10

موقع الإنسان من الله وفقره إليه

حدود خوارق العادات عند العرفاء

114
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1428

التاريخ 1428/09/13

جلسات المجموعة(12 جلسة)

التوضيح

كيف هي رؤية أهل المعرفة والتوحيد لارتباط الإنسان بالله وموقعه، مقارنةً بسائر الرؤى؟ وماذا ستكون نتيجة ومآل المدرستين؟ يتناول سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه في شرحه لفقرة «أدعوکَ يا سَيِّدِى بِلِسانٍ قَد أَخرَسَهُ ذَنبُهُ...» من دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام السجاد عليه السلام، تلك المسائل كما يتطرق إلى المقارنة بين طهارة أولياء الله وبراءة الأطفال الرضّع، وتوضيح مفهوم الطهارة المطلقة للمعصومين عليهم السلام، وانعكاسها في حياتهم السياسيّة، وتسليمهم للمشيئة الإلهيّة.
كلمات مفتاحيّة: الطهارة المطلقة، مقامات العارفين، موقع الإنسان الحقيقي من الله، طهارة المعصوم، براءة الطفل، التواضع الكاذب، التسليم للمشيئة الإلهيّة، خوارق العادات، السياسة الإلهيّة.

/۱۸
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • موقع الإنسان من الله وفقره إليه

  • حدود خوارق العادات عند العرفاء

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۸ هـ - الجلسة العاشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ 

  • بِسمِ اللَهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ 

  • وَصَلَّى اللَهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أَبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ 

  • وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَاللَّعنَةُ عَلَى أَعدَائِهِم أَجمَعِينَ

  •  

  •  

  • ما هو موقع الإنسان الحقيقيّ من الله؟

  • «أدعوکَ يا سَيِّدِى بِلِسانٍ قَد أَخرَسَهُ ذَنبُهُ رَبِّ أُنَاجِيكَ بِقَلبٍ قَد أَوبَقَهُ جُرمُهُ» 

  • يا ربّي وإلهي ومولاي وسيّدي، أدعوك بلسانٍ قد أسكَتَتْه وأعجزَتْه ذنوبه، وأناجيك بقلبٍ قد أهلَكَه إجرامه وجنايته وجعلته خارجًا عن حَيِّزِ الانتفاع. 

  • حسنًا، لقد عَرَضْنَا أمورًا حول هذه الفقرات في الليالي الماضية، ووصل الحديث إلى أنّ الإمام السجّاد عليه السلام يريد في المرحلة الأولى أن يُلْفِتَنَا إلى وضعنا، وأن يُوَجِّهَنَا إلى حالنا وموقعنا. هذا في المرحلة الأولى. وفي المرحلة الثانية، يُبَيِّنُ كيفيّة الارتباط والتعامل مع الله تعالى. وبشكلٍ عام، كيف هي رؤية أهل المعرفة والتوحيد فيما يتعلق بارتباط الإنسان بالله؟ وما هي مكانة الإنسان ومكانة الله في تلك الرؤية؟ وما هو موقع الإنسان وما هو موقع الله؟ وبماذا تختلف هذه الرؤية عن سائر الرؤى؟ وماذا ستكون نتيجة ومآل هاتين المدرستين وهاتين الرؤيتين؟ هذا هو مُحَصَّلُ الموضوع.

  • هل تشمل مناجاة "أخرسه ذنبه" الإمام المعصوم عليه السلام؟

  • في دعاء أبي حمزة الثمالي، يَقِفُ الإمام السجّاد عليه السلام في مقام ربط العبد في عالم الكثرة بعالم التوحيد. حسنًا، هذه العبارة التي يقولها عليه السلام: «ادعوکَ يا سَيِّدِى بِلِسانٍ قَد أَخرَسَهُ ذَنبُهُ رَبِّ أُنَاجِيكَ بِقَلبٍ قَد أَوبَقَهُ جُرمُهُ»، هل الإمام السجّاد عليه السلام نفسه مشمولٌ بمثل هذه الفقرات؟ إنسانٌ قد بلغ ووصل إلى العصمة المطلقة، ونزلت في حقه آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾۱. وكلمة تطهيرًا الثانية في الآية لها معنى عظيم جدًّا؛ فالمقصود هو التطهير في مقام البقاء بعد الفناء، ويعني أنّه لم يَعُدْ هناك أيّ معنى لأيّ شائبةٍ من الكثرة بعد الفناء الذاتي ومحو جميع آثار التعيّنات الوجودية في مقام ذات الله تعالى، وهو مقام الطهارة والعصمة المطلقة في جميع الأنواع وفي جميع المراحل، وليس في مرحلةٍ واحدة فقط.

  • مقارنة بين طهارة المعصوم وبراءة الطفل

    1. سورة الأحزاب (٣٣) الآية ٣٣

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

3
  • يمكننا أن نقول عن طفلٍ لم يبلغ سن التكليف بعدُ إنّه لم يرتكب ذنبًا، ولكن ليس بمعنى أنّه لم يخطئ أيضًا؛ لا! فمن الممكن أن يخطئ، ومن الممكن أن يكون في عالم الكثرة بمقدار حاله، ومن الممكن أن يكون مُقَيَّدًا بالتعيّنات بمقدار حاله، ويقوم بجلب المنافع ودفع المضارّ عن نفسه بمقدار حاله، ليس الأمر كذلك [بأنه معصوم بالمعنى المطلق]. حتى الطفل ذو الثلاث سنوات، أو الأربع سنوات، أو السنتين... حسنًا، الأطفال لهم شواكل مختلفة، لهم شواكل متفاوتة، ولكنّهم جميعًا يتحرّكون نحو جلب المنفعة، غير أنّهم لا يمتلكون تلك النفس [الأمّارة]، تلك النفس التي تتصف بالكُدُورَة وتحمل الأنانيّة، هم لا يمتلكون تلك النفس، فجانب التوحيد فيهم أقوى، وجانب التجرّد فيهم أكثر من البالغين. عندما تقع حادثة ما، يقولون إنّ شهادة الطفل مسموعة في المرحلة الأولى. لماذا؟ لأنّه في المرتبة الأولى يقول ما هو كائنٌ تمامًا، ولكن بعد ذلك يأخذونه جانبًا، ويقومون بالتهديد، والوعد بإعطائه الشوكولاتة، والحلوى، والخلاصة، يفرضون عليه ما يقول بالوعد والوعيد، فيُبَدِّلُونَ ذلك الفكر الطاهر الخالص إلى فكرٍ مخلوطٍ وحالٍ مشوَّش. في المرحلة الأولى، الطفل صافٍ. يأتي صافيًا ويقول: «كان هذا هو المخطئ، رأيتُ أنّ هذا ضرب ذاك أولاً ثمّ [ضربه] هذا». ولكن عندما يذهبون ويقولون له: «إذا قلتَ هذا، فلن نأخذك لتركب الأرجوحة الدوّارة، ولن نأخذك إلى أماكن أخرى، ولن نشتري لك الحلوى والآيس كريم، فاذهب وقل كذا وكذا». فيأتي هذا الطفل أيضًا ويقول: «هو ضرب ذاك أولاً»! لقد كان يقول عكس هذا قبل قليل ولكن...! لذلك يقولون تلك الشهادة الأولى مسموعة ويُرَتَّبُ عليها الأثر، وبعد ذلك فإنّ الكلام اللاحق غير مسموع. 

  • حسنًا، يمكننا أن نقول إنّ الطفل لم يرتكب ذنبًا، ولكن هل الوليّ الإلهيّ، الإمام المعصوم عليه السلام، هل عدم صدور الذنب منه هو أيضًا مثل طفلٍ مراهقٍ أو مثل طفلٍ غير مُمَيِّز؟ الطفل المميّز، مع كونه يُمَيِّز، لكنّه لو ارتكب مخالفةً فإنّ القانون لا يؤاخذه؛ هو مُمَيِّز ولكنه يرتكب المخالفة. يقولون يجب على المرأة أن تحفظ نفسها من غير المحرم المُمَيِّز. حرامٌ عليها ألا تحتجب من المُمَيِّز، وألا تتستّر. لأنّ الطفل المميّز يُشَخِّصُ الأمور ويُمَيِّزُ الحَسَنَ والقبيح. وأنا أضيف هنا: حتى من غير المميّز أيضًا إذا كان ذلك يؤدّي إلى مفسدةٍ في المستقبل؛ فالناس على أي حالٍ مختلفون، وهؤلاء الأطفال لديهم استعدادات مختلفة، ولديهم حافظات وذاكرات مختلفة ومتباينة، وكم من الممكن أن يكون الطفل غير مُمَيِّزٍ وقت الحادثة، ولكنّ تلك الصورة الذهنيّة التي تنطبع في ذهنه من الفعل ليست صحيحة وستكون سببًا للفساد، يجب لحاظ هذا الأمر. ولكنّ الحديث يدور حول أنّ هذه الآية التي يقول فيها الله تعالى إنّه قدّر الطهارة لهذه الذوات المقدّسة بمقامها الإطلاقي، فأيُّ طهارةٍ هي المقصودة؟

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

4
  • ما هي الطهارة المطلقة للمعصومين عليهم السلام؟

  • هذه الطهارة هي طهارةٌ لا تتمشّى معها أي شائبةٍ للكثرة ولا أي شائبةٍ للاثنينيّة في أيّ مرتبةٍ كانت، أصلاً لا تتمشّى، لا معنى لها أبدًا، في حين أنّ الطفل، لديه هذه المسألة.

  • سمعتُ من المرحوم العلامة أنّه كان يذكر هذه المسألة مرّاتٍ عديدة، أحيانًا كان المرحوم السيد الحداد رضوان الله عليه يقول له ـ في تلك الأوقات التي كان يذهب ويلتقي به ـ كان يقول: «أحيانًا أشعر أنّه حتى هذا الطفل الرضيع ـ الطفل الرضيع الذي، لا معنى أبدًا لأن يتصوّر الإنسان له نفسًا أو يتصوّر له أنانيّة أو ذاتيّة أو تمحورًا حول الذات، بحيث يكون دافعًا للآخرين وجاذبًا للمنافع نحو نفسه؛ فهذا [الرضيع] ماذا يشعر غير حضن الأمّ واللبن الذي يرضعه من أمّه؟ ليس لديه إدراك لشيء آخر أصلاً، لا يُدرك أصلاً ـ» كان السيد الحداد رضوان الله عليه يقول: «أشعر أنّ هذا الطفل وهو في حضن أمّه، بهذا المقدار يتعلّق بأمّه، والتعلّق بالأمّ يعني التعلّق بالنفس؛ فلأنّه يتعلّق بنفسه، فإنّه يُعْمِلُ هذا التعلّق بالنفس في التعلّق بالأمّ والاستفادة من الأمّ. مجرّد أن يطلب الارتضاع من الأمّ، يطلب اللبن، يعني أنا موجود، أين أنتِ؟ أين أنتِ؟ أنا هنا، أنا...»

  • قصة الطفل الرضيع الذي نسيته أمه

  • كان أحد الرفقاء يقول: «كان لي أخٌ أكبر منّي، وكانت أمي أو شخص آخر يروي أنّه بدأ بالبكاء، وكلّما بكى لم يدركوا ما به، والخلاصة أنّهم يُقَلِّبُونَهُ على هذا الجانب وذاك الجانب ولا يعرفون أبدًا لماذا يبكي، وكانت أمّه أيضًا منزعجة ولا تعرف ما الأمر! وفجأةً قال لها أحدهم: لعلّكِ لم تُرضعيه ولهذا هو يبكي؟ فقالت: الويل لي! لقد نسيتُ [أن أُرضعه] من البارحة حتى الآن!» تبيّن أنّ هذا الطفل لم يرضع لـ ۱۸ ساعة، وهي لا تتذكّر وتبحث عن سبب بكائه؟ طبعًا كان هذا الأمر في بعض المناطق، لقد نسيت، وذاكرتها ضعفت، لم تكن مُقَصِّرَة على كل حال، فالقلم مرفوعٌ عن بعض الناس، لقد نسيت أنّها لم تُطْعِمْهُ لـ ۱۸ ساعة! أرضعته فتحسّن حال المسكين، هدأ صوته وسكن وانتهى الأمر. فأحيانًا يحدث هذا.

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

5
  • تعلّق الرضيع بنفسه مقابل فناء العارف

  • كان [السيد الحداد رضوان الله عليه] يقول: «بمقدار ما يتعلّق هذا [الطفل] الآن، فإنّ هذا يحكي عن أنّه يرى نفسه، ولكن في هذا النطاق المحدود فقط، فقط في نطاق كونه في حضن الأمّ، لا أكثر! فقط في نطاق رضاعة اللبن، لا يريد من أمّه ولا من أبيه أرضًا، لا يريد زوجة، لا يريد طعامًا، لا يريد هاتفًا محمولاً، لا يريد أرجوحة دوّارة، لا يريد سفرًا، ولا نزهة، ولا زوجة وأطفالاً، [لا] تريد زوجًا! لا يريد أّ شيء آخر، لا يريد. فقط يقول: أريد منكِ رضعةَ لبنٍ واحدة، لا تبخلي علينا بها». كان [السيد الحداد رضوان الله عليه] يقول: «عندما أنظر إلى هذا الطفل، أرى أنّني ، لا أتعلّق حتى بهذا المقدار بالنسبة لنفسي ووجودي ». فماذا يعني هذا؟ هل يُمكن أصلاً تصوّر أن يكون الإنسان في وضعيةٍ ما، في حالٍ ما، في موقعٍ ما، بحيث لا يكون لديه تعلّقٌ بالنفس وتعلّقٌ بالوجود بمقدار مثقال ذرّةٍ ، وأن يكون [هذا التعلّق] معدومًا؟

  • لماذا يُساء فهم مقامات العارفين؟ وهل للعلم الظاهريّ حدود؟

  • ثمّ يأتون ويكتبون كتبًا ويكتبون مقالات ويقولون: «إنّ هذا السيد الذي عَدَّ الأفراد في الحافلة ولم يَعُدَّ نفسه من ضمنهم، لابدّ أنّه مجنون»! نعوذ بالله! من يقول مثل هذا الكلام؟ حجّة الإسلام وملاذ الأنام وآية الله ومرجع التقليد! فهل التفتّم! ينشرون مقالات، ينشرون مقالات، ونشروها في كل مكان أيضًا، اذهبوا وانظروا، نشروها بالعربية! فأين ذاك السيد من هذا البائس؟ فما كلّ هذا الكلام أصلاً ماذا يدرك؟ وماذا يعي؟ وقد أطلقنا على أنفسنا أيضًا اسم أهل العلم وأهل الفهم وأهل العقل وأهل الفلسفة، وحسب زعمنا درسنا الفلسفة أيضًا، أمّا كيف درسناها؟ فالله أعلم! يجب أن يُقال لهؤلاء: 

  • ای مگس عرصه سیمرغ نه جولانگه توست***عرض خود می‌بری و زحمت دیگران می‌داری
  • يعني: أيّتها الذبابة، ليس ميدان العنقاء ساحةً لِتَجوَالك تهينين نفسك بهذا وتُتْعِبين الآخرين.۱ 

  • فما هي نتيجة ذلك؟ إهانة النفس وإتعاب الآخرين. أولئك الذين نقلوا هذه المواضيع لديهم عشرة أضعاف معرفتك بالعلوم الظاهريّة ومع ذلك هم ينقلون هذه المواضيع، فلا تظنّ أنّك وحدك وأمثالك فقط من لديكم هذه العلوم! كلا! فهؤلاء الذين يبحثون في هذه المواضيع، لديهم من حيث المعرفة بالعلوم الظاهريّة عشرة أضعاف معرفتك. لقد قالوا هذه الأمور ونقلوا جزءًا يسيرًا منها، نقلوا جزءًا يسيرًا حتى يفهم الآخرون أيضًا أنّه قد تكون وراء هذا الظاهر أخبارٌ أيضًا، ليس فقط هذا الظاهر وحده، وليست المسألة مجرّد هذا المجيء والذهاب، ليست مجرّد هذه الأعلام والرايات وهذه الأمور، قد تكون هناك أشياءٌ أخرى وراء ذلك لدى أُناسٍ غير معروفين، وليسوا في الواجهة، بل في الزوايا والأركان، قلوبٌ طاهرة، قلوبٌ متألّمة، قد يوجد بعض هذه المسائل أيضًا، جاؤوا وبيّنوا لهم هذه المسألة.

    1. مثل فارسيّ مشهور يقرب من معناه بالعربية: رحم الله امرأً عرف حدّه فوقف عنده.

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

6
  • الدرس الأعظم للسالكين: لماذا ننسى موقعنا الحقيقي أمام الله؟

  • فالإمام السجّاد عليه السلام في مثل هذا الموقع الآن، وله مثل هذا الوضع وهذا الحال، فكيف يمكن أن يأتي الإمام عليه السلام ويُبَيِّنَ هذه المواضيع بهذه الكيفيّة؟ لا شأن لنا بالعالَم الذي يعيش فيه الإمام عليه السلام والوضعيّة التي هو فيها؛ أصلاً عقولنا لا تصل إلى أن ندخل في هذه المواضيع...! نعم نحن نُقَدِّمُ من أنفسنا بعض التبريرات التي عرضتها سابقًا أيضًا، وربما تأتي لاحقًا في مناسبتها. ولكن المهم هو أنّ هذه الفقرة تتعلّق بنا نحن الآن، لقد كرّرتُ هذا الأمر للرفاق مرّاتٍ عديدة، ولو لم يكن مهمًّا لما كرّرته بهذا القدر. وأحد أسباب سقوطنا نحن ـ السالكين كما نسمّي أنفسنا الآن ـ هو أنّنا نسينا فقرة الإمام السجّاد هذه، نسينا موقعنا. ألسنتنا، مع كونها عاجزة عن النطق ومع كونها لَكْنَاء، هي أطول من ألف لسانٍ سليمٍ عند الله! هذا هو السبب. وقلوبنا، مع عجزها وهلاكها وخمودها وتعبها وحِمْلِ الذنوب الذي أهلكها وأتعبها وسلب منها القدرة على الطيران، هي في الوقت نفسه ـ والحمد لله ـ لديها من التوقّع والتمنّي والانتظار ما يفوق ألف ضعف قلوب الأنبياء والأئمّة! والمصيبة تبدأ من هنا.

  • الجوهر أم الخزف؟ قصة رؤيا وحديث للإمام الكاظم عليه السلام عن معرفة النفس

  • لو أنّ إنسانًا تذكّر موقعه دائمًا وعَرَفَ وضعه دائمًا، فمن المستبعد أن يتأثّر بالحوادث ويقع فريسةً لمصائب الأحداث والمسائل ووسوسات الخنّاسين وشُبَهِ الأبالسة والشياطين؛ فهو يعلم من هو، ويعلم ما هو وضعه، ويعلم حال نفسه، يعلم حال نفسه. جاء أحدهم وقال لي: «يا سيّد، رأيتُ في المنام أنّك كذا وكذا وكذا و...!» قلتُ: «حسنًا جدًّا، أنت رأيتَ في المنام، أنا لم أرَ في المنام أنّني كذا وكذا وكذا و...! إذا رأيتُ أنا أيضًا مثلك في المنام، فجيّد جدًا، حينها سنكون في خدمتكم ونُقَدِّمُ لكم خالص الودّ، ولكن طالما لم أرَ أنا في المنام، فلتكن تلك رؤياك المباركة لك وحدك.

  • قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لهشام بن الحكم: «يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ [فِي يَدِكَ] لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ».۱ مشكلتنا هناك في القسم الأوّل وليست في القسم الثاني! ذلك الثاني غير معلوم انطباقه علينا، ليس معلومًا وجود مثل هذا الإنسان في أول الدنيا وآخرها إلا في مورد واحد، وهو الأئمّة والأولياء، هم أولئك وختمت ملفاتهم ومضوا، أما نحن فمشمولون لهذا القسم الأوّل، لا ينبغي أن نُعنى كثيرًا بالفقرة الثانية؛ فلو كان في يدنا جوزة وقال كلّ العالَم إنّ في أيدينا لؤلؤة، فماذا ينفع ذلك؟ ماذا ينفع؟ «يا سيّد أنت كذا!» عندما أعلم أنّني لست كذلك، فماذا ينفعني ذلك؟ قولهم هذا ماذا ينفعني؟ «يا سيّد أنت تمتلك تلك المراتب!» عندما أعلم أنّني لا أمتلكها، فما الفائدة؟ ما النتيجة؟ «يا سيّد أنت في المرتبة الفلانية!» تارةً أقول: «نعم نعم، تفضّلوا، الأمر لكم، نعم، نحن لسنا أهلاً، نحن كذا...!» كل هذه الأقوال ما هي؟ كلّها تمثيل ومسرح! كلّها ما هي؟ خِدَاع! لا فرق أبدًا بين أن يقول: «نعم، أنا كذلك» أو يقولها بهذه الطريقة المتواضعة ظاهرًا، بل هذه أسوأ، لماذا؟ لأنّ هذه تخدع أكثر؛ فلو قال: «أنا كذلك»، لقال الطرف الآخر في نفسه: «أوه! كم قالها بسهولة إنّه كذلك، أليس ممكنًا أن يكون كاذبًا؟» ولكن بهذه الطريقة، ماذا؟ يجذب القلب أكثر، فيقول الآخر في نفسه: «يا له من إنسانٍ متواضع! لو لم يكن كذلك لما قال هذا».

    1. بحار الأنوار، ج۱، ص۱٣٦

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

7
  • احذروا التواضع المُزَيَّف: هل كل من نفى الولاية عن نفسه هو وليٌّ حقًا؟!

  • متى قال المرحوم العلامة: «أنا وليّ الله»؟ المرحوم العلامة! إذن بما أنّه لم يقل، فكلّ من يقول: «أنا لست وليّ الله»، فهو إذن وليّ الله! الآن أسألكم واحدًا واحدًا، هل يقول أحدكم عن نفسه: «أنا وليّ الله»؟ كلاّ! إذن كلّكم أولياء الله! بهذا الدليل! اثنان واثنان أربعة؛ فلأنّ المرحوم العلامة لم يكن يقول: «أنا وليّ الله»، فبناءً على ذلك، كلّ من لا يقول: «أنا وليّ الله»، فهو وليّ الله! انظروا! هل يستدلّ حمارٌ بمثل هذا الاستدلال في حظيرته؟ أقول هذا جادًّا! أخبروني أين ذهب الفهم؟ إلى أين نحن ذاهبون؟! وهذا الدماغ... أنا لا أعرف كم يزن؟! ثمانمائة غرام؟! كم؟! كيف تتغيّر خلاياه بهذا الشكل؟! الخلايا المسكينة لم تتغيّر، هذه النفس المسكينة هي التي تغيّرت، بفعل تأثّرها بالمسائل وهذه الأمور، إلى أيّ حالٍ بائسٍ تؤول! عجيبٌ حقًا!

  • أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها: لماذا يُعدّ باب الأئمة عليهم السلام الطريق الوحيد إلى النبي صلّى الله عليه وآله؟

  • أيّها الإخوة، حتّى في زمن الأئمّة، في زمن أمير المؤمنين عليه السلام كانت هذه المشكلة أيضًا، وغير مقبولٍ لدينا أن يسمع إنسانٌ بنفسه من النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَ عَلِيٌّ بَابُهَا» ثمّ يقوم ويذهب إلى أبي بكر! فهل يُعقل هذا أصلاً؟ ولو سمعتم هذا منّي الآن فماذا تقولون؟ ستقولون: ليس لهذا أيُّ محملٍ آخر سوى أنّه أكل تبنًا، لا يوجد تبريرٌ آخر. أن يأتي رسول الله صلّى الله عليه وآله ويقول: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَ عَلِيٌّ بَابُهَا فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِ مِنْ بَابِهَا»، المدينة هي أنا، وبابها عليّ، ومن أراد الوصول إلى هذه المدينة فعليه أن يدخل من الباب، عليه أن يتمكّن من الوصول إلى نَفْسِي وسِرِّي من خلال ولاية عليّ والتمسّك به، لا بأبي هريرة وعمر! لا بالمغيرة وسفيان الثوري واتّباع أبي حنيفة وهؤلاء! لا بالحسن البصري وهؤلاء المحتالين ومنافقي الأمّة وهؤلاء الصوفية والدراويش المخادعين والمُزَيَّفِين الذين جاؤوا وفتحوا مكاتب ومتاجر في مقابل الأئمّة عليهم السلام! كلاّ! بل علينا أن تأتي من نافذة الإمام الرضا عليه السلام حتى نصل إلى سرّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، علينا أن نأتي من نافذة الإمام السجّاد عليه السلام حتى نصل إلى سرّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، وإلا فأولئك يأخذون الإنسان إلى الضلال، يأخذونه إلى طريقٍ آخر، يُوْرِدُونَهُ الهاوية، يُوْرِدُونَهُ المَهَالِك، حتى لو أظهروا للإنسان أمورًا خارقة للعادة، فتلك الأمور تتحقق في الكُدُورَة والنَّفْسِ لا في الواقع.

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

8
  • قصة المجلس العجيب: هل تكفي الخوارق والعلوم الغريبة للوصول إلى الله؟

  • ذات مرّة، دُعيتُ بالإجبار إلى مجلسٍ ما، كان إجبارًا، يعني وُضِعْتُ في موقفٍ حرج، ودُعيتُ إلى مجلس. والذين كانوا في هذا المجلس، كان كلّ واحدٍ منهم شيئًا مهمًّا في نظر نفسه، والحالات التي كانت لديهم، التخصّصات التي كانت لديهم، الفنون التي كانت لديهم، كلّ واحدٍ منهم كان رقمًا ولم يكونوا كفّارًا! كلاّ يا عزيزي! كانوا مؤمنين، كانوا شيعة، كان بينهم أهل فضل وأهل علم، كانوا ذوي خصائص، فهل تلتفتون؟ كانت لديهم ارتباطات، وكانت تُكْشَفُ لهم مسائل، وكانت لديهم [قدرات في] مسائل. من جملة المواضيع التي طُرِحَتْ في تلك الجلسة، المسألة الفلانية التي وردت في الكتاب الفلاني لأحد علماء الرياضيات القدامى قبل ألف عام، العبارة كانت عبارةً مُبْهَمَة ولا تُؤَدّي ذلك المعنى، «والآن لِنَرَ ما هو مقصود هذا العالم الذي كان في زمن أفلاطون، في زمن سقراط، من هذه العبارة التي نقلها؟» في نفس المكان، أحد المرتبطين بتلك المسائل وهذه الأمور، جاء فورًا وأحضر روح ذاك العالم نفسه ووضع الخطّ، وصحّح ذلك، وقال: «مقصودي هو هذا». وهو صحيحٌ أيضًا، ليس كذبًا، فهذه الأمور ليست كذبًا، هو نفسه جاء وأحضر روح ذلك الرجل، ولن أفصّل أكثر؛ لأنّني لا أنوي أن أتحدّث كثيرًا حول هذه المسألة، فقد أحضر روح هذا الرجل. وفي هذه الأثناء، كان أحد أرحام أحد الحاضرين هناك يُعاني من مرضٍ في الكُلْيَة، وكان جميع الأطباء قالوا إنّه يجب أن تُجْرَى له عمليّة، وأنّه مصاب بالسرطان، وإذا لم تُجْرَ العمليّة خلال أسبوعٍ فسيَنْتَقِلُ المرض إلى الكلية الأخرى أيضًا ويُعَطِّلُها، وكانوا قد أعطوه مهلة، وحُجِزَ له موعدٌ في المستشفى أيضًا. فارتبط أحد هؤلاء الحاضرين هناك فورًا بجالينوس الطبيب الذي كان حيًّا قبل ألفٍ ونيفٍ من السنين في زمن عيسى عليه السلام، فأعطى جالينوس وصفةً: «يجب أن يُنْقَعَ النبات الفلاني والنبات الفلاني لمدّة أسبوعٍ صباحًا ومساءً ويُسْقَى له، كوبين يوميًا، ولا حاجة لعمليةٍ ولا لأمثالها وهذه الأمور أيضًا، لا شيء!» أنا لم أعُدْ أعلم ماذا حدث، لم أذهب لأتابع. ولكن بعد أسبوعٍ، وبالصدفة سألتُ، فقالوا: إنّ المريض قد شُفِيَ، والعمليّة وهذه الأمور كلّها ذهبت أدراج الرياح، وهو الآن يمشي في الشارع، ولا يشكو شيئًا. فهذه الأمور موجودة، لا نقول إنّها غير موجودة، هذه الأمور لها واقع، ولكن ماذا؟ عندما خرجتُ من ذلك المجلس، استغرق الأمر حوالي ساعة ونصف أو ساعتين، شعرتُ وكأنّ جبلاً على كتفيّ وعلى رأسي، ولَعَنْتُ نفسي مائة مرّة ـ وهذه القصة حدثت قبل سنوات، ربما قبل عشر أو اثنتي عشرة سنة، ليست الآن، منذ وقت طويل مضى ـ لَعَنْتُ نفسي مائة مرّة: لماذا دخلت أصلاً إلى مثل هذا المكان؟! لماذا دخلت في مثل هذا الشيء؟ حسنًا، لقد ذكرتُ أنّني وُضِعْتُ في موقفٍ حرج، ولم يكن سيّئًا أيضًا، على كلّ حال، كان هذا أيضًا مشهدًا، كان فيلمًا نشاهده، على كلّ حال، كانت هاتان المسألتان من تلك الأمور، وكانت هناك أشياء أخرى أيضًا، ماذا يعني ذلك ماذا؟! يعني أن يأتي الإنسان ويضع مساره في مثل هذه المواضيع ومثل هذه المسائل، ثمّ يصل إلى نتيجة أيضًا؟ وسمعتُ فيما بعد أنّ أحد الأفراد الذين حضروا هناك، قال في المرض الذي توفي فيه: «ليتني لم أقضِ عمري في هذه الأمور، ولم أحرم نفسي من تلك المواهب ذات الدرجات العالية، ولم أستخدم ذلك الاستعداد الذي وهبه الله للوصول إلى تلك المراتب في هذه الأمور التافهة واللغو واللهو!» ـ كان هذا تعبيره ـ هذا كان أقوى من الآخرين، ثمّ توفي وانتقل إلى رحمة الله. انظروا، الإنسان بعد ثمانين عامًا، وهذه الأمور ليست قليلة أيضًا، يعني واحدة من هذه المسائل غير موجودة الآن في الدنيا، واحدة من هذه المسائل غير موجودة الآن في عالم الطب، إذا كانت موجودة فدلّوني عليها، ليست موجودة، الواقع هو هذا. لقد ذكرتُ أنّ الأشياء التي رأيتها هناك، بعضها لا يُمكن قوله، الآن هذه الأشياء التي كانوا يقولونها، كانت أقلّ ما كان موجودًا، وكانت هناك مسائل أخرى أيضًا، ولكن ماذا يعني ذلك؟ كم جلبت هذه المواضيع من نورانيّة للإنسان؟ كم فتحت هذه المسائل الطريق للإنسان؟ كم أظهرت الله؟ كم أظهرت الله؟ كم حصّلت على معرفةٍ بالله؟ متى؟ أن نحلّ المسألة الفلانية، ومن أجلها نذهب ونُحْضِرُ الروح ونأتي بها وكذا وهذه الأمور، فماذا يعني ذلك؟! أو أن نأتي بالدواء الفلاني ونقوم به، لعلّ مصلحة هذا الإنسان كانت تقتضي أن تُجْرَى له العمليّة، من قال إنّ ذلك مطلوب؟

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

9
  • خوارق أم تسليم؟ قصة الحمْل والمشيئة الإلهيّة كمثال لرؤية مدرسة العرفان

  • في مذهب العرفان، ليس الأمر أن يأتوا ويقوموا بعملٍ خارج مجرى المشيئة الإلهية، ليست هذه هي المسألة. في مذهب العرفان ومذهب التوحيد، يستقبلون أحداث المشيئة الإلهية استقبالاً، وهم أنفسهم يتقدّمون لاستقبالها ويقولولن: الآن سيحدث أمر ما.

  • حدثت قبل عدة سنوات قصّةٌ؛ كانت هناك سيدةٌ كريمة قد حملت، وقيل إنّ حملها كذا وكذا، وقال الأطباء: ربما لن يبقى هذا الطفل وكذا. ثمّ جاء أحدهم واقترح اقتراحًا، وبما أنّني كنتُ على عِلْمٍ بهذه القضية وكنتُ مطّلعًا عليها وأنّه لو قاموا بعمل خارق، فسيبقى هذا الطفل، وإلا فسيُسْقَطُ. قلتُ: «لا! لا ينبغي القيام به، ويجب أن تجري الأمور وفقًا للمسار الطبيعيّ والطريق الذي هو أمام الناس وهو التكليف، بالكيفية عينها يجب أن يتمّ الأمر، ويجب أن تمضي المسألة إلى هناك». ومضت القضية، وفي الشهر الرابع أُسْقِطَ الطفل أيضًا، في حين أنّه ربما لو حدثت تلك المسألة غير العادية لربما بقي، نحن لا نعلم. قلتُ: «نظري ورأيي وفهمي للمسألة هو هذا: يجب على الإنسان أن يتحرّك بنفس الكيفيّة التي تقتضيها المشيئة والأحداث المتعارفة». وفي المقابل، كانت هناك حالات أخرى أدّى فيها العمل بالتكليف إلى أن تجري الأمور على نحوٍ آخر.

  • جوهر مذهب العرفان: التسليم لله أم الاعتماد على النفس؟

  • مذهب العرفان يُسَلِّمُ الأمور إلى الله ويأخذها من الإنسان، هذه هي القضيّة. هؤلاء الآخرون يأخذون كلّ الأمور من الله ويُفَوِّضُونَها إلى الإنسان، وإن كانوا يقولون ظاهرًا: «الله»، وإن كانوا يقولون ظاهرًا: «هو»، يقولون ذلك بحسب الظاهر، ولكن في الباطن، الاعتماد على النفس، وفي الباطن، التوجّه إلى النفس، وفي الباطن، إعمال ولاية النفس على العالَم، ولكن في العرفان ليس الأمر كذلك. يقولون: «هو». يومًا يقولون: سر من هذا الجانب، ويومًا يقولون: سر من ذاك الجانب، يومًا يقولون: قِفْ، ويومًا يقولون: اجلس، يومًا يقولون: تحرّك، ويومًا يقولون: توقّف، يومًا يقولون: حارب معاوية، ويومًا يقولون: كُفَّ عن الحرب مع معاوية، كُفَّ. يومًا يقولون: تحرّك، ويومًا يقولون: لا، يومًا يقولون: اذهب واحتجّ لإثبات ولايتك وخلافتك، ويومًا آخر يقولون للناس: لا تتحرّكوا ولا تقتلوا الخليفة الثالث.

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

10
  • كيف تجلّى التسليم في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام السياسية؟

  • نحن في تلك الحالة نذهب ونُخالف، وفي هذه الحالة أيضًا نذهب ونُخالف! هناك عندما يأتون ويقولون: «لا تتخلّوا عنّا، هل نسيتم القضية؟ هل نسيتم غدير خم؟ هل نسيتم وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ لماذا ذهبتم واتّبعتم هذا الرجل؟ لماذا لم تأتوا خلفي؟» لا نعتني ونقول: «لقد صار الأمر كذلك يا علي! تجاوز أنت أيضًا، تجاوز عن حقّك!» وهنا أيضًا عندما يقول: «لا تذهبوا، لا تقتلوا الخليفة، لا تفتحوا باب قتل الخلفاء، لو أصبح هذا الأمر سنّة، فلن يُعلم ماذا سيحدث في المستقبل، أنا أعلم ما وراء الأمر، أنا أعلم أنّ معاوية نفسه الذي عرض قميص عثمان في المسجد الأمويّ على المنبر ـ القميص الملطّخ بالدم ـ هو نفسه كان قد جاء بجيشه حتى اقترب من المدينة ولم يدخلها، ومهما أرسل له عثمان يطلب النجدة قائلاً: "أنت ترى ما يحدث فلماذا لا تأتي؟!" هو لم يأت. التفت عثمان إلى من حوله وقال: «إنّه ينتظر أن يقتلوني ثمّ يقوم للمطالبة بدمي ويذهب لحرب عليّ». لقد توقّع كلّ هذا، جناب عثمان هذا توقّع كلّ هذا، يا لهم من مُحتالين هؤلاء!

  • السياسة الدنيوية: انتهاز الفرص أم خدمة الدين؟

  • أصلاً السياسة تعني هذا، طبعًا السياسة التي هي منفصلة عن الدين لا السياسة التي هي عين الدين، فالدين هو عين السياسة. السياسة التي هي منفصلةٌ عن الدين وتضع الأساس على مبدأ التمحور حول الذات، لا تُفَكِّرُ أبدًا في نجاة أحد، لا تُفَكِّرُ أبدًا في نفع أحد. هي فقط انتهازٌ للفرص والحصول على الفرص، هذه هي سياسة أهل الدنيا. قال عثمان: «إنّه ينتظر هناك ويقف، وعندما يقتلوني، حينها يأخذ قميصي ويأتي ليحارب عليًا». لقد قال كلّ هذا. لم يقبلوا كلام أمير المؤمنين عليه السلام هناك ولا هنا، لم يقبلوا أيًا منهما. ولكن أمير المؤمنين عليه السلام يفعل ما عليه، يقول: «أنا أقول لا تفعلوا، وأنتم تفعلون؟! تفضّلوا اذهبوا، اذهبوا واضربوا واقتلوا وقَطِّعوا إربًا». والآن بعد أن فعلوا: «يا علي، يجب أن تأتي لتكون خليفة». قال عليّ عليه السلام: «اذهبوا وشأنكم! ما معنى "كن خليفة"؟ أيَّ كلامٍ لي أطعتم حتى تريدونني الآن أن أصغي إلى كلامكم؟ أنا لست خادمًا لكم، أنا أتلقّى الأوامر من شخصٍ آخر، ولا أطيع كلامكم». قالوا: «يا عليّ، إمّا أن تأتي وإمّا أن نجعلك خليفة بالقوة!» حسنًا، رأى الإمام عليه السلام أنّه ماذا يفعل! جاؤوا وجلسوا في البيت، عديمو المروءة لا يخرجون من البيت أيضًا! يا قوم انهضوا وامضوا إلى أهلكم ونسائكم وأطفالكم، اتركونا وشأننا، لا أريد أن أكون خليفة! اختاروا لكم خليفة، أنتم الذين أسّستم السقيفة، وتعرفون مكانها أيضًا، هنا في المدينة، تعرفون مكانها أيضًا، انهضوا اذهبوا واصنعوا خليفةً آخر، الخلفاء متوفّرون بكثرة، ماذا سيحدث؟ اذهبوا إلى هناك. فماذا يقولون؟ يقولون: «لا! يكفي الآن، لقد جرّبنا ثلاثة، رأينا ثلاثة أنواع من الناس، لم نعد نستطيع أن نقبل أيّ أحدٍ غيرك». جاؤوا واختاروا أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة، ولكن هل استسلموا؟ هل استسلموا أم لا؟

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

11
  • الطهارة المطلقة في الفعل: لماذا خاف الناس من عدل أمير المؤمنين عليه السلام؟

  • أوّل عملٍ قام به أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «كلّ ما أعطاه أولئك الخلفاء الثلاثة للناس بغير حقّ، سأُعيده كلّه إلى بيت المال». علت الصرخات! قالوا: «يا للأسف! يا للمصيبة! يا له من خطأ ارتكبناه! يا له من خطأ ارتكبناه!» لم يكونوا يعلمون أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في مقام الطهارة المطلقة، لقد نسوا هذا، لم يستقرّ هذا [في أذهانهم]؛ فالدوام على الطهارة المطلقة يعني أنّه لا يحتمل الخداع، لا يحتمل الغشّ، لا يحتمل الكذب، هو الصدق المطلق، هو الصدق المطلق، لا يتكلّم بخطأ.

  • قصة التصويت الكاذب وشهادة جوارحنا علينا يوم القيامة

  • كان أحد الناس يقول: «في جلسةٍ ما، كان من المقرّر أن يتمّ التصويت على قضيةٍ ما، والذين كانوا هناك كانوا معروفين أيضًا، السيد فلان وفلان وفلان، عدّة من المعروفين». قال: «تمّ التصويت، وكان من المفترض أن أُنتَخَب أنا، ولكن لم أُنتَخَب، وانتخبوا رجلاً آخر. المثير للاهتمام هنا هو أنّ رجلاً آخر كان في ذلك المجلس فقال لي: "أنا صوّتُ لك ولكن المسألة ظهرت بهذا الشكل"». جاء من يفهم خطوط اليد وقال له: «فلان لم يُصَوِّتْ لك وكَذَبَ عليك». حينها، كيف يمكن لهذا اللسان أن يدعو الله؟ كيف يمكنه؟ كذبٌ صريحٌ! يقول: «أنا صوّتُ لك» في حين أنّه لم يفعل. حسنًا، في هذه الدنيا قُلِ الكذب، الآن على فرض أنّ الطرف الآخر استطاع قراءة خطّ اليد، ولكن لو لم يكن هناك أحدٌ يستطيع ذلك لكان هذا قد صدّق، أليس كذلك؟ عندما يأتي يوم القيامة ـ ماذا قلنا البارحة؟ ـ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾۱. يأتي اللسان ويقول: «في المجلس الفلاني، أنت الذي كتبتَ ألا يفوز فلانٌ [بالتصويت]، فلماذا استخدمتني للكذب واستعنت بي في كذبك؟» هذا اللسان يخرج بوضوح ويقف أمام الإنسان، يقف. اللسان ليس أكبر من هذا القدر! يقف ويفضح الإنسان فضيحةً تامة بحيث يقف الإنسان هكذا مبهوتًا! «عجبًا! لم أكن أظنّ أنّك ستشهد! ففي النهاية، أنت كنتَ في داخلي، هذا اللسان كان في فمي، كان جزءًا منّي، جزءًا من وجودي، جزءًا! فكيف حدث الآن أنّه يقف ضدّي؟ كيف حدث؟ هذه اليد التي كانت جزءًا منّي وكنتُ أشعر بالملكيّة لها، كنتُ أُحَرِّكُها كيفما أردت، أفعل بها هذا وذاك، أرفعها، كنتُ أمارس نفوذي بيدي، الآن هذه اليد تأتي في يوم القيامة وتقول: هاه! أنت بهذه اليد صفعتَ ذلك المظلوم إثمًا! أنت بي، إثمًا، أمسكتَ القلم ووقّعتَ كذبًا، أنت بهذه اليد جئتَ وكتبتَ شهادة زورٍ وكذب، أنت بهذه اليد جئتَ ووقّعتَ على الحكم الباطل! هاه! اعلم! لقد دوّنتُ كلّ ذلك هنا في جميع خلايا هذه اليد». دوّنتُ كلّ شيء، حتى لو أردتَ أن تقول: «لا»، يقول اللسان أو اليد: «انظر! انظر! انظر في أيّ وضعٍ أنت؟» أمير المؤمنين عليه السلام لديه الطهارة المطلقة، ونحن لدينا هذا الوضع؛ ألسنتنا تتحرّك بالباطل، أيدينا تتحرّك بالباطل، كلّ هذه الأعضاء تتحرّك بالباطل، فمع هذا الوضع، ماذا يجب أن نفعل؟ أيّ علاجٍ يجب أن نُفَكِّرَ فيه لهذه المسألة؟

    1. سورة النور (٢٤) الآية ٢٤

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

12
  • شهادة الأعضاء: تجلّي "الحقيقة الربطيّة" وانقطاع الحُجج

  • إنّ الحقيقة الربطية الموجودة بين أجزاء العالَم ومبدأ الوجود، تلك الحقيقة الربطية تأتي يوم القيامة وتشهد، تلك الحقيقة الربطية تأتي وتُبَيِّنُ الحقائق وتُوَضِّحُها. تأتي وتقول إنّ الواقع هو هذا. هناك لا نستطيع أن تكون لنا سيطرة: ﴿هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ﴾۱. آية القرآن تقول: «هذا يومٌ لا يستطيع أحدٌ أن ينطق فيه» ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾٢ أصلاً لا يُؤذن لهم حتى يعتذروا. هذا المقام هو مقام ماذا؟ مقامٌ وراء هذا.

  • كنّا مستضعفين في الأرض: هل يُقبل عذر الجهل والتقصير يوم القيامة؟

  • حتى أنّهم ما إن يريدوا أن يتكلّموا، حتى أنّهم ما إن يريدوا أن يقولوا: إنّنا لم نفعل شيئًا، لم نفعل شيئًا. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾٣. أولئك الذين ظلموا، أولئك الذين تجرّؤوا على أنفسهم في هذه الدنيا، أولئك الذين أنفقوا رأس مالهم في طريق الباطل، أولئك الذين قضوا ليلهم ونهارهم في طريق الهوى والشهوة وفي طريق الأمور التافهة، عندما يأتي يوم القيامة يُقال لهم: «أين كنتم؟ لماذا لم تذهبوا لطلب المعرفة؟ لطلب الكمال؟ لماذا لم تذهبوا لطلب العلم؟ كم أريناكم! كم بَيَّنَّا لكم! لماذا لم تذهبوا؟«

  • الاستضعاف المعاصر: هل يكفي الاقتصار على قناة واحدة أو شيخ واحد؟

  • ﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ كنّا في مكانٍ لا يقولون لنا إلا هذه الأقوال، كنّا في مكانٍ لا يخبروننا إلا بهذه المواضيع، كنّا فقط نفتح مفتاح الراديو وكلّ ما يقوله الراديو نستمع إليه، كنّا فقط نفتح مفتاح التلفاز، وكلّ ما تقوله القناة الفلانيّة لنا كنّا نستمع إليه، كنّا فقط نفتح عقولنا لكلّ ما يقوله فلان ونعمل به، كنّا فقط نذهب إلى المكان الفلاني، والمسجد الفلاني، ولا نذهب إلى المساجد الأخرى! فيُقال لهم: «فهل كنتم عُرْجًا؟ هل كنتم مُقعَدين؟ فقط كنتم تفتحون هذا المفتاح؟ كان عليكم أن تفتحوا هذا المفتاح الآخر أيضًا! فقط كنتم تُشغّلون هذا الجهاز؟ كان عليكم أن تُشغِّلوا الذي بجانبه أيضًا! فقط كنتم تذهبون إلى هذا المجلس؟ كان عليكم أن تذهبوا إلى مجلسٍ آخر أيضًا! وإلى مجلسٍ آخر أيضًا لتسمعوا كلامًا آخر، وتدرسوا المسألة بجميع جوانبها. «

    1. سورة المرسلات (۷۷) الآية ٣٥
    2. سورة المرسلات (۷۷) الآية ٣٦
    3. سورة النساء (٤) الآية ٩۷

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

13
  • الهجرة في سبيل الدنيا أم الدين؟ مقارنة بين دار الكفر ودار الإسلام

  • ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ «يا سيّد، زوجتي وأطفالي أخذوني إلى الخارج، أمريكا وأوروبا وهذه الأماكن، نحن بأنفسنا لم نكن نريد أن نذهب!» هل كنتَ أعرج؟ هل قيّدوك؟ كان عليك أن تقف وتقول: «لن نأتي». لماذا هاجرتَ إلى دار الكفر؟! لماذا خرجتَ من دار الإسلام؟! لأجل ماذا؟ لأجل الزخارف البرَّاقة وأمثال ذلك؟! ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً﴾ «يا سيّد، ذهبنا من أجل المال، هناك كان يوجد مال!» هل كنتَ نائمًا في مَجْرَى السيل؟ كان عليك أن تنهض وتذهب إلى مدينةٍ أخرى، وتعمل عملاً آخر، وتُمارس تجارةً أخرى، هل يجب حتمًا أن تذهب إلى أمريكا حتى تكسب المال؟ هل يجب حتمًا أن تذهب إلى أوروبا حتّى تكسب المال؟ لتذهب وتُضَيِّعَ دينك ورأس مالك وإيمانك واستعدادك، وتمضي أيّامك وحياتك في أيّة بيئة؟ في بيئة شرب الخمر، في بيئة الفساد، في بيئة الفسق والفجور، في بيئةٍ لا يوجد فيها أصلاً لا صوت أذانٍ ولا إمامٍ ولا نبيٍّ ولا شيء! الكلّ يتبع الشهوة والكلّ يتبع الدنيا، فهل هذه حياة؟ أم أنّك تنهض وتأتي إلى مدينتك، وعندما يحين الظهر يرتفع صوت «أشهد أن لا إله إلا الله» و «أشهد أن محمدًا رسول الله» و صوت «أشهد أن عليًّا وليّ الله» من المآذن، فتذهب إلى المساجد فتتغيّر حالتك النفسيّة، ذلك الجوّ الذي يسود المدينة بفضل نفوس المؤمنين، أيّ علاقةٍ له بتلك المدينة التي تجمّعت فيها حفنةٌ من الراقصات والأفلام والمسارح والأوباش وما شابه؟ والآن، لديه بنايتان سكنيتان أيضًا، ولديه بعض الزخارف البرّاقة أيضًا، فبأيّ جزءٍ من الإنسان يرتبط هذا أيّها المسكين؟ أيّها المسكين لأجل ماذا؟ ماذا أخذوا منك هنا حتى تنهض وتذهب إلى هناك؟ هل هؤلاء الموجودون هنا لا يتنفّسون؟ هل ماتوا؟ هل هؤلاء الموجودون هنا ينامون في الشارع؟ هل هؤلاء الموجودون هنا...؟ حتى لو نمتَ في الشارع فهو أفضل من أن تنهض وتذهب إلى هناك [وتسكن] في قصر! [هذا] أفضل. حسنًا، في كثيرٍ من الأحيان يمكن للإنسان أن ينام في الشارع أيضًا، حسنًا فلينم، هل في ذلك عيب؟ هل في ذلك عيب أن ينام الإنسان في الشارع؟

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

14
  • قصة الحج البسيط: هل السعادة في القصور أم في البساطة والقرب من الله؟

  • قبل عامين، وُفِّقنا لرحلةٍ، كانت خاصّة، كنّا مع ثلاثة أو أربعة من الأصدقاء، وتشرّفنا بالحجّ. وفي أيام مِنى وعرفات تحرّكنا وأحرمنا وذهبنا إلى مِنى، فنحن لم نذهب ليلة التاسع إلى عرفات، فليلة التاسع يُستحبّ أن يكون الإنسان في مِنى لا في عرفات، ويذهب نهارًا إلى عرفات، وأهل السنّة يذهبون ليلاً إلى مِنى والحقّ معهم. ذهبنا إلى هناك، ثمّ ذهبنا صباحًا إلى عرفات، كنّا هناك ظهرًا، وعدنا ليلاً مشيًا، كلّ هذا كنّا نذهب إليه مشيًا. نحن في هذه الأربعة أو الخمسة أيام التي كنّا فيها، لم يدخل رأسنا تحت خيمةٍ أصلاً، كنّا ننام مع هؤلاء الناس، ونستيقظ مع هؤلاء الناس، لم يكن معلومًا أصلاً أين نحن؟ هل نحن على الأرض؟ في السماء؟ أين؟ أصلاً في أيّ شيءٍ نحن؟ وكنّا مسرورين جدًا أيضًا، ولم يحدث شيءٌ أبدًا! لا شيء! لم يحدث شيءٌ أبدًا! كأنّ شيئًا لم يكن. ليس لأنّه لم يكن [مكان]، كانوا يقولون: «المكان الفلاني، المكان الفلاني»، قلنا: «لا يا عزيزي! سننام هنا». كانوا يفرشون لنا أغطية، وكنا مع بعض الرفاق ننام هناك ليلاً، وكان بجانبنا واحدٌ أسود وواحدٌ أبيض وواحدٌ أصفر وأحمر وكلّ من شاء كان يأتي ويذهب، والخلاصة أنّه مضى الأمر. ومن الجانب الآخر، كانت هناك قصورٌ في نفس المكان تبدو للعيان، كان الضيوف والأمراء والأشراف وغيرهم يأتون وكانوا هناك، وكانوا يُستقبلون باستقبالاتٍ خاصةٍ وهذه الأمور، استقبالاتٍ ملوكية، هم أيضًا...! لم يتّضح لنا في النهاية هل كانوا هم أسعد أم نحن كنّا أسعد؟! الخلاصة، لم تتّضح لنا القضية كثيرًا.

  • نداء من العرش أم انشغال بالحديد والزخرف؟ كيف نبيع الكيمياء بالخزف الرخيص؟

  • أن ينادى الإنسان من العرش، كما قال الشاعر: 

  • ندانمت که در این جایگه چه افتاده است***تو را ز کنگره عرش می‌کنند صفیر
  • أي: لا أعلم ماذا حلّ بك في هذا المكان *** إنّهم يصفرون لك ويدعونك من شُرُفات العرش.

  • من ذلك المكان الذي لا وجود للعقل فيه أصلاً، يأتي الإنسان ليرى أنّ هذا مبنى، وذلك المصباح نوره [قوي]، وتلك المروحة، وذلك الجزء، وذلك الشيء الفلاني وهذه الأمور، ينسى كلّ هذه [المعاني السامية]، ويُقَيِّدُ نفسه بحفنةٍ من قطع الحديد وحفنةٍ من الزخرف والبريق وهذه الأمور، ما هذا؟ هذا هو الخسارة والضياع، وبيع الكيمياء بالخَزَف الرخيص! الكيمياء وليس الذهب! فالذهب ليس شيئًا! الكيمياء والإكسير، ذلك الذي يضعه الإنسان فيُحَوِّلُ المعدن الرخيص إلى ذهب.

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

15
  • قصة الشيخ البهائي وصانع البراذع: حين تتفوق الروحانية على الكيمياء!

  • للشيخ البهائي رحمه الله ضريح في مشهد، وبينما كنّا ذات مرّةٍ في زيارته هناك روى لنا المرحوم العلامة  هذه القصّة، وكنّا صغارًا حينها. 

  • كان الشيخ البهائي رحمه الله يمرّ في مشهد، وصل إلى مكانٍ فرأى رجلاً ـ وهناك الآن قبر "بير پالان دوز"۱ وله قبّة وضريح ـ رأى شيخًا كبيرًا جالسًا ويضرب هذه الأحذية وهذه الأشياء، وسِنْدَانُهُ بين يديه، يَدُقُّ مسمارًا ويمارس مهنته، فأشفق قلبه لحاله، فتقدّم وأراد أن يتلطّف به، فقرأ وِرْدًا وقرأ ذِكْرًا، وضرب بيده على المطرقة التي كان يضرب بها ويُصلح بها الأحذية وغيرها ويُسَوِّيها، وفجأةً تحوّلت المطرقة إلى ذهب! ذهب! أحد أنواع وأقسام الكيمياء هو هذا، والآن أيضًا ربما كانت هذه الأمور موجودة بشكلٍ أو بآخر. والمرحوم الشيخ عباس القوجاني رحمه الله نفسه كان يقول: «إنّني في نفس الوقت الذي كنتُ فيه بالنجف عند المرحوم القاضي رضوان الله عليه، رأيتُ بنفسي درويشًا كان قد جاء وتوسّل في صحن أمير المؤمنين عليه السلام وبقي هناك أربعين يومًا، وبعد ذلك وصل بنفسه إلى تلك الحالة؛ وهي أنّه كان إذا لمس شيئًا معدنيًّا ـ أيًا كان، ليس فقط النحاس وهذه الأمور ـ كان يتحوّل إلى ذهب». قال الشيخ عباس: «أنا بنفسي رأيتُ هذا»، كان يروي ذلك للمرحوم العلامة.

  • من أعطانا أعلى ممن أعطاك: مراتب الأولياء تفوق خوارق العادات

  • فضرب الشيخ البهائي رحمه الله بيده على المطرقة فتحوّلت ذهبًا، فنظر إليه الشيخ الكبير صانع البراذع وقال له: «ما هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبته؟ ما هذا الخطأ الفادح...؟!» فقال الشيخ البهائيّ في نفسه: «ماذا يقول لي؟! لقد حوّلتُ مطرقته ذهبًا، فهل هذا هو شكره؟! كان ينبغي أن يفرح ويذهب ليقضي بقيّة عمره ويستمتع به!» وهو يقول: «ما هذه الأغلاط التي فعلتها؟» ثمّ قال الشيخ الكبير: «أَعِدْها كما كانت!» ولكنّ الشيخ البهائيّ رحمه الله لم يعد يستطيع إعادتها، كان يستطيع فقط تحويلها ذهبًا. بعد ذلك، نظر الشيخ بنفسه نظرة إلى المطرقة فعادت كما كانت! ثمّ قال: «اذهب، اذهب، إنّ الذين أعطونا هم أعلى مرتبةً من أولئك الذين أعطوك!» الخلاصة، حصل له هناك حالة من التنبّه والالتفات، ومنذ ذلك الحين أصبح من تلامذة ذلك الشيخ الكبير وأخذ منه حقائق واستفاد منه. فانظر، لقد وصل إلى هذه المرحلة من القدرة على تحويل المعدن ذهبًا ولكنّه يرى أنّ هناك ما هو أعلى أيضًا. فهذا الشيخ الكبير يعمل بالمطرقة والسندان والمسمار والإبرة وأمثال ذلك ويخيط الأحذية، ولكنّك لا تعلم أين هي نفسه؟ أنت ترى هذا العمل الظاهري وهذا الشيخ الكبير أصلاً لا يستطيع أن يتخلّى عن هذا المستوى الذي هو فيه، أصلاً لا يستطيع أن يتخلّى. الذهب؟! ما هو الذهب؟! هل حوّلتَ لي السندان ذهبًا؟! فلو نظرتُ أنا نظرةً لحوّلتُ الكرة الأرضيّة ذهبًا، وأنت تُعطيني سندانًا من ذهب؟ إنّني بنظرتي أُحَوِّلُ الكرة الأرضيّة ذهبًا، فماذا تقول؟ إن كنتَ تستطيع فافعل! إن كنتَ تستطيع فافعل!

    1. پیرپالان دوز: اسم صانع بَرَاذِع الدوابّ بالفارسيّة، وهو عارف مشهور مدفون في مشهد.

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

16
  • قصة عين العارف والمشيئة الإلهيّة: التسليم يسبق الكرامة

  • نحن في زمن المرحوم العلامة كنّا نرى أمثال هذه المسائل، يعني قضايا كان فيها مثلاً ضغطٌ ما، ضائقةٌ ما، أمرٌ ما، كان على وشك الحدوث، ثمّ مثلاً، كان يحدث بطريقةٍ ما، مثلاً أن يدعو أحدٌ أو يفعل أحدٌ شيئًا، كنّا نرى أنّ المرحوم العلامة يأتي مباشرةً ويقف بوجه القضيّة، «من أعطاك الحقّ لتقوم بهذا العمل؟! من قال لك؟! فاذهب وشأنك! هذه المسألة ستحدث بهذا الشكل وهذا الشكل وهذا الشكل». أنا بنفسي كنتُ مطّلعًا على قضيةٍ سأرويها للرفقاء ـ هل مرّت ساعة؟ مضى على مرورها خمس دقائق! حسنًا، سأقول هذه القضية تاركًا بقيّة الكلام لمجلسٍ آخر ـ لقد أُصيب المرحوم العلامة بمرضٍ في العين ـ لم أقُلْ هذا حتّى الآن ـ أُصيب بمرضٍ في العين، وأصابها تمزّقٌ في الشبكيّة والغشاء وهذه المواضع، وكان من المقرّر أن تُجرى له عمليّة، فجاؤوا إلى طهران، وكان هناك أُناسٌ مختلفون يُبدون آراءً مختلفة، أحدهم يقول: «يا سيّد، يمكن إجراء العمليّة هنا»، وآخر يقول: «لا يمكن». حتى أنّنا ذهبنا مرّة إلى مكانٍ ما، فقال أحد الأطباء: «يا سيّد، بالنسبة لكم، حيث نعلم أنّ الإمكانية متوفّرة لكم، اذهبوا أصلاً إلى الخارج»، هو نفسه صرّح وقال: «اذهبوا إلى الخارج و...» أولئك الأفراد الذين كانوا معنا وكانوا، كما يُصطلح، يتابعون مسألته هذه، ذهبوا وتابعوا هذه القضيّة، ذهبوا وتابعوا هذه المسألة. بعض الذين كانت لديهم حالات حينها وكانت لديهم خوارق، وربّما كانوا يتمتّعون ببعض القدرات في بعض المسائل، فتأثّروا جدًّا وجاؤوا ليشفوا عينه بطريقة غير عاديّة. كنتُ في خدمته في السيارة ونحن ذاهبون، فقال لي: «فلان! لقد شُفِيَتْ عيني». قلتُ: «آه، عجبًا!» قال: «إنّني أرى كلّ شيء». أدركتُ أنّ القضيّة تنبع من مكانٍ آخر. قال: «إنّني أرى كلّ شيء ولا توجد أيّة مشكلة». قال لي هذا الكلام، فنظرتُ إليهم وابتسمتُ، هذا فقط، نظرتُ واستغربتُ، حسنًا، هذا عجيبٌ جدًّا. بعد دقيقتين قال: «آه، لقد زال الشفاء، وعادت العين كما كانت سابقًا». والآن لم يقل إنّني أنا من فعل ذلك أي أعدتُ المرض، هذا لم يقله بعد. أنا لم أضحك حينها، عفوًا، عندما قال: «آه، لقد عادت»، قلتُ في نفسي: إنّ القضية تغيّرت، وابتسم.

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

17
  • تفاصيل الابتلاء والرضا: قبول العمليّة الصعبة كجزء من المسير

  • انظروا، هناك شخصٌ ما يقوم بعملٍ ويُلصق غشاء العين الشبكيّة الذي انقلب نصفه، في مكانه، حسنًا، كيف يمكن حلّ هذا من الناحية الطبيّة وأن يعود الغشاء الذي سقط ويستقرّ في مكانه ولا يحدث أيّ شيءٍ آخر؟ بعد دقيقتين، فجأةً تنقلب القضيّة، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ الله تعالى قد قدّر لي العمليّة ويجب أن تُجرى هذه العمليّة، يجب أن أذهب إلى المستشفى وأنام على السرير وأخضع للمِبْضَعِ، ويُجروا لي العمليّة، وتستغرق العملية خمس ساعات، والمسائل الأخرى، وصعوبات ما بعد العملية ـ كان عليه أن يبقى لمدة أسبوعٍ نائمًا على وجهه، لا على ظهره، كان يجب أن ينام على وجهه لمدّة أسبوع ـ وكان نائمًا على وجهه حتى تُمتَصَّ الفقاعة التي وضعوها داخل عينه شيئًا فشيئًا، وتضغط على المكان الذي ألصقوه وهذه الأمور، ويؤدّي ذلك إلى أن يكون الالتئام اللاحق بهذه الطريقة. وكذا المراجعات التالية، فكان يأتي كلّ شهرٍ مرّةً إلى طهران، ثمّ يأتي الماء الأبيض، ثمّ يجري عمليّة الماء الأبيض مرّة أخرى فوق ذلك...؛ لأنّ أحد آثار قضية انفصال الشبكية (décollement) هو الماء الأبيض (cataract)، فهي تتحوّل بعد مدّة إلى ماءٍ أبيض، فحوالي سبعين أو ثمانين بالمائة من الحالات تتحوّل إلى ماء أبيض. فيُجرون العمليّة مرّة أخرى، وتستمرّ هذه المسألة هكذا حتّى آخر العمر. ولكن يجب أن تكون، يجب أن تكون هذه القضيّة، نعم، في بعض الأوقات أيضًا تتعلّق مشيئة الله بنحوٍ آخر، حسنًا، هذا أمر آخر.

  • ما هو جوهر مدرسة العرفان والتوحيد؟ ولمَ تفوق لذة معرفة الله كل شيء؟

  • هذا الطريق، هذه المدرسة، هي مدرسة العرفان. مدرسة العرفان والتوحيد هي هذه؛ تُبَيِّنُ وضع الإنسان وموقعه، وتُلْفِتُ الإنسان إلى حقيقةٍ أزليّةٍ لا تزول، تلك الحقيقة التي إدراكُ قليلٍ من كثير منها يُعادلُ الاستيلاء على عالَم الوجود في الدنيا والآخرة، قليلٌ من كثير منها لو أعطي للإنسان، لما بدّله الإنسان بأيّ شيءٍ في هذا العالَم. حسنًا، لقد مضى الوقت، إن شاء الله تتمّة الكلام للجلسة القادمة. إن شاء الله

موقع الإنسان من الله وفقره إليه - حدود خوارق العادات عند العرفاء

18
  •  

  • اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.