المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمناقب أهل البيت
التاريخ 1297/09/18
التوضيح
ما هي علّة انتقال الإنسان من الأسباب إلى مسبّب الأسباب؟ لماذا ورد الأمر بصلاة الحاجة؟ لماذا تحرّك المشركون صوب بدر؟ هل حالت قلّةُ عِدّة المسلمين وعُدّتهم دون تصدّيهم للكفّار في بدر؟ ما هي التضحية التي قدّمها أمير المؤمنين عليه السلام ليلة بدر؟ ما هو العمل الذي عكف عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أثناء معركة بدر؟ ما هي المبارزة التي حسمت معركة بدر؟ من هو فرعون الأمّة؟ وكيف جرى القضاء عليه؟ ما هي قصّة أسرى بدر لا سيّما العبّاس عمّ النبيّ؟ من هو فاتح بدر؟
هي تساؤلات سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لبيان بعض مناقب أهل البيت عليهم السلام في مسجد القائم بطهران.
هو العليم
إضاءات على معركة بدر الخالدة
مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثالثة.
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بسم اللَه الرّحمن الرّحيم
بارئِ الخلائقِ أجمعين، باعث الأنبياءِ والمُرسَلين
والصّلاةُ والسّلامُ على أشرَفِ السُفَراءِ المُكَرَّمينَ
أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ حبيبِ إله العالمينَ
أبي القاسم محمّدٍ، وعلى آلِه الطَيبين الطاهرين
ولَعنَةُ اللَه عَلى أعدائِهِم أجمَعينَ، مِن الآن إلى قِيامِ يومِ الدّين
علّة انتقال الإنسان من الأسباب إلى مسبّب الأسباب
قال الله الحكيمُ في كتاب الكريم:
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾.۱
يقول الله تعالى في هذه الآية المباركة:
«استعينوا في حوائجكم بالصلاة والصوم، حيث إنّ الاستعانة بهما أمر جسيم، وفعل كبير، إلاّ على الخاشعين أمام الساحة الإلهيّة المقدّسة، وذوي القلوب المنكسرة، والذين يتوجّهون إليه تعالى في كافّة الأمور من أجل تلبية حاجاتهم».
فهكذا هي طبيعة الإنسان؛ فمتى ما واجهته مشكلةٌ في هذه الدنيا، وأراد أن يقوم بعمل لتيسيرها، فإنّه يبحث عن سبب وعلّة لكي يحلّها؛ لكن، حينما يتوصّل إلى هذه العلّة، فإنّه يرى بأنّها لا تقدر على حلّ تلك المشكلة؛ فيتحرّى عن علّة أخرى، ويعمل بها؛ غير أنّها لا تُساعده بدورها في حلّ المشكلة؛ فيبحث مرّة ثانية عن علّة أخرى، فيجد أنّها لا تُقدّم له أيّ حلّ، بل إنّ العديد من هذه العلل والأسباب قد تزيد المشكلة تعقيدًا، إلى حدّ أنّ ذلك الإنسان يُدرك بالوجدان أنّه مهما توجّه إلى هذه الأسباب، فلن يُثمر ذلك أبدًا؛ وحينئذ، يُسلم قلبَه لله تعالى، ويطلب العون ويستمدّه من مسبّب الأسباب من أجل حلّ تلك المشكلة.
لكن، ما أجدر بالإنسان أن يتعرّف على هذا السرّ قبل الدخول إلى ذلك النفق المسدود؛ فيطلب حوائجه من الله تعالى منذ البداية، ولا ينظر إلى الموجودات ـ الواقعة في الطريق بصفتها أسبابًا ـ بنظرة استقلاليّة، بل يراها كواسطة في الفيض الصادر من العالم الربوبيّ؛ وهذا هو معنى التوحيد!
يقول الباري عزّ وجلّ في الآية الكريمة الآنفة الذكر:
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾، حيث فُسّر الصبر في الروايات بالصوم؛٢ لكن، في الوقت ذاته، يُمكن المحافظة على معناه العامّ أيضًا؛ أي الثبات والتحمّل ورباطة الجأش. ﴿الصَّلَاةِ﴾؛ أي: استعينوا بالصلاة؛ وهذا أمر مهمّ جدًّا؛ فرغم أنّ الإنسان يُدرك أنّ هناك أسباب مختلفة تُساهم في تلبية رغباته وحاجياته، إلاّ أنّه يظلّ منقطعًا إلى الله، ويستمّد منه تعالى العون؛ وهذه مسألة بالغة الأهمّية؛ غير أنّها لا تُعدّ كذلك بالنسبة للمصلّين والخاشعين؛ لأنّهم عرفوا أنّ عالم الوجود برمّته يستفيض من الله تعالى، وأنّ نعمة الوجود تُفاض على العالم من الساحة الإلهيّة المقدّسة، وأنّ كلّ موجود من الموجودات غير الله لا يملك من نفسه أيّ اختيار أو استقلال أو إرادة منفصلة عن إرادته تعالى؛ وهذه هي حقيقة التوحيد. ومن هنا، لماذا يُتعب هؤلاء أنفسَهم، ويُضيّعون الطريق، وينظرون إلى موجودات هذا العالم العاجزة بنظرة باطلة، ويطلبون منها حوائجهم؟! فهم يعلمون أنّ الأمر بيد مسبّب الأسباب؛ ولذلك، فإنّهم يرجعون إليه بالكلّية؛ ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾٣.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾.۱
«إذا اعتمد الإنسان على أيّ موجود سوى الله تعالى، وطلب منه أن يقضي له حوائجه، فإنّه لا يقدر على ذلك؛ لأنّ هؤلاء المقصودين من قبل الإنسان لا يستطيعون خلق ذبابة واحدة، وإذا سلبتهم هذه الذبابة طعامهم، وذهبت به، فلن يتمكّنوا من اتّباعها، وإرجاع هذا الطعام! وبالتالي، فإنّ جميع الطالبين (أي الذين تمسّكوا بغير الله تعالى)، وجميع المطلوبين (أي الذين يرفع إليهم الطالبون حوائجهم، ويتّكئون عليهم) ضعفاء وفقراء!».
والموجود الفقير الضعيف لا يُمكنه إغناء الإنسان، والموجود العاجز لا يقدر على جعل هذا الإنسان ذا قدرة ومُكنة.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾.٢
«أيّها الناس، اعلموا أنّكم بأجمعكم فقراء إلى الله، وأنّ وجودكم برمّته قد عُجن بالضعف والعجز والوَهن، وأنّ الله تعالى هو الغنيّ وحسب!».
وبالتالي، عليكم أن تتوجّهوا إليه، وتستمدّوا منه العون في جميع مشاكلكم.
الأمر بصلاة الحاجة عند نزول البلاء
وتُعدّ صلاة الحاجة من التعاليم الواردة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة؛ وهي صلاة يؤدّيها الإنسانُ حين نزول المصيبة والبلاء، ويجعل ثوابها لله؛ فيُصلّي له تعالى، وتكون صلاتُه بقصد القُربة؛ لكن، يكون الداعي والباعث إلى هذه الصلاة هي قضاء حاجة.
فقد جاء في العديد من الروايات أنّه إذا واجهتكم مشكلة، صلّوا، وادعوا الله تعالى، فتنحلّ مشكلتكم!٣ وإذا أرفقتم هذه الصلاة بالصيام، فإنّ ذلك سيكون أفضل؛ فتصومون يومًا، وحينما يحلّ الليل، تُصلّون ركعتين، وتُقسمون على الله تعالى في سجدة الركعة الأخيرة، وتطلبون منه قضاء حاجتكم؛ أو تصومون ثلاثة أيّام: الأربعاء والخميس والجمعة؛ ثمّ تُصلّون بعض الركعات في يوم الجمعة، وتدعون الله تعالى، فيقضي لكم حاجتكم.
وقد وردت رواية في كتاب الكافي الشريف عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ، عن إسماعيل بن الأرقط؛ وهو ابن أخت الإمام جعفر الصادق عليه السلام؛ أي أنّ أمّ إسماعيل بن الأرقط أمّ سلمة هي أخت الإمام الصادق عليه السلام:
يقول إسماعيل [ما معناه]:
مرضتُ إلى درجة أنّني أشرفتُ على الموتِ؛ وقد حصل ذلك في شهر رمضان، حيث خرجت روحي من بدني؛ فجاء أهلي وعشيرتي من أجل تجهيزي، وتكفيني، وحمل جنازتي.
وجاء الإمام جعفر الصادق عليه السلام الذي كان من أخوالي؛ وكانت أمّي مضطربّة جدًّا، وتبكي.
فقال لها الإمام: «لماذا أنت مضطربة؟».
قالت: «يا أخي، ألا ترى أنّني أفقد ابني الذي كان يتّصف بمحاسن الأخلاق والأعمال؟!».
قال عليه السلام: «اذهبي للتوّ، واغتسلي، واصعدي إلى فوق السطح، وصلّي ركعتين في مكان لا يكون فيه بينك وبين السماء أيّ حاجب، وقلي:
«اللَّهُمَّ إِنَّكَ وَهَبْتَهُ لِي وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ وَإِنِّي أَسْتَوْهِبُكَهُ مُبْتَدِئًا، فَأَعِرْنِيه!»
فاغتسلت أمّي، وذهبت إلى فوق السطح، وصلّت ركعتين بنفس الطريقة، وبذلك الحال الذي كانت عليه من الاضطرار والالتجاء، ثمّ نزلت من السلّم.
(يقول:) كنت في عالم آخر، كطائر يُحلّق في أعلى السماء، وهو يُريد النزول إلى الأرض شيئًا فشيئًا، ويُحاول أن يحطّ في نقطة معيّنة، ويدور، ويدور، ساعيًا للهبوط على الأرض؛ فبدأتُ أنزل وأنزل، إلى أن استقررت بجسدي، ونهضت، وتحسّنت أحوالي، ولم أعُد أشعر في نفسي بأيّ أثر للمرض. وفي تلك الليلة، طبخ أهل بيتي هريسة لكي يتسحّروا بها؛ لأنّ ذلك الشهر كان شهر رمضان المبارك؛ فأحضروا لي من تلك الهريسة؛ فأكلتها، وأصبحتُ ذلك اليوم صائمًا!۱
وجاء أيضًا في كتاب الكافي عن جميل بن درّاج الذي كان من أصحاب الإمام عليه السلام أنّه قال [ما مضمونه]:
كنت عند الإمام الصادق عليه السلام، فجاءت امرأة وهي في حال من الاضطراب والقلق، وقالت: «لقد أنمتُ ابني، فانقلب، وسقط على وجهه في الفراش، واختنق، ووجدتُه مَيِّتًا؛ فما عساي أن أفعل الآن؟!».
فقال لها عليه السلام: «لَعَلَّهُ لَم يَمُت! فَقُومِي فاذهَبِي إلَى بَيتِكِ (فورًا)، فاغتَسِلِي، وصَلِّي رَكعَتَينِ، وادعِي، وقُولِي:
يا مَن وَهَبَهُ لِي ولَم يَكُ شَيئًا، جَدِّد هِبَتَهُ لِي! ثُمَّ حَرِّكِيهِ ولا تُخبِرِي بِذَلِكِ أحَدًا».
فجاءت المرأة إلى البيت، واغتسلت، وصلّت ركعتين في غرفة أخرى. قالت: «فَفَعَلتُ، فَحَرَّكتُهُ فَإذا هو قَد بَكَى».٢
ونظير هذه المسائل كثير!
تحرّك المشركين صوب بدر للقضاء على الإسلام
اليوم هو السابع عشر من شهر رمضان المبارك؛ وهو اليوم الذي وقعت فيه معركة بدر٣و٤ حيث كانت معركة شديدة جدًّا، واستعان فيها الرسول الأكرم بصلاة الحاجة؛ فكان منهمكًا طيلة هذه الحرب في الصلاة والدعاء، بل هي المعركة الوحيدة من بين كلّ المعارك الإسلاميّة التي ظلّ فيها النبيّ الأعظم مشغولاً بالدعاء من بدايتها إلى نهايتها.٥
فقد تحرّك كفّار قريش لأجل القضاء على رسول الله والمسلمين؛ وحينما ذُكرت عنده أسماء صناديد قريش (أي الزعماء والرؤساء)، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم:
هذه مكّة، قد ألقت [إليكم] أفلاذ كبدها.۱
وقد كان عدد جنودهم يبلغ تسعمائة وخمسين رجلاً، ومعهم سبعمائة بعير، ومائة فرس؛٢ وكان من بينهم أبو سفيان، وأبو جهل، والوليد بن عتبة، وعُتبة، وشيبة، وحنظلة بن أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وأميّة بن خلف،٣ وعدّة آخرون؛ فقد كان هؤلاء من الذين عذّبوا الرسول الأكرم لسنوات مديدة في مكّة والطائف وحين هجرته من مكّة إلى المدينة.٤
فكانوا أشخاصًا عجيبين جدًّا؛ لا سيّما أميّة بن خلف، وأبو جهل الذي قال عنه الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«لكلِّ أمّةٍ فرعون، وفرعونُ هذه الأمّةِ أبو جهل».٥
فقد توجّهوا صوب المدينة لمحاربة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ولم يكن عُتبة راضيًا بالمجيء إلى المدينة وقتال الرسول، ولو أنّه كان من معارضيه؛ لكنّه كان يخاف الحرب، ولم ير فيها أيّ يُمن بالنسبة إليه؛ فكان يتعلّل بعدم إمكانيّة السفر، وبمواجهتهم لبعض الموانع.
فأوقد أبو جهل وحكيم بن حزام مجمرة، وأخذا لباسهما الداخليّة، وجاءا بها إلى منزله، وأشعلا مقدارًا من الحرمل والعود، وقالا له [ما معناه]:
لقد قعدتَ في البيت كالنساء، وعليك أن تُعطّر نفسك بالعود مثلهنّ؛ فقد أضحيت جليس منزلك، فينبغي أن نحضر لك المجمرة والنار والحرمل! انهض أيّها الرجل، فأنت من شجعان العرب! هل خفتَ محمّدًا؟!٦
وباختصار، فقد جهّزوا الجيش بشكل كامل؛ وكانوا ينحرون كلّ يوم عشرة بعير، ويجعلون في كلّ يوم نفقة الجيش على واحد من سادة قريش، بحيث صار مجموع الذين تصدّوا لهذه النفقة تسعة رجال؛ منهم العبّاس عمّ النبيّ الذي كان أيضًا من كبار قريش، وتوجّه لقتاله صلّى الله عليه وآله وسلّم.۷
فتحرّك الجيش؛ وكان عُتبة وشيبة أخوين، ومن سادة قريش، وشجعانها، ورجالها المعروفين الذين قلّ نظيرهم؛ وكان لديهما غلام اسمه عدّاس، فقال لهما: «إلى أين أنتما ذاهبان؟»؛ قالا: «نريد الذهاب لقتال محمّد».
قال [ما مضمونه]:
وا ويلتاه! أ تقاتلان محمّدًا؟! ما أقبح ما تُقدمان عليه! وما أخطأ ما تفعلانه! فإن كان محمّد يريد الحكم والسلطة، فانضويا تحت لوائه، وستصيران سادةً للعالم؛ وإن كان نبيًّا، فهل تُريدان قتال نبيّ الله؟! وعلاوةً على ذلك، فإنّ محمّدًا من قومكما وعشيرتكما؛ فهو من قريش وأنتما أيضًا من قريش، وتصله بكما علاقة رحميّة؛ وهو من أبناء عمومتكما، ولم يرتكب ذنبًا، أو يقترف خيانةً! وأنتما تُريدان التوجّه لقتله؛ فما الذي سيقوله الناس حينئذ؟ سيقولون: «لقد ساروا بالجيش، وتوجّهوا من مكّة إلى المدينة التي يوجد بها رجل صادق يدّعي النبوّة، فقتلوه وأصحابه، ورجعوا!»؛ وهذا العمل سيجلب لكما العار؛ فلا تُقدما عليه!
كان عدّاس غلامًا لهما؛ وهو نفس الذي أعطاه عُتبة وشيبة بالطائف طبقًا من عنب، وقالا له: «اذهب عند ذلك الرجل!»؛ وذلك بعد أن رمى الأطفالُ والرجالُ رسول الله بالحجارة في الطائف، إلى درجة أنّهم أدموا قدميه، وأخرجوه من هذه المدينة؛ فجاء إلى بستان، وجلس تحت شجرة، وانهمك في التفكّر ومناجاة الله تعالى؛ فجاءه عدّاس بذلك الطبق، ووضعه أمامه؛ وهناك أسلم عدّاس، وقصّته مفصّلة.۱ فكان عُتبة وشيبة هما صاحبي البستان وموليا عدّاس.
خاف عُتبة وشيبة كثيرًا من نهي عدّاس؛ لأنّ هذا الأخير كان رجلاً عاقلاً وواعيًا، ولم يكذب طيلة حياته أبدًا، وكان ينهاهما بشدّة عن القتال.٢
ومن ناحية أخرى، فإنّ عاتكة رأت منامًا في مكّة جاء فيه أنّ عُتبة وشيبة سيُقتلان؛٣ فسمعاه هذا الاثنان، ممّا أدّى إلى تزلزلهما.
فقال لهما أبو جهل [ما معناه]:
ويل لكما! إنّ هذا الرجل قدّ ادّعى النبوّة، فلم نُصدّقه؛ وأنتما الآن تريدان العمل برؤيا امرأة، وتُرتّبا عليها أثر الوحي والإلهام؟! هل هذه هي رجولتكما؟!
وباختصار، فقد قام بإخراج عُتبة وشيبة مستعينًا بجميع الوسائل، حيث كان أبو جهل رجلًا عجيبًا جدًّا! كما أنّ عُتبة وشيبة أظهرا الندم عدّة مرّات في طريقهما من مكّة إلى بدر، واستعدّا للرجوع؛ لكنّه كان يدعوهما للقتال [في كلّ مرّة].٤
وفي نهاية المطاف، سيّروا الجيش متوجّهين إلى المدينة مع كامل التجهيزات العسكريّة؛ فوصل الخبر إلى النبيّ الأعظم الذي لم يكن يمتلك أيّة عِدّة أو عُدّة،٥ حيث مرّت سنة واحدة فقط على مجيئه للمدينة بصفته ضيفًا، بعدما أخرجه كفّار قريش من مكّة، فالتجأ إلى المدينة؛ كما أنّ أهل المدينة كانوا بأجمعهم فلاّحين؛ إذ كانت طائفتا الأوس والخزرج من المزارعين والفلاّحين والبستانيّين، ولم يكونوا يتوفّرون على محاربين، ولا يمتلكون الدروع والرماح والخوذات والسهام والحِراب والأحصنة العسكريّة.
عزم المسلمين على التصدّي للكفّار في بدر رغم قلّة عِدّتهم وعُدّتهم
فأرسل النبيّ الأعظم إلى سعد بن معاذ ـ رئيس طائفة الأوس التي آوته صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، وقال له [ما مضمونه]:
إنّني عازم على المسير، وأنت أعلم بحالك؛ فإن شئت أتيت معنا، وإن لم تشأ لا تأت؛ فهؤلاء القوم يقصدوننا نحن؛ والله تعالى لا يرضى للذين يتوجّه إليهم العدوّ ويهجم عليهم أن يظلّوا قاعدين في بيوتهم.٦
فقال سعد بن معاذ [ما معناه]:
روحي لك الفداء يا رسول الله! إنّ طائفة الأنصار بأسرها تحت أمرك، وأموالها بأجمعها ملكٌ لك؛ فتصرّف فيه كما تشاء؛ وأقسم بالله تعالى أنّ المال الذي تأخذه هو أفضل بالنسبة إلينا من المال الذي تُبقيه.
كان سعد بن عُبادة زعيم طائفة الخزرج، ومن الرجال الصلحاء والمسلمين الشجعان، وقد آوى رسولَ الله؛ كما أنّ طائفة الخزرج كانت أقوى من الأوس، غير أنّ سعد بن عبادة كانت قد لدغته أفعى، ولم يكن قادرًا على الحركة، فظلّ راقدًا في بيته من أجل العلاج؛ لكنّه أرسل إلى النبيّ الأكرم، وقال له [ما مفاده]:
إنّ طائفتنا بأجمعها تحت أمرك؛ فخذ من رجالها من تشاء، وسيروا.۱
لكنّ الأوس والخزرج لم تكن لديهما أموال، وكانتا من القبائل الفقيرة والضعيفة، ولم تكونا تتوفّران على عِدّة وعدّة حربيّة.
فسار رسول الله مع جماعة ثلثها من مهاجري مكّة، وثلثاها من الأنصار، حيث بلغ مجموع جنوده صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً؛٢ فتوجّهوا من المدينة إلى بدر ـ وهو اسم بئر يقع على بُعد ثلاثين فرسخًا من المدينة تقريبًا، فُسمّيت الأراضي القريبة منه بهذا الاسم ـ ، وأتوا إلى جانب هذا البئر لكي يستقوا منه الماء؛ كما أنّ النبيّ الأعظم أُحيط علمًا هناك بما سيقع.
فجاء هؤلاء الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، واستقرّوا بأرض بدر، وأخذوا الماء من بئرها ـ أي قليب بدر ـ، وادّخروا منه لأنفسهم في حوض؛ ثمّ بدأ جيش الكفّار يصل تدريجيًّا من بعيد، إلى أن وصلوا إلى تلّ، فحطّوا رحالهم به.٣
كان الرسول نائمًا، فأراه جبرائيل أحداث الواقعة، حيث قام الله تعالى بأمرٍ جَعَل المسلمين يبدون قليلين في أعين الكفّار، والكفّار يبدون قليلين أيضًا في أعين المسلمين؛ هذا، مع أنّ عددهم كان كثيرًا جدًّا!٤
فسأل النبيّ الأكرم عن أوصاف جيش الكفّار، فقال: «كَمِ الْقَوْمُ؟»؛ فلم يتبيّن عددُهم، ثمّ قال: «كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الْجُزُرِ (كلّ يوم)؟».
فقيل له: «يوم عشرًا، ويوم تسعة».
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما معناه]: «همّ أقلّ من ألف، وأكثر من تسعمائة».٥
لكنّهم كانوا مجهّزين كثيرًا؛ في حين أنّ جيش النبيّ كان يضمّ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ولديهم فَرَسان، وبعض الإبل، ولا شيء أكثر! فلم يكن هؤلاء الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً يمتلكون سيوفًا، ولا حِرابًا، ولا رماحًا، بل كانوا يتوفّرون على بضعة سيوف فقط، ويفتقرون إلى التجهيزات العسكريّة.
قال أبو جهل لأحد جنوده: «اذهب، وتحسّس أصحاب محمّد، وانظر مقدار عِدّتهم وعُدّتهم».
فجال من بعيد حول المعسكر، ثمّ رجع، وقال [ما معناه]:
ليسوا بشيء! فعددهم قليل، ولا يملكون سيوفًا ولا أحصنة ولا بعيرًا ولا شيء آخر! لكنّهم رجال عجيبون؛ فهم بأجمعهم خرس لا يتكلّمون، ولا يتحرّكون، وقد امتلأت أعينهم غضبًا وحنقًا، ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي! واللّه، ما أرى أنّهم يتراجعون عن القتال، إلاّ إذا ظفروا، أو قتلوا مثلهم!۱
تضحية أمير المؤمنين عليه السلام بنفسه ليلة بدر من أجل جلب الماء
كان أبو جهل مقيمًا خلف التلّ، وكان الوقت ليلاً، فنفد الماء الذي كان عند المسلمين، وكانت هناك مسافة كبيرة بين قليب بدر والمكان الذي استقرّ فيه الرسول الأكرم؛ وكانت الصحراء معتمة، والجوّ باردًا، والكفّار قد سيطروا على التلّ، ووضعوا في الأطراف والأكناف جواسيس ليطّلعوا على أخبار النبيّ الأعظم وعساكره، لئلاّ يُباغتوهم.
فكانت الصحراء موحشة جدًّا، فالتفت صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أصحابه، وقال: «مَن مِنكُم يَمضي في هذه اللّيلة الى البئر فيستقي لَنا؟».
لم يُجبه أيّ أحد؛ إذ لم يملكوا الجرأة على الردّ؛ فقام أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: «أنا يا رَسولَ اللهِ؛ (أنا آتيك بالماء)».
وقد كان أمير المؤمنين يبلغ في ذلك الحين أربعة وعشرين سنة من العمر؛ فحمل القربة، وسار ماشيًا وهو يحمل سيفه؛ فقطع وادي بدر، إلى أن وصل إلى القليب، والذي كان من الآبار العريضة جدًّا والمهولة التي يحفرونها وسط الصحاري. فنزل عليه السلام تلك الليلة وسط البئر، حيث إنّ حكاية نزول أمير المؤمنين وسط هذه البئر معروفة جدًّا، وتحوي بعض التفصيلات التي إذا أردت الحديث عنها، فإنّ وقت مجلسنا سينتهي!٢
فملأ القربة من داخل البئر، وحملها على عاتقه، وخرج من هذه البئر، وتوجّه نحو النبيّ؛ فهبّت ريح قويّة كادت أن توقعه هو والقربة على الأرض؛ ممّا أجبره عليه السلام على التوقّف، والجلوس، ووضع القربة على الأرض؛ ثمّ أنهت الريح مدّة هبوبها، وهدأت؛ فقام عليه السلام، وحمل القربة على عاتقه، وتوجّه نحو الرسول؛ فجاءت ريح قويّة أخرى على نفس ذلك المنوال، فجلس الإمام ثانيةً، ووضع القربة على الأرض، وانتظر إلى أن هدأت الريح؛ فحمل القربة مرّة أخرى متوجّهًا صوب النبيّ الأعظم؛ ثمّ هبت ريح ثالثة، وكانت أيضًا قويّة ومستمرّة مثل سابقتيها؛ فجلس عليه السلام، ووضع القربة على الأرض؛ وحينما هدأت هذه الريح، قفل راجعًا، وأوصل القُربة إلى الرسول الأكرم.
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما معناه]: «لماذا أبطأت يا عليّ؟!».
قال أمير المؤمنين [ما مفاده]:
يا رسول الله، إنّ المسألة بهذا النحو: هبّت عليّ بنحو متناوب ثلاث رياح شديدات ومستمرّات، وكادت أن تُسقط القربة عن عاتقي، فجلست إلى أن هدأت، فجئتُ إليك.
فقال رسول الله [ما مضمونه]:
ألم تعلم ماذا كانت تلك الرياح؟ كانت الريح الأولى جبرائيل مع ألف ملك، أرسلهم الله تعالى لإعانتك؛ وسترى غدًا ما الذي سيحصل. وكانت الريح الثانية إسرافيل مع ألف ملك، والريح الثالثة جبرائيل مع ألف ملك، حيث سلّم عليك كلّ واحد من هذه الملائكة مع الألف ملك الذين كانوا مع كلّ واحد منهم، وهنّأوك، وحيّوك على التضحية التي قُمت بها هذه الليلة.۱
فلم يقدر أيّ واحد من الصحابة على التحرّك، سوى أمير المؤمنين الذي حمل القربة، وأحضر الماء لرسول الله.
ويقول السيّد الحميريّ في أشعاره [ما معناه]:
لم يحصل لأيّ أحد من صحابة الرسول أن نزل من السماء في الليل ثلاثة آلاف وثلاثة أملاك لكي يُهنّئوه، ويُسلّموا عليه، ويُباركوا له!٢
اصطفاف الجيشين في بدر وانقطاع الرسول للعبادة والدعاء
وحينما حلّ الصباح، كان جيش الأعداء يمتلك العديد من المُعدّات: الفرسان في ناحية، وراكبو البعير في ناحية، والمشاة في ناحية، وهكذا أيضًا بالنسبة للرماة والمقاتلين؛ فكان جيشًا مجهّزًا بتمام ما للكلمة من معنى! وقد أحضروا معهم المغنّيات والمنشدات، فكنّ يقرأن الأشعار في هجاء الرسول والتهكّم عليه، وتحريض الجنود على القتال.٣
كما كان طعام الجيش مُعَدًّا، حيث انهمكوا في طبخه، حتّى إذا حان وقت طعام الجنود، تناولوا هذا الطعام بشكل منظّم ومحدّد؛ في حين أنّ عساكر المسلمين لم يكونوا يتوفّرون على طعام، بل أحضروا معهم فقط قليلاً من التمر والخبز اليابس،٤ ولم تكن لديهم إبل للنحر، حيث كان الجيش بأجمعه يمتلك بضعة إبل معدّة للركوب.
لقد عمل أبو جهل على تجهيز الجيش بشكل جيّد؛ كما كان أمراء هذا الجيش يتمثّلون في كلّ من شيبة، وعُتبة، والوليد بن عتبة، وحكيم بن حزام، وأميّة بن خلف؛ وكان رئيسهم أبو جهل؛ لأنّ أبا سفيان ذهب برفقة القافلة إلى مكّة؛ وحينما أوصلها إلى هناك، التحق بالجيش، وشارك في الحرب، حيث كان متواجدًا بمعركة بدر،٥ لكنّ الذي كان أميرًا على كلّ الجيش، وكانت السلطة بأجمعها بيده، وكان يُحرّض الجند هو أبو جهل.
كان أبو جهل يحمل في صدره حقدًا دفينًا على رسول الله؛ وكان رجلاً عجيبًا جدًّا، حيث إنّ الأضرار التي لحقته صلّى الله عليه وآله وسلّم على يديه لا يقدر الإنسان على سماعها بتاتًا!
فقد جهّز الجيش، وأعلن للجميع [ما مفاده]:
نحن لم نأت لقتل محمّد، بل أتينا لنقبض عليه وأصحابه أحياء، ونكبّلهم، ونذهب بهم إلى مكّة، ونُنزل على رؤوسهم بلاءً سيبقى ذكرُه مخلّدًا أبد الدهر، ليعلم كافّة فتياننا وشيوخنا أنّه إذا صدرت من أحدهم دعوى، لا ينبغي عليهم أن يصبؤوا عن دينهم ومذهبهم، ويلتحقوا به.۱
وكان يركب بغلةً، ويتحرّك بين الجنود، ويتلو الأراجيز، وينظّم الجنود، ويُعيّن لكلّ واحد منهم موضعه.
فجاء سعد بن معاذ عند رسول الله، وقال له [ما مفهومه]:
يا رسول الله! ائذن لنا في أن نبني لك عريشًا،٢ فتكون فيه، ونُحيطه بالأحصنة والإبل المتوفّرة لدينا وبالمقاتلين الموجودين؛ لأنّ الكفّار سيُركّزون بجميع قوّاتهم عليك أنت؛ وإذا أصابك جرح ـ لا قدّر الله تعالى ـ، وقُتلتَ، سينتهي الأمر؛ فأرواحنا جميعًا لك الفداء! فليستشهد منّا الآلاف، ويدخلون بذلك الجنّة، لكن، لا تُمسّ من جسدك شعرة واحدة!٣
فقال له النبيّ الأعظم خيرًا.
فبنوا عريشًا له صلّى الله عليه وآله وسلّم بحذاء بدر، وأحاطوه بثلّة من الرجال الشجعان، حتّى لا يهجم الكفّار عليه؛ فدخل رسول الله إلى ذلك العريش، وانهمك في الصلاة، حيث كانت هذه الصلاة من تلك الصلوات العجيبة والغريبة؛ فصلّى بضع ركعات، وأدّى مجموعة من السجدات الطويلة، وبكى فيها طويلاً، وقال في دعائه:
اللّهمّ، إن تظهر عليّ هذه العصابة يظهر الشرك، ولا يقُم لك دين؛ (وإذا شئت ألاّ يعبدك أحدٌ، فلن يعبدك أيّ أحد؛ فالوضع هو بهذا النحو).
فقد كانت أدعية النبيّ الأعظم داخل العريش عجيبة جدًّا! عجيبة جدًّا جدًّا! وكلّ من كان يدخل هذا العريش، كان يقول: «ما رأيتُ رسول الله، إلاّ باكيًا وداعيًا».٤
المبارزة الحاسمة في المعركة
ونظّم المسلمون صفوفهم؛ وقد كانوا قلّة، ويبلغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
وجاء عُتبة ـ الذي كان من أمراء الجيش ـ إلى وسط ساحة المعركة بأمر من أبي جهل، وأحضر معه أخاه شيبة، وقال لابنه الوليد: «تعال أنت أيضًا»، حيث كان هؤلاء الثلاثة من أشجع الناس في ذلك الزمان، ولم يكن لهم مثيل في قريش؛ فجاؤوا إلى وسط ساحة المعركة، وارتجزوا بعض الأبيات، وطلبوا من يُبارزهم.
فذهب إلى مبارزتهم ثلاثة من الأنصار؛ وهم: معاذ ومُعوّذ وعوف بنو الحارث.۱
فقالوا لهم: «من أنتم؟»؛ قالوا: «نحن من أنصار رسول الله؛ أسماؤنا معاذ ومعوّذ وعوف».
فقالوا لهم: «أنتم لستم أكفاء لنا، ولا نظراؤنا، ارجعوا! نريد أن يأتي أكفاؤنا والذين يُساوونا في الشجاعة والشرف (أي يكونون من قريش، ومن الأشراف والشجعان في ساحات المعركة)».
فرجع هؤلاء الثلاثة، فسألهم النبيّ الأعظم عن سبب رجوعهم، فقالوا له: إنّهم قالوا لنا كذا!
وحينئذ، أمر رسولُ الله أميرَ المؤمنين عليه السلام بأن يذهب برفقة كلّ من حمزة وعُبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب.
كان عبد المطّلب جدّ النبيّ الأعظم، وكان أحد أبنائه يُسمّى الحارث، والذي كان عمًّا لرسول الله؛ وكان للحارث ابن اسمه عُبيدة؛ وهو رجل عجيب جدًّا؛ فقد كان يكبر النبيّ بعشر سنوات، وكان رجلاً مسلمًا، فدائيًّا ومحبًّا للرسول؛ وقد سطعت أعماله في تاريخ الإسلام، شأنه في ذلك شأن حمزة سيّد الشهداء عليه السلام.
جاء أمير المؤمنين وحمزة إلى ساحة المعركة برفقة عبيدة.
التفت عُتبة إلى حمزة، وقال له: «من أنت؟».
قال: «أنا حمزة».
فقال له: «أنعم به وأكرم! كفوٌ كريم؛ أنت الذي يحقّ لك قتالي!».
قال حمزة: «أنا أسدُ الله وأسدُ رسوله».
فقال عتبة بدوره: «أنا أسدُ الحلفاء».
كان طويل القامة، وله أكتاف عريضة، ويُقال إنّ ذراعه كانت قويّة إلى درجة أنّه متى ما وضعها أمام وجهه، فإنّها كانت تُغطّيه بأجمعه؛ فإلى هذا الحدّ عمد إلى تقوية ذراعيه، حيث كان من مقاتلي مكّة.
مشى أمير المؤمنين إلى الوليد، وحمزة إلى شيبة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب إلى عُتبة.
فبدأ أمير المؤمنين يتبادل الضرب مع الوليد قليلاً، غير أنّه عليه السلام لم يتأخّر كثيرًا، فضربه بالسيف على عاتقه فشقّها إلى أن بلغ الشقّ تحت إبطه، فأخذ الوليد يده، وضرب بها ـ بكامل قوّته ـ رأس أمير المؤمنين، ثمّ سقط على الأرض؛ فضربه أمير المؤمنين بالسيف، وفصل رأسه عن جسده.
ورأوا أنّ حمزة يُقاتل شيبة في الجهة الأخرى؛ وقد تضاربا بالسيف إلى درجة أنّ سيفيهما تآكلا، وانكسرا، ولم يعودا يُجديا نفعًا؛ فنزلا عن مركبيهما، وألقيا بسيفيهما، وبدآ يتعاركان بالأيدي، وبغير الآلات الحربيّة.
فما إن رأى المسلمون عليًّا قد انتهى من مناجزته للوليد، حتّى كبّروا بأجمعهم، وقالوا: «يا عليّ، ساعد عمّك حمزة، فهو منهمك في قتال هذا الكلب!».
فوصل إليه أمير المؤمنين حاملاً سيفه؛ وقد كان حمزة طويل القامة؛ بينما كان شيبة قصيرًا، فقال عليه السلام: «يا عمّ، طأطئ رأسك!»؛ فما إن طأطأ رأسه، حتّى ضرب أمير المؤمنين بسيفه، فطار رأس شيبة؛ وبذلك، قُتل زعيمان من زعماء قريش.
ثمّ مشيا من هناك إلى عُتبة وعُبيدة بن الحارث، واللذان كانا يتقاتلان، حيث ضرب عُبيدة عُتبة بالسيف، فسقط هذا الأخير على الأرض، لكنّه كان قد ضرب أيضًا عُبيدة بسيفه على ساقه، فقدّها نصفين؛ فسقط عبيدة بدوره على الأرض؛ فوقف أمير المؤمنين عليه السلام على رأس عُتبة ـ الذي كان واقعًا على الأرض ـ، ففصل رأسه عن جسده بضربة من سيفه؛ ليهلك أولئك الثلاثة بأجمعهم.
وفي ذلك الحين، حمل حمزة ابن عمّه عُبيدة بمساعدة أمير المؤمنين، وجاءا به عند رسول الله، حيث كانت رجله مقطوعة ويجري منها الدم؛ وحينما رأى صلّى الله عليه وآله وسلّم حال عُبيدة، تأثّر كثيرًا، وبدأ يبكي.
فقال عُبيدة: «يا رسول الله، إنّني حزين كثيرًا».
قال: «لماذا؟».
قال: «لأنّني لم أُستشهد؛ فقد أتيت إلى هنا لكي أُستشهد، لكنّ ذلك لم يحصل».
قال رسول الله: «اطمئنّ، أنت من الشهداء!».۱
وفي هذه المعركة، سال مُخّ عظمِ ساقِ عُبيدة، وكان واضحًا للجميع؛٢ فأمر النبيّ الأعظم بأن يُنحّى جانبًا، وتُشدّ رجلُه؛ وحينما انتهت المعركة، حملوه إلى المدينة؛ لكن، قبل أن يصلوا إليها، تُوفّي في أحد المنازل اسمه الروحاء، حيث يوجد قبره الآن هناك.٣ فقد كان عُبيدة بدوره من الشهداء، بل هو أوّل شهيد من أقرباء النبيّ، حيث كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في غزوتي الخندق والأحزاب:
اللهمّ إنّك أخذت منّي حمزة (في أُحُد) وعُبيدة (في بدر)، فاحفظ اليوم عليّ عليًّا.٤
فلمّا قُتل أولئك الثلاثة، انكسرت شوكة الكفّار؛ لكنّ أبا جهل لم يتراجع عن أفعاله، بل صاح مناديًا:
لا ضير إن قُتل هؤلاء الرجال الثلاثة؛ فكلّ واحد منكم عُتبة وشيبة؛ فحاموا عن دينكم وقوميّتكم، وأمثال ذلك!
مقتل فرعون الأمّة!
كان أبو جهل رجلاً شجاعًا، وذا قامة طويلة ورأس ضخم، حيث يقول أحد صحابة رسول الله [ما مفاده]:
كنتُ بين العسكر، فرأيت عن يميني وشمالي فَتَيان من فِتيان الأنصار يُقاتلان بالسيف، فقلت في نفسي: ليس من المناسب أن يكون هذان عن يميني وشمالي، بل يجب أن يكون حولي رجلان شجاعان، حتّى أتقدّم إلى الأمام. وفجأة، التفت إليّ أحد هذين الفتيان، وقال لي: «أتعرف أبا جهل؟»، فقلت له: «وما حاجتك إليه؟»، قال: «دُلّني عليه فقط!» ـ وكان هذا الشابّ هو معاذ، والشابّ الآخر معوّذ؛ وهما اللذان وقفا مقابل عُتبة وشيبة، لكنّهما ردّاهما ـ؛ قال: «دُلّني فقط على أبي جهل؛ فقد آذى هذا العدوّ لله تعالى رسول الله إلى درجة أنّه متى ما تذكّرته، انزعجت؛ فلن أرجع من هنا، حتّى أُقطّعه إربًا، إربًا، فنهجم عليه نحن الاثنان، بحيث إذا قُتل أحدنا، ضربه الآخر».
ما إن قال لي ذلك، حتّى رأيت الفتى الآخر، فالتفت إليّ، وقال: «أتعرف أبا جهل؟»، قلتُ: «نعم»، قال: «نحن لا نعرفه، لأنّنا من الأنصار، وأبو جهل مكّي؛ فدُلّني عليه هنا»؛ فقلت له: «وما حاجتك إليه؟»، قال: «نحن الاثنان نريد الذهاب إليه هو فقط، لكي نقتله»؛ فقلت: «سأدلّكم عليه (فلم يكن هذا الرجل ندًّا لأبي جهل، لكنّه كان قادرًا على الإرشاد إليه)».
قال: بحثنا في ساحة المعركة، فرأيت أبا جهل ممتطيًا فرسه، ومنهمكًا في الضرب بالسيف، بحيث كلّما جاء المسلمون من ناحية ليضربوه، كان يردّهم؛ فدللتهم على مكانه؛ وما إن فعلتُ ذلك، حتّى لم أشعر بالذي حصل، حيث انطلق الفتيان كالصقر، وحملا على أبي جهل، واشتعل القتال بينهم؛ فضرب أحدهما بالسيف على رجل أبي جهل، ففصلها عن جسده، ليسقط من الأعلى على الأرض.
وحينما رأى عكرمة بن أبي جهل ماذا حصل لأبيه، جاء بسرعة، وضرب بسيفه أحد الشابّين، فسقطت يده، فقال: «لا يهمّ، فقد قتلت أباك!».
وبعدما سقط أبو جهل على الأرض، جاء الفتيان عند رسول الله، وقالا له:
يا رسول الله، أبشر، لقد قتلنا أبا جهل! فَرِجلُه وقعت، وهو الآن على الأرض يتخبّط في دمه.
قال النبيّ الأعظم [ما مفاده]: «أأنتما قتلتماه؟!»؛ قالا: «نعم يا رسول الله»؛ فكم دعا لهما صلّى الله عليه وآله وسلّم، كم دعا لهما! وقال [ما معناه]:
اذهبوا، وأحضروا لهما سلب أبي جهل؛ فقد كان فرعون هذه الأمّة! فالأذى الذي قاساه المسلمون من أبي جهل في فترة رسالتي غير مسبوق؛ فكم عذّب أصحابي! وكم شوى أجسادهم على رمال صحراء مكّة الحارّة! وكم أشعل من نيران! فلم يكن لأبي جهل نظير بين الكفّار والمشركين!
وحينما انتهت الحرب، قال رسول الله [ما معناه]: «من يذهب ليأتيني بخبر أبي جهل، وينظر موضع قتله؟».
فمشت جماعة من صحابة النبيّ لكي يعثروا على أبي جهل، ويتأكّدوا من أوضاعه، وهل قُتل أم لا.
فذهبوا يُفتّشون في تلك الصحراء الكبيرة التي وسّعت من دائرة الحرب، فكان كلّ واحد ساقطًا في جانبًا منها؛ وقام ابن مسعود ـ الذي كان من المسلمين وحافظًا للقرآن ورجلاً نحيفًا وقصير القامة وضعيفًا ـ بالتعرّف على أبي جهل لأنّه كان أيضًا مكّيًا؛ فرآه واقعًا على الأرض، وقد قُدّت رجلاه؛ ومع ذلك، فقد حمل سيفه، وهو يتحرّك باستمرار يمينًا ويسارًا، لئلاّ يقترب أيّ أحد منه!
كان ابن مسعود يحمل بيده سيفًا مفلولاً، فضرب به أبا جهل، لكنّه رأى بأنّه لا يُفلح فيه؛ فضرب به على يده، فسقط سيفه من يده؛ فأخذه ابن مسعود، ثمّ جثى على صدره، وقال له:
لعنة الله ورسوله عليك! أرأيت أين جلستُ؟! أيّها الرجل المتكبّر! يا فرعون! كم آذيت رسول الله!
قال أبو جهل:
انهض أيّها الصغير! من تكون أنت حتّى تقتلني؟! من يُريد أن يقتلني ينبغي أن يكون كحدّ أقلّ رجلاً قويًّا وشجاعًا، لكي يبقى مسجّلاً في التاريخ أنّ الذي قتلني رجل شجاع! فمن عساك تكون؟! قم عنّي!
ـ لن أذهب أبدًا، أريد أن أحزّ رأسك!
ـ أتريد أنت أن تقطع رأسي؟!
ـ نعم.
ـ إذن، لي حاجة عندك؛ وهي ألاّ تذهب برأسي إلى محمّد!
ـ قل ما عندك!
قال أبو جهل [ما معناه]:
إذا أردتَ أن تحزّ رأسي، لا تحزّه من فوق، فيبدو رأسي صغيرًا، بل حُزّه من تحت، حتّى يبدو كبيرًا، فيرتعب الرسول من هيئة رأسي!
انظروا إلى هذه الجاهليّة النكراء، وهذا الاستكبار! فجهنّم متعطّشة لأمثال هؤلاء.
يقول ابن مسعود [ما مفاده]:
يا كلب! سأقطع رأسك من أعلى منطقة، ليبدو أصغر من الجميع.
فحزّ رأسه من الأعلى، بحيث ظلّ نصف رأسه على جسده، حيث نرى أنّ الله العليّ الأعلى قد جعل قتل هذا الرجل على يد ابن مسعود؛ وهو رجل صغير وضعيف ونحيف!
ثمّ حمل رأسه، وذهب به إلى رسول الله۱ الذي كان مسرورًا إلى درجة أنّه وقع ساجدًا لله تعالى شكرًا، وقال [ما مفاده]:
ما أروعه من إله! فقد دعوت وقلتُ: «إلهي، لا أملك وسط هذه الجماعة أحدًا، سوى عليّ وحمزة وعُبيدة؛ وأعضاء جيشنا معدودون ولا يتوفّرون على عِدّة ولا عُدّة، ويفتقرون للتجهيزات العسكريّة، بحيث لو هجم عليهم الكفّار هجمة واحدة، لقضوا عليهم بأجمعهم»؛ فأمدّنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، إضافة إلى جبرائيل وإسرافيل وميكائيل، حيث عمد هؤلاء برمّتهم إلى مساعدتكم اليوم.٢
فباتّفاق جميع الكتب التاريخيّة الشيعيّة والسنّية، قُتل في هذه الحرب سبعون رجلاً من الكفّار، وأربعة عشر رجلاً من المسلمين؛ ستّة منهم مكّيون، وثمانية من أنصار المدينة، حيث قُتل من الكفّار أمثال عُتبة، وشيبة، والوليد، وحنظلة أخو معاوية بن أبي سفيان، وأمّية بن خلف، وحكيم بن حزام،٣ وجميع هؤلاء الزعماء، وحتّى أبو جهل الذي كان رئيس الفتنة قُتل أيضًا في هذه المعركة.
قصّة أسرى بدر لا سيّما العبّاس عمّ النبيّ
وبعد الذي حدث مع أبي جهل، بدأ الكفّار ينهزمون؛ فتعقّبهم المسلمون، ليأسروا منهم سبعين رجلاً؛ فكبّلوا هؤلاء الأسرى،٤ وأتوا بهم إلى النبيّ، ثمّ تحرّكوا صوب المدينة.
وإنّه لعجيب جدًّا أن يقتل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً سبعين رجلاً، ويأسروا سبعين آخرين!
وقد جاء في كافّة الكتب التاريخيّة الشيعيّة والسنّية بالاتّفاق أنّ:
ستّة وثلاثون رجلاً من تلك السبعين قُتلوا على يد أمير المؤمنين؛ في حين أنّ الباقي قُتل على يد بقيّة العسكر!٥
وفي هذه الحرب، أُثخن أميرُ المؤمنين بالكثير من الجراح، كما قدّمت فيها ملائكةُ السماء يد العون؛ ثمّ إنّهم أحضروا بعد ذلك الأسرى إلى المدينة.
وقد أمر رسول الله بحمل جثث الكفّار واحدة، واحدة، وألقوها في بئر كان هناك اسمه قليب بدر؛ وبعد أن ألقوا الجميع في ذلك البئر، وقف صلّى الله عليه وآله وسلّم عند فتحة البئر، وتلى هذه الآية:
﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا﴾.۱
فقال عمر:
يا رسول الله، مع من تتحدّث؟! إنّهم ميّتون، ولا يشعرون بأيّ شيء!
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما معناه]:
إنّهم يشعرون.. والله [إنّهم] أسمعُ مِنكم.
حيث أورد المؤرّخون السنّة هذا الكلام.٢
فجاؤوا بالأسرى إلى المدينة، وكان من بينهم العبّاس عمّ النبيّ؛ فأمسكوا به، وكبّلوه بالحبال والسلاسل، وأتوا به إلى المدينة؛ وذلك لأنّ نفقة جيش الكفّار كانت ليوم واحد على عاتق العبّاس الذي أحضر معه من مكّة عشرين أوقية من ذهب ليجعلها في نفقة الجيش ليوم واحد. فوضعوا الأسرى في موضع قريب من مكان نوم النبيّ؛ وكان العبّاس يئنّ من شدّة الوثاق الذي أوثقوه به، فلم ينم رسول الله تلك الليلة.
قيل له: «ما الذي يُسهرك يا رسول الله؟».
قال: «أسهر لأنين العبّاس».
فذهبوا، وأرخوا وثاقه، فنام العبّاس، وهدأ أنينُه.
قال النبيّ الأعظم: «مالي لا أسمع أنين العبّاس؟».
قيل له: «يا رسول الله، لقد أرخينا وثاقه».
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما معناه]:
لماذا أرخيتموه؟ وأمّا إذا فعلتم ذلك، فعليكم أن تفعلوه بالنسبة لجميع الأسرى! فلماذا أرخيتم وثاقه لوحده فقط؟! فبما أنّكم أرخيتموه، اذهبوا، وارخوا وثاق الكلّ.٣
فذهبوا، وأرخوا قيود الجميع.
وحينما حلّ الغد، أنزل الله تعالى آية جاء فيها [ما مضمونه]:
هؤلاء الأسرى الذين وقعوا بين أيديكم هم السبب الأساس من وراء جميع الفتن وأنواع الفساد؛ فإن شئتم، ضربتم رقابهم جميعًا؛ وإن شئتم، أخذتم منهم الفدية والدية، وأطلقتم سراحهم٤و٥
فالتفت رسول الله إلى المسلمين، وقال لهم [ما معناه]:
هؤلاء الأسرى يعودون إليكم؛ لأنّكم أنتم الذين أمسكتم بهم؛ فإن شئتم ضربتم رقابهم، وإن شئتم، أطلقتم سراحهم، وأخذتم فديتهم.
قالوا: «يا رسول الله، الأمر أمرك».
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما مفاده]:
إذا أطلقتم سراحهم، استشهد منكم أيّها المسلمون سبعون رجلاً في السنة القادمة، حيث ستندلع معركة اسمها معركة أحد يُقتل فيها سبعون منكم؛ وإذا قتلتموهم الآن، فلن تقع تلك الحرب، ولن يُقتل منكم أيّ أحد؛ لكن، إذا حرّرتموهم، ستأخذون فدية عنهم، فتشترون بواسطتها خيولاً ودروعًا وخوذًا وتجهيزات عسكريّة؛ مع أنّكم الآن أناس فقراء.
قالوا:
يا رسول الله، هذا الذي سنفعله؛ سنأخذ منهم الفدية الآن، ونُحرّرهم، ونشتري بأموالهم معدّات حربيّة؛ وليستشهد منّا سبعون رجلاً في السنة القادمة، ويدخلون الجنّة؛ فنحن نتمنّى الشهادة والجهاد، ولا نخاف الموت.
فقال النبيّ الأعظم [ما معناه]: «أنتم وشأنكم».۱
فتقرّر أن يأخذوا منهم فدية، ويُطلقوا سراحهم؛ فكانوا يأخذوا منهم ـ واحدًا واحدًا ـ فدية، ويُحرّروهم؛ وأمّا الذين لم يكونوا يتوفّرون ـ حقيقةً ـ على أموال، فقد كانوا يُطلِقون سراحهم مجّانًا؛ في حين، قال النبيّ عن الذين يُتقنون حرفة الكتابة [ما مضمونه]:
احتفِظوا بهم في المدينة، وليُعلّم كلّ واحد منهم طفلين من الأنصار الكتابة والخطّ؛ ثمّ يُطلَق سراحُه بعد ذلك.
وبالنسبة للذين كانت لديهم أموال، فقد جرى فداؤهم بحسب درجة استطاعتهم، حيث أخذت منهم الفدية بدرجات مختلفة.٢
وحينما وصل الدور إلى العبّاس عمّ النبيّ، قال [ما مفاده]:
يا محمّد، يا ابن أخي، لم أكن راغبًا بالمشاركة في هذه الحرب؛ فقد أحضروني قسرًا؛ فاسمح لي الآن بالرجوع إلى مكّة، وأطلق سراحي.
قال رسول الله [ما مضمونه]: «عليك إعطاء الفدية (أي الأموال)».
قال: «أنت تعلم أنّني رجل فقير، ولا أملك شيئًا». لقد أحضر معه من مكّة عشرين أوقية؛ أي ما يعادل مائتي كيلو من الذهب، لكي يُعطيها من أجل نفقة الجيش ليوم واحد؛ ومع ذلك، يقول: لا أملك شيئًا، وأنا فقير!
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما معناه]: «هذا غير ممكن».
قال: «حسنًا، اقبل منّي كفدية تلك العشرين أوقية التي غنمها منّي جيشُك».
قال رسول الله [ما مفهومه]:
كلاّ! لقد جئتَ بها كمساعدة للجيش؛ وقد أخذوها منك، وعليك أن تُعطي الفدية من أموالك الخاصّة!
قال:
لا أملك شيئًا، وقد تركت بمكّة عيالاً كثيرين عليّ إطعامهم والإنفاق عليهم، وليس لي مال؛ فأنت يا محمّد عالم بحالي!
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «هذا غير ممكن، عليك أن تفدي نفسك».
وباختصار، فقد بدأ بالبكاء والعويل، فقال رسول الله: «لا يُمكن ذلك، عليك أن تُعطي الفدية»؛ فكان ذاك يُصرّ، والنبيّ يستحيي باستمرار؛ إلى أن قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ بِمَكَّةَ حَيْثُ خَرَجْتَ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ؟!».
فحينما أراد العبّاس الخروج من مكّة، جمع أمواله بأسرها، وأعطى أكياسه الذهبيّة إلى زوجته أمّ الفضل، وقال لها:
إن أنا رجعت من هذه الحرب، فرُدّي إليّ سريعًا هذه الأكياس؛ وإذا متّ، فخذي هذا المقدار، وليُقسّم الباقي على ورثتي بناء على الحساب الكذائيّ.
فقال العبّاس فجأة: «يا محمّد، من نبّأك بهذا؟!»؛ إذ حينما أراد الخروج من البيت، كان موجودًا هو وزوجته والله وحسب؛ ولم يكن لأيّ أحد آخر العلم بذلك.
قال رسول الله [ما معناه]: «نبّأني الله، نبّأني الله!».
فصاح العبّاس: «أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ اللهُ وأشهدُ أنَّك رَسولُ اللهِ؛ فهل سُتطلق سراحي الآن؟!».
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما مضمونه]: «كلاّ، فإسلامك مقبول؛ لكن، عليك إعطاء الفدية!».
وباختصار، فقد أدّى العبّاس الفدية حتّى آخر قرش، ثمّ أُطلق سراحُه.۱
أمير المؤمنين عليه السلام فاتح بدر
وقد تجمّعت بأيدي المسلمين أموال كثيرة، فذهبوا، واشتروا بها الجياد، والسيوف، والدروع، والخوذ، وأكملوا تجهيزاتهم العسكريّة؛ فتمكّنوا بذلك في السنة القادمة حين اندلاع غزوة أحد من الوقوف بوجه كفّار قريش، وإلاّ، لكان قُضي عليهم جميعًا.
إذا رجعتم إلى كافّة المسانيد الشيعيّة والسنّية، ستجدونها تذكر بأجمعها: «فاتح هذه الغزوة أمير المؤمنين؛ ولولاه، لخسر المسلمون الحرب»؛ لأنّه قتل لوحده ستّة وثلاثين رجلاً من القتلى السبعين؛ بينما قُسّم الأربعة والثلاثون الباقون بين كافّة المسلمين؛ هذا، مع أنّ ثلاثة ألف ملك أعانوهم في ذلك!٢
ولهذا، فإنّ أمير المؤمنين كان يُحيي دائمًا ليالي السابع عشر من شهر رمضان إلى آخر عمره الشريف، من دون أن ينام ولو ليلة واحدة من هذه الليالي؛٣ شكرًا للنعمة التي تفضّل بها الباري عزّ وجلّ على المسلمين، حيث نجى رسول الله من هذه الحرب، ورجع منها بصحّة وعافية، وعادت عواقب أعمال الكفّار عليهم، ولم تتحقّق مقاصدهم تجاه النبيّ والمسلمين.
وفي صباح اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الأربعين ـ الذي ضُرب فيه أمير المؤمنين ـ ، جاء الإمام الحسن عنده عليه السلام، وقال [ما معناه]: «يا أمير المؤمنين، إنّني أرى وجهك متغيّرًا!».
فقال عليه السلام [ما مفاده]: «أوشك قضاء الله أن ينزل».
قال الإمام الحسن [ما مفهومه]: «وما هو هذا القضاء يا أبتاه؟!».
فقال عليه السلام [ما مضمونه]:
ليلة البارحة، كانت هي ليلة السابع من شهر رمضان، وهي ليلة بدر؛ فلم أنم فيها إلى الصباح شكرًا لله على ذلك الفتح والنصر الذي أنعم به تعالى على المسلمين، ونجاته لنفس النبيّ، وانهمكتُ فيها بالعبادة؛ وحينما كنت جالسًا بين الطلوعين، ملكتني عيناي، فسنح لي (جدّك) رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت:
يا رسول الله، ما لقيتُ من أُمَّتكَ من الأَوَدِ واللَّدَدِ!
فقال لي: «(يا عليّ)، ادع عليهم».
فقلت: اللهمّ أبدلني بهم من هو خير لي منهم (وهبني لقاء الأبرار)، وأبدِلهم بي من هو شرّ لهم منّي.
فقال جدّك [ما معناه]: «يا علي، لقد استُجيب دعاؤك، وستكون ضيفنا بعد ثلاثة أيّام».
فهذا الذي ذكره اين الأثير الجزريّ الذي كان سنّيًا في كتاب أُسدُ الغابة؛ وقال أيضًا [ما مفاده]:
من أخبار الإمام الغيبيّة أنّه حينما أراد الذهاب للصلاة، صاحت الإوزّ، وأمسكت بمناقيرها ثوب عليّ، فأرادوا إبعادها، فقال عليه السلام: «دَعُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ صوائحُ تتبَعُها نَوَائِحُ».
فهذا من أخبار عليّ الغيبيّة.
ولا تعجبوا من ذلك؛ إذ حينما تُوفّي عليّ، لم يُرفع حجر من بيت المقدس، إلاّ ووُجد تحته دمٌ عبيط، بحيث كان الناس يتعجّبون من هذا الأمر؛ إلى أن وصل خبر ضربه عليه السلام إلى الشام؛ فعلموا أنّ ذلك الدم العبيط هو دم الولاية.۱
وذلك لأنّ الإمام قلب عالم الإمكان؛ فإذا أصابه أذى أو بليّة، فإنّ موجودات العالم بأجمعها ستحزن.
﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾،٢ ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.٣
نَسألُكَ اللهمَ وندعُوك، ونُقسمُ عَليكَ بِمحمّدٍ وعليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ والتِّسعةِ الطيّبةِ الطّاهرةِ مِن ذرّيةِ الحسينِ، وبِاسمِك العظيمِ الأعظمِ الأعزِّ الأجلِّ الأكرمِ يا الله، يا الله، يا الله ... !
إلهي، اغفر لنا، واعف عن ذنوبنا بأسرها، ولا تُخرجنا من الدنيا حتّى ترضى عنّا، واجعلنا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام الحقيقيّين، ومن أتباع دينك المبين وأنصاره، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدًا في هذه الهزائز وفي فتن آخر الزمان، ونوّر قلوبنا ينور اليقين، واشرح صدرونا بنور الإسلام، وأدخلنا في كلّ خير أدخلت فيه محمّدًا وآل محمّد، وأخرجنا من كلّ سوء أخرجته منهم؛ اقض حوائجنا الشرعيّة، واشف مرضانا، واغفر لموتانا، وأرضِ عنّا ذوي الحقوق، ولا تُقصر يدَ ولايتِنا عن التمسّك بحبل أهل البيت، وتفضّل علينا في يوم القيامة بشفاعتهم، وقرّب فرج إمام زماننا!
وعجِّل اللهُمَّ في فَرَجِ مَولانا صاحبَ الزَّمان