوا يعيّنونهم يسيرون على هذه السيرة و ينهجون هذا النهج.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام يحارب بشدّة هذه السنّة التي ليست في حقيقة الأمر إلّا بدعة ذميمة مستهجنة، فكان عليه السلام يقسّم من بيت المال، و منذ اليوم الأوّل لخلافته، بالسواسية للعربيّ و الإيرانيّ و الروميّ و الإفريقيّ، كما كان يساوي بينهم في الزواج و في سائر الحقوق الاخري و يقول: هذه هي سنة الإسلام، و هذا هو أمر القرآن الكريم، و هذا هو أمر النبيّ الأكرم قولًا و عملًا، و إنّ التفرقة و التمييز بين العناصر و الطبقات، التي كان الخلفاء السابقون ينتهجونها، فيعيّنون على أساس ميزانها الحكومة و الرئاسة و إمامة الجماعة و القضاء و قيادة الجند و الجيش و امور النكاح و التصرّف ببيت المال و تقسيم و تسهيم الأعمال الصعبة و المشكلة، أمر خاطئ لا ينسجم أبداً و بأيّ وجه مع اسلوب الإسلام و سيرته. و لم يكن الحكّام و رؤساء الجماعات الذين كانوا يسيئون استغلال بيت مال المسلمين
بواسطة العطاء الكثير و المزايا الخاصّة، و الذين اعتادوا الحياة المرفّهة المجلّلة، مستعدّين للنزول عن ذلك المستوي إلى مستوى عاديّ يساوون فيه عامّة الناس، و لا لكفّ أيديهم عن الإسراف في بيت المال.
و لقد كانوا يعلمون منذ البدء بسيرة أمير المؤمنين، ثمّ إنّه عليه السلام ساوي بين الناس عملًا في العطاء، فجعل الموالي و الأعاجم من المسلمين غير العرب شركاء للمسلمين العرب في جميع الحقوق بلا استثناء، فقرّروا عند ذلك الشروع بمخالفة الإمام، و ارتفعت بذلك رايات حرب الجمل و صفّين في وجهه عليه السلام.
يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده المتّصل عن محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
لَمَّا وَلِّيَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَ أثْنَي عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي وَ اللهِ لَا أ رْزَؤكُمْ مِنْ فَيْئِكُمْ دِرْهَماً، مَا قَامَ لي عِذْقٌ بِيَثْرِبَ. فَلْيَصْدُقْكُمْ أنْفُسُكُمْ! أفَتَرَوْنِي مَانِعاً نَفْسِي وَ مُعْطِيكُمْ؟۱
قَالَ: فَقَامَ إلِيهِ عَقيلٌ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَ اللهَ، لَتَجْعَلَني وَ أسْوَدَ بِالْمَدِينَةِ سَوَاءً.
فَقَالَ: اجْلِسْ! أمَا كَأنَ هَا هُنَا أحَدٌ يَتَكَلَّمُ غَيْرُكَ؟ وَ مَا فَضْلُكَ عَلَيْهِ إِلَّا بِسَابِقَةٍ أ وْ بِتَقْوَى.٢
و روي في «الكافي» بسنده المتّصل عن محمّد بن جعفر العقبي مرفوعاً، قال: خَطَبَ أميرُ المؤمِنينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَمَدَ اللهَ وَ أثْنَي عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: أيُّهَا النَّاسُ! إِ نَّ آدَمَ لَمْ يَلِدْ عَبْداً وَ لَا أمَةً، وَ إِ نَّ النَّاسَ كُلُّهُمْ أحْرَارٌ؛ وَ لَكِنَّ اللهَ خَوَّلَ بَعْضَكُمْ بَعْضاً.
فَمَنْ كَانَ لَهُ بَلَاءٌ فَصَبَرَ في الْخَيْرِ؛ فَلَا يَمُنُّ بِهِ عَلَي اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.۱
ألَا وَ قَدْ حَضَرَ شَيءٌ، وَ نَحْنُ مُسَوُّونَ فِيهِ بَيْنَ الأسْوَدِ وَ الأحْمَرِ.
فَقَالَ مَرْوَانُ لِطَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرِ: مَا أ رَادَ بِهَذَا غَيْرَكُمَا.
قَالَ: فَأعْطَيكُلَّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرٍ، وَ أعْطَي رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ ثَلَاثَةَ دَنَانِير، وَ جَاءَ بَعْدُ غُلَامٌ أسْوَدُ، فَأعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِير.
فَقَالَ الأنْصَارِيُّ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَذَا غُلَامٌ أعْتَقْتُهُ بِالأمْسِ، تَجْعَلُنِي وَ إيَّاهُ سَوَاءً؟
فَقَالَ: إنِّي نَظَرْتُ في كِتَابِ اللهِ، فَلَمْ أجِدْ لِوُلْدِ إسْمَاعِيلَ عَلَي وُلْدِ إسْحَاقَ فَضْلًا.٢
و يروي في «الكافي» بسنده المتّصل عن الفضل بن أبي مرّة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
أتت الموالي أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب، إنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يُعطينا معهم العطايا بالسويّة و زوّج سلمان و بلال و صهيب، و أبوا علينا هؤلاء و قالوا: لا نفعل. فذهب إليهم أمير المؤمنين عليه السلام فكلّمهم فيهم، فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن، أبينا ذلك، فخرج و هو مغضب يجرّ رداءه و هو يقول: يا معشر الموالي، إنّ هؤلاء قد صيّروكم بمنزلة اليهود و النصاري يتزوّجون إليكم و لا يزوّجونكم و لا يُعطونكم مثل ما يأخذون، فاتّجروا بارك الله لكم
فإنّي سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة و واحدة في غيرها.۱
مخالفة الأشعث بن قيس لأمير المؤمنين في المساواة بين الرعيّة في العطاء
و على هذا الأساس فإنّ الأشعث بن قيس الذي كان أحد الرؤساء و القادة، و الذي كان عثمان بن عفّان يعطيه من خراج أذربيجان كلّ سنة مائة ألف درهم،٢ لم يكن مستعداً أن يصبح تحت حكومة أمير المؤمنين على حدّ سواء مع سائر أفراد المسلمين في الحقوق و المزايا، لذا فقد كان يعترض و يُثير المشاكل و المعوّقات.
يروي إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفي في كتاب «الغارات»، عن عبّاد بن عبد الله الأسديّ، قال:
كُنْتُ جَالِساً يَوْمَ الجُمُعَةِ وَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطِبُ عَلَي مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍ، و ابْنُ صَوْحَانَ جَالِسٌ، فَجَاءَ الاشْعَثُ فَجَعَلَ يَتَخَطَّي النَّاسَ فَقَالَ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! غَلَبَتْنَا هَذِهِ الْحَمْرَاءُ عَلَي وَجْهِكَ.
فَغَضِبَ، فَقَالَ ابْنُ صَوْحَان: لَيُبَيَّنَ الْيَوْمَ مِنْ أمْرِ الْعَرَبِ مَا كَانَ يَخْفَى. فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ هَؤلاءِ الضَّيَاطِرَةِ، يُقِيْلُ أحَدُهُمْ يَتَقَلُّبُ عَلَي حَشَايَاهُ وَ يُهَجَّرَ قَوْمٌ لِذِكْرِ اللهِ؟ فَيَأمُرُنِي أ نْ أطْرُدَهُمْ فَأكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ؟
وَ الذي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ لَقَدْ سَمِعْتُ مَحَمَّداً صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: لَيَضْرِبَنَّكُمْ٣ وَ اللهِ عَلَي الدِّينِ عَوْداً كَمَا ضَرَبْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ بَدْءاً.
قَالَ مُغيرَةُ: كَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أمْيَلَ إلى الْمَوَالِي وَ ألْطَفَ بِهِمْ،
وَ كَانَ عُمَرُ أشَدَّ تَبَاعُداً مِنْهُمْ.۱
هذا و قد ذكر الجزريّ هذا الحديث في «النهاية» و قال:
المراد بالحمراء، الأعاجم من الفُرس و الروم، و العرب تسمّي الموالي الحمراء و الضَّيَاطِرَة هُمُ الضِّخَامُ الَّذِينَ لا غِنَاءَ عِنْدَهُمْ، الواحد ضيطار و الياء زائدة، على حشاياه: أي على فراشه، واحدها حشيّة بالتشديد. انتهى.٢
و كذلك أورده المبرّد في «الكامل»، و نقل قول أمير المؤمنين بهذه الكيفيّة: مَنْ يَعْذُرُنِي٣ مِن هَذِهِ الضَّيَاطِرَةِ يَتَمَرَّغُ أحَدُهُمْ عَلَي فِرَاشِهِ تَمَرُّغَ الْحِمَارِ؟٤
و ذكره المجلسيّ في «بحار الأنوار» مع بيان مختصر في شرحه.٥
لقد كان الأشعث بن قيس، بصفته من الرؤساء و القادة، يتصوّر أنّ بيت المال و قد صار في الكوفة تُجبي إليه الأموال من كلّ حدب و صوب، فإنّ على أمير المؤمنين أن يفتح أبوابه أمامه مُشرعة ليغترف منها ما يشاء و ليتصرّف فيها بما يحلو له.
و أني لأمير المؤمنين الذي أحمي لأخيه عقيل الحديدة مراراً حين جاءه يسأله صاعاً من بُرّ لعائلته الكبيرة و أضيافه، لئلّا يسأله بعدُ زيادةً عن نصيبه من بيت المال، أني له أن يُفسح مجال الاعتداء و التجاوز لأمثال هؤلاء الضياطرة و الظلمة المعتدين!
و لقد جاء الأشعث بن قيس إلى الإمام مرّةً فسأله مالًا فردّه عليه السلام، فعرّض له أنه سيفتك به، فقال عليه السلام:
أبِالْمَوْتِ تُهَدِّدُنِي! فَوَ اللهِ، مَا ابَالِي وَقَعْتُ عَلَي الْمَوْتِ أمْ الْمَوْتُ وَقَعَ عَلَيَّ.۱
و خلاصة الأمر، و باعتبار أنّ هذه الأيّام أيّام شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، فقد رأينا أنّ من المناسب أن نتحدّث عن محن ذلك الإمام مع منافقي الامَّة الذين كان كلٌّ منهم يرى لنفسه وزناً و مقاماً و شخصيّة.
و بالرغم من أننا قد ابتعدنا قليلًا عن البحث المباشر للمعاد، و لكن بالتأمّل في عفو أمير المؤمنين و تغاضيه كرماً و جلالًا، و في دناءة و رذالة و ضِعة هؤلاء الأفراد النفعيّين من دعاة الجاه و الشهرة، الذين لم يكونوا ليقفوا لوحدهم في وجه حكومة الإمام العادلة، بل كانوا يستتبعون وراءهم جماعة فيدفعونهم إلى التفرقة و النفاق و إلى أيجاد العراقيل في طريق تلك الحكومة العادلة، حيث يظهر أمثال هذا الصنف و هذه الروحيّات بشكلٍ ما في كلّ زمان و مكان، و حيث يُلاحظ هذا النحو من التعديّات حسب المقتضيات و الشرائط المختلفة، بالتأمّل في ذلك كلّه فإنّنا سنلتفت إلى أنّ علينا، نحن الذين ندّعي التشيّع الصادق الحقيقيّ، أن نكون يقظين لئلّا تبدر منا مثل هذه الأفكار لا سامح الله، و لئلّا تجرفنا الدسائس في مسير
النوايا النفسانيّة و الأهواء العمياء المضلّة، و لكي لا نواجه حقيقة ولايته عليه السلام أو نقف منها موقف الخصومة. ذلك لأنّ كلّ روح يقظة واعية حين ترى جهنّم و هي تتلظّي و تتأجّج جزاءً لأمثال هؤلاء الجناة المجرمين، فإنّها ستهدأ و تسكت و تخلد إلى السكون، كما أنها لن تجد أمام النداء الإلهيّ: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَاتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِن مَزِيدٍ.۱
و نداء: ألْقِيَا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ.٢ إلّا ميزان العدل و القسط.
مساهمة الأشعث بن قيس في أمر استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام
و لقد ساعد الأشعث بن قيس ابن ملجم في قتل أمير المؤمنين عليه السلام و ساهم في استشهاده. يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن سليمان كاتب عليّ بن يقطين، عن رجل آخر، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: إنّ الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين عليه السلام و ابنته جعدة سمّت الحسن عليه السلام و محمّد ابنه شرك في دم الحسين عليه السلام.٣
و لقد ظلّ الأشعث يقظاً طوال ليلة التاسع عشر من شهر رمضان لسنة أربعين للهجرة في مسجد الكوفة. يقول حجر بن عديّ: رأيتُ الأشعث بن قيس قرب أذان الصبح و هو يلتفت إلى ابن ملجم و يقول له: يَا ابْنَ مُلْجَمْ، النَّجَاءَ النَّجَاءَ لِحَاجَتِكَ فَقَدْ فَضَحَكَ الصُّبْحُ.
قال: فارتعدتُ لكلام الأشعث، و قلت: أ تريد أن تقتله يا أعور!
و خرجتُ مبادراً لأمضي إلى منزل أمير المؤمنين عليه السلام لأخبره الخبر أنّ هناك مؤامرة عليه في المسجد. فاتّفق أن خالفني أمير المؤمنين عليه السلام من الطريق فدخل المسجد، فبادرتُ إلى العودة إلى المسجد لأخبره فَضُرِبَ بالسيف على فرقه،۱ و هبّت رياح سوداء، و اصطفّت أبواب المسجد، و نادي جبرئيل بين السماء و الأرض:
تَهَدَّمَتْ وَ اللهِ أرْكَانُ الْهُدَى، وَ انْطَمَسَتْ وَ اللهِ أعْلَامُ التُّقَى، وَ انْفَصَمَتْ وَ اللهِ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَي؛ قُتِلَ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدٍ المُصْطَفى، قُتِلَ الْوَصِي الْمُجْتَبَى، قُتِلَ عَلِيُّ الْمُرْتَضَى، قُتِلَ وَ اللهِ سَيِّدُ الأوْصِيَاءِ، قَتَلَهُ أشْقَى الأشْقِيَاءِ.٢