المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعزّة والعلو
التاريخ 1426/03/07
التوضيح
هل طلب العزّة والمكانة الاجتماعيّة أمر مشروع؟
ما هي ضوابط التصدّي للأمور الاجتماعيّة؟ وهل على الإنسان أن يكون كالشمع يحترق ليضيء للآخرين؟
هل يمكن أن يستغلّ الشيطان أمثال تلك العناوين ليرسخ في قلب المؤمن؟
هل يجوز التصدّي للأمور الاجتماعيّة من دون تشخيص الخبير لقدرات النفس؟
كيف كانت رؤية ولاة أمير المؤمنين إلى الحكم؟
كيف كانت عزّة الإمام الحسين عليه السلام؟
تعالج هذه المحاضرة هذه الأسئلة وغيرها ضمن شرح فقرة ولا يطلب ما عند الناس عزًّا وعلوًّا من حديث عنوان البصريّ.
هو العليم
ضوابط وشروط التصدّي للمسؤوليّات الاجتماعيّة
شرح حديث عنوان البصري- المحاضرة ۱۱٤
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
ما معنى أن لا يطلب ما عند الناس عزًّا وعلوًّا؟
قال الإمام الصادق عليه السلام في حديثه الشريف مع عنوان البصريّ: ولا يطلب ما عند الناس عزًّا وعلوًّا. فيجب أن لا يكون سالك طريق الله ناظرًا في طلبه وإرادته إلى ما في أيدي الناس من جانب العزّة والعلوّ فيه، فلا يطلب ما يطلبه الناس ولا يسعى إلى ما يحوزونه لأجل قيمته الاجتماعيّة.
السالك لا يطلب المكانة الاجتماعيّة ولو بالوسائل المحلّلة
فلو كان لإنسان ما مكانة وموقع فالسالك لا يتحسّر أن ليت لي مثل هذه المكانة، ولو كان لديه مال، فهو لا يتأسّف أن ليت مالي ومنالي بمقدار ماله ومناله. أو لو كان محبوبًا في المجتمع لسبب من الأسباب دنيويّ أو أخرويّ، فلا يرجو أن تكون له أيضًا هذه المحبّة وأن يهتمّ به الناس.
الإمام عليه السلام يقول إنّ السالك لن يفعل ذلك، وهذا العمل مضرّ به، وليس فقط لا ينفعه، بل يُضِيْعُ عمرَه الذي جعله الله للوصول إلى الكمالات، ويُتلِفُ عمره على أمل الوصول إلى هذه الأهداف الفارغة والاعتبارات، وإذا ما غادر الدنيا فلن يكون في يده شيء.
تقدّمت بعض الأمور حول هذه الفقرة إن كان الأصدقاء يتذكّرون. فقد قلنا إنّ الكلام ليس عن الأمور المحرّمة كأن يصل إنسان ما إلى المال والمنال في الدنيا عن طريق الحرام ومخالفة الشرع، فهذا لا بحث فيه بالطبع. أن يصل إنسان ما إلى موقع اجتماعيّ عن طريق الخدعة والمكر والكذب، فهذا لا بحث فيه حتمًا، ولا علاقة له بالسالك ولا بغيره. أن يصل إنسان عن طريق السرقة والاختلاس والكذب إلى مال ويجمع مالاً، يحصّل ثروة بأخذ الرشوة من الناس، فهذا الإنسان لا كلام فيه أصلاً حتّى يطلب المؤمن أن يعطيه الله هذه المكانة، وأن يصل إليها بالسرقة وبالرشوة وبالخداع والكذب، فهذا ليس بحث الإمام الصادق وهو خارج عن محلّ الكلام.
الإمام عليه السلام يقول: ما جعله الله بين أيدي الناس [فينبغي للسالك أن لا ينظر إلى جانب العزّة والعلوّ منه] فمثلاً لو كان لدى إنسان ما علم كثير، وبالطبع صار محطّ اهتمام الناس بسبب كثرة علمه، أو لو كان هناك إنسان صاحب موقع اجتماعيّ وعلاقات وبسبب ذلك صار موضع مراجعة للنّاس، طبيب يراجعه الناس لحذاقته في طبّه، مسؤول يراجعه الناس لخصوصيّة مسؤوليّته ويحتاجون إليه، فيريد الإنسان أيضًا ذلك لا من طريق الباطل، فهو محرّم، فأن يصل الإنسان إلى كلّ ما يشاهده في مختلف المراتب والطبقات بأي نحو وبأيّة وسيلة فهذا من الواضح أنّه حرام. والناس لا يبالون بالحلال والحرام، والإمام عليه السلام يدع هذا البحث جانبًا ولا يتعرّض له أصلاً.
كلاّ! بل يريد من الله أن يحصل على مكانة كهذه عن طريق صحيح، أن يحصّل علمًا ينال بإظهاره اهتمام الناس، فهل هذا قبيح؟! أن يحصّل مالاً وبواسطة إنفاقه وصرفه بالنحو الصحيح يصبح محطّ اهتمام الناس، فهذا لا إشكال فيه! أن يصل إلى مسؤوليّة يرفع بها حوائج الناس، يصبح وزيرًا يصبح نائبًا يصبح رئيسًا، يصبح مديرًا، وبواسطة الوصول إلى هذا المنصب يمكن أن يرفع حاجة، فهل في هذا مشكلة؟! هل فيه مانع؟ فلماذا يريد الإنسان هذه المسؤوليّة؟ هناك نظام صحيح ونظام عادل ومسؤوليّة لرفع حوائج المحرومين لا لإيصال المنافع لطبقة خاصّة من المجتمع، فهذا ليس نظامًا عادلاً، نظام ظلم. حسنًا فلو أنّ إنسانًا يريد أن يكون مديرًا، أن ينال منصبًا يرفع به حوائج الناس، وكما يقال ما المشكلة في أن يكون هناك أمثال عليّ بن يقطين يسعون في حوائج المحرومين رغم كونهم في نظام حكومة الظلم.
هل على السالك أن يكون كالشمع يحترق ليضيء لغيره؟
حسنًا فقد وصلنا إلى هنا ونحن في وضع كهذا، فماذا على السالك والذي يريد أن يكون كما يريد الإمام لا كسائر الناس أن يصنع؟ لو بيّنا هذه الأمور لعامّة الناس لربّما هزئوا بنا وضحكوا، وقالوا: ما هذا الكلام الذي تقوله؟! على الإنسان أن يخدم الناس، أن يكون ناشطًا، أن يبذل الجهد، أن يكون في خدمة الناس، أن يكون كالشمع يحترق ليضيء المحافل وأمثال هذه التعابير والكلمات التي تتمسّك بها كلّ فئة لنشاطاتها وأعمالها كأفضل تبرير وأفضل تأويل. وربّما كانوا صادقين في قيامهم بهذا العمل، فهناك من هم كذلك وأنا بنفسي أعرِف بعضهم، رغم تصدّيهم لمنصب ما فإنّهم صادقون ويخدمون الناس وتصوّرهم عن هذا الأمر هو أنّ تكليف إلهيّ وتحقيق لرضا الله هو في هذا المنصب وأنّه يجب أن يقوم بعمل ما. وحالتهم أنّهم إذا أخذ منهم هذا المنصب فإنّهم يرون أنّ عمرهم قد ضاع باطلاً.
كنت يومًا أتحدّث مع أحد هؤلاء من المعارف والأقرباء، وأردت أن ألفت نظرة إلى نقطة دقيقة ولطيفة وأحثّه على التفكير، فقلت: هذا العمل الذي تقوم به لأجل من تقوم به؟
فقال: واضح أنّي أقوم به لأجل الله.
فقلت: حسنًا! فإذن لا كلام لنا حول هذا، العمل لأجل الله مائة بالمائة، ولا دخالة للنفس فيه. ثمّ قلت: لو صدر الآن قرار كما هو متعارف وقالوا لك فيه: نحن نشكر جهودك وأتعابك ونشكرك ونوكل هذه المسؤوليّة إلى غيرك، فتفضّل أنت إلى منزلك، واسترح من الآن فصاعدًا وإلى آخر عمرك، فكيف ترى نفسك أمام ذلك؟ كيف تقيّمها؟
حاول أن يقدّم لي جوابًا، فقلت له: لا تجبني! اجلس وفكّر! لا أريد أن تجيبني. وما إن سمع ذلك حتّى غاص في التفكير ولم يعد يتكلّم وأدرك الأمر. فعندما نقول للّه، فكم هي نسبة كونه للّه؟
هذا هو الأمر الذي نحن كافّة مبتلون به، وعلينا جميعًا أن نلتفت إليه. يريد الإمام الصادق بهذه العبارة أن يلفتنا إلى أنّه إذا أردتم أن تصلوا إلى مقام العبوديّة فأعيدوا النظر في نفوسكم وقيّموا أعمالكم بهذه الأمور، وانظروا ما سولّته لك أنفسكم: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا}۱ وزيّنته وشذّبته. عليك أن تفكّر في نفسك وترى كم هي نسبة الإخلاص وكم هناك زوائد أضيفت.
كيف يدخل الشيطان إلى قلب المؤمن؟
فهناك أمر دقيق جدًّا هنا وأنا سأذكره كسرّ من الأسرار، وليحتفظ به الجميع، وهو أنّ الشيطان يبحث عن طريق لأجل الرسوخ في قلب المؤمن يكون فيه صبغة إلهيّة. فللرسوخ في قلب المؤمن فلا يمكن أن يتوسّل بالقمار والشطرنج وشرب الخمر والسرقة، فيأتي إلى الجوانب الإلهيّة لعمل المؤمن ويبرز عمله للمؤمن بالنحو الذي يريده هو، ويمنعه عن المسألة الأهمّ التي هي الاهتمام بالنفس.
تأسّف السيّد القاضي على نجاح أحد تلامذته في نشاطه العام
ذهب أحد تلامذة المرحوم القاضي إلى تبريز فأعطاه بعض البرامج، فذهب إلى هناك واشتغل بأمور الناس والوعظ والخطابة، مرّ على ذلك سنة، وجاء واحد من أصدقائه من تبريز لزيارة العتبات المقدّسة وجاء لزيارة السيّد القاضي رحمة الله عليه، فسأله أن كيف أحوال فلان؟ فقال: الحمد لله عمله جيّد وقد اهتمّ به الناس كثيرًا، ومسجده ممتلئ ومنبره كذا، وخطابته بهذا النحو وهو محطّ اهتمام الناس، فانزعج السيّد القاضي كثيرًا وتأسّف وضرب بيد على أخرى مرّتين وقال: عجيب! عجيب! عجيب! فرغم أنّ الحديث لا مشكلة فيه والخطابة لا مشكلة فيها، والعمل لا مشكلة فيه. وإن شاء الله إذا سمح الوقت سنتحدّث عن هذا الأمر. ولكنّ الكلام هو في أنّ هذا الذي يتحدّث إلى النّاس، فإنّه لن يتحدّث لهم [بشكل إيجابيّ] عن القمار والشراب والخمر والورق، بل سيتحدّث عن الله والنبيّ والصدق والصفاء والأمانة، ورعاية الموازين والعمل بالأخلاق والأمور التي تساعد على التربية والتزكية، فهذا الجانب من المسألة صحيح ولا إشكال فيه، ولكنّ الكلام هو أنّ الجانب الآخر أيضًا لا بدّ من النظر إليه وأنّه إلى أيّ حدّ مطابق للموازين، لا كلام ولا إشكال في كون الناس يأتون ويستمعون ويعملون ويلتفتون إلى الأمور، ولكنّ المهمّ هو أنّ الانشغال بهذا الأمر كم هو نافع أو مضرّ لهذا الإنسان؟! فهل إبلاغ المعارف وتبليغ المسائل من قبل كلّ إنسان وبأيّ نحو هو أمر مُجازٌ؟ أم أنّ للنّاس حدودًا في دوائر تكاليفهم وسعتهم وقدراتهم؟
لماذا لم يُبعث النبيّ قبل مروره بكلّ تلك الحالات؟
لماذا لم يتكلّم رسول الله بهذه الأمور وهذه المسائل إلى الناس حتّى سنّ الأربعين ولم يقم بتلك الأعمال التي كان يقوم بها؟! لماذا لم يتكلّم بها إلى الناس؟ لماذا يجب أن تنقضي هذه المدّة ويمرّ ذلك النبيّ بتلك الحالات المختلفة ويشهد حالات مختلفة ويعيش في المدينة ويتعامل مع المشركين، ويقضي الأسابيع على الجبل وفي الغار ولا يتواصل مع أحد، فلمّا مضت أربعون سنة من عمره جاءت ملائكة الوحي بحكم التبليغ والتكليف بالرسالة؟! فهذه المسألة بعينها موجودة في كلّ واحد منّا نحن الجالسون هنا، فإذا أردنا أن نتجاوز خطوة واحدة أبعد من تكليفنا فسيحلّ بنا ما قاله السيّد القاضي رحمه الله لذلك التلميذ. يجب أن تصل الأحكام الإلهيّة إلى النّاس، ولكن من هو الذي يجب عليه أن يبلّغ هذا الحكم ومن هو الذي يقوم بمسؤوليّة بيان هذه الأحكام ولا يضرّه بيان هذه الأحكام وتبليغها؟ هذا هو المهمّ.
من أراد أن يداوي المرضى بوباء ما فلا يمكن أن يكون إنسانًا عاديًّا، ويمسك بيده محفظة ويضع فيها مقدارًا من الإبر واللقاحات، ويمضي إلى منطقة الوباء، إلى منطقة الملاريا، الطاعون، ويريد أن يداويهم، نعم هو يداوي عددًا منهم، يلقّحهم، يعطيهم دواء، ولكن أثناء علاقته معهم، في تنفّسه، في كيفيّة تماسّه معهم، يلتقط المرض شيئًا فشيئًا من دون أن يشعر. يلتقط المرض، ويدخل الداء والمرض إلى نفسه. هذه هي المسألة التي كان المرحوم القاضي قلقًا بشأنها، وأنّ من يريد أن يدخل إلى منطقة موبوءة فلا بدّ أن يلقّح نفسه أوّلاً، وأن يأخذ الحبوب والأدوية والإبر اللازمة، ويجري الفحوص الطبّية، فإذا اطمأنّ بشكل كامل من الناحية الطبيّة، وأحرز لنفسه حالة الأمان، حينها يقولون: اذهب إلى داخل هؤلاء الناس ولا خوف عليك، امض الآن بين المصابين بالطاعون ولا بأس.
لا تخدع بالعزّة الموهومة للتصدّي مع عدم ملاحظة قدرتك!
يريد الإمام الصادق عليه السلام في هذه الفقرة أن يلفت أنظارنا إلى هذا الأمر وإلى ضرورة الحذر من أن تخدعنا تلك العزّة التي نتصوّرها لأنفسنا أمام الناس والأصناف المختلفة منهم وتوهمنا أنّنا وصلنا إلى تلك المرتبة بدون الالتفات إلى السعة الوجوديّة ومدى القدرة، وبدون التكليف الذي قدّره الله في تلك المرتبة. إن أردت إن تصل إلى هذه المرتبة وأن تصل إلى تلك المكانة، فإنّ نتيجة ذلك هو ضياع الاستعدادات وذهاب العمر هدرًا. ولذلك لا بدّ للسالك عند اختياره للطريق الذي يختاره أن يكون كلّ نظره إلى مدى ما فيه من المصلحة ومن الضرر؟ كم هو في مصلحته؟! كم يمكن أن يكون هذا العمل مفيدًا له؟ وكم يمكن أن يكون هذا العمل مضرًّا له؟! وأن يدرس نفسه أمام هذا العمل مع غضّ النظر عن الدعاية والإعلان، وأن يلاحظ نفسه أمام هذا العمل مع غض النظر عن تمجيد الناس ومدحهم، وأن يختبر نفسه مع غضّ النظر عن مطالبات الناس. وهذه مسألة دقيقة جدًّا ومهمّة، مسألة معقّدة، معقّدة، وطبعًا وإن كانت معقّدة ولكن ليست غير قابلة للحلّ، معقّدة لأنّه لا يمكن للجميع أن يعملوا بها، قليلون هم القادرون، ولكنّ الإمام لا يجعل مستوى تربيته في مستوى عامّة الناس، الإمام عليه السلام يأخذ النقطة العالية، ويلاحظ مستوى المائة بالمائة، وينظر إلى ما يريد أن يصل إليه الإنسان.
التفريق بين الصلوات هو السنّة وإن خالف المعتاد!
ذهبت قبل بضعة أيّام إلى منزل أحد الأقارب في طهران وضمن الكلام جرى الحديث حول عزمي على كتابة مقالة حول التفريق بين الصلوات، والتي كانت هي السنّة في زمان رسول الله وزمان الأئمة ومورد اتّفاق العلماء، ولا يمكن لفقيه أن يغضّ النظر عن هذه المسألة، لأنّ السنّة على التفريق بين الصلوات، فصلاة الصبح في وقتها وصلاة الظهر في وقتها وصلاة العصر في وقتها، وهكذا صلاتا المغرب والعشاء كلّ صلاة يجب أن تصلّى في وقتها، وقد كانت هذه هي السنّة، نعم في بعض الموارد كان رسول الله يجمع كما في السفر، أو إذا حصل مورد اضطراريّ كان يجمع، والجمع ليس باطلاً وليس حرامًا، بل هو مكروه وقد أمر بخلافه والذي هو التفريق. هذه هي السنّة، وإن شاء الله إذا أراد الله سنقدّم مقالة في ذلك في المستقبل القريب، وهذا الإشكال الذي يطرحه أهل السنّة على الشيعة هو إشكال صحيح أن كيف يصلّي الشيعيّ صلاة المغرب والعشاء معًا؟! وكيف يصلّي صلاة الظهر والعصر معًا في حين أنّ سنّة النبيّ لم تكن على ذلك؟! فالحقّ معهم، هؤلاء يقولون صوابًا.
لقد تذكّرت الآن هذا الأمر عن المرحوم العلاّمة، وهو أنّ ديدنه في شهر رمضان هو أنّه كان يصلّي أوّلاً ثمّ يتحدّث ويبيّن المسائل الفقهيّة والمسائل الشرعيّة، ثمّ كان يصعد الخطيب المنبر، إمّا أن يصعد هو بنفسه المنبر، أو أن يدعو خطيبًا للوعظ والخطابة، وبعد ذلك كان يصلّي صلاة العصر، وتقريبًا كان يقع ذلك في وقت صلاة العصر، هكذا كان دأبه، وكذلك كان دأبه أنّه في ذلك الزمان كلّما كان في طهران كان يتشرّف في أوّل كلّ شهر بزيارة السيّد عبد العظيم...
ولا يتركنّ الرفقاء ذلك، وليعلموا قدر السيّد عبد العظيم، فهذا الرجل ليس أيّ رجل، له عند الله منزلة عظيمة، فالسيّد عبد العظيم هو الذي قال له الإمام الهادي عليه السلام أنت واقعًا مؤمن بنا ووصلت إلى ولايتنا. فهكذا هو. وقد كان المرحوم العلاّمة يغتنم أيّة فرصة لزيارة السيّد عبد العظيم إلى أواخر عمره، وعندما كان يأتي من مشهد إلى طهران لم يكن يغادرها من دون زيارته.
يقول المرحوم العلاّمة: في إحدى تلك الزيارات ـ والتي كنّا قد ذهبنا برفقته فيها ـ كنّا قد صلّينا وجلسنا، فرأينا رجلاً معمّمًا ومسنًّا من أئمّة جماعات طهران، جاء وجلس معنا وقال: سيّدنا لديّ سؤال.
فقلت: تفضّل.
قال: أنت فلان؟
قلت: نعم. هكذا يقولون.
ثمّ قال: لقد سمعنا أنّك فصلت بين صلاتي الظهر والعصر في شهر رمضان.
فقال: نعم فصلت.
قال: سيّدنا هذه بدعة.
وعندما قال بدعة ضحكت وقلت: عزيزي هل تتقن اللغة الفارسيّة؟
فقال: سيّدنا ما هذا الكلام الذي تقوله؟!
فقال له المرحوم العلاّمة: إن كنت تتقن الفارسيّة، فاقرأ كتاب جامع عبّاسي للشيخ البهائي فقد ذكر هذه المسألة هناك.
انظروا إلى أين وصل الأمر؟! إمام جماعة في عمر السبعين يقول: التفريق بين الصلوات بدعة! أليس لأهل السنّة الحقّ بعد ذلك أن يعترضوا علينا؟!على الشيعيّ أن يصحّح عقائده بصورة عامّة ولا يوجد أيّ شكّ في ذلك، علينا أن نعمل بسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولو قصّرنا مقدار ذرّة في المباني والأحكام المرتبطة بسنّة النبيّ، فإنّا نكون ابتعدنا بهذا المقدار، كما فعل أهل السنّة فاجتنبوا منهج النبيّ بترك سنّته، لا يختلف الأمر، ففي يوم القيامة يأتون بنا وبهم. يقولون: أنتم تركتم هذه النقطة وهم تركوا هذه. أنتم أخذتم هذا، وهم تركوا ذاك، ولا يختلف الأمر أبدًا. فكما تركوا هم الأحكام الصريحة لرسول الله في أمير المؤمنين واتّبعوا الآخرين وجعلوهم أئمّة لهم وأولياء، فنحن أيضًا نكون في هذه المسألة سنّيين وبعيدين عن أمير المؤمنين، ونكذب إذ نقول إنّا نتّبع عليًّا وادّعاؤنا هذا كذب.
كنت جالسًا هناك وجرى الحديث حول بعض الأمور، فذكرت أنا هذا الأمر. فنظر إليّ وقال: كم أهميّة هذا الموضوع من ناحية الفائدة الاجتماعيّة بين الناس؟
فقلت: ما ربط الأمر بالفائدة الاجتماعيّة؟ لقد قال الله صلّ في أوّل الوقت! فما علاقة ذلك بالمجتمع؟
فقال: في النهاية أحكام الإسلام ترتكز إلى الآثار الاجتماعيّة. وأمثال هذه التأويلات...
فقلت: حسنًا ماذا تقول في الصلاة نفسها؟ الصلاة نفسها؟
قال: الصلاة لا يمكن أن نتصرّف بها شيئًا في النهاية.
فقلت: الذي قال: لا يمكن التصرّف بالصلاة هو نفسه قال صلّها في هذا الوقت.
فقال: ألا يمكن أن لا يصلّيها [في هذا الوقت]؟
قلت: بلى يمكن أن لا يصلّيها، يمكن أن لا يصلّي أصلاً، لا إشكال في ذلك! فيمكن أن يترك الصلاة كما يمكن أن يترك الصيام كما يمكن أن يترك الحجّ، كلّ شيء ممكن!
ولكنّ الكلام هو في أنّ واجبنا هو أن نبيّن ما جاءنا عن أئمّتنا كواجب لأجل الوصول إلى مستوى المائة في المائة والوصول إلى النقطة العليا. ربّما أراد أحد أن يقبل، أنت لا تقبل فليكن، ولتبق رافضًا لمائة عام، فأنا لا أكتب هذه المقالة لك، هكذا قلت له بكلّ صراحة، قلت له أنت لا تتلف عمرك، لا تهتمّ كثيرًا بقراءة هذه الأمور، اذهب أنت وتابع مشاهدة مباراة كرة القدم على شاشة التلفاز ـ فقد كان يهتمّ كثيرًا بهذا الأمر فقلت له ـ اذهب أنت وشاهد ذلك. من الذي قال تعال واقرأ هذه المقالات؟! من الذي قال طالع كتابًا؟! من قال اهتمّ بهذه الأمور؟ هذا يقال ويتحدّث به لمن يريد. أنا المتكلّم بنفسي ربّما لا أعمل بنسبة مائة في المائة، وأقولها لكم بكلّ صراحة أيّها الرفقاء. ولكن ربّما كان بينكم من يريد أن يعمل، فلماذا لا أقول؟ لماذا لا أبيّن؟!
لو جئتم أو غيركم يوم القيامة وقلتم نحن كان لدينا استعداد لتقبّل الأمور، وأنتم خنتم ولم تخبرونا بالحكم الذي تفضّل به الإمام الصادق، فبماذا أجيب؟ أنا لم أعمل، حسنًا لا أعمل، هذا أمر آخر. ولكن لو جاء أحد وقال أنا لم أكن عالمًا، أنا لم أدرس هذه الدروس، أنا لم أكن خبيرًا بالروايات، ومن جهة أخرى كنت أريد أن أكون مطيعًا ومنقادًا لإمامي، متّبعًا لأمير المؤمنين، متّبعًا للنبيّ، فممّن عليّ أن آخذ هذه الأمور؟ ممّن كان عليّ أن آخذها؟ فهذا لا يقول، وذاك لا يقول، وأنت لا تقول، فكيف إذن نأخذها؟ هنا لا جواب.
فإذن بناء على ذلك لا بدّ من بيان ما طرح من قبل الإمام. وكلّ إنسان بحسب قدرته، وبحسب همّته، وبحسب فهمه، وبحسب ما يتوجّب عليه، فهو نفسه يعلم، وهو عليه أن يعمل، ولكنّ الأمر هكذا.
استعن بالخبير لتحديد قدراتك!
على السالك في طريقه أن ينظر إلى ما فيه صلاحه، ويسير على أساسه، وما ليس فيه صلاحه فعليه أن يتركه، وعليه أن لا يتأبّى شيئًا، لا يتأبّى شيئًا أبدًا. ربّما كانت بعض هذه الأمور في نظره أمورًا جذّابة، ولكنّها مضرّة له، في بعض الموارد لا يستطيع الإنسان أن يحدّد، لا يكفي عقل الإنسان للوصول إلى الحقيقة، وهنا عليه أن يطرح الأمر على أهل الخبرة والبصيرة والمطّلعين على ذلك الأمر.
وما يقوله الأعاظم من أنّ الإنسان لا يستغني عن أستاذ ووليّ للطريق إلى الله يده في يد الوليّ الأعظم إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وكلّ من يتقدّم بدون اتّصال بهذا في الأمور الاجتماعيّة والأمور الدينيّة المهمّة والدنيويّة التي تستحقّ الاهتمام، فإنّه ـ ومن دون أن يشعر ـ ينحرف نحو اتّجاهات أخرى، ويخسر نفسه، ويغرق شيئًا فشيئًا في مأزق الدنيا وتسبّب له اشتغالات الدنيا غطاء يمنعه عن الاهتمام بباطنه، كما يجعل أثناء ذلك صبغة إلهيّة حتّى يطمئنّ قلبه إلى العمل الذي يقوم به، ويبقى مهتمًّا بعمله الذي يقوم به. لماذا؟ لأنّ تلك النقطة لازمة كمصدر للاعتماد والانتساب، وتلك النقطة يحافظ الشيطان عليها، ولا يزيلها، وإذا راجع نفسه فإنّه يرى أنّه يقوم في علاقاته بعمل ويساعد. ولكن عندما يقارن نفسه مع الحالة السابقة ـ إن سنحت له الفرصة ـ يدرك كم ابتعد. فلو جعلنا الصلاة التي كان يصلّيها قبل أربع سنوات إلى جانب الصلاة التي يصلّيها الآن، والصيام الذي كان يصومه قبل عشر سنوات إلى جانب الصيام الذي يصومه الآن، واهتمامه بالمعنويّات وصفاء الباطن آنذاك إلى جانب ما لديه الآن ـ إن وفّق ـ حينها يدرك أين هي المشكلة، ومن أين نشأت. والإمام الصادق يقول عليكم أن لا تصِلوا إلى هذه المرحلة.
أحيانًا يشعر الإنسان ـ طبعًا غالبًا وبنسبة تسعين في المائة ـ أنّ الإقدام على أمر اجتماعيّ مفيد له، ولكنّه لا يكون مفيدًا في الواقع. فمن الذي ينبغي أن يلفت الإنسان إلى ذلك؟ المطّلع عليه والذي يقرأ نفسه وخصوصيّاتها وحدود قدرتها في دائرتها، فهذا الذي يمكنه أن يحدّد هذا وأنّه يُقدِم أو لا يُقدِم.
قصص حول إشراف أهل الخبرة على النفوس
شرعتُ مرّة في مشهد ببحث، وكان بحثًا خلافيًّا، بحثًا في العرفان النظري (شرح القصيدة الخمريّة لابن الفارض) وكنت ناويًا أن أطرح هناك أمورًا ربّما تعدّ من الأسرار، وربّما لم يكن في طرحها مصلحة، كانت لديّ نيّة كهذه. وكان الرفقاء والأصدقاء قد أصرّوا عليّ في ذلك، ولم يكن الأمر اقتراحًا منّي. ولكنّي كنت من البداية شاكًّا في ذلك، وكأنّ هناك نقطة مبهمة كانت تمرّ في ذهني دائمًا وأنّه هل عليّ أن أقدم أم لا؟ فعلى كلّ حال هناك موضوعات إذا أراد الإنسان أن يطرحها هكذا ويترجمها فلا أهميّة لها، وإن أراد أن يخوض في شرحها وترجمتها يمكن أن ينتهي إلى مسائل وأبحاث ربّما لا مصلحة في طرحها. شرعنا في اليوم الأوّل، وفي اليوم الثاني كنت نائمًا بعد الظهر فرأيت منامًا كان يحكي عن أنّ هناك سرًّا في الباطن وأنت جعلته على مرأى الناس وألقيته في الطريق. كان معنى المنام ومفاده هكذا. فالتفتّ إلى أنّه جاء إنذار وعليك أن تحذر، ومن ذلك الحين [تعطّل المشروع].
جئت إلى المرحوم العلاّمة قبل أن أذهب إلى المدرسة وكان لديّ عمل، فما إن رآني قال هكذا من دون مقدّمة: يا سيّد محسن! إن كنت تريد خير الدنيا فعليك أن تبقى غير معروف، وإن كنت تريد خير الآخرة فعليك أن تبقى خير معروف، قال هذا ومضى إلى عمله. فهذا هو كلامه!
حسنًا فالأمر واضح في النهاية وأنّ المسألة من أيّ نوع هي، فجئت في اليوم الثاني وتحدّثنا في البحث ثمّ اعتذرت وقلت: لا يمكنني الاستمرار فقد حصلت بعض الموانع، ورغم أنّ الرفقاء تأثّروا ولكنّي قلت: لا يمكنني الاستمرار، لقد حدثت موانع. ومرّ زمان على ذلك، كنت في مشهد، فأرسلني إلى قم، وقال لي: يا فلان عليك إلى تذهب إلى قم وتبقى فيها! ولم يعيّن مدّة لذلك، والآن أنا هنا في حضور الرفقاء، وأنا بنفسي لا أعلم هل عليّ أن أبقى إلى الغد، إلى سنتين أخريين؟ متى سيأتي الأجل؟ لا أعلم شيئًا، واقعًا لا أعلم شيئًا.
وعندما جئت إلى قم انشغلت بالطبع مع الرفقاء والأصدقاء بدروس الفلسفة والفقه والأصول بشكل خصوصيّ وفي منازل الرفقاء والأصدقاء ومع ذلك العدد من الأصدقاء الذين نحن في خدمتهم. مضى على ذلك زمان وكنت مشغولاً طبعًا بأعمال أخرى ودراسات أخرى، فجاء المرحوم العلاّمة إلى قم، ويبدو أنّ ذلك كان في السنة نفسها، وأثناء حديثه معي قال: حسنًا كيف أوضاعك (من حيث الدراسة وهذه الأمور)؟
فقلت: وضي هكذا. فقال: لماذا لا تعطي الدرس في الخارج؟ لماذا لا تجعل أعمالك في الخارج؟ فقلت: هكذا أكثر راحة، نكون في المنزل ويكون الدرس خاصًّا، ويمكن أن نتكلّم أكثر، ففي الخارج يأتي من مختلف الناس، يحضر بعض الناس، فلا يتمكّن الإنسان من أن يقول أيّ كلام، وأيّ مسألة.
فقال: لا! يجب أن تعطي درسك خارجًا وعليك أن تطرح هذا الأمر في الخارج.
انظروا فقد كنت هكذا أرى الأمر حينها وأن يطرح هذا الأمر، وإن كان هناك إبهام ما في ذهني، لكنّه جاء وقال لا تفعل! وهنا كنت أرى هكذا، فأتى وقال: لا بل عليك أن تقوم بخلاف ذلك! ولهذا فإنّ الإنسان غير مستغن عن إنسان مشرف على نفسه وعلى أحواله. فسائر الناس هم مثلنا في النهاية مع شيء من الزيادة والنقصان.
ولكن انظروا، لكلّ مورد خصوصيّته الخاصّة له. فمن يقول تعال وقم بهذا العمل في الخارج فلو أصابني بسبب هذا العمل ضرر ما وأصاب حالي وأصاب نفسي، فعلى من تكون مسؤوليّته؟! عليه هو. أمّا إن لم أمضِ، فإنّ النفس هنا تأتي وتقول: لا ابق في هذا المنزل، حالك أفضل، علاقتك أفضل، توجّهك إلى الله أكثر، إذا خرجت فإنّهم يشهّرون باسمك، ويضعون لك إعلانًا هنا، ويطلبونك إلى هناك، ويفعلون لك كذا هنا. فهذه الأمور تأتي بها النفس أيضًا ويشعر الإنسان بحال من القرب المجازي والقرب الاعتباري في ذاته، وأنّ حاله في المنزل وفي العزلة أفضل. فماذا يكون ذلك؟ إنّه مجاز، إنّه خلاف.
كما أنّ الإحساس بالتقرّب لمن اتّكأ على مسند وتقبّل مسؤوليّة وصار موضع اهتمام الناس ويشعر بالفخر أمام الله، ويشعر أمام الله أنّه موفّق ويفرح بهذا الموقع، ويشعر بالرضى من عمله في حين أنّ كلّ ذلك هو بعد عن الله، مجاز وخلاف. ينفع ولكن نفعه هذا واقع في سياق إرضاء نفسه، إن قالوا له شكرًا، تفضّل إلى المنزل مع التقدير لأتعابك فإنّه يصاب بالسكتة! شكرًا ومع التقدير لجهودك اشتغل بإمامة الجماعة في مسجد المحلّة، فإنّهم يحملونه فورًا إلى المستشفى وإلى غرفة العناية الفائقة. إذا قالوا له: شكرًا لجهودك ولن نعطيك مثلاً هذا المنصب، وهذه الإدارة وهذا المستشفى وهذا المجمّع وهذه المؤسّسة، وهذه الوزارة، فعليهم أن يحلّوا له المشكلات التي تنشأ عن ذلك في مكانه ذلك.
كلّ ذلك لأيّ شيء؟ كلّ ذلك لأنّ النفس حينما كانت تسير في هذا المجال كانت دائمًا تغوص في ذاتها وتسير في ذاتها لا في الله ولا إلى الله. لم تكن تخطو خطوة لرفع التعلّقات بحيث لو قالوا له الآن امض إلى منزلك لصلّى ركعتي الشكر أيضًا.
هل كان ولاة أمير المؤمنين متعلّقين بالحكومة؟
هكذا كان حكّام أمير المؤمنين عليه السلام، طبعًا ليس جميعهم. مالك الأشتر هكذا كان، قيس بن سعد بن عبادة هكذا كان، محمّد بن أبي بكر تولّى حكومة مصر من قبل أمير المؤمنين عليه السلام وهكذا كان. كان هؤلاء ينتظرون متى تصل رسالة عليّ إلى أيديهم وفيها: ارجع إلى الكوفة، كانوا يعدّون اللحظات. وسلمان هكذا كان، أتعتقدون أنّهم كانوا يحملون همّ مصر منذ طفولتهم؟ كانوا يحلمون بحكومة مصر والمدائن واليمن وغيرها وكانوا يقضون الليالي والأيّام بأحلام هذه الحكومات؟ لقد كان فراق أمير المؤمنين للحظة قاتلاً بالنسبة لهم. كانوا يطلبون منه ألف مرّة ويرجونه أن لا يبعدهم عن الكوفة، هكذا كانوا.
ثمّ إنّ تلك الحركة التي تكون بأمر من أمير المؤمنين عليه السلام هي لصالحه. فلو كان مالك الأشتر إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام لصلّى بإمامته الصلوات الخمس، ولجعل منزله إلى جوار منزله، ولما وصل إلى تلك المرحلة التي استشهد فيها حين توجّه إلى مصر. ولو أنّ محمّد بن أبي بكر والذي كان يقول ادعوني محمّد بن عليّ ولا تدعوني محمّد بن أبي بكر... وواقعًا كان ابن أمير المؤمنين واقعًا! فأبوه الظاهريّ فلان، ولكنّ أباه الحقيقيّ أيضًا هو أمير المؤمنين، وهو من الثلاثة الذين قال عنهم الإمام الرضا أنّه ارتدّ الناس بعد رسول الله إلاّ ثلاث، فكان منهم محمّد بن أبي بكر، والروايات في ذلك مختلفة، ففي بعضها أربع، وفي بعضها خمس وفي بعضها أيضًا ثلاث، ففي بعض الروايات عمّار وسلمان ومقداد ومحمّد بن أبي بكر. فقد كانت له قيمته إلى هذه الدرجة! كان عاشقًا لأمير المؤمنين ويعدّ نفسه ابنًا له، كان والده قد غدا خليفة ولكنّه كان يعدّ أباه أمير المؤمنين.
فلو كان هؤلاء يبقون إلى جانب أمير المؤمنين ويصلّون معه ويسمعون كلامه... فهذا البعد عن أمير المؤمنين والذهاب إلى تلك الأماكن كان قد أثّر فيهم أثرًا لم يكن ليبدو لو كانوا إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام. ولذلك وبالنظر إلى خصوصيّاتهم تلك [فقد نصّبهم] أمير المؤمنين عليه السلام، لماذا لم يرسل ميثمًا التمّار؟ لأنّ ميثمًا التمّار لا بدّ أن يبقى. أمّا محمّد بن أبي بكر فلا مشكلة في ذهابه، مالك الأشتر لا مشكلة في ذهابه، قيس بن سعد بن عبادة لا مشكلة، هؤلاء لا مشكلة، عثمان بن حنيف لا مشكلة. ولكنّ بعضًا آخرين يجب أن يبقوا منهم ميثم، ولا يختلف الأمر لديهم، سواء بقوا عند أمير المؤمنين أو أرسلوا. يقول: انت اذهب، وانت ابق، انت اذهب سنتين ثمّ ارجع وسلّم غيرك.
في حال كهذا، فإنّ غاية الإنسان وهدفه ومقصوده هي اتّباع التكليف. هذه هي المسألة! حينها لا ينظر أن ما شاء الله كان لنا صديق اسمه مالك، لقد كنّا معًا عند أمير المؤمنين، فقد كان هو يجاهد وكذلك كنّا نحن نجاهد، هو كان قائدًا ونحن كنّا قادة، والآن تيسّرت له حكومة مصر ولم تتيسّر لنا. لم يكن يفكّر هكذا. أو أنّا درسنا معًا، ذاكرنا وحقّقنا معًا، هو قرأ هذا الكتاب ونحن قرأناه، والآن هو صار كذا ويرسل رسالة ويفعل كذا وكذا ومحترم بين الناس، أمّا نحن فعلينا أن نذهب ونشتغل بعمل آخر، لا يفكّر هكذا. نحن ذهبنا معًا إلى الجامعة، كنّا في صفّ واحد، ولكن هو جعل مسؤول الوزارة كذا والمستشفى كذا، وأما أنا فلا، لا يفكّر بهذا. إذا خطر في ذهنه فهذا نقطة ماذا؟ نقطة خطر إن جاء، لماذا؟ لأنّ الهدف والمقصد عبارة عن أيّ شيء؟ عن ما فيه الصلاح، ويجب أن يجعل هذا نصب عينيه. لذلك وبالالتفات إلى هذا الأمر فإنّ الكلام كثير، ولكن أعتقد أنّ ما يرتبط بهذا الموضوع قد بيّن إلى حدّ ما، والأفضل أن ننتقل إلى فقرة أخرى.
ما هي العزّة عند تلميذ الإمام الصادق؟
النقطة المهمّة هنا هي هذه وهي خلاصة البحث: العزّة التي لها قيمتها عند الناس هي من وجهة نظر تلميذ الإمام الصادق عليه السلام ذلّة، والذلّة التي هي في نظر الناس ذلّة، هي عزّة في نظر تلميذ الإمام الصادق عليه السلام.
ما هي العزّة؟ ما يقوّي الإنسان في العبوديّة هو العزّة، أن يشعر الإنسان في الوضع الذي هو فيه أنّ الله يرضى علاقته، فهذه عزّة. ليس لديه مال فليكن، ليس لديه منصب فليكن، ليس موضع اهتمام الناس، فليكن كذلك لألف سنة. أيّ ناس؟ أيّ ناس؟ الناس الذين يمجّدون يومًا ثمّ هم أنفسهم يذمّون؟! أفهذه عزّة؟ واقعًا هذه عزّة؟! أفلم نسمع نحن هذا الكلام ولم نجرّبه؟! نحن جميعًا لدينا في حياتنا الكثير من هذه التجارب. رأينا الإقبال ورأينا الإدبار، رأينا الاستقبال ورأينا الاستدبار واللامبالاة، رأينا الترحيب ورأينا الطرد، لقد كان ذلك. فهل المؤمن الآن من يخدع بهذا ويريد أن يبني حياته على أساس هذه الترحيبات؟ ويجعل حياته قائمة على هذا الأساس؟ إذا جعلها كذلك فلا بدّ أن يحمل همّ كلّ شيء إذن.
لذلك فإنّ العزّة من منظار الإمام الصادق عليه السلام ليست ما يهتمّ به الناس، بل عبارة عن الكون عبدًا لله، والتحرّر من كلّ قيد، فهذه هي العزّة، أن يكون الإنسان حرًّا من كلّ قيد.
ألم يتكرّم جناب حافظ عليه الرحمة بالقول ـ كنت يومًا عند المرحوم العلاّمة فقلت يقول حافظ فقال: ماذا قلت؟! ما معنى يقول حافظ؟ يتكرّم جناب حافظ عليه الرحمة بالقول، فما معنى يقول حافظ؟! فهل شعره مثل هذه الأشعار الحديثة؟! ـ طبعًا هذا ما أقوله أنا ـ الشعر الحديث المنشور في الجرائد والمجلاّت. فما معنى يقول حافظ يقول حافظ؟!
غلام همّت آنم كه زير چرخ کبود | *** |
(تأسرني همّت مَن | *** | ) فهذا هو العزيز. |
غلام همّت آنم | *** | (تأسرني همّت من) تعني الإنسان الذي يمتلك همّة، اهتمامًا، علوًّا وعزّة نفسيّة. ...كه در زير اين چرخ كبود ز هر چه رنگ تعلق بذيرد آزاد است |
[...مَن تحرّر من كلّ ما يمكن أن يُتعلَّق به تحت هذه السماء الزرقاء].
يعني حرّ من كلّ شيء يريد أن يقيّده، من رئاسة، من تعلّق. اليوم يقولون له تعال وكن رئيسًا، فيقول: حاضر! وغدًا يقولون له امض وشأنك واعمل موظّفًا في دائرة، فيقول: حاضر! ربّما يقولون، لا تظنّوا... جاؤوا وقالوا ولا يكون ذلك. وما لم نصل إلى هذه النقطة وهذه المرتبة فإنّهم لا يعطوننا شيئًا.
علينا أيّها الرفقاء أن نبذل جهدًا في هذه المسألة، أي لا نكتفي بمجرّد الكلام والذهاب والمجيء. أن نطبّق هذه الأمور في أنفسنا، أن نحلّها، ونتخلّص. زهر چه رنگ تعلق پذيرد آزاد است. (حرّ من كلّ ما يمكن أن يتعلّق به) كلام من هذا؟ كلام سيّد الشهداء عليه السلام.
كيف كانت عزّة الإمام الحسين (ع)؟
ألم يقل الإمام الحسين ذلك؟ قال له معاوية هذا: نعطيك حكومة. لو قبل الإمام الحسين عليه السلام كلام معاوية ولم يتعرّض له أفلم يكن يعطيه حكومة الحجاز كلّها؟! لأعطاه. لقد كان معاوية سخيًّا، أي كان مبسوط اليد والقلب (آلة الرئاسة سعة الصدر). كان مبسوط اليد والقلب، كان يتمنّى على الله أن يدخل واحد من بني هاشم تحت سلطته وأن يقبله أميرًا فيعطيه هو ما يشاء. فمن خير من الإمام الحسين عليه السلام في ذلك؟ في أيّ شيء كان الإمام الحسين يرى العزّة؟ هل في الدخول تحت سلطة معاوية؟ أم لا بل كان يراها في الارتباط بالله وكان يضحك من ذاك الكلام، ولم يكن يخطر في مخيّلته أصلاً أن يأتي يوم كهذا و[يقول:] ماذا أصنع به؟!
نحن لسنا هكذا، نحن إذا صادفنا ذلك فلا نتصوّر أنّنا سنعبر بسهولة، كلاّ بل علينا أن نستعدّ من الآن ونحدّد تكليفنا. والأفضل أن نحدّد تكليفنا من الآن لا أنّه إذا ما طرأ شيء أو عُرض عَرض في النهاية على كلّ إنسان بحسبه حينها أجلس أحقّق وأدرس جانبي القضيّة، وهذا الجانب وذاك ثمّ بعد ذلك أمضي. فهذه الأشياء لم تكن تخطر أصلاً على مخيّلة الإمام الحسين عليه السلام وعلى مخيّلة أتباعه. تصل الحكومة إلى يزيد، فلو أنّه اقترح هكذا اقتراحًا والإمام الحسين عليه السلام قبل فهل كانت ستحدث هذه الأمور؟ كلاّ بل لبقي الإمام الحسين عليه السلام وجميع أهل بيته بسلام ولما وقع شيء.
ولكن ترون أنّ الأمر لم يكن هكذا! يقول الإمام تلك العزّة التي أنا فيها الآن، تلك العزّة لا أبيعها بشيء. ما هي تلك العزّة؟ أنا حرّ من كلّ ما يمكن أن يتعلّق به. البقاء في المدينة [تعلّق]، فهل يجب على الإنسان أن يبقى في المدينة؟! أمضي لأعيش في الصحاري، أمضي لأعيش في البحر. الحياة في هذه الدنيا [تعلّق]، فهل على الإنسان أن يبقى في هذه الدنيا؟! يخرج فيصطدم بسيّارة فيموت، فما هذا العمر وما هذا الاعتبار الذي يريد الإنسان أن يعتمد عليه كرأسمال؟! العزّة بين الناس، هؤلاء الناس الذين هم أنفسهم مبتلون بألف مشكلة، فلأيّ شيء يريد الإنسان أن تكون له هذه العلاقات؟ والله أيضًا لم يطلبها! فمهما حسبتم حسابًا عقليًّا ومنطقيًّا فهو ما قام به سيّد الشهداء، هو ما قام به.
يأبى الله لنا ذلك. عبارة عجيبة جدًّا! علينا أن نحفظها ونجعلها نصب أعيننا في جميع موارد الحياة في علاقاتنا مع جميع الناس، في أوضاعنا الشخصيّة، وفي أعمالنا الخاصّة.
سأل المرحوم العلاّمة يومًا: أيّ كتبي هو أفضل من الجميع؟ فقال كلّ واحد شيئًا، فصبرت أنا لأرى ما يقول هو نفسه، لأنّي رأيت في النهاية أنّ هناك شيئًا ما يريده لا نعلمه نحن بالطبع. فقال: أفضل كتبي هو لمعات الحسين. الكتاب الذي جاء فيه بعبارات سيّد الشهداء عليه السلام بعينها ثمّ ترجمها. وكان يقول: السبب في قولي للرفقاء أن يجعلوا هذه العبارات لوحات ويعلّقوها في منازلهم هو أن تكون كلمات الإمام المعصوم دائمًا أمام أعينكم. أن تكون لديكم كلمات إمام معصوم كسيّد الشهداء وعندما تريدون أن تخرجوا من المنزل صباحًا تقع أعينكم عليها ثمّ تخرجون، وعندما تعودون مساء إلى البيت تقع أعينكم عليها ثمّ تدخلون إلى المنزل.
يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون.۱ أصلاً لا يمكن أن يقبل الله لنا ذلك. لا يمكن. الإمام يقول: يأبى الله. يعني مستحيل ومحال أن يقبل الله ورسوله والمؤمنون لنا هذا الأمر. ثمّ من؟ وحجور طابت وطهرت. أصلاب مطهّرة، حجور كحجور السيّدة فاطمة الزهراء، والسيّدة خديجة والسيّدة آمنة، والسيّدة زينب الكبرى، هذه الحجور. وأنوف حميّة، الذين لديهم حميّة وقوّة نفسيّة وعزّة نفسيّة وعظمة وشأن إنسانيّ وكرامة إنسانيّة، أي هم ملتزمون بالكرامة الإنسانيّة. فهذا معنى وأنوف حميّة. ونفوس أبيّة، الذين لديهم نفوس أبيّة ترفض الذلّة، لا تستطيع أن تقبل الذلّة في أيّ مرتبة.
أقوم لك بهذا العمل بشرط أن تقوم بهذا. فيقول: لا. أدفع لك هذا المبلغ بشرط أن تقوم بكذا، يقول: لا أريد. أعطيك هذا المال بشرط أن تفعل كذا، يقول: لا أريد. لا بدّ أن تأتي إلينا لكي أعطيك ذلك الموقع. يقول: لا أريد. إن شئت أن تعطني أو لا تعطيني فلا فرق، ربّما لا أنظر إليك حتّى آخر عمرك. هذه هي المسألة. هذا معنى نفوس أبيّة. النفوس التي لديها إباء من أن تنضوي تحت ذلّة ومنّة آخرين ممّن هم مثله. إذا أرادوا أن يقبلوا منّة أحد فهي منّة الله فقط، ومنّة عباده، ومنّة الإمام عليه السلام لا منّة أحد آخر أبدًا. فمن هم هؤلاء؟ يأبى الله لنا ذلك... أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. أن نرجّح طاعة اللئام على القتل بعزّة وشهامة. هذا المنطق هو منطق الإمام الحسين عليه السلام. فهذه هي العزّة. فإذن اتّباع سيّد الشهداء عزّة، اتّباع هذه المدرسة عزّة. عزّة إلى أيّ حدّ؟ عزّة إلى حدّ أنّه يقول لابنه أيضًا إن شئت أن تذهب أنت أيضًا فاذهب! لعليّ الأكبر عليه السلام، إلى هذا الحدّ. فأصلاً لا يمكن القبول، حتّى لابنه ليلة عاشوراء ماذا قال الإمام الحسين عليه السلام؟ قال إذا أردت أن ترجع فارجع.
فهذه هي مسألة العزّة في مقابل الذلّة. نعطيك مالاً واذهب لقتال سيّد الشهداء، لقتال ابن النبيّ، نعطيك هذه الأرض هنا، نعطيك أرضًا في الكوفة فاذهب إلى قتاله، انظروا فأنتم تقارنون بين أمرين متقابلين. نعطيك حكومة الريّ، فاذهب إلى قتال ابن النبيّ، حكومة الريّ!
فما الذي خدع عمر بن سعد؟ أن يستلم حكومة الريّ. والإمام الحسين عليه السلام يضحك ويقول مسكين! لن تنال الحكومة ولن تذوق بُرّ الريّ. ولكن لنفترض أنّك نلتها فهل هي تستحقّ؟! أن تكون حاكمًا للريّ لعشرة سنوات، أن تكون حاكمًا لإيران عشر سنوات، فكم ستعمّر؟! ولو عُمّرت عمر نوح فهل تستحقّ؟! ففي النهاية نوح أيضًا مات وعمله مع من؟ مع الحاسبين الكاتبين الذين يقيّمون كافّة الخطوات، فهل تستحقّ؟!
يهدّدون: نسلب منك ضيعتك، بستانك إن لم تفعل ذلك! من هم هؤلاء؟ هم الذين باعوا، أخذوا العزّة الظاهريّة وكسبوا لأنفسهم الذلّة الأبديّة. فانظروا الآن من هو الرابح؟ هل سيّد الشهداء ربح أم يزيد؟ حبيب بن مظاهر أم عمر بن سعد؟ من الرابح؟ ماذا في الجانب الآخر من الأمر؟
الإمام الصادق عليه السلام يقول لنا: عليكم أن تختاروا هذه العزّة! العزّة التي هي بمعنى الحريّة والخلاص. أن تكون هذه الحالة محفوظة لدى الإنسان في جميع الحالات. نعم لقد سعينا أن ننهي المسألة ولكن يبدو أنّ هناك قدرًا يسيرًا من البحث قد بقي، سنبيّنه إن شاء الله في الجلسة القادمة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد