المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الله
التوضيح
أصل هذه الابحاث دورة تفسيريّة جرى فيها المذاكرة والتحرير من الآية المباركة {اللَهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} إلى {وَاللَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقد جري البحث والمذاكرة في هذه الأبحاث عن مسألة التوحيد الذاتي والأسمائي والأفعاليّ للذات المقدّسة للحقّ تعالى، وعن كيفيّة نشوء عالم الخلقة، وربط الحادث بالقديم، ونزول نور الوجود في مظاهر الإمكان، وحقيقة الولاية وربط الموجودات بذات الباري تعالى، وعن لقاء الله والوصول إلي ذاته المقدّسة بفناء الوجود المجازي المُعار واندكاكه في الوجود الحقيقيّ المطلق الأصيل.
البَحْثُ الثَّالِثُ عَشَر إلى الخَامِسِ عَشَر: إنَّ مُنْكِرِي لِقَاءِ اللهِ هُمُ الأخْسَرُونَ و تفسير الآية المباركة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ عَلَى أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
الآيات القرآنيّة دالّة على إفلاس منكري لقاء الله و بؤسهم
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً.۱
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أعْمَالًا
يقول استاذُنا الأعظمُ آية الله على الإطلاق، العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تُربته في تفسيره للآية:
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً:
قوله تعالى «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» إنباء بالأخسرين أعمالًا و هم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبّئهم بهم و يعرّفهم إيّاهم فعرّفهم بأنّهم الذين ضلّ
سعيهم في الحياة الدنيا، و ضلال السعي خسران، ثمّ عقّبه بقوله: «و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا» و بذلك تمّ كونهم أخسرين.
بيان ذلك: أنّ الخسران و الخسار في المكاسب و المساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنّما يتحقّق إذا لم يُصب الكسب و السعي غرضه و انتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعى و هو المعبّر عنه في الآية بضلال السعي، كأنّه ضلّ الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه. و الإنسان ربّما يخسر في كسبه و سعيه لعدم تدرّب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل اخر اتّفاقيّة و هي خسران يرجى زواله، فإنّ المرجو أن يتنبّه به صاحبه ثمّ يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه و يقضي ما فات، و ربّما يخسر و هو يذعن بأنّه يربح، و يتضرّر و هو يعتقد أنّه ينتفع لا يرى غير ذلك، و هو أشدّ الخسران لا رجاء لزواله.
ثمّ الإنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلّا السعي لسعادته و لا همّ له فيما وراء ذلك، فإن ركب طريق الحقّ و أصاب الغرض و هو حقّ السعادة فهو، و إن أخطأ الطريق و هو لا يعلم بخطأه فهو خاسر سعياً لكنّه مرجوّ النجاة، و إن أخطأ الطريق و أصاب غير الحقّ و سكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحقّ ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض و زيّنت له ما هو فيه من الاستكبار و عصبيّة الجاهليّة، فهو أخسر عملًا و أخيب سعياً، لأنّه خسران لا يُرجى زواله و لا مطمع في أن يتبدّل يوماً سعادة، و هو قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالًا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
و حسبانهم عملهم حسناً مع ظهور الحقّ و تبيّن بطلان أعمالهم لهم إنّما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا و زخارفها و انغمارهم في الشهوات، فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتّباع الحقّ و الإصغاء إلى داعي
الحقّ و منادي الفطرة؛ قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ؛۱ و قال: وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.٢ فاتّباعهم هوى أنفسهم و مضيّهم على ما هم عليه من الإعراض عن الحقّ عناداً و استكباراً و الانغمار في شهوات النفس ليس إلّا رضى منهم بما هم عليه و استحساناً منهم لصنعهم.
و أمّا بشأن تفسير الآية: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ، فيقول:
تعريف ثان و تفسير بعد تفسير بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، و المراد بالآيات- على ما يقتضيه إطلاق الكلمة- آياته تعالى في الآفاق و الأنفس و ما يأتي به الأنبياء و الرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم، فالكفر بالآيات كفر بالنبوّة، على أن النبيّ نفسه من الآيات، و المراد بلقاء الله الرجوع إليه و هو المعاد.
فآل تعريف بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا إلى أنّهم المنكرون للنبوّة و المعاد، و هذا من خواصّ الوثنيّين.
تفسير العلّامة؛ إنكار لقاء الله يسبّب حبط أعمال المنكرين
قوله تعالى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، وجه حبط أعمالهم أنّهم لا يعملون عملًا لوجه الله و لا يريدون ثواب الدار الآخرة و سعادة حياتها و لا أنّ الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب، و قد مرّ كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و قوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً تفريع على حبط أعمالهم
و الوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ،۱ و إذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.
و فيما يخصّ تفسير الآية: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً، قال:
الإشارة إلى ما أورده من وصفهم، و اسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف، و التقدير: الأمر ذلك، اي حالهم ما وصفناه و هو تأكيد. و قوله: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ كلام مستأنف ينبئ عن عاقبة أمرهم. و قوله: بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً في معنى بما كفروا و ازدادوا كفراً باستهزاء آياتي و رسلي.٢
و على العموم، تشير الآية الكريمة بوضوح صريح إلى العذاب و الثبور الشديدين اللذين ينتظران اولئك الذين ينكرون لقاء الله، فطبقاً للقواعد العقليّة و الأدلّة الشرعيّة، لا يوجد هناك كسر و انكسار بين الأعمال السيّئة و الأعمال الحسنة، و كما ذكرنا في سلسلة «معرفة المعاد»، ففي يوم القيامة، حين يُحشر الخلق و تُعرض أعمالهم أمام البارئ جلّ شأنه و تعالى مجده، فإنّ هذه الأعمال تكون محفوظة حيث لا تُغادر صغيرة و لا كبيرة، و حيث تُجزى كلّ نفس بما كسبت، و لا تُحبط الأعمال إلّا في مواضع معيّنة، و ذلك بالنصّ الصريح للآيات القرآنيّة، اي بمعنى أن تُمحى الأعمال الحسنة للإنسان في الدنيا و تُعدم، و تكون الذنوب من الشدّة بحيث
تحرق كلّ الحسنات، و أحد هذه المواضع، هو موضع الشرك بالله، و إنكار آياته و لقائه، فلا يبقى لهؤلاء عمل يُرجى و لا يُقام لهم وزنٌ، حيث أنّ للعمل الصالح وزن و ثِقل، و العمل السيّئ أجوف، و هو هباء منثور.
و كما بيّن استاذنا العلّامة، فإنّ هاتين الآيتين هما في تبيان حال منكري الرسل و يوم المعاد، حيث يتحقّق اللقاء بالله، و لكن في هذه الآية، اقترنَ إنكار المعاد مع مسألة الكفر بلِقاء الله، و يستفاد من ذلك أنّه مع كون معنى لقاء الله قد ورد في هذه الآية بصفة عامّة، و أنّ جريان المعاني القرآنيّة هو جريان الشمس و القمر، فإنّ كل من يكفر بآيات الله و لقائه، بأيّ شكل أو صورة كانت. فهو ينضوي تحت حكم هذه الآية، و سيشمله حبط العمل و عدم إقامة وزن له.
و قد جاء بيان و وصف المنكرين لله و للقائه بعبارات بليغة و أمثلة محيّرة و مضامين فلسفيّة و برهانيّة عجيبة و إيراد شواهد واقعيّة و عرفانيّة، و هذا البيان كان واضحاً لدرجة تزيد في إيمان المؤمنين و في كفر الكافرين على حدّ سواء.
النكات البليغة الواردة في الآية بياناً لمراميها
انظر إلى هذه الآيات الأخيرة، كيف تقوم بإيصال هذه الحقيقة بلهجة و خطاب يقرعان القلوب و باسلوب أدبيّ رفيع، و فصاحة و بلاغة شديدتين.
أوّلًا: فهو يأمر نبيّه بكلمة قل ليقوم بإبلاغ هذا الأمر الخطير بهذه الكيفيّة.
ثانياً: بكلمة الاستفهام هل و كأنّ خطورة و ثِقَل هذا الأمر هي من الجدّيّة بحيث أنّ تفهيمه للمخاطب يحتاج إلى إذن للشروع فيه.
ثالثاً: اختيار ننبئكم بصيغة الجمع من لدن مقام العزّة الإلهيّة، و استعمال إنباء بدلًا من ألفاظ الإخبار و الإعلام المستعملة في الصياغة
البلاغيّة.
رابعاً: اختيار كلمة الأخسرين، و كأنّه لا يوجد أحد أكثر تضرّراً و لا خسارة من هؤلاء.
خامساً: ذكر كلمة الأعمال لصفة الأخسر على نحوٍ يُفهم فيه الناس، بأنّ أعمال الإنسان، و إن كانت تبدو كالجبل من جهة الوجاهة و الرياء و الخداع، إلّا أنّ قيمتها عند الله صفر، و لا وزن لها، من حيث إنّه لا يؤمن بلقاء الله و زيارته.
سادساً: تشبيه هذه المجموعة بعبارة الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ، اي أنّ جهودهم و محاولاتهم و علومهم و كنوزهم و نصيبهم من الدنيا و حظّهم الوافر من المال و البنون و ما إلى ذلك، لا ينفعهم مثقال ذرّة، لأنّهم أنكروا أصل الوجود، و معدن الجود و لبّ الحقيقة، و هي لقاء الله، و ركضوا وراء لقاء غيره من المخلوقات الفانية و ربطوا قلوبهم برموز العدم و البطلان.
سابعاً: و قد ربط هذا الضلال ب- في الحياة الدنيا، اي في الدنيا الدنيّة الوضيعة، و هي في مقابل الحياة العليا، اي الحياة الأغلى و الأعلى و الأرفع.
و اعلم أنّ الحياة الدنيا، ليست هي العيش على سطح الأرض، و في أحضان الطبيعة، ذلك أنّ هذه الحياة يشترك فيها جميع الناس و الأنبياء و الأئمّة، و لكنّ المراد من ذلك هو العيش على مستوى البهيميّة و الوحشيّة و الشيطنة، حيث تظهر فيها أخلاق و صفات و أفعال البهائم و السباع و الشياطين، و أمّا الحياة الآخرة، فهي تعني المستوى الأسمى للحياة، و هي العيش على مستوى الإنسانيّة و الكمال العقلانيّ و الفطريّ، و هو طريق و سنّة الأنبياء و المرسلين و الأئمّة المعصومين و الأولياء المقرّبين إلى ساحة لقاء الله، و امناء سرّ حَريم كِبرياء أحَديّته.
تلك هي أسوأ حياة، و أقبح نمط معيشة، و التي ورد ذكرها في القرآن
الكريم و الروايات باسم الحياة الدنيا، و هذه هي أجمل و أسمى و أكرم حياة و نمط معيشة، و التي اشير إليها بالحياة العقبى و الحياة الأخرى، و تكمن في بطن هذه الحياة الدنيا.
و على هذا، فإنّ هذه الآية الكريمة تدلّ دلالة واضحة على أنّ منكري لقاء الله يعيشون في بيئة ملؤها الظلمات، و تكتنفها الأدران و التعفّنات الروحيّة و النفسيّة و الخياليّة، و هي قطعاً أظلم العوالم.
ثامناً: استخدام عبارة وَ هُمْ يَحْسَبُونَ، و الحسبان يعني الظنّ و الاعتقاد، في مقابل يَعْلَمونَ و يَعْتَقِدُونَ و يَجْزِمون- و أمثال ذلك من التعابير، و تشير كلمة الحسبان بوضوح إلى أنّ أعمال و أفعال منكري لقاء الله لا تتعدّى الظنّ و الحدس و الخيال، على مدى سنيّ عمرهم و إن تخلّلت تلك الأعمال، أعمالٌ مهمّة و حيويّة. و في هذا الصدد، هناك الكثير من الآيات في الكتاب المبين التي تصرّح على أنّ أفعال أولياء الله فقط، التي تنجز على سبيل اليقين، و أمّا الآخرين، فلا تتجاوز أفعالهم إلى أبعد من الخيال و الوهم و الظنّ.
تاسعاً: عبارة أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، و تعني أنّ هذه المجموعة تعتقد بصواب أعمالها، و أنّ أفعالها تصطبغ بصبغة حسنة، و على هذا، فهم لا يحاولون معالجة أمراضهم النفسيّة، لأنّهم يجزمون بصحة أمزجتهم، و اعتدال نفوسهم، و هكذا فهم يقيمون في هذا الوباء المُهلك، حتى يفنون فيه، و إلّا، فإنّ العلم بالمرض، هو الخطوة الاولى في مرحلة علاجه.
با مدّعى مگوئيد اسرار عشق و مستي | *** | تا بى خبر بميرد در درد خودپرستى۱ |
عاشق شو ار نه روزى كار جهان سر آيد | *** | ناخوانده نقش مقصود از كارگاه هستى |
دوش آن صنم چه خوش گفت در مجلس مغانم | *** | با كافران چه كارت گر بت نميپرستى |
سلطان من خدا را زلفت شكست ما را | *** | تا كى كند سياهى چندين دراز دستى |
در گوشه سلامت مستور چون توان بود | *** | تا نرگس تو با ما گويد رموز مستى |
آن روز ديده بودم اين فتنهها كه برخاست | *** | كز سركشى زمانى با ما نمينشستى |
عشقت به دست طوفان خواهد سپرد حافظ | *** | چون برق ازين كشاكش پنداشتى كه جستى۱ |
عاشراً: تفسير ذلك بعبارة اولئك الذين كفروا بآيات ربهم
و لقائه. الجملة أوّلًا، مخاطبة النبيّ بأنّه هو موضع العناية الإلهيّة، و ليس اولئك البعيدون، غير الجديرين بالخطاب.
و ثانياً، الإشارة بالبعيد لا القريب، مثل هؤلاء، ذلك أنّ هذا التعبير يدلّ على فناء اولئك و عدمهم و مهجوريّتهم، و ذلك بمخاطبتهم من مكان بعيد أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.۱
فاولئك الكفّار يُنادون من مكان بعيد، و من وراء حجاب، لا من مكان قريب، كما هو الحال في مخاطبة المقرّبين و الأحبّة.
و ثالثاً، التوكيد المتكرّر، كالبدء بجملة اسميّة: اولَئِكَ، و كذلك استخدام المعرفة في خبر هذا المبتدأ اولئك: الذين كفروا، و التي تفيد الحصر بمعنى أنّهم وحدهم الكافرون.
حادي عشر: استخدام الحبط و الفناء بالنسبة للعمل، و الذي ينتج عن ذلك عدم اعتدال ميزان الأعمال في اليوم الآخر.
ثاني عشر: إيراد الجملة التعليليّة و بيان علّة ذلك العمل لجهنّم، كعقاب و جزاء الأعمال، و كذلك، البدء بجملة اسميّة محذوفة المبتدأ: وَ الأمْرُ ذَلِكَ، و مخاطبة النبيّ ب- «الكاف»، و الإتيان بجملة اسميّة ثانويّة: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ، و التي تعني جملة استئنافيّة أو تفسيريّة لجملة الأمْرُ ذَلِكَ.
تفسير آية: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
و من جملة تلك الآيات التي تحتوي على مثال خاصّ و تعبير رائع، الآيات التالية:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.۱
ففي هذه الآيات، يشبّه الله سبحانه و تعالى اولئك الذين يتعاملون مع غير الله، و يُنشئون علائق و روابط معهم، و يتولّونهم، و يُقيمون لهم سلطاناً و شأناً، بالعنكبوت التي تُقيم بيتاً و تسكن فيه بشوق، متربّصة بصيدها من ذباب و حشرات، فأيّ عالم ذلك الذي تعيش فيه هذه العناكب.
فإذا عَلِقَت ذبابة أو حشرة بنسيجها في غفلة، اندفعت العنكبوت نحوها و جعلت منها لقمة سائغة لها.
فهذه العنكبوت، تظنّ أنّ بيتها أحكم البيوت، و أنّ نسيجها الذي نسجته بلعابها أقوى القلاع، و لا ترى شيئاً أقوى منه.
و لا يختصّ هذا المثال بنسيج العنكبوت وحده، بل أنّ كلّ كائن في هذا العالم له مصيدته الخاصّة به، و التي يسعى بواسطتها الحصول على صيده المفضّل.
كُلُّ مَنْ في الوُجُودِ يَطْلُبُ صَيْداً | *** | إنَّمَا الاخْتِلَافُ في الشَّبَكَاتِ |
و هذه العنكبوت تجهل أنّ بيتها المصنوع من لعابها، وَهِن و ضعيف، و أنّ دارها مهدّدة بالفناء بمجرّد هبوب نسمة عليه، أو نفخة من نَفَس الإنسان.
إلّا أنّ هذه العنكبوت ببنائها لذلك البيت و تلك المصيدة، لم ترتكب سوءاً، بل إنّها مجبولة على ذلك، وفقاً لنظام تكوينها و غريزتها الطبيعيّة، فهذا المخلوق بريء، لأنّه يؤدّي ذلك حسب ما تمليه عليه طبيعته، بدون زيادة.
أمّا الإنسان الذي يسير عكس مشيئة الله و سيره الفطريّ، و ضدّ طريق و منهج الحقّ، فيُنكر لقاء الله، و يتّخذ من دونه أولياء، سواء كانوا صُمّاً كالأصنام، أو ناطقين كالمتجبّرين و المعتدين على حقوق الله و الخلق، و يُلزم نفسه طاعتهم و ولايتهم، مقترفاً كلّ ذلك عن علم منه بالخطيئة و المعصية، و يضع الغشاوة على عينيه، مع علمه بعدم ثبات و دوام هذه الولاية المتهرِّئة و الخياليّة. و يعجز عن رؤية الحقّ و الحقيقة، و يربط نفسه و حياته و مصيره و إنسانيّته و الأبديّة- و هو أفضل و أشرف المخلوقات- بخيوط وهنة من لعاب و أفكار نفسانيّة رديّة و معتقدات شيطانيّة، ليحسب المرء أنّ هذه الخيالات و الأوهام و الظنون التي لا أساس لها، هي أفضل و أقوى و أمتن ما موجود في عالم الوجود، و ما إن تهبّ ريح حتى تذهب بما بناه، و تحيل حياته و عيشه إلى خراب و كأنّ شيئاً لم يكن كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.۱
، ناگهان بانگى برآمد خواجه مُرد،٢
و الآن، أ لا يشبه هذا التوكّل و الاعتماد على غير الله، و اليأس من لقائه، ضعف و وهن بيت العنكبوت التي ضرب بها المثل في هذه الآية؟ و مضافاً إلى ذلك، فهذه الآية تشير بوضوح إلى أنّ هذا النمط من الناس قد فقد عقله، و خسر وجدانه، فأعمي عينيه، و أصمّ أذنيه، و أفرغ قلبه من حبّ الله، و أفرغ عقله من كلّ أمل بزيارة و رؤية المحبوب الحقيقيّ، و الرجوع إلى الموطن الأصليّ، فلا عقل لهم يعقلون به، و لا فكر لهم
يفكّرون به، و إلّا لما انتهجوا هذا الطريق المعوجّ و المنحرف.
و قد ذكر أعلام و أساطين الأدب أنّه لو وُضع حرف لو في بداية الجملة الشرطيّة، لأفاد تعليق الجملة الجزائيّة بالجملة الشرطيّة في مقام الإثبات، و كذلك امتناع تحقّق الجملة الشرطيّة، فمثلًا لو قيل لَوْ جَاءَ زَيْدٌ لأكْرَمْتُكَ، فهذه الجملة تفيد أوّلًا: في حال مجيء زيد يتحقّق الإكرام، و ثانياً، تفيد أنّ زيداً لم يحضر بعد.
على العكس من (إن) الشرطيّة، و التي تفيد الثبوت عند الثبوت، و النفي عند النفي، فمثلًا لو قيل أن جَاءَ زَيْدٌ لأكْرَمْتُكَ، فإنّها تفيد ثبوت الإكرام عند مجيء زيد و عدم الإكرام عند عدم مجيئه، و من ناحية أخرى، فلا تفيد أنّ زيداً قد جاء فتمّ الإكرام، أو أنّه لم يأت، فلم يتحقّق، فمفادها التعليق و حسب، و أمّا في حالة استخدام لو، ففي هذه الحال يتمّ الإشارة إلى تعليق الثبوت عند الثبوت، و لا دخل لها بالنفي عند النفي، إلّا أنّها تفيد أنّ زيد لم يأت بعد، و أنّ الجملة الشرطيّة لم تتحقّق، بل كانت ممتنعة الصدور.
و في الآية، موضوع البحث، يقول الله سبحانه و تعالى: إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، و لكنّهم لا يعلمون، و أنّ علمهم بذلك ممتنع التحقّق و عديم الصدور.
و يفيد هذا الأمر، على أنّ هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله و لقائه، و الذين اتّخذوا أولياء من دونه تعالى، لا عقل لهم و لا علم.
و استطراداً للآية السابقة يقول سبحانه و تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، ثمّ يقول تعالى بعد ذلك: «و تلك الأمثال (أيّها النبيّ) نضربها للناس و ما يعقلها إلّا العالمون». و يستفاد من ذلك أيضاً أنّ مسألة اتّخاذ الولاية الإلهيّة هي متعلّقة بدرك الخاصّة من
الأولياء و الذين اشير إليهم هنا بعقل العالمين بالله، و بعقل الأصفياء و المقرّبين و المخلصين.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالهمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ... أوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُّجِّيّ
و من بين الآيات ذات التعبير و التمثيل العجيب قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.۱
و قد ذكر أصحاب التفاسير: أنّ الله سبحانه ذكر مثالين لبيان أعمال الكافرين في هاتين الآيتين: الأوّل: السراب، و الثاني: الظلمات في بحر لجّيّ.
أمّا المثال الأوّل: فهو عن اولئك الذين يعتبرون أنّ أعمالهم حسنة و يحسبون أنّ أفعالهم مرضية، و أنّها مستحسنة من قبل الناس، و تستحقّ التمجيد، إلّا أنّ أعمالهم تلك كلّها باطلة، مثلها كمثل السراب، و تتبيّن حقيقتها جليّة بعد انكشاف الحقّ.
الثاني: يخصّ اولئك الذين يعتدون، و يخرجون عن جادّة الحقّ، عن علم منهم بذلك و يقين، مدركين العاقبةَ الوخيمة لأعمالهم و مصرّين على جحود و إنكار ربّ العالمين، و التكبّر إزائه فيحرفون الأمّة من خلال استقطابها.
و أيّاً كان الأمر، فإنّ هذين المثالين مثيران للإعجاب، فأمّا الأوّل،
و هو مثال السراب، فإنّ الظمآن حين ينظر إلى السراب في الصحراء يحسبه ماءً، فيمضي نحوه مسرعاً، إلّا أنّ السراب يبتعد عنه كلّما دنا منه، ذلك أنّ شرط رؤية السراب هو وجود مسافة معيّنة بين عين الناظر و ذلك السراب، فكلّما اقترب الناظر ابتعد السراب بنفس المسافة. و خلاصة القول فإذا افترضنا أنّ الصحراء واسعة جدّا، فلو سار الناظر وراء السراب من الصباح حتى المساء في بحثه عن الماء لظلّ السراب على نفس البعد عن الناظر، و استمرّ تلألؤ و لمعان شعاع الشمس المنعكس عن الرمال، و الذي يتسبّب بظهور هذا السراب، و لقضى الظمآن نهاره كلّه في ذلك عطشاناً حتى تخور قواه، و يلفظ أنفاسه.
و أعجب من ذلك مشهد البستان ذي الأشجار العالية الذي نراه في بعض الصحاري و الفلوات، التي لا تحمل إلّا أشواكاً كصحراء الجزيرة العربيّة المحرقة التي تغطّيها أشواك الغيلان، إذ تبدو كأشجار باسقة عن بعيد، و ذلك بانعكاس ضوء الشمس عليها فيحسبها الناظر إليها بستاناً نضرة فيسعى جاهداً للوصول إليها، فإذا به لا يرى إلّا أشواكاً.
فأمّا في المثال الثاني، بما أنّ النور هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة اي علم أو حياة، فلولا وجود النور لكان العالم عدم مطلق، فالإنسان يحتاج إلى نور عود الثقاب في الليلة المظلمة، فبدونه، يتعثّر في الظلام، و يهوي ساقطاً في حفرة، أو يغوص في الطين، أو قد يسقط من مرتفع، و يقع في شَرَك حيوان مفترس، أو بِيَد عدوٍّ لدود، و هلمّ جرّاً.
فتأمّل في مدى فائدة هذا النور الضئيل له!
فما بالك في الأشدّ و هجاً، و كذا في الأنوار الأخلاقيّة و الصفاتيّة، و كذلك، الأنوار العقلانيّة و الذاتيّة، التي لو فقد الإنسان إحداها، لصار كالأعمى، فهو أعمى برغم امتلاكه لعينين، فالعين تُبصر بالنور الحِسّيّ،
و أمّا العقل و الشهود، فيُبصران بالنور العقلانيّ و الشهوديّ.
الكفّار غارقون في ظلمات ثلاث: الخيال و الوهم، و العقل، و الذات
إن المنكر للّه و لقائه، و الذي يرتكب كلّ ما يخالف السنن الأوّليّة و الاصول الفطريّة، أعمى يغوص في طبقات الظلمات، و يتيه في لجج المياه المضطربة لهوى النفس و التبعيّة للشيطان و النفس الأمّارة بالسوء و ظلماتها العجيبة، فلا بصيص نور يُرجى. فقد ورد في القرآن الكريم: أنّ هذا النوع من الكفّار، غارق في ظلمات ثلاث:
الاولي: ظلمة تشبه الليل. و الثانية: ظلمة فوق الظلمة الاولى، كظلمة موج البحر العميق. و الثالثة: ظلمة أخرى، و هي ظلمة الغيوم السوداء التي تغطّي وجه السماء.
فحلكة هذه الظلمات هي من الشدّة، بحيث إنّه لا يرى شيئاً مطلقاً، حتى يده، فهؤلاء الكافرون لا يهتدون بنور شرعيّ، و لا نور عقليّ و لا شهوديّ، و يسبحون في أعماق طبقات الظلمة و الخيال و الوهم، بعيداً عن نور العقل و الذات، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ، و العياذ بالله.
تمثيل الملّا الروميّ مضاجعة السعلاة و صيد الصيّاد لظلّ الطائر
فما أروع تصوير الحكيم مولوي لهذا الضياع و الابتعاد عن طريق الحقّ، حيث يقول:
چون به حقّ بيدار نبود جان ما | *** | هست بيدارى چو در بندان ما |
جان همه روز از لگدكوب خيال | *** | و ز زيان و سود و از خوف زوال۱ |
نى صفا مىماندش نه لطف و فرّ | *** | نى به سوى آسمان راه سفر |
خفته آن باشد كه او از هر خيال | *** | دارد امّيد و كند با او مقال |
نى چنانكه از خيال آيد به حال | *** | آن خيالش گردد او را صد و بال |
ديو را چون حور بيند او به خواب | *** | پس ز شهوت ريزد او با ديو آب |
چونكه تخم نسل در شوره بريخت | *** | او به خويش آمد خيال از وى گريخت |
ضعف سر بيند از آن و تن پليد | *** | آه از آن نقش پليد ناپديد |
مرغ بر بالا پران و سايهاش | *** | مىدود بر خاك و پرّان مرغ وش۱ |
ابلهى صيّاد آن سايه شود | *** | مىدود چندانكه بى مايه شود |
بىخبر كان عكس آن مرغ هواست | *** | بى خبر كه اصل آن سايه كجاست |
تير اندازد به سوى سايه او | *** | تركشش خالى شود در جستجو |
تركش عمرش تهى شد عمر رفت | *** | از دويدن در شكار سايه تفت |
ساية يزدان چه باشد دايهاش | *** | وارهاند از خيال و سايهاش |
ساية يزدان بود بندة خدا | *** | مردة اين عالم و زندة خدا۱ |
و قد صوّر الشاعر في هذه الأبيات الغافلين عن ذكر الله، و المبتعدين عن طريقه، و الذين خسروا كلّ وجودهم و حياتهم رخيصة، و باءوا بخسران مبين، فلم تعد لهم قدرة و لا علم و لا عمر.
كمن يحلم بسعلاة ظنّاً منه أنّها حوريّة فيجامعها و يريق نطفته الثمينة فيها و إذا به يستيقظ من النوم فيتعجّب ممّا كان يعشق! فقد كانت تلك سعلاة على صورة و هيئة حوريّة فأراد أن يولد من ذلك الموجود الملكوتيّ و الروحانيّ نسلًا طاهراً فواقعها و خسر نطفته و رأس ماله الغالي، و أسفاً لأنّه بذر بذوره في أرض بور فلم يحصل على ثمرة و لا فائدة، بل ألمّ به الضعف و طرأ عليه الوهن و أصابه الصداع و تدنّس بدنه و تنجّس.
أو كالصيّاد الذي طارد صيداً في الهواء و طائراً في السماء بقوسه و سهامه لكنّه بدل أن يصوّب عينيه نحو الأعلى و يصيد بسهمه الطائر الحقيقيّ و يهنأ بأكله، فقد كان ينظر إلى الأرض و يصوّب سهمه إلى ظلّ الطائر الذي يتحرّك على الأرض بدل أن يصوّبه إلى نفس الطائر.
فهذا الصيّاد كان يصوّب سهمه إلى الظلّ، و لهذا السبب لم يستطع بلوغ هدفه و لا اصطياد ما اشتهى. فكان الظلّ الذي يشبه الطائر يتحرّك إلى الأمام باستمرار، و كان الصيّاد يطلق السهم تلو الآخر على ظلّه حتى أتى على كلّ سهامه؛ و لم يستطع رغم ذلك اصطياد الطائر، فتبيّن له أنّ الظلّ إنّما كان باطلًا و ليست له حقيقة الطائر أو واقعيّته؛ فضاع عمره و انتهي زمانه و عليه أن يهيّئ نفسه للهلاك في آخر النهار، و ذلك بسبب الجوع و الظمأ و التعب و الإرهاق و المشاكل التي واجهته أثناء عمليّة الصيد و ملاحقته للفريسة و عدم حصوله عليها.
إن الله هو الحقّ، و ما دونه الباطل؛ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.۱
فلا خيار ثالث بين الحقّ و الباطل.
فإذا تخلّيتَ عن الملاك، وقعت في شَرَك الشيطان، و إن لم يصب سهمك طائراً في السماء، أصابك، و لن يشفى غليلك اي منهم.
و من جملة الآيات الكريمة العجيبة في هذا المجال:
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ.۱
و تصوّر هذه الآية ذلك الذي يمدُّ يده إلى الماء، و يرمي أن يغرف منه بكفٍّ مفتوحة، فلا يرتوي منه، و يظلّ ظمآناً.
و من الآيات الأخرى أيضاً:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ.٢
أي أنّ هؤلاء المساكين يسعون إلى جمع المال في الدنيا و الحصول على الجاه و المقام، و المال و البنين و العشيرة و تحصيل العلوم و المعارف الخياليّة، و غير ذلك من الامور التي يبغون من ورائها العزّة و الطمأنينة في هذا العالم، غافلين عن الله، و كافرين بهذا الربّ الودود الواحد القهّار ذي المجد و العظمة، فإذا بالأجل يحيط بهم من كلّ جانب، و يُرسل بهم إلى قعر القبر المظلم. فأين تلك العزّة و السلطان، و أين ذلك الغرور و التكبّر؟!
لقد صار الواحد منهم يسير صوب الموقف العظيم، و يُحاسَب على أعماله، بيدين خاليتين كرماد تذروه الرياح في يوم عاصف، و يسحق بنيانه و يندثر وجوده الاعتباريّ.
وَ إن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
و تشير آية أخرى إلى مثال منطقيّ محيّر:
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ.۱
فيا له من مثال عجيب ذلك الذي يصوّر خلق ذبابة، و أبسط منه، سلب الذباب لشيء ما و فراره، و العجز عن استنقاذه منه، و هذا الذباب قد يكون مخلوقاً حقيراً في نظر العامّة، لهذا ضُربَ به المثل، و هو مثال صادق و مشهود في كلّ ذرّة من ذرّات الوجود.
و من هنا يعتبر الله عزّ و جلّ أساس علم اولئك- الذين يفضّلون الحياة المادّيّة و الشهوانيّة و يجعلونها هدفهم الأسمى و لا يرون ما دون ذلك- واهٍ لا قيمة له. و قد عزلهم عن صفّ العلماء و العقلاء بقوله تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، و وضعهم في زمرة الضالّين الذين لا يرون شيئاً أسمى من الحياة الاعتباريّة في النشأة الطبيعيّة: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى.٢
و الحقّ أنّه يجب التدقيق في عبارة ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ حيث أنّ جميع علماء المادّيّة و الطبيعة، و الشيوعيّين و المادّيّين، و علماء العلوم التطبيقيّة و العلماء المسلمين و علماء سائر الأديان الذين لا تهديهم علومهم إلى الله تعالى، و الذين ركضوا وراء المصطلحات و المعادلات، و فرحوا بسلامهم و صلواتهم و هتافاتهم، و بكراسي الحكم و الجوائز و الأوسمة
و إجازات المجتهدين و شهادات الدكتوراة التي باعوا لأجلها أنفسهم، و تركوا خلفهم الله و السعادة و الصدق و الأمانة، و استبدلوا الخلوة مع الله بالانس مع الأغيار، و شُغلوا عن لقاء الأحبّة بعُبّاد الدنيا، و غفلوا عن ذكر الله. نقول: أنّ هؤلاء كلّهم بائسون و مساكين.
و على الرغم ممّا يملكون من مناصب و نفوذ، فهم خالو الوفاض، و بهذا الوصف البليغ ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فهم قد افرغوا من الإنسانيّة و مُنعوا من الوصول للنقطة التي تؤهّلهم للانطلاق نحو بلوغ مرتبة الإنسان الكامل، و هم محرومون من الحياة المثاليّة للمقرّبين و جليسي الملائكة و أرواح السعداء و الأولياء و قد سقطوا في درك البهيميّة و الشيطنة، و نُفوا إلى قعر الوادي المظلم بعيداً عن التجرّد و النور و السرور و الحبور، و جعلوا من أنفسهم محرومين و إلى الأبد.
و هذا الأمر من الأهميّة بحيث ينهي الله نبيّه الكريم عن معاشرة و مصاحبة هؤلاء، أو إقامة أيّة روابط معهم.
و في إزاء هذه الفئة، هناك من سُعدوا بلقاء الله، و وهبوا قلوبهم له، و وضعوا دينهم و حياتهم و نفوسهم بين يديه، و حزموا أمرهم للبحث عنه، و لقاء وجهه الكريم، و واصلوا الصباح بالمساء بذكره، و اختاروا الحياة العليا على الدنيا، و الله سبحانه و تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن لا يطرد هؤلاء و أن يكون حميماً معهم، و أن يشدّ على أيديهم، فيقول في الآية الكريمة:
وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.۱
و هنا نرى بأنّ الله، و تقديراً لطالبي وجهه الكريم و لقائه، فهو يضع نبيّه الكريم، خاتم الأنبياء و المرسلين في زمرة الظالمين إن هو منع هؤلاء و طردهم.
و السرور كلّ السرور، حين يشكّل الإنسان هذه الآصرة، و حين يصل الإنسان إلى مرتبة الإنسانيّة، فيتربّع على الذروة الأرفع، و السنام الأعلى.
غزل الحكيم السبزواريّ في عظمة مقام الوصول إلى لقاء الله
ساقى بيا كه گشت دلارام، رامِ ما | *** | آخر بداد دلبر خوشكام، كامِ ما |
بس رنج بردهايم و بسي خون كه خوردهايم | *** | كان شاهباز قدس فتادى به دام ما |
در دار ملك عالم معنى دَم نخست | *** | زد دست غيب سكة دولت به نام ما |
مائيم اصل و جمله فروع فروغ ماست | *** | گر خواجه منكر است بنوشد ز جام ما |
بر آستان پير مغان رو نهادهايم | *** | برتر ز عرش آمده زين رو مقام ما۱ |
عرشِ سپهر خود چه بُوَد پيش عرش دل | *** | يا كعبه در برابر بيت الحرام ما |
هر ذرّه خاك درّه و هر تخته تخت شد | *** | چون آمد آن هماى همايون به دام ما |
گلبانگ نيستى چو شد از بام ما بلند | *** | نُه بام چرخ وام برند از دوام ما |
اسرار بشكند كُلَه خسروى به فرق | *** | تا گفته مى فروش تو هستى غلام ما۱ |
مقولة الحكيم الفيض الكاشانيّ في إمكان لقاء الله و معرفته
و قد خَصّص العالم المحقّق، و الحكيم المدقّق، الملّا محسن الفيض الكاشانيّ قدّس الله سرّه كلمته الاولى من «الكلمات المكنونة» لمسألة إمكانية لقاء الحيّ القيّوم السرمدي الأبدي و معرفته، و بدورنا، و للأمانة العلمية، و النقل الحرفي لهذه الكلمة من جهة، و من جهة أخرى تجليلًا و احتراماً لعظمة المكانة العلمية و العملية لهذا الفطحل الشامخ، ننقل هنا كلمته بحذافيرها:
«كَلِمَةٌ بِهَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْتِنَاعِ المَعْرِفَةِ وَ الرُّؤْيَةِ وَ بَيْنَ إمْكَانِهِمَا:
طلب اي عاشقان خوش رفتار | *** | طرب اي نيكوان شيرين كار |
تا كى از خانه هين ره صحرا | *** | تا كى از كعبه هين در خمّار |
در جهان شاهدىّ و ما فارغ | *** | در قدح جرعهاى و ما هشيار |
زين سپس دست ما و دامن دوست | *** | بعد از اين گوش ما و حلقه و يار۱ |
مع أنّ الكرّوبيّين في الملأ الأعلى واقفون عند مقام لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً و أنّ المقرّبين من الحقّ تعالى، يعترفون بقصور مَا عَرَفْنَاكَ و تُغشي الآية الكريمة لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ كلّ عين، و نصّ أنَّ اللهَ احْتَجَبَ عَنِ العُقُولِ كَمَا احْتَجَبَ عَنِ الأبْصَارِ رائد كلّ ناظر و عاقل، إلّا أنّ اسود غابة الولاية ما فتئوا يردّدون لَمْ أعْبُدْ رَبّاً لَمْ أرَهُ و يخطون على طريق لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً.
نعم، لا سبيل للوصول إلى لبّ الحقيقة، و ذلك لإحاطته بكلّ شيء، فهو لا يُحاط بشيء، و لا يُدرك شيء دون الإحاطة به، فَإذاً «لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».٢
عنقا شكار كس نشود دام باز گير | *** | كانجا هميشه باد به دست است دام را۱ |
فَدَعْ عَنْكَ بَحْراً ضَلَّ فِيهِ السَّوَابِحُ.
در اين ورطه كشتى فرو شد هزار | *** | كه پيدا نشد تختهاى بركنار٢ |
إلّا أنّ له صوراً باعتبار التجليّ في مظاهر أسماء و صفات اي موجود، و له في كلّ مرآة هيئة.
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.٣
وَ لَوْ أنَّكُمْ أدْلَيْتُمْ بِحَبْلٍ إلى الأرْضِ السُّفْلَي، لَهَبَطَ عَلَى اللهِ.
و هذا التجليّ موجود في الجميع، إلّا أنّ الخواصّ يعلمون ما يرون، و لهذا فهم يقولون: مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا وَ رَأيْتُ اللهَ قَبْلَهُ وَ بَعْدَهُ وَ مَعَهُ.
دلى كز معرفت نور و صفا ديد | *** | بهر چيزى كه ديد اوّل خدا ديد |
بهر كه مىنگرم صورت تو مىبينم | *** | از اين ميان همه در چشم من تو مى آئى٤ |
و العوامّ لا يعلمون ما يرون.
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.۱
گفتم بكام وصلت خواهم رسيد روزى | *** | گفتا كه نيك بنگر شايد رسيده باشى٢ |
،،،
دوست نزديكتر از من به من است | *** | وين عجبتر كه من از وى دورم |
چكنم با كه توان گفت كه دوست | *** | در كنار من و من مهجورم٣ |
قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.٤
قيل: يعني ساكحّلُ عين بصيرتهم بنور توفيقي و هدايتي، لِيُشاهدوني في مظاهِري الآفَاقِيَّةِ وَ الأنْفُسيَّةِ مُشاهَدَةَ عَيَانٍ؛ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ لَيْسَ في الآفَاقِ وَ لَا في الأنفُسِ إلَّا أنَا وَ صِفَاتِي وَ أسْمَائِي، وَ أنَا الأوَّلُ وَ الآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ البَاطِنُ.
ثُمَّ أكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: «أ وَ لَمْ يَكْفِ» عَلَى سَبِيلٍ التَّعَجُّبِ.
أنَّ اللهَ تَجَلَّى لِعِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ أن رَأوْهُ، وَ أرَاهُمْ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أن يتجلى لَهُمْ
قَالَ أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ:
أنَّ اللهَ تَجَلَّى لِعِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ أن رَأوْهُ، وَ أرَاهُمْ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أن
يَتَّجَلَّي لَهُمْ.
قَوْلُهُ: «تَجَلَّى لِعِبَادِهِ» أيْ أظْهَرَ ذَاتَهُ في مِرْآةِ كُلِّ شَيءٍ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أن يرى رُؤْيَةَ عَيَانٍ، مِنْ غَيْرِ أن رَأوْهُ بِهَذَا التَّجَلِّي رُؤْيَةَ عَيَانٍ، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالأشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ مَظْهَريَّتِهَا لَهُ وَ أنَّهَا عَيْنُ ذَاتِهِ الظَّاهِرَةِ فِيهَا.
«وَ أرَاهُمْ نَفْسَهُ» أيْ أظْهَرَهَا لَهُمْ في آيَاتِ الآفَاقِ وَ الأنْفُسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا شَوَاهِدُ ظَاهِرَةٌ لَهُ، وَ دَلَائِلُ بَاهِرَةٌ عَلَيْهِ؛ فَرَأوْهُ رُؤْيَةَ عِلْمٍ وَ عِرْفَانٍ.
«مِنْ غَيْرِ أن يتجلى لَهُمْ» أيْ مِنْ غَيْرِ أن يُظْهِرَ ذاتَهُ فِيهَا عَيَاناً بِحَيْثُ يَعْرِفُونَ أنَّهَا مَظَاهِرُ لَهُ، وَ مَرَايَا لِذَاتِهِ وَ أنَّهُ الظَّاهِرُ فِيهَا بِذَاتِهِ.
و ذكر المرحوم الفيض هنا بعضاً من دعاء ابن عطاء الإسكندريّ، الذي ذكرناه في الجزء الأوّل في البحثين التاسع و العاشر بإسناده إلى الإمام سيّد الشهداء الحسين بن على صلوات الله و سلامه عليه. ثمّ قال:
وَ رَوَي الشَّيْخُ الصَّدُوقُ مُحَمَّدُ بْنُ بَابَوَيْهِ القُمِّيّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ في كِتَابِ «التَّوْحِيدِ» بِإسْنَادِهِ عَنْ أبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لأبِي عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: أخْبِرْنِي عَنِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، هَلْ يَرَاهُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟!
قَالَ: نَعَمْ، وَ قَدْ رَأوْهُ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ!
فَقُلْتُ: مَتَى؟!
قَالَ: حِينَ قَالَ لَهُمْ: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى»!
ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
وَ أنَّ المُؤْمِنِينَ لَيَرَوْنَهُ في الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ. أ لَسْتَ تَرَاهُ في وَقْتِكَ هَذَا؟!
قَالَ أبُو بَصِيرٍ: فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! أ فَاحَدِّثُ بِهَذَا عَنْكَ؟!
فَقَالَ: لَا! فَإنَّكَ إذَا حَدَّثْتَ بِهِ، فَأنْكَرَهُ مُنْكِرٌ جَاهِلٌ بمعنى مَا تَقُولُ، ثُمَّ قَدَّرَ أنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ؛ كَفَرَ. وَ لَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ بِالقَلْبِ كَالرُّؤْيَةِ بِالعَيْنِ؛ تعالى
عَمَّا يَصِفُهُ المُشَبِّهُونَ وَ المُلْحِدُونَ.۱
وَ بِإسْنَادِهِ عَنِ الكَاظِمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَيْسَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ خَلْقِهِ حِجَابٌ غَيْرُ خَلْقِهِ. احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ وَ اسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ٢.
از فريب نقش نتوان خامة نقّاش ديد | *** | ورنه در اين سقف زنگارى يكى در كار هست٣ |
قَالَ بَعْضُ أهْلِ المَعْرِفَةِ: أنَّ العَالَمَ غَيْبٌ لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ؛ وَ الحَقُّ تعالى هُوَ الظَّاهِرُ مَا غَابَ قَطُّ. وَ النَّاسُ في هَذِهِ المَسْألَةِ عَلَى عَكْسِ الصَّوَابِ؛ فَيَقُولُونَ: العَالَمُ ظَاهِرٌ وَ الحَقُّ تعالى غَيْبٌ.
فَهُمْ بِهَذَا الاعْتِبَارِ في مُقْتَضَى هَذَا الشِّرْكِ كُلُّهُمْ عَبِيدٌ لِلسِّوَي، وَ قَدْ عَافَى اللهُ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَنْ هَذَا الدَّاءِ.
بر افكن پرده تا معلوم گردد | *** | كه ياران ديگرى را مىپرستند٤ |
نعم، إذا تحوّلت كلّ ذرّة من ذرّات البيت إلى صحراء لشاهدت وجه الشمس، و لكنّها لا تعلم ما ترى.
چندين هزار ذرّه سراسيمه مىدوند | *** | در آفتاب و غافل از آن كافتاب چيست۱ |
لمّا اجتمع السمك و قال: لقد سمعنا كثيراً عن الماء و أنّ أصل حياتنا منه، إلّا أنّنا لم نَرَ الماء بعد، و كان البعض قد سمع أنّ في البحر الفلانيّ سمك خبير مطّلع، فقالوا: لنذهب ليرينا الماء.
فلمّا وصلوا إليه سألوه، فأجاب: أروني شيئاً غير الماء حتى اريكم الماء.
با دوست ما نشسته كه اي دوست! دوست كو؟ | *** | كو كو همى زنيم ز مستى به كوى دوست٢ |
،،،
سالها دل طلب جام جم از ما مىكرد | *** | آنچه خود داشت ز بيگانه تمنّا مىكرد |
گوهرى كز صدف كون و مكان بيرون بود | *** | طلب از گمشدگان لب دريا مىكرد٣ |
بيدلى در همه احوال خدا با او بود | *** | او نمىديدش و از دور خدايا مىكرد۱ |
،،،
در ديدة ديده ديدهاى مىبايد | *** | وز خويش طمع بريدهاى مىبايد |
تو ديده ندارى كه ببينى او را | *** | ور نه همه اوست ديدهاى مىبايد٢ |
قصّة بحث السمكة عن الماء، و سقوطها على الشاطئ
يقول صديقنا القديم و صاحبنا المخلص المرحوم الشهيد آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ قدّس الله سرّه:
لقد وردت في الأدب الفارسيّ أمثلة كثيرة و لطيفة على لسان السمك و الماء لكنّنا نجهل قائلها و منشدها، إذ يقول:
به دريائى شناور ماهيى بود | *** | كه فكرش را چو من كوتاهيى بود |
نه از صيّاد تشويشى كشيده | *** | نه رنجى از شكنج دام ديده٣ |
نه جان از تشنگى در اضطرابش | *** | نه دل سوزان ز داغ آفتابش |
در اين انديشه روزى گشت بى تاب | *** | كه مىگويند مردم: آب، كو آب؟ |
كدام است آخر آن اكسير جان بخش | *** | كه باشد مرغ و ماهى را روان بخش |
گر آن گوهر متاع اين جهان است | *** | چرا يا ربّ ز چشم ما نهان است؟۱ |
،،،
جز آبش در نظر شام و سحر نه | *** | در آب آسوده وز آبش خبر نه٢ |
،،،
مگر از شكر نعمت گشت غافل | *** | كه موج افكندش از دريا به ساحل |
بر او تابيد خورشيد جهانتاب | *** | فكند آتش به جانش دورى آب٣ |
زبان از تشنگى بر لب فتادش | *** | به خاك افتاد و آب آمد به يادش |
ز دور آواز دريا چون شنفتى | *** | به روى خاك غلطيدى و گفتى |
كه اكنون يافتم آن كيميا چيست | *** | كه امّيد هستيم بى او دمى نيست |
دريغا دانم امروزش بها من | *** | كه دستم كوته است او را ز دامن۱ |
الكلام القيّم لآية الله الملكيّ التبريزيّ في رسالة «لقاء الله»
و بالجملة، فإنّه مع ما قيل و كُتب حول لقاء الله و إمكانيّة معرفته، و مع ما هو موجود حقّاً من الدرر المكنونة، و السبل المسلوكة، إلّا أنّ الحقير لم يتح له لحدّ الآن التعرّف على كتاب مثل كتاب «رسالة لقاء الله» للمرحوم آية الحقّ و سند العرفان الفقيه الجليل و الآية الربّانيّة الحاجّ ميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ أعلى الله تعالى مقامه القدسيّ و رزقنا من بركاته و رحماته بجوده و منّه، و ذلك لجهة إتقان المواضيع و إيجازها و الشواهد الروائيّة و الشهوديّة، و ترتيب المواضيع العرفانيّة اللقائيّة على أساس البرهان و استحكام الدليل.
و بناء على هذا، أرى من المناسب هنا أن أذكر بعضاً ممّا كُتب في أصل لزوم المعرفة العينيّة لفقيد العلم و العمل و الفكر و الدراية، عن النسخة الخطّيّة الموجودة لدى و التي استنسختها عنها في البلدة الطيّبة قم، حيث قال:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ
الحَمْدُ لِلَّهِ وَ الصَّلَاةُ عَلَى رَسولِ اللهِ
وَ عَلَى آلِهِ امَنَاءِ اللهِ
ورد في القرآن الكريم ما يربو على عشرين آية تحمل عبارة لقاء الله و النظر إليه، و كذا في تعابير الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، و من ناحية أخرى، فقد وردت في الروايات كلمات كثيرة في تنزيه الحقّ جلّ و علا و التي تنمّ في ظاهرها عن تنزيه صِرف عن كلّ مراتب و درجات المعرفة.
و لعلماء الشيعة رضوان الله عليهم مشارب متباينة في هذا الباب، إلّا أنّ أهمّ مَشْرَبَيْن من تلك المشارب: التنزيه الصِّرف، حيث أنّ منتهى المعرفة لهذا الفهم يكمن في ضرورة التنزيه الصِّرف للّه، و قد أوّل هذا الاتّجاه الآيات و الروايات التي جاءت في باب معرفة الله و لقائه.
فهو مثلًا يفسّر جميع الآيات و الروايات التي تتحدّث عن لقاء الله بالموت و تلقّي الثواب أو العقاب.
و تعتقد فرقة أخرى أنّه يجب الجمع بين الروايات القائلة بالتنزيه الصِّرف و بين روايات التشبيه و الروايات التي تدلّ على إمكانيّة المعرفة و الوصول و إخراجها بالشكل التالي:
حمل الروايات حول التنزيه الصِّرف على المعرفة عن طريق الرؤية بالعين الظاهرة. و التعرّف على كنه الذات المقدّسة الإلهيّة، و حمل روايات التشبيه و اللقاء و الوصول و المعرفة كلّها على المعرفة الإجماليّة و معرفة
الأسماء و الصفات الإلهيّة، و تجلّي مراتب الذات و أسماء و صفات الحقّ تعالى بالقدر الذي تكون معه ممكنة بالنسبة إلى الممكن. و بعبارة أخرى، أنّ الحجب الظلمانيّة و النورانيّة إذا انكشفت للعبد، فإنّه سيعثر حينها على المعرفة بذات الحقّ تعالى، و أسمائه و صفاته، و هذه المعرفة، هي غير تلك التي كانت قبل مرحلة الكشف.
و بعبارة أخرى، فإنّ أنوار الجمال و الجلال الإلهيّة تتجلّى في قلب و عقل و سرّ خواصّ أولياء الله، لدرجةٍ يفنون معها عن ذاتهم، و يخلدون بذات الله، و يصيّرهم في جماله هو، و تسبح عقولهم في بحر معرفة الله، فيقوم بتدبير امورهم بدلًا من عقولهم. و بعد طيّ كلّ مراحل سُبُحات الجلال و تجلّي أنوار الجمال و الفناء بالله و البقاء به، تكون محصّلة هذه المعرفة أن يرى العبد عجزه عن الوصول لِكُنْهِ معرفة الذات الإلهيّة بالكشف و العيان.
نعم، فهذا عجز عن المعرفة، و سائر الناس عاجزون عن المعرفة بدورهم، و لكن أين هذا من ذاك، فالجماد أيضاً عاجز عن المعرفة، و كذلك الإنسان. فلا جرم أنّ تباين مراتب عجز أعلم خلق الله محمّد بن عبد الله صلى الله عليه و آله و سلّم، أكبر، بالمقارنة مع سائر الناس، بل مع علماء الامّة من عجز الجماد أو الإنسان.
و إجمالًا، فإنّ طائفة من المتكلّمين من العلماء الأعلام هم على رأي الطائفة الاولى، مستدلّين بظواهر بعض الروايات و تأويل الآيات و الروايات و الأدعية الواردة في ذلك.۱
استشهاد الحاجّ الميرزا جواد آقا بفقرات الآيات و الأدعية على لقاء
و أودّ أنا الحقير بلا و فاض ذكر بعضٍ من الآيات و الروايات الواردة في هذا المعنى حسب تأويل العلماء الأفاضل حتى يتميّز الحقّ عن الباطل.
من جملة تلك الآيات: آيات لقاء الله.
و قد فسّرت الطائفة الاولى هذه الآيات بأنّ المراد منها هو الموت و تلقّي الثواب الإلهيّ. و قد فنّدت الطائفة الثانية رأي الاولى، قائلةً أنّ ذلك هو مجاز، بل و مجاز بعيد.
و إذا كان المراد حمله على المعنى المجازيّ، فالمجاز الأقرب من ذلك هو حمل ذلك على درجة من اللقاء بحيث يكون جائزاً شرعاً في إطار الممكن. و إن كان لا يصرّح به، بالعرف العامّ على أنّه لقاء حقيقيّ.
و أمّا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الألفاظ على كونها موضوعة لأرواح المعاني، و أن نتصوّر معنى روح اللقاء، فإنّنا سنرى أنّ لقاء الأجسام هو حقيقة، و هكذا لقاء الأرواح و المعاني، و يكون لقاء كلّ منها على نحو يحمل في ذاته روح معنى اللقاء، على نحو يناسب حال الملاقي و الملاقى.
ففي هذه الحالة، يمكن القول أنّ معنى اللقاء الممكن مع الله أيضاً، يحمل حقّاً روح اللقاء فيه، بما يليق بالملاقي و الملاقى، و هو يعبّر عن نفس المعنى في الأدعية و الروايات التي ورد فيها بتعابير مختلفة بلفظ الوصول، و الزيارة، و النظر إلى وجهه الكريم، و التجلّي، و رؤية القلب، و تعلّق الروح. و عبّرت عن عكسه بالفراق و الحرمان، و روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير قد قامت الصلاة أنّه قال يعني قد اقترب وقت الزيارة. و تكرّرت في الأدعية عبارة: وَ لَا تَحْرِمْنِي النَّظَرَ إلى وَجْهِكَ.
و من كلام الإمام عليه السلام كذلك: وَ لَكِنْ تَرَاهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
و جاءت في المناجاة الشعبانيّة: وَ ألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً.
و أيضاً في المناجاة: وَ أنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ حتى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَ تَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ!
و يقول في دعاء كميل عليه الرحمة: وَ هَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؟!
و هنا، سيجزم المرء ذو الفهم الخالي من الشبهات، و بعد النظر إلى هذه التعابير المختلفة، بأنّ المقصود بلقاء الله تعالى، ليس تلقّي ثوابه، مثل دخول الجنّة، و تناول تفّاحها، و رؤية الحور العين، فهذه التعابير لا تناسب ذلك المعنى.
فمثلًا، إذا أوّلَ أحدٌ اللقاء المطلق على غير معنى اللقاء، فكيف له أن يُؤَوِّل باقي الألفاظ؟ مثل النظر إلى الوجه، أو تأويل ألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً، و هل يمكن تفسير عبارة أنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ بتناول الكمّثرى؟!
و إذا سلّم شخص بأنّ المقصود بلقاء الله ليس هذا المعنى، و لكنّ المقصود هو لقاء أولياء الله من الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام.
فمثلًا، إذا قال أحدنا بأنّه قد خاطب الصدر الأعظم، فيمكن له مجازاً أن يقول: تحدّثتُ إلى الملك.
كما اطلق في الروايات لفظ «وجه الله» على الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، فعلى سبيل المثال، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم هو وجه الله
بالنسبة إلى الأئمّة عليهم السلام، و الأئمّة عليهم السلام هم وجه الله بالنسبة لنا.
فنقول في الجواب: أوّلًا، أنّ هذه الأدعية كان يدعو بها الأنبياء و الأولياء، و حتى الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلّم.
و لمّا كان الرسول الأعظم هو اسم الله الأعظم و وجهه الكريم، فما الذي كان يقصد بتلك الأدعية؟
فمثلًا، عند إخباره عن المعراج قائلًا: إنّي رأيتُ ذرّة من النور الإلهيّ فغُشي عليّ، فأنّي لنا أن نفسّر هذا؟۱
مضافاً إلى ذلك، فإنّ هذا المعنى قد اطلق على بعضٍ من درجات الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، و ذلك بعد نيلهم مرتبة القرب، و أصبحوا فانين في الله تعالى و متّصفين بصفاته.
حينئذٍ يجوز لنا أن نطلق الألفاظ وجه الله و جنب الله و اسم الله عليهم، و التسليم بهذا المعنى هو، في الحقيقة، تأييد لرأي المخالفين لا ردّه.
و التفسير الإجماليّ لهذا المعنى الذي ورد في الروايات المعتبرة حيث يقولون: نَحْنُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى.
و لا ريب، أنّ المراد من هذه الأسماء ليس الاسم اللفظيّ، بل الاسم العينيّ. و هو ما يظهر جليّاً في الروايات أنّ للّه أسماءً عينيّة غير لفظيّة،
يفعل بها ما يريد في العالم، و يتجلى الله جلّ جلاله بهذه الأسماء في هذه العوالم، و بها تحدث التأثيرات. بل أنّ وجود كلّ العالم هو نابع من تجلّيات الأسماء الإلهيّة، كما ورد مراراً في أدعية الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
وَ بِاسْمِكَ الذي تَجَلَّيْتَ بِهِ عَلَى فُلَانٍ وَ عَلَى فُلَانٍ!
وَ بِاسْمِكَ الذي خَلَقْتَ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ!
و جاء في دعاء كميل: وَ بِأسْمَائِكَ التي مَلأتْ أرْكَانَ كُلِّ شَيْءٍ!
جميع أسماء الله عزّ و جلّ هي حقائق كونيّة، و هي مخلوقة
رواية «أنَّ اللهَ خَلَقَ اسْماً بِالحرُوفِ غَيْرَ مُصَوَّتٍ»
و روي في كتابَي «اصول الكافي» للكلينيّ و «التوحيد» للصدوق،- و هي من الكتب المعتبرة لدى الشيعة- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
أنَّ اللهَ خَلَقَ اسْماً بِالحُرُوفِ غَيْرَ مُصَوَّتٍ، وَ بِاللَّفْظِ غَيْرَ مُنْطَقٍ، وَ بِالشَّخْصِ غَيْرَ مُجَسَّدٍ، وَ بِالتَّشْبِيهِ غَيْرَ مَوْصُوفٍ، وَ بِاللَّوْنِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ؛ مَنْفِيّ عَنْهُ الأقْطَارُ، مُبَعَّدٌ عَنْهُ الحُدُودُ، وَ مَحْجُوبٌ عَنْهُ حِسُّ كُلِّ مُتَوَهِّمٍ، مُسْتَتِرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ.
فَجَعَلَهُ كَلِمَةً تَامَّةً عَلَى أرْبَعَةِ أجْزَاءٍ مَعاً؛ لَيْسَ مِنْهَا وَاحِدٌ قَبْلَ الآخَرِ.
فَأظْهَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أسْمَاءٍ لِفَاقَةِ الخَلْقِ إليْهَا، وَ حَجَبَ مِنْهَا وَاحِداً، وَ هُوَ الإسْمُ المَكْنُونُ المَخْزُونُ بِهَذِهِ الأسْمَاءُ التي ظَهَرَتْ، فَالظَّاهِرُ مِنْهَا هُوَ اللهُ تعالى.
وَ سَخَّرَ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ اسْمٍ مِنْ هَذِهِ الأسْمَاءِ أرْبَعَةَ أرْكَانٍ؛ فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ رُكْناً. ثُمَّ خَلَقَ لِكُلِّ رُكْنٍ ثَلَاثِينَ اسْماً، فَعَلًا مَنْسُوباً إلَيْهَا.
فَهُوَ الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، المَلِكُ، القُدُّوسُ، الخَالِقُ، البَارِئُ، المُصَوِّرُ، الحَيّ، القَيُّومُ، لَا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ، العَلِيمُ، الخَبِيرُ، السَّمِيعُ، البَصِيرُ، الحَكِيمُ، العَزِيزُ، الجَبَّارُ، المُتَكَبِّرُ، العَلِيّ، العَظِيمُ، المُقْتَدِرُ، القَادِرُ، السَّلَامُ، المُؤْمِنُ، المُهَيْمِنُ، المُنْشِئُ، البَدِيعُ، الرَّفِيعُ، الجَلِيلُ،۱
معرفة الله ؛ ج٢ ؛ ص٤۱
الكَرِيمُ، الرَّازِقُ، المُحْيِي، المُمِيتُ، البَاعِثُ، الوَارِثُ.
فَهَذِهِ الأسْمَاءُ وَ مَا كَانَ مِنَ الأسْمَاءِ الحسنى حتى يَتِمَّ ثَلَاثَمِائَةٍ وَ سِتِّينَ اسماً؛ فَهِيَ نِسْبَةٌ لِهَذِهِ الأسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ. وَ هَذِهِ الأسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ أرْكَانٌ وَ حُجُبُ الاسْمِ الوَاحِدِ المَكْنُونِ المَخْزُونِ بِهَذِهِ الأسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ.
وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى».۱
و يُفهم من هذه الرواية، و الروايات و الأدعية الأخرى المتواترة، أنّ
الأسماء هي مخلوقة، و هي أسماء عينيّة كذلك، و هنالك روايات معتبرة تشير إلى أنّ أئمّتنا عليهم السلام كانوا يكثرون من قول: نحن الأسماء الحسنى، بل أنّ الإمام هو الاسم الأعظم.
الرسول الأكرم هو الحجاب الأقرب و حقيقة الاسم الأعظم
و تعتقد الشيعة أنّ خاتم الأنبياء و الرسل صلى الله عليه و آله و سلّم هو أشرف المخلوقات، و على هذا الأساس، فيجب أن يكون أيضاً الاسم الأعظم و مضافاً إلى هذا، فإنّه رويت في أدعية الشهر المبارك أنّ النبيّ هو الحجاب الأقرب أقرب المخلوقات، و قد ذُكر في الروايات أنّ عليّاً ممسوسٌ في ذات الله.۱
و على العاقل أن يتدبّر في هذه الروايات، و يعلم أنّها أوّلًا، روايات ذات سند معتبر و منقولة عن كتب معتبرة، و مؤيَّدة من قِبَل علماء الدين، و مضافاً إلى كونها ذات سند معتبر، فقد اتّفقوا على صحّتها، و وردت في كتبهم مُصَرّحة بصحّة سندها.
و عند تأمّل هذه الروايات، يتّضح لنا أنّ مقام خاتم الأنبياء هو مقام الاسم الأعظم و الحجاب الأقرب، و هو أرفع من الثلاثمائة اسم٢ و التي جاء ذكر خمسة و ثلاثين اسماً منها هنا. بل هو يحيط بجميع تلك الأسماء، لأنّ الرواية السابقة صرّحت أنّ الثلاثمائة اسم هذه هي مخلوقة من أركان الأسماء الثلاثة، و كلّ تلك الأسماء مضافاً إلى أسماء ثلاثة من الأركان
و الحجب هي الاسم المكنون المخزون و الذي هو أيضاً مخلوق.
و بتفهّم هذه المراتب، و بقليلٍ من التأمّل، سيتّضح أنّه لو كانت أسماء الله و صفاته الموجودة في هذه الأسماء هي جوهر حقيقة مراتب سيّد البشر صلى الله عليه و آله و سلّم، فلا بدّ أن يكون قربه قرباً معنويّاً، و معرفته معرفة حقيقيّة. و بالرغم من كلّ تلك التفاصيل، و تصريح النبيّ و أقوال آله الطيّبين و ورثته الطاهرين، بأنّ علمهم مساوٍ لعلمه، اي أنّهم وارثو جميع علومه، يبقى هؤلاء العظام عاجزين عن معرفة كنه حقيقة الذات المقدّسة، و لا ينافي ذلك رأي الأفاضل من أنّ معرفة الحقّ جلّ جلاله ممكنة و مرغوب فيها لأئمّة الدين و أولياء الله الرحيم. بل أنّ هذه من أهمّ المسائل الدينيّة، و لعلّ ثمّة مَن يستنبط شيئاً من هذه المراتب و المسائل، بل أنّ هذه المسألة هي غاية الدين، بل العلّة الغائيّة في خلق السماوات و الأرضين، بل كلّ العوالم.
و إذا كان هناك من يقف في مقام التنزيه الصِّرف للذات القدسيّة برغم كلّ هذه المراتب، و يقول: بأن لا سبيل، على الإطلاق، لمعرفة الله، لا تفصيلًا و لا إجمالًا، و لا كنهاً و لا وجهاً، فسيرى حينها، مع قليل من التأمّل الصادق، أنّ هذا التنزيه هو السبب في التوقيف و الإبطال و الإلحاق بالعدم من حيث لا يشعر، كما نهى الأئمّة صلوات الله عليهم في الروايات المعتبرة عن التنزيه الصِّرف.
و قد ورد في رواية الكافي۱، حول سؤال الزنديق:
فَلَهُ إنِّيَّةٌ وَ مَائِيَّةٌ؟!
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعَمْ لَا يَثْبُتُ الشَّيءُ إلَّا بِإنِّيَّةٍ وَ مَائِيَّةٍ!
قَالَ السَّائِلُ: فَلَهُ كَيْفِيَّةٌ؟!
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا! لأنَّ الكَيْفِيَّةَ جِهَةُ الصِّفَةِ وَ الإحَاطَةِ! وَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الخُرُوجِ مِنْ جِهَةِ التَّعْطِيلِ وَ التَّشْبِيهِ. لأنَّ مَنْ نَفَاهُ فَقَدْ أنْكَرَهُ وَ رَفَعَ رُبُوبِيَّتَهُ وَ أبْطَلَهُ، وَ مَنْ شَبَّهَهُ بِغَيْرِهِ فَقَدِ انْتَسَبَهُ بِصِفَةِ المَخْلُوقِينَ المَصْنُوعِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ الرُّبُوبِيَّةَ. وَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ أنَّ لَهُ كَيْفِيَّةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ وَ لَا يُشَارَكُ فِيهَا وَ لَا يُحَاطُ بِهَا وَ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ.
و يذكر الزنديق في أوّل هذه الرواية:
فَمَا هُوَ؟!
فأجاب عليه السلام: هُوَ الرَّبُّ؛ وَ هُوَ المَعْبُودُ؛ وَ هُوَ اللهُ!
ثمّ قال: و ليس قولي «الله» إثبات هذه الحروف... و لكن ارجع إلى معنى و شيءٍ خالق الأشياء و صانعها و نَعْت هذه الحروف و هو المعنى.
إلَى أن قَالَ: قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَإنَّا لَمْ نَجِدْ مَوْهُوماً إلَّا مَخْلُوقاً!
قَالَ أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّوْحِيدُ عَنَّا مُرْتَفَعاً لأنَّا لَمْ نُكَلَّفْ غَيْرَ مَوْهُومٍ! وَ لَكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَوْهُومٍ بِالحَوَاسِّ مُدْرَكٍ بِهِ تَحُدُّهُ الحَوَاسُّ وَ تُمَثِّلُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، إذْ كَانَ النَّفْيُ هُوَ الإبْطَالُ وَ العَدَمُ- إلى آخره.
التنزيه المحض للّه تعالى لا يستلزم تعطيله و نفيه
فلا يجب على العاقل أن يعتبر نفي اي معنى تنزيهاً للحقّ تعالى، فيقوم بنفيه. و لن تكون حقيقة ذلك إلّا البطلان.
فيجب تنزيه الذات المقدّسة للّه تعالى عن المعاني غير اللائقة التي تستوجب تحديده، و نسبة النقص إليه، و نفي أيّة معرفة ترتبط بالحواسّ بكلّ أنواعها، إلّا أنّه لا يجب أن ينفي المعرفة بعين القلب و الروح، خاصّة إذا كانت معرفة بالوجه لا بالكنه، ذلك أنّه لن يبقى من شيء للأنبياء و الأولياء و العرفاء الحقيقيّين إلّا ما يملكه العوامّ.
نعم، لو كان الإنسان يملك ذرّة بصيرة، لأدرك بأنّ هؤلاء الذين ينفون المعرفة بالوجه، هم أنفسهم، لا إراديّاً، يميلون إلى هذا الاعتقاد قلبيّاً، و هذا الاعتقاد و الإيمان القلبيّ الجزئيّ بحدّ ذاته، ينافي التنزيه الصِّرف الذي يدعون إليه، و ذلك لأنّهم يتضرّعون إلى الله في أدعيتهم بقولهم: أنت الرحمن! أنت الرحيم! أنت الغفور، افعل بي كذا و كذا!
و قطعاً، فإنّهم لا يقصدون تلفّظ حروف مفرغة من معانيها، اي لا بدّ أنّهم يقصدون ذاتاً واجدة لهذه الصفات التي ينعتونها بها، حتى لو كانت على نحو لا يطابق نعت الذوات الإمكانيّة.
و لا بدّ أنّهم يتصوّرون أنّ رحمة الله المنزّهة من المعنى هي رحمة تستوجب التأثّر و رقّة القلب، و لكنّ هذا المعنى أيضاً، و بصورة مجملة، يجعلهم يتصوّرون بأنّ الإيمان و الاعتقاد به (بهذا المعني) كان وراء الدعاء و التضرّع. و هذه المسألة و المعرفة الجزئيّة القلبيّة تنفيان كذلك صحّة ما يدّعونه.
و الذين يدّعون المعرفة و إمكان المعرفة، لا يقولون بأكثر من أنّ: هذه المعاني الإجماليّة للأسماء و الصفات الإلهيّة جلّ جلاله، التي تؤمنون بها قلبيّاً، قد رأيناها نحن بطريق الكشف و الشهود، و بهذه القيود التنزيهيّة، و توصّلنا إلى حقائقها، و هذه الحقائق المنكشفة لنا هي نفسها التي يحملها المحقّقون و المتكلّمون من الإماميّة رضوان الله تعالى عليهم
في عالم التصوّر و العقد القلبيّ؛ و الفرق بينها هو نفس الفرق بين التصوّر و الوجدان. أو كما هو الفرق بين أن يعرف الفرد معنى الحلوى معرفة تطابق الواقع، بشكل يتصوّر فيه الحالة و ذلك بانتشار مذاق بعض الأجسام إلى أغشية سقف الفم، و بين أن يتناول الحلوى مباشرة.
يمكن أن نعتبر الحالتين السابقتين متماثلتين من منظار معيّن، و في نفس الوقت، أن نعتبرهما من منظار آخر، منفصلتين تماماً و لا علاقة لإحداهما بالأخرى.
فمثلًا، يعتبر المتكلّمون نور الحقّ جلّ جلاله ظاهر و مُظهر، و لكنّه ليس من قبيل نور الشمس أو القمر... إلى آخره، فالرسول صلى الله عليه و آله يرى في سرّه و روحه حقيقة هذا الظاهر و المُظهر تتوضّح في تجلّي الاسم المبارك، و طبقاً للتنزيه الذي ذكرناه: لَا يُشْبِهُهُ نُورٌ مِنَ الأنْوَارِ بَلْ أجَلُّ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ؛ و هذا ما نسمّيه بالمعرفة. و هذا التقريب هو من باب التمثيل، و ضروريّاً أن يُقرّب من جهة، حتى لو بَعَّدَ من جهات أخرى.
فمعرفة الاسم الظاهر للّه تبارك و تعالى لوليّ من الأولياء، إذا حصلتْ بتجلّي الاسم الظاهر فيقول: أ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حتى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟!
إنكار لقاء الله الباعث على التنزيه المحض، يوجب الكفر
و يقول الإمام الصادق عليه السلام: مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا وَ رَأيْتُ اللهَ قَبْلَهُ وَ مَعَهُ وَ بَعْدَهُ، فليس للإنسان بعد أن ينكر ذلك، أو يؤَوِّله على هذا المعنى (و قد أقرّ قلبه بذلك) و يسمّى ذلك تنزيهاً للّه تعالى عن أن يشاهد أحد حقائق أسمائه العظيمة.
نعم، هذا طبيعيّ، فالإنسان عدوّ ما يجهل.
و على أيّة حال، فإذا كان عزم المؤمن على أن ينفي كلّ مسألة لا يصل الفهم البدويّ إليها، فإنّه سيخرج عن دائرة الإيمان، بل- و حسب
قول الإمام الصادق عليه السلام- فهو إن لم يُقرّ بعد التأمّل و البحث، و أصرّ على الردّ و الإنكار، و اتّخذهما نهجاً و مذهباً له، فهو خارج عن دائرة الإيمان.
و حريّ بالإنسان في غمرة هذه المسائل، إذا استعصى عليه أمرٌ في كلمات الأنبياء و الأولياء و العلماء الأعلام و لم يتبيّن كنهه، أن يتضرّع إلى واهب العلم و العقل، و يُخلص نيّته، و يتأمّل في كلماته، و إذا اتيحت له الفرصة فليسأل من أتقياء العلماء، فإنّ خالق الكون سيمنّ عليه بفهمها، أو يريه سبيل فهمها.
و وجود هذه المسائل الرفيعة و الأسرار الربّانيّة في الدين الحقّ، أمر مفروغ منه، و لكنّ الكلّ يدرك، حتى المتوغّلين منهم في جمودهم، بأنّ السبيل إلى ذلك الفهم، هو بتزكية النفس و التقوى و الرياضة الشرعيّة، فبهذا كلّه تضعف القوّة الحيوانيّة، و تنمو القوّة الروحانيّة و الإيمانيّة، عندها ترى بصيرة الإنسان نور الحقيقة (بالكشف و الشهود) كما في قوله تعالى في الآية الكريمة: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.۱
و روي عن خاتم الرسل الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال، أنّ كلّ فرد له عينا السرّ يُبصر بهما الغيب، فإذا أراد تعالى بعبده خيراً، فتح له عينَي السرّ هاتين.
و الآن يا أخي! إذا عقدت الأمر لتكون من أهل المعرفة، و تصبح إنساناً، فتسبح في العالم الروحانيّ، و تكون شريكاً للملائكة، و رفيقاً للأنبياء و الأولياء، فاحزم أمرك، و ادخل من باب الشريعة، و ضَعْ عنك ما استطعتَ من الصفات الحيوانيّة، و تخلّق بأخلاق الروحانيّين، و لا ترضَ
بمقام الحيوان، و لا تقنع بدرجة الجماد، و غادر هذا المستنقع إلى الموطن الأصليّ في عوالم العليّين، و مكان المقرّبين، لكي تلمس حقيقة هذا الأمر الجسيم بالكشف و العيان، و طريق الوصول إلى المنزلة العظمى هو بمعرفة النفس، فابذل السعي الحثيث لعلّك تصل إلى معرفة نفسك، فهي السبيل لمعرفة الله جلّ جلاله كما قد روي بأنّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ۱.
مع أنّ البعض يأخذ هذه الرواية و يُؤَوِّلها على أساس التعليق بالمحال؛ غافلين عن أنّ هذا المعنى قد ورد في أخبار أخرى بالمعنى الأوّل.
كما وردَ في «مصباح الشريعة» أنّ رسول الله سُئل: ما العِلم الذي اشيرَ إليه أن يُطْلَبَ و لو كان في الصين؟
قال: المراد من ذلك هو معرفة النفس التي فيها تكمن معرفة الربّ.
و هكذا فقد ورد في الخبر أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: كَيْفَ الطَّرِيقُ إلى مَعْرِفَةِ الرَّبِّ؟! فأجاب: مَعْرِفَةُ النَّفْسِ!٢
و بالجملة، فاعلم أنّ إنسانيّة الإنسان ليس في صورته، فالصورة يمكن نقشها على باب الحمّام كذلك، و لا في جسمانيّته، فالحيوانات الخبيثة أيضاً لها أجسام، و لا في شراهة الأكل و الجماع، ذلك أنّ الدبّ و الخنزير أكثر شراهةً منك، و لا حتى في الغضب و شدّة الانتقام، ذلك أنّ قوّة الغضب عند الكلب و الذئب كبيرة، بل أنّ الخصوصيّة الإنسانيّة التي تجعل منك إنساناً و تُفتَقَد لدى نُظرائك، هي العلم و المعرفة و الأخلاق الفاضلة.
فلا يمكن الحصول على العلم و المعرفة إلّا بتحسين الأخلاق، كما
قال: لَيْسَ العِلْمُ في السَّمَاءِ لِيَنْزِلَ إليْكُمْ، وَ لَا في الأرْضِ لِيَصْعَدَ لَكُمْ؛ بَلْ مَجْبُولٌ في قُلُوبِكُمْ. تَخَلَّقُوا بِأخْلَاقِ الرُّوحَانِيِّينَ حتى يَظْهَرَ لَكُمْ!۱
و تفصيل هذا الإجمال هو: هذا النموذج الإنسانيّ هو عجينة غريبة قد حوت جانباً من كلّ عوالم الإمكان، بل و فيها أثر من كلّ الصفات و الأسماء الإلهيّة جلّ جلاله. كتابٌ خطّه أحسن الخالقين بيمينه، و هو صورة عن اللوح المحفوظ. و هو حجّة الله الكبرى، و حامل الأمانة التي أبت السماوات و الأرضون أن يحملنها، و بعبارة أخرى، فلعالم المحسوسات و عالم المثال و عالم المعقول، لكلّ هذه العوالم نصيبٌ وافر في هذا الإنسان. فإذا وظّف الإنسان عالَمَي الحسّ و المثال فيه لخدمة عقله، اي بمعنى أنّه صبّ توجّهاته و هممه نحو عالمه ذاك. و وضع قوّته تلك موضع التنفيذ، فعندها سيوهب ملكوت عالَمي الشهادة و المثال، و باختصار فسيدرك منزلة و مقاماً لم يخطرا ببال أحد لما فيهما من الشرف و اللذّة و البهاء و معرفة الحقّ تعالى.
بلى، فما لا يمكن تصوّره بالخيال، سيتحقّق.
و أمّا إذا وظّف عقله لخدمة عالم الحسّ و الشهادة و هو عالم الطبيعة و عالم سجّين، و جعله تابعاً لهما، و آثر الانغماس في عالم الطبيعة، أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ٢، فالله أعلم بما سيصيبه من البلاء و الشقاء و الظلمة و الشدّة بعد
مفارقة الروح بدنه، لا سيّما في يوم القيامة الكبرى، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ.۱
من عبر الحجب الظلمانيّة رأى أنّ النفس هي من المجرّدات
و عموماً، إذا زكّي الإنسان أخلاقه، و وزن أعماله و حركاته و سكناته بميزان الشرع و العقل- لأنّ الشرع و العقل متطابقان- فإنّها تأمر الإنسان الاتّصاف بصفات و أخلاق الروحانيّين، و أن تكون حركاته و سكناته حافزاً للارتقاء إلى عوالم العليّين و منزلة الروحانيّين السامية.
و إجمالًا، أن يحصل على المعرفة بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ٢ عن طريق المَعْرِفَةِ الوِجْدَانِيَّةِ، عندها سيصبح إنساناً روحانيّاً لا جسمانيّاً، و بعبارة أخرى: صَارَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ إنْسَانٌ دُونَ أن يَكُونَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ حَيَوَانٌ.
كما روي علم الهد٣ في «الغرر و الدرر» عن سلطان الولاية عليه
السلام في إجابته على سؤال عن العالم العلويّ حيث قال:
خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، أن زكاها بالعلم و العمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، و إذا اعتدل مزاجها و فارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.۱
و هكذا في خبر آخر، حيث يقول في بيان الخليفة (بعد بيانه لعدّة مواضيع):
فَمَنْ تَخَلَّقَ بِالأخْلَاقِ فَقَدْ صَارَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ إنْسَانٌ دُونَ أن يَكُونَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ حَيَوَانٌ؛ فَقَدْ دَخَلَ في البَابِ المَلَكِيّ الصُّورِيّ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الغَايَةِ مَعْبَرٌ.
و من دالت له هذه الدولة و امتاز على عالَمَي الماء و الطين، اللذين هما عالَمي الظلمة و أوصل نفسه إلى مقام معرفة النفس، اي حقيقة النفس، و رأى حقيقة نفسه و روحه اللتين هما من عالم النور و مفتاح معرفة الربّ بالكشف و العيان، فسيرى نفسه من المجرّدات ليس إلّا.
و حينئذٍ سينجو من الحجب الظلمانيّة، و لن تبقى بينه و بين الوصول إلى المقام الذي يمكن فيه معرفة الحقّ جلّ جلاله إلّا الحجب النورانيّة، و خلال تلك الحجب و الوصول إلى هذا المقام المنيع توجد لذّات و بهجات و لوازم و عوالم حيث لا يمكن لأحد، غير أهلها، أن يعلم كنه تلك العوالم و اللوازم كما يجب.
مطالب «الكافي» و «مصباح الشريعة» في علوّ مقام العرفاء
و لو افترضنا أنّ شخصاً ما توصّل إلى اعتقاد ما بالعلم أو عن طريق البرهان مثلما كتب الشيخ الرئيس و غيره حول درجات العرفاء، أو توصّل إلى ذلك بتقليد أهله، فلا تزال هناك آلاف الفروقات بين هذا العلم و المعرفة، و بين تلك المعرفة الشهوديّة و الوجدانيّة التي تلقّاها عن أهلها؛ و اللذّة التي تحصل لأهلها عند مشاهدة هذه المراتب هي ذات اللذّة التي رواها «الكافي» عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:
لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا في فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللهِ، مَا مَدُّوا أعْيُنَهُمْ إلى مَا مَتَّعَ اللهُ بِهِ الأعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ نِعْمَتِهَا، وَ كَانَتْ دُنْيَاهُمْ عِنْدَهُمْ أقَلَّ مِمَّا يَطَؤُونَهُ بِأرْجُلِهِمْ، وَ لَتَنَعَّمُوا بِمَعْرِفَةِ اللهِ تعالى وَ تَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ في رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ مَعَ أوْلِيَاءِ اللهِ.
أنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ انْسٌ مِنْ كُلِّ وَحْشَةٍ، وَ صَاحِبٌ مِنْ كُلِّ وَحْدَةٍ، وَ نُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وَ قُوَّةٌ مِنْ كُلِّ ضَعْفٍ، وَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ۱- انتهى.
و قال في «مصباح الشريعة» في معرض تعريفه للعارف:
العَارِفُ شَخْصُهُ مَعَ الخَلْقِ وَ قَلْبُهُ مَعَ اللهِ، وَ لَوْ سَهَى قَلْبُهُ عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَمَاتَ شَوْقاً إليه.
وَ العَارِفُ أمِينُ وَ دَائِعِ اللهِ، وَ كَنْزُ أسْرَارِهِ وَ مَعْدِنُ نُورِهِ، وَ دَلِيلُ رَحْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَ مَطِيَّةُ عُلُومِهِ، وَ مِيزَانُ فَضْلِهِ وَ عَدْلِهِ. قَدْ غَنِيَ عَنِ الخَلْقِ وَ المُرَادِ وَ الدُّنْيَا، وَ لَا مُونِسَ لَهُ سوى اللهِ، وَ لَا مَنْطِقَ وَ لَا إشَارَةَ وَ لَا نَفَسَ إلَّا بِاللهِ لِلَّهِ مِنَ اللهِ مَعَ اللهِ.
فَهُوَ في رِيَاضِ قُدْسِهِ مُتَرَدِّدٌ، وَ مِنْ لَطَائِفِ فَضْلِهِ إليه مُتَزَوِّدٌ.
وَ المَعْرِفَةُ أصْلٌ وَ فَرْعُهُ الإيمَانُ.۱
و روى في «الكافي» و «التوحيد» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: أنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ لأشَدُّ اتِّصَالًا بِرُوحِ اللهِ مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا.
و جاء في حديث قدسيّ متّفق عليه بين جميع أهل الإسلام، أنّه قال:
مَا يَتَقَرَّبُ إلى عَبْدِي بِشَيءٍ أحَبَّ إلى مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. وَ إنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إلى بِالنَّوَافِلِ حتى احِبَّهُ، فَإذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ وَ بَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ وَ لِسَانَهُ الذي يَنْطِقُ بِهِ وَ يَدَهُ التي يَبْطِشُ بِهَا.
إن دَعَانِي أجَبْتُهُ وَ أن سَألَنِي أعْطَيْتُهُ.٢
و يقول الخواجة نصير الدين قدّس سرّه:
العَارِفُ إذَا انْقَطَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَ اتَّصَلَ بِالحَقِّ، رَأى كُلَّ قُدْرَةٍ مُسْتَغْرَقَةً في قُدْرَتِهِ المُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ المَقْدُورَاتِ، وَ كُلَّ عِلْمٍ مُسْتَغْرَقاً في عِلْمِهِ الذي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيءٌ مِنَ المَوْجُودَاتِ، وَ كُلَّ إرَادَةٍ مُسْتَغْرَقَةً في إرَادَتِهِ التي لَا يَتَأبَّى عَنْهَا شَيءٌ مِنَ المُمْكِنَاتِ؛ بَلْ كُلُّ وُجُودٍ فَهُوَ صَادِرٌ عَنْهُ فَائِضٌ مِنْ لَدُنْهُ.
فَصَارَ الحَقُّ حِينَئِذٍ بَصَرَهُ الذي بِهِ يَبْصُرُ، وَ سَمْعَهُ الذي بِهِ يَسْمَعُ، وَ قُدْرَتَهُ التي بِهَا يَفْعَلُ، وَ عِلْمَهُ الذي بِهِ يَعْلَمُ، وَ وُجُودَهُ الذي بِهِ يُوجِدُ.
فَصَارَ العَارِفُ حينَئِذٍ مُتَخَلِّقاً بِأخْلَاقِ اللهِ بِالحَقِيقَةِ.٣
و قال أيضاً في «مصباح الشريعة»:
المُشْتَاقُ لَا يَشْتَهِي طَعَاماً وَ لَا يَسْتَلِذُّ شَرَاباً وَ لَا يَسْتَطِيبُ رُقَاداً وَ لَا يَأنَسُ حَمِيماً وَ لَا يَأوَى دَاراً وَ لَا يَسْكُنُ عِمْرَاناً وَ لَا يَلْبَسُ لَيِّناً وَ لَا يَقِرُّ قَرَاراً، وَ يَعْبُدُ اللهَ لَيْلًا وَ نَهَاراً رَاجِياً أن يَصِلَ إلى مَا يَشْتَاقُ إليه، وَ يُنَاجِيهِ بِلِسَانِ شَوْقِهِ مُعَبِّراً عَمَّا في سَرِيرَتِهِ، كَمَا أخْبَرَ اللهُ عَنْ موسى بْنِ عِمْرَانَ في مِيعَادِ رَبِّهِ بِقَوْلِهِ:
«وَ عَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَي».
وَ فَسَّرَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَنْ حَالِهِ: أنَّهُ مَا أكَلَ وَ لَا شَرِبَ وَ لَا نَامَ وَ لَا اشْتَهَى شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ في ذِهَابِهِ وَ مَجِيئِهِ أرْبَعِينَ يَوْماً شَوْقاً إلى رَبِّهِ.
فَإذَا دَخَلْتَ مَيْدَانَ الشَّوْقِ فَكَبِّرْ عَلَى نَفْسِكَ وَ مُرَادِكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَ دَعِ المَألُوفَاتِ وَ أحْرِمْ عَنْ سوى مَشُوقِكَ وَ لَبِّ بَيْنَ حَيَاتِكَ وَ مَوْتِكَ- إلى آخره۱.
و روي في «علل الشرايع» عن خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلّم:
أنَّ شُعَيْباً بَكَى مِنْ حُبِّ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ حتى عَمِيَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حتى عَمِيَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حتى عَمِيَ [فَرَدَّ
اللهُ عَلَيْهِ] بَصَرَهُ.
فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ أوْحَى اللهُ إليه: يَا شُعَيْبُ! إلى متى يَكُونُ هَذَا مِنْكَ أبَداً؟! أن يَكُنْ هَذَا خَوْفاً مِنَ النَّارِ فَقَدْ أجَرْتُكَ؛ وَ أن يَكُنْ شَوقاً إلى الجَنَّةِ فَقَدْ أبَحْتُكَ!
فَقَالَ: إلَهِي وَ سَيِّدِي! أنْتَ تَعْلَمُ أنِّي مَا بَكِيتُ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَ لَا شَوْقاً إلى جَنَّتِكَ، وَ لَكِنْ عُقِدَ حُبُّكَ عَلَى قَلْبِي فَلَسْتُ أصْبِرُ أوْ أرَاكَ!
فَأوْحَى اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: أمَّا إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ سَاخْدِمُكَ كَلِيمِي موسى بْنَ عِمْرَانَ.۱
و ورد في دعاء كميل عليه الرحمة:
وَ هَبْنِي يَا إلَهِي وَ سَيِّدِي وَ مَوْلَايَ! صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؟!
و جاء في المناجاة الشعبانيّة:
وَ هَبْ لي قَلْباً يُدْنِيهِ مِنْكَ شَوْقُهُ، وَ لِسَاناً يُرْفَعُ إلَيْكَ صِدْقُهُ، وَ نَظَراً يُقَرِّبُهُ إلَيْكَ حَقُّهُ.
و قال أيضاً: وَ ألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً وَ عَنْ سِوَاكَ مُنْحَرِفاً.
و نجد في دعاء أبي حمزة الثماليّ ما يلي:
وَ إنَّكَ لَا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلَّا يَحْجُبَهُمُ الآمَالُ السَّيِّئَةُ دُونَكَ.
... ۱
بالوصول و النظر و اللقاء و القرب و المعرفة، و بالرغم من أنّني لم أذكرها بسبب عدم ثبوت سند لها، إلّا أنّها جميعاً، تعتبر حجّة لدى مقلّدي العلماء الأعلام.
فلِمَ ذلك؟ ذلك أنّ العلماء يتلون تلك المناجاة و يؤيّدون مضامينها. كذلك كلّ تلك التصاريح الواردة في ملحق دعاء عرفة المنسوب إلى سيّد الشهداء عليه الصلاة و السلام، و مواظبة العلماء الأعلام على قراءتها، إلّا أنّي لم أذكرها لعدم ثبوتها.
تفسير الرؤية و اللقاء بخلاف النصّ كان من أجل السائل
و قد أوردنا في البداية، أنّ حمل هذه التعابير على حصول الثواب، مخالف للنصّ، و إذا كانوا قد فسّروا أحياناً في الأخبار، الرؤية و اللقاء بالثواب، ذلك بسبب أنّ السائل عن الرؤية لم يكن يدرك حينها إلّا الرؤية بالعين؛ كمّا فسّر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم خُلّة الخليل عليه السلام بغير معنى المحبّة و ذلك جواباً على بعض السائلين.
حيث إنّه صلى الله عليه و آله و سلّم لم يفسّر ذلك بهذا المعنى، لكفر السائل، لأنّه لم يكن ليفقه معنى الخلّة إلّا في إطار المحبّة بين البشر. و هو بالحقيقة كفر.
نعم، و إذا تطلّعت لأكثر ممّا ذكر، فراجع أدعية و مناجاة أئمّة الهدى عليهم الصلاة و السلام، و الأخبار الواردة في ثواب الأعمال. مثل دعاء رجب الذي رواه السيّد ابن طاووس عليه الرحمة بسند معتبر في «الإقبال» بتوقيع الإمام المهديّ أرواح العالمين فداه، الذي كان يقرأه حتماً. يقول:
اللَهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أمْرِكَ المَأمُونُونَ عَلَى سِرِّكَ.
إلى أن قال:
وَ بِمَقَامَاتِكَ التي لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَكَ إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ خَلْقُكَ، رَتْقُهَا
وَ فَتْقُهَا بِيَدِكَ۱.
و لاحظ أدعية ليالي الشهر المبارك! و انظر! آهِ آهِ! شَوْقاً إلى مَنْ يَرَانِي وَ لَا أرَاهُ.
روايات نظر المؤمن إلى نور الله و وجه الله تعالى
الرواية المعراجيّة المصدّرة ب- «يا أحمد» حسب رواية «الوافي»
و انظر في أخبار الثواب إلى حديث المعراج الذي روي في «الوافي» عن العلماء الأعلام حيث قال: يَا أحْمَدُ! إلى أن يقول:
قَالَ: يَا رَبِّ مَا أوَّلُ العِبَادَةِ؟!
قَالَ: الصَّمْتُ وَ الصَّوْمُ. تَعْلَمُ يَا أحْمَدُ مَا مِيرَاثُ الصَّوْمِ؟!
قَالَ: لَا، يَا رَبِّ!
قَالَ: مِيرَاثُ الصَّوْمِ قِلَّةُ الأكْلِ، وَ قِلَّةُ الكَلَامِ، وَ العِبَادَةُ.
الثَّانِيَةُ الصَّمْتُ؛ وَ الصَّمْتُ يُورِثُ الحِكْمَةَ؛ وَ يُورِثُ الحِكْمَةُ
المَعْرِفَةَ؛ وَ يُورِثُ المَعْرِفَةُ اليَقِينَ. وَ إذَا اسْتَيْقَنَ العَبْدُ لَا يُبَالِي كَيْفَ أصْبَحَ بِعُسْرٍ أمْ بِيُسْرٍ. فَهَذَا مَقَامُ الرَّاضِينَ!
فَمَنْ عَمِلَ رِضَايَ الْزِمُهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: اعَرِّفُهُ شُكْراً لَا يُخَالِطُهُ الجَهْلُ، وَ ذُكْراً لَا يُخَالِطُهُ النِّسْيَانُ، وَ مَحَبَّةً لَا يُؤْثِرُ عَلَى مَحَبَّتِي مَحَبَّةَ المَخْلُوقِينَ!
فَإذَا أحَبَّنِي أحْبَبْتُهُ وَ حَبَّبْتُهُ إلى خَلْقِي وَ أفْتَحُ عَيْنَ قَلْبِهِ إلى عَظَمَتِي وَ جَلَالِي! فَلَا اخْفِي عَلَيْهِ عِلْمَ خَاصَّةِ خَلْقِي!
فَانَاجِيهِ في ظُلَمِ اللَيْلِ وَ ضَوْءِ النَّهَارِ حتى يَنْقَطِعَ حَدِيثُهُ مَعَ المَخْلُوقِينَ وَ مُجَالَسَتُهُ مَعَهُمْ وَ اسْمِعُهُ كَلَامِي وَ كَلَامَ مَلَائِكَتِي وَ اعَرِّفُهُ سِرِّيَ الذي سَتَرْتُهُ مِنْ خَلْقِي- إلى أن قال:
ثُمَّ أرْفَعُ الحُجُبَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ فَانَعِّمُهُ بِكَلَامِي وَ الَذِّذُهُ بِالنَّظَرِ إلى- إلى أن قال:
وَ لأجْعَلَنَّ مُلْكَ هَذَا العَبْدِ فَوْقَ مَلِكِ المُلُوكِ حتى يَتَضَعْضَعَ لَهُ كُلُّ مَلِكٍ وَ يَهَابَهُ كُلُّ سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَ يَتَمَسَّحَ لَهُ كُلُّ سَبُعٍ ضَارٍّ، وَ لُاشَوِّقَنَّ إليه الجَنَّةَ وَ مَا فِيهَا، وَ لأسْتَغْرِقَنَّ عَقْلَهُ بِمَعْرِفَتِي، وَ لأقُومَنَّ لَهُ مَقَامَ عَقْلِهِ، ثُمَّ لُاهَوِّنَنَّ عَلَيْهِ المَوْتَ وَ سَكَرَاتِهِ وَ حَرَارَتَهُ وَ فَزَعَهُ حتى يُسَاقَ إلى الجَنَّةِ شَوْقاً.
وَ إذَا نَزَلَ بِهِ مَلَكُ المَوْتِ يَقُولُ: مَرْحَباً بِكَ! فَطُوبَى لَكَ! طُوبَى لَكَ! أنَّ اللهَ إلَيْكَ لَمُشْتَاقٌ!
اعْلَمْ يَا وَلِيّ اللهِ! أنَّ الأبْوَابَ التي كَانَ يَصْعَدُ مِنْهَا عَمَلُكَ تَبْكِي عَلَيْكَ! وَ أنَّ مِحْرَابَكَ وَ مُصَلَّاكَ يَبْكِيَانِ عَلَيْكَ!
فَيَقُولُ: أنَا رَاضٍ بِرِضْوَانِ اللهِ وَ كَرَامَتِهِ؛ وَ يَخْرُجُ الرُّوحُ مِنْ بَدَنِهِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجِينِ. وَ أنَّ المَلَائِكَةَ تَقُومُ عِنْدَ رَأسِهِ، بِيَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ
كَأسٌ مِنْ مَاءِ الكَوْثَرِ وَ كَأسٌ مِنَ الخَمْرِ يَسْقُونَ رُوحَهُ حتى يَذْهَبَ سَكْرَتُهُ وَ مَرَارَتُهُ وَ يُبَشِّرُونَهُ بِالبِشَارَةِ العُظْمَى، وَ يَقُولُونَ: طِبْتَ وَ طَابَ مَثْوَاكَ! إنَّكَ تَقْدِمُ عَلَى العَزِيزِ الكَرِيمِ الحَبِيبِ القَرِيبِ!
فَيَطِيرُ الرُّوحُ مِنْ أيْدِي المَلَائِكَةِ فَيَسْرَعُ إلى اللهِ في أسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ؛ فَلَا يَبْقَى حِجَابٌ وَ لَا سِتْرٌ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ اللهِ تعالى. وَ اللهُ تعالى إلَيْهَا لَمُشْتَاقٌ. فَتَجْلِسُ عَلَى عَيْنٍ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: أيَّتُهَا الرُّوحُ! كَيْفَ تَرَكْتِ الدُّنْيَا؟!
فَتَقُولُ: إلَهِي وَ سَيِّدِي! وَ عِزَّتِكَ وَ جَلَالِكَ لَا عِلْمَ لي بِالدُّنْيَا! أنَا مُنْذُ خَلَقْتَنِي إلى هَذِهِ الغَايَةِ خَائِفٌ مِنْكَ!
فَيَقُولُ اللهُ: صَدَقْتَ! كُنْتَ بِجَسَدِكَ في الدُّنْيَا وَ بِرُوحِكَ مَعِي! فَأنْتَ بِعَيْنِي أعْلَمُ سِرَّكَ وَ عَلَانِيَتَكَ! سَلْ اعْطِكَ وَ تَمَنَّ على فَاكْرِمْكَ!
هَذِهِ جَنَّتِي فَتَبَحْبَحْ فِيهَا، وَ هَذَا جِوَارِي فَاسْكُنْهُ!
فَتَقُولُ الرُّوحُ: إلَهِي عَرَّفْتَنِي نَفْسَكَ فَاسْتَغْنَيْتُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ! وَ عِزَّتِكَ وَ جَلَالِكَ لَوْ كَانَ رِضَاكَ في أن اقَطَّعَ إرْباً إرْباً أوْ اقْتَلَ سَبْعِينَ قَتْلَةً بِأشَدِّ مَا يُقْتَلُ بِهِ النَّاسُ لَكَانَ رِضَاكَ أحَبَّ إلى- إلى أن قال:
قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لَا أحْجُبُ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ في وَقْتٍ مِنَ الأوْقَاتِ حتى تَدْخُلَ على اي وَقْتٍ شِئْتَ وَ كَذَلِكَ أفْعَلُ بِأحِبَّائِي!
و يقول في تفسير الحياة الباقية بعد ذلك: و سأفعل كذا و كذا بصاحبها. إلى أن يقول:
وَ أفْتَحُ عَيْنَ قَلْبِهِ وَ سَمْعَهُ حتى يَسْمَعَ بِقَلْبِهِ مِنِّي وَ يَنْظُرَ بِقَلْبِهِ إلى عَظَمَتِي وَ جَلَالِي.
و يقول أيضاً في هذا الحديث:
أنَّ أدْنَى مَا اعْطِي الزَّاهِدِينَ في الآخِرَةِ أن اعْطِيَهُمْ مَفَاتِيحَ الجِنَانِ
كُلَّهَا حتى يَفْتَحُوا اي بَابٍ شَاءُوا. وَ لَا أحْجُبُ عَنْهُمْ وَجْهِي وَ لُانَعِّمَنَّهُمْ بِأنْوَاعِ التَّلَذُّذِ مِنْ كَلَامِي.
إلى أن قال:
وَ أفْتَحُ لَهُمْ أرْبَعَةَ أبْوَابٍ: بَابٌ تُدْخَلُ عليهم الهَدَايَا مِنْهُ بُكْرَةً وَ عَشِيَّاً، وَ بَابٌ يَنْظُرُونَ مِنْهُ إلى كَيْفَ شَاءُوا.
و يقول كذلك في هذا الحديث في وصف أصحاب الآخرة:
وَ لأرْفَعَنَّ الحُجُبَ لَهَا دُونِي. و يقول: وَ لَا يَلِي قَبْضَ رُوحِهِ غَيْرِي؛ وَ أقُولُ عِنْدَ قَبْضِ رُوحِهِ: مَرْحَباً وَ أهْلًا بِقُدوُمِكَ عليّ.۱
فكلّ ما رويتهُ هنا كان روايات صحيحة و معتبرة، و لو توسّعتُ في
ذلك قليلًا، و ذكرتُ ما ورد في أخبار داوود، و تلك الموجودة في المناجاة الخمس عشرة و تلك الموجودة أيضاً في المناجاة الملحقة لدعاء عرفة الذي رواه السيّد قدّس سرّه في «الإقبال» و العلّامة قدّس سرّه في «المزار»، فهذه لوحدها هي أكثر من كونها متواترة.
و روي في حديث الصلاة، حيث يقول في عبارة القراءة: يرتقي بإزاء كلّ آية درجة من فلان و فلان، إلى أن قال: وَ دَرَجَةً مِنْ نُورِ رَبِّ العِزَّةِ، و روي في حديث لقاء المؤمن في «المستدرك» من مجموعة الشهيد نقلًا عن كتاب «الأنوار» لأبي على محمّد بن همّام، إلى حيث قال:
اشْهِدُكُمْ عِبَادِي بِأنِّي اكْرِمُهُ بِالنَّظَرِ إلى نُورِي وَ جَلَالِي وَ كِبْرِيائِي!
و روي في حديث ثواب الجهاد في «التهذيب» حيث يُحصى فيه الخصال السبع للشهيد، إلى أن قال:
السَّابِعُ أن يَنْظُرَ في وَجْهِ اللهِ، وَ إنَّهَا لَرَاحَةٌ لِكُلِّ نَبِيّ وَ شَهِيدٍ۱.
و ورد في حديث صحيح في ثواب سجدة الشكر في الصلوات الواجبة ما يلي:
أنَّ العَبْدَ إذَا صلى وَ سَجَدَ سَجْدَةَ الشُّكْرِ فَتَحَ الرَّبُّ تعالى الحِجَابَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ المَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي! انْظُرُوا إلى عَبْدِي؛ أدَّى فَرِيضَتِي وَ أتَمَّ عَهْدِي ثُمَّ سَجَدَ لي شُكْراً عَلَى مَا أنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْهِ!
مَلَائِكَتِي! مَا ذَا لَهُ؟!
فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا رَحْمَتُكَ! ثُمَّ يَقُولُ الرَّبُّ تعالى: ثم ماذا؟!
فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا كِفَايَةُ مُهِمِّهِ! فَيَقُولُ الرَّبُّ: ثُمَّ مَا ذَا؟! فَلَا يَبْقَى شَيءٌ مِنَ الخَيْرِ إلَّا قَالَتْهُ المَلَائِكَةُ. فَيَقُولُ اللهُ تعالى: يا ملائكتي!
ثُمَّ مَا ذَا!
فَيَقُولُ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا لَا عِلْمَ لَنَا!
فَيَقُولُ اللهُ تعالى: لأشكرنه كما شكرني، و اقبل عليه بفضلي، و اريه وجهي!۱
و ورد في ثواب مَن يُحرم البصر، حيث قال: وَ ارِيكَ وَجْهِي.
و ورد كذلك في رواية ضيافة أصحاب الجنّة خبراً مفاده أنّه بعد قراءة القرآن يرجون الاستماع لصوت البارئ، فيُمَنُّ عليهم بالإجابة، و من فرط التلذّذ بالاستماع، يخرّون مغشيّاً عليهم طويلًا، و بعد استفاقتهم، يطلبون التشرّف برؤية جمال الجميل فيتجلّى نور يخرّون على أثره مغشيّاً عليهم؛ فيظلّون على هذه الحال حتى تشتكي الحور العين من ذلك.
و في مكان آخر من نفس الحديث، يقول في ثواب الذين يحفظون ألسنتهم عن اللغو و بطونهم من التخمة.
أنْظُرُ إلَيْهِمْ في كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً وَ اكَلِّمُهُمْ كُلَّمَا نَظَرْتُ إلَيْهِمْ.
فكُن منصفاً يا عزيزي، أ يمكن لأحد من البشر إنكار كلّ هذه الآيات و الأخبار و الأدعية الواردة بتعابير مختلفة؟
إذا كنت تبحث عن سند موثوق، فلو قيل أنّ درجة التواتر تبلغ الأربعين لأتيتك بخمسمائة بل بألف، و أمّا القرآن فلا يحتاج لسند، و إذا ابتغيت الدلالة، فلا أبلغ في ذلك من النصّ، بل أنّ دلالات بعض هذه الألفاظ المرويّة لا شكّ و لا محمل و لا احتمال مجازيّ فيها البتة.
و على الإنسان إدراك أنّ لقاءه جلّ جلاله لا يشبه لقاء الممكن، و أنّ
رؤيته لا تكون بالعين، أو مثل رؤية الجسمانيّات، بل أنّ الرؤية القلبيّة أيضاً منزّهة عن الكيفيّة في رؤية المتخيّلات، و حتى الرؤية العقليّة منزّهة عن الكيفيّة في رؤية المعقولات. كما قال عليه السلام في دعاء «الصحيفة العلويّة»:
وَ تَمَثَّلَ في القُلُوبِ بِغَيْرِ مِثَالٍ تَحُدُّهُ الأوْهَامُ أوْ تُدْرِكُهُ الأحْلَامُ.۱
قول الإمام: كَأنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أنْزَلَهَا عَلَى المكَاشَفَةِ وَ العِيَانِ
و كما قال كذلك السيّد ابن طاووس قدّس سرّه العزيز في «فلاح السائل»، ص ۱۰۷ و ۱۰۸:
فَقَدْ رُوِيَ أنَّ مَوْلَانَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَ يَتْلُو القُرْآنَ في صَلَاتِهِ فَغُشيَ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا أفَاقَ سُئِلَ: مَا الذي أوْجَبَ مَا انْتَهَتْ حَالُكَ إليه؟!
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مَعْنَاهُ: «مَا زِلْتُ اكَرِّرُ آيَاتِ القُرْآنِ حتى بَلَغْتُ إلى حَالٍ كَأنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أنْزَلَهَا عَلَى المُكَاشَفَةِ وَ العِيَانِ.
فَلَمْ تَقُمِ القُوَّةُ البَشَرِيَّةُ بِمُكَاشَفَةِ الجَلَالَةِ الإلَهِيَّةِ».
وَ إيَّاكَ يَا مَنْ لَا تَعْرِفُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ أن تَسْتَبْعِدَهُ أوْ يَجْعَلَ الشَّيْطَانُ في تَجْوِيزِ الذي رَوَيْنَاهُ عِنْدَكَ شَكّاً! بَلْ كُنْ مُصَدِّقاً! أ مَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ:
«فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ موسى صَعِقًا- انتهى.
بيان أقسام مكاشفات نقلًا عن «نفائس الفنون»
... ۱
نعم، فإذا أراد الإنسان الوصول إلى هذه العوالم بالكشف و الشهود، عليه أن يقدّر عظمة المقصود حقّ قدرها، و أن يعلم ما يصبو إليه، و مقدار قدرته، حتى يكون سعيه بمستوى ما يطلب.
فمن يسعى أن يكون رئيساً لقبيلة ليس كمن يسعى لامتلاك العالم، و لكن لأنّ عظمة هذا المطلوب هي على قدر من الشرف و النور و البهاء و السلطان و اللذّة بحيث لا يمكن تصوّرها لا سيّما من قبل الساذج، و كلّ ما يتصوّره لا يساوي جزء من الألف من الحقيقة، فإنّ عليه- عموماً- القياس بقدر معقولاته و معلوماته.
فليفترض مثلًا، أنّ ما يراه من الشرف في عالم الحقّ و الشهادة ناشئ عن ذوي السطوة من أهل الدنيا و من التقرّب إلى السلاطين و من الملك، بل و من زعامة العالم بأسره، و لينظر بعد ذلك سلطان السماوات و ما له من العظمة و الشرف، ثمّ ليقس بعد ذلك بينهما. و ليقارن عندها بين عالم المحسوس و عالم الملكوت الغيبيّ و الجبروت و غيره. و حينئذٍ ليعد و يفكّر في ماهيّة سلطنة السلاطين، و يقارنها بالسلطنة المعنويّة، فسيرى عندئذٍ تفاهة أيّام دولة هؤلاء السلاطين التي لا تتجاوز بضعة سنين، بالمقارنة مع
السلطان الأبديّ، و مضافاً إلى ذلك فهي ليست بشيء يُذكر لما تحويه من آلاف العيوب و ما تحمله من النواقص الكثيرة.
و أمّا السلطنة المعنويّة فهي السلطنة الحقيقيّة؛ كما هي الحال في سلطنة الإنسان على أعضائه و قواه و خياله. فعلى سبيل المثال، لينظر إلى السلطنة الاخرويّة، حيث ورد من جملة ما ورد من الأخبار في باب سلطنة أهل الجنّة، حيث يأتونه بأمرٍ من الله تعالى يقول فيه:
جعلتك حيا لا تموت و تقول للشيء: كن فيكون!۱
و عموماً، فإنّ تلك السلطنة التي وهبها خلّاق العالمين للإنسان الصحيح المشاعر في خلق الصور الخياليّة: قد تكرّم الله بمثلها على خواصّ عباده من الأنبياء و الأولياء في هذه الدنيا، أو على العامّة من الناس أو عموم أهل الجنّة في الآخرة، و ذلك بخلق و إيجاد الأعيان الخارجيّة بإذنه سبحانه و تعالى.
و عليه يفسّر أهل المعرفة إعجاز الأنبياء و الأئمّة عن هذا الطريق.
و باختصار، فإذا قارن الإنسان أيّة مسألة بالعقل، فإنّه س يرى بأنّ مراتب الأشياء و حدودها قُدّرت بحسبان و على أساس من العدل. و إذا نحّى العقل جانباً، فحينئذٍ ستكون عنده الحكمة و الباطل، و النور و الظلمة، و الخير و الشرّ، و الشريف و الوضيع سيّان.
دار الآخرة دار الحيوان، كأنّها حياة تغلي و تفور
و على هذا، فيكون ما أوردناه من الكلام المختصر حول تبيان عظمة هذا الأمر و الامور الأخرى كافياً، و لذا فإذا أردت أن تتصوّر لذّة و سعادة هذا الأمر، فقد وصف أهل المعرفة درجة واحدة من درجات لذّات العالم الآخر بما يلي:
أنّ دار الحيوان و الحياة الحقيقية كَأنَّهُ حَيَاةٌ تَغْلِي وَ تَفُورُ، قد هيّأت لأهلها في كلّ لحظة ما طاب من اللذّات من غير أن تتداخل مع بعضها أو يطرأ عليها الكسر و الانكسار فتتبدّل كيفيّتها: فمثلًا، قد أتاحت لكلّ الأفراد من اللذّات من أطايب الأطعمة، و هكذا المرئيّات و المسموعات و المشمومات و الملموسات في أيّة لحظة من دون أن تؤثّر الواحدة على الأخرى أو تُبطلها.
هذا، في حين أنّ هذه اللذّات و هي لذّات حسّيّة تشكّل جَنَّةُ النَّعِيم، فكيف بنا إذا اتّخذنا ذلك ميزاناً لمقارنتها مع لذّات و بهجات تجلّيات أنوار الجمال و الجلال لصاحب الجمال و الجلال سبحانه و تعالى، فقد يكون ذلك كافياً لدفع الإنسان لبذل ما في وسعه من الجدّ و الاجتهاد. و في الأخبار عن الأئمّة صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. وردت إشارات إلى هذه العوالم. ففي الخبر، مثلًا، أنّ في الجنّة ماءً يحوي مذاق جميع المشروبات و المأكولات. و كذلك في حديث المعراج الآنف الذكر، حيث يجيب على مقالة الحقّ جلّ جلاله: هَذِهِ جَنَّتِي فَتَبَحْبَحْ فِيهَا! بقوله: عند ما عرّفتني
نفسك، استغنيتُ عن كلّ شيء!
و ما جاء كذلك في حديث الضيافة الذي مرّ ذكره، حيث يغيبون عن وعيهم لتجلّي الحقّ تعالى، و لا يستعيدونه أبداً حتى تشتكي بالتالي الحور العين من ذلك فيُعيد لهم الربّ الجليل وعيهم.
فيا عزيزي! ثابر حتى تُمسك بعصمة الإيمان بالله و رسوله و الأئمّة صلوات الله و سلامه عليهم، و حتى لا تعتبر الثواب و العقاب، و الجنّة و الجحيم، و القرب و البُعد كما هو حال ملاحدة هذا الزمان ضربٌ من الوهم.
و هذا الذي تمّ عرضه هو من باب: ما خطر على قلب بشر، و أمّا وَ لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فاستنتجه من كلّ ما سبق! نعم:
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى | *** | ديوانة تو هر دو جهان را چه كند؟۱ |
،،،
از دَرِ خويش خدايا به بهشتم مفرست | *** | كه سر كوى تو از كون و مكان ما را بس٢ |
،،،
خاك درت بهشت من، مهر رخت سرشت من | *** | عشق تو سرنوشت من، راحت من رضاى تو٣ |
وَجَدْتُكَ أهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ
ما عَبَدْتُكَ خوفا مِنْ نَارِكَ وَ لَا طَمَعاً في جَنَّتِكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ أهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ!۱
فقد سمعتَ في حديث النبيّ شعيب على نبيّنا و آله و عليه السلام، حيث قال: لا أشكو من خوف النار و لا من حبّ الجنّة و لكنّي أشكو من البُعد عنك، فها أنذا أصبر حتى أنعم بلقائك!
و أنت قد سمعتَ من سيّد العارفين و رئيس المناجين، حيث يقول في دعاء كميل عليه الرحمة:
وَ هَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ! و أمّا أنتِ، يا نفسي الوقحة! و أنتَ أيّها السامع البائس! إذا كنتَ تُسلّم بهذه العوالم، فأين أثر ذلك؟! و لِمَ أنت ساكن؟! لما ذا لا تصعد إلى الجبال؟! أو تهيمُ في البراري؟! لما ذا لا تلهج ب-: وَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللهِ في
صباحك و مسائك؟!
و لو كانت لك خطرات الظنون من ذلك، لكان عليك أن تموت من الحسرة؟! بل لو كنتَ تحتمل ذلك و تشكّ فيه، للزِمَ أن يقضّ هذا الاحتمال مضجعك؛ و يقطع عنك اللذّة بمباهج هذه الدنيا الدنيّة الفانية.
ردّد: وَا حَسرَتَاهُ! وَا حَسْرَتَاهُ! وَا حَسْرَتَاهُ! وَا ثُبُورَاهُ! وَا حَيْرَتَاهُ! يَا وَيْلِي! يَا دَمَارَي! يَا عَوْلِي! يَا شِقْوَتَي!
نعم! فالإيمان ضعيف، وزد على ذلك أنّ القلوب بحبّ الدنيا سقيمة، و إلّا فإنّه يكفي الشكّ مع غياب الإيمان و حتى مجرّد الاحتمال يفي بالغرض.
نَعُوذُ بِاللهِ، وَ المُشْتَكَى إلى اللهِ، وَ إلى حَضْرَةِ رَسُولِ اللهِ وَ حَضْرَةِ أمير المؤمنين وَ آلِهِمَا الطَّاهِرِينَ، لَا سِيَّمَا إلى خَلِيفَةِ عَصْرِنَا، وَ إمَامِ زَمَانِنَا، وَ سُلْطَانِنَا، وَ سَيِّدِنَا، وَ مَعَاذِنَا، وَ مَلَاذِنَا، وَ عِصْمَتِنَا، وَ نُورِنَا، وَ حَيَاتِنَا، وَ غَايَةِ آمَالِنَا، أرْوَاحُنَا وَ أرْوَاحُ العَالَمِينَ فِدَاهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ عليهم أجْمَعِينَ.
... ۱
البَحْثُ السَّادِسُ عَشَرَ إلى الثَّامِنِ عَشَر: إنَّ الطُّرُقَ المُخْتَلِفَةَ فِي مَعْرِفَةِ الله، غَيْرُ طَرِيقِ لِقَاءِ اللهِ، كُلَّهَا مِعْوَجَّةٌ وَ مُظْلِمَةٌو تفسير الآية المباركة
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ
لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي
أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. (الآية ۱٥، من السورة ۱۰: يونس).
و جاء في الآيات التي تسبق هذه الآية:
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
و كذلك وردت الآية ۱۱ بعد ذكر الآيتين السابقتين:
وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ (جزاءً لأعمالهم)۱ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
نعم، نرى في هذه الآيات الثلاث و قد ورد في كلّ منها كلام حول لقاء الله تعالى، و عن الذين لا رجاء لهم في ذلك و لا يفكّرون فيه، و بالنتيجة فهم الذين رضوا بأحطّ الحياة و قنعوا بعيش البهائم، و الذين هم غافلون عن آيات الله التي هي علائم و مرآة الله، و التائهون المتحيّرون في خضمّ الغفلة و الشهوة، اولئك يهيمون في شكّ و ريب و تردّد. فأحياناً يقولون: لا نريد هذا القرآن الذي يحوي على آيات اللقاء و القيامة، ائتنا بقرآن غير هذا أو بدّل هذه الآيات و غيّرها! و أحياناً يغوصون في أوهام و يعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي الأصل فيركنون إليها، فيحيط بهم الموت و يُخلّدون في النار بما كسبت أيديهم، و أحياناً أخرى يسيرون في الأرض في حيرة و ضلال كبيرَين و يتّبعون مصالحهم الضيّقة، و يتقلّبون في الغفلة و الجهالة، فلو اريد التعجيل بعذابهم نتيجة أعمالهم لماتوا جميعاً و لأحاط بهم العذاب الإلهيّ و لتعرّضوا للدمار و الهلاك.
و الواقع أنّ هذه الحالات لا تتحقّق جزئيّاً لهم و حسب، بل إنّها تتحقّق بصورة مجتمعة، و قد تتداخل هذه الألفاظ و كلمة «أحياناً» فتشملهم بأجمعها.
تفسير العلّامة الطباطبائيّ للآيات الثلاث في سورة يونس في لقاء الله
و قال حضرة استاذنا الأعظم العلّامة الطباطبائيّ قدس الله نفسه في بيانه عند تفسير هذه الآيات الواردة في أوّل سورة يونس:
السورة- كما يلوح من آياتها- مكّيّة من السور النازلة في أوائل البعثة و قد نزلت دفعة للاتّصال الظاهر بين كرائم آياتها ...
و غرض السورة و هو الذي انزلت لأجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد من طريق الإنذار و التبشير كأنّها انزلت عقيب إنكار المشركين الوحي النازل على النبيّ صلى الله عليه و آله و تسميتهم القرآن بالسحر،
فردّ الله سبحانه عليهم ببيان أنّ القرآن كتاب سماويّ نازل بعلمه تعالى، و أنّ الذي يتضمّنه من معارف التوحيد كوحدانيّته بأعمالهم التي سيجزون بها خيراً أو شرّاً كلّ ذلك ممّا تدلّ عليه آيات السماء و الأرض و يهتدي إليه العقل السليم، فهي معان حقّة و لا يدلّ على مثلها إلّا كلام حكيم لا سحر مزوّق باطل.
و في تفسير الآية الثالثة: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ (عالم المشيئة و الإرادة) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ.
قال العلّامة: لمّا ذكر في الآية السابقة عجبهم من نزول الوحي و هو القرآن على النبيّ صلى الله عليه و آله، و تكذيبهم له برميه بالسحر، شرع تعالى في بيان ما كذّبوا به من الجهتين، أعني من جهة أنّ ما كذّبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حقّ لا ريب فيه، و من جهة أنّ القرآن الذي رموه بالسحر كتاب إلهيّ حقّ و ليس من السحر الباطل في شيء.
فقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ إلى آخره، شروع في بيان الجهة الاولى و هي أنّ ما يدعوكم إليه النبيّ صلى الله عليه و آله ممّا يعلمكم القرآن حقّ لا ريب فيه و يجب عليكم أن تتّبعوه.
و المعنى معاشر الناس! أنّ ربّكم هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كلّه- سماواته و أرضه- في ستّة أيّام، ثمّ استوى على عرش قدرته و قام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كلّ تدبير و إدارة، فشرع يدبّر أمر العالم، و إذا انتهى إليه كلّ تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بإعضاد، لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسّط في تدبير أمر من الامور- و هو الشفاعة إلّا من بعد إذنه تعالى، فهو سبحانه السبب الأصليّ الذي لا سبب بالأصالة دونه، و من دونه من الأسباب أسباب بتسبيبه و شفعاء من بعد
إذنه.
و إذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربّكم الذي يدبّر أمركم لا غيره ممّا اتّخذتموها أرباباً من دون الله و شفعاء عنده، و هو المراد بقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ.
أي هلّا انتقلتم انتقالًا فكريّاً إلى ما يستنير به أنّ الله هو ربّكم لا ربّ غيره، بالتأمّل في معنى الالوهيّة و الخلقة و التدبير.
و قد تقدّم الكلام في معنى العرش و الشفاعة و الإذن و غير ذلك في ذيل قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ (الأعراف: ٥٤، في الجزء الثامن من الكتاب).
و يقول في تفسيره لكلام الباري تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا:
تذكير بالمعاد بعد التذكير بالمبدأ، و قوله: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا من قيام المفعول المطلق مقام فعله، و المعنى: وعده الله وعداً حقّاً.
و الحقّ هو الخبر الذي لا أصل في الواقع يطابق الخبر، فكون وعده تعالى بالمعاد حقّاً معناه كون الخلقة الإلهيّة بنحو لا تتمّ خلقة إلّا برجوع الأشياء- و من جملتها الإنسان- إليه تعالى، و ذلك كالحجر الهابط من السماء، فإنّه يعدّ بحركته السقوط على الأرض، فإنّ حركته سنخ أمر لا يتمّ إلّا بالاقتراب التدريجيّ من الأرض و السقوط و الاستقرار عليها.
و الأشياء على حال كدح إلى ربّها حتى تلاقيه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ.
الانشقاق: ٦. فافهم ذلك!
كلام العلّامة: المعاد قائم على برهانين: سنّة الخلقة و العدل الالهيّ
و في تفسيره لكلام الباري تعالى: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ- إلى آخره، يقول:
تأكيداً لقوله: إليه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً و تفصيل لإجمال ما يتضمّنه من
۱
معرفة الله ؛ ج٢ ؛ ص۸۱
معنى الرجوع و المعاد.
و يمكن أن يكون في مقام التعليل لما تقدّمه من قوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ- إلى آخره، اشير به إلى حجّتين من الحجج المستعملة في القرآن لإثبات المعاد: أمّا قوله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فلأنّ الجاري من سنّة الله سبحانه أنّه يفيض الوجود على ما يخلقه من شيء و يمدّه من رحمته بما تتمّ له به الخلقة فيوجد و يعيش و يتنعّم برحمة منه تعالى ما دام موجوداً حتى ينتهي إلى أجل معدود.
و ليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه و بطلاناً للرحمة الإلهيّة التي كان بها وجوده و بقاؤه و سائر ما يلحق بذلك من حياة و قدرة و علم و نحو ذلك، بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة، فإنّ ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى و لن يهلك وجهه.
فنفاد وجود الأشياء و انتهاؤها إلى أجلها ليس فناء منها و بطلاناً لها على ما نتوهّمه، بل رجوعاً و عوداً منها إلى عنده، و قد كانت نزلت من عنده؛ وَ مَا عِندَ اللهِ بَاقٍ، فلم يكن إلّا بسطاً ثمّ قبضاً، فالله سبحانه يبدئ الأشياء ببسط الرحمة، و يعيدها إليه بقبضها، و هو المعاد الموعود.
و أمّا قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ إلى آخره، فإنّ الحجّة فيه أنّ العدل و القسط الإلهيّ- و هو من صفات فعله- يأبى أن يستوي عنده من خضع له بالإيمان به و عمل صالحاً و من استكبر عليه و كفر به و بآياته.
و الطائفتان لا يحسّ بينهما بفرق في الدنيا، فإنّما السيطرة فيها للأسباب الكونيّة بحسب ما تنفع و تضرّ بإذن الله.
فلا يبقى إلّا أن يفرّق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزي المؤمنين المحسنين جزاءً حسناً و الكفّار المسيئين جزاءً سيّئاً من جهة ما
يتلذّذون به أو يتألّمون.
فالحجّة معتمدة على تمايز الفريقين بالإيمان و العمل الصالح و بالكفر و على قوله: بِالْقِسْطِ هذا، و قوله: لِيَجْزِيَ متعلّق بقوله: إليه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا على ظاهر التقرير.
و يمكن أن يكون قوله: لِيَجْزِيَ- إلى آخره، متعلّقاً بقوله: ثُمَّ يُعِيدُهُ، و يكون الكلام مسوقاً للتعليل و إشارة إلى حجّة واحدة، و هي الحجة الثانية المذكورة، و الأقرب من جهة اللفظ هو الأخير.
أساس الدين و الشريعة ينهار بإنكار لقاء الله عزّ و جلّ
و في تفسيره لكلام الباري تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها... حتى نهاية الآيتين فيقول:
هو شروع في بيان ما يتفرّع على الدعوة السابقة المذكورة بقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، من حيث عاقبة الأمر في استجابته و ردّه و طاعته و معصيته.
فبدأ سبحانه بالكافرين بهذا الأمر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، فوصفهم أوّلًا بعدم رجائهم لقائه، و هو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة، و قد تقدّم الكلام في وجه تسميته بِلِقَاءَ اللهِ في مواضع من هذا الكتاب و منها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف، فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء، و بإنكاره يسقط الحساب و الجزاء فالوعد و الوعيد و الأمر و النهي، و بسقوطها يبطل الوحي و النبوّة و ما يتفرّع عليه من الدين السماويّ.
و بإنكار البعث و المعاد ينعطف همّ الإنسان على الحياة الدنيا، فإنّ الإنسان و كذا كلّ موجودٍ ذي حياة له همّ فطريّ ضروريّ في بقائه و طلب لسعادة تلك الحياة، فإن كان مؤمناً بحياة دائمة تسع الحياة الدنيويّة
و الاخرويّة معاً فهو، و إن لم يذعن إلّا بهذه الحياة المحدودة الدنيويّة علقت همّته الفطريّة بها، و رضي بها و سكن بسببها عن طلب الآخرة، و هو المراد بقوله: وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها.
و من هنا، يظهر أنّ الوصف الثاني، أعني قوله: وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها من لوازم الوصف الأوّل، أعني قوله: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا و هو بمنزلة المفسّر بالنسبة إليه، و أنّ الباء في قوله: وَ اطْمَأَنُّوا بِها للسببيّة، اي: سكنوا بسببها عن طلب اللقاء و هو الآخرة.
و قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ في محلّ التفسير لما تقدّمه من الوصف لمكان ما بينهما من التلازم، فإنّ نسيان الآخرة و ذكر الدنيا لا ينفكّ عن الغفلة عن آيات الله.
و الآية قريبة المضمون من قوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى. (الآية ٣۰، من سورة النجم).
حيث دلّ على أنّ الإعراض عن ذكر الله- و هو الغفلة عن آياته- يوجب قصر علم الإنسان في الحياة الدنيا و شئونها فلا يريد إلّا الحياة الدنيا، و هو الضلال عن سبيل الله. و قد عرّف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ. (الآية ٢٦، من سورة ص).
فقد تبيّن أنّ إنكار اللقاء و نسيان يوم الحساب يوجب رضى الإنسان بالحياة الدنيا و الاطمئنان إليها من الآخرة و قصر العلم عليه و انحصار الطلب فيه، و إذ كان المدار على حقيقة الذكر و الطلب لم يكن فرق بين إنكاره و الرضى بالحياة الدنيا قولًا و فعلًا أو فعلًا مع القول الخالي به.
و تبيّن أيضاً أنّ الاعتقاد بالمعاد أحد الاصول التي يتقوّم بها الدين،
إذ بسقوطه يسقط الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و النبوّة و الوحي، و هو بطلان الدين الإلهيّ من رأس.
و قوله: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بيان لجزائهم بالنار الخالدة قبال أعمالهم التي كسبوها.
شأن و منزلة أولياء الله تعالى و إفاضة الله عليهم
و في تفسيره لكلام الله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ،۱
قال: أوّل ما يكرّم به الله سبحانه أولياءه- و هم الذين ليس في قلوبهم إلّا الله و لا مدبّر لهم لأمرهم غيره- أنّه يطهّر قلوبهم عن محبّة غيره، فلا يحبّون إلّا الله، و لا يتعلّقون بشيء إلا لله و في الله سبحانه، فهم ينزِّهونه عن كلّ شريك يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه، و عن اي شاغل يشغلهم عن ربّهم.
و هذا تنزيه منهم لربّهم عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم أو في المعنى أو نقص أو عدم؛ و تسبيح منهم له لا في القول و اللفظ فقط، بل قولًا و فعلًا و لساناً و جناناً، و ما دون ذلك فإنّ له شوباً من الشرك، و قد قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ. (الآية ۱۰٦، من سورة يوسف).
و هؤلاء الذين طهّر الله قلوبهم عن قذارة حبّ غيره الشاغلة عن ذكره و ملأها بحبّه فلا يريدون إلّا إيّاه، و هو سبحانه الخير الذي لا شرّ معه؛ قال: وَ اللَّهُ خَيْرٌ. (الآية ۷٣، من سورة طه).
فلا يواجهون بقلوبهم التي هي ملآى بالخير و السلام أحداً إلّا بخير
و سلام، اللهم إلّا أن يكون الذي واجهوه بقلوبهم هو الذي يبدّل الخير و السلام شرّاً و ضرّاً، كما أنّ القرآن شفاء لمن استشفى به لكنّه لا يزيد الظالمين إلّا خساراً.
ثمّ أنّ هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئاً من الأشياء إلّا و هي تجده و تشاهده نعمة للّه سبحانه، حاكية لصفات جماله و معاني كماله، واصفة لعظمته و جلاله، فكلّما وصفوا شيئاً من الأشياء و هم يرونه نعمة من نعم الله و يشاهدون فيه جماله تعالى في أسمائه و صفاته و لا يغفلون و لا يسهون عن ربّهم في شيء، كان وصفهم لذلك الشيء وصفاً منهم لربّهم بالجميل من أفعاله و صفاته، فيكون ثناء منهم عليه و حمداً منهم له.
فَلَيْسَ الحَمْدُ إلَّا الثَّنَاءُ عَلَى الجَمِيلِ مِنَ الفِعْلِ الاخْتِيَارِيّ.
فهذا شأن أوليائه تعالى و هم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد، فإذا لقوا ربّهم فوفى لهم بوعده و أدخلهم في رحمته و أسكنهم دار كرامته، أتمّ لهم نورهم الذي كان خصّهم به في الدنيا، كما قال تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. (الآية ۸، من سورة التحريم).
فسقاهم ربّهم شراباً طهوراً يطهّر به سرائرهم من كلّ شرك جليّ و خفيّ، و غشيهم بنور العلم و اليقين، و أجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزّهوا الله و سبّحوه أوّلًا، و سلّموا على رفقائهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين، ثمّ حمدوا الله سبحانه و أثنوا عليه بأبلغ الحمد و أحسن الثناء.
و هذا هو الذي يقبل الانطباق عليه- و الله أعلم- قوله في الآيتين: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، و فيه ذكر جنّة الولاية و تطهير قلوبهم، و: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، و فيه تنزيه الله تعالى و تسبيحه
عن كلّ نقص و حاجة و شريك تنزيهاً على وجه الحضور، لأنّهم غير محجوبين عن ربّهم وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ و هو توسيم اللقاء بالأمن المطلق، و لا يوجد في غيرها من الأمن إلّا اليسير النسبيّ.
وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. و فيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له و تنزيههم، و هذا آخر ما ينتهي إليه أهل الجنّة في كمال العلم.
و قد قدّمنا في تفسير قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (الآية ٢، من سورة الحمد). أنّ الحمد توصيف، و لا يسع وصفه تعالى لأحد من خلقه إلّا للمخلَصين من عباده الذين أخلصهم لنفسه و خصّهم بكرامة من القرب، لا واسطة فيها بينهم و بينه، قال تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. (الآية ۱٦۰، من سورة الصافّات).
و لذلك لم يحك في كلامه حمده إلّا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح و إبراهيم و محمّد و داود و سليمان عليهم السلام، كقوله فيما أمر له نوحاً: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. (الآية ٢۸، من سورة المؤمنون). و قوله حكاية عن إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ. (الآية ٣٩، من سورة إبراهيم). و قوله فيما أمر به محمد صلى الله عليه و آله في عدّة مواضع: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. (الآية ٩٣، من سورة النمل). و قوله حكاية عن داود و سليمان: وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ. (الآية ۱٥، من سورة النمل).
و قد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنّة في عدّة مواضع من كلامه كقوله: و قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا، (الآية ٤٣، من سورة الأعراف)، و قوله أيضاً: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. (الآية ٣٤، من سورة فاطر)، و قوله أيضاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ.
(الآية ۷٤، من سورة الزمر)، و قوله في الآية السابقة: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. (الآية ۱۰، من سورة يونس).
و الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق أهل الجنة من المؤمنين بالآخرة بعباده المخلصين، ففيها وعد جميل و بشارة عظيمة للمؤمنين.
و في تفسيره لكلام الله تعالى: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ- إلى آخره، قال:
تعجيل الشيء الإتيان به بسرعة و عجلة، و الاستعجال بالشيء طلب حصوله بسرعة و عجلة، و العمه شدّة الحيرة.
و معنى الآية: و لو يعجل الله للناس الشر- و هو العذاب- كما يستعجلون بالخير- كالنعمة لأنزل عليهم العذاب بقضاأ أجلهم، لكنه تعالى لا يعجل لهم الشر، فيذر هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحير.
و توضيحه أنّ الإنسان عجول بحسب طبعه، يستعجل بما فيه خيره و نفعه، اي أنّه يطلب من الأسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه و يريده، فهو في الحقيقة يطلب الإسراع المذكور من الله سبحانه، لأنّه السبب في ذلك بالحقيقة، فهذه سنّة الإنسان و هي مبنيّة على الأهواء النفسانيّة، فإنّ الأسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى الإنسان، بل العالم الإنسانيّ هو التابع الجاري على ما يجريه عليه نظام الأسباب اضطراراً، أحبّ ذلك أو كرهه.
و لو أنّ السنّة الإلهيّة في خلق الأشياء و الإتيان بالمسبّبات عقيب أسبابها اتّبعت أو شابهت هذه السنّة الإنسانيّة المبنيّة على الجهل فعجّلت المسبّبات و الآثار عقيب أسبابها لأسرع الشرّ- و هو الهلاك بالعذاب- إلى الإنسان، فإنّ سببه قائم معه- و هو الكفر بعدم رجاء لقاء الله و الطغيان في
الحياة الدنيا- لكنّه تعالى لا يعجّل الشرّ لهم كاستعجالهم بالخير، لأنّ سنّته مبنيّة على الحكمة، بخلاف سنّتهم المبنيّة على الجهالة يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.۱
فانظر كيف بيّن الله سبحانه و جلّ شأنه و تعالى مجده في هذه الآيات القليلة و القصيرة الهدف من الخلق، و طريق السعادة و الشقاء، و انتفاع بني آدم من الحياة، و نظام الوجود على أساس من العدل و الكمال، و الوصول إلى أعلى درجات الإنسانيّة، و تسنّم أرقى مراتب الآدميّة، و اعتبار لقاء الله هو الهدف و المقصود، و جعل اليائسين من ذلك في حيرة و ضلال هائمين في وادي الغفلة و الشهوات النفسانيّة.
و عدّ لقاء الله و الفناء في ذاته بعد ملاحظة الآيات و البيّنات الإلهيّة في عداد السير في مدارج الكمال و معارجه!
بيان: لَا احْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ! أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ
ذلك السير الذي يُختم بالفناء المحض و الانصهار الصرف في بقاء الحقّ جلّ و علا و وجوده، هناك حيث لا يحويه اسم و لا يُحيطه وصف، إذ يرقى على كلّ فكر و يسمو على اي تصوّر. حيث لا يبلغه وصف الواصفين و لا حمد الحامدين و لا تسبيح المسبّحين و لا تهليل المهلّلين و لا تكبير المكبّرين و لا تمجيد الممجّدين، إذ تضمحلّ عنده و تتلاشى و تفنى قبل وصولها إليه. هناك حيث يتربّع رسوله الأعظم و نبيّه الأكرم خاتم الأنبياء و المرسلين و سيّد السفراء المكرّمين و أفضل خلق الله أجمعين: محمّد بن عبد الله صلى الله عليه و آله أبد الآبدين، و قد خلع نعليه معلناً بكلمته المشهورة:
لَا احْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ! أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.٢
و قد أعلن إلى الأبد عظمة ذاته اللامتناهية، و أظهر بجلاء من خلال تلك الكلمة تفاهة الخلائق أجمعين في مقابل عظمته.
آنجا كه عقاب پر بريزد | *** | از پشه لاغرى چه خيزد۱ |
و قد تطرّق الشيخ نجم الدين الرازيّ في كتاب «مرصاد العباد» إلى مسألة بدء التكوين، حيث عرض هذه الحقيقة باسلوب جميل. فقد قال (ما ترجمته):
«و على هذا فقد أحاطوا ملكوت أرواحه بتلك اللطيفة القائمة من صفة المحبّة المحمّديّة، ثمّ إجتازوها من خلال بوّابة الجوهر على صورة المُلك و الملكوت و صفتهما، حتى لا تبقى ذرّة من ذرّات المُلك و الملكوت لَم تُكَنَّ فيه بشكل سرٍّ من أسرار المحبّة، و حتى لا تبقى أيّة ذرة من محبّة الخالق خالية و خاوية بحسب استعدادها فتشرع بلسان حالها تقديم الحمد و الثناء إلى ربّ العزّة.
وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.٢
گر عرض دهند عاشقانت را | *** | هر ذرّه كه هست در شمار آيد |
طاوس و مگس به يك محلّ باشد | *** | چون بازِ غم تو در شكار آيد٣ |
يا أيّتها الملائكة! لا تفخروا و لا تَغترّوا، و لا تُبيّنوا أنفسكم على مَسرح الوُجود، مُرَدِّدين: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ.٤
فمن ذا الذي لا يُسبِّحه جلّت عظمته؟!
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.۱
فالله، جلّت قدرته، أعزّ و أعظم من أن يستطيع أحدنا أداء حقّ حمده و ثنائه.
إن كلّ ما نراه من تسبيح أو تقديس لأهل السماوات و الأرض و نشهده في كلّ ذرّة من الكائنات، هو من شعاع الثناء لربّنا (و خالقنا) و نوره على سيّدنا (و مولانا)، إذ:
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ.٢
و بسبب من واسطة مرآة الروح المحمّديّة التي أسدَلتْ ظلالها على ذرّات الكائنات فقد أضحتْ كلّها مسبِّحة و مقدّسة. و كلٌّ ظنّ أنّ ذلك الثناء إنّما هو من خاصّيّة عبوديّته؛ و لم يتبيّنوا مصدر هذا الحمد و منشأه. و ما إن جاء دور خلاصة الموجودات و أحاط بالملك و الملكوت في التربية و السلوك، و أضحى ثمرة في أعلى شجرة الخلق (و التكوين) إذ تمثَّل ب- قَابَ قَوْسَيْنِ و اتّسع مدى ناظريه المبصرتينِ بالحقّ، ناداه ربّ العزّة أن: يا محمّد! إثْنِ على! (مثلما تفعل ذلك كلّ الموجودات و الملائكة)!
فعَلِمَ صلى الله عليه و آله أنّ ما حصَّلته كلّ الكائنات من إطراء الثناء (على الله عزّ و جلّ) كان عارية، و أنّ شريعته تقتضي كون: العَارِيَةُ مَرْدُودَةٌ، فردّ الأمانة بمقتضى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها٣ فقال: و هل يصحُّ الثناء على ذات القديم بلسان الحدوث الألكن؟ لَا احْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنّ الثناء لذاتك يصحّ من صفاتك أنت؛ أنْتَ كَمَا
أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.۱
فليست الملائكة الذين هم متعلِّمين مبتدئين في مدرسة آدم وحدهم يجهلون أسماءهم يا آدم أنبئهم بأسمآئهم،٢ بل أنّ آدم نفسه و ذرّيّته جميعاً هم تحت راية إطراء الثناء من قِبَل محمّد صلى الله عليه و آله آدَمُ وَ مَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَ لَا فَخْرَ، وَ بِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَ لَا فَخْرَ.
و من هنا يتّضح أنّ محمّد صلى الله عليه و آله هو بِزرة الخليقة (و التكوين)، و هو الثمرة كذلك، و أنّ شجرة الخليقة (و التكوين) هي في الحقيقة الوجود المحمّديّ.
الحقّ شگرف مرغى كز تو دو كون پر شد | *** | نه بال باز كرده نه ز آشيان پريده٣ |
و تصوَّر أنّ كلّ ما موجود من الملكوتيّات هو جذر تلك الشجرة و أنّ الجسمانيّات كلّها إنّما هي جذع الشجرة، و أنّ الأنبياء عليهم الصلاة و السلام هم أغصانها، و المَلَك أوراقها، و لا يمكن بيان ثمرة تلك الشجرة من خلال العبارات أو كتابتها بلسان قلم ثنائيّ اللغة.
قصّهها مىنوشت خاقانى | *** | قلم اينجا رسيد سر بشكست۱» |
و يقول شهاب الدين أبو القاسم السمعانيّ في هذا الباب:
هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ أفْصَحَ مِنْ دَبٍّ وَ دَرْجٍ، وَ أمْلَحَ مِنْ دَخْلٍ وَ خَرْجٍ، يَقُولُ بَعْدَ مَا مَدَّ طَنَابٌ في مَدْحِ الجَلَالِ وَ وَصْفِ الجَمَالِ: لَا احْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ!
احتارت العقول في إدراك جلاله، و انكدرت أمواه وجوه الأعزّة مقابل ماء جماله، و انشده لباب أرباب الألباب في فهم نعوته و صفاته، و تلاشت خواطر أصحاب العلوم في حواشي عزّه. و غرق أرباب البصر و البصيرة و الذكاء و الفطنة و خواطر الخُطّار و الحكمة في قطرة من بحار عظمته، و احترقت أسرار الأبرار بنار الانس بجلاله؛ فمسَّ قلوبهم الملتهبة و كأنّي بالعاشقين جميعاً يحملون مشاعل بأيديهم. و استحيت ألسن أهل الفصاحة من مدح جلاله و وصف جماله فكلَّت و عَيَت، فترى آلاف القتلى و الجرحى و الشهداء و الصبّين منثورين هنا و هناك.٢
تدلّ الفقرة الاولى من هذا الحديث المبارك على أنّه يستحيل للبشر أن يحيط بجميع صفات الواحد الأحد و ذاته المقدّسة ما دامت فيه شائبة من الأنانيّة، ذلك أنّ ال- «أنا» ضمير و إشارة إلى حدود ماهويّة و إنّيّة يفيد التقييد و يعني التحديد، في حين أنّ الذات المقدّسة للحقّ تعالى، و صفات و أسماء جلاله و جماله لا تحدّها حدود، لأنّه تعالى «لم يزل» و «لا يزال» و «لا متناه»، ذاتاً و وجوداً و صفةً و اسماً. و على هذا، فإنّ الإحاطة بذاته و عدّ صفاته و إحصاءها من المحال. و هذا يعني أنّ إحاطة الضمير «أنا» الذي هو محدود بالضمير «هو» الذي هو بالفرض غير محدود و خارج عن دائرة العدّ و الحدّ غير ممكنة.
و تدلّ الفقرة الثانية من هذا الحديث على أنّ الله غير متناه و سرمديّ بالنسبة لوجود العالم، و لذلك فهو وحده بإمكانه أن يعرف ذاته و صفاته العليا و أسماءه الحسنى. و كذا عبد الله فإنّه مثل النبيّ إذا وصل مقام الفناء في الله، و لم يبق فيه أثر من بقايا الوجود سواء في عالم الحسّ أم في عالم المثال و الملكوت الأسفل و سواء في عالم العقل و الملكوت الأعلى، فإنّه هناك لن يكون له وجود متعيّن أو كيان محدود و ذلك حتى يكون عالماً
و مدركاً فيعرف الله و يمجّد صفاته و يحمده، فهناك يوجد الله وحده لا غير، و محال وجود شيء غيره.
و على هذا، فلا أحد يعرف الله غير الله. و «أنْتَ» في كلام الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، إشارة إلى هو الهويّة المطلقة و منبع الأنوار الماهويّة و إنّيّة الحقّ تعالى و تقدّس، المحيط بجميع عوالم الصفات و الأسماء الكلّيّة و الجزئيّة، و هو أعلى من حسّ كلّ ذي حسّ و فهم كلّ صاحب شعور و إدراك كلّ ذي فهم و إدراك و أرقى منه.
اعرفوا الله بالله
و من هنا تأتي دلالة العين الفيّاضة للأحاديث و الروايات على أنّه يجب معرفة الله بالله: اعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ.
روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ بسند متّصل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام حيث قال: قَالَ أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلَامُ: اعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ! وَ الرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ وَ اولِي الأمْرِ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَ العَدْلِ وَ الإحْسَانِ۱.
و روى كذلك بسنده عن علي بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله صلى الله عليه و آله أنّه قَالَ: سُئِلَ أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلَامُ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟!
قَالَ: بِمَا عَرَّفَنِي نَفْسَهُ! قِيلَ: وَ كَيْفَ عَرَّفَكَ نَفْسَهُ؟!
قَالَ: لَا يُشْبِهُهُ صُورَةٌ وَ لَا يُحَسُّ بِالحَوَاسِّ وَ لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ. قَرِيبٌ في بُعْدِهِ بَعِيدٌ في قُرْبِهِ. فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ وَ لَا يُقَالُ: شَيءٌ فَوْقَهُ، أمَامَ كُلِّ شَيءٍ وَ لَا يُقَالُ: لَهُ أمَامٌ.
دَاخِلٌ في الأشْيَاءِ لَا كَشَيءٍ دَاخِلٍ في شَيءٍ؛ وَ خَارِجٌ مِنَ الأشْيَاءِ لَا كَشَيءٍ خَارِجٍ مِنْ شَيءٍ.
سُبْحَانَ مَنْ هُوَ هَكَذَا وَ لَا هَكَذَا غَيْرُهُ وَ لِكُلِّ شَيءٍ مُبْتَدئٌ۱.
و روى بسنده أيضاً عن منصور بن حازم أنّه قال:
قُلْتُ لأبِي عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنِّي نَاظَرْتُ قَوْماً فَقُلْتُ لَهُمْ: أنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ أجَلُّ وَ أعَزُّ وَ أكْرَمُ مِنْ أن يُعْرَفَ بِخَلْقِهِ، بَلِ العِبَادُ يُعْرَفُونَ بِاللهِ.
فَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ٢.
كلام أمير المؤمنين عليه السلام: لَمْ أكُ بِالَّذِي أعْبُدُ مَنْ لَمْ أرَهُ
و روى الشيخ هادي كاشف الغطاء قائلًا:
سَألَهُ سَائِلٌ فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين! خَبِّرْنِي عَنِ اللهِ تعالى؛ أ رَأيْتَهُ حِينَ عَبَدْتَهُ؟!
فَقَالَ لَهُ أمير المؤمنين: لَمْ أكُ بِالَّذِي أعْبُدُ مَنْ لَمْ أرَهُ!
فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ رَأيْتَهُ حِينَ رَأيْتَهُ؟!
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَيْحَكَ! لَمْ تَرَهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ، وَ لَكِنْ رَأتْهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ. مَعْرُوفٌ بِالدِّلَالاتِ، مَنْعُوتٌ بِالعَلَامَاتِ، لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ وَ لَا تُدْرِكُهُ الحَوَاسُّ.٣
و روى الكلينيّ هذا المضمون بسند متّصل عن سنان أنّه قال: حضرتُ أبا جعفر عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر! اي شَيءٍ تَعْبُدُ؟!
قال: اللهَ تعالى.
قال (الخارجيّ): رَأيْتَهُ؟!
قَالَ: بَلْ لَمْ تَرَهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ، وَ لَكِنْ رَأتْهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ. لَا يُعْرَفُ بِالقِيَاسِ وَ لَا يُدْرَكُ بِالحَوَاسِّ وَ لَا يُشْبَهُ بِالنَّاسِ.
مَوْصُوفٌ بِالآيَاتِ، مَعْرُوفٌ بِالعَلَامَاتِ، لَا يَجُورُ في حُكْمِهِ؛ ذَلِكَ اللهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.
قَالَ: فَخَرَجَ الرَّجُلُ وَ هُوَ يَقُولُ: «اللهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ».۱
و رأيتُ في بعض الكتب إضافة ما يلي في ذيل هذه الرواية: أنّ الله لا يجور في حكمه. ذلك الله لا معبود إلّا هو.
يقول الشيخ نجم الدين الرازيّ: و أمّا الطائفة التي تنأى بوجهها عن الأغراض البشريّة و المقاصد النفسانيّة و تقع في حبائل جذبات الالوهيّة و تصل إلى عالم الربوبيّة خلال سيرها في طريق العبوديّة فتكون مستعدّة لقبول الفيض دون واسطة فهي على صنفين:
الأوّل هو الذي كان في الصفّ الأوّل في عالم الأرواح من صفوف الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فأصبح مستعدّاً لتقبّل فيض الالوهيّة دون واسطة، و الأنبياء عليهم السلام هم من هذا الصنف فهم مستقلّون هنا في قبول نور
الهداية.
و أمّا الصنف الثاني فيمثّل أرواح الأولياء الذين كانوا هناك مستعدّين لقبول فيض الحقّ من سماء أرواح الأنبياء عليهم السلام، و هم مستعدّون لتقبّل ذلك الفيض هنا كذلك في ظلّ اتّباعهم عليهم السلام، و لأنّه رَشّ على طينة روحانيّتهم خميرته، ثُمَّ رَشَّ عليهم مِنْ نُورِهِ، فلمّا أعرضوا بوجههم عن الزخارف الدنيويّة بفعل حبائل الجذبة، فهم هنا كذلك يشاهدون ذلك النور من وراء آلاف الحُجُب من حجب عزّة جمال الوحدانيّة، كما قال أمير المؤمنين على رضوان الله عليه: لَا أعبُدُ رَبّاً لَمْ أرَهُ، و هنا تكمن مبادئ الحبّ.
اصل همه عاشقى ز ديدار افتد | *** | چون ديده بديد آنگهى كار افتد۱ |
خطبة أمير المؤمنين في وصف الله تعالى في جواب ذعلب
روى الشيخ الصدوق بسند متّصل عن عبد الله بن يونس، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:
بَيْنَا أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ، إذْ قَامَ إليه رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ذِعْلَبٌ، ذَرِبُ اللِسَانِ بَلِيغٌ في الخِطَابِ شُجَاعُ القَلْبِ، فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟!
فَقَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! مَا كُنْتُ أعْبُدُ رَبّاً لَمْ أرَهُ!
قَالَ: يَا أميرَ المُؤْمِنِينَ! كَيْفَ رَأيْتَهُ؟!
قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ! لَمْ تَرَهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ، وَ لَكِنْ رَأتْهُ
القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ. وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ! أنَّ رَبِّي لَطِيفُ اللطَافَةِ فَلَا يُوصَفُ بِاللُّطْفِ، عَظِيمُ العَظَمَةِ لَا يُوصَفُ بِالعِظَمِ، كَبِيرُ الكِبْرِيَاءِ لَا يُوصَفُ بِالكِبَرِ، جَلِيلُ الجَلَالَةِ لَا يُوصَفُ بِالغِلَظِ.
قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ فَلَا يُقَالُ: شَيءٌ قَبْلَهُ؛ وَ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ فَلَا يُقَالُ: شَيءٌ بَعْدَهُ. شَائِي الأشْيَاءِ لَا بِهِمَّةٍ، دَرَّاكٌ لَا بِخَدِيعَةٍ. هُوَ في الأشْيَاءِ كُلِّهَا غَيْرُ مُتَمَازِجٍ بِهَا وَ لَا بَائِنٍ عَنْهَا. ظَاهِرٌ لَا بِتَأوِيلِ المُبَاشَرَةِ، مُتَجَلٍّ لَا بِاسْتِهْلَالِ رُؤْيَةٍ، بَائِنٌ لَا بِمَسَافَةٍ، قَرِيبٌ لَا بِمُدَانَاةٍ، لَطِيفٌ لَا بِتَجَسُّمٍ، مَوْجُودٌ لَا بَعْدَ عَدَمٍ، فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَارٍ، مُقَدِّرٌ لَا بِحَرَكَةٍ، مُرِيدٌ لَا بِهَمَامَةٍ، سَمِيعٌ لَا بِآلَةٍ، بَصِيرٌ لَا بِأدَاةٍ.
لَا تَحْوِيهِ الأمَاكِنُ، وَ لَا تَصْحَبُهُ الأوْقَاتُ، وَ لَا تَحُدُّهُ الصِّفَاتُ، وَ لَا تَأخُذُهُ السِّنَاتُ. سَبَقَ الأوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَ العَدَمَ وُجُودُهُ، وَ الابْتِدَاءَ أزَلُهُ.
بِتَشْعِيرِهِ المَشَاعِرَ عُرِفَ أن لَا مَشْعَرَ لَهُ، وَ بِتَجْهِيرِهِ الجَوَاهِرَ عُرِفَ أن لَا جَوْهَرَ لَهُ، وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الأشْيَاءِ عُرِفَ أن لَا ضِدَّ لَهُ، وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الأشْيَاءِ عُرِفَ أن لَا قَرِينَ لَهُ.
ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَ الجَسْوَ بِالبَلَلِ، وَ الصَّرْدَ بِالحَرُورِ.
مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا، دَالَّةً بِتَفْرِيقِهَا عَلَى مُفَرِّقِهَا، وَ بِتَألِيفِهَا عَلَى مُؤَلِّفِهَا؛ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ مِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».۱
فَفَرَّقَ بِهَا بَيْنَ قَبْلٍ وَ بَعْدٍ؛ لِيُعْلَمَ أن لَا قَبْلَ لَهُ وَ لَا بَعْدَ، شَاهِدَةً بِغَرَائِزِهَا عَلَى أن لَا غَرِيزَةَ لِمُغَرِّزِهَا، مُخْبِرَةً بِتَوْقِيتِهَا أن لَا وَقْتَ لِمُوَقِّتِهَا.
حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ؛ لِيُعْلَمَ أن لَا حِجَابَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ خَلْقِهِ
غَيْرُ خَلْقِهِ.
كَانَ رَبّاً إذْ لَا مَرْبُوبٌ، وَ إلَهاً إذْ لَا مَألُوهٌ، وَ عَالِماً إذْ لَا مَعْلُومٌ، وَ سَمِيعاً إذْ لَا مَسْمُوعٌ.
ثُمَّ أنْشَأ يَقُولُ:
وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالحَمْدِ مَعْرُوفَا | *** | وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالجُودِ مَوْصُوفَا |
وَ كُنْتَ۱ إذْ لَيْسَ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ | *** | وَ لَا ظَلَامٌ على الآفَاقِ مَعْكُوفَا |
وَ رَبُّنَا بِخِلَافِ الخَلْقِ كُلِّهِمُ | *** | وَ كُلِّ مَا كَانَ في الأوْهَامِ مَوْصُوفَا |
فَمَنْ يُرِدْهُ عَلَى التَّشْبِيهِ مُمْتَثِلًا | *** | يَرْجِعْ أخَا حَصَرٍ بِالعَجْزِ مَكْتُوفَا |
وَ في المَعَارِجِ يَلْقَي مَوْجُ قُدْرَتِهِ | *** | مَوْجاً يُعَارِضُ طَرْفَ الرُّوحِ مَكْفُوفَا |
فَاتْرُكْ أخَا جَدَلٍ في الدِّينِ مُنْعَمِقاً | *** | قَدْ بَاشَرَ الشَّكُّ فِيهِ الرَّأيَ مَأوُوفَا |
وَ اصْحَبْ أخَا ثِقَةٍ حُبَّاً لِسَيِّدِهِ | *** | وَ بِالكَرَامَاتِ مِنْ مَوْلَاهُ مَحْفُوفَا |
أمْسَى دَلِيلَ الهدى في الأرْضِ مُنْتَشِراً | *** | وَ في السَّمَاءِ جَمِيلَ الحَالِ مَعْرُوفَا |
قَالَ: فَخَرَّ ذِعْلَبٌ مَغْشِيَّاً عَلَيْهِ ثُمَّ أفَاقَ، وَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ بِهَذَا الكَلَامِ، وَ لَا أعُودُ إلى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ مُصَنِّفُ هَذَا الكِتَابِ: في هَذَا الخَبَرِ ألفَاظٌ قَدْ ذَكَرَها الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ في خُطْبَتِهِ،۱ وَ هَذَا تَصْدِيقُ قَوْلِنَا في الأئِمَّةِ عليهم السَّلَامُ: أنَّ عِلْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَأخُوذٌ عَنْ أبِيهِ حتى يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِالنَّبِيّ صلى اللهُ عليه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.٢
نعم، فمضافاً إلى أنّ هذه الحديث المبارك يدلّ على أنّ رؤية الله بعين القلب أمر ممكن بل و لازم، فإنّه كذلك و بعد التمحيص جيّداً في عباراته يمكن أن نتحسّس من خلاله وحدة وجود الحقّ تعالى بشكل واضح و مبرهن، و خصوصاً تلك العبارة التي يقول فيها:
حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه.
فإذا كان المقصود من هذه العبارة أنّ العلّة في حجب بعض الخلائق عن بعضها هي أن يُعلَم أن لا حجاب بينه و بين مخلوقاته، فعبارة غَيْرُ خَلْقِهِ تبدو زائدة، لأنّه كما قال: بتشعيره المشاعر (للخلق) عُرف أنّ الله لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عُرف أن لا جوهر له، و خلق الغرائز شاهدة على أن لا غريزة للّه (بِتَشْعِيرِهِ المَشَاعِرَ عُرِفَ أن لَا مَشْعَرَ لَهُ، وَ بَتَجْهِيرِهِ الجَوَاهِرَ عُرِفَ أن لَا جَوْهَرَ لَهُ. ... شَاهِدَةً بِغَرَائِزِهَا عَلَى أن لَا غَرِيزَةَ لِمُغَرِّزِهَا)، فكان لزاماً أن يقول هنا كذلك: حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ لِيُعْلَمَ أن لَا حِجَابَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ خَلْقِهِ.
إلّا أنّنا نشاهد هنا أنّه أضاف عقيب تلك الكلمة قائلًا: غَيْرُ خَلْقِهِ، و الغرض من ذلك تفهيم السامع أنّه لا توجد بين الحقّ المتعال و بين مخلوقاته فاصلة أو بعد أو حجاب غير نفس تعيّن المخلوقات. فإذا أزلت التعيّن من وجود المتعيّن فلن يبقى هنالك شيء غير الوجود المطلق، و هو
عبارة عن وجود الحقّ سبحانه و تعالى.
و لأنّ مرجع التعيّن أمر عدميّ و اعتباريّ لهذا: لَيْسَ في العَالَمِ إلَّا الوُجُودُ المُطْلَقُ وَ البَسِيطُ وَ البَحْتُ وَ الصِّرْفُ وَ هُوَ الحَقُّ تعالى شَأنُهُ وَ عَلَا مَجْدُهُ.
وجود اندر همه اشياء سارى است | *** | تعيّنها امور اعتبارى است۱ |
أبيات الملّا الروميّ في عظمة لقاء أمير المؤمنين للّه تعالى
و قد بيّن الملّا الرومي مسألة رؤية أمير المؤمنين عليه السلام للّه تعالى و مشاهدته بعين الوحدانيّة و الفناء في ذاته و اسمه و صفته و النظر إلى جميع العوالم باعتبارها ظهوراً له تعالى من خلال قصّة مشوقّة موضّحاً حقيقة ذلك.
فمن خلال عرض الملّا الروميّ لبيان توحيد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يقوم بوصف حالة إشهاره السيف بوجه الكافر لقتله، و قيام الكافر بالبصق على وجهه و إعراضه عليه السلام عن قتله في تلك اللحظة، و سؤال الكافر عن علّة ذلك، و إسلامه دونما حاجة إلى السيف و القتال و المبارزة، في الأبيات التالية:
از على آموز اخلاص عمل | *** | شير حقّ را دان منزّه از دغل |
در غزا بر پهلوانى دست يافت | *** | زود شمشيرى بر آورد و شتافت٢ |
او خدو انداخت بر روى عليّ | *** | افتخار هر نبيّ و هر وليّ |
او خدو انداخت بر روئى كه ماه | *** | سجده آرد پيش او در سجده گاه |
در زمان انداخت شمشير آن على | *** | كرد او اندر غزايش كاهلى |
گشت حيران آن مبارز زين عمل | *** | از نمودن عفو و رحم بى محل |
گفت بر من تيغ تيز افراشتى | *** | از چه افكندى مرا بگذاشتى |
آن چه ديدى بهتر از پيكار من | *** | تا شدى تو سست در اشكار من |
آن چه ديدى كه چنين خشمت نشست | *** | تا چنين برقى نمود و باز جست۱ |
آن چه ديدى كه مرا ز آن عكس ديد | *** | در دل و جان شعلهاى آمد پديد |
آن چه ديدى بهتر از كون و مكان | *** | كه به از جان بود و بخشيديم جان |
در شجاعت شير ربّانيستى | *** | در مروّت خود كه داند كيستى |
در مروّت ابر موسائى به تيه | *** | كامد از وى خوان و نان بى شبيه۱ |
ثمّ يواصل الملّا رحمة الله عليه شعره على هذا المنوال، حتى يصل إلى حيث يقول:
اى على كه جمله عقل و ديدهاى | *** | شمّهاى واگو از آن چه ديدهاى |
تيغ حلمت جان ما را چاك كرد | *** | آب علمت خاك ما را پاك كرد |
بازگو دانم كه اين اسرار هوست | *** | زانكه بى شمشير كشتن كار اوست٢ |
صانع بى آلت و بى جارحه | *** | واهب اين هديهها بى رابحه |
صد هزاران مىچشاند روح را | *** | كه خبر نبود دل مجروح را |
صد هزاران روح بخشد هوش را | *** | كه خبر نبود دو چشم و گوش را۱ |
عظمة المقام التوحيديّ لأمير المؤمنين عليه السلام
يقول الملّا: سأل الكافر عليّاً: يا على المرتضى! يا أمير المؤمنين! يا من يفيض وجوده بالعقل و الدراية، اناشدك أن تبيّن لي قليلًا ممّا حصل و جعلك تعرض عن قتلي، فمنحتني الحياة الخالدة، و مننت على بالإسلام. أنت ذلك الشخص الذي قتل بصبره و حلمه اللذين هما أمضى من السيف البتّار شركي و وثنيّتي و أحييتني على عالم التوحيد و اليقين و العرفان و وهبتني حياة جديدة! أنت ذلك الشخص الذي أسجد لنا الملائكة بماء حياته و علمه و معرفته، و طهّر طينة خلقتنا من دنس الشرك و الجهل و سار بنا نحو النور و ضياء العلم ب- عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها منتشلًا إيّانا من دياجير الظلمة و شوائب الجهل!
و الآن قل لي أ ليس قتل نفسي الأمّارة بالسوء من دون حسام أو سيف هو من عمل الله علّام الغيوب، فهو الذي يُحدث الامور بلا أسباب و وسائل و مقدّمات و معدّات و لا يحتاج إلى مساعد و معين و رفيق.
هو الذي يعمل دون آلة أو جوارح، و يسخّر لنا كلّ هذه العطايا و الهبات مجّاناً و دون مقابل و لا يبتغي من وراء ذلك منفعة أو فائدة.
هو الذي يسقي أرواحنا آلافاً مؤلّفة من المعاني السامية و المسائل الرفيعة دون أن تطّلع على ذلك قلوبنا و مهجنا التي تمسك الروح بزمامها.
هو الذي يوصل إلى فهمنا و إدراكنا آلافاً من الامور الغامضة و المشاكل المستعصية، و التي لا سبيل إلى إدراكها بحواسّنا الظاهرة من سمع أو بصر، و فمنافذ درك هذه العلوم بوساطة هذه الحواسّ مغلقة.
باز گو اي باز عرش خوش شكار | *** | تا چه ديدى اين زمان از كردگار |
چشم تو ادراك غيب آموخته | *** | چشمهاى حاضران بر دوخته۱ |
آن يكى ماهى همى بيند عيان | *** | و آن يكى تاريك مىبيند جهان |
و آن يكى سه ماه مىبيند بهم | *** | اين سه كس بنشسته يك موضع نَعَم٢ |
چشم هر سه باز و چشم هر سه تيز | *** | در تو آميزان۱ و از من در گريز |
سحر عين است اين عجب لطف خفى است | *** | بر تو نقش گرگ و بر من يوسفى است |
عالم ار هجده هزار است و فزون | *** | هر نظر را نيست اين هجده زبون٢ |
ج
يا عليّ المرتضى، أيّها الباز الصيّاد الماهر الأثير عند عرش الله،
يا مَن أوقع أفضل و أسمى النفوس في حبائل محبّته و فتوّته و عدله، فأخرجها من نفسها الشهوانيّة و أدخلها في عالم الروح المعنويّة و الحياة السرمديّة، فأخرجتها من ذاتها و ألحقتها بربّها! و الآن أخبرني ما الذي رأيتَ من ربّك حتى انصرفت عن قتلي و أخذت بيدي عند ربّي؟!
فعينا سرّك و باطنك استقتا علم الغيب في حين أنّ عيون الآخرين قد خيطت و سُدّت.
ببين تفاوت ره از كجاست تا بكجا؟۱
إنّه لأمرٌ عجب، أن يجلس ثلاثة أنفار في مكان واحد: أحدهم موحّد يُبصر الله بالوحدانيّة و يرى جميع العوالم متجلّية في ظهور و طلوع وجهه، و الثاني مشرك يعبد الأوثان و يُنكر خالق الأكوان مقضيّاً حياته في عبادة المادّة و الانتماء إلى الطبيعة، و ثالث يقول بالتثليث (الذات و العلم و الروح). و يؤمن و يعتقد بأنّ الأب و الابن و الروح القدس هم ثلاثة أقانيم. فهؤلاء الثلاثة لهم أعين و بصر حادّ و لكنّ القمر الذي في السماء له شكل مختلف في عين كلّ منهم. الأوّل يعترف بوحدة القمر و الثاني ينكره بالمرّة و يراه الثالث بعينه الرمداء ثلاثة، و الثلاثة هم في حالة تفاعل مع الحقيقة العلويّة التي تمثّل جوهر الوحدة و في نفس الوقت يعيشون حالة الفرار من ذاتهم و أنانيّتهم، فعجباً: هل ما حدث كان سحراً و خداعاً أغشى أعين الناظرين أم هو من فعل ألطافه الخفيّة سبحانه عليك يا على إذ كان بإمكانك أن تعاملني معاملة الذئب لفريسته و تقطّعني بسيفك إرباً إرباً، لكن صنيعك هذا معي أنقذني كما انقِذ يوسف من غيابت الجبّ و رُفع إلى القمر، و منحني سلطان الدنيا و الآخرة. يا على! الحقّ أنّك سيفٌ ذو حدّين: حدّه الأوّل
غضب و سطوة و طوفان، و حدّه الآخر حياة خالدة و توحيد و عرفان.
فأيّ شخص أنت! أفعالك إلهيّة يعجز عنها الآخرون، و كلّ عوالم الملك و الملكوت هذه مطيعة لك مؤتمرة بأمرك. فعل إيمانك يسخّر له القلوب و يترك آثاره عليها، إنّه سلطان توحيدك و عرفانك الذي تسلّط على قلبي، أنا الكافر القادم لمبارزتك و قتالك، و الذي صيّرني مسلماً في لحظة واحدة.
نعم، فالعوالم المادّيّة و المثاليّة و العقليّة كلّها لك مطيعة بحول الله و قوّته، فلو أن عدد العوالم كان ثمانية عشرة ألف أو أكثر فإنّها لا تأتمر بأمر أحد إلّا بأمرك أنت و لا تنقاد إلى رأي إلّا رأيك.
راز بگشا اي على مرتضى | *** | اي پس از سوءُ القَضا حُسْنُ القَضا |
يا تو واگو آنچه عقلت يافته است | *** | يا بگويم آنچه بر من تافته است |
از تو بر من تافت چون دارى نهان | *** | مىفشانى نور چون مه بى زبان |
ليك اگر در گفت آيد قرص ماه | *** | شبروان را زودتر آرد به راه۱ |
از غلط ايمن شوند و از ذهول | *** | بانگ مه غالب شود بر بانگ غول |
ماه بي گفتن چو باشد رهنما | *** | چون بگويد شد ضيا اندر ضيا |
چون تو بابى آن مدينة علم را | *** | چون شعاعى آفتاب حلم را |
باز باش اي باب بر جوياى باب | *** | تا رسند از تو قُشور اندر لُباب |
باز باش اي باب رحمت تا ابد | *** | بارگاه ما لَهُ كُفْواً أحَدْ۱ |
يا علي، أيّها المرتضى، أزح الستار و اكشف الأسرار! يا من أبدلت سوء عاقبتي و شركي و هلاكي في سبيل الطاغوت، إلى حسن العاقبة و الإيمان و الحياة الخالدة في سبيل الله! و يا من استردّ حقّه في الخلافة و أصبح ملاذاً لجميع خلق الله في حسن القضاء الإلهيّ، بعد أن غصبه الخليفة الثالث مقامه و منزلته! و الآن تفضّل على و أخبرني ما الذي تناهى إلى عقلك، و جعلك تنصرف عن قتلي و قتالي، أم هل اخبرك أنا بالذي
غمرني من فيض النفحات السبحانيّة و السبحات الرحمانيّة فملأ قلبي بالإيمان و صبّ على روحي اليقين؟!
إن هذه الفيوضات القدسيّة و الألطاف القدّوسيّة التي اغدقت على كلّها نابعة من قلبك المبارك، فكيف لك و الحال هذه أن تكتم كلّ ذلك؟ كالبدر المنير في ليلة تمامه ينير الطريق للناس في ظلمة الليل الحالك دون بيان. فكيف بنا إذا كان هذا البدر يهدي بالبيان مع ما له من نور و ضياء، فذاك نور على نور و سيُحيل العالم المظلم إلى دنيا مضيئة بنور الهداية، بفعله و قوله و تكوينه و تشريعه.
«لأنّك باب مدينة العلم، و لأنّك شعاع من شمس الحلم»
يا باب مدينة علم النبيّ، و بوّابة معرفتها. فبحقّ ما لك من المنزلة الرفيعة، و ما تتّصف به من حلم رسول الله و صبره و جلده دمتَ ذخراً للباحثين عن العلم و طالبي طريق السلامة و العقل و المعرفة، حتى تنضج الألباب، و تنفذ من القشور إلى اللب و الجوهر و ينتقل العالم المجرّد و القدرة المحضة إلى الفعليّة الصرفة.
دام باب مدينة علمك مفتوحاً إلى الأبد و لا اغلقت مطلقاً، فأنت الملاذ الذي لا ندّ له و لا نظير، و وحيد معركة الفضيلة و الرسالة هذه، و حارس ساحة الواحد الذي لا شريك له فأنت الكفؤ لهذه الحراسة!
تصريح «مولانا» بعدم إمكان الوصول بدون شيخ و استاذ
هر هوا و ذرّهاى خود منظرى است | *** | ناگشاده كى بود كآنجا درى است |
تا نبگشايد درى را ديدهبان | *** | در درون هرگز نجنبد اين گمان۱ |
چون گشاده شد درى حيران شود | *** | مرغ اميّد و طمع پرّان شود |
غافلى ناگه به ويران گنج يافت | *** | سوى هر ويرانه زان پس مىشتافت |
تا ز درويشى نيابى تو گهر | *** | كى گهر جوئى ز درويش دگر |
سالها گر ظنّ دود با پاى خويش | *** | نگذرد ز اشكاف بينيهاى خويش |
تا ببينى نايدت از غيب بوى | *** | غير بينى هيچ مىبينى بگوي۱ |
يا على أيّها المرتضى! أنت شيخ الطريقة! أنت معلّم الامّة و دليلها أنت السيّد و المرشد إلى سبل الله! افتح لقلبي باباً! و خذ بيديّ فإنّي لا استطيع الوقوف على قدمي.
فما أكثر المناظر الخلّابة الموجودة بين السماء و الأرض، و لكن أنّى
للسجين الذي اوصدت عليه أبواب السجن أن يُمتّع ناظريه بها؟!
فإن لم يفتح السجّان باباً على قلوب الأتقياء فلن يستعر أمل اللقاء و رجاء الوصول في قلوب النجباء، و أمّا إذا فتح وليّ الله و السيّد باباً من الحبّ على قلب السالك، قُدحت في الفؤاد شرارة و نشر طائره جناحيه استعداداً للتحليق نحو عوالم القدس.
فلا يصحّ القول بأنّ البعض قد وصل إلى غايته دونما حاجة إلى معلّم و حاز على كنزه المنشود، هذا ما يقوله الغافلون و ينطق به الجاهلون فيكون كمن عثر بالصدفة على كنز في خربة فيقضي عمره كلّه يجول في الخرائب بحثاً عن كنوز أخرى، فهو مسكين لا يعلم أن ليس كلّ خربة تحوي كنزاً.
فلا مناص من اتّخاذ المعلّم و فتح نافذة من فضائله على قلوبنا من عالم الغيب حتى يتيسّر فتح الطريق، كالدراويش و العارفين الذين سلكوا الطريق و غنموا، فإن نهلتَ من منهلهم فتوجّه نحو مسحوقي الفؤاد و الدراويش، لتنهل منهم كذلك.
إذا انطلق السالك نحو هدفه سنوات طوال معتمداً فكره و تصوّره و اختياره و ظنّه، فقد استند على رجليه هو لا رجلي معلّم محنّك. و على هذا فهو لا يستطيع التقدّم خطوة أبعد من أنانيّته أو التحرّك خارج نطاق نفسه، ما دمتَ لا ترى إلّا نفسك فلا أثر لعالم الغيب، و لا أمل في حصولك على نفحة منه. ففي هذه الحالة، فإنّك سترى دوماً الأغيار و ليس الأخيار، فإن كنت قد وصلت بذلك إلى أحبابك فبيّن لنا ذلك حتى نتّبع طريقتك دونما حاجة إلى إرشاد معلّم أو ولاية شيخ!
و اعلم أنّ ما أورده الملّا الروميّ في هذه الأبيات له نفس محتوى و مضمون تلك الرواية التي ذكرناها في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في
جوابه على ذعلب، برواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام و التي رواها الشيخ الصدوق في «التوحيد» بسند متّصل عن عبد الله بن يونس. و قد بدا من كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الرواية أنّه لم يشأ أن يقول بأنّي أنا وحدي الذي رأيت ربّي و لهذا أعبده، بل من الواجب أن يكون هذا حال جميع عباد الله. فإذا دقّقنا في عبارة: مَا كُنْتُ أعْبُدُ رَبّاً لَمْ أرَهُ، لظهر جليّاً أنّه عليه السلام إنّما أراد أن يُشعر كلّ العابدين بأنّ هذا هو واجبهم تجاه معبودهم، و استخدامه لفظة مَا كُنْتُ إنّما كان مثالًا رائعاً في بيانه لتلك الحقيقة المسلّم بها.
رواية «كفاية الأثر» في لزوم لقاء الله تعالى برؤية القلب
و دليلنا على أنّ وجوب لقاء الله و رؤيته بعين القلب و حقيقة الإيمان واجب على جميع البشر يقومون بعبادة و تقديس الله، معبودهم، هو رواية جليلة و غنية، التي ذكرها شيخنا الأقدم: الشيخُ السعيد علي بن محمّد بن على الخَزّاز القمّيّ في كتابه القيّم و النفيس الموسوم ب- «كفاية الأثر في النصوص على الأئمّة الاثني عشر» و رواها عنه كذلك العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار».
فقد رواها المجلسيّ نقلًا عن الكتاب المذكور عن الحسين بن على، عن هارون بن موسى، عن محمّد بن الحسن، عن الصفّار، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام أنّه قال: كنتُ عند الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام فدخل عليه معاوية بن وهب و عبد الملك بن أعيَن.
فقال معاوية بن وهب:
يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! مَا تَقُولُ في الخَبَرِ الذي رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَأى رَبَّهُ عَلَى اي صُورَةٍ رَآهُ؟ وَ عَنِ الحَدِيثِ الذي
رَوَوْهُ أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ في الجَنَّةِ عَلَى اي صُورَةٍ يَرَوْنَهُ!
فَتَبَسَّمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ!۱ مَا أقْبَحَ بِالرَّجُلِ يَأتِي عَلَيْهِ سَبْعُونَ سَنَةً أوْ ثَمَانُونَ سَنَةً يَعِيشُ في مُلْكِ اللهِ وَ يَأكُلُ مِنْ نِعَمِهِ، ثُمَّ لَا يَعْرِفُ اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ!
ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُعَاوِيَةُ! أنَّ مُحَمَّداً صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَمْ يَرَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَ تعالى بِمُشَاهَدَةِ العِيَانِ. وَ أنَّ الرُّؤْيَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ: رُؤْيَةُ القَلْبِ وَ رُؤْيَةُ البَصَرِ؛ فَمَنْ عَنَى بِرُؤْيَةِ القَلْبِ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَ مَنْ عَنَى بِرُؤْيَةِ البَصَرِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ وَ بِآيَاتِهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَ لَقَدْ حَدَّثَنِي أبِي عَنْ أبِيهِ عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ على، قَالَ: سُئِلَ أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ: يَا أخَا رَسُولِ اللهِ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟!
فَقَالَ: وَ كَيْفَ أعْبُدُ مَنْ لَمْ أرَهُ؟! لَمْ تَرَهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ العِيَانِ؛ وَ لَكِنْ رَأتْهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
فَإذَا كَانَ المُؤْمِنُ يرى رَبَّهُ بِمُشَاهَدَةِ البَصَرِ فَإنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ٢ عَلَيْهِ البَصَرُ وَ الرُّؤْيَةُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَ لَا بُدَّ لِلْمَخْلُوقِ مِنَ الخَالِقِ؛ فَقَدْ جَعَلْتَهُ إذاً مُحْدَثاً مَخْلُوقاً! وَ مَنْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ مَعَ اللهِ شَرِيكاً.
وَيْلَهُمْ! أ وَ لَمْ يَسْمَعُوا يَقُولُ اللهُ تعالى: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»٣. وَ قَوْلَهُ:
«لَن تَرَانِي وَ لَكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإن اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ و لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ و دَكًّا».۱
وَ إنَّمَا طَلَعَ مِنْ نُورِهِ عَلَى الجَبَلِ كَضَوْءٍ يَخْرُجُ مِنْ سَمِّ الخِيَاطِ؛ فَدُكْدِكَتِ الأرْضُ وَ صَعَقَتِ الجِبَالُ فَخَرَّ موسى صَعِقاً أيْ مَيِّتاً. فَلَمَّا أفَاقَ وَ رُدَّ عَلَيْهِ رُوحُهُ قَالَ: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليْكَ مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أنَّكَ تُرَى، وَ رَجَعْتُ إلى مَعْرِفَتِي بِكَ أنَّ الأبْصَارَ لَا تُدْرِكُكَ، وَ أنَا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ وَ أوَّلُ المُقِرِّينَ بِأنَّكَ ترى وَ لَا تُرَى، وَ أنْتَ بِالمَنْظَرِ الأعْلَى!
ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أنَّ أفْضَلَ الفَرَائِضِ وَ أوْجَبَهَا عَلَى الإنْسَانِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ وَ الإقْرَارُ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ. وَ حَدُّ المَعْرِفَةِ أن يَعْرِفَ أنَّهُ لَا إلَهَ غَيْرُهُ، وَ لَا شَبِيهَ لَهُ وَ لَا نَظِيرَ، وَ أن يَعْرِفَ أنَّهُ قَدِيمٌ مُثْبِتٌ مَوْجُودٌ٢ غَيْرُ فَقِيدٍ مَوْصُوفٌ مِنْ غَيْرِ شَبِيهٍ وَ لَا مُبْطَلٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
وَ بَعْدَهُ مَعْرِفَةُ الرَّسُولِ وَ الشَّهَادَةُ بِالنُّبُوَّةِ، وَ أدْنَى مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ الإقْرَارُ بِنُبُوَّتِهِ وَ أنَّ مَا أتَى بِهِ مِنْ كِتَابٍ أوْ أمْرٍ أوْ نَهْيٍ فَذَلِكَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.
وَ بَعْدَهُ مَعْرِفَةُ الإمَامِ الذي بِهِ تُؤْتَمُّ [يُؤْتَمُ] بِنَعْتِهِ وَ صِفَتِهِ وَ اسْمِهِ في حَالِ العُسْرِ وَ اليُسْرِ، وَ أدْنَى مَعْرِفَةِ الإمَامِ أنَّهُ عِدْلُ النَّبِيّ إلَّا دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ، وَ وَارِثُهُ، وَ أنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللهِ وَ طَاعَةُ رَسُولِ اللهِ، وَ التَّسْلِيمُ لَهُ في كُلِّ أمْرٍ وَ الرَّدُّ إليه، وَ الأخْذُ بِقَوْلِهِ.
وَ يَعْلَمَ أنَّ الإمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ علي بن أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَ بَعْدَهُ الحَسَنُ ثُمَّ الحُسَيْنُ ثُمَّ علي بن الحُسَيْنِ ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ علي ثُمَّ أنَا، ثُمَّ بَعْدِي موسى ابْنِي، وَ بَعْدَهُ علي ابْنُهُ، وَ بَعْدَ علي
مُحَمَّدٌ ابْنُهُ، وَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ علي ابْنُهُ، وَ بَعْدَ علي الحَسَنُ ابْنُهُ؛ وَ الحُجَّةُ مِنْ وُلْدِ الحَسَنِ.
ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ! جَعَلْتُ لَكَ أصْلًا في هَذَا فَاعْمَلْ عَلَيْهِ، فَلَوْ كُنْتَ تَمُوتُ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ لَكَانَ حَالُكَ أسْوَأ الأحْوَالِ! فَلَا يَغُرَّنَّكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أنَّ اللهَ تعالى يرى بِالبَصَرِ!
قَالَ: وَ قَدْ قَالُوا أعْجَبَ مِنْ هَذَا؛ أ وَ لَمْ يَنْسِبُوا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى المَكْرُوهِ؟! أ وَ لَمْ يَنْسِبُوا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى مَا نَسَبُوهُ؟! أ وَ لَمْ يَنْسِبُوا دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى مَا نَسَبُوهُ مِنْ حَدِيثِ الطَّيْرِ؟! أ وَ لَمْ يَنْسِبُوا يُوسُفَ الصِّدِّيقَ إلى مَا نَسَبُوهُ مِنْ حَدِيثِ زُلَيْخَا؟! أ وَ لَمْ يَنْسِبُوا موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى مَا نَسَبُوهُ مِنَ القَتْلِ؟! أ وَ لَمْ يَنْسِبُوا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلى مَا نَسَبُوهُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدٍ؟! أ وَ لَمْ يَنْسِبُوا علي بن أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى مَا نَسَبُوهُ مِنْ حَدِيثِ القَطِيفَةِ؟!
إنَّهُمْ أرَادُوا بِذَلِكَ تَوْبِيخَ الإسْلَامِ لِيَرْجِعُوا عَلَى أعْقَابِهِم! أعْمَى اللهُ أبْصَارَهُمْ كَمَا أعْمَى قُلُوبَهُمْ، تعالى اللهُ عَن ذَلِكَ عُلُوَّاً كَبِيراً.۱
أبيات الشيخ محمود الشبستريّ في حتميّة رؤية الله بالله تعالى
و قد أنشد عالمنا الجليل: المرحوم الشيخ محمود الشبستريّ أعلى الله درجته أبياتاً بهذا الخصوص:
حكيم فلسفى چون هست حيران | *** | نميبيند ز اشيا غير امكان٢ |
ز امكان مىكند اثبات واجب | *** | و زين حيران شده در ذات واجب |
گهى از دور دارد سير معكوس | *** | گهى اندر تسلسل گشته محبوس |
چو عقلش كرد در هستى توغّل | *** | فرو پيچيد پايش در تسلسل |
ظهور جملة اشيا به ضدّ است | *** | ولى حقّ را نه مانند و نه نِدّ است |
چو نبود ذات حقّ را شبه و همتا | *** | ندانم تا چگونه داند آن را |
ندارد ممكن از واجب نمونه | *** | چگونه داندش آخر چگونه |
زهى نادان كه او خورشيد تابان | *** | به نور شمع جويد در بيابان |
اگر خورشيد بر يك حال بودى | *** | شعاع او به يك منوال بودى |
ندانستى كسى كين پرتو اوست | *** | نبودى هيچ فرق از مغز تا پوست |
جهان جمله فروغ نور حقّ دان | *** | حق اندر وى ز پيدائيست پنهان |
چه نور حقّ ندارد نقل و تحويل | *** | نيايد اندرو تغيير و تبديل |
تو پندارى جهان خود هست دائم | *** | بذات خويشتن پيوسته قائم |
كسى كو عقل دورانديش دارد | *** | بسى سرگشتگى در پيش دارد |
ز دورانديشى عقل فضولى | *** | يكى شد فلسفى ديگر حلولى |
خرد را نيست تاب نور آن روى | *** | برو از بهر او چشم دگر جوى۱ |
شرح الشيخ محمّد اللاهيجيّ لأبيات الشبستريّ في «گلستان راز»
و قد شرح العالم الخبير و العارف البصير الشيخ محمّد اللاهيجيّ هذه الأبيات في «شرح گلشن راز» قائلًا:
تلك هي جماعة اختُصّت بالعناية الأزليّة من لدن الله، و انتشلتهم توفيقات الهداية الإلهيّة من حضيض مقام استدلال الأثر بالمؤثّر إلى أوج درجات شهود المؤثّر بالأثر، و ذابوا في تجلّي وحدانيّة الذات، و بعد البقاء و الإحساس بعين الحقّ رأوا أنّ ما نزل من عالم الغيب إلى مراتب الأسماء و الصفات و الآثار إنّما هو ذات الواحد المطلق متجلّيةً في كلّ مكان و مظهر بظهور ما، و كلّ الأشياء إنّما هي قائمة بوجود الحقّ تعالى، و أنّ الحقّ القيّوم هو كلّ تلك الأشياء.
گنج پنهانست زير هر طلسم | *** | پيش عارف شد مسمّى عين اسم |
ديدة حقّ بين اگر بودى ترا | *** | او رخ از هر ذرّه بنمودى ترا۱ |
إنّها النخبة الحقيقيّة من العارفين الذين أدركوا كلّ الأشياء من خلال النور الإلهيّ، و رأوا الحقّ متجلّياً في صور المظاهر جميعاً و هم الوارثون للقائل عَرَفْتُ الأشْيَاءَ بِاللهِ٢
و جماعة أخرى لم تَخْطُ خطوة أبعد من طور التقليد، و بسبب
افتقارهم للقابليّة الفطريّة لم يتمكنوا من الوصول إلى مرتبة الشهود الحقيقيّ التي مرّ ذكرها، فهم يحاولون إثبات مبدأ الواحد الذي هو منشأ الكثرات، بالاستدلال؛ و لا يعلمون من الأشياء إلّا (عالم) الإمكان، و يستدلّون على وجود الواجب من خلال وجود الممكنات. و لأنّ برهانهم على إثبات واجب الوجود ممكناً (أي من عالم الإمكان)، فقد قال:
ز امكان مىكند اثبات واجب | *** | ازين حيران شد اندر ذات واجب۱ |
فقد اثبت عن طريق هذا الاستدلال بأنّه يجب أن يكون هناك واجب الوجود، لكنّ المعرفة الحقيقيّة التي هي العلم بحقيقة الحال لم تحصل هنا؛ لأنّ هذا المعنى إنّما يحصل بنفي الغير و ليس بالإثبات.
و كلّما أوغلوا في إثبات الموجودات ابتعدوا عن حقيقة التوحيد، فمن أراد معرفة الحقّ بوساطة الأشياء، فهو، في الواقع، يجهل الحقيقة. و أمّا من يعرف الأشياء بالحقّ فهو عارف.
سئل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم بِمَا عَرَفْتَ اللهَ؟! قال صلى الله عليه و آله و سلّم: عَرَفْتُ الأشْيَاءَ بِاللهِ. اي عرفتُ الحقّ بالحقّ و عرفتُ الأشياء كذلك بالحقّ.
خويش را عريان كن از فضل اي فضول | *** | ترك خود كن تا كند رحمت نزول |
زيركى ضدّ شكست است و نياز | *** | زيركى بگذار و با گولى بساز٢ |
٣
معرفة الله ؛ ج٢ ؛ ص۱٢۱
و لأنّه من المستطاع معرفة شيء بشيء، أو بما يشاكله في الذات، أو بما يشاكله في الصفات، فقد قال:
ظهور جملة اشيا به ضدّ است | *** | ولى حقّ را نه مانند و نه نِدّ است۱ |
أي أنّه لا وجود لضدّ و نظير للحقّ في الالوهيّة؛ بل ليس شريك في الوجود، بل لا موجود سواه حتى يكون سبباً لظهور الحقّ بواسطة التضادّ و التماثل؛ بل أنّ نور وجود الواجب قد غمر جميع ذرّات الكائنات، و الأجلى و الأظهر من كلّ المفاهيم و البديهيّات هو وجود الواحد المطلق، و الذي اختفى و استتر من شدّة الظهور و الوضوح.
اى تو مخفى در ظهور خويشتن | *** | وى رخت پنهان به نور خويشتن٢ |
و ليس هناك غير في الحقيقة فيكون سبباً و واسطة لظهور الحقّ؛ وَ الأشْيَاءُ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِأضْدَادِهَا فلولا وجود الليل، ما استُدِلّ على وجود النهار، و لو لا الفقر ما عُرف الغنى، و لو لا الظلمة ما استبان النور، و قس على ذلك؛ لذا فإنّ عدميّة ذاتنا، هي مرآة وجود الحقّ.
جام گيتى نماى او مائيم | *** | كه به ما هر چه هست پيدا شد٣ |
و عجزنا و افتخارنا هما مرآة قدرة الحقّ و غناه.
هستى اندر نيستى بتوان نمود | *** | مالداران بر فقير آرند جود |
خواجة اشكسته بند آنجا رود | *** | كه در آنجا پاى اشكسته بود |
نقصها آيينه وصف و كمال | *** | و آن حقارت آينه عزّ و جلال۱ |
و قالوا: أنّ الضدّ و الشِّبه شريكان في الصفات، و الندّ و المثل شريكان في الذات. و قال بعضهم: إنّما الضدّ و الندّ و المثل هي ألفاظ مترادفة؛ اي لا شريك للحقّ في الذات و الصفات، بل أنّ ذات جميع المخلوقات و صفاتها هي عكس ذاته تعالى و صفاته، و التي تجلّت في مجالات كثرات العالم و مراياه و ظهرت فيها.
وَ مَا هي إلَّا أن بَدَتْ بِمَظَاهِرٍ | *** | فَظَنُّوا سِوَاهَا وَ هىَ فِيهَا تَجَلَّتِ٢ |
،،،
مهر رخسار تو مىتابد ز ذرّات جهان | *** | هر دو عالم پر ز نور و ديده نابينا چه سود٣ |
بَدَتْ بِاحْتِجَابٍ وَ اخْتَفَتْ بِمَظَاهِرٍ | *** | عَلَى صِبَغِ التَّلْوِينِ فِي كُلِّ بَرْزَةِ |
فَسُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ لِذَاتِهِ خِفَاءٌ إلَّا الظُّهُورُ، وَ لَا لِوَجْهِهِ حِجَابٌ إلَّا النُّورُ
و برهان وجود الحقّ لا يكون إلّا بالحقّ نفسه حيث لا سبيل للكثرة إلى وجوده مطلقاً؛ و لا مفرّ من استنباط البرهان من الوجود.
هم به چشم دوست ديدم چون جمالش جلوهگر | *** | كافتاب از مشرق هر ذرّه تابان گشته بود۱ |
إلى أن قال:
و لأنّ عدم وجود الضدّ و الندّ للشيء يوجب اختفاء ذلك الشيء و عدم ظهوره فقد قال:
چو نبود ذات حقّ را ضدّ و همتا | *** | ندانم تا چگونه دانم او را٢ |
أي لا وجود للمشابه و المماثل لذات الحقّ؛ فكلّ ما هو موجود يدلّ عليه، و لا وجود لموجود سواه، و الطالب لبرهان على وجود ذات الحقّ، كمن يطلب برهاناً على وجود الماء مع وجود السمك. و قد سئل الشيخ جنيد البغداديّ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ؟!
فقال: أغْنَى الصَّبَاحُ عَنِ المِصْبَاحِ!
روز را نيست حاجتى به چراغ | *** | روز خود دارد از چراغ فراغ٣ |
وَ هَيْهَاتَ! لا حاجة للبصر إلى الاستدلال بالحاسّة اللامسة في إدراك الألوان (لا حاجة لأثر بعد عين). أ فِي اللهِ شَكٌّ؟٤
گر دو چشم حقّشناس آمد ترا | *** | دوست پُر بين عرصة هر دو سرا |
غرق دريائيم اگر چه قطرهايم | *** | جملگى شمسيم اگر چه ذرّهايم۱ |
فَسُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ لِذَاتِهِ خِفَاءٌ إلَّا الظُّهُورُ، وَ لَا لِوَجْهِهِ حِجَابٌ إلَّا النُّورُ.
حجاب روى تو هم روى تست در همه حال | *** | نهان ز چشم جهانى ز بس كه پيدائي٢ |
و قال أيضاً: يقول الخواجة عبد الله الأنصاريّ:
اللَهُمَّ تَلَطَّفْتَ بِأوْلِيَائِكَ فَعَرَفُوكَ؛ وَ لَوْ تَلَطَّفْتَ بِأعْدَائِكَ لَمَا جَحَدُوكَ!
و لأنّه لا مشاركة بين ذات الواجب و الممكن حتى تصبح وسيلة لمعرفته، فهو يقول:
ندارد ممكن از واجب نمونه | *** | چگونه دانيش آخر چگونه؟٣ |
فواجب الوجود مطلق لكنّ ذات الممكن عدم، و محال معرفة شيء دون أن يكون له مثال في النفس، و وجود الممكن إنّما هو مجرّد إضافة لا غير، و ذات الأشياء و صفاتها و أفعالها كلّها انعكاس للذات الإلهيّة و صفاتها و أفعالها و المتجلّية في مرايا التعيّنات، و كلّ مرآة تتجلّى بلون مختلف في اي مرآة أخرى، و إذا نظرت بعين العيان، فإنّ ما تتصوّره دليلًا هو عين المدلول، و أن يُعزى شيء إلى عين دليل نفسه هو فهو الجهل
بعينه، لأنّه يلزم أن يكون الدليل أجلى و أظهر من المدلول. و العارف الحقّ هو من فني وجوده الإضافيّ و المجازيّ في سطوة نور الوحدة الإلهيّة فناءً مطلقاً، و بقي ببقاء الحقّ، و رأى الحقّ بالحقّ و عرفه، إذ:
لَا يرى اللهَ إلَّا اللهُ، وَ لَا يَعْرِفُ اللهَ إلَّا اللهُ.
عارف آن باشد كه از عين العيان | *** | هر چه بيند حقّ در و بيند عيان |
حقّ چو جان و جمله عالم چون تن است | *** | همچو خور در كاينات اين روشن است۱ |
كلمات بعض العلماء الأعلام في العجز عن إدراك نهاية التوحيد
قال: لمّا لم يكن للممكن مثال و علامة و أثر من الواجب، فلا يمكن في الحقيقة إذاً معرفة الواجب بالممكن، ذلك أنّ معرفة الشيء تستلزم شيئاً مشتركاً بينهما و إلّا كانت معرفة ذلك الشيء بصفاته السلبيّة، و لن يكون هناك وجود لليقين الذي يوجب المعرفة التامّة. و من هذا يتبيّن أنّ علم أرباب الاستدلال ليس بالعلم الذي يقود إلى اليقين، وَ مِنْ هَذَا قَالَ أبُو على عِنْدَ وَفَاتِهِ:
يَمُوتُ وَ لَيْسَ لَهُ حَاصِلٌ | *** | سِوَى عِلْمِهِ أنَّهُ مَا عَلِمْ |
وَ في هَذَا قَالَ الإمَامُ الرَّازِيّ:
نِهَايَةُ إدْرَاكِ العُقُولِ عِقَالُ | *** | وَ غَايَةُ سَعْيِ العَالَمِينَ ضَلَالُ |
... ۱
العِلْمُ لِلرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ | *** | وَ سِوَاهُ في جَهَلَاتِهِ يَتَغَمْغَمُ |
مَا لِلتُّرَابِ وَ لِلْعُلُومِ و إنَّمَا | *** | يسعى لِيَعْلَمَ أنَّهُ لَا يَعْلَمُ |
نِهَايَةُ إقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ | *** | وَ غَايَةُ سَعْي العَالَمِينَ ضَلَالُ |
وَ لَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ سَعْيِنَا طُولَ عُمْرِنَا | *** | سِوَى أنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَ قَالُوا |
وَ أرْوَاحُنَا مَحْبُوسَةٌ في جُسُومِنَا | *** | وَ حَاصِلُ دُنْيَانَا أذى وَ وَبَالُ |
اسرار ازل را نه تو دانيّ و نه من | *** | وين خطّ معمّى نه تو خوانىّ و نه من |
هست از پس پرده گفتگوى من و تو | *** | چون پرده بر افتد نه تو مانيّ و نه من |
مى خوردن من نه از براى طرب است | *** | نز بهر نشاط و ترك دين و ادب است |
خواهم كه دمى ز خويشتن باز رهم | *** | مى خوردن و مست بودنم زين سبب است |
از جرم حضيض خاك تا اوج زحل | *** | كردم همه مشكلات گردون را حل |
بيرون جستم ز بند هر مكر و حيل | *** | هر بند گشاده شد مگر بند اجل |
تا بدانجا رسيد دانش من | *** | كه بدانم همى كه نادانم |
اسرار وجود خام و ناپخته بماند | *** | و آن گوهر بس شريف ناسفته بماند |
هر كس به دليل عقل چيزى گفتند | *** | و آن نكته كه اصل بود ناگفته بماند |
افسوس كه مرغ عمر را دانه نماند | *** | اميّد به هيچ خويش و بيگانه نماند |
دردا و دريغا كه در اين مدّت عمر | *** | از هر كه بگفتيم جز افسانه نماند |
دل گر چه در اين باديه بسيار شتافت | *** | يك موى ندانست ولى موى شكافت |
اندر دل من هزار خورشيد بتافت | *** | آخر به كمال ذرّهاى راه نيافت |
كس را به كمال و كنه ذاتت ره نيست | *** | بر فعل تو مىكنند ذات و قياس |
در معرفت چه نيك فكرى كردم | *** | معلومم شد كه هيچ معلوم نشد |
معشوق جمال مىنمايد شب و روز | *** | كو ديده كه تا برخورد از ديدارش |
اعْتِصَامُ الوَرَى بِمَعْرِفِتِك | *** | عَجَزَ الوَاصِفُونَ عَنْ صِفَتِك |
تُبْ عَلَينْا فَإنَّنَا بَشَرٌ | *** | مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِك |
در پرده اسرار كسى را ره نيست | *** | زين تعبيه جان هيچكس آگه نيست |
جز در دل خاك هيچ منزلگه نيست | *** | مى خور كه چنين فسانهها كوته نيست |
آنان كه محيط فضل و آداب شدند | *** | در جمع كمال شمع اصحاب شدند |
ره زين شب تاريك نبردند برون | *** | گفتند فسانهايّ و در خواب شدند |
از تن چو برفت جان پاك من و تو | *** | خشتى دو نهند بر مغاك من و تو |
و آنگاه براى خشت گور دگران | *** | در كالبدى كشند خاك من و تو |
مرحى بالجاهل الذي يبحث عن الشمس الساطعة ...
و لأنّ ظهور جميع الأشياء الموجودة إنّما يتمّ بنور وجود الواحد المطلق الحقّ، فهو يقول:
زهى نادان كه او خورشيد تابان | *** | به نور شمع جويد در بيابان۱ |
ذلك أنّ وجود الممكن هو شعاع من نور الشمس المضيئة لذات واجب الوجود، حيث يتجلى ذلك في صورة كلّ فرد من أفراد التعيّنات و ذلك بقدر القابليّات و الاستعدادات الفطريّة للمظاهر الممكنة، و يظهر في كلّ مكان بما يناسب نوعه و خصوصيّة شأنه، فجميع الأشياء تتّضح و تتبين بنوره تعالى. و مثل من يريد معرفة وجود الواجب بالممكن كمثل من يريد الاستدلال على وجود الشمس المضيئة في البريّة، حيث لا حجاب و لا ستار، بالشمعة، و على الأخصّ حين تستمدّ تلك الشمعة أيضاً نورها
من تلك الشمس.
همه عالم پر است ازين منظور | *** | همه آفاق را گرفت اين نور |
گنج در پيش چشم و ما مفلس | *** | يار در دستگاه و ما مهجور۱ |
إلى أن قال:
هر كس به ترانهاى در اين كوى | *** | دستان تو مىزند بهر روى |
انديشه به تو چه ماند آخر | *** | يا جز تو ترا كه داند آخر |
زنهار به حجّت قياسى | *** | غرّه نشوى به حقشناسى٢ |
ذلك أنّ نسبة الإثنينيّة إلى وجود الواجب و وجود الممكن أضحى سبباً لضلال العقل الفضوليّ، فهو يقول:
ز دور انديشى عقل فضولى | *** | يكى شد فلسفى ديگر حلولي٣ |
و معلوم أنّ طلب المطلوب الحاضر أمام الطالب يقيناً يوجب غياب ذلك المطلوب عن الطالب و ابتعاده عنه.
حقّ همى گويد مرا من با توام | *** | من بهر ره گِرد عالم مىدوم٤ |
إدراك التوحيد الحقيقيّ لا يتيسّر إلّا بالكشف و الشهود
إنّه لمن بعد نظر العقل الفضوليّ تصوّر وجود الأشياء بمعزل عن
وجود الحقّ، و الاعتقاد بوجودين جنباً إلى جنب أدّى إلى الاختلاف في الآراء، و استناداً إلى خصوصيّة الأقوال و ظروفها، فقد تسمّت كلّ طائفة باسمها الخاصّ؛ فالطائفة التي قالت بعلّيّة وجود الواجب و معلوليّة وجود الممكن دُعوا بالفلاسفة. و يأتي اشتقاق كلمة فلسفة من فيلا و سوف، و تعني كلمة فيلا مُحبّ، و سوف الحكمة؛ فيكون معنى الكلمة محبّ الحكمة.
و قالت جماعة أنّ الحقّ، بالذات و الصفات يحلّ في نشأة الإنسان الكامل، كما قال النصارى في قصّة عيسى عليه السلام و طائفة النصيريّة مع علي المرتضى عليه الصلاة و السلام و بعض جهلاء الصوفيّة الذين يدعون بالحلوليّة.
و الحقيقة أنّ السبب في اختلاف هذه المذاهب هو توهم الغيريّة في وجود الواجب و الممكن. و لا يتيسّر إدراك التوحيد الحقيقيّ إلّا بالكشف و الشهود، و نسبة العقل إلى المكشوفات كنسبة الحواسّ إلى المعقولات؛ فكما أنّ الحواسّ لا يمكنها إدراك المعقولات، فليس بإمكان العقل كذلك إدراك المكشوفات.
اى برتر از آنكه عقل گويد | *** | بالاتر از آنكه روح جويد |
اي آنكه وراى اين و آنى | *** | كيفيّت خويش را تو دانى |
كس واقف تو به هيچ رو نيست | *** | آنكس كه ترا شناخت او نيست۱ |
فمن أراد أن يكون عارفاً بالله بواسطة الأدلّة، لا جرم أنّه سيبتعد عن الحقّ أكثر فأكثر و يزداد في حيرته و يوغل في ضلاله، مهما ازدادت أدلّته و كثرت براهينه.
المولويّ:
ترك اين سَخته كماني۱ گو بگو | *** | در كمان نه تير و پرّيدن مجو |
چونكه حقّ است اقرب از حبل الوريد | *** | تو فكنده تير فكرت را بعيد |
علم تيراندازيت آمد حَجيب | *** | زانكه مطلوب تو بُد حاضر به جيب |
اي كمان تيرها برساخته | *** | صيد نزديك تو دور انداخته |
هر كه دور اندازتر او دورتر | *** | و ز چنين گنج است او مهجورتر٢ |
هر كه او دور است دور از روى تو | *** | كار نايد قوّت بازوى تو |
اي بسا علم و ذكاها و فطن | *** | گشته رهرو را چو غول راه زن۱ |
و لأنّ العقل عاجز عن إدراك نور الوحدة الحقيقيّة، قال:
خرد را نيست تاب نور آن روى | *** | برو از بهر او چشمى دگر جوى٢ |
ثلاثة
مقاطع من شعر الشيخ إبراهيم العراقيّ
و للشيخ العراقيّ: فخر الدين إبراهيم الهمدانيّ مضامين جميلة جدّاً فيما يخصّ هذا الموضوع في إحدى ترجيعاته المؤلّفة من أحد عشر بنداً، حيث نكتفي هنا لمراعاة الاختصار بذكر ثلاثة بنود منها:
يقول:
أ كُئُوسٌ تَلألأتْ بِمُدَامْ | *** | أمْ شُمُوسٌ تَهَلَّلَتْ بِغَمَامْ؟ |
از صفاى مى و لطافت جام | *** | در هم آميخت رنگ جام و مدام |
همه جام است و نيست گوئى مى | *** | يا مدام است و نيست گوئى جام٣ |
چون هوا رنگ آفتاب گرفت | *** | هر دو يكسان شدند نور و ظلام |
روز و شب با هم آشتى كردند | *** | كار عالم از آن گرفت نظام |
گر ندانى كه اين چه روز و شب است | *** | يا كدام است جام و باده كدام |
سريان حيات در عالم | *** | چون مى و جام فهم كن تو مدام |
انكشاف حجاب علم يقين | *** | چون شب و روز فرض كن و سلام |
ور نشد اين بيان ترا روشن | *** | جمله ز آغاز كار تا انجام |
جام گيتى نماى را به كف آر | *** | تا ببينى به چشم دوست مدام |
كه همه اوست هر چه هست يقين | *** | جان و جانان و دلبر و دل و دين۱ |
اى به تو روز و شب جهان روشن | *** | بى رخت چشم عاشقان روشن |
به حديث تو كام دل شيرين | *** | به جمال تو چشم جان روشن |
شد به نور جمالِ روشنِ تو | *** | عالم تيره ناگهان روشن |
آفتاب رخ جهانگيرت | *** | مىكند دمبدم جهان روشن |
ز ابتدا عالم از تو روشن شد | *** | كز يقين مىشود گمان روشن |
مىنمايد ز روى هر ذرّه | *** | آفتاب رخت عيان روشن |
كى توان كرد در خَم زلفت | *** | خويشتن را ز خود نهان روشن |
اي دل تيره، گر نگشت ترا | *** | سرّ توحيد اين بيان روشن۱ |
اندر آئينه جهان بنگر | *** | تا ببينى همان زمان روشن |
كه همه اوست هر چه هست يقين | *** | جان و جانان و دلبر و دل و دين۱ |
يا رب! آن لعل شكّرين چه خوشست | *** | يا رب! آن روى نازنين چه خوش است |
با لبش ذوق هم نفس چه نكوست | *** | با رخش حُسن هم قرين چه خوش است |
از خطِ عنبرين او خواندن | *** | سخن لعل شكّرين چه خوش است |
ور ز من باورت نميافتد | *** | بوسه زن بر لبش ببين چه خوش است |
مهر جانان به چشم جان بنگر | *** | در ميان گمان يقين چه خوش است٢ |
من ز خود گشته غائب، او حاضر | *** | عشق با يار همچنين چه خوش است |
آنكه اندر جهان نميگنجد | *** | در ميان دل حزين چه خوش است |
تا فشاند بر آستان درش | *** | عاشقى جان در آستين چه خوش است |
در جهان غير او نميبينم | *** | دلم امروز هم برين چه خوش است |
كه همه اوست هر چه هست يقين | *** | جان و جانان و دلبر و دل و دين۱ |
تائيّة ابن الفارض المصريّ في حال الفناء التامّ للسالك
و الأبيات التالية للعارف القدير: أبي حفص بن أبي الحسن بن المرشد الحمويّ المعروف بابن الفارض المصريّ، في هذا الخصوص، تنعش قلب كلّ قارئ و تبعث النشاط في روحه لما تحويه من حقائق عرفانيّة جليلة، حيث يقول:
وَ إسْرَاءُ سِرِّي عَنْ خُصُوصِ حَقِيقَةٍ | *** | إلَيّ كَسَيْرِي في عُمُومِ الشَّرِيعَةِ |
وَ لَمْ ألْهُ بِاللَّاهُوتِ عَنْ حُكْمِ مَظْهَرِي | *** | وَ لَمْ أنْسَ بِالنَّاسُوتِ مَظْهَرَ حِكْمَتِي |
فَعَنِّي على النَّفْسِ العُقُودُ تَحَكَّمَتْ | *** | وَ مِنِّي عَلَى الحِسِّ الحُدُودُ اقِيمَتِ۱ |
وَ قَدْ جَاءَنِي مِنِّي رَسُولٌ عَلَيْهِ مَا | *** | عَنِتُّ عَزِيزٌ بِي حَرِيصٌ لِرَأفَةِ٢ |
فَحُكْمِيَ مِنْ نَفْسِي عَلَيْهَا قَضيَّةٌ | *** | وَ لَمَّا تَوَلَّتْ أمْرَهَا مَا تَوَلَّتِ٣ |
وَ مِنْ عَهْدِ عَهْدِي قَبْلَ عَصْرِ عَنَاصِرِي | *** | إلى دَارِ بَعْثٍ قَبْلَ إنْذَارِ بَعْثَةِ٤ |
إلَيّ رَسُولًا كُنْتُ مِنِّي مُرْسَلًا | *** | وَ ذَاتِي بِآيَاتِي عليّ اسْتَدَلَّت |
وَ لَمَّا نَقَلْتُ النَّفْسَ مِنْ مِلْكِ أرْضِهَا | *** | بِحُكْمِ الشِّرَى مِنْهَا إلى مُلْكِ جَنَّةِ |
وَ قَدْ جَاهَدَتْ وَ اسْتَشْهَدَتْ في سَبِيلِهَا | *** | وَ فَازَتْ بِبُشْرَى بَيْعِهَا حِينَ أوْفَتِ |
سَمَتْ بِي لِجَمْعِي عَنْ خُلُودِ سَمَائِهَا | *** | وَ لَمْ أرْضَ إخْلَادِي لأرْضِ خَلِيفَتِي۱ |
وَ لَا فَلَكٌ إلَّا وَ مِنْ نُورِ بَاطِنِي | *** | بِهِ مَلَكٌ يُهْدِي الهدى بِمَشِيئَتِي۱ |
وَ لَا قُطْرَ إلَّا حَلَّ مِنْ فَيْضِ ظَاهِرِي | *** | بِهِ قَطْرَةٌ عَنْهَا السَّحَائِبُ سَحَّتِ |
وَ مِنْ مَطْلَعِي النُّورُ البَسِيطُ كَلَمْعَةٍ | *** | وَ مِنْ مَشْرَعِي البَحْرُ المُحِيطُ كَقَطْرَةِ٢ |
فَكُلِّي لِكُلِّي طَالِبٌ مُتَوَجِّهٌ | *** | وَ بَعْضِي لِبَعْضِي جَاذِبٌ بِالأعِنَّةِ۱ |
وَ مَنْ كَانَ فَوْقَ التَّحْتِ وَ الفَوْقُ تَحْتَهُ | *** | إلَي وَجْهِهِ الهَادِي عَنَتْ كُلُّ وِجْهَةِ٢ |
فَتَحْتُ الثَّرَى فَوْقَ الأثِيرِ لِرَتْقِ مَا | *** | فَتَقْتُ وَ فَتْقُ الرَّتْقِ ظَاهِرُ سُنَّتِي۱ |
وَ لَا شُبْهَةٌ وَ الجَمْعُ عَيْنُ تَيَقُّنٍ | *** | وَ لَا جِهَةٌ وَ الأيْنُ بَيْنَ تَشَتُّتِي٢ |
وَ لَا عِدَّةٌ وَ العَدُّ كَالحَدِّ قَاطِعٌ | *** | وَ لَا مُدَّةٌ وَ الحَدُّ شِرْكُ مُوَقِّتِ۱ |
وَ لَا نِدَّ في الدَّارَيْنِ يَقْضِي بِنَقْضِ مَا | *** | بَنَيْتُ وَ يَمْضِي أمْرُهُ حُكْمَ إمْرَتِي٢ |
وَ لَا ضِدَّ في الكَوْنَيْنِ وَ الخَلْقُ مَا تَرَى | *** | بِهِمْ لِلتَّسَاوِي مِنْ تَفَاوُتِ خِلْقَتِي٣ |
وَ مِنِّي بَدَا لي مَا عليّ لَبَسْتُهُ | *** | وَ عَنِّي البَوَادِي بِي إلي اعِيدَتِ۱ |
وَ في شَهِدْتُ السَّاجِدِينَ لِمَظْهَرِي | *** | فَحَقَّقْتُ أنِّي كُنْتُ آدَمَ سَجْدَتِي٢ |
وَ عايَنْتُ رُوحَانِيَّةَ الأرَضِينَ في | *** | مَلَائِكِ عِلِّيِّينَ أكْفَاءَ سَجْدَتِي٣ |
ثمرات توضيح ابن الفارض لكيفيّة رؤية الله و عرفان الإنسان الكامل
و عموماً، فإنّ هذه الأبيات هي خلاصة ما نظمه الشاعر و هو يخوض غمار السلوك إلى الله، و هو يشرح كذلك بعضاً من مقامات العارفين الفانين في ذات الله و الباقين ببقائه. و باختصار، يمكن القول أنّ كلّ ما كتبه يمكن أن يلخّص في بيت واحد له:
فَلَمْ تَهْوَنِي مَا لَمْ تَكُنْ في فَانِياً | *** | وَ لَمْ تَفْنَ مَا لَا تُجْتَلَي۱ فيكَ صورَتي٢ |
و من جملة الأدعية المقروءة في شهر رجب المرجّب (و الذي نحن فيه) دعاء رواه الشيخ الطوسي قدّس سرّه:
يَا مَنْ سَمَا في العِزِّ فَفَاتَ خَوَاطِرَ [نَوَاظِرَ- خ ل] الأبْصَارِ؛ وَ دَنَا في اللُطْفِ فَجَازَ هَوَاجِسَ الأفْكَارِ. يَا مَنْ تَوَحَّدَ بِالمُلْكِ فَلَا نِدَّ لَهُ في مَلَكُوتِ سُلْطَانِهِ، وَ تَفَرَّدَ بِالآلَاءِ وَ الكِبْرِيَاءِ فَلَا ضِدَّ لَهُ في جَبَرُوتِ شَأنِهِ.
يَا مَنْ حَارَتْ في كِبْرِيَاءِ هَيْبَتِهِ دَقَائِقُ لَطَائِفِ الأوْهَامِ، وَ انْحَسَرَتْ دُونَ إدْرَاكِ عَظَمَتِهِ خَطَائِفُ أبْصَارِ الأنَامِ.
يَا مَنْ عَنَتِ الوُجُوهُ لِهَيْبَتِهِ، وَ خَضَعَتِ الرِّقَابُ لِعَظَمَتِهِ، وَ وَجِلَتِ القُلُوبُ مِنْ خِيفَتِهِ.۱
يَقُولُونَ لي صِفْهَا فَأنْتَ بِوَصْفِهَا | *** | خَبِيرٌ أجَلْ عِنْدِي بِأوْصَافِهَا عِلْمُ |
صَفَاءٌ وَ لَا مَاءٌ وَ لُطْفٌ وَ لَا هَوا | *** | وَ نُورٌ وَ لَا نَارٌ وَ رُوحٌ وَ لَا جِسْمُ |
تَقَدَّمَ كُلَّ الكَائِنَاتِ حَدِيثُهَا | *** | قَدِيماً وَ لَا شَكْلٌ هُنَاكَ وَ لَا رَسْمُ |
وَ قَامَتْ بِهَا الأشْيَاءُ ثَمَّ لِحِكْمَةٍ | *** | بِهَا احْتَجَبَتْ عَنْ كُلِّ مَنْ لَا لَهُ فَهْمُ |
وَ هَامَتْ بِهَا رُوحِي بِحَيْثُ تَمَازَجَا اتِّ- | *** | - حَاداً وَ لَا جِرْمٌ تَخَلَّلَهُ جِرْمُ |
فَخَمْرٌ وَ لَا كَرْمٌ وَ آدَمُ لي أبٌ | *** | وَ كَرْمٌ وَ لَا خَمْرٌ وَ لِي امُّهَا امُ |
وَ لُطْفُ الأوَانِي في الحَقِيقَةِ تَابِعٌ | *** | لِلُطْفِ المَعَانِي وَ المَعَانِي بِهَا تَنْمُو |
إلى أن قال في آخره:
فَلَا عَيْشَ في الدُّنْيَا لِمَنْ عَاشَ صَاحِياً | *** | وَ مَنْ لَمْ يَمُتْ سُكْراً بِهَا فَاتَهُ الحَزْمُ |
عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَبْكِ مَنْ ضَاعَ عُمْرُهُ | *** | وَ لَيْسَ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَ لَا سَهْمُ۱ |
ألبَحْثَان التَّاسِعُ عَشَرَ وَ العِشْرُون: إنَّ مَنْطِقَ القُرْآنِ هُوَ جَعْلُ أيّ نَوْعٍ مِنَ الوُجُودِ وَ آثَارِ الوُجُودِ مُقْتَصِراً على اللهِو تفسير الآية المباركة
وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
(الآية ۸٤، من السورة ٤٣: الزخرف)
ينفي القرآن الكريم اي نوع من أنواع الذات و الأثر الوجوديّين من اي موجود بتمام أنحائه و أقسامه؛ و يحصر صفة الوجود الملازمة للوحدة و الوجوب و جميع الآثار و الأطوار الوجوديّة في الذات المقدّسة للباري تعالى شأنه العزيز و يجعلها مقتصرة عليه.
و تعني كلمة الإله المعبود و المألوه؛ اي الشيء الذي يُعبد و الذي تأله إليه أرواح الموجودات و تعشقه و تسلك الطريق المؤدّية إليه. بمعنى أنّه هو المعبود و المقصود من عالم الخلق كلّه الذي بدأه و يدعوه إليه، و على هذا يكون مرجعه و عوده إليه كذلك.
إن عالم الوجود لا يملك في ذاته مثقال ذرّة من الكينونة و الوجود المستقلّ، سواء في الذات أم في الصفات أو الأفعال. و لا يمكن للخلق أن يعني إيجاد الوجود و الاستقلال في العمل و الصفة و ذات الوجود؛ و إلّا
فسيكون معنى هذه الولادة، اي أن يُخرج الله شيئاً منه، لكنّنا نرى أنّ الآية الشريفة و ذلك لأنّنا نعلم أنّ: مفاد الآية و المراد من لَمْ يَلِدْ ليس بمعنى الولادة بالمعنى المتعارف لدينا، اي أن نفرض و العياذ بالله لله بطناً، و أنّ الموجودات تنمو و تترعرع في داخله ثمّ يدفع الله بها إلى الخارج؛ بل أنّ ما هو محقّق و ثابت و يمكن اعتباره برهاناً مسلّماً به أنّ هذه الألفاظ إنّما وُضعت للمعنى العامّ و لا تخصّ المصاديق الخارجيّة المتعارفة.
و على هذا، يكون معنى الآية لم يلد أن الله سبحانه لم يخلق الموجودات على نحو التولُّد و الإيلاد و الاستيلاد؛ بل أنّ الموجود الذي يريده و يشاء له أن يكون سيكون بمجرّد تحقّق إرادته و مشيئته القاهرة في الخارج، بحيث تكون معه في جميع مراحل الوجود من ذات الله و صفته و اسمه و فعله، و لا انفكاك و لا انفصام بينها و بين ذلك الموجود المخلوق من البداية و حتى النهاية. و لا يمكن أن يكون لهذا معنى و مفهوم غير معنى التجلّي و مفهوم الظهور.
و لا يمكن أن يكون خلق الأشياء- سواء أ كانت الأشياء الخارجيّة المادّيّة الطبيعيّة، أم الموجودات المثاليّة المشكّلة و المصوّرة بصور غير مادّيّة، أم الموجودات العقليّة، و فوق كلّ هذا الحجاب الأعظم و الأقرب نفسه، إلّا التجلّي و الظهور.
إن الله واحد و أحد قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. و في هذه الحال، تكون الأشياء و الخلائق من الملائكة المقرّبين و الأرواح الملكوتيّة و النفوس الإنسانيّة و الأجنّة و نفوس النباتات و الجماد، و بصورة كلّيّة كلّ عالم الخلق، يعني لظهور و التجلّي في القوالب المادّيّة و الروحانيّة المختلفة؛ فالعالم كلّه هو مرآة و آية. فإذا تجلّى سبحانه «و هو المبدأ الأوّل» فيها، فإنّه سينعكس من
خلالها كلًّا حسب سعته و قابليّته.
و على هذا، فإذا افترضنا وجود اي أثر في اي موجود من الموجودات منفصلًا عن وجود الحقّ تعالى و أثره و فعله و وصفه، فإنّنا بذلك سنعتبر الله الوالد، و ذلك الموجود مولوده و بنفس المقدار، في حين تنفي الآية الشريفة لم يلد ذلك تماما.
و قد قال الله سبحانه في الآيات الثلاث التي تسبق هذه الآية موضوعة البحث:
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ.
ثمّ يقول:
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.
و قال سبحانه بعد ذلك:
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.
ثمّ يقول تعالى بعد تلك الآية:
وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.
فكما لاحظنا في الآيات الشريفة المذكورة أنّها تعتبر أصل الوجود و الصفات و آثار الوجود سواء من الناحية التكوينيّة أم التشريعيّة مختصّة بالله جلّ و علا؛ و تعدّ عالم الكون و الوجود كلّه فيضاً لوجوده المقدّس.
و على هذا الأساس فإنّ أيّة فكرة أو فلسفة أو مذهب أو مدرسة تحمل في طيّاتها معنى يستشفّ منه اعتقاد يُشرك غير الله في الامور أو المسائل الإلهيّة فهو مرفوض؛ سواء في مذهب التثليث، أم مذهب الثنويّة،
أو جميع أنواع و أقسام الشرك في الخلقة و العبادة (الشرك في الذات و الصفات و الأفعال) و الطاعة و العبوديّة و التضرّع و الخضوع، فإنّ كلّ ذلك مرفوض و منبوذ، و هو مدان من منظار هذا الكتاب المُنزل، القرآن الكريم.
و في معرض ردّه على العقيدة المسيحيّة القائلة بوجود ثلاثة مبادئ قديمة أو اصول و هي الأقانيم الثلاثة، يقول القرآن الكريم في سورة المائدة بعد رفضه لمعتقدات اليهود و النصارى و عدم اتّباعهم تعاليم التوراة و الإنجيل و انقيادهم وراء الأهواء و الوساوس النفسانيّة:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ.۱
تفسير العلّامة الطباطبائيّ للآيات الواردة في نفي التثليث
قال سماحة آية الله العلّامة و استاذنا العزيز الطباطبائيّ تغمّده الله برضوانه و بحبوحة جنانه و رحمته في تفسير الآية الشريفة:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ:
و هذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانيّة و الانتساب إلى المسيح عليه السلام عن تعلّق الكفر بهم إذ أشركوا بالله و لم يؤمنوا به حقّ إيمانه حيث قالوا: أنّ الله هو المسيح ابن مريم.
و النصارى و إن اختلفوا في كيفيّة اشتمال المسيح ابن مريم على جوهرة الالوهيّة بين قائل باشتقاق اقنوم المسيح و هو العلم من اقنوم الربّ تعالى و هو الحياة، و ذلك الابوّة و البنوّة، و قائل بأنّه تعالى صار هو المسيح على نحو الانقلاب، و قائل بأنّه حلّ فيه كما تقدّم بيان ذلك تفصيلًا في الكلام على عيسى ابن مريم عليهما السلام في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.
لكنّ الأقوال الثلاثة جميعاً تقبل الانطباق على هذه الكلمة: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، فالظاهر أنّ المراد بالذين تفوّهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيح عليه السلام لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب.
و توصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم و هو نسبة الالوهيّة إلى إنسان ابن إنسان مخلوقين من تراب، وَ أيْنَ التُّرَابُ وَ رَبُّ الأرْبَابِ؟
و قال في تفسير الآية الشريفة: وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إلى آخر الآية:
احتجاج على كفرهم و بطلان قولهم بقول المسيح عليه السلام نفسه؛ فإنّ قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ، يدلّ على أنّه عبد مربوب مثلهم،
و قوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، يدلّ على أنّ من يجعل للّه شريكاً في الوهيّته فهو مشرك كافر مُحرّم عليه الجنّة.
و في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ، عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، و باختياره عليه السلام الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الإلهيّة و مصيرهم إلى الجنّة، و لا يمسّون ناراً كما تقدّم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصة عيسى عليه السلام، فقصّة التفدية و الصلب إنّما سيقت لهذا الغرض.
و ما تحكيه الآية من قوله عليه السلام موجود في متفرّقات الأبواب من الأناجيل كالأمر بالتوحيد۱، و إبطال عبادة المشرك٢ و الحكم بخلود الظالمين في النار.٣
و في تفسير الآية الشريفة لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، قال:
أي أحد الثلاثة: الأب و الابن و الروح، اي هو ينطبق على كلّ واحد من الثلاثة، و هذا لازم قولهم: أنّ الأب إله و الابن إله و الروح إله، و هو ثلاثة، و هو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: أنّ زيد بن عمرو إنسان، فهناك امور ثلاثة هي: زيد و ابن عمرو و الإنسان، و هناك أمر واحد و هو المنعوت بهذه النعوت، و قد غفلوا عن أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقيّة غير اعتباريّة أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، و أنّ المنعوت إن كان واحداً
حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العدديّة و الوحدة العدديّة في زيد المنعوت بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقّله، و لذا ربّما ذكر بعض الدعاة من النصارى أنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف التي لا تقبل الحلّ بحسب الموازين العلميّة، و لم يتنبّه أنّ عليه أن يطالب الدليل على كلّ دعوى يقرع سمعه سواء من دعاوى الأسلاف أم من دعاوى الأخلاف.
و في تفسير الآية وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ إلى آخر الآية، قال:
ردّ منه تعالى لقولهم إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، بأنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى في ذاته واحد، و إذا اتّصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، و لا الصفة إذا اضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة و تعدداً، فهو تعالى إحدى الذَّاتِ لا ينقسم لا في خارج و لا في و هم و لا في عقل.
فليس الله سبحانه بحيث يتجزّأ في ذاته إلى شيء و شيء قطّ، و لا أنّ ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شيء فيصير اثنين أو أكثر، كيف؟ و هو تعالى مع هذا الشيء الذي يراد إضافته إليه تعالى في و هم أو فرض أو خارج.
فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العدديّة التي لسائر الأشياء المتكوّن منها الكثرات، و لا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف؟ و هذه الوحدة العدديّة و الكثرة المتألّفة منها كلتاهما من آثار صنعه، و إيجاده فكيف يتّصف بما هو من صنعه؟
و في قوله تعالى وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفي و الاستثناء، ثمّ ادخل «مِنْ» على النفي لإفادة تأكيد الاستغراق، ثمّ جيء بالمستثنى و هو
قوله إلَهٌ وَاحِدٌ بالتنكير المفيد للتنويع و لو اورد معرفة كقولنا إلَّا الإلَهُ الوَاحِدُ، «إلَهٌ وَاحِدٌ» لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد.
فالمعنى: ليس في الوجود شيء من جنس الإله أصلًا إلّا إله واحد نوعاً من الوحدة لا يقبل التعدّد أصلًا لا تعدّد الذات و لا تعدّد الصفات، لا خارجاً و لا فرضاً، و لو قيل: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ، لم يدفع به قول النصارى إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، فإنّهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، و إنّما يقولون: إنه ذات واحدة لها تعين بصفاتها الثلث،.
و لا يندفع ما احتملوه من المعنى إلّا بإثبات وحدة لا تتألّف منه كثرة أصلًا، و هو الذي يتوخّاه القرآن الكريم بقوله وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ.
و هذا من لطائف المعاني التي يلوح إليها الكتاب الإلهيّ في حقيقة معنى التوحيد، و سنغور في البحث المستوفي عنه في بحث قرآنيّ خاصّ ثمّ في بحث عقليّ و آخر نقليّ إيفاء لحقّه.
و قال في تفسيره للآية الشريفة: وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: تهديد لهم بالعذاب الأليم الاخرويّ الذي هو ظاهر الآية الكريمة.
و لمّا كان القول بالتثليث الذي تتضمّنه كلمة إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ليس في وسع عقول عامّة الناس أن تتعقّله فأغلب النصارى يتلقّونه قولًا مذهبيّاً مسلّماً بلفظه من غير أن يعقلوا معناه، و لا أن يطمعوا في تعقّله كما ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلًا صحيحاً، و إنّما يتعقّل كتعقّل الفروض المحالة كالإنسان اللاإنسان، و العدد الذي ليس بواحد و لا كثير و لا زوج و لا فرد فلذلك تتسلّمه العامّة تسلّماً من غير بحث عن معناه، و إنّما يعتقدون في النبوّة و الابوّة شبه معنى التشريف، فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل
التثليث و إنّما يمضغون الكلمة مضغاً و ينتمون إليها انتماء بخلاف غير العامّة منهم، و هم الذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب و يقرّر أنّ ذلك ببغيهم، كما قال الله تعالى:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ- إلى أن قال وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.۱
فالكفر الحقيقيّ الذي لا ينتهي إلى استضعاف- و هو الذي فيه إنكار التوحيد و التكذيب بآيات الله- إنّما يتمّ في بعضهم دون كلّهم، و إنّما أوعد الله الذين كفروا و كذّبوا بآيات الله بالخلود بالنار، قال: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.٢ إلى غير ذلك من الآيات، و قد مرّ الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ.٣
و لعلّ هذا هو السرّ في التبعيض الظاهر من قوله: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ.
أو أنّ المراد به أنّ من النصارى من لا يقول بالتثليث، و لا يعتقد في المسيح إلّا أنّه عبد الله و رسوله كما كان على ذلك مسيحيّو الحبشة و غيرها
على ما ضبطه التأريخ، فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عمّا يقولون (نسبة قول الجماعة إلى جميعهم) ليمسّنّ الذين كفروا منهم- و هم القائلون بالتثليث منهم- عذاب أليم.
و في معرض تفسيره للآية الشريفة: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ:
ردّ لقولهم: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، أو لقولهم هذا و قولهم المحكيّ في الآية السابقة: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، جميعاً و محصّله اشتمال المسيح على جوهرة الالوهيّة بأنّ المسيح لا يفارق سائر رسل الله الذين توفّاهم الله من قبله كانوا بشراً مرسلين من غير أن يكونوا أرباباً من دون الله سبحانه.
و كذلك امّه مريم كانت صدّيقة تصدّق بآيات الله تعالى، و هي بشر، و قد كان هو و امّه جميعاً يأكلان الطعام و أكل الطعام مع ما يتعقّبه مبني على أساس الحاجة التي هو أوّل أمارة من أمارات الإمكان و المصنوعيّة.
فقد كان المسيح عليه السلام ممكناً متولّداً من ممكن و عبداً و رسولًا مخلوقاً من امّه، كانا يعبدان الله و يجريان في سبيل الحاجة و الافتقار من دون أن يكون ربّاً.
و ما بِيَدِ القوم من كتب الإنجيل معترفة بذلك تصرّح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله و تعبده و تصرّح بأنّ عيسى تولّد منها كالإنسان من الإنسان و تصرّح بأنّ عيسى كان رسولًا من الله إلى الناس كسائر الرسل، و تصرّح بأنّ عيسى و امّه مريم كانا يأكلان الطعام.
فهذه امور صرّحت بها الأناجيل و هي حجج على كونه عليه السلام عبداً رسولًا. و يمكن أن تكون الآية مسوقة لنفي الوهيّة المسيح و امّه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي
۱
معرفة الله ؛ ج٢ ؛ ص۱٦۱
إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ،۱ أنّه كان هناك من يقول لُالوهيّتها كالمسيح أو أنّ المراد به اتّخاذها إلهاً، كما يُنسب إلى أهل الكتاب أنّهم اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله و ذلك بالخضوع لها و لهم بما لا يُخضع لبشر بمثله.
و كيف كان فالآية على هذا التقدير تنفي عن المسيح و امّه معاً الالوهيّة بأنّ المسيح كان رسولًا كسائر الرسل و امّه كانت صدّيقة و هما معاً كانا يأكلان الطعام و ذلك كلّه ينافي الالوهيّة.
و في قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، حيث وصف الرسل بالخلوّ من قبله و هو الموت تأكيد للحجّة لكونه بشراً يجوز عليه الموت و الحياة كما جاز على الرسل من قبله.
و قال في تفسيره للآية الشريفة: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ:
الخطاب للنبيّ صلى الله عليه و آله و هو في مقام التعجيب، اي التعجّب من كيفيّة بياننا لهم الآيات و هو أوضح بيان لأظهر آية في بطلان دعواهم الوهيّة المسيح و كيفيّة صرفهم عن تعقّل هذه الآيات، فإلى اي غاية يُصرفون عنها و لا تلفت إلى نتيجتها- و هي بطلان دعواهم- عقولهم؟
و قال في تفسيره للآية الشريفة: قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ:
كان الخضوع لأمر الربوبيّة إنّما انتشر بين البشر في أقدم عهوده و خاصّة بين العامّة منهم- و عامّتهم كانوا يعبدون الأصنام- طمعاً في أن يدفع الربّ عنهم الشرّ و يوصل إليهم النفع كما يتحصّل من الأبحاث
التأريخيّة، و أمّا عبادة الله لأنّه الله عزّ اسمه فلم يكن يعدو الخواصّ منهم كالأنبياء و الربّانيّين من اممهم.
فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجاري على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيّين و عبّاد الأصنام بذلك فيذكّرهم أنّ الذي يضطرّ الإنسان بعبادة الربّ هو أنّه يرى أزمّة الخير و الشرّ و النفع و الضرّ بيده، فيعبده لأنّه يملك الضرّ و النفع طمعاً في أن يدفع عنه الضرّ و يوصل إليه الخير لعبادته له.
و كلّ ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئاً من ضرّ و لا نفع لأنّه مملوك للّه محضاً مسلوب عنه القدرة في نفسه، فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة و إشراكه مع ربّه الذي هو المالك له و لغيره؟ و قد كان من الواجب أن يُخصّ هو تعالى بالعبادة و لا يُتعدّى عنه إلى غيره، لأنّه هو الذي يختصّ به السمع و الإجابة فيسمع و يجيب المضطرّ إذا دعاه و هو الذي يعلم حوائج عباده و لا يغفل عنها و لا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنّه إنّما يملك ما ملّكه الله و يقوى على ما قوّاه الله سبحانه. فقد تبيّن بهذا البيان:
أوّلًا: أنّ الحجّة التي تشتمل عليها هذه الآية غير الحجّة التي تشتمل عليها الآية السابقة، و إن توقّفتا معاً على مقدّمة مشتركة و هي كون المسيح و امّه ممكنين محتاجين، فالآية السابقة حجّتها أنّ المسيح و امّه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين للّه سبحانه، و من كان حاله هذا الحال لم يصحّ له أن يكون إلهاً معبوداً.
و حجّة هذه الآية: أن المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرا و لا نفعا، و من كان حاله هذا الحال لم تستقم الوهيته و عبادته من دون الله.
و ثانياً: أنّ الحجّة مأخوذة ممّا يدركه الفهم البسيط و العقل الساذج من
جهة غرض الإنسان البسيط في عبادته، فإنّه إنّما يتّخذ ربّاً و يعبده ليدفع عنه الضرّ و يجلب إليه النفع، و هذا إنّما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلّق بعبادة غير الله، فمن الواجب أن يرفض عبادته.
و ثالثاً: أنّ قوله: ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً، إنّما اخذت فيه لفظة «مَا» دون لفظة «مَنْ» مع أنّ المسيح من اولي العقل، لأنّ الحجّة بعينها هي التي تقام على الوثنيّين و عبدة الأصنام التي لا شعور لها، و لا دخل في كون المسيح عليه السلام من اولي العقل في تمام الحجّة، فهي تامّة في كلّ معبود مفروض دون الله سبحانه.
على أنّ غيره تعالى- و إن كان من اولي العقل و الشعور- لا يملكون شيئا من العقل و الشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شئون وجودهم؛ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ.۱
و كذلك تقديم الضرّ على النفع في قوله؛ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً للجري على وفق ما تدركه و تدعو إليه الفطرة الساذجة كما مرّ، فإنّ الإنسان بحسب الطبع يرى ما تلبّس من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها و لا تتصوّر ألمه عند فقدها بخلاف المضارّ التي يجدها بالفعل، و النعم التي يفتقدها و يجد ألم فقدها.
فإنّ الفطرة تنبّهها إلى الالتجاء إلى ربّ يدفع عنها الضرّ و الضير،
و يجلب إليها النعمة المسلوبة، كما قال تعالى: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ۱ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. و قال تعالى: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ.٢
فتحصّل أنّ مسّ الضرّ أبعث للإنسان إلى الخضوع للربّ و عبادته من وجدان النفع، و لذلك قدّم الله سبحانه الضرّ على النفع في قوله: ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً. و كذا في سائر الموارد التي تماثله كقوله: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً.٣
و رابعاً: أنّ مجموع الآية: أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى آخرها حجّة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه و هي مُنْحِلَة إلى حجّتين ملخّصهما: أنّ اتّخاذ الإله و عبادة الربّ إنّما هو لغرض دفع الضرّ و جلب النفع، فيجب أن يكون الإله المعبود مالكاً لذلك، و لا يجوز عبادة من لا يملك شيئاً، و الله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره؛ فوجب عبادته من غير إشراك غيره.
و في تفسيره الآية الشريفة: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ يقول:
خطاب آخر للنبيّ صلى الله عليه و آله بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلو في دينهم، و أهل الكتاب و خاصّة النصارى مبتلون بذلك. و الغالي المتجاوز عن الحدّ بالإفراط، و يقابله القالي في طرف التفريط.
و دين الله الذي يفسّره كتبه المنزلة يأمر بالتوحيد و نفي الشريك و ينهى عن اتّخاذ الشركاء للّه سبحانه، و قد ابتُلي بذلك أهل الكتاب عامّة اليهود و النصارى، و إن كان أمر النصارى في ذلك أشنع و أفظع، قال تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.۱
و القول بأنّ عزيراً ابن الله و إن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكنّ الآية تشهد بأنّهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول.
و الظاهر أنّ ذلك كان لقباً تشريفيّاً يلقّبونه به قبال ما خدمهم و أحسن إليهم في إرجاعهم إلى اورْشَلِيم (بيت المقدس) بعد إسارة بابل، و جمع لهم التوراة ثانياً بعد ضياعه في قصّة بخت نصّر، و قد كانوا يعدّون بنوّة الله لقباً تشريفيّاً، كما يتّخذ النصارى اليوم الابوّة كذلك و يسمّون البابوات و البطارقة و القسّيسين بالآباء (الباب و البابا: الأب) و قد قال تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ.٢
بل الآية الثانية أعني قوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ،۱ تدلّ على ذلك، حيث اقتصر فيها على ذكر المسيح عليه السلام، و لم يذكر عزيراً، فدلّ على دخوله في عموم قوله: أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ، و أنّهم إنّما كانوا يسمّونه ابن الله كما يسمّون أحبارهم أبناء الله، و قد خصّوه بالذكر وحده شكراً لإحسانه إليهم كما تقدّمت الإشارة إليه.
و بالجملة، وضعهم بعض أنبيائهم و أحبارهم و رهبانهم موضع الربوبيّة و خضوعهم لهم بما لا يُخضع بمثله إلّا للّه سبحانه غلوّ منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان نبيّه صلى الله عليه و آله.
و تقييد الغلوّ في الدين بغير الحقّ- و لا يكون الغلوّ إلّا كذلك- إنّما هو للتأكيد و تذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلّا يذهل عنه السامع و قد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل.
و إطلاق الأب على الله سبحانه بتحصيل معناه و تجريده عن وسمة نواقص المادّة الجسمانيّة، اي من بيده الإيجاد و التربية، و كذلك الابن بمعناه المجرّد التحليليّ و إن لم يمنعه العقل لكنّه ممنوع شرعاً لتوقيفيّة أسماء الله سبحانه لما في التوسّع في إطلاق الأسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، و كفى مفسدة في إطلاق الأب و الابن ما لقيته الامّتان: اليهود و النصارى، و خاصّة النصارى، من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية و لن يزال الأمر على ذلك.٢
«الميزان»: كلام في معنى التوحيد في القرآن
و لسماحة الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه بحث شيّق في معنى التوحيد في القرآن الكريم في أحديّة الحقّ تعالى المطلقة. و ما أروع
من أن ننقل هنا ذلك البحث بحذافيره، و ذلك لاحتوائه مضامين جدّ واسعة و حكم و براهين استدلاليّة و فلسفيّة تستند في مجموعها إلى اي القرآن الكريم:
كلام في معنى التوحيد في القرآن
لا يرتاب الباحث المتعمّق في المعارف الكلّيّة أنّ مسألة التوحيد من أبعدها غوراً، و أصعبها تصوّراً و إدراكاً، و أعضلها حلًّا لارتفاع كعبها عن المسائل العامّة العامّيّة التي تتناولها الأفهام، و القضايا المتداولة التي تألفها النفوس و تعرفها القلوب.
و ما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه و التصديق به للتنوّع الفكريّ الذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسميّة و أداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها، ثمّ تأثير ذلك في الفهم و التعقّل من حيث الحدّة و البلادة، و الجودة و الرداءة، و الاستقامة و الانحراف.
فهذا كلّه ممّا لا شكّ فيه، و قد قرّر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.۱
و قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.٢
و قوله تعالى: فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.٣
و قوله تعالى: و هي من جملة الآيات التي نحن فيها: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.۱
و من أظهر المصاديق هذا الاختلاف الفهميّ، اختلاف أفهام الناس في تلقّي معنى توحّده تعالى، لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم و الاضطراب الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتّفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانيّة بإلهامها الخفي و إشارتها الدقيقة.
فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتّخذة، و الأصنام المصنوعة من الخشب و الحجارة حتى من نحو الإقط و الطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء للّه، و قرناء له، يُعبد كما تعبد هؤلاء، و يُسأل كما تسأل هؤلاء، و يخضع له كما يخضع لها، و لم يلبث هذا الإنسان دون أن غلّب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، و أقبل عليها و تركه، و أمّرها على حوائجه و عزله.
فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، و لذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كلّ واحد من أصنامهم، و هي الوحدة العدديّة التي تتألّف منها الأعداد، قال تعالى: وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ.٢
فهؤلاء كانوا يتلقّون الدعوة القرآنيّة إلى التوحيد، دعوة إلى القول بالوحدة العدديّة التي تقابل الكثرة العدديّة، كقوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ،۱ و قوله تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛٢ و غير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة، و توجيه الوجه للّه الواحد.
و قوله تعالى: وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ،٣ و غيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرّق في العبادة للإله، حيث كانت كلّ امّة أو طائفة أو قبيلة تتّخذ إلهاً تختصّ به، و لا تخضع لإله الآخرين.
بيان سماحة العلّامة في شرح الوحدة العدديّة و كيفيّتها
العلّامة: القرآن يصرّح بأنّ وحدة الحقّ تعالى هي وحدة بالصرافة
و القرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العدديّة عن الإله جلّ ذكره، فإنّ هذه الوحدة لا تتمّ إلّا بتميّز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدوديّة التي تقهره، و المقدّريّة التي تغلبه.
مثال ذلك ماء الحوض إذا فرقناه في أواني كثيرة، كان ماء كلّ إناء ماء واحداً غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، و إنّما صار ماء واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه، و لو لا ذلك لم يأت للإنسانيّة الصادقة على هذا و ذاك أن تكون واحدة بالعدد و لا كثيرة بالعدد.
فمحدوديّة الوجود هي التي تقهر الواحد العدديّ على أن يكون واحداً، ثمّ بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألّف كثرة عدديّة كما عند عروض صفة الاجتماع بوجه.
و إذا كان الله سبحانه قاهراً غير مقهور، و غالباً لا يغلبه شيء البتة، كما يعطيه التعليم القرآنيّ، لم تُتصوّر في حقّه وحدة عدديّة و لا كثرة عدديّة.
قال تعالى: وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.۱
و قال: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ.٢
و قال: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.٣
و قال: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.٤
و الآيات بسياقها- كما ترى- تنفي كلّ وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عدديّة كالفرد الواحد من النوع الذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا إثنين فإنّ هذا الفرد مقهور بالحدّ الذي يحدّه به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله.
أم كانت وحدة نوعيّة أم جنسيّة أم اي وحدة مضافة إلى كثرة من سنخها، كالإنسان الذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه و من الفرس و البقر و الغنم و غيرها.
فإنّه مقهور بالحدّ الذي يحدّه به ما يناظره من الأنواع الاخر، و إذ كان تعالى لا يقهره شيء في شيء البتة من ذاته و لا صفته و لا فعله و هو القاهر
فوق كلّ شيء، فليس بمحدود في شيء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حقّ لا يعرضه بطلان، و هو الحيّ لا يخالطه موت، و العليم لا يدبّ إليه جهل، و القادر لا يغلبه عجز، و المالك و الملك من غير أن يُملك منه شيء، و العزيز الذي لا ذُلّ له و هكذا.
فله تعالى من كلّ كمالٍ محضه، و إن شئت زيادة تفهّم و تفقّه لهذه الحقيقة القرآنيّة فافرض أمراً متناهياً و آخر غير متناه، تجد غير المتناهي محيطاً بالمتناهي بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض اي دفع فرضته، بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شيء من أركان كماله، و غير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به.
ثمّ انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.۱
و هذا هو الذي يدلّ عليه عامّة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر؛ كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.٢
و قوله: وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.٣
و قوله: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.٤
و قوله: وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ.۱
و قوله: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.٢
و قوله: لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ.٣
و قوله: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.٤
و قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.٥
و قوله: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ.٦ إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات- كما ترى- تنادي بأعلى صوتها أنّ كلّ كمال مفروض فهو للّه سبحانه بالأصالة، و ليس لغيره شيء إلّا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عمّا يملكه و يملّكه، كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عمّا ملّكناه غيرنا.
فكلّما فرضنا شيئاً من الأشياء ذا شيء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانياً له و شريكاً عاد ما بيده من معنى الكمال للّه سبحانه محضاً؛ و هو الحق الذي يملك كل شيء و غيره الباطل الذي لا يملك لنفسه شيئا.
قال تعالى: وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً.۷
.
و هذا المعنى هو الذي ينفي عنه تعالى الوحدة العدديّة، إذ لو كان واحداً عدديّاً، اي موجوداً محدوداً منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات، صحّ للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقّق في الخارج أم غير جائز التحقّق، و صحّ عند العقل أن يتّصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه و إن فرض امتناعه في الواقع، و ليس كذلك.
فهو تعالى واحد، بمعنى أنّه من الوجود بحيث لا يحدّ بحدّ حتى يمكن فرض ثاني له فيما وراء ذلك الحدّ، و هذا معنى قوله:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.۱ فإنّ لفظ أحد إنّما يُستعمل استعمالًا يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال: مَا جَاءَنِي أحَدٌ، و ينفي به أن يكون قد جاء الواحد، و كذا الأثنان و الأكثر.
و قال تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [فَأَجِرْهُ].٢
فشمل الواحد و الاثنين و الجماعة و لم يخرج عن حكمه عدد.
و قال تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ.٣
فشمل الواحد و ما وراءه و لم يشذ منه شاذ.
فاستعمال لفظ أحد في قوله: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. في الإثبات من غير نفي
و لا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أنّ هويّته تعالى بحيث يدفع فرض مَن يماثله في هويّته بوجه، سواء كان واحداً أم كثيراً، فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.
و لذلك وصفه تعالى بأنّه صَمَد و هو المُصْمَت الذي لا جوف له و لا مكان خالياً فيه، و ثانياً بأنّه لَمْ يَلِدْ، و ثالثاً بأنّه لَمْ يُولَد، و رابعاً بأنّه لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
و تستلزم كلّ هذه الأوصاف نوعاً من المحدوديّة و الانعزال. و هذا هو السرّ في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حقّ الوقوع و الاتّصاف.
قال تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.۱
و قال تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً.٢
فإنّ المعاني الكماليّة التي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة و جلّت ساحته سبحانه عن الحدّ و القيد، و هو الذي يرومه النبيّ صلى الله عليه و آله في كلمته المشهورة:
لَا احْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ! أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ!
و هذا المعنى من الوحدة هو الذي يدفع به تثليث النصارى، فإنّهم موحّدون في عين التثليث، لكنّ الذي يذعنون به من الوحدة وحدة عدديّة لا تنفي الكثرة من جهة أخرى، فهم يقولون: أنّ أقانيم (الأب، الابن، الروح) (الذات، العلم، الحياة) ثلاثة، و هي واحدة كالإنسان الحيّ العالم، فهو شيء واحد لأنّه إنسان حيّ عالم، و هو ثلاثة، لأنّه إنسان و حياة و علم.
لكنّ التعليم القرآنيّ ينفي ذلك، لأنّه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض اي كثرة و تمايز، لا في الذات و لا في الصفات، و كلّ ما فُرض من شيء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحدّ، فذاته تعالى عين صفاته و كلّ صفة مفرضة له عين الاخرى؛ تعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.۱ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ.٢
و لذلك ترى أنّ الآيات التي تنعته تعالى بالقهّاريّة تبدأ أوّلًا بنعت الوحدة ثمّ تصفه بالقهّاريّة، لتدلّ على أنّ وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانياً مماثلًا بوجه، فضلًا عن أن يظهر في الوجود، و ينال الواقعيّة و الثبوت.
قال تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ.٣
فوصفه بوحدة قاهرة لكلّ شريك مفروض لا تبقي لغيره تعالى من كلّ معبود مفروض إلّا الاسم فقط.
و قال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.٤
قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.٥
إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلي مالكاً مفروضاً غيره دون أن يجعله نفسه و ما يملكه ملكاً للّه سبحانه.
و قال تعالى: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.۱
و قال تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.٢
فرتّب القهّاريّة في جميع الآيات على صفة الوحدة.٣
و قد بيّن سماحة استاذنا العلّامة قدّس الله سرّه سواء في التفسير أم في الحكمة القواعد الخاصّة للوجود الصرف للذات المقدّسة للحقّ تعالى، و برهن اسسها على أكمل وجه.
و قد عرضتُ عليه أنا الحقير، بأنّني أنوي تأليف بحث في التوحيد باسم «يكناشناسى٤» في سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة. فلم يردّ بشيء، و لكنّه كان واضحاً أنّه لم يُسرّ لذلك.
و بعد ذلك خطر في ذهني أنّ السبب في ذلك قد يعود إلى استخدامي كلمة (يكتا) التي تشير إلى مفهوم الوحدة العدديّة، هذا في الوقت الذي سعى فيه العلّامة دوماً إلى إثبات مفهوم الوحدة الحقّة و الحقيقيّة للّه و التي أطلق عليها الوحدة الصِّرفة، و ما أكثر ما ألّف من البحوث القيّمة حول ذلك!
لهذا، طرأ على بالي أن اسمّيه «يگانهشناسى». ذلك أنّ كلمة (يگانه) تعطي في الحقيقة معنى «أحد» و هي أقرب إليه من غيرها.
و أخيراً توصّلتُ إلى أنّه من الأفضل تسمية الكتاب المذكور ب- «معرفة الله»، و ذلك لأنّ لفظ الجلالة (الله) اشتمل على جميع امور الباري عزّ اسمه، و بحثَ شئونه، سواء من حيث الوحدة الحقّة الحقيقيّة أم الأسماء و الصفات أم الظهور و الأفعال؛ ف- «الله» اسم جامع للساحة الأحديّة بما في ذلك جهات الوحدة و الآثار و الكثرات.
و عليه استقرّ الرأي بمشيئة الله على هذا الاسم و تمّ تحرير مواضيعه بالاستناد إلى هذه الامور و سيستمرّ ذلك إن شاء الله تعالى.
بحث تاريخيّ لسماحة العلّامة في الاعتقاد بالصانع و توحيده
و قد أورد سماحة الاستاذ قدّس الله سرّه في تفسيره بحثاً تحت عنوان «بحث تاريخيّ» فيما يلي نصّه:
القول بأنّ للعالم صانعاً ثمّ القول بأنّه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتى أنّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك، إذا أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنيّة على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده؛ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.۱ و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.
و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتاً و صفة- على ما تقدّم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز- غير أنّ الفة الإنسان و انسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، و بلاء الملّيّين بالوثنيّين و الثنويّين و غيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر سجّل عدديّة الوحدة و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.
و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديمة و اليونان و الإسكندريّة و غيرهم ممّن بعدهم يعطي الوحدة العدديّة حتى صرّح بها مثل الرئيس أبي عليّ ابن سينا في كتاب «الشفاء»، و على هذا المجرى يجري كلام غيره، ممّن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبويّة.
و أمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضاً، في عين أنّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة؛ فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.
فالذي بيّنه القرآن الكريم من معنى التوحيد أوّل خطوة خُطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنّ أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثمّ الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثراً من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلاليّ.
و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلّا ما ورد في كلام الإمام على بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصّة.
فإنّ كلامه هو الفاتح لبابها و الرافع لسترها و حجابها على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميّين بعد الألف الهجريّ، و قد صرّحوا بأنّهم إنّما استفادوه من كلامه عليه السلام.
و هذا هو السرّ في اختصارنا في البحث الروائيّ السابق على نقل نماذج من غرر كلامه عليه السلام الرائق، لأنّ السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الاحتجاج البرهانيّ لا يوجد في كلام غيره عليه السلام.
و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفيّ مستقلّ لهذه المسألة، فإنّ البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلّفة من هذه المقدّمات المبيّنة في كلامه، لا تزيد على ما في كلامه بشيء، و الجميع مبنيّة على صرافة الوجود
و أحديّة الذات جلّت عظمته. انتهى كلام الاستاذ العلّامة.۱
و للفيلسوف المسلم الملّا صدر الدين الشيرازيّ بحث تحت عنوان: في أنَّ وَاجِبَ الوُجُودِ تَمَامُ الأشْيَاءِ كُلُّ المَوْجُودَاتِ، وَ إليه تَرْجِعُ الامُورُ كُلُّهَا.
يقول فيه: هذا من الغوامض الإلهيّة التي يُستصعب إدراكه إلّا على من آتاه الله من لدنه علماً و حكمة، لكنّ البرهان قائم على أنّ كلّ: بَسِيطُ الحَقِيقَةِ كُلُّ الأشْيَاءِ الوُجُودِيَّةِ، إلّا ما يتعلّق بالنقائص و الأعدام. و الواجب تعالى بسيط الحقيقة، واحد من جميع الوجوه، فهو كلّ الوجود كما أنّ كلّه الوجود.٢
و قد أثبت سماحة الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه هذه المسألة و برهن قواعدها، و تعتبر من المسائل البديهيّة و الاصوليّة المبرهنة في علم الفلسفة و التوحيد عند تلامذته.
و على أساس هذه القاعدة فقد نزّه الذات المقدّسة لساحة الواجب عزّ شأنه من الوحدة العدديّة و وصفه بالوحدة الحقّة الحقيقيّة التي تمثّل الوجود الصرف و وحدته الصرفة، و بهذه الطريقة ردّ على شبهة ابن كمّونة.
شرح العلّامة قدّس سرّه لحقيقة معنى الوحدة بالصرافة
و قد بيّن معنى الوحدة الصرفة بما يلي:
المراد من الشيء المتّصف بالوحدة هو ذلك الشيء الذي يكون على نحو من البساطة و المحوضة و الصرافة، و يشتمل على جميع معانيها و مفاهيمها و مصاديق محتوياتها، بحيث لو نظرنا إلى اي معنى من معاني ذلك الشيء و مصاديقه، لوجدنا أنّه لا يخرج عنه، بل هو في داخله، و يمكن القول بأنّه: هُوَ هُو، خلافاً للشيء المتّصف بالوحدة العدديّة الذي يمكن تصوّر نظير و شبيه و مثيل له في خارجه.
فمثلا، أنّ حقيقة معنى الإنسان و مفهومه، و هي النفس الناطقة، تحمل معنى الصرافة، لأنّ كلّ ما يمكن أن نتصوّره من هذا المفهوم و المعنى و الماهيّة يشير في ذاته إلى معنى الإنسانيّة المفروضة، و لا يوجد شيء خارجه. أنّ ما يمكننا فهمه من معنى الحيوان الناطق، و الشيء العاقل المتحرِّك بالإرادة، و الشيء المتعجِّب الباكي، و باختصار حقيقة الأفراد كما في زيد و عمرو، عند ما نتصوّر كلًّا منهم بادئ ذي بدء بصورة إنسان، فسوف نرى أنّه تصوّر شامل و مستوعب و بسيط و هو ليس بخارج عن ذلك، فأمّا وحدة زيد فهي وحدة عدديّة. لأنّه يمكن افتراض عمرو و خالد مقابل ذلك سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن.
صِرفُ الوجود الذي لا أتمّ منه، كلّما فرضتَه ثانياً فإذا نظرت إليه فإذاً هو هو
إن للوجود صرافة، و ذلك لأنّ كلّ معنى من معانيه و مصداق من مصاديقه سواء كان شديداً أم ضعيفاً، كبيراً أم صغيراً، مجرّداً أم غير مجرّد متعيّناً أم غير متعيّن، ملكوتيّاً أم مُلكيّاً، عقليّاً أم نفسيّاً أم طبيعيّاً، كلّ ذلك يدخل في معنى صرف الوجود. و لأنّنا أخذنا بنظر
الاعتبار الوجود بِمَا هُوَ وُجُودٌ، فقد راعينا جميع تلك الملاحظات، و ذلك بإسقاط الحدود الماهويّة.
و هذا هو معنى كلام مؤسّس «حكمة الإشراق» من أنّ:
صِرْفُ الوُجُودِ الذي لَا أتَمَّ مِنْهُ، كُلَّمَا فَرَضْتَهُ ثَانِياً فَإذَا نَظَرْتَ إليه فَإذاً هُوَ هُوَ.
و على هذا الأساس كان سماحة الاستاذ يقول ب- «تشخّص الوجود». و هذه المسألة أدقّ و أعمق و ألطف و أعلى من مسائل وحدة الوجود، في باب توحيد الحقّ تعالى.
كانت هذه مقتطفات من البحوث و الدروس الشفهيّة للُاستاذ و التي كنّا نستفيد منها. جزاه الله عن الحقّ خير الجزاء.
و أمّا ما كتبه في تعليقة بحث الملّا صدرا هنا لإثبات بحثه و نظريّته فهو:
و ملخّص البرهان هو أنّ اي هويّة صحيحة يُسلب شيء منها، فإنّ القضيّة المستحصلة من ذلك هي الإيجاب و السلب. و كلّ ما كان على هذه الشاكلة، لا بدّ أن يكون مركّباً من الإيجاب (ثبوته لنفسه) و السلب (نفي غيره عنه).
و ينتج عن هذا الأمر أنّ أيّة هويّة يُسلب شيء منها، هي هويّة مركّبة. و العكس العكس اي: أنّ جميع الذوات البسيطة الحقيقة لا يُسلب منها شيء.
و إن شئت فقل: بَسِيطُ الحَقِيقَةِ كُلُّ الأشْيَاءِ.
و لا يجب أن نغفل بالطبع، من أنّ هذه القضيّة الحمليّة (أي حمل الأشياء على بسيط الحقيقة) هي من قبيل حمل الشائع الصناعيّ. لأنّ الأمر في مسألة حمل الشائع (كقولنا: زيد إنسان، و زيد قائم) محمول يُحمل على
موضوعه بوجهيه الإيجابيّ و السلبيّ و المتركّبة ذاته منهما معاً.
و إذا حُمل شيء من الأشياء على بسيط الحقيقة من جهة كونه مركّباً، ففي هذه الصورة يصدق عليه ذلك حتى من جهته السلبيّة. و على هذا، سيكون مركّباً في حين أنّنا قد فرضناه بسيط الحقيقة، و هَذَا خُلْفٌ.
و لذا، فعلى المحمول على صرف الوجود أن يمثّل الجهات الوجوديّة للأشياء و حسب، و إن شئت فقل: إنّه مشتمل على جميع الكمالات، أو إنّه مهيمن على جميع الكمالات. و على هذا المنوال يكون حمل المشوب على الصرف، و المحدود على المطلق.۱
و للحكيم المتألّه الحاجّ الملّا هادي السبزواريّ أعلى الله درجته كذلك تعليقة مفصّلة هنا لإثبات هذا المرام، و من جملة ما قال: لعلّ كلام الشيخ العطّار في «منطق الطير» يشير إلى هذا الأمر:
هم ز جمله پيش هم پيش از همه | *** | جمله از خود ديده و خويش از همه٢ |
صرف الوجود ينفي كلّ غيريّة سواه
و أورد السيّد المحقّق الداماد أعلى الله مقامه في «التقديسات» ما يلي:
وَ هُوَ كُلُّ الوُجُودِ، وَ كُلُّهُ الوُجُودُ، وَ كُلُّ البَهَاءِ وَ الكَمَالِ، وَ كُلُّهُ البَهَاءُ وَ الكَمَالُ. وَ مَا سِوَاهُ عَلَى الإطْلَاقِ لَمَعَاتُ نُورِهِ، وَ رَشَحَاتُ وُجُودِهِ، وَ ظِلَالُ ذَاتِهِ.
وَ إذْ كُلُّ هُوِيَّةٍ مِنْ نُورِ هُوِيَّتِهِ فَهُوَ الهُوَ الحَقُّ المُطْلَقُ، وَ لَا هُوَ عَلَى
الإطْلَاقِ إلَّا هُوَ۱.
نعم، و على هذا الأساس، يقول محيي الدين بن عربي: سُبْحانَ الذي أظْهَرَ الأشْيَاءَ وَ هُوَ عَيْنُهَا.
و أنشد الشيخ إبراهيم العراقيّ الهمدانيّ يقول:
غيرتش غير در جهان نگذاشت | *** | لاجرم عين جمله اشيا شد٢ |
و البيت المذكور هو من جملة أبيات البند الثالث من إحدى ترجيعاته المشتملة على أحد عشر بنداً، و جميع البنود المذكورة هي على النحو التالي:
آفتاب رخ تو پيدا شد | *** | عالم اندر تَفَش هويدا شد |
وام كرد از جمال تو نظرى | *** | حسن رويت بديد و شيدا شد |
عاريت بستد از لبت شكرى | *** | ذوق آن چون بيافت گويا شد٣ |
شبنمى بر زمين چكيد سحر | *** | روى خورشيد ديد و در وا شد |
بر هوا شد بخارى از دريا | *** | باز چون جمع گشت دريا شد |
غيرتش غير در جهان نگذاشت | *** | لاجرم عين جمله اشيا شد |
نسبت اقتدار و فعل به ما | *** | هم از آن روى بود كو ما شد |
جام گيتى نماى او مائيم | *** | كه به ما هر چه بود پيدا شد |
تا به اكنون مرا نبود خبر | *** | بر من امروز آشكارا شد |
كه همه اوست هر چه هست يقين | *** | جان و جانان و دلبر و دل و دين۱ |
البَحْثُ الحَادي وَ العِشْرُونَ إلى الرَّابعِ وَ العِشْروُن: إنَّ مَعْنَى تَشَخُّصِ الوُجُودِ: لَا هُوَ إلَّا هو و تفسير الآيتين المباركتين
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ (على لسان النبيّ يوسف على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام مخاطباً صاحبَيه في السجن):
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً (بلا مسمّى و لا أصالة و لا واقعيّة) سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
(الآيتان ٣٩ و ٤۰، من السورة ۱٢: يوسف).
تفسير العلّامة لآية: أَ أرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
قال سماحة استاذنا العلّامة برّد الله مضجعه في تفسير هاتين الآيتين ما يلي:
قوله تعالى: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. لفظة خَيْرٌ بحسب الوزن صفة من قولهم: خَارَ يَخِيرُ خِيَرَةً: إذَا انْتَخبَ وَ اخْتَارَ أحَدَ شَيْئَيْنِ يَتَردَّدُ بَينَهُمَا، مِنْ حَيْثُ الفِعْلِ أوْ مِنْ حَيْثُ الأخْذِ بِوَجْهٍ.
فالخير منهما هو الذي يفضل على الآخر في صفة المطلوبيّة فيتعيّن
الأخذ به. فخَيْرُ الفِعْلَيْنِ هو المطلوب منهما الذي يتعيّن القيام به، و خَيْرُ الشَّيْئَينِ هو المطلوب منهما من جهة الأخذ به كخَيْرِ المَالَيْنِ من جهة التمتّع به و خَيْرِ الدَّارَيْنِ من جهة سكناهما و خَيْرِ الإنْسَانَيْنِ من جهة مصاحبته، و خَيْرِ الرَّأيَيْنِ من جهة الأخذ به، و خَيْرِ الإلَهَيْنِ من جهة عبادته.
و من هنا ذكر أهل الأدب أن الخير في الأصل «أخْيَر» أفعل تفضيل، و الحقيقة أنّه صفة مشبّهة تفيد بحسب المادّة ما يفيده أفعل التفضيل من الفضل في القياس.
... ۱
نِعْمَ الكِرَامُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ | *** | رَهْطُ امْرِئٍ خَارَهُ لِلدِّينِ مُخْتَارُ |
فَلَو كَانَ حَرِّيّ بْنُ ضَمْرَةَ فيَكُمُو | *** | لَقَالَ لَكُمْ لَسْتُمْ على المُتَخيَّرِ |
و بما مرّ يتبيّن أن قوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ- إلى آخره، مسوق لبيان الحجّة على تعيينه تعالى للعبادة إذا فُرض تردّد الأمر بينه و بين سائر الأرباب التي تُدعى من دون الله، لا لبيان أنّه تعالى هو الحقّ الموجود دون غيره من الأرباب، أو أنّه تعالى هو الإله الذي تنتهي إليه الأشياء بدءاً و عوداً دونها، أو غير ذلك.
فإنّ الشيء إنّما يسمّى خيراً من جهة طلبه و تعيينه بالأخذ به بنحو، فقوله: أهو خير أم سائر الأرباب، يريد به السؤال عن تعيّن أحد الطرفين من جهة الأخذ به، و الأخذ بالربّ هو عبادته.
ثمّ إنّه سمّى آلهتهم أرباباً متفرّقين، لأنّهم كانوا يعبدون الملائكة و هم عندهم صفات الله سبحانه أو تعيّنات ذاته المقدّسة التي تستند إليها
جهات الخير و السعادة في العالم، فيفرّقون بين الصفات بتنظيمها طولًا و عرضاً و يعبدون كلًّا بما يخصّه من الشأن، فهناك إله العلم و إله القدرة و إله السماء، و إله الأرض و إله الحُسن و إله الحبّ و إله الأمن و الخصب و غير ذلك، و يعبدون الجنّ و هم مبادئ الشرّ في العالم، كالموت و الفناء و الفقر و القبح و الألم و الغمّ و غير ذلك، و يعبدون أفراداً، كالكمّلين من الأولياء و غيرهم، و الجبابرة من السلاطين و الملوك، و هم جميعاً متفرّقون من حيث أعيانهم و من حيث أصنامهم و التماثيل المتّخذة لهم المنصوبة للتوجّه بها إليهم.
و قابل الأرباب المتفرّقين بذكر الله عزّ اسمه و وصفه بالواحد القهّار، حيث قال: أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله: أ أرباب متفرّقون، لضرورة التقابل بين طرفي التردّد.
فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدّسة الإلهيّة التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه، و وجود لا يتطرّق الفناء و العدم إليه.
و الوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يُفرض له حدّ محدود و لا أمد ممدود، لأنّ كلّ محدود فهو معدوم وراء حدّه، و الممدود باطل بعد أمده، فهو تعالى ذات غير محدود، و وجود غير متناه بحدّ، و إذا كان كذلك لم يمكن أن يُفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدوداً غير موجود في ظرف الصفة و فاقراً لا يجد الصفة في ذاته و لم يمكن أيضاً فرض المغايرة و البينونة بين صفاته الذاتيّة، كالحياة و العلم و القدرة، لأنّ ذلك يؤدّي إلى وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حدّ في خارجه، فيتغاير الذات و الصفات و يتكثّر جميعاً و يُحدّ.
و هذا كلّه ممّا اعترفت به الوثنيّة على ما بأيدينا من معارفهم.
فممّا لا يتطرّق إليه الشكّ عند المثبتين لوجود الإله سبحانه لو تفطّنوا أنّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودٌ في نَفْسِهِ ثَابِتٌ بِذَاتِهِ لَا مَوْجُودٌ بِهَذَا النَّعْتِ غَيْرُهُ، و أنّ ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه، و لا بعض صفات كماله صفات زائدة على بعض.
فهو علم و قدرة و حياة بعينه.
فهو تعالى إحدى الذات و الصفات اي أنّه واحد في وجوده بذاته، ليس قباله شيء إلّا موجوداً به لا مستقلًّا بالوجود، و واحد في صفاته، اي ليس هناك صفة له حقيقيّة إلّا أن تكون عين الذات فهو الذي يقهر كل شيء لا يقهره شيء.
و الإشارة إلى هذا كلّه هي التي دعته أن يصف الله سبحانه بالواحد القهّار، حيث قال: أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، اي أنّه تعالى واحد لكن لا واحد عدديّ إذا اضيف إليه آخر صار اثنين، بل واحد لا يمكن أن يُفرض قباله ذات إلّا و هي موجودة به لا بنفسها، و لا أن يُفرض قباله صفة له إلّا و هي عينه و إلّا صارت باطلة، كلّ ذلك لأنّه بحتٌ غير محدود بحدّ و لا منته إلى نهاية.
و قد تمّت الحجّة على الخصم منه في هذا السؤال بما وصف الأرباب بكونهم متفرّقين و إيّاه تعالى بالواحد القهّار، لأنّ كون ذاته المتعالية واحداً قهّاراً يبطل التفرقة- اي تفرقة مفروضة- بين الذات و الصفات، فالذات عين الصفات و الصفات بعضها عين بعض، فمن عبد الذات عبد الذات و الصفات، و من عبد علمه فقد عبد ذاته، و إن عبد علمه و لم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه و لا ذاته، و على هذا القياس.
فإذا فُرض تردّد العبادة بين أرباب متفرّقين و بين الله الواحد القهّار
تعالى و تقدّس تعيّنت عبادته دونهم، إذ لا يمكن فرض أرباب متفرّقين و لا تفرقة في العبادة.
نعم، يبقى هناك شيء و هو الذي يعتمد عليه عامّة الوثنيّة من أن الله سبحانه أجلّ و أرفع ذاتاً من أن تحيط به عقولنا أو تناله أفهامنا، فلا يمكننا التوجّه إليه بعبادته، و لا يسعنا التقرب منه بعبوديّته و الخضوع له.
و الذي يسعنا هو أن نتقرّب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة التي هي مؤثّرات في تدبير النظام العالميّ، حتى يقرّبونا منه و يشفعوا لنا عنده، فأشار عليه السلام في الشطر الثاني من كلامه، أعني قوله: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إلى دفعه.
تفسير العلّامة لآية: إن الحكْمُ إلَّا لِلَّهِ أمَرَ ألَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ
و عقّب على الآية: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ:
بدأ بخطاب صاحبيه في السجن أوّلًا ثمّ عمّم الخطاب للجميع، لأنّ الحكم مشترك بينهما و بين غيرهما من عبدة الأوثان.
و نفي العبادة إلّا عن الأسماء، كناية عن أنّه لا مسمّيات وراء هذه الأسماء، فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء، و إله الأرض، و إله البحر، و إله البرّ، و الأب، و الامّ، و ابن الإله، و نظائر ذلك.
و قد أكّد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسمّيات بقوله: أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ، فإنّه في معنى الحصر، اي لم يضع هذه الأسامي أحد غيركم، بل أنتم و آباؤكم وضعتموها، ثمّ أكّده ثانياً بقوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.
و السلطان هو البرهان لتسلّطه على العقول، اي ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدلّ على أنّ لها مسمّيات وراءها، و حينئذٍ كان يثبت لها الالوهيّة، اي المعبوديّة، فصحّت عبادتكم لها.
و من الجائز أن يكون ضمير (بها) عائداً إلى العبادة، اي ما أنزل الله حجّة على عبادتها بأن يثبت لها شفاعة و استقلالًا في التأثير حتى تصحّ
عبادتها و التوجّه إليها، فإنّ الأمر إلى الله على كلّ حال. و إليه أشار بقوله بعده: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.
و هو أعني قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، ممّا لا ريب فيه البتة، إذ الحكم في أمر ما لا يستقيم إلّا ممّن يملك تمام التصرّف، و لا مالك للتصرّف و التدبير في امور العالم و تربية العباد حقيقة إلّا للّه سبحانه، فلا حكم بحقيقة المعنى إلّا له.
و هو أعني قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، مفيد فيما قبله و ما بعده صالح لتعليلهما معاً؛ أمّا فائدته في قوله قبل: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، فقد ظهرت آنفاً؛ و أمّا فائدته في قوله بعد: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، فلأنّه متضمّن لجانب إثبات الحكم، كما أنّ قوله قبل: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، متضمّن لجانب السلب.
و حكمه تعالى نافذ في الجانبين معاً، فكأنّه لمّا قيل: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، قيل: فما ذا حكم به في أمر العبادة؟ فقيل: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ و لذلك جيء بالفعل.
و معنى الآية و الله أعلم: ما تعبدون من دون الله إلّا أسماء خالية عن المسمّيات لم يضعها إلّا أنتم و آباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهاناً يدلّ على أنّ لها شفاعة عند الله أو شيئاً من الاستقلال في التأثير حتى يصحّ لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرّها.
و أما قوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله و نفي الشريك عنه، و القيّم هو القائم بالأمر القويّ على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل و المتضعضع، و المعنى أنّ دين التوحيد وحده هو القويّ على إدارة المجتمع و سَوْقِه إلى منزل
السعادة، و الدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غير غيّ، و الحقّيّة من غير بطلان، و لكنّ أكثر الناس لُانسهم بالحسّ و المحسوس و انهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب و استقامة العقل، لا يعلمون ذلك، و إنّما يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة معرضون.
أمّا أنّ التوحيد دين فيه الرشد و مطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما أقامه عليه السلام من البرهان.
و أمّا أنّه هو القويّ على إرادة المجتمع الإنسانيّ، فلأنّ هذا النوع إنما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته و أحكام معاشه على مبنى حقّ مطابق للواقع فسار عليها، لا إذا بناها على مبنى باطل خرافيّ لا يعتمد على أصل ثابت.
فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ الآيتين جميعاً، أعني قوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ إلى قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، برهان واحد على توحيد العبادة.
محصله أنّ عبادة المعبود إن كانت لُالوهيّته في نفسه و وجوب وجوده بذاته، فالله سبحانه في وجوده واحد قهّار لا يُتصوّر له ثانٍ و لا مع تأثيره مؤثّر آخر، فلا معنى لتعدّد الآلهة.
و إن كانت لكون آلهة غير الله شركاء له شفعاء عنده، فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه، بل الدليل على خلافه، فإنّ الله حكم من طريق العقل و بلسان أنبيائه أن لا يُعبد إلّا هو.
ردّ «الميزان» على تفسيرَي «الكشّاف» و «البيضاويّ»
و بذلك يظهر فساد ما أورده البيضاويّ في تفسيره تبعاً لـ «الكشّاف» أنّ الآيتين تتضمّنان دليلين على التوحيد، فما في الاولى و هو قوله: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، دليل خطابيّ و ما في الثانية، و هو قوله: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها- إلى آخره، برهان
تامّ.
قال البيضاويّ: و هذا من التدرّج في الدعوة و إلزام الحجّة بيّن لهم أوّلًا رجحان التوحيد على اتّخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أنّ ما يسمّونها آلهة و يعبدونها لا تستحقّ الإلهيّة، فإنّ استحقاق العبادة إمّا بالذات و إمّا بالغير، و كلا القسمين منتفٍ عنهما، ثمّ نصّ على ما هو الحقّ القويم و الدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره و لا يرتضي العلم دونه- انتهي.
و لعلّ الذي حداه إلى ذلك ما في الآية الاولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابيّ و قد فاته ما فيها من قيد الْواحِدُ الْقَهَّارُ و قد عرفت تقرير ما تتضمّنه الآيتان من البرهان و أنّ الذي ذكره من معنى الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون الثانية فحسب.
و ربّما يقرّر مدلول الآيتين برهانين على التوحيد بوجه آخر، ملخّصه أنّ الله الواحد الذي يقهر بقدرته الأسباب المتفرّقة التي تفعل بالكون و يسوقها على تلائم آثارها المتفرّقة المتنوّعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الأطراف، كما هو المشهود من وحدة النظام و توافق الأسباب خير من أرباب متفرّقين تترشّح منها لتفرّقها و مضادّتها أنظمة مختلفة و تدابير متضادّة تؤدّي إلى انفصام وحدة النظام الكونيّ و فساد التدبير الواحد العموميّ.
ثمّ الآلهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل على وجود مسمّياتها في الخارج بتسميتكم، لا من جانب العقل و لا من جانب النقل، لأنّ العقل لا يدلّ إلّا على التوحيد، و الأنبياء لم يؤمروا من جهة الوحي إلّا بأن لا يُعبد إلّا الله وحده- انتهى.
و هذا التقرير- كما ترى- ينزل الآية الاولى على معنى قوله تعالى:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا۱، و يعمّم الآية الثانية على نفي الوهيّة آلهة إلّا الله بذاتها، و نفي الوهيّتها من جهة إذن الله في شفاعتها.
و يرد عليه:
أوّلًا: أنّ فيه تقييداً لاطلاق قوله: القهّار، من غير مُقيّد، فإنّ الله سبحانه كما يقهر الأسباب في تأثيرها، يقهر كلّ شيء في ذاته و صفته و آثاره، فلا ثاني له في وجوده، و لا ثاني له في استقلاله في نفسه و في تأثيره، فلا يتأتّى مع وحدته القاهرة على الإطلاق أن يُفرض شيء يستقلّ عنه في وجوده، و لا أمر يستقلّ عنه في أمره.
و الإله الذي يُفرض دونه إمّا مستقلّ عنه في ذاته و آثار ذاته جميعاً، و إمّا مستقلّ عنه في آثار ذاته فحسب، و كلام الأمرين محال، كما ظهر.
و ثانياً: أنّ فيه تعميماً لخصوص الآية الثانية من غير معمّم، فإنّ الآية كما عرفت تنيط كونها آلهة بإذن الله و حكمه، كما ظاهر قوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ- إلى آخره.
و من الواضح أنّ هذه الالوهيّة المنوطة بإذنه تعالى و حكمه الوهيّة شفاعة لا الوهيّة ذاتيّة، اي الوهيّة بالغير، لا ما هو أعمّ من الالوهيّة بالذات و بالغير جميعاً.٢
نعم، فإنّ مسألة التوحيد في الوجود في وقتنا الحاضر أضحت من المسائل الشرعيّة المتقنة، و الفلسفيّة المحكمة، و المسلّم بها بالمشاهدة القلبيّة. و تدور معظم بحوث القرآن حول هذا المحور. و قد قال الحقير يوماً لسماحة الاستاذ العلّامة قدّس الله سرّه: يبدو أنّ أغلب آيات القرآن
قد ركّزت بحثها في موضوع وحدة وجود ساحة الحقّ تعالى و مسألة توحيده!
فقال: ليس أغلبها؛ بل جميع آيات القرآن تستند على هذا الأساس؛ أنّ قوام القرآن هو أصالة الحقّ و الوجود و التوحيد و كلّ الامور تهتدي بهذا المبدأ.
و لكن بالطبع فإنّ تصوّر هذه الحقيقة أمر صعب؛ و ما لم نكن متبحّرين في علم التفسير و الحكمة و علم العرفان الروحيّ، كما هو الحال مع استاذنا الفقيد سماحة العلّامة أرواحنا فداه، فلن نستطيع الاهتداء إلى سرّ ذلك. و سنطوي صفحات العمر مع التخيّلات و أوهام النفس، و نقضي أيّامنا مقطوعي العلائق مع الله الواحد القهّار، القاهر في وحدته، و الذي أفنت أحديّته كلّ الذوات فيه، فأضحى أحديّ الذات، و نَقبُرُ مسرّات القلب و الروح و النفس الناطقة في غيابة أجداث الجهالة بيد تراب العدم.
و كانت المواضيع المهمّة لمحيي الدين بن عربي في كيفيّة وحدة الذات المقدّسة للحقّ تعالى شأنه على درجة من التعمّق بحيث غدا علاء الدولة السمنانيّ عاجزاً عن إدراكها؛ و بعد أن قارنها مع حاله (أفكاره)، و ألصق به مختلف التهم كالحلول و الاتحاد، حتى اتّهمه في النهاية بالظلم و أمره بالتوبة.
أصبحت صبغة التوحيد في الوجود بصورة برهان بظهور محيي الدين
و قد أوردنا في كتاب «الروح المجرّد» في ذكرى الموحّد العظيم و العارف الكبير الحاج السيّد هاشم الموسويّ الحدّاد أفاض الله علينا من تربته، نبذة مختصرة من اعتراض علاء الدولة على محيي الدين و جواب الاعتراض،۱ و رأينا من المناسب أن ندخل هذا البحث بشيء من الإطناب:
يقول جناب الفاضل نجيب مايل الهَرَويّ حول علاقة علاء الدولة بابن عربي:
اكتست مسألة وحدة الوجود- و هي من أهمّ عقائد جمهور الصوفيّة- بصبغة متميّزة؛ و ذلك مع ظهور ابن عربي (المتوفّى سنة ٦٣۸ ه-) في القرن السابع الهجريّ بشكل غدت معه المحور الرئيسيّ لآرائه. و قد سعى جاهداً في إرساء اسسها، حتى أنّه قام بوضع مصطلحات جديدة في هذا المجال، إلى درجة اعتبر كلامه في باب تجلّي الصانع في المصنوع رمزاً و استعارة، و وقف الكثيرين أمامه عاجزين عن فهمه، فعمدوا إلى التفتيش عن ثغرات في كلامه لإلصاق تهمة الحلول و الاتّحاد به، و السعي إلى تكفيره.
فكان علاء الدولة السمنانيّ أحد هؤلاء الذين وقفوا بوجه ابن عربي بشدّة و عنف، بل و قيل إنّه كفّره شفهيّاً و تحريريّاً.۱ و قد وسّع مفهوم اصطلاح «وحدة الشهود» في مقابل فكرة وحدة الوجود لابن عربي و أسهب.
و جدير بالذكر أنّه بسبب ما كان لابن عربي من شغف و ولع بمسألة حبّ الله فقد أضفى جاذبيّة على مسألة وحدة الأديان كذلك و التي كانت من المواضيع المهمّة لدى الصوفيّة قبل ذلك. و سعى إلى إماطة الستار الصوريّ عن الوحي؛ و تأمّل كنهه و سبر غوره و بحث عن القاسم المشترك للمضامين الباطنيّة لجميع الأديان، في حين ركّز علاء الدولة جهوده، من
خلال مواهبه في السير و السلوك و المعاملات الصوفيّة، على أن يكون مرشداً لأصحابه و مريديه في تكفير أصحاب المذاهب و الفرق الأخرى و التشنيع بهم و التنديد بآرائهم.
و الواقع أنّ علاء الدولة ظلّ حتى أواخر حياته و بسبب مقتضيات عصره، يتعامل مع الوحي في صورته الظاهريّة، و لا شكّ أنّ هذه الحالة كانت السبب في عدم قدرته على الوصول إلى كنه حقيقة كلام ابن عربي؛ ممّا حدا به إلى أن يستنبط من كلام الوحدة الوجوديّة لابن عربي معنى الاتّحاد و الحلول. و لهذا السبب أقدم على التنديد به، و خصّص الفصل الرابع من كتاب «العروة» في الردّ عليه. و كان يمنع أتباعه من الخوض في كلام ابن عربي في المجالس التي كان يقيمها، في حين أنّه:
أوّلًا: أنّ فكرة وحدة الشهود المقابلة لوحدة الوجود، و التي سعى علاء الدولة إلى أن يُضفي عليها رونقاً و بهاءً؛ إنّما هي في الواقع ترادف التوحيد الإلهيّ عن طريق الكشف و الشهود العرفانيّينِ. و لا يمكن لهذا المعنى بحال من الأحوال أن ينافي وحدة الوجود أو يناقضها.
ثانياً: هناك فارق بين الوحدة، و الاتّحاد و الحلول،۱ في حين أنّ علاء الدولة و بدل أن يحمل كلام ابن عربي على محمل وحدة الوجود، فقد حمله على محمل الاتّحاد و الحلول في كتابه «العروة».
ثالثاً: و كما قال جامي: لقد غفل عن حقيقة أنّ الوجود قائم على ثلاثة اعتبارات: أوّلها الوجود بشرط الشيء، و هو الوجود المقيّد، و ثانيها الوجود بشرط لا شيء، و هو الوجود العامّ، و ثالثها الوجود لا بشرط
٢
معرفة الله ؛ ج٢ ؛ ص٢۰۱
شيء، و هو الوجود المطلق. و أنّ ما بحثه ابن عربي من الوجود المطلق إنّما كان ذلك على أساس الشرط الثالث، في حين حمل علاء الدولة كلام ابن عربي على أنّه محمول على الوجود العامّ، و لهذا بالغ في ردّ ذلك و استنكاره له.۱
رسالة عبد الرزّاق الكاشيّ إلى علاء الدولة السمنانيّ في وحدة الوجود
يقول الفاضل مائل الهرويّ، بعد أن أورد شرحاً عن لسان علاء الدولة يُشيد فيه بابن عربي و آخر تظهر فيه الازدواجيّة عند علاء الدولة حول ابن عربي بوضوح: بينما كانت المناظرات و المكاتبات التي جرت بين كمال الدين عبد الرزّاق الكاشيّ و علاء الدولة حول هذا الموضوع تتّسم بتهجّم علاء الدولة بشدّة على ابن عربي، حتى أنّه نُقل عن الأسفراينيّ قوله أنّ علاء الدولة اعتبر مطالعة مؤلفات ابن عربي مكروهة و محرّمة.
و لمّا كانت رسالة عبد الرزّاق الكاشيّ و جواب علاء الدولة عليها ترتبطان مباشرة بكتاب «العروة»؛ و هما في الواقع نقدٌ على «العروة» و على نقد «العروة»، فإنّنا سنكتفي بهذا القدر من المقدِّمة و ذلك بنقل الرسالتين.
و قد ذكر الهرويّ نصّ كلتا الرسالتين، اي رسالة عبد الرزّاق و جواب علاء الدولة عليها. و لمّا كانت جميع مسائل الرسالة تدور حول مواضيع عرفانيّة و حكميّة و ما تحويه من روايات، و أنّه يمكن استنتاج الكثير من المواضيع من خلال نمط و اسلوب تفكير علاء الدولة من خلال جوابه على الرسالة، لذا فسيكون بعيداً عن الإنصاف أن لا نذكر النصّ الكامل للرسالة و الجواب و نحرم أهل التحقيق و التدقيق و الباحثين من أرباب التوحيد
و العرفان للواحد الأحد عزّ شأنه و تعالت عظمته من الاستفادة من ذلك:
رسالة عبد الرزّاق إلى علاء الدولة
دامت تأييدات و توفيقات و أنوار التوحيد و التحقيق من لَدُنِ الواحد الأحد، إلى الظاهر الأبهر و الباطن الأنور مولانا الأعظم شيخ الإسلام، حافظ أوضاع الشريعة، و قدوة أرباب الطريقة، مقيم سرادقات الجلال، و مقوّم أستار الجمال، علاء الحقّ و الدين، و غوث الإسلام و المسلمين؛ و تعالت درجات ترقّيه في مدارج تَخَلَّقُوا بِأخْلَاقِ اللهِ.
بعد تقديم خالص الدعاء، أقول: أنّ هذا الفقير لم يكن ليذكر استاذه دون تعظيم تامّ؛ لكنّي، و حين مطالعتي لكتاب «العروة» فقد عثرتُ على بعض البحوث التي لم تنسجم مع عقيدتي. و بعد ذلك، فقد كان الأمير إقبال يقول في الطريق: أنّ حضرة الشيخ علاء الدولة لا يتّفق مع محيي الدين بن عربي في طريقة معالجته لموضوع التوحيد.
فقال أحدهم: نعم، أنّ جميع من رأيتهم و سمعتهم من المشايخ كانوا على هذا الرأي. و ما وجدته في «العروة» لم يكن على هذه الطريقة. فبالغوا في حثّي على الكتابة في هذا الباب!
فقال الداعي: ربّما لا يلقى ذلك استحسانه، بل قد يثيره.
و قد قالوا إنّه بمجرّد وصول هذا الكلام إليه فإنّه سيثير غضبه، و قد يصل الأمر به إلى أن يشنّع بذلك و يخطّئه إلى درجة التكفير. و قد يراني بعين درويش غريب، لم يكن لي كلام معه من قبل! فكونوا على يقين أنّ ما كتبتُه إنّما كان نتيجة تحقيق لا نتيجة هوى نفسيّ؛ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ!۱
لا يخفى أنّ كلّ ما لا يستند إلى الكتاب و السنّة النبويّة، لا قيمة له لدى هذه الطائفة؛ لأنّ أفرادها يسلكون طريق المتابعة و تؤيّد هذا المعنى آيتان:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.۱
و الناس على ثلاث مراتب:
الاولى: مرتبة النفس؛ و هذه الطائفة هم أهل الدنيا و أتباع الحواسّ، و أصحاب الحجاب، و منكرو الحقّ. لأنّهم يجهلون الحقّ و صفاته، و يقولون إنّما القرآن كلام محمّد، و أنّ الله تعالى أمره قائلًا:
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.٢
و لو أنّ أحدهم آمن لفاز؛ و نجا من الجحيم.
الثانية: مرتبة القلب؛ و أهل هذا المقام قد تجاوزوا هذه المرتبة و أضحت عقولهم صافية، و وصلوا إلى حيث يمكنهم الاستدلال بآيات الحقّ و التدبّر فيها باعتبارها أفعال و تصرّفات إلهيّة في مظاهر الآفاق و الأنفس، و توصّلوا إلى معرفة صفات الحقّ و أسمائه؛ لأنّ الأفعال، هي آثار الصفات، و الصفات و الأسماء هي مصادر الأفعال.
فهم يرون علم الحقّ و قدرته و حكمته بعين العقل الصافية من كلّ شائبة من شوائب الهوى، و يعثرون على سمع الحقّ و بصره و كلامه في ذات
النفس الإنسانيّة و آفاق هذا العالم و يعترفون بالقرآن و حقيقته؛ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
و أهل هذه الطائفة هم أصحاب البرهان، و يستحيل إيجاد خطأ في استدلالهم؛ فقد تنوّرت عقولهم بنور القدس و باتّصالها بالواحد الأحد الذي هو محلّ تكاثر الأسماء حتى صارت بصيرة، و تبصّرت بتجلّيات الأسماء و الصفات الإلهيّة، و انمحت صفاتها في صفات الحقّ؛ فما تعرفه الطائفة الاولى تلمسه هذه الثانية. (و كلتاهما تتزكّيان بالنفس الناطقة بنور القلب)؛ لكنّ طائفة ذوي العقول تتخلّق بالأخلاق الإلهيّة، و أمّا طائفة ذوي البصيرة فمتحقّقة بها. و على هذا، فمحال أن يصدر عنها سوء خلق، و هي تشمل الجميع بتسامحها كلّ حسب مرتبته. وَ نَرْجُوا أن نَكونَ مِنْهُمْ.
استدلال متين للملّا عبد الرزّاق على وحدة الحقّ تعالى
الثالثة: مرتبة الروح؛ و أصحاب هذا المقام قد تجاوزوا مرتبة تجلّي الصفات، و وصلوا إلى مرتبة المشاهدة؛ و عثروا على شهود جمع الأحديّة، و جازوا الخفيّ كذلك، و تحرّروا من حجب تجلّيات الأسماء و الصفات و كثرة التعيّنات، فكان حالهم في ساحة الواحد الأحد مصداقاً للآية: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
و ترى هذه الطائفة في الخلق أنّه مرآة الحقّ، أو الحقّ بأنّه مرآة الخلق. و ما فوق ذلك فهو استهلاك في عين أحديّة الذات. و قال واصفاً المحجوبين على الإطلاق: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ.
و مع أنّ الباقين في مقام تجلّيات الأسماء و الصفات قد تخلّصوا من الشكّ باليقين، إلّا أنّهم قاصرون عن إدراك أنّ معنى. كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ،۱ باقٍ على الدوام، و يعوزهم تذكير
الآية أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ. و لم تفز بشهود هذه الحقيقة و معنى. كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ،۱ إلّا الطائفة الأخيرة. و أنّه تعالى عيان في هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ٢ و هذه الطائفة ترى وجه الحقّ مشهوداً في كلّ التعيّنات، و هم الذين ينزّهونه في وجوه الأسماء و التعيّنات و هم الذين تحقّق لديهم، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ٣.
گر ز خورشيد يوم بى نيروست | *** | از پى ضعف خود نه از پى اوست٤ |
و الآن، فقد تبيّن ممّا سبق: أنّ الحقّ تعالى منزّه عن جميع التعيّنات، و أنّ تعيّنه يكمن في عين ذاته، و أنّ أحديّته ليست أحديّة عدديّة، حتى يكون له ثانياً؛ كما قال السنائيّ رحمه الله تعالى:
احد است و شمار از او معزول | *** | صمد است و نياز از او مخذول |
آن احد نى كه عقل داند و فهم | *** | و آن صمد نى كه حسّ شناسد و وهم٥ |
ذلك أنّ الحسّ و العقل و الفهم و الوهم كلّ اولئك متعيّنات، و لا يُحيط
المتعيّن بغير المتعيّن.
وَ اللهُ أكْبَرُ أن يُقَيِّدَهُ الحِجَى | *** | بِتَعَيُّنٍ فَيَكونَ أوَّلَ آخِرِ |
هُوَ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ ثَانِيَةٍ وَ لَا | *** | مَوْجُودَ ثَمَّةَ فَهوَ غَيْرُ مُكَاثَرِ |
هُوَ أوَّلٌ هُوَ آخِرٌ هُوَ ظَاهِرٌ | *** | هُوَ بَاطِنٌ كُلٌّ وَ لَمْ يَتَكَاثَرِ |
و عليه، فمن كانت هذه مرتبته، فإنّ الحقّ تعالى سيجرّده من مراتب التعيّنات، و يحرّره من قيد العقول، فيصل إلى تلك الإحاطة بالكشف و الشهود؛ و إلّا بقي في حُجُب الجلال.
استدلال الكاشيّ على وحدة الوجود بكلام الأئمّة عليهم السلام
ساقي الكوثر: الحقيقةُ كشفُ سُبُحات الجلال من غير إشارة
و جاء في كلام ساقي الكوثر أمير المؤمنين عليّ رضي الله تعالى عنه:
الحَقِيقَةُ كَشْفُ سُبُحَاتِ الجَلَالِ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ.
ذلك أنّ بقاء الإشارة الحسّيّة أو العقليّة في وقت تجلّي الجمال المطلق معناها ظهور عين التعيّن و أن يضحي الجمال عين الجلال، و يكون الشهود هو الاحتجاب نفسه؛ سُبْحَانَ مَنْ لا يَعْرِفُهُ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ.
و الحقّ أنّ كلّ بحث ورد في «العروة» في ردّ هذا المعنى، لم تكن دلائله مبنيّة على النهج المستقيم و طريق البرهان السليم، و لهذا السبب فإنّ العارفين بالمعقولات لا يوافقون على ذلك.
و قد سألتُ شيخ الإسلام مولانا نظام الدين خاموش الهرويّ سلّمه الله عمّا قيل في وصف الخضر التائه، فقال: ذلك هو خضر التركمان، في حين كان المسكين يسأل عن خضر الترجمان.
و لمّا كنتُ قد أكملتُ في سنين شبابي الاولى بحث الفضليّات و الشرعيّات، دون فتح باب التحقيق في تلك البحوث، و بحث اصول الفقه و الكلام بَعدُ، فقد اعتقدتُ أنّ بحث المعقولات و علم الإلهيّات و ما يتوقّف عليهما يقود الناس إلى المعرفة، و يُخلّصهم من هذه الشكوك.
فقد صرفتُ على دراسة ذلك مدّة من الزمن، و وصلتُ في استذكار
ذلك إلى درجة مُثلى، و ظهر لدى خوف و اضطراب سَلَبا كلّ راحة، و تبيّن أنّ معرفة المطلوب أرفع من مرتبة العقل؛ ذلك أنّه بالرغم من أنّ الحكماء قد تجاوزوا مرحلة التشبيه بالصور و الأجرام في تلك العلوم، إلّا أنّهم وقعوا في التشبيه بالأرواح.
حتّى اخترتُ ملازمة المتصوّفة و أرباب الرياضة و المجاهدة و نيل توفيق الحقّ؛ فلازمتُ في البداية «مولانا نور الدين عبد الصمد النطنزيّ» قدس الله تعالى روحه، فأستشفّ من حديثه عين هذا المعنى في التوحيد. و كنتُ أستحسن كثيراً كتابيَ «الفصوص» و «الكشف» للشيخ يوسف الهمدانيّ.
ثمّ وصلتُ بعد ذلك إلى كلام مولانا «شمس الدين الكيشيّ» لأنّني كنتُ قد سمعتُ من مولانا نور الدين أنّه كان وحيد عصره في طريق المعرفة.
و تنسب الرباعيّة التالية إليه:
هر نقش كه بر تختة هستى پيداست | *** | آن صورت آن كس است كان نقش آراست |
درياى كهن چو بر زند موجى نو | *** | موجش خوانند و در حقيقت درياست۱ |
و كان قد بيّن هذا المعنى نفسه في التوحيد، حيث كان يقول: لقد اكتشفت هذا المعنى بعد الأربعين. و لم يكن حينها في شيراز شخص يمكن
إطلاعه بهذا المعنى في التوحيد. و لم يكن الشيخ ضياء الدين أبو الحسن مطّلعاً على هذا المعنى كذلك.
و لقد كنتُ في حيرة من ذلك حتى وقع كتاب «الفصوص» بيدي. و لمّا طالعت ما في الكتاب المذكور وجدت هذا المعنى كذلك و شكرتُ الله تعالى و حمدته لما علمتُ أنّ هذا المعنى هو ما توصّل إليه الأعلام و حصلوا عليه.
و قد لازمتُ كذلك «مولانا نور الدين الأبرقوهيّ» و «الشيخ روزبهان البقليّ» و «الشيخ ظهير الدين برغش» و «مولانا أصيل الدين» و «الشيخ ناصر الدين» و «قطب الدين» و «ضياءالدين أبو الحسن» و مجموعة أخرى من كبار العلماء، فكان جميعهم متّفقين على هذا المعنى؛ و لم يكن أحد منهم يخالف الآخر في ذلك.
و الآن لا يمكن قبول قول من يخالف ذلك على الإطلاق. و حتى أنّني، و قبل وصولي إلى هذا المقام، كنتُ متحيّراً في ذلك. و لم يمكن الحصول على مرشد يمكنه أن يكون بلسماً للقلوب حتى بعد وفاة شيخ الإسلام مولانا و شيخنا نور الملّة و الدين عبد الصمد النطنزيّ.
فاختليتُ بنفسي سبعة أشهر في صحراء قاحلة لا زرع فيها و لا عمارة لا أتناول من الطعام إلّا ما قلّ؛ حتى تمكّنتُ من الوصول إلى هذا المعنى و اطمأننتُ إليه؛ و الحمد للّه على ذلك.
و مع أنّ الله سبحانه تعالى هو القائل: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ؛۱ إلّا أنّه هو القائل: أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.٢
و بعد ذلك و عند لقائي بالشيخ الكبير «الشيخ نور الدين عبد الرحمن الأسفراينيّ» قدّس سرّه و تحدّثي إليه، فقد أنصفني حين قال: لقد وهبني الحقّ تعالى القدرة و العلم بتفسير الأحداث و تأويل الأحلام؛ و لم أصل إلى مقام أسمى من هذا.
و لا يمكن التخلّي عن هذا المعنى الذي يحصل بالشهود لمجرّد أن تلك البحوث ليست على الطريق المعقول و النهج السويّ المستقيم.
و هذا كذلك هو كلّ ما نطق به «الشيخ عبد الله الأنصاريّ» قدّس سرّه و قد أوصل جميع المقامات في الوادي الثالث إلى التوحيد الصرف، و قد صرّح الشيخ «شهاب الدين السهرورديّ» في باب هذا الحديث في عدّة مواضع.
حيث قال في شرح كلام الإمام المحقّق جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه الذي قال: إنِّي اكَرِّرُ آيَةً حتى أسْمَعَ مِنْ قَائِلِهَا، بأنّ الإمام وجد لسانه في هذا المعنى مثل شجرة موسى التي سمع منها النداء إِنِّي أَنَا اللَّهُ؛۱ فإذا كان متعيّناً، فكيف ظهر في صورتين؟ و كيف يصدق عليه ما ورد في القرآن الكريم، وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ٢.
و كيف يصحّ حديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم لَوْ دَلَّى أحَدُكُمْ حَبْلَهُ لَهَبَطَ عَلَى اللهِ٣ و متى كان مع الجميع في هذا العالم أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ؟٤ و على هذا، يجب بحث هذا المعنى و التأمّل فيه، حيث أنّ
و بنصّ القرآن ثالِثُ ثَلاثَةٍ هو كفر بحت؛ إذ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.۱ و أنّ رابع ثلاثة هو منتهى الإيمان و التوحيد [إذ]: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ.٢
إذ لو كان ثالث ثلاثة لكنتَ متعيّناً بأحدهم. و أمّا رابع الثلاثة فمعناه أنّه موجود بوجوده الحقّ و بحكم: وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ٣ فهو ثاني واحد، و ثالث اثنين، و رابع ثلاثة، و خامس أربعة، و سادس خمسة؛ اي أنّه محقّق حقائق هذه الأعداد، و أنّه مع الجميع دون مقارنة، و غير الجميع دون مزايلة. كما قال أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه.
هُوَ مَعَ كُلِّ شَيءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ.
و لقد تبيّن لي أنا الضعيف طول مدّة صحبتي مع سيّد العالم و عزّ الأنصار، بالرغم من مطاعن البعض أنّه عليم بحقّ، و لهذا السبب وجدتُ في استعداده معنى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ٤، و تأكّد لي تماماً أنّه لا تأخذه في الحقّ لومة لائم و لا يمكن أن يثنيه حديث مخالفيه عن ذلك. و أرجو كذلك أنّك إن لم تجد هذا المعنى في قول الكبار و لم يوافقك حديثهم، فاعلم أنّك لم تطالع هذا البيان باستمرار، و لم تطّلع على أدلّة كثيرة على هذا المعنى؛ كما تمّ شرح ذلك في كتاب «الفصوص» و غيره.
و لكي يتسنّى للعلماء المحقّقين، و هم أصحاب الألباب، مذاكرتك في هذا الأمر، فقد سعيتُ إلى تجنّب الإطناب و الإسهاب؛ وَ مَنْ لَم يُصَدِّقِ
الجُمْلَةَ، هَانَ عَلَيْهِ أن لَا يُصَدِّقَ التَّفْصِيلَ.
و أرجو أن يتفضّل الحقّ تعالى بمنّه على الجميع و هدايتهم إلى جماله، وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.۱ و الله الموفق و المعين.
جواب علاء الدولة الحادّ للملّا عبد الرزّاق الكاشيّ
جواب علاء الدولة على رسالة عبد الرزّاق الكاشيّ
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ- الآية٢ قال كبار رجال الدين و السائرين على طريق اليقين بالإجماع: أنّ المستفيد حقّاً من معرفة الحقّ هو من جعل طيب اللقمة و صدق اللهجة شعاره و دثاره؛ فلو فُقِدا، فلا سبيل إلى النجاة من هذه الطامّة و تلك الترّهات.
فأمّا ما روي من الشيخ نور الدين عبد الرحمن الأسفراينيّ قدّس الله تعالى روحه فقد تشرّفتُ بمصاحبته مدّة اثنتين و ثلاثين سنة، و لم أسمعه يتحدّث بهذا المعنى إطلاقاً، بل إنّه امتنع على الدوام عن مطالعة مؤلّفات ابن عربي أو دراستها؛ لدرجة أنّه حين سمع أنّ مولانا نور الدين حكيم و مولانا بدر الدين رحمهما الله تعالى يقومان بتدريس بعض الطلبة مواضيع من كتاب «الفصوص» ذهب إلى هناك ليلًا و أخذ نسخة الكتاب منهما و مزّقها تمزيقاً و منع تدريسها بالمرّة.
و كذلك ما جرى على لسانه المبارك و أسراره لنجله الأعظم، صاحب القرآن الأعظم أيّده الله بجند التوفيق و أقرّ عين قلبه بنور التحقيق: إنّي بريء من هذه العقيدة و تلك المعارف.
عزيزي! كنتُ أقوم بوضع حاشية على كتاب «الفتوحات» و ذلك في أطيب أوقاتي، فوصلتُ إلى هذا التسبيح الذي يقول: سُبْحَانَ مَنْ أظْهَرَ الأشْيَاءَ وَ هُوَ عَيْنُها.
فكتبتُ: ان الله لا يستحي عن الحق.۱ أيُّهَا الشَّيْخُ! لَوْ سَمِعْتَ مِنْ أحَدٍ أنَّهُ يَقُولُ: فَضْلَةُ الشَّيْخِ هي عَيْنُ وُجُودِ الشَّيْخِ، فَإنَّكَ لَا تُسَامِحُهُ إليْهِ! بَلْ تَغْضَبُ عَليْهِ! فَكَيْفَ يَسُوغُ بِعَاقِلٍ أن يَنْسِبَ إلى اللهِ هَذَا الهَذَيَانِ؟!
تُبْ إلى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، لِتَنْجُوَ مِنْ هَذِهِ الوَرْطَةِ الوَعِرَةِ التي يَسْتَنْكِفُ مِنْهَا الدَّهْرِيُّونَ وَ الطَّبِيعِيُّونَ وَ اليُونَانِيُّونَ وَ الشَّكْمَانِيُّونَ. «وَ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَي».٢
و أمّا ما قيل من أنّ ما جاء في «العروة» ليس برهان على النهج
المستقيم، فإنّ الكلام إذا كان متطابقاً فلن يضير بعد ذلك إذا كان على البرهان المنطقيّ أم لم يكن! فإذا حصلت النفس على الاطمئنان في مسألة ما و لم يكن باستطاعة الشيطان أن يعترض على ذلك، فقد كفانا.
وَ الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى المَعَارِفِ التي هي تُطَابِقُ الوَاقِعَ عَقْلًا وَ نَقْلًا، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ لِلنَّفْسِ تَكْذِيبُهَا وَ لِلشَّيْطَانِ تَشْكِيكُهَا. وَ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ عَلَى وُجُوبِ وُجُودِ الحَقِّ وَ وَحْدَانِيَّتِهِ وَ نَزَاهَتِهِ. وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِوُجُوبِ وُجُودِهِ فَهُوَ كَافِرٌ حَقِيقِيّ. وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ حَقِيقِيّ. وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَزَاهَتِهِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ المُمْكِنُ، فَهُوَ ظَاهِرُ ظَالِمٍ حَقِيقِيٍّ؛ لأنَّهُ يَنْسِبُ إليه مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِ قُدْسِهِ.
وَ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَ لِذَلِكَ لَعَنَهُمُ اللهُ في مُحْكَمِ كِتابِهِ؛ بِقَوْلِهِ: «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ».۱
سبحانه و تعالى عما يصفه به الجاهلون.
فصل بالخير: لمّا طالعتُ الرسالة للمرّة الثانية، وقع نظري على رباعيّة للكييّش، و تذكّرتُ أنّ ما كُشف في ذلك المقام و ابتهج به لاطّلاعه على حقيقة ذلك، أنّ هذا الضعيف قد وقع في هذا المقام عدّة مرّات في اليوم سابقاً، لكنّه اجتاز ذلك المقام. اي أنّه لمّا اجتاز بداية و وسط المكاشفة و وصل إلى نهاية ذلك المقام، فقد بان خطأه و ظهر كأوضح من الشمس، و حصل اليقين في قطب ذلك المقام أن لا مدخل و لا منفذ للشكّ في ذلك.
و قد سمعتُ أيّها العزيز أنّ أوقاتك مملوءة بالطاعة و مشغولة بها، و أنّ العمر قد شارف على الانتهاء أ فليس من المؤسف أن تبقى في بداية
مقام المكاشفة و في طريق يُغري فيها الأطفال بالجوزة و الزبيبة ليذهبوا إلى المدرسة فيجترّون علوماً هي كالخزف و يؤوّلوا أكثر الآيات القرآنيّة المبيّنة ببعض آخر متشابه.
كما في تأويلهم للآية المحكمة: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ،۱ و أخواتها الاخريات. و يجعلون من الآية: ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى،٢ قدوة لهم، غير عالمين أنّ ذلك إنّما قيل من جهة تفهيم الخلق حتى يعلموا خصوصيّة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم.
كما في حالة إرسال مندوب مقرّب من قبل الملك، قائلًا: يده يدي و لسانه لساني، و نفس الشيء يقال في إرسال الشيخ لتابع له إلى قوم على سبيل الإرشاد، فهو يقول في إجازته له أنّ يده يدي.
فالغرض هو أنّهم يغفلون عن آية أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، و يُعرضون عن الآية: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا٣ و أمثال ذلك، و يتمسّكون بالآية: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ٤، دون أن يعلموا أنّ المراد بها أنّه: هُوَ الأوَّلُ الأزَليّ لِيَنْتَهيَ إليه سِلْسِلَةُ الاحْتِيَاجِ في الوُجُودِ فَضْلًا عَنْ شَيءٍ آخَرَ، وَ هُوَ الآخِرُ الأبَدِيّ بِأنَّهُ إليه يَرْجِعُ الأمْرُ كُلُّهُ. وَ هُوَ الظَّاهِرُ في آثَارِهِ الظَّاهِرَةِ بِسَبَبِ أفْعَالِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لِذَاتِهِ، وَ هُوَ البَاطِنُ في ذَاتِهِ «لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ»؛ وَ لا يَعْرِفُ ذاتَهُ إلَّا هُوَ.
وَ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: كُلُّ النَّاسِ
فِي ذَاتِ اللهِ حُمْقَي؛ أيْ في مَعْرِفَةِ ذاتِهِ.
وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ وَ لَا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ.
و الآن نرجع إلى لبّ الموضوع. فإذا تمّ الحصول على مثل تلك المعارف كتلك التي نقرأها في رباعيّة الكيشيّ و ذلك في وسط مقام المكاشفة، و هي أنّ الحقّ يظهر لنا بصورة بحر و متّصفاً بصفة المموّج و المُثبت و الماحي، و دوائر المخلوقات التي يكون بعضها واسعاً و بعضها الآخر ضيّقاً، و تنعّم البعض الذي هو مظهر اللطف بقدر اتّساع الدائرة و الاستقامة، و البعض الآخر الذي يمثّل مظاهر القهر و تألّمهم من ضيق الدائرة و الانحراف و بصفته مموّجاً كذلك فأنّه يعود فيجد تلك الدوائر من جديد؛ حتى خطوتُ في نهاية مقام المكاشفة، فهبّت ريح حقّ اليقين، و انتشرت براعم المعارف في بداية و وسط ذلك المقام، و خرجت ثمرة حقّ اليقين من غلاف عين اليقين.
عزيزي! أنّ لدى علماً مجرّداً بالشريعة يمثّل اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع، و أنّ علم اليقين متعلّق ببداية مقام المكاشفة، و عين اليقين بوسطه، و أمّا حقّ اليقين فبنهايته، و أنّ حقيقة حقّ اليقين التي هي عبارة عن اليقين المجرّد؛ لقوله تعالى: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ،۱ متعلّقة بقطب درجات مقام المكاشفة، و من يصل إلى هذا المقام فإنّ كلّ ما يقوله مطابق للواقع من جميع الوجوه.
و قد بدا أنّ التوحيد هو آخر جميع المقامات في منازل السائرين، و ليس كذلك؛ بل هو واقع في المقام الثمانين. و آخر المقامات هو «العُبُودِيَّةُ» وَ هُوَ عَوْدُ العَبْدِ إلى بَدايَةِ حالِهِ مِنْ حَيْثُ الوَلايَةِ المَفْتُوحِ
وَاوُهَا، دَائِراً مَعَ الحَقِّ في شُئونِ تَجَلِّيَاتِهِ تَمَكُّناً.
سئل الجُنيد: مَا نِهَايَةُ هَذَا الأمْرِ؟! قَالَ: الرُّجُوعُ إلى البِدَايَةِ!
عزيزي! لقد تأثّرتُ كثيراً بهذه الرباعيّات في بداية و وسط مقام التوحيد خاصّة خلال الاستماع إلى الأمثال، و بقيتُ مدّة طويلة أتأمّل معانيها و أتذوّق عباراتها؛ و الرباعيّة التالية هي إحدى تلك الرباعيّات:
اين من نه منم، اگر منى هست توئى | *** | ور در بر من پيرهنى هست توئى |
در راه غمت نه تن به من ماند نه جان | *** | ور زانكه مرا جان و تنى هست توئي۱ |
و قد قلتُ في المقام الذي كان يبدو فيه الحلول كفراً و الاتّحاد توحيداً:
أنَا مَنْ أهْوَى، وَ مَنْ أهْوَى أنَا | *** | لَيْسَ في المِرْآة شَيءٌ غَيْرُنَا |
قَدْ سَهَى المُنْشِد إذَا انْشِدُهُ | *** | نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا |
أثْبَتَ الشِّرْكَةَ شِرْكاً وَاضِحاً | *** | كُلُّ مَنْ فَرَّقَ فَرْقاً بَيْنَنَا |
لَا انَادِيهِ وَ لَا أذْكُرُهُ | *** | أنَّ ذِكْرِي وَ نِدَائِي يَا أنَا |
إلى آخره.
و بعد ذلك و عند وصولي نهاية مقام التوحيد، بدا أنّ ذلك خطأ محض و صرف؛ فقلتُ: الرُّجُوعُ إلى الحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي في البَاطِلِ.
عزيزي! عليك أنت أيضاً أن تقتدي بذلك و تسير على هذا النهج! و اعتبر بقول الله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ،۱ فقد فنيتُ و امّحيتُ في ذلك المثال. و السلام.٢
إجابة علاء الدولة واهية بلا أساس، و لا تعدو كونها مغالطة
علاء الدولة لم يُدرك حقيقة وحدة الذات
نعم، ها قد نقلنا رسالة الملّا عبد الرزّاق و كامل رسالة علاء الدولة دون حذف أو تنقيص كلمة منهما، و وضعناهما أمام أرباب البصيرة ليعلموا ما ورد في الرسالة الاولى، و التي غلب عليها طابع الاحترام و الأدب، من الآيات و الروايات المقبولة و الشواهد الذوقيّة و العرفانيّة، و بعد التأمّل في كلّ نقطة من نقاطها الدقيقة و العميقة، سينجلي لنا بحراً من المعارف؛ في حين اتّسمت الرسالة الثانية بسوء الأدب و الإحساس بالفخر الكاذب و التكبّر و الأنانيّة و التعصّب، و شُحنت بمواضيع خطابيّة لا برهان فيها و لا أساس، ملوّثة بالمغالطات و السفسطة، معتبرة الفشل و العجز في الوصول إلى أعلى ذرى العرفان و التوحيد، هو الميزان الوحيد للكمال و المقياس الأوحد لأساس الإنسانيّة الكامل، حيث دعا فيها صاحبها الآخرين إلى اتّباعه و السير على نهجه و منهاجه و لمّا يتخلّص هو من براثن الثنويّة أو يخطو خطوة نحو الخروج و التخلّص من أدرانها.
فإذا صادفنا وجوداً أصيلًا يمتلك هويّة و استقلالًا في عالم الوجود- مهما كان صغيراً و ضعيفاً- فقد حدّدنا الله بنفس ذلك المقدار و جعلناه متعيّناً؛ اي بمعنى أنّنا قد أوجدنا للّه شريكاً بنفس ذلك المقدار الصغير.
لو عدّ النصارى التثليث أمراً اعتباريّاً، لكانوا موحّدين
إن جلّ اختلافنا عن النصارى و تميّزنا عنهم في التثليث يكمن في: أنّهم يؤمنون بثلاثة مبادئ أساسيّة (الذات و الروح و العلم، أو الأب و الروح القدس و الابن) و يعتبرونها أقانيم و اصول قديمة لنشوء عالم الخلقة، في حين نؤمن نحن بوجود ذات واحدة أصيلة و قديمة و مجرّدة لا غير، و أنّ جميع صفات الله و أسمائه الحسنى مندكّة و فانية فيه. و أنّ جميع الأرواح و العوالم المجرّدة بدءاً من الروح القدس و انتهاءً بالملائكة المقرّبين و أرواح الأنبياء و الأئمّة عليهم الصلاة و السلام و أرواح الأولياء العظام، مروراً بكلّ ذرّة من ذرّات العالم المؤثّرة في عالم الملك و الملكوت، كلّها جميعاً فانية و مندكّة في ذات الواحد الأحد، و أنّ وجودها جميعاً إنّما هو وجود ظلّيّ و آيتيّ و مجازيّ و غير أصيل.
فلو اعتبرنا أنّ لأرواح الأئمّة و الأنبياء أصالة، فحينئذٍ سنكون مشركين كما أشرك غيرنا، كما أنّهم إذا اعتبروا تلك الاصول الثلاثة على أنهّا حقيقة واحدة متجلّية من خلال المظاهر الثلاثة تلك فإنّهم بذلك سيكونون موحّدين، و لكنّهم يأبون القبول بهذا المعنى أو القول به، و يصرّون على مبدأ الاصول الثلاثة القديمة. إلّا أنّنا طالعنا رأي سماحة الاستاذ العلّامة مؤخّراً في تفسيره لآيات من سورة المائدة، و ذلك حين قال: كانت بعض طوائف النصارى و منها النجاشيّ ملك الحبشة على هذا الاعتقاد.
و يمكن اعتبار كلام السيّد أحمد هاتف صاحب الترجيعة المعروفة عاملًا في رفع الستار عن هذه القضية؛ حيث يقول:
از تو اي دوست نگسلم پيوند | *** | ور به تيغم بُرند بند از بند۱ |
الحقّ ارزان بود ز ما صد جان | *** | وز دهان تو نيم شكر خند |
اي پدر پند كم ده از عشقم | *** | كه نخواهد شد اهل، اين فرزند |
من ره كوى عافيت دانم | *** | چكنم كو فتادهام به كمند |
پندِ آنان دهند خلق اي كاش | *** | كه ز عشق تو ميدهندم پند |
در كليسا به دلبر ترسا | *** | گفتم: اي دل به دام تو در بند |
اي كه دارد به تار گيسويت | *** | هر سر موى من جدا پيوند |
ره به وحدت نيافتن تا كي؟ | *** | ننگ تثليث بر يكى تا چند؟ |
نام حقِّ يگانه چون شايد | *** | كه اب و ابن و روح قُدْس نهند۱ |
لب شيرين گشود و با من گفت | *** | وز شكر خنده ريخت آب از قند |
كه گر از سرّ وحدت آگاهى | *** | تهمت كافرى به ما مپسند |
در سه آئينه شاهد ازلى | *** | پرتو از روى تابناك افكند |
سه نگردد بريشم ار او را | *** | پرنيان خوانى و حرير و پرند |
ما در اين گفتگو كه از يك سو | *** | شد ز ناقوس اين ترانه بلند |
كه يكى هست و هيچ نيست جز او | *** | وَحْدَهُ لا إلَهَ إلّا هُو۱ |
أي أنّ السبب في كفر النصارى و شركهم هو: أنّهم ينظرون إلى ربّ الأرباب بعين حولاء؛ لهذا فإنّهم يرون ثلاثة. و أمّا إذا نظروا إليها بعين سليمة فعندها لن يروا أكثر من واحد.
و ما أروع و أوضح و أدلّ معنى و بياناً ما قاله الحسين بن منصور
الحلّاج في كشف هذه الحقيقة:
أنَا أنَا أنْتَ أمْ هَذَا إلَهَيْنِ؟! | *** | حَاشَايَ حَاشَايَ مِنْ إثْبَاتِ اثْنَيْنِ |
هُوِيَّتِي لَكَ في لَائِيَّتِي أبَداً | *** | كُلٌّ على الكُلِّ تَلْبِيسٌ بِوَجْهَيْنِ |
فَأيْنَ ذَاتُكَ عَنِّي حَيْثُ كُنْتُ أرَى | *** | فَقَدْ تَبَيَّنَ ذَاتِي حَيْثُ لَا أيْنِي |
وَ نُورُ وَجْهِكَ مَعْقُودٌ بِنَاصِيَتِي | *** | في نَاظِرِ القَلْبِ أوْ في نَاظِرِ العَيْنِ |
بَيْنِي وَ بَيْنَكَ إنِّييّ يُنَازِعُنِي | *** | فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إنِّييّ مِنَ البَيْنِ |
... ۱
چراغ آنجا كه خورشيد منير است | *** | ميان بود و نابودى اسير است» |
چراغ آنجا كه خورشيد منير است | *** | ميان بود و نابودى اسير است» |
آفتابى در هزاران آبگينه تافته | *** | پس به رنگ هر يكى تابى عيان انداخته |
جمله يك نور است ليكن رنگهاى مختلف | *** | اختلافى در ميانِ اين و آن انداخته |
نزاع العلَمَين: السيّد أحمد الكربلائيّ و الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ
و لقد نشب الخلاف حول هذه المسألة بين آيتين من آيات الله، و فقيهين من فقهاء بحر العلم، هما مَرجِعا الحكمة و العرفان، آية الله على الإطلاق و نور الله في ظلمات الأرض: الآقا السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ أفاض الله علينا من بركات تربته، و المحقّق الكبير و المدقّق القدير، فيلسوف زمانه و حكيمه بلا شبهة و لا ظنّ: الآقا الحاجّ الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ الأصفهانيّ النجفيّ رضوان الله تعالى عليه.
فكان السيّد يقول: «أنّ الوجود يمتلك تشخّصاً و وحدة، و أنّ ذات
الحقّ الأزليّة و الأبديّة و اللامتناهية لا تقبل التعيّن. و أنّ جميع العوالم معدومة و فانية في وجوده و أنّ وجودها ليس إلّا وجوداً غير اعتباريّ و مجازيّ و انتسابيّ».
و أمّا الشيخ فيقول: «أنّ الوجود لا يمتلك تشخّصاً و وحدة و أنّ التشكيك يكتنف مراتب الوجود. و ليس هناك فناء محض للموجودات. و أنّ تعيّن الأشياء و محدوديّتها لا يتنافى مع الوجود المطلق للحقّ تعالى. و بالتالي فإنّ جميع الموجودات تمتلك أصالة؛ و هذه الأصالة ضعيفة في حدودها و إنّيّاتها، خلافاً للحقّ تعالى الذي له حدّ أكبر و تعيّن أوسع، بحيث يشملان جميع الموجودات؛ لكنّهما تتوقّفان عندها، و لن يحصل هناك ما يسمّى بالتوحيد أو (الوحدة)؛ و الحقّ أنّ فناء الأشياء في ذاته المقدّسة، بكلّ معنى الكلمة، ليس إلّا مجرّد و ظنّ لا حقيقة لهما».
إن العلّة في عدم قبول الشيخ مسألة وحدة ذاته المقدّسة، و معيّته مع الموجودات، و سيطرته على جميع العوالم و الأشياء و إحاطته الوجوديّة بها، و انمحائها جميعاً و اندكاكها ذاتاً و صفة و فعلًا في ذاته؛ تكمن في اعتبار نفسه موجوداً، اي «ذو وجود» في مقابل الحقّ تعالى، و الذي وصف المرحوم السيّد ذلك بعبارة ال- جَبَلانيّة.
و العلّة الأخرى، في لزوم الإحاطة الوجوديّة للحقّ على العيوب و المضارّ و المفاسد و القبائح، و الذي وصف المرحوم السيّد ذلك بعبارة لزوم المفاسد الشنيعة.
إلّا أنّ ذلك الوجود ليس إلّا جَبَلًا وجوديّاً خياليّاً؛ و سيزول إن عاجلًا أم آجلًا، شئنا أم أبينا. و هذا اللزوم ليس صحيحاً كذلك، لأنّ الحقائق الوجوديّة للموجودات و الأشياء لها اندكاك في ذات الحقّ، لا معائب أو قبائح أو مفاسد. أنّ مصدر هذه الامور، عند التحليل، امور عدمية. و أنّ
النقائص و الماهيّات الباطلة هي امور عدميّة كذلك؛ فأنّى لها الدخول إلى ذاته المقدّسة!؟
و لهذا فإنّ اولئك الذين يحتجّون على وحدة الوجود و يعترضون عليه لم يعقلوا معناه مطلقاً.