المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةعيد الفطر
التاريخ 1427/10/01
التوضيح
لماذا لا تقبل الأعمال إلا بمعرفة الإمام وولايته؟ وما معنى معرفة الإمام؟ وهل يضرّ غياب الإمام وحضوره في تكميل النفوس؟ وكيف يساعد الطالبين في غيابه؟ وهل ينسدّ الطريق إلى الله في عصر الغيبة؟
تجيب هذه المحاضرة عن كلّ ذلك ببيان حديث اعرف إمامك فإنّك إذا عرفته لم يضرّك تقدّم هذا الأمر أو تأخّر وغيرها من الروايات الدالّة على اشتراط الولاية في قبول الأعمال، كما تبعث الأمل في القلوب من خلال كلام الإمام العسكريّ عليه السلام حول من عرف الله من قلبه أنّه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليّه لم يتركه في يد هذا المتلبّس الفاجر.
هو العليم
التسليم للولاية شرط قبول الأعمال وتبدّل جوهر النفس
خطبة عيد الفطر لعام ۱٤٢۷ هـ
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بسم الله الرّحمن الرّحیم
الحَمدُ لِلَّهِ الواصِلِ الحَمدَ بِالنِّعَمِ و النِّعَمَ بِالشُّکرِ. نَحمَدُهُ عَلَی آلائِهِ کَما نَحمَدُهُ عَلَی بَلائِهِ. ونَستَعینُهُ عَلَی هذه النُّفوسِ البِطاءِ عمّا أُمِرَت بِهِ، السِّراعِ إلَی ما نُهیَت عَنهُ. و نَستَغفِرُهُ عمّا أحاطَ بِهِ عِلمُهُ و أحصاهُ کِتابُهُ؛ عِلمٌ غیرُ قاصِرٍ و کِتابٌ غیرُ مُغادِرٍ. و نُؤمِنُ بِه إیمانَ مَن عایَنَ الغُیوبَ و وَقَفَ عَلَی المَوعودِ؛ إیمانًا نفی اخلاصُه الشرك و یقینُه الشّك. و نَشهَدُ أن لا إله إلّا الله [وَحدَهُ لا شَريك لَه] و أنَّ محمّدًا صلّی الله علیه و آله [وَ سَلَّمَ عَبدُهُ و] رَسولُهُ؛ شهادتینِ تُصعِدانِ القَولَ و تَرفَعانِ العَمَلَ، لا یَخِفُّ میزانٌ توضَعانِ فیه و لا یثقُلُ میزانٌ تُرفَعانِ عنه.
أوصیکُم عِبادَ الله بِتَقوَی الله الَّتي هي الزّادُ و بِها المَعاذُ [المعاد]؛ زادٌ مُبلِّغٌ و مَعاذٌ [معاد] مُنجِحٌ. دَعا إلَیها خیرُ داعٍ و وَعاها خَیرُ واعٍ؛ فَأسمَعَ داعیها و فازَ واعیها.۱
أعوذُ بالله مِن الشّیطان الرَّجیم
﴿بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمٰنِ ٱلرَّحِيمِ ۱ وَٱلۡعَصۡرِ ٢ إِنَّ ٱلۡإِنسٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٣ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾.٢
اللهمّ صلّ و سلّم و زِدْ و بارِك علی رسولِك و خاتمِ رُسُلِك و مُبلِّغِ رسالاتِك الرّسولِ النّبیِّ المكیِّ المدنیِّ التهامیِّ القرشیِّ صاحبِ لواءِ الحمدِ و المقامِ المحمودِ أبي القاسمِ محمّدٍ الحمیدِ المحمودِ و علیٰ أخیه و وصیِّه و صهرِه و ابن عمِّه و خلیفتِه مِن بعدِه قائدِ الغرِّ المُحجّلین و یَعسوبِ الدّین و إمامِ المُتّقین أمیرِ المؤمنین عليّ بن أبي طالب علیه السّلام و علَی الصّدیقةِ الطّاهرةِ الحوراءِ الإنسیّةِ البتولِ العذراءِ و الشفیعةِ یوم الجزاءِ فاطمة الزّهراءِ و علیٰ سبطی الرّحمةِ الحسنِ و الحسینِ سیّدَي شبابِ أهلِ الجنّةِ و علیٰ علیِّ بنِ الحسینِ و محمّدِ بنِ علیٍّ و جعفرِ بنِ محمّدٍ و موسی بنِ جعفرٍ و عليّ بن موسی و محمّدِ بنِ عليّ و عليّ بنِ محمّدٍ و الحسنِ بنِ عليّ و الحجةِ القائمِ المنتظرِ المهديّ، حُجِجِك علیٰ عبادك و أُمنائِك فی بِلادِك. اللهمّ سهِّلْ منهجَهم و عجِّلْ فی فرجِهم و اجْعَلْنا من شیعتِهم و موالیهم و الذّابّین عنهم و لا تحرِمْنا زیارتَهم فی الدّنیا و شفاعتَهم فی الآخرة.
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بسم الله الرّحمٰن الرّحیم
قال الله الحکیم فی کتابه:
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ﴾.۱
ما الحاجة إلى الأنبياء مع وجود الفطرة؟
يخاطب الله نبيّه في هذه الآية أن يا نبيّي إنّي أرسلت موسى بن عمران لكي يخرج قومه من الظلمات ويدخلهم إلى عالم النور ويذكّرهم بأيّام الله. وهذا الأمر هو من الآيات والعلامات للسائرين في سبيلي بقدم راسخ وعزم متين وهمّة عالية والصابرين الشاكرين على ما يصيبهم.
إنّها آية يمكن للإنسان أن يحدّد طريقه في الحياة من خلالها. فحيث إنّ نفس الإنسان قد تعلّقت بعالم المادّة والكثرات، وبواسطة نسيانها وغفلتها في هذا التعلّق عن عالم المعنى وعالم النور، فإنّ الإنسان يقع في اشتباه وترديد في تحديد موارد الصواب والخطأ، وذلك النقصان الذي يحصل له بسبب هذه التعلّقات يسبّب ميله إلى التلذّذ والأمور الموافقة للأهواء والميول النفسيّة والشهوانيّة، ويختار كلّ ما يوافق الميول والأهواء في هذا الطريق، ويتمسّك في تبرير ذلك بالحيل والوسائط والوسائل.
فمن جهة، وبواسطة نور الإيمان الذي أودعه الله فينا فإنّ فطرتنا التي هي موجّهة على أساس التوحيد وتتوجّه نحو التوحيد وعالم النور، تميل بنا نحو المعنويّات وتلك الحقائق التوحيديّة، ومن جهة أخرى فإنّ التعلّق بالمادّة والدنيا وعالم الكثرات والمشتهيات النفسيّة تسوق ذهننا وفكرنا وتوجّهنا نحو اللذّات النفسيّة والدنيويّة. وفي هذه المخمصة لا بدّ للإنسان أن يتحلّى بقدرة وقوّة تمكّنه من تحديد المواضع وتعيين الصلاح والفساد، ويختار الطريق المطابق للموازين الفطريّة والمنسجم مع توجيهه نحو عالم التوحيد وعالم النور.
ولكن حيث إنّ جواذب عالم المادّة وما يشدّ الإنسان والنفس في عالم الدنيا تبدو مرغوبة جدًّا وتستحقّ الاهتمام، فإنّ النفس شاءت أم أبت تترك طريق الفطرة ورعاية المصلحة ذاك، وتتوجّه نحو الأهواء النفسيّة بنقاب وصبغة إلهيّين. ولأجل الوصول إلى هذه الغاية تستفيد من الوسائل الماديّة والدينيّة، وتُظهر لنا تلك التلذّذات النفسيّة التي تؤدّي إلى ظهور شخصيّتنا وأنانيّتنا بمظهر وغطاء إلهيّ، فنميل غافلين عن ذلك نحو الانحرافات والظلمات والتحيّر والترديد دون أن نلتفت.
لذلك فإنّ الله يقول إنّا أرسلنا موسى إلى قومه لكي يخرجهم من ظلمات الجهل وظلمات التخيّلات والتوهّمات. لا أنّ قوم النبيّ موسى كانوا بغير دين وأنّهم كانوا يعبدون فرعون والأصنام، فالأمر الذي لا شكّ فيه أنّ قوم موسى كانوا يعبدون الله ومتديّنين بالأديان الإلهيّة، ولكنّهم كانوا محاصرين بين قوم فرعون. فيأمر الله موسى أن انطلق نحو قومك فإنّهم متديّنون بديني ولكنّهم مع ذلك في الظلمات وهذا الأمر عجيب جدًّا!
ما هو الشرط الأساس لقبول الأعمال وتغيّر جوهر النفس؟
وهذه هي النقطة التي علينا أن ندقّق فيها ونصل إليها، وهي أنّ مجرّد التدين بدين والالتزام بمدرسة ما لا يؤدّي إلى الدخول في عالم النور والهداية، ومجرّد الالتزام بالتكاليف والتقيّد بالقيود وبذل الجهد وإتعاب النفس في التكاليف والأحكام لا يسبّب رفع التحيّر والترديد والشكّ ورعاية الصلاح وتمييز الحقّ من الباطل. هناك حاجة إلى المربّي والمعلّم والإمام، لكي يرشده ويعينه في الموارد التي يختارها الإنسان طبق تشخيصه وتحديده للمصلحة وتخيّلاته وتوهّماته التي هي لازمة للنفوس البشريّة الناقصة فيقول له: إنّ الطريق الذي تسلكه خاطئ وإن كنت تظنّ أنّه مصيب! والرواية التي تفهمها هكذا هي باطلة وإن كان سندها متّصلاً! والآية التي تدركها بهذا النحو إدراكك لها خاطئ، ومعناها شيء آخر، والأمر الذي قيل لك باطل، وقد كان على أساس هوى النفس لا التزكية! والمقالة التي تراها في مكان ما هي مخالفة للواقع، وإن كانت صادرة من إنسان وجيه. فهذه أمور تسبّب أن يكون الإنسان في الظلمة، وإن كان له دليل دينيّ وشرعيّ في تبرير عمله، فهذا لا يفيد، لا بدّ أن يكون هناك من موسى ومن عيسى ومن الخضر وأن يكون هناك معلّم وأن يكون هناك وليّ وإمام لكي يميّز تلك المرتكزات الذهنيّة التي هي مزيج من الأمور الحقّة الواردة من ناحية الشرع الأنور والتوهّمات والتخيّلات.
ولا قدّر الله أن نكون كذلك الذي قيل في حقّه:
چو علم آموختی از حرص، آنگه ترس کاندر شب | *** | چو دزدی با چراغ آید گزیدهتر برد کالا۱ |
يقول:
إذا تعلّمت فخف من الحرص فإنّ اللصّ في الليل إن كان معه مصباح كان أمهر في انتخاب ما يسرق.
إذا أراد الإنسان أن يسير على أساس أفكاره وتوهّماته وتخيّلاته دون الاعتماد على الإمام عليه السلام أو النبيّ والرسول من قبل الله أو الوليّ الإلهيّ الذي انشرح قلبه بنور الإيمان وانفتحت له عوالم الغيب ولم تعد الأمور مجهولة لديه ولم تعد للأمور والمسموعات بالنسبة إليه وجهة ظاهريّة، وما يراه يرى أمورًا وارءه، وما يسمعه يسمع حقائق وراءه، فإذا أراد الإنسان أن يسير من دون التوسّل بهؤلاء والتفويض والتسليم لهم وبدون رعاية هذا الأمر الحيويّ المهمّ، فإنّه سيختار أمورًا تؤدّي إلى أن يحلّ في الظلام.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال:
یَرَونَ ما لا یَرَی النّاس۱، فهؤلاء أناس ما يرونه لا يراه الناس، الناس لا يدركون إلا المسموعات ولا يرون إلا المكتوبات ولا يهتمّون إلا بالإعلانات والشائعات، أما ماذا يكمن وراء هذه الشائعات والمكتوبات والمسموعات والمبصرات فلا علم لهم ولا يصل فكرهم إلى ذلك ولا يملكون وسيلة وآلة تمكّنهم من رؤية ما وراء ذلك. إنّ أعيننا مهما كانت قويّة ومهما كنّا نتمتّع ببصر قويّ لا يمكنها أن ترى ما وراء الجدار، ولرؤية ما وراء الجدار لا بدّ من وسيلة، ولكنّ هذه الوسيلة غير متوفّرة لنا. وهكذا هناك حاجة إلى وسيلة لتشخيص الصلاح والفساد، ولكنّ هذه الوسيلة غير متوفّرة لنا ولم تحصل لدينا.
أمّا بالنسبة إلى الأمور التي كنّا نسمعها ولا زلنا، والأمور التي نراها وندركها، فقد وصلنا إلى قوّة التشخيص الفعليّة، وصار لنا تمييز فعليّ بين الحقّ والباطل، فلا نحتاج إلى نبيّ الله وإمام نكون معه على تواصل؛ لأنّ لدينا قدرة على التشخيص فعلاً وندرك الصواب ونميّز الحقّ والباطل والمجاز والحقيقة والاعتبار والأصل، ووصلنا إلى مرتبة الفعليّة فيها.
أمّا أنّنا نحتاج الآن، فلأنّنا لا نملك هذه الواسطة وهذه الوسيلة، هذه الواسطة والوسيلة هي عبارة عن النبيّ موسى، النبي عيسى، خضر الطريق، النبيّ الخاتم، وفي المرتبة الأعلى إلى المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام والذين هم معيار الحقّ والباطل وميزان الصراط المستقيم لا لأمّتهم فحسب بل بالنسبة إلى جميع الأمم الماضية في كلّ مرتبة ومرحلة، وبالنسبة إلى مستويات مختلف أنبياء الله ورسله هم أيضًا ميزان لمعرفة مراتبهم، وحدهم هؤلاء هم الذين وصلوا إلى مقام العصمة والطهارة المطلقة، فلا شيء وراء ذلك، فالعصمة في مقام الظاهر ليست بالأمر المهمّ، ويمكن لكثيرين أن يتمتّعوا بها، وأنبياء الله في مقام التبليغ لا بدّ أن يكونوا واجدين للعصمة في الظاهر وفي الفعل. المهمّ هو العصمة في الباطن والعصمة في عالم التخيّلات وعالم المثال، والعصمة في عالم الملكوت، وهكذا في المراتب الأرفع والتي تنتهي إلى مرتبة التجرّد المحض والتامّ: لَا فَرْقَ بَیْنَك وَ بَیْنَهَا إِلَّا أَنَّهُمْ عِبَادُك وَ خَلْقُك فَتْقُهَا وَ رَتْقُهَا بِیَدِك.٢
لا فرق بين هذه الذوات المقدّسة والنفوس المطهّرة وبين إلهها إلا أنّه هو الله وأنّهم مخلوقون، هو معبود وهم عابدون وعبيد، هو علّة وهم معلولون، والفرق هو في الوجه الخلقيّ، أمّا من حيث إحراز الوجود المطلق وإحراز الصفات والأسماء الكليّة للحقّ، فقد وصل هؤلاء إلى مرتبة لا يتصوّر فيها أيّ نقصان. فعلى الإنسان أن يضع يده في يد هؤلاء فالوسيلة والواسطة بأيديهم.
يقول الإمام الباقر عليه السلام في هذا المجال إنّ مَن دانَ بِدینٍ یَجهدُ فیه نفسَه و لَیسَ لَه إمامٌ مِن اللهِ فسَعْیُه باطلٌ و هو مُتحیّرٌ ضالٌّ و اللهُ شانئٌ لِعملِه.۱
من كان متديّنًا لله لا أنّه كافر أو بغير دين بل متديّنًا يصلّي ويصوم ويحجّ، ولكن لم يكن له من الله إمام يضع يده في يده ويطرح عليه الأمور، ويتلقّى من نفسه، وتسوقه نفسه المطهّرة وتخرجه إلى الفعليّة، فإنّ سعي هذا الإنسان باطل، صلاته وصيامه وحجّه لا تنفع، إنّه يؤدّي تلك الصلاة والصيام في عالم التخيّل لا لأجل الله، وذلك الحجّ الذي يقوم به هو في عالم الخيال وعالم الوهم، فحمده ليس حمدًا، وركوعه ليس ركوعًا، فذهنه في مكان آخر، واتّجاه نفسه واتّجاه قلبه نحو عالم الأنانيّة وعالم الشخصيّة. فهذا الإنسان سعيه باطل، وحتّى النهاية أيضًا هو متحيّر ضال، ويسير في عالم التحيّر، يصلّي ولكن لا يدرك الصلاة، يحجّ ولكنّه في دوار، يصوم ولكنّ صيامه هذا لا يستقرّ في روحه، العبادة التي يؤدّيها نفسه تحدّثه أن أيّ عبادة هذه؟! إنّها عمل اعتياديّ وتكراريّ، ولكن حيث إنّ الله أمر به فنحن نؤدّيه! هذه العبادة لا تفيد ولو مضت على هذا المنوال ألف سنة فلن يتمكّن الإنسان من الارتقاء والتقدّم خطوة واحدة ولا درجة واحدة، والله تعالى يبعد عمله عنه ولا يقبله.
لذلك فإنّ الشرط الأساس في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة لقبول الأعمال وتغيّر حقيقة النفس هو توجّه النفس وتسليمها لإمام حيّ ووليّ حيّ.
إنّ الذين لا يعتقدون بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام وخلافة الأئمّة الاثني عشر هم جميعًا متحيّرون وضالّون، وسعيهم باطل، وصيامهم باطل، وصلاتهم لا تتجاوز لقلقة اللسان، العمل الذي يقومون به لا روح ولا باطن ولا نشاط له، هو كالتمثال الذي يعلّمونه الأحوال والأفعال، لا تلاحظ لديهم حركة، ألا تشعرون بذلك؟!
كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يعبّر عن الذين يعملون على أساس تشخيصهم الخاص وما يرونه لأنفسهم صالحًا فيقول:
هؤلاء يصلّون ولكنّ الصلاة لا تحرّكهم وهم متوقّفون في أماكنهم. يصلّون صلاة الليل ولكن صلاة الليل هذه لا تخرجهم من عالم الأنانيّة ومن عالم التشخّص والتقيّد. يقرؤون القرآن وقرآنهم يحبسهم في تلك الحدود ولا يحصل لديهم اختلاف عمّا سبق. فهؤلاء كالجلد الذي تُنفخ فيه الريح، فالمنفعة الحاصلة فيه ليست من جوهر الذات، بل من الهوى والتخيّلات والتوهّمات. وعند الموت إذا ما خرجت الريح وذلك الهواء فسيشعرون أنّه لم يبق لهم من ذخيرة العمر سوى الجلد.
معرفة الإمام والخروج من الحيرة
لذلك فإنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول هنا: إعرِفْ إمامَك فإنّك إذا عَرفْتَ لا یَضُرُّك تَقَدَّمَ هذا الأمرُ أم تَأخَّرَ؛۱عليك أن تعرف إمامك، فإذا عرفته فقد كمل عملك وانتهى أمرك. لقد خرجت من عالم التحيّر والشكّ، تخرج من عالم التوهّم ولا تكون في أعمالك أسير الترديد والشكّ وهل أنّ هذا العمل صحيح أم خاطئ، أقوم به أم لا أقوم به؟ فهذا يقول كذا وذاك في مقابله يقول كذا، فبأيّهما أعمل؟ فهذا الرجل صاحب العلم يدعو إلى هذا الاتّجاه، وصاحب العلم ذاك يدعو إلى ذاك.
أحداث المشروطة والمستبدّة من نماذج آثار الجهل بالإمام
لقد كان هذا الأمر واضحًا للجميع في أحداث المشروطة، فقد كان الطرفان كلّهم من العلماء والفقهاء، فسواء الذين كانوا يدعون إلى المشروطة كانوا من العلماء والفقهاء وأعاظم علماء الظاهر، والذين كانوا يدعون إلى خلافها كانوا من العلماء والفقهاء والمراجع ومن الحاصلين على العلوم الظاهريّة. والله يعلم بأيّ بلايا ابتلي الناس بينهما وماذا حلّ بهم! أفلم يكن الناس آنذاك يصلّون؟ بل كانوا يصلّون. أم لم يكونوا يصومون؟! أم لم يكونوا يحجّون؟! ألم يكونوا يقرؤون القرآن؟ بل كانوا يقرؤونه. ألم يكونوا يصومون؟ ألم يكونوا يحجّون؟ ألم يكونوا يقرؤون القرآن؟ ألم يكونوا يقومون بالتكاليف والعبادات؟! ألم يكونوا يقومون بتعاليم الدين وأوامره؟! فماذا حصل حتّى حلّت تلك الفاجعة في ذاك الزمان وحدثت تلك الأمور ووقع الناس في وادي الهلاك والضلالة، وأيّ نفوس هلكت، وأيّ أناس في ذلك الزمان ابتلوا في سبيل وصول الأيدي الخفيّة إلى رغباتها؟!
كلّ ذلك كان لأنّ الناس في ذلك الزمان لم يكن لها إمام، لأنّ الناس في ذلك الزمان لم يكن لها قائد يطوي بها الطريق، لأنّ الناس آنذاك لم يكن لها أناس یَرَونَ ما لا یَرَی النّاسُ و یَسمَعونَ ما لا یَسمَعون.۱فالعلماء الذين يجرّون الناس نحو هذا الاتّجاه هم أنفسهم كهؤلاء الناس، ولكن لديهم علم ظاهريّ فقط. هؤلاء الذين كانوا يسيرون بالناس نحو هذا الاتّجاه أو ذاك لم يكونوا يختلفون عن أتباعهم من حيث التخيّل والتوهّم، فقد كان التابع والمتبوع في حال سواء، فرغم التفاوت في الظاهر لم يكن هناك فرق في السيرة، ﴿ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ﴾٢.
وهذه النقطة التي يهدي إليها الإمام عليه السلام نقطة حسّاسة أن اعرِفْ إمامَك. أفلا نعرف إمامنا نحن؟ كلا لا فائدة من هذه المعرفة! هذا الإمام الذي نعرفه الآن، وإمام الزمان الذي نعرفه، معرفتنا به ليست معرفة، إنّها جهل، ليست علمًا بل توهّم وتخيّل. محض تصوّر أنّ هناك إمامًا وهو غائب في مكان ما، وقد غاب ألفًا ومائتي عام، والله تعالى سيظهره يومًا ما، هذا التصوّر لن يحلّ لنا مشكلة، ونحن هكذا في الظلمات.
ما هي المعرفة الحقيقيّة بإمام الزمان عليه السلام؟
ما يقوله الإمام الصادق عليه السلام لذلك الراوي عندما يبيّن خصوصيّات زمان ظهور وليّ العصر وآثاره وبركاته فإنّ الراوي يتأسّف ويتحسّر ويقارن بين زمان الإمام الصادق عليه السلام وزمان بقيّة الله، ولأنّه لا يبلغ ذلك الزمان فإنّه يتأسّف، فيقول له الإمام: لا تحزن، لا تتأثّر، لا تتصوّر أنّك لست في ذلك الزمان، أيّها المسكين، إمامك الآن جالس قربك، وأنت تتأسّف لأنّك لن تدرك زمان الظهور؟! أنت تتأسّف لأنّك لماذا لا تلغ زمان ظهور إمام الزمان؟! إنّ إمام الزمان أمامك. اعرف إمامك فلو أنّك كنت قد عرفت إمامك لما تأسّفت ولما حزنت! فإذا عرفت إمامك لا یَضُرُّكَ تَقَدَّمَ هذا الأمرُ أم تَأخَّرَ لن يختلف الحال بالنسبة إليك سواء تعجّل زمان ظهور ولدي بقيّة الله وتقدّم وأدركته أم تأخّر ولم تدركه وفارقت الدنيا. ويستشهد الإمام الصادق عليه السلم بالآية الشريفة من القرآن: قال الله تعالیٰ: ﴿يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡ﴾؛٣ فيا من حضروا في يوم القيامة، من كان إمامكم في الحياة الدنيا؟ من كان مقتداكم في الحياة الدنيا؟ إلى أيّة وجهة كان توجّهكم في الدنيا؟ أيّة شخصيّة جعلتم أسوة وسرتم خلفها؟ من هو الذي جعلتموه أسوة لكم وإمامًا لكم واتّبعتموه؟ هل لهذا الإنسان صلاحيّة الإمامة أم لا؟ هل هذا الإنسان يرى ما لا يرى الناس؟ هل هذا الإنسان يسمع ما لا يسمع الناس؟ هل يسمع حقيقة لا يسمعها الناس؟
﴿يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡ﴾؛ فنحن في يوم القيامة لا نجعلكم أيّها الناس جميعًا أنتم والشيعة سواء، بل كلّ واحد منكم سيتّبع الإمام نفسه الذي كان يتّبعه هنا، ففي يوم القيامة يأتون به ويصطفّ خلفه جميع أتباعه، يأتون به ويكون خلفه أتباعه في الدنيا. يأتون به ويجعلون الذين اتّبعوه معه. هذه هي الحقيقة!
الإمام العسكري يبعث الأمل: من علم الله من قلبه… أنّه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليّه…
هناك رواية عجيبة عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، ولنا في هذه الرواية بشارة وهي تحيي قلوبنا وتبعث فيها بارقة الأمل، الرواية مفصّلة جدًّا ذكرها الشيخ الطبرسي رحمه الله أيضًا في الاحتجاج حيث يذكر الإمام كلامًا عجيبًا جدًّا ورفيعًا حول الذين تشرّفوا بالإيمان في هذه الدينا ولكنّهم يدعون الناس إلى الدنيا وإلى أنفسهم، ويستشهد على ذلك بكلام الإمام الصادق عليه السلام في انتقاده هؤلاء الذين يدعون الناس إلى أنفسهم بأنّهم علماء سوء يسدّون الطريق إلى الله أمام الناس، ويخمدون بوارق الأمل فيهم ويسدّون طريق التجرّد والتوحيد والعرفان أمامهم، ويجرّونهم نحو الدنيا والأهواء النفسيّة، ويجعلون وجود الناس العوام في هذه الدنيا والذي هو لأجل الوصول إلى الفعليّة ومراتب التوحيد والتجرّد مضمحلاًّ هالكًا. ويقارن بين علماء بني إسرائيل وعلماء الأمّة ويرى المعيار واحدًا في كليهما، ويخبر عن أنّ ذلك المصير الذي ابتلي ويبتلى به علماء بني إسرائيل في الدنيا والآخرة هو مصير هؤلاء العلماء لا يختلف عنه. ثمّ يحصل اليأس للراوي في هذا الأمر وأنّه ما العمل في النهاية؟ هل يجب أن نقف مكتوفي الأيدي؟ يا ابن رسول الله أنت تقول إنّ ولدي غائب وإنّ الله يخفيه عن أعين الناس، وهو ليس حاضرًا بين الناس كي يجيب عن مسائلهم ويوضّح مشكلاتهم. فيقول الإمام كلاّ ليس الأمر هكذا، إنّ مسألة الإمام مسألة وراء عقولكم وتوهّماتكم وتخيّلاتكم، الإمام عليه السلام لا فرق عنده بين الحياة والموت، الإمام عليه السلام لا فرق عنده بين الظهور والغياب: لا جَرَمَ أنَّ مَن عَلِمَ اللهُ مِن قَلبِهِ مِن هؤلاءِ العَوامِ [القَومِ] أنَّهُ لا یُریدُ إلّا صیانَةَ دینِهِ و تَعظیمَ وَلیِّهِ لَم یَترُکهُ فی یَدِ هذا المُتَلَبِّسِ الکافِر، و لکنَّهُ یُقَیِّضُ لَهُ مُؤمِنا [یَقِفُ بِهِ عَلَی الصَّوابِ] ثُمَّ یوَفِّقُهُ اللهُ لِلقَبولِ مِنه فَیَجمَعُ اللهُ لَهُ بِذَلِکَ خَیرَ الدُّنیا و الآخِرَة وَ یَجمَعُ عَلَی مَن أضَلَّهُ لَعنَ [لَعنًا في] الدُّنیا و عَذابَ الآخِرَة.۱
لا تتصوّر أنّ ولدي غائب وإمامكم مخفيّ فيُسدّ أمامكم باب الدخول والسير إلى الله والتجرّد والتوحيد، كلاّ فالأمر ليس كذلك. لا تتصوّر أنّكم ستكونون بغير صاحب ولا مولى، فإذا علم الله أنّ واحدًا من هؤلاء العوام وهؤلاء الناس ومنكم لا وجود في قلبه وفي باطنه وفي فكره وفي ذهنه إلا لحفظ دينه، فإنّه لا يتركه، فهذا الأمر مهمّ جدًّا ونحن علينا أن نلتفت إليه وأنّه هل الحال في قلبنا هكذا أم لا بل فيه زيادة ونقصان وعلوّ وانخفاض؟ فالأمر يختلف والله تعالى لا يخفى عليه شيء!
لا جَرَمَ أنَّ مَن عَلِمَ اللهُ مِن قَلبِهِ مِن هؤلاء العَوامِ...
يريد الإمام عليه السلام أنّه إذا علم الله من هؤلاء الناس العوامّ الذين هم في الظلمة والجهالة والتحيّر أحدًا في قلبه صدق وصفاء وإخلاص، ويريد حفظ دينه ولا يريد أن يُخدع، ولا يريد أن يخدع نفسه، ولا يريد أن يبرّر أعماله بحجج وذرائع، يسمع ما يقال له ولا يكون في صدد الإجابة ولا في صدد الفرار من الحقّ، بل هو باحث عن الحقّ، لا عن الباطل، ولكنّه لم يصل إلى الحقّ، فلو علم الله إنسانًا كهذا لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليّه… فإنّ لهذه الدنيا صاحبًا، ولديننا صاحبًا ولهذا العالم صاحبًا، وصاحب هذا العالم هو إمام زماننا.
جهلنا بمقام الإمام
لقد تحدّثنا نحن عن كلّ شيء إلا إمام الزمان! وكأنّه ليس هناك إمام، وكأنّه ليس هناك وليّ، وكأنّ الله لم يجعل لنا إمامًا حيًّا مسيطرًا على النفوس وصاحب مقام الولاية! أمّا أنّه غائب عن أنظارنا فليكن! أفهل هناك ما يوجب أن يكون الإمام دائمًا أمام أنظارنا؟! أفهل كان الأئمّة عليهم السلام في عهودهم دائمًا بين الناس؟! فلماذا كانت تلك السنوات الطوال من السجن لموسى بن جعفر إذن؟! ولو أنّ موسى بن جعفر بدخوله السجن لمرّة واحدة تفسد جميع أعماله وبرامجه لما كان إمامًا ولما كان وليًّا! ولو كان العالم كلّه يفسد بدخوله السجن لمرّة واحدة، والشرع يفسد، والأحكام تفسد، وعلاقة نفوس العباد بالله تفسد، وما إن يؤخذ ويسجن يشعر الإنسان أنّ علاقته بالله قد انقطعت، وأنّ ذلك الباب قد أغلق وذلك الطريق قد سدّ، لما كان موسى بن جعفر ذاك ليختلف عن سائر الناس الجالسين في المسجد ولما كان إمامًا! فالإمام الذي يحضره المتوكّل من المدينة ويحبسه في سامرّاء ليس إمامًا لو لم يكن يتمكّن من القيام بتلك التصرّفات والأعمال والمهام التي كان يقوم بها بعينها عندما كان على علاقة بالناس، ولو نقصت بمقدار رأس إبرة فإنّه لا يختلف عن عامّة الناس. الإمام هو صاحب مقام الولاية الكليّة فليس لديه ظاهر وباطن وغيبة وحضور. هذه هي حقيقة الأمر. فسواء كان الإمام بين الناس أم في السجن أو في حال الإخفاء والاختفاء.
والذين كانوا في زمان الأئمّة ذاك، سوى الذين كانوا في المدينة وحول منزل الإمام من كان منهم على صلة بالإمام؟! هؤلاء الذين كان كلّ واحد منهم في مدينته ولم يكن يرى الإمام. فإذن كان الإمام موسى بن جعفر، والإمام الصادق والإمام السجّاد غائبًا عن هؤلاء، ما الفرق، سواء كنّا في المدينة وإلى جانب الإمام ولا نراه، أو في مدن بعيدة ولا نراه، أو كان إمام الزمان غائبًا؟! ما الفرق بين الحالين وبماذا يختلفان؟! فلنفترض أنّ إمام الزمان عليه السلام في إحدى هذه المدن في الكرة الأرضيّة ونحن نعرف تلك المدينة واسم الشارع والزقاق والمنزل، ولكنّهم حاصروا تلك المدينة وكان هناك مانع ولا يمكن أن نذهب، فهل نقول أيضًا إنّ إمام الزمان قد غاب؟! كلاّ في النهاية! فقط فرق المسألة هو في أنّنا الآن لا نعرف مكان الإمام ونقول: لقد غاب. ولو علمنا لقلنا: لم يغب ولكن نحن لا نعرف. وهذا الأمر بعينه كان في عصر الأئمّة أيضًا. فالذين كانوا في مدن أخرى هل كانوا يرون الإمام؟! فإذن كان الإمام غائبًا عنهم، فما الفرق بين هذه الحالة وحالة غيبة الإمام؟!
وهذا هو الموضع الذي على الإنسان أن يصل فيه إلى كلام الإمام الصادق عليه السلام حين قال: اعرف إمامك. الإمام ليس محدودًا بمنطقة، الإمام ليس محدودًا بمدينة، والإمام ليس محدودًا بالظهور والشهود أمام الناس. الإمام عبارة عن تجلّي ولاية الله في عالم الموجودات، وهذا التجلّي تجلّ جوهريّ وتجرّدي. فذلك التجلّي لا معنى فيه للشهود والغياب، أفهل لله شهود وغياب؟! هل قلنا يومًا عن الله إنّه غائب وسيظهر في زمان ما؟! فكم هذا الكلام سخيف وركيك! هل قلنا يومًا: ليت الله بيننا؟! فكما أنّنا نوجّه الذهن نحو الله من حيث الاستيلاء على جميع عالم الوجود، علينا أن نوجّهه ـ بتلك الكيفيّة عينها وبدون زيادة ونقصان ـ إلى حقيقة الولاية هذه في وجود الإمام بقيّة الله المحيط بجميع عالم الوجود تمامًا كولاية وشهود الله. هذه هي المسألة.
فإذا وصل الإنسان إلى هذه المنزلة حينها لا یَضُرُّك تَقَدَّمَ هذا الأمرُ أمْ تَأخَّرَ، لا يعود هناك نفع أو ضرر بالنسبة إليك، ولا يختلف الأمر سواء ظهر إمام الزمان أم أنّك قبل ظهوره فارقت الدنيا ومتّ، لأنّك بعد ذلك صرت متّصلاً بحقيقة الولاية تلك، وانتهى الأمر، ووصلت إلى حقيقة الولاية تلك وأزيح ستار الجهل من أمام عينيك.
الصدق في الطريق وتعظيم وليّ الله الشرط الأساس للهداية
ثمّ يذكر الإمام العسكريّ أنّ من كان هكذا وبهذا النحو لا يريد إلا صيانة دينه يريد أن يحفظ دينه، يريد أن يعظّم وليّنا ووليّ الله ويراه عظيمًا، ويستصغر الدنيا كلّها أمامه، ويستصغر جميع النعم الإلهيّة أمامه، ويستصغر جميع آثار الدنيا الدنيّة أمامه، ويدوس على الرئاسات أمام إمام الزمان، ويدوس على الشهرة أمامه، ويدوس على جميع نعم الدنيا أمامه، ولا يبقى له سوى وليّنا فحسب، فنتيجة ذلك ستكون أنّه لَم یَترُکهُ فی یَدِ هذا المُتَلَبِّسِ الکافِر لا يتركه الله بعد ذلك في يد هذا العالم الكافر عديم الدين سادّ الطريق، لا يسمح الله بعد ذلك أن يبقى في يد هذا الإنسان، لا يسمح الله بعد ذلك أن يسلّم لأوامر ونواهي هذا النوع من الناس، لا يسمح الله بعد ذلك لوسوسة هؤلاء الخنّاسين أن تترك أدنى تأثير في القلب.
هذا المتلبّس الكافر هذا الإنسان الذي ظهر بلباس أهل الإيمان ولكنّه كافر، يخفي وجه الحقّ، ويبرز أنانيّته أمام الناس على أنّها حقّ، ويهدي للنّاس التوهّم والتخيّل، لا الواقع والحقّ، يسعى إلى إغلاق طريق الناس إلى الله، وهو دائمًا في حال إلقاء الشبهة والشكّ والانحراف في المعتقدات الحقّة والمسير التوحيديّ للناس وأهل العرفان والتوحيد. فهذا الإنسان متلبّس وكافر على لسان الإمام العسكريّ عليه السلام.
ثمّ ماذا يفعل الله الآن؟ و لکنَّهُ یُقَیِّضُ لَهُ مُؤمِنًا یَقِفُ بِهِ عَلَی الصَّوابِ يجعل على رأس طريقه مؤمنًا، يجعل على رأس طريقه يقظ قلب، يجعل بين يديه إنسانًا تنوّر قلبه بنور الهداية. يأخذه الله من أولئك ويفصله ويجعله في حضن أحد المؤمنين، إنسانًا انفتحت عينه ونال الهداية ونور الإيمان.
ثمّ إنّ جعل المؤمن على رأس طريقه لا يكفي: ثُمَّ یوَفِّقُهُ اللهُ لِلقَبولِ مِنه.
يمكن أن يكون الإنسان عند النبيّ أيضًا، ولكن لا يسمع! ألم يكونوا؟! ألم يكونوا عند الأئمّة؟! ألم يكن الأئمّة يحدّثونهم؟! فكم واحدًا سمع وكم واحدًا قبل؟! كم واحدًا صدّق بالحقيقة؟! كم قال لهم النبيّ وكم وصّاهم بخلافة أمير المؤمنين؟! في حياته بالإشارة وبالكناية وبالتصريح وفي النهاية أيضًا في حادثة يوم الغدير، فكيف يبيّن خلافة أمير المؤمنين أكثر من ذلك وبأيّ لسان يفهمها للناس؟! أفهل قبلوا؟! كم واحدًا قبل؟! إنّهم أولئك الأربعة أو الخمسة الذين اتّبعوا أمير المؤمنين بعد النبيّ، هؤلاء هم الذين قبلوا! ولكن هذا الإنسان: یوَفِّقُهُ اللهُ لِلقَبولِ مِنه، فبما أنّ هذا المؤمن كان على طريقك، فاقبل كلامه أيضًا! ولا تقتصر على أن تسمع وتمضي! لا يكون الإنسان فقط هكذا يسمع كلامًا ويشارك في جلسة وينتهي الأمر! كلّا.
فَیَجمَعُ اللهُ لَهُ بِذَلِك خَیرَ الدُّنیا و الآخِرَة وَ یَجمَعُ عَلَی مَن أضَلَّهُ لَعنَ [لَعنًا في] الدُّنیا وعَذابَ الآخِرَة. يهيّئ الله لسادّي طريق الله لعن الدنيا وعذاب الآخرة! فالأمر هكذا وعلى هذه الحال.
لذا فإنّ هذا الأمر سبب للأمل عند الإنسان، ونافذة لينظر الله منها إلى قلوبنا، ليرى كم نحن ثابتون على الحقائق، وكم لدينا صدق نيّة في الأمور، وكم هيّأنا نفوسنا وقلوبنا لما قالوه.
نعم الله الخاصّة في يوم عيد الفطر لأهل البيت عليهم السلام وللمسلمين
اليوم هو يوم عيد الفطر، اليومِ المرتبط بإمام الزمان عليه السلام، ألم نكن نقرأ في دعاء القنوت: أللَهُمَّ... أسألُك بِحَقِّ هذا الیَوم الَّذی جَعَلتَهُ لِلمُسلِمینَ عیدًا؛ أقسم عليك يا ربّ بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدًا...
لقد صمنا شهرًا، وحللنا ضيوفًا على الله لشهر، ودخلنا عالم النور لشهر، لقد هبّت لشهر نسائم الولاية على قلوبنا وأرواحنا، والله تعالى جعل هذه النعم الإلهيّة عيدًا لنا اليوم. بحمد الله وبتوفيق الله تنعّمنا بهذه النعمة، وجلسنا على المائدة الإلهيّة وتغيّر حالنا لمدّة شهر. ألم يكن الأمر هكذا؟! لقد تغيّرت أحوالنا وأجواؤنا، وتغيّرت مدركاتنا، وتغيّرت نفوسنا عمّا كانت عليه قبل شهر رمضان. والخصوصيّات التي كانت تلاحظ في هذا الشهر لم تكن بالطبع خارجه. لقد كان ذلك لأجل هذه المائدة الإلهيّة ولأجل هذه السفرة التي جعلها الله لنا. فاليوم هو يوم الشكر، ويوم الامتنان لهذه النعم الإلهيّة إذ وفّقنا الله لإدراك هذا الشهر المبارك بهذه الفيوضات. فإذن اليوم هو بالنسبة لنا عيد.
ولكن بالنسبة إلى النبيّ وذراريه وأهل بيته والذين إنّما ننال ما نناله من ناحيتهم... وَ لِمُحَمَّدٍ صلّی الله عَلَیهِ و آلهِ ذُخرًا و شَرَفًا و کَرامَةً و مَزیدًا.
لقد كان هذا الشهر ذخيرة للنبيّ وسببًا للشرف والكرامة والمزيد، مزيد الخيرات ومزيد البركات التي تهبط على النبيّ وأهل بيته ببركة هذا اليوم، ومنهم تصل إلى الأمّة وإلى المتّبعين له.
اعلموا أيّها الرفقاء أنّ النبيّ لا يدّخر شيئًا لنفسه، أئمّتنا لا يدّخرون شيئًا لأنفسهم، إمام الزمان لا يدّخر شيئًا لنفسه، ومهما أعطاه الله من شيء فإنّه يقسّمه بين شيعته ولا يحتفظ لنفسه حتّى بمقدار رأس إبرة؛ لأنّه إمام، لأنّه أب لنا جميعًا ولأنّه وليّنا جميعًا وأقرب إلينا من أيّ إنسان، وأرحم بنا من الجميع. فهذا هو معنى الإمام.
المقامات الخاصّة بأهل البيت هي هديّة العيد العظيمة للصائمين
كان دعاؤنا اليوم أن تُدخِلَني في کُلِّ خَیر... وإنّها لفقرة في غاية الغرابة، إنّها تعني تلك الفيوضات التي تصل من ناحية إمام الزمان عليه السلام إلى شيعته: أن تُدخِلَني في کُلِّ خَیرٍ أدْخَلتَ فیهِ مُحَمَّدًا و آلَ محمّد.
هذا الأمر عجيب جدًّا، فالله يقول: أنا لا أستثني، إذا نزل الفيض على النبيّ وآله وعلى إمامكم فإنّ هذا الفيض سيشملكم أيضًا. اجعل نفسك قرب هذا الفيض لكي تغنم. إن كان السائل كسولاً فما تقصير صاحب الدار. هو نفسه يأمرنا أن قولوا هذا واطلبوا هكذا: إلهي أدخلني في كلّ خير تدخل فيه اليوم إمام الزمان بمقامه وبسعته الوجوديّة، فأدخلني أنا في ذلك الخير أيضًا، من بركاتك، من علومك، من أنوارك، من هدايتك، من انشراحك، من انفتاح القلب وانكشاف الحقائق والأنوار!
إمام الزمان هو إنسان لا يمكن لأحد أن يخدعه، لا يمكن للدنيا والدنيويّات أن تصرفه عن ذلك المسير الذي لديه، لا يمكن للأمور والأحداث التي تحصل أن تمنعه من ذلك، لا يمكن للناس أن يجذبوا فكره وذهنه إلى أنفسهم وأن يجرّوه إليهم. فاجعلنا يا الله اليوم في ولايته بحيث لا يتمكّن أحد من أن يحرفنا ولا يتمكّن أحد من أن يوجّه أفكارنا إلى أفكاره هو، ولا يتمكّن أحد من أن يجعل قلوبنا وأذهاننا متوجّهة دنياه هو وأنانيّاته هو!
وَ أن تُخرِجَني مِن کُلِّ سوء أخرَجتَ مِنه محمّدًا و آلَ محمّد واحفظني أنا أيضًا من كلّ ما حذّرت منه منزَّهي حضرتك، وأبعدتهم عنه، من انحراف ومن اعوجاج وعيب ونقصان ومن كلّ عمل ومن كلّ فكر ومن كلّ تخيّل وتوهّم في جميع مراتب التعلّقات والتعيّنات والتقيّدات.
إنّه عجيب جدًّا! كيف يمكن لله أن يعدنا بوعد كهذا وكيف يمكن أن يدعونا؟! لا بدّ أنّ هذا الأمر موجود حتّى قاله! ما هي مرتبة العصمة التي جعلها الله للأئمّة؟
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا﴾۱
لقد حفظكم الله من كلّ رجس وخبث، ومنّ عليكن بالطهارة المطلقة.
أفتعلمون أيّها الرفقاء ما حقيقة الأمر؟! سأقولها باختصار: إنّ مقام العصمة ذاك والذي هو للأئمّة عليهم السلام، والطهارة التي لم تلوّث جيبهم فيها أيّة حيثيّة من الكثرة في جميع مراتب الوجود، يقول الله المتعال هي لكم.
وَ أن تُخرِجَنی مِن کُلِّ سوء...۱ ليس الذنوب الظاهريّة فحسب، فهذه ليست بشيء! فهذه يمكن لأيّ إنسان أن لا يفعلها، فأن يتمكّن أيّ إنسان من أن لا يشرب الخمر، ولا يسرق... ولا يلعب القمار والشطرنج وأمثال ذلك فهذا أمر معتاد.
كلاّ، فهذا ليس فخرًا للإمام، وليس مقامًا للنبيّ، المقصود هو السوء في جميع مراتب كثرته، وفي جميع مراتبه غيريّته واثنينيّته مع ذات الله، وتجلّي حقيقة التوحيد تلك في عالم الفعل وفي عالم العقل والخيال وفي عالم النفس وعالم القلب. إلهي أخرجنا من كلّ سوء أخرجتهم منه.
عيد الفطر يوم إمام الزمان عليه السلام
اليوم يوم مرتبط بإمام الزمان عليه السلام. علينا جميعًا أن نلتفت إلى ذلك الإمام وأن ندعو لسلامته، علينا أن ندفع الصدقة لسلامته، وأن نطلب من الله تعالى أن يديم علينا وجوده ظاهرًا وباطنًا، وأن يجعلنا تحت ولاية هذا العظيم كما جعله هو.
لا تتصوّروا أيّها الرفقاء أنّ هذا الأمر صعب، كلاّ، فبالنسبة إلى إمام الزمان عليه السلام لا فرق، هذا صعب علينا نحن. أفيمكننا أن نكون نحن جلساء الإمام؟! أفيمكننا أن نكون مصاحبين له؟! أفيمكننا نحن أن نكون قرناء لأولياء الله؟! أفيمكننا نحن؟! كلاّ، الأمر بالنسبة لنا رفيع جدًّا! أمّا بالنسبة إليهم فهو كلمح البصر بل أقل. لا يختلف الأمر لديهم، سواء أدخلوا إنسانًا واحدًا في ولايتهم أم أدخلوا جميع الكرة الأرضيّة، فهذا كذاك، إن كان دخول إنسان واحد صعبًا فدخول الجميع صعب أيضًا، وإن كان سهلاً فإدخال الجميع أيضًا سهل.
آیینه شو و جمال پریطلعتان طلب | *** | جاروب زن خانه و پس میهمان طلب٢ |
كن مرآتًا ثمّ اطلب جمال أهل الجمال الخیاليّ اكنس الدار ثمّ اطلب الضيوف
علينا أن نهيّئ أنفسنا نحن أولاً، وبعد ذلك لننظر هل تشملنا عناية الإمام أم لا؟!
نسأل الله تعالى أن يحفظ وجود ذلك الإمام من جميع البلايا:
آینه شو وصال پریطلعتان طلب | *** | اوّل بروب خانه، دگر میهمان طلب |
اللهمّ کُن لِولیّك الحُجّةِ بنِ الحَسَن صَلَواتُك عَلیهِ و عَلَی آبائِهِ فی هذه السّاعَةِ و فی کُلِّ ساعَةٍ وَلیًّا و حافِظًا و قائِدًا و ناصِرًا و دَلیلًا و عَینًا حَتَّی تُسکِنَهُ أرضَکَ طَوعًا و تُمَتِّعَهُ فیها طَویلا.۱
اللهمّ إنّا نَرغَبُ إلَيك فی دَولَةٍ کَریمَةٍ تُعِزُّ بِها الإسلامَ و أهلَهُ و تُذِلُّ بِها النِّفاقَ و أهلَهُ وتَجعَلُنا فیها مِنَ الدُّعاةِ إلَی طاعَتِك و القادَةِ في [إلَی] سَبیلِك و تَرزُقُنا بِها کَرامَةَ الدُّنیا والآخِرَة.٢
وتعجيلاً لظهور الإمام بقيّة الله إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف ولسلامته ولإدخال السرور على أرواح المؤمنين والمؤمنات من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام الذين ودّعوا دار الفناء إلى دار البقاء صلّوا على محمّد وآل محمّد ثلاثًا.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.