المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
المجموعةنفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ
التوضيح
أهم محتويات المحاضرة:
- الكلام عن الأولياء غير مقدور لكلّ واحد؛
- علّة تأكيد الأولياء على بلوغ السالك مرتبة الاجتهاد الفقهيّ؛
- مميّزات واقعة عاشوراء عن بقيّة الوقائع التاريخيّة؛
- مقام الإمامة مختصّ بالإمام عليه السلام؛
- حقيقة الولاية في الرؤية العرفانيّة؛
- الولاية وعلاقتها بالتوحيد؛
- نظرة العارف لواقعة عاشوراء؛
- مجالس العزاء عند الأولياء وعند غيرهم؛
- قصّة الفتح الذي حصل للسيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه؛
- تفسير لحالات الفناء التي كانت تحصل للسيّد الحدّاد.
و...
هو العليم
حقيقة الولاية وعلاقتها بالتوحيد
نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الأولى
حوار مع سماحة
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام عن الأولياء غير مقدور لكلّ واحد
سؤال: ... هل يُمكنكم أن تُحدّثونا عن بعض المسائل والخواطر غير المطروحة في كتاب الروح المجرّد؛ كتلك الواردة عن الأخلاق العائليّة للمرحوم الحدّاد والتي لم يتمّ التركيز عليها كثيرًا في هذا الكتاب، حتّى يتسنّى للأصدقاء جمع بعض المسائل التي يُمكن عدّها تكملة لكتاب الروح المجرّد، وذلك في عين الاستفادة من هذا الكتاب الشريف؟
ولا يخفى أنّ هذا العمل لا يخلو من صعوبة بالنسبة إلينا؛ لأنّ المؤتمر السابق كان يدور حول المرحوم إلهي الطباطبائيّ الذي لم يُنجَز تقريبًا في حقّه أيّ عمل مستقلّ؛ وبالتالي، لم يكن المجال أمامنا ضيّقًا ولا صعبًا؛ وأمّا بالنسبة للمرحوم الحدّاد، فقد أنجز في حقّه عمل جيّد؛ ولهذا، بذل الأصدقاء غاية سعيهم للرفع من مستوى عملهم، والمحافظة عليه؛ وذلك لكيلا يُحطّ من شأن المرحوم الحدّاد؛ أي ألاّ يُؤدّي عمل الإخوان إلى تقديم تعريف سيّء عنه، وكذلك لكيلا يتمّ الإضرار بكتاب الروح المجرّد؛ إذ لو كان العمل الذي يُقدّمه الأصدقاء ضعيفًا، لأمكن أن يُفضي ذلك ـ على أيّ حال ـ إلى إضعاف هذا الكتاب، والإضرار به؛ ولهذا السبب، سعى الأصدقاء إلى المضيّ قدمًا بقوّة مهما تيسّر لهم ذلك.
جواب: بدايةً، سأعرض بين أيديكم بعض المسائل، لكي تكون مقدّمة للحديث لاحقًا عن الأمور التي يُريدها الأصدقاء.
فالمسألة المرتبطة بالمرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه ليست مسألة عادية؛ لأنّه كان وليًّا إلهيًّا ومن الرجال الإلهيّين، مع أنّه لا يُراد من كلمة «إلهيّ» المعنى السائد حاليًّا، بحيث صار كلّ واحد مهما كانت صفته ومنزلته تُطلق عليه مثل هذه العناوين والألقاب، ولو كانت تتناقض وتتعارض وتتضادّ معه. لقد كان وليًّا إلهيًّا، ويُمكنني أن أعبّر عن هذه المسألة بجملة واحدة؛ وهي أنّ منزلته خارجة عن دائرة الفكر البشريّ! فالبحث عن أحواله هو أمر لا أستطيع أن أنهض بأعبائه؛ وحينما سمعت ذلك الأخ والسيّد يتحدّث عن هذا الأمر، قلت: للأسف، لا أمتلك ـ أنا وأمثالي ـ الأهليّة للحديث عن السيّد الحدّاد! وهذا ليس من باب التواضع؛ أجل، قد يكون لديّ اطّلاع بخصوص الأناس العاديّين من العلماء والصلحاء والزهّاد؛ لأنّني رأيت كلماتهم، وسمعتها، وجرّبتها، وقرأتها في الكتب؛ ولهذا، من الممكن أن تكون عندي نظرة خاصّة عنهم بما يتناسب مع عقلي ومعلوماتي وسعتي الوجوديّة، شأني في ذلك شأن بقيّة الناس؛ وأمّا بالنسبة لأمثال المرحوم السيّد الحدّاد أو المرحوم القاضي أو المرحوم الوالد رضوان الله عليه، فأمرهم بشكل عامّ ليس بالأمر الذي يستطيع أن ينهض بأعبائه إنسان عادي من خلال ما يملكه من معلومات عادية ومحدودة.
إنّ كتاب الروح المجرّد الذي كتبه [المرحوم العلاّمة] هو كتاب ألّفه وشرحه وليّ إلهيّ مثلما كان أستاذه، بحيث يبدو جليًّا من أسلوب كتابته أنّه كان محيطًا بأحواله، ومطّلعًا على واقعه، وواصلاً إلى كُنه حقيقته؛ كما قال لي المرحوم السيّد الحدّاد بنفسه في منزله:
كلّ ما حصّلته أخذه منّي السيّد محمّد الحسين.
مع أنّه لم يكن يُجامل قي كلامه، أو يمزح في أقواله. حسنًا، فهكذا إنسان يستطيع أن ينهض بأعباء هذا الأمر المهمّ، وأمّا أنا، فلا؛ ولهذا، إذا كنتم تُريدون تأليف كتاب يقوى على بيان المسائل الغامضة والمستورة التي عرفها في مراحل عمره، واستعراض الفترات المختلفة لحياته وشخصيّته، فإنّ ذلك ينبغي أن يحصل في إطار هذه المعرفة بذاتها؛ أي: يجب أن يأتي نظير المرحوم العلاّمة مرّة أخرى، ويُفصح عن مسائله المكنونة.
لكن من باب أنّه ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه،۱
آب دريا را اگر نتوان كشيد | *** | هم به قدر تشنگى بايد چشيد |
[أي: إذا لم تقدر على الإحاطة بماء البحر كلّه، فاشرب منه بمقدار حاجتك]
فإنّني سأكتفي بالحديث عن المسائل التالية، مع أنّ المعلومات التي بوسعي أن أضعها بين أيديكم ينبغي أن تكون أوّلاً في ضمن نطاقٍ يُمكن للمجتمع والناس تحمّله؛ وثانيًا، أجد نفسي ملزمًا بالقول: قد لا يسع تحقيق طلبكم كما ينبغي، بل الأمر هو كذلك يقينًا، لكنّ بيان أحوال أولياء الله تعالى من شأنه أن يُشكّل نموذجًا وقدوةً في حياة الذين يسعون وراء تسكين آلامهم، ويكون لهم هدف منشود، ويأخذون الأمر على محمل الجدّ، ولا يتعاملون معه باستخفاف؛ لا أن يكون اهتمامهم مقتصرًا على معرفة بعض القصص والأمور الخارجة عن العادة، وقضاء المجالس بذكر بعض المسائل، والحصول على حالة من البهجة المعنويّة، وتحصيل لذّة نفسانيّة وكيفًا نفسانيًّا، وإعطاء هذه الأمور مكانة ومنزلة وفقًا لتخيّلاتهم؛ فبغضّ النظر عن هذا النوع من الناس الذين لا يجنون من المطالعة وسماع الحديث والمجالسة والبحث والتحقيق أيّة فائدة ومنفعة سوى ضياع الوقت، فإنّ بيان أحوال أولياء الله تعالى من شأنه أن يُحدث تغييرًا جذريًّا بالنسبة للذين يكون لهم هدف محدّد، ويُنشدون ضالّتهم.. إن شاء الله تعالى.
سؤال: بسم الله الرحمن الرحيم، من باب المقدّمة، ولكي يسهل على الأصدقاء التعرّف على هذه الأجواء، نرجو منكم أن تحدّثونا عن مكان لقائكم الأوّل بالمرحوم الحدّاد، وما هي الأوقات التي التقيتم فيها به خلال مختلف مراحل حياتكم حضوريًّا أو بأيّة طريقة أخرى؟
جواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أوّل مرّة وفّقني الله تعالى فيها للقاء المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه كان ذلك في سفره إلى إيران، حيث كنت أبلغ آنذاك الثانية عشرة من العمر تقريبًا،۱ وكنت على علم إلى حدّ ما باللقاءات التي يعقدها، وبتنقّلاته، ومجالسه، والكلام الذي يدور هناك؛ لكن، باعتبار صغر سنّي، فإنّني لم أحصّل بطبيعة الحال تلك الفائدة التي حصّلها بقيّة الأصدقاء من كلماته ومجالسه.
لقد سافر إلى طهران، ومشهد، وقمّ، وكذلك إلى أصفهان وهمدان؛ فكان لأصدقائه ومرافقيه ولرفقاء المرحوم العلاّمة ـ في هذه الأسفار ـ معه كلام ومجالس وأسئلة بشكل مستمرّ، وكنت بدوري أشارك في هذه المجالس، وأستفيد منها بمقدار سعة فهمي وإدراكي؛ فهذه هي المرّة الأولى التي تشرّفت فيها بلقائه حينما كنت أبلغ الثانية عشرة من العمر.
وأمّا اللقاء الثاني، فحصل بعد سنتين، أي في سنّ الرابعة عشرة، عندما تشرّفت برفقة المرحوم العلاّمة والوالدة والإخوان بزيارة العتبات المقدّسة في العراق، حيث استغرق السفر بمجموعه شهرًا واحدًا؛٢ ففي هذا السفر، كنّا في بيت السيّد الحدّاد، وكان هناك أيضًا العديد من الأصدقاء الإيرانيّين الذين تشرّفوا أيضًا بزيارة العتبات المقدّسة في تلك الأيّام التي صادفت أيّام محرّم وعاشوراء، فكان منزله مملوًّا بالحاضرين على الدوام، علاوةً على أنّه في العديد من الأيّام، كان الكثير من المشايخ وعلماء النجف يأتون لزيارته أيضًا.
ومن ضمنهم آية الله السيّد مصطفى الخمينيّ الذي رأيته يأتي مرارًا وتكرارًا من النجف لزيارته ولقائه،٣ ويطرح عليه بعض الأسئلة، فكان يجيبه عنها، بينما يبقى هو في جميع تلك الموارد ساكتًا وكلّه آذان صاغية.. لقد كان يُخلص المودّة كثيرًا للمرحوم السيّد الحدّاد، حيث كانت هذه الدرجة من المودّة واضحة تمامًا من طريقة جلوسه ونظره وإصغائه.
وفي تلك الأيّام، كان يأتي للقائه أيضًا بعض الفضلاء الآخرين من النجف، لا سيّما أنّ المرحوم الوالد كان قد تشرّف بدوره بالزيارة، فكانوا يأتون لمنزل المرحوم السيّد الحدّاد من أجل زيارته؛ ففي هذا السفر حصل لقائي الثاني به.
وأمّا السفر الثالث واللقاء الأخير الذي توفّقت فيه لرؤيته، فكان في سنّ السابعة عشرة حينما تشرّفت ـ برفقة المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه وأخي الأكبر القاطن الآن بمشهد ـ بزيارة العتبات المقدّسة في العراق بعد رجوعنا من سفر الحجّ؛ أي أنّنا لم نرجع من جدّة إلى إيران، بل سافرنا إلى العراق، وبقينا هنا مدّة شهر واحد،۱ وبوسعي القول: إنّه السفر الذي كان فيه حظّي واستفادتي منه أكبر بكثير من السابق، حيث كنت أجتمع معه على انفراد، فكان يحدّثني ببعض المسائل التي كانت تحظى بأهمّية كبيرة في تحديد مصيري واختياري لهذا الطريق والمسار.
فهذه هي اللقاءات الثلاثة التي وُفّقت إليها طيلة حياتي؛ لكن، بسبب الأحداث التي وقعت بين إيران والعراق، فإنّهم حرمونا بعد ذلك من زيارته إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى وعفوه.
علّة تأكيد الأولياء على بلوغ السالك مرتبة الاجتهاد الفقهيّ
سؤال: من الشروط التي كان المرحوم القاضي يضعها من أجل الموافقة على انخراط أحدهم في سلك تلامذته أن يكون قد وصل إلى درجة الاجتهاد،٢ لكنّنا نجد المرحوم الحدّاد قد استُثني من هذا الشرط، فما هو السبب الذي يُمكننا تصوّره بالنسبة لهذه المسألة، بحيث نرى المرحوم القاضي، ومع إصراره على ذلك الشرط، إلاّ أنّه رضي بضمّ المرحوم الحدّاد إلى تلامذته، وبتربيته؟
جواب: لا يخفى أنّ المرحوم القاضي كان له تلامذة آخرون سوى المرحوم السيّد الحدّاد من غير المرتدين لزيّ أهل العلم، أو من الذين لديهم اطّلاع قليل ـ إلى حدّ ما ـ على المسائل الفقهيّة والعلميّة؛ فلا يصحّ أن نقول إنّ تلامذته كانوا مقتصرين على أهل العلم؛٣ وأمّا بالنسبة للمسألة التي نُقلت عنه، وهي صحيحة في حدّ ذاتها، كما أنّها حُكيت أيضًا عن المرحوم الشيخ الأنصاريّ،٤ فهي أنّ طريق السلوك إلى الله تعالى والعبور من النفس ومهالكها هو طريق صعب جدًّا، وصعوبته ناجمة عن مسألة كون النفس ـ في جميع الأحوال ـ عبارة عن ظاهرة بالغة التعقيد، وقد نأت عن مبدئها بواسطة التعلّقات والزخارف الدنيويّة، وبسبب الحجب التي أحاطتها بذاتها، فأفضت هذه التعلّقات والحجب إلى إبعادها عن التجرّد والقرب؛ فلكي يتمكّن الإنسان من تجاوز هذه المسألة وتخطّيها، عليه أن يُشمّر عن ساعد الجدّ، ويهتمّ اهتمامًا بليغًا بالمسائل المهمّة والمصيريّة، ويجتنب الوقوع في المهالك والمعاصي والموبقات، ويحذر من قطّاع الطرق؛ لكن، عليه بطبيعة الحال أن يتعرّف على هذه الأمور في البداية؛ مثلما قال الإمام السجّاد عليه السلام لأبي حمزة الثمالي:
«يَا أبَا حمزةَ، يخرجُ أحدُكم فَراسِخَ، فَيطلبُ لِنفسهِ دَليلًا، وَأنتَ بِطرُقِ السَماءِ أجهلُ مِنكَ بِطرُقِ الأرْضِ، فَاطلب لِنَفسكَ دَليلاً».۱
وهنا، يتبيّن أنّه كلّما كانت معرفة الإنسان بقوانين الطريق ومتطلّباته وشؤونه أكثر، صارت قدرته أكبر على طيّه، وصيانة نفسه من الأخطار.
ففي كثير من الأحيان، لا يكون الأستاذ برفقة الإنسان؛ كأن يكون في بلد آخر أو مدينة أخرى؛ وحتّى في زمان الأئمّة عليهم السلام، نرى الإمام موجودًا بالمدينة، في حين أنّ أصحابه يكونون بالريّ وقمّ وكاشان وخراسان و...؛ فلم يكن بوسعهم الوصول إلى الإمام دائمًا، بل كان الأئمّة عليهم السلام في العديد من الحالات محاصرين، ويُمنع اللقاء بهم، حيث إنّ موسى بن جعفر عليهما السلام كان في السجن؛ كما كان العسكريّان عليهما السلام محاصرين، واللقاء بهما بالغ الصعوبة.
ومن هنا، إذا كان العظماء يقولون:
على الإنسان والسالك أن يكون مطّلعًا على الطريق، وله إحاطة بالمسائل الدينيّة، وعلم بالأمور.٢
فإنّ ذلك راجع إلى أنّ العديد من الأخطار التي قد يسقط فيها العوامّ سببُها التقليد الأعمى، ووقوعهم تحت تأثير إلقاءات الخنّاسين ووسوستهم، وتأثير الدعايات السيّئة، وانتشار الأمور المجازيّة والخياليّة والوهميّة،٣ حيث نرى أنّ الناس يتأثّرون بهذه الأمور، فيقبلون بكثير من المسائل المجانبة للصواب بسبب عقليّتهم البسيطة والساذجة وعدم اطّلاعهم الوافي؛٤ وحينئذ، متى سيقدرون على التخلّص من هذه المسائل المجانبة للصواب، واكتشاف الواقع؟ الله وحده العالم! فقد تنقضي سنوات متمادية، وهم يعيشون بهذا النحو في وادي الجهل، مقتفين أثر تلك المسائل المجانبة للصواب؛ إلى أن يكتشفوا أنّه: يا للعجب، لقد مرّت عشر سنوات أو خمسة عشرة سنة من دون أن يُدركوا حقيقة الأمر!
فإذا نحّينا جانبًا عن الحقائق مسألة سوء النيّة والعناد وتدخّل النفس، فإنّ الذي يكون له اطّلاع وافٍ على المسائل الدينيّة والفقهيّة والشرعيّة يكون أقلّ عُرضة بكثير لهذه الأوهام والخيالات؛ لكن، يبقى أنّ المسألة غير منحصرة في الاجتهاد، ومراد المرحوم القاضي من الاجتهاد لا يقتصر على الاجتهاد في المسائل الفقهيّة؛ لأنّ المجتهد يعني الإنسان الذي يستطيع إخراج نفسه من دائرة التقليد على مستوى إدراك الحقائق التشريعيّة والفقهيّة ـ بمعناها المتداول ـ، ويكون مجتهدًا وغير تابع في الفلسفة، ومجتهدًا في المسائل التاريخيّة والتفسيريّة والفقهيّة!٥
ففي الكثير من الأحيان، نجد أنّ غير المجتهدين قد يحصل لهم تعارض بين طريقة أداء العبادات وكذلك السلوك الشخصيّ، وبين المسائل التي يطرحها الأستاذ، وحتّى أنّنا كنّا نشاهد هذا الأمر في زمان المرحوم الوالد عند عدد من تلامذته الذين كانوا يُقلّدون بعض المشايخ؛ إذ لم نسمع من المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى طيلة حياته أنّه قال: «عليك أن تُقلّدني!»، بل إنّه لم يطلب منّي حتّى أنا ذلك، مع أنّنا كنّا نراه ـ طبقًا للمعايير والفهم الذي نمتلكه ـ أنّه كان في ذلك العصر، بل حتّى الآن أعلم من الجميع.
لقد كان من الناحية الظاهريّة [على درجة من الأعلميّة]، بحيث إنّ علماء النجف أقرّوا بأنّه لو بقي في النجف، لانحصرت المرجعيّة الشيعيّة فيه؛ فطلبوا منه البقاء هناك، وأعلموا السيّد عبد الهادي الشيرازيّ بهذا الأمر؛۱ لكن، بما أنّه كان خاضعًا لأمر أستاذه المرحوم السيّد الحدّاد،٢ فإنّه كان ينظر لتلك المسألة بنظرة أخرى، ويُفكّر فيها بنحو آخر.
ومن هنا، فليس المرحوم القاضي رضوان الله تعالى عليه لوحده، بل إنّ أولياء الله بأجمعهم كانوا يُشيرون إلى هذه الحقيقة؛ و منهم حتّى الأولياء الذين لم يكونوا يرتدون لباس العلماء كالمرحوم السيّد الحدّاد؛ فالمسألة التي كان يُؤكّد عليها في كافّة الجلسات الثلاث التي خصّني بها هي:
سيّد محسن! عليك أن تُتقن دروسك! عليك بإتقانها! عليك بإتقانها!
حسنًا، مع أنّ السيّد الحدّاد لم يكن من أهل هذه الأمور، فلماذا تفوّه بمثل هذا الكلام؟ هل كان يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق منفعة من هذه المصالح الظاهريّة؟! هل كان يسعى ـ لا قدّر الله تعالى ـ إلى عدم الإخلال بقواعد المجاملة وأمثال ذلك؟! أم أنّ الأمر مختلف؛ فوليّ الله تعالى يرى الحقيقة والواقعيّة، مثلما أراك أنت، وتراني أنا؛ فحينما أراك الآن، هل يأتي على ذهني أنّه حلم، وأنّ عينيّ تُخطآن في الرؤية؟! وعندما تستمع إلى كلامي، هل يخطر على بالك أنّك تحلم؟! فهذه عبارة عن حقيقة ملموسة.
إنّ أولياء الله تعالى لا يبنون كلامهم على أساس التقليد والرجم بالغيب، وبالاعتماد على الشياع، وذيوع بعض التيّارات التي تسحر الكثير من الناس، فيضحون مقلّدين لها، بل هذا ما نفعله نحن وأمثالنا؛ إذ حينما نرى أنّ أحد التيّارات بدأ في النموّ والتطوّر، فإنّنا نميل نحوه، وعندما نجد أنّه لم يعُد يُبدي ذلك الظهور والبروز الحقيقيّ، فإنّنا نتراجع عنه؛ فهذا ما يرتبط بالناس العاديّين؛ وأمّا وليّ الله تعالى، فإنّه يُدرك حقيقة المسألة، ويُشاهدها كما هي، ويراها، ثمّ يقول: افعل أو لا تفعل! فهذا هي ميزته! ولهذا، أشرت سابقًا إلى أنّ بيان أحوال الأولياء مسألة مصيريّة.
فنحن نطّلع على المسائل ـ سواء كانت صائبة أم خاطئة ـ من خلال قراءة الكتب، فتأتي في أذهاننا بعض الأمور، فنقولها للناس؛ وحتّى إذا أردنا أن نقوم بشيء ذي بال، فغاية ما يُمكننا القيام به هو عدم الخيانة في أداء الأمانة، لكن، هل إنّ النتائج التي نتوصّل إليها صحيحة أم لا، فهذه مسألة خارجة عن مسؤوليّتنا، خلافًا للولي الإلهيّ الذي يُشاهد الحقّ، ثمّ يقول: قم بهذا العمل!
لقد قال لي السيّد الحدّاد في تلك الجلسات الثلاث التي جمعتني به: «يا سيّد محسن، عليك بإتقان دراستك»؛ فهو كان يُلامس هذه الحقيقة، وكان واضحًا لديه أنّه: رغم كوني ابنًا للعالم الفلانيّ، وأنّ والدي كان بالنحو الكذائيّ، وأنّني كنت أنتمي لتلك العائلة، وأنّني كنت أسمع المسائل التي كان يطرحها، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي، بل عليّ أن أصل بنفسي إلى مستوى من الإدراك والاجتهاد والفهم، حتّى تتسنّى لي بواسطة هذا العلم والمخزون المعرفيّ النجاةُ في تلك المواضع التي قد يتعرّض فيها بقيّة الناس للتزلزل بسبب تخيّلات الآخرين وتوهّماتهم؛ وقد لمست هذه المسألة عيانًا ولعدّة مرّات، وتحقّقتُ بنفسي من واقعيّتها؛ ولهذا، كان المرحوم السيّد الحدّاد يوصي تلامذته الذين لهم الأهليّة لتعلّم هذه العلوم، ويقول لهم: «عليكم أن تُؤدّوها على أحسن وجه وبأفضل طريقة»؛ فهذه هي حقيقة الأمر!
فالطالب الذي يلج إلى مدرسة الإمام الصادق لا ينبغي عليه أن يعرف أحدًا غير الإمام الصادق كائنًا ما كان، ولو كان الشيخ الطوسيّ، أو ابن بابويه، أو العلاّمة الحلّي، حيث ينبغي على عالم الدين أن يجعل في مقابله الإمام الصادق وحسب، وأن يرى نفسه مسؤولاً أمامه هو فقط،۱ فلا سبيل في مدرسته عليه السلام للمعاملات والمصالح والمنافع الدنيويّة، ولا لمسألة مراعاة المصالح والأجواء الحاكمة، والخضوع للشائعات؛ وعلى الطالب الذي يريد الانخراط في مسار العلوم الإسلاميّة أن يحصر تفكيره ـ منذ أن يفتح الكتاب في البداية ـ بمسألة أنّه مسؤول أمام إمام الزمان عليه السلام وحسب! وليس أمام أيّ أحد آخر؛ فعلى الجميع أن يسلكوا هذا النهج إذا أرادوا النجاح؛ لكن، ما دمنا نأخذ بالاعتبار كافّة الأشياء، ونغفل عن هذا الأمر، فلن نمتلك القدرة على أن نُصبح مبلّغين حقيقيّين، وهداة، ومرشدين إلى الحقيقة والولاية والتوحيد ومدرسة أهل البيت عليهم السلام؛ فهذه هي المسألة التي كان يُؤكّد عليها المرحوم القاضي.
لقد كان المرحوم القاضي يعتقد أنّ دخول وقت صلاة المغرب يحصل بمجرّد استتار القرص؛ أي: حينما يغيب قرص الشمس، يحلّ وقت صلاة المغرب؛۱ إلاّ أنّنا نجد أنّ بعض الأفراد الذين كانوا معه، ولأنّهم كانوا من مقلّدي السيّد أبي الحسن الأصفهاني رحمة الله تعالى عليه، فإنّهم كانوا يطلبون من المرحوم القاضي تأخير صلاته لمدّة ربع ساعة أو عشرين دقيقة؛ فلماذا ينبغي أن يصير الأمر بهذا النحو؟! ولهذا السبب كان يقول: «اذهب، وصر أنت بنفسك مجتهدًا!»؛ فهذه هي حقيقة الأمر. فهؤلاء لم تخطر على بالهم مسألة أنّه: هل من الممكن لهذا الرجل الإلهيّ أن يُؤدّي صلاته قبل الوقت؟ أ فهل من المتصوّر نسبة هكذا شيء للمرحوم القاضي؟!
لقد كانت لي منذ فترة طفولتي العديد من الذكريات مع المرحوم الحاج هادي الأبهريّ رحمة الله تعالى عليه، وقد شاهدت منه العديد من المسائل؛ نظير الإخبار عن الحوادث الماضية والمستقبليّة، كما كانت تحصل له بعض الحالات والمكاشفات؛ مع أنّه كان أمّيًا، وحينما يريد التوقيع، فإنّه كان يُخرج طابعًا من جيبه، ويختم به بدلاً عن التوقيع؛ ففي هذه الحالة، كيف كان يعلم بوقت حلول الصلاة؟ لقد كان يعلم بنزول الملائكة؛ إذ حينما كان يُسأل عن وقت صلاة الصبح، كان يقول: «لم تحلّ بعدُ صلاة الصبح؛ لأنّ ملائكة الصباح لم تأت إلى الآن!»، وقبل أن يُؤذَّن للصلاة، كان يقوم، ويُؤدّي الصلاة، ويقول: «لقد رأيت الآن أنّ ملائكة الصباح جاءت، وملائكة الليل رحلت!»؛ ثمّ يتبيّن بعد ذلك أنّ الأمر صحيح، وأنّه لم يكن كاذبًا، ولا مخطئًا.
لقد شاهدت عيانًا حصول هذه المسائل منه؛ حينئذ، هل بوسع شخصيّة نظير المرحوم القاضي أن يُصلّي قبل الوقت، مع أنّه لا يُمكننا مقارنته بتاتًا بأفراد من هذا القبيل، حيث كان يعيش في عالم لا يستطيع الحاج هادي خانصنمي أبدًا أن يُدرك موضعه؟! فهل بوسعنا تصوّر حصول مثل هذا الأمر؟! ولهذا، كان المرحوم القاضي رضوان الله تعالى عليه يحرص على لفت نظر تلامذته إلى أنّ كلّ من يريد السير في طريق الله تعالى لا يُمكنه وضع برنامج حياته على أساس تقليد أفراد يُصدرون أحكامهم بناءً على مجرّد الدراسة لعدّة سنوات، ووفقًا للعلوم الظاهريّة، مع اكتنافها بكلّ هذه الأخطاء والأغلاط.
افرضوا أنّ أحدًا يُقلّد مجتهدًا يقول له عند ذهابه إلى الحجّ: «حينما تطوف حول الكعبة في الحجّ، يجب أن يكن تركيزك منصبًّا بأجمعه على عدم انحراف كتفك عن اتّجاه الكعبة»؛ وحينئذ، كيف سيتسنّى له أداء الطواف؟! وكيف سيتمكّن من الشعور بتلك الروحانيّة، وإدراك تلك الحقائق؟! وكيف سيقدر على التركيز والخشوع؟! ففكره سيكون منشغلاً بأجمعه بالبحث عن الزاوية الهندسيّة التي يتطابق من خلالها كتفه مع الكعبة، لا سيّما حينما يُريد أن يطوف؛ فهل هذا هو الطواف الذي كان الرسول يُؤدّيه؟! وهل هذا هو الطواف الذي كان يقوم به الإمام الحسن والإمام الحسين؟! فإن قيل لنا: «عليكم الطواف من الجهة اليُسرى»؛ فإنّ المراد ذلك هو فقط: «حينما تؤدّون الطواف، عليكم ألاّ تطوفون من الجهة اليُمنى»؛ هذا وحسب! فأنّى لدينا أنّه علينا مسامتة الكتف بنحو دقيق؟! لقد كان الرسول يطوف على الناقة۱؛ فهل كانت الناقة تلجأ بنفسها للتعديل الهندسيّ؟ أو أنّ الرسول كان يقوم بذلك؟ لا يوجد عندنا شيء من هذا القبيل!
على الإنسان أن يطوف حول الكعبة، وإذا انحرفت كتفه إلى هذا الجانب أو ذاك، فلا إشكال؛ فعليه أن يطوف من الجهة اليُسرى، ويحصر توجّهه نحو الله تعالى، ويستحضر ذكره فقط؛ كما ينبغي عليه أن يلتفت إلى أنّ المكان الذي يطوف ويضع أقدامه فيه طاف فيه الأئمّة عليهم السلام، وجاء إليه أولياء الله تعالى؛ فما هي علّة الطواف حول هذه الأحجار؟ وما هي حقيقة هذه المسألة الظاهريّة التي تتوفّر على أثر معنويّ من هذا القبيل؟ وما هو باطن هذه المسألة؟٢ وحينئذ، عوض أن يُفكّر الإنسان في هذه الحقائق، ويحصر تفكيره فيها، فإنّ عليه أن يكون حذرًا من الانحراف عن زاويته الهندسيّة أثناء الطواف!
وحينئذ، انظروا إلى: «ميان ماه من با ماه گردون»٣، وانظروا إلى ما يقوله ذلك الولي الإلهّي في فتاواه وكلماته، وما يقوله أولئك الذين لا حظّ لهم من هذه المسألة، فيُطالعون الروايات، ويُفسّرونها طبقًا لتخيّلهم وفكرهم الظاهريّ! حسنًا، لقد طالعت بدوري هذه الروايات بذاتها، وشاركت في نفس الدروس التي شارك فيها البقيّة، فلماذا إذن حصل لي فهم آخر عنها؟ ولماذا يتوفّر المجتهدون بأنفسهم على تفسيرات مختلفة؟ مع أنّ الرواية واحدة، والكتاب واحد أيضًا؟
ميان ماه من با ماه گردون | *** | تفاوت از زمين تا آسمان است |
فهذه هي حقيقة الأمر؛ أي أنّ جلّ همّ العظماء والعرفاء الإلهيّين واهتمامهم كان منصبًّا على عدم ظهور تعارض في أحوالهم، وطريقة سيرهم، وتطابق المسائل التي يذكرونها؛ فإذا كان التلميذ مجتهدًا، فإنّ العارف سيتمكّن من الحديث معه بكلّ أريحيّة، لكن إن كان مقلّدًا، فما عساه أن يفعل؟ فهنا ستقع المشكلة.
لقد كان المرحوم العلاّمة يقول بكفاية استتار القرص؛۱ كما أنّ هذه المسألة قد اتّضحت لي من خلال الرجوع إلى ذكرياتي ومحفوظاتي؛ لكن، حينما كان يحلّ وقت الصلاة، فإنّ بعض المسؤولين على الجلسات ـ التي كان رضوان الله تعالى عليه يعقدها ـ كانوا يؤخّرونها لمدّة ربع ساعة أو عشرين دقيقة؛ كأن يذهبوا مثلاً لتجديد الوضوء، أو لإحضار شيء من داخل البيت، أو يقوموا بأشياء أخرى، حيث كان السبب في قيامهم بهذه الأعمال واضحًا؛ فمع أنّ المرحوم العلاّمة كان يأمر تلامذته بأداء الصلاة في أوّل الوقت، إلاّ أنّ هؤلاء الأفراد كانوا يُؤخّرونها بسبب تقليدهم لشخص آخر؛ فهنا تكمن المشكلة وحقيقة المسألة!
هذا، ولدينا العديد من الحالات ـ سواء في دائرة الأعمال والأفعال، أو العبادات، أو أمور أخرى ـ التي لا يلزم أن يقع فيها مثل هذا الأمر؛ وحينئذ، إذا كان السالك مقلّدًا لأستاذه، فلن تطرأ أيّة مشكلة؛ لكن، حينما يأتي مثل المرحوم العلاّمة، ويترك المجال مفتوحًا، ولا يأمر أحدًا بتقليده، فإنّنا نجد العديد من تلامذته يُقلّدون آخرين إلى آخر عمرهم؛ ولهذا، فإنّ توصية هؤلاء العظماء بمسألة الاجتهاد ترجع إلى هذه المسألة، وإلاّ، فقد كان للمرحوم القاضي، وكذلك للمرحوم الشيخ الأنصاريّ والمرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليهم تلامذة غير مجتهدين، وكانوا من الناس العاديّين.٢
مميّزات واقعة عاشوراء عن بقيّة الوقائع التاريخيّة
سؤال: نُقلت عبارة في كتاب "عارف في الرحاب القدسيّة" عن المرحوم الحدّاد يقول فيها: « التوحيد في يوم عاشوراء طغى على كلّ شيء»، ونريد من سماحتكم تفسيرها، كما نريد التعرّف بشكل عامّ على نظرته لواقعة عاشوراء؛ وذلك باعتبار توفّر مسألة الرؤية لحادثة عاشوراء على مستويات متعدّدة، بحيث كلّما تجلّت معرفة أكبر في وجود الإنسان، لربّما صارت نظرته لهذه الحادثة أكمل وأجمل وأعجب.
جواب: لا يخفى أنّني تحدّثت عن هذه المسألة إلى حدّ معيّن في الجزء الثاني من أسرار الملكوت. إنّ مسألة عاشوراء مسألة مختلفة؛ فأوّلاً: علينا أن نعلم أنّ عاشوراء حادثة تحمّل مسؤوليّة إدارتها إمامٌ معصوم؛ وهذه القضيّة قضيّة جوهريّة؛ أي أنّكم مهما فكّرتم في هذه العبارة التي ذكرتها لكم، فإنّ تفكيركم لن يبلغ المستوى المطلوب؛ لأنّ الإمام الحسين كان قبل هذه الحادثة إمامًا أيضًا؛۱ وهي مسألة جوهريّة، إلاّ أنّنا غافلون عنها؛ بمعنى أنّ هذه المسألة لم يجرِ التطرّق إليا في الثقافة الشيعيّة كما يجب وينبغي.
لقد اندلعت العديد من الحروب عبر التاريخ، ووقعت أنواع كثيرة من الظلم في حقّ الناس، وقُتل الكثير من الأفراد والأطفال، بل ومن الممكن أن يكون الرضّع قد ظُلموا في عدد من هذه القضايا والأحداث، غير أنّ المسألة التي جعلت من عاشوراء عاشوراء لا تكمن في هذه الأمور؛ فلو نظرنا إلى الحرب التي وقعت بين إيران والعراق، هل سنجد هناك جريمة لم يرتكبها هؤلاء البعثيّون؟! فقد كانوا ثلّة من قساة القلوب والحيوانات والوحوش الذين لم يمتلكوا ـ حقيقةً ـ أيّ حظّ من رائحة الإنسانيّة؛ وحتّى إذا لم يكن كلّهم كذلك، فإنّ الكثير منهم كان بهذا النحو، حيث نراهم يرسلون عدّة طائرات لإلقاء الغازات المسمومة على مدينة أو قرية، فيقتلون كافّة الرضّع والشيوخ والعجائز والناس الأبرياء؛ فأيّ وضع هذا؟! وأيّ قانون يُمكننا أن نضع فيه هذه المسألة؟!
لكن، يبقى أنّ حادثة عاشوراء أمرها مختلف كثيرًا؛ كما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قام بعدّة حروب؛ ومن المسلّم أنّه أعلى من سيّد الشهداء؛ وقد حارب أمير المؤمنين عليه السلام بدوره في صفّين والجمل والنهران؛ ومع ذلك، فإنّ قضيّة عاشوراء تختلف عن كافّة هذه الحروب؛ لأنّ جميع المشاركين فيها كانوا يعلمون أنّهم سيُستشهدون؛ وهذه هي حقيقة المسألة! فكافّة الأصحاب كانوا يعلمون أنّهم لن يبقوا على قيد الحياة؛ لكن، مع ذلك، فإنّهم كانوا يقولون: لو قُطّعنا ألف مرّة، ثمّ أُحيينا، لما تخلّينا [عنك]؛٢ حسنًا، فهذه لم تكن مجرّد لقلقة لسان، وكلام يُلقى على عواهنه بهذا النحو؛ يعني: ما هي هذه الحقيقة التي يُدركها الإنسان، ويستوعبها، فيبقى ثابتًا عليها، مهما كلّف الأمر؟! إذ بوسع الإنسان الحديث عن المسائل الإحساسيّة بكلّ سهولة؛ إلاّ أنّ هناك بين هذه المسائل، وبين الوصول إلى الحقيقة بون شاسع جدًّا!
وكنموذج على ذلك، سأنقل لكم قصّة: ذات يوم، حينما كانت الحرب مندلعة، جاء أحد طلبة العلم إلى مشهد لكي يتتلمذ على يدي المرحوم العلاّمة، فوافق على ذلك، حيث قال ذلك الطالب:
يا سيّدي، لقد حصلت لي مسألة أجبرتني على المجيء عندكم؛ لأنّها ـ بحقّ ـ أقلقتني جدًّا، ودفعتني للتفكير؛ وبيانها كالآتي: مرّت سنوات عديدة، وأنا متواجد في الخطوط الأولى للمواجهة، وكنت طيلة هذه المدّة أتوفّر على رؤية معيّنة، وأعيش أجواء خاصّة؛ وكانت محبّتي وعشقي لهذه المسألة بنحو مختلف تمامًا؛ إلى أن جاء أحد الأيّام، وذهبت للمرافق الصحّية؛ وفي ذلك الحين، شعرت بضجّة كبيرة، فانتبهت إلى حدوث أمر ذي خطب، وقلت مع نفسي حينئذ: إن كنت هنا، وحصل أمر ما، فإنّ ذلك سيكون سيّئًا جدًّا! كأن يقولوا مثلاً: لقد ذهب فلان إلى ذلك المكان، فوقعت حادثة وهو بتلك الوضعيّة؛ فشعرت بأنّ نفسي بدأت تتلكّأ تجاه هذه المسألة، وصارت صعبة عليها؛ فخرجت بسرعة، حتّى إذا كان من المقرّر أن أستشهد، فإنّني سأنال الشهادة بين أصدقائي.
فحينما حصلت لي هذه المسألة، علمت أنّني كنت عالقًا طوال هذه الفترة في شباك النفس؛ إذ لو كان من المفروض على الإنسان أن يُسلّم برضا الله تعالى، فلن يفرق بالنسبة إليه مكان عن مكان آخر، وليحصل ذلك في أيّ موضع كيفما كان؛ ولهذا السبب، جئت إليكم، حتّى أعرض مشكلتي عليكم.
وأمّا في حادثة عاشوراء، فإنّنا لا نشهد مثل هذه المسائل بتاتًا؛ أي أنّ تفكير الأصحاب تجاه سيّد الشهداء كان بحيث لو أنّ هذه الحادثة تكرّرت ألف مرّة، لما تغيّر هذا التفكير أبدًا؛ ولو أنّهم انهزموا، لما جاؤوا عند الإمام الحسين عليه السلام، وقالوا له: «ألست بإمام؟! ألم تعدنا؟! لماذا صار الأمر بهذا النحو؟!»؛ ولو أصابهم سهم، لما نبسوا ببنت شفة؛ ولو حصلت مسألة مخالفة لتوقّعاتهم، لما نطقوا بكلمة واحدة.
ففي يوم عاشوراء، كان أصحاب سيّد الشهداء فانين في الولاية؛ والذي يفنى في الولاية، لا يُشاهد نفسه أبدًا، ولا ينظر بتاتًا إلى من يُحارب أو يُواجه؛ لأنّ الأنا لم تعُد موجودة؛ بمعنى أنّه: في قضيّة عاشوراء، كان هناك رجل واحد فقط؛ وهو سيّد الشهداء؛ بينما كان حضرة أبي الفضل فانيًا فيه عليه السلام، وحضرة عليّ الأكبر فانيًا فيه عليه السلام، كما كان أصحاب سيّد الشهداء فانون فيه بأجمعهم، ولم يكن لهم من أنفسهم أيّ اختيار؛ ولهذا، إن قال الإمام عليهم السلام لأحدهم: اذهب، فإنّه كان سيذهب؛ وإن قال له: اصبر، فإنّه كان سيصبر.۱
لقد كانت إدارة يوم عاشوراء وجميع الأحداث التي وقعت فيه بيد إمام معصوم؛ وهو إمام كان مأمورًا بتكليف مختلف عن الأئمّة قبله الذين كُلّفوا بدعوة جميع الناس إلى الجهاد، حيث كان أمير المؤمنين عليه السلام مكلّفًا بدعوة الناس إلى جهاد أهل البصرة ومعاوية؛ والأمر بذاته ينطبق على النبيّ؛ فكان الجميع مدعوًّا للمجيء، حتّى المنافقون منهم؛ إذ كان شمر بن ذي الجوشن أحد قادة جيش أمير المؤمنين في صفّين؛ وبالمناسبة، فإنّه جُرح هناك أيضًا.۱ فكم كان بينهم من المنافقين! نظير الأشعث بن قيس وأمثاله الذين تسبّبوا في هزيمة أمير المؤمنين عليه السلام بحرب صفّين.٢ وأمّا سيّد الشهداء عليه السلام، فإنّه كان يطرد الجميع عنه في يوم عاشوراء، ويقول: لأيّ شيء أنتم هنا؟ فهنا لا توجد إلاّ الشهادة، ولا أمل في النصر!
كان أمير المؤمنين يدعو الناس أن تعالوا لكي نُسقط معاوية، وأمّا سيّد الشهداء، فكان يقول: «هدفنا ليس هو الإسقاط ـ الظاهريّ ـ، بل الأمر يتعلّق هنا بالشهادة؛ وأنا بدوري ماضٍ في هذا الطريق: «من كان باذلاً فِينَا مهجتَه، وموطِّنًا على لِقَاء الله نفسه، فلْيَرْحَل مَعَنا».٣
لقد كان هذا هو طريق الإمام عليه السلام؛ فكان كلامه بأجمعه يدور في المنازل التي يتوقّف فيها حول الشهادة؛ كما أنّ جميع الإخبارات التي كان يتحدّث عنها كانت تحوم حول الشهادة؛ حتّى أنّه أقال أخاه وابنه عن بيعته في ليلة عاشوراء؛ أي: إلى هذا الحدّ كانت قضيّة عاشوراء محفوفة بالحرّية ومن دون عوائق، بحيث إنّه عليه السلام أطفأ السراج، وقال: إنّ هؤلاء الناس يطلبونني أنا، ولا علاقة لهم بكم أنتم، فأنا هو المقصود هنا؛ وقد قال ذلك حتّى لأخيه وأبنائه؛٤ غير أنّ لسان حالهم كان يقول: «لا ضير في ذلك، سنذهب، لكن، إن أرشدتنا إلى مكان نذهب إليه، فسنذهب إليه، ولن نتفوّه بأيّة كلمة؛ فهل يوجد مكان آخر نذهب إليه؟ دُلّنا على مكان، وسنرحل إليه!»؛ أجل، يبقى أنّ بعضهم طرح ذلك بطريقة معيّنة؛ أي أنّ معرفتهم بهذه المسألة كانت بهذا النحو! وهو أمر لا يُمكن أن تجده بسهولة في كلّ مكان.
مقام الإمامة مختصّ بالإمام عليه السلام
ولهذا، من الخطأ تمامًا مقارنة بقيّة المعارك بعاشوراء؛ وهي إهانة في حقّ الإمام عليه السلام وحقّ المذهب؛ لأنّ سيّد الشهداء واحد منذ بداية خلق آدم إلى يوم القيامة؛ ولا يوجد لدينا فردان منه عليه السلام، كما لا يوجد لدينا فرد اسمه حسين الزمان؛۱ لأنّ حسين الزمان هو إمام الزمان عليه السلام؛ فلو أنّ نفس هذه المعنويّات والإدراكات والمشاعر، ونفس مظهريّة تجلّيات الأسماء والصفات الكلّية للحقّ تعالى تُريد أن تتحقّق في قالب إنسان بالطريقة ذاتها ومن دون أدنى اختلاف، لتحقّقت في ابنه إمام الزمان فقط! وأمّا غيره، فلا يعدو كونه من أنصاره وشيعته وأتباعه.. كلٌّ بحسب مستوى فهمه وإدراكه؛ فالإمام الحسين واحد، وأمير المؤمنين واحد، ولا يوجد لدينا فردان منه عليه السلام، ولن يكون هناك اثنان منه، اللهمّ إلاّ ذلك الإمام الذي يأتي بعده؛ فهو الذي يكون عليّ الزمان؛ أي أنّ عليّ الزمان الآن هو حضرة بقيّة الله أرواحنا له الفداء، وحسب! وحسين العصر الآن هو إمام الزمان فقط! وعلى الخطباء والمبلّغين مراعاة هذه المسائل؛٢ إذ لا يُمكن للإنسان أن يتفوّه بأيّ كلام كيفما كان؛ لأنّ مراعاة شخصيّة الناس تتّخذ أحيانًا طابعًا يتّسم بالحيويّة، وعلينا أن نولي هذه المسألة أهمّية بالغة؛ لأنّها دقيقة جدًّا!
فمهما كان الإنسان، ومهما كان المستوى المعرفيّ الذي وصل إليه، إلاّ أنّ مقام الإمام عليه السلام هو مقام مختلف؛ ومسألة الإمامة ليست بالانتساب، حيث نجد أنّ أبناء الأئمّة كانت لهم مراتب مختلفة، في حين أنّهم كانوا بأجمعهم أولادًا لهم عليهم السلام؛ فقد كان فيهم الفقهاء والصلحاء والأولياء؛ لكن، من الممكن أنّه كان فيهم أيضًا من يواجه إمام زمانه؛٣ أ فلم يكن إخوة الإمام الرضا عليه السلام وأعمامه هم الذين جرّوه إلى محكمة المدينة؟!٤ أ ولم يكونوا أولادًا للإمام؟! وحينما كان يولد بعض الأولاد للأئمّة كان الأصحاب يرون آثار الانقباض في وجوههم عليهم السلام؛ فحينما وُلد جعفر، وأخبروا بذلك الإمام، ظهرت عليه علامات الاستياء، وانقبض وجهه؛ فقالوا له: يا ابن رسول الله، لماذا صرت بهذا النحو عندما أُخبرت بولادة ابنك؟ فقال لهم: إنّكم لا تعلمون ما هي المصائب التي ستحلّ بشيعتنا بسبب هذا الولد.٥ فهل كان هؤلاء أبناء للأئمّة أم لا؟ لكن، من بين كلّ هؤلاء، يكون واحدٌ الإمام الرضا عليه السلام؛ فمن بين جميع أولاد الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وحده عليّ بن موسى الرضا الذي يحلّ محلّ أبيه؛ أجل، قد يكون الباقي صلحاء، بل حتّى أولياء، إلاّ أنّ الإمام هو ذاك فقط؛ فلا ينبغي لنا نستبدل به، ونضع في مكانه أحدًا آخر.. هذه هي حقيقة الأمر!
فهذا هو المذهب الشيعيّ؛ أي أنّ المعرفة والحقيقة والمكانة التي يجعلها الشيعيّ للإمام، ويكون مُدركًا لها لا ينبغي أن يفسح فيها المجال لأيّ أحد آخر، لكي يدخل إلى ذلك الحريم وتلك المكانة؛ أجل، نحن نسعى لاقتفاء أثرهم بمقدار فهمنا، سواء كان خاطئًا أو صحيحًا؛ ونرجو من الله تعالى أن يعفو عن تقصيرنا؛ فإن أدّينا ذلك بشكل صحيح، فإنّه تعالى سيُثيبنا، وإن أخطأنا، ولم تكن لنا نوايا سيّئة، فإنّه تعالى سيتجاوز عن أخطائنا إن شاء.
ففي حادثة عاشورا، لم يقتصر الأمر على الشهادة فقط، بل كانت المسألة تتمثّل في: أداء الإنسان جميع ما يتعيّن عليه أداؤه تجاه نزول المشيئة والتقدير الإلهيّين فيما يتّصل بالأسماء والصفات الإلهيّة.
لقد كان بعض الأفراد العاديّين من صحابة سيّد الشهداء عليه السلام يأتون عنده في يوم عاشوراء، ويستأذنونه للخروج إلى ساحة المعركة، فكان الإمام وبسبب مراعاته لبعض المسائل ـ كمسألة الضيافة في مثال قصّة الحرّ بن يزيد ـ يقول: عليكم حاليًّا بالصبر، ولا تخرجوا الآن! فكان الأصحاب يأتون، ويُصرّون بكلّ قوّة، ويقولون: لكن، إلى متى علينا أن نصبر؟ فتجد الواحد منهم لم يعُد يتمالك نفسه، ويريد أن يصل بسرعة إلى تلك الحقيقة التي كان يُدركها، ويخشى أن يحصل بداء في الأمر!۱
لكنّنا نرى في قصّة حضرة عليّ الأكبر أنّه ما إن أتى ليستأذن أباه، حتّى قال له سيّد الشهداء مباشرة: «اذهب»٢؛ فأيّة مسألة هذه؟ فهذا عجيب حقًّا! حيث نجد الإمام يتعامل مع الأصحاب بذلك النحو، في حين أنّه يتعامل بهذا النحو مع ابنه الذي لا يُساوي كلُّ العالم شعرةً واحدة من شعراته، بل ولا يُمكنه ذلك بتاتًا! أ فهل تعلمون من كان عليّ الأكبر؟ لقد كان حضرة عليّ الأكبر هو الذي قال في حقّة سيّد الشهداء: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾٣ حينما أراد الخروج إلى ساحة المعركة؛ وهي الآية ذاتها التي كان الأئمّة ـ نظير الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ـ يقرؤونها لإثبات إمامتهم؛٤ ممّا يعني أنّه: بحقّ، لولا أنّ المشيئة الإلهيّة تعلّقت بإمامة الإمام السجّاد عليه السلام، لكان حضرة عليّ الأكبر ـ بكلّ تأكيد ـ هو الإمام بعد سيّد الشهداء؛ أي أنّ الفارق بينه وبين الإمام السجّاد يتمثّل في مرتبة الإمامة وحسب، حيث كان يتوفّر على كافّة شروط الإمامة، ويتحلّى بالقابليّة والاستعداد لها، وبفهمها وإدراكها.
ذات يوم، ذهبت برفقة المرحوم العلاّمة إلى صلاة الجمعة في مشهد، فجلسنا بساحة المتحف، وكان أحد الأفراد يتحدّث، حيث كان يشغل آنذاك منصبًا حكوميًّا، واستُشهد في الأخير على يد المنافقين.. رحمة الله تعالى عليه؛ وأذكر أنّه قال هذه العبارة: «ياحسين، إذا ضحّيت أنت بعليّ أكبر واحد، فنحن ضحّينا في هذه الحرب بالآلاف من عليّ الأكبر! وإذا قدّمت أنت حبيب بن مظاهر واحد، فإنّنا قدّمنا الآلاف من حبيب بن مظاهر!»، فقال المرحوم العلاّمة فجأة، لكن بصوت منخفض سمعته أنا من جانبه: «ملأ الله تعالى فمك بالتراب!»، أ فهل قدّمنا نحن الآلاف من عليّ الأكبر؟! وهل يصحّ أن نقول: إذا ضحّيت أنت بواحد، فنحن ضحّينا بألف؟!
إنّ أولئك الشباب الذين كانوا يذهبون إلى جبهات القتال سيشملهم الله تعالى جميعًا برحمته، ويكونون بأجمعهم جلساء لأصحاب سيّد الشهداء، وندعو الله تعالى أن يغمرهم برحمته؛ فقد ضحّوا بأرواحهم وكافّة رأسمالهم؛ وبحقّ، أقول: يا لهم من رجال نزهاء وطاهرين وصادقين فقدناهم واختطفهم العدوّ منّا! لكنّ عليّ الأكبر إنسان مختلف، وعلينا الالتفات إلى هذه المسألة؛ أجل، أحيانًا، قد نُلقي الكلام على عواهنه، ونقرأ أبياتًا شعريّة؛ ففي هذه الحالة، علينا الاعتناء بهذه الكلمات بمقدار ما يتوفّر عليه الشعر والخطابة من قيمة؛ لكن، حينما نريد الحديث عن قضيّة من القضايا، وبيان حقيقة من الحقائق، لا يجوز لنا العبث بحريم الولاية.
فحقيقة الأمر أنّ سيّد الشهداء كان في يوم عاشوراء مظهرًا لكافّة الأسماء والصفات الإلهيّة؛ وذلك حينما سقط عن الفرس، واستشهد أصحابه، و...؛ فبالنسبة لمراعاة جميع القوانين والشؤون الظاهريّة، وفي أعلى المستويات وأكملها، فهذه مسألة كان لها مكانها الخاصّ، كما كان هناك مكان خاصّ لمسألة مراعاة الجانب الباطنيّ، والتوجّه لله تعالى، والتسليم في مقابل الحقّ عزّ وجلّ والاتّكاء عليه بنحو مطلق.
انظروا إلى ما قام به حضرة أبي الفضل، والأحوال التي كان عليها، فقد ظلّ منتظرًا إلى أن استشهد أخوته الواحد تلو الآخر، وبقي ينظر إليهم، لكي يرتاح باله؛ وهذا أمر عجيب. فقضيّة حضرة أبي الفضل، وحضرة عليّ الأكبر، وسيّد الشهداء بذاته، واستمراريّة هذه المسألة عن طريق الإمام السجّاد والسيّدة زينب سلام الله عليهما.. كلّها قضايا فصلت مسألة عاشوراء عن بقيّة المسائل؛ ففي يوم عاشوراء، تجلّى التوحيد ـ بكافّة بروزاته وظهوراته في عالم المظاهر والأسماء الجماليّة والجلاليّة ـ في وجود سيّد الشهداء عليه السلام؛ وإذا نُقل هذا الكلام عن المرحوم السيّد الحدّاد أيضًا، فإنّ فيه إشارة إلى هذه المسألة بذاتها.
حقيقة الولاية في الرؤية العرفانيّة
سؤال: في كتاب الروح المجرّد للمرحوم العلاّمة، طُرح بحث بخصوص أنّ الولاية مندكّة في التوحيد، بحيث لا يُمكن الوصول إلى التوحيد، إلاّ عن طريق الولاية؛۱ وقد أشرتم أيضًا إلى هذا البحث بنحو هامشيّ في ضمن كلماتكم؛ فهل ـ والحال هذه ـ بوسعنا القول: «إنّ الفناء في ولاية الأئمّة عليهم السلام هو عين الفناء في التوحيد»؟
جواب: نعم، الولاية عبارة عن: مشيئة الله تعالى وإرادته القاهرة لإبراز حقيقة الوجود البسيط وإظهاره، وتنزّل ذاته عن مقام هوهويّتها إلى مظاهر الأسماء والصفات الجزئيّة؛ أي: حينما تُريد ذات الحقّ تعالى ـ باعتبارها وجودًا صرفًا وبسيطًا ومن دون أيّ تعيّن أو شائبة زيادة على نفس الذات ـ أن تتنزّل، وبعبارة أخرى: أن تتشكّل وتُشكّل المظاهر الجزئيّة في العالم، فإنّ هذه الإرادة، وهذه القوّة، وهذا الإعمال الذي تقوم به الذات في هذه المسألة هو الولاية.
ومن هنا، فإنّ الولاية عبارة عن: الأمر الموجد لعالم الوجود؛ أعمّ من المجرّدات والملائكة والعقول وعالم الأرواح وعالم الأشباح وعالم الصور، وكذلك عالم المادّة والمادّيات.
ويُعبّر الفلاسفة والعرفاء عن هذا الأمر بعبارات مختلفة؛ كما عُبّر عنه أحيانًا في الروايات بـ : «أوّلُ ما خلق اللهُ نورُ نبيِّكَ يا جابرُ»،٢ و «أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْل»،٣ أو أنّ أوّل ما خلق الله عبارة عن: النفوس القدسيّة للأئمّة عليهم السلام؛٤ لكنّها تُشير بأجمعها إلى حقيقة واحدة، وهي عبارة عن: تلك الحيثيّة التي تتّخذها ذات الحقّ تعالى لنفسها، وتكون سببًا لخروج كافّة العوالم إلى ساحة الظهور والتشخّص والتعيّن؛ فبدون هذه الحيثيّة، تكون الذات في مقامها، وتظلّ في هوهويّتها من دون أن يطالها أيّ شيء؛ فلا يكون هناك لون ولا شكل ولا كمّ ولا كيف؛ ويُعبّر الفلاسفة عن ذلك المقام بصرف الوجود، حيث تُشير العبارة المشهورة: «صرف الوجود كلّ الأشياء»٥ إلى نفس مقام الهوهويّة هذا، والذي يُعبّر عنه العرفاء بمقام «العماء»٦، والفلاسفة بـ «إنّية ذات الحقّ». فإذا أرادت الذات الأحديّة أن تبقى في مرتبة هوهويّتها وتشخّصها وتعيّنها الخاصّ من دون إظهار أو إبراز، فلن يخرج أيّ أثر في عالم الوجود إلى ساحة الظهور، ولن نكون نحن ـ والحال هذه ـ هنا، ولن يوجد العالَم ولا الملائكة.
ومن هنا، فإنّ الولاية هي تلك الحقيقة التي يُعمل الباري تعالى بواسطتها إرادته؛ وبالتالي، تكون عبارة عن: الحقيقة التي تنطوي فيها مظاهر العالم بأجمعها، والمسار بعينه الذي يصدر عن الذات الأحديّة ـ غاية الأمر أنّ هذه الذات تبقى في مقام إطلاقها من دون شكل أو تعيّن أو حدّ ـ ويعمل على انبساط إطلاق الحقّ، وانتشاره وامتداده في الخارج بنحو متعيّن ومحدود.۱
فإذا كنّا نرى الإمامين الرضا وموسى بن جعفر عليهما السلام يُعملان الولاية، فيُشيران إلى صورة أسد على الستار، ليوجد أسد في الخارج، أو نرى الرسول يشقّ القمر،٢ أو يوجد شيئًا، فإنّ ذلك يرجع بأجمعه إلى مسألة الاتّصال بالحقيقة الموجِدة؛ وهي الحقيقة التي تمنح الصورة لوجود الحقّ تعالى الصرف والبسيط والمطلق، ويُعبّر عنها بعالم الماهيات؛ لأنّ وجوده تعالى لا ماهية له، وماهيته هي نفس وجوده؛ فالذي يرتدي لباس الوجود في الخارج هي الماهيات التي تتعيّن بسبب تشكّل ذلك الوجود وتقيّده في الخارج. وحينما يريد هذا الوجود أن يأتي إلى الخارج بواسطة إرادة ومشيئة واحدة، وعن طريق مسار تكوينيّ يُفضي إلى خلق الأشياء وظهورها، فإنّنا نُعبّر عن هذا المسار وتلك الإرادة بـ «نفس الإمام عليه السلام».
ولهذا، فإنّ الإمام عليه السلام هو حقيقة لا تقتصر على العلم بما في عالم الوجود والاطّلاع عليه، بل إنّ نفسه عليه السلام عبارة عن الصورة الحقيقيّة لكلّ هذا العالم؛ فتجدنا نظنّ بأنّ الإمام عليه السلام شأنه شأن هذه الكاميرا التي تلتقط صورنا، وتحتفظ بها في مكان خاصّ؛ أو أنّه نظير جهاز التسجيل الذي يُسجّل الصوت، ثمّ يحتفظ به في مخزن معيّن؛ في حين أنّ هذه مسألة عادية قد يتمّكن من القيام بها أناس عاديّون؛ فحينما ترون حلمًا، قد يحصل لديكم علم بالقضايا التي ستقع في الأسبوع أو الشهر القادم؛ كما أنّ أهل المكاشفة يطّلعون بواسطة اتّصالهم بعالم المثال والملكوت على الأحداث التي وقعت في الماضي، أو من الممكن أن تقع في المستقبل؛ فهؤلاء الأفراد يتّصلون بذلك العالم؛ فيحصل لديهم اطّلاع ـ بسبب هذا الاتّصال ـ على وقائع قد تتحقّق لاحقًا في هذا العالم تدريجيًّا مع مرور الزمان؛ وذلك لأنّ ذلك العالم هو عالم الثابتات، ولا معنى فيه للقبليّة والبعديّة.
أمّا بالنسبة للإمام عليه السلام، فالأمر ليس بهذا النحو؛ فالحقيقة التي نعيشها الآن... ولنأخذ كمثال على ذلك نفس مجيئكم إلى قمّ، واللقاء الذي عُقد بيننا، والوضع الذي تُشاهدونه الآن؛ فهل هذا الوضع مجرّد صورة فوتوغرافيّة، أم أنّه عبارة عن واقعيّة خارجيّة؟ فالصورة الفوتوغرافيّة تتمثّل في الصورة التي يلتقطها الجهاز لنا وللمسائل التي تدور بيننا، وأمّا الواقعيّة والحقيقة الموجودة الآن، فلا تكون صورة. إنّ هذه الحقيقة موجودة في نفس الإمام، وليس أنّه عليه السلام مطّلع على صورتها فقط؛ فمقام الإمام عليه السلام ـ الذي يطّلع على أعمالنا ـ هو ما تتحدّثه عنه الآية الشريفة: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾؛۱ لأنّ أحصيناه تعني جمعناه، لا صوّرناه، أو التقطنا له صورة، أو سجّلنا عنه فيلمًا، بل بمعنى: أخرجناه من حالة التفرّق والتشتّت، وجمعناه في محلّ واحد هناك حيث الولاية ونفس الإمام.٢
وعليه، فإنّ الولاية عبارة عن: إيجاد الوجود الأوّل والثاني للإنسان وعوارضه المترتّبة عليه في عالم الوجود؛ أي أنّ وجودنا بعينه يتحقّق في الخارج بواسطة إرادة الإمام عليه السلام؛ كما أنّ العلوم التي نكتسبها تظهر في أذهاننا بواسطته هو، والفضائل التي ننالها إنّما ننالها ببركة إرادته؛ فما لم يُرد الإمام تحقّق أمر، فلن يتحقّق؛ وما لم يشأ هو، فلن أتمكّن من الحديث الآن؛ وما لم يُرد هو، فلن يتسنّى لي النظر إليكم.
إنّ آية ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ التي تتحدّث عن الذات الإلهيّة، [وقربها] من الموجودات بواسطة إحاطتها العلّية بها، تصدق بعينها ـ ومن دون أدنى اختلاف ولو بمقدار شعرة واحدة ـ على إمام الزمان عليه السلام؛ أي: ليس فقط أنّ الإمام سلام الله عليه موجود إلى جانبنا، بل إنّه أقرب منّا إلينا، وإلى مشاعرنا وأفكارنا؛ مع أنّ ذلك ليس في عرض ولاية الله تعالى، وإلاّ، لكان كفرًا وشركًا؛ ومن هنا، فإنّ الإمام بحدّ ذاته فانٍ بصورة ظاهريّة أيضًا في الولاية؛ فكلاهما يُمثّلان ولاية واحدة؛ لكن، بما أنّ هذه الولاية تحتاج من ناحية ظاهريّة إلى قالب ومظهر، فإنّها تتجلّى في نفس الإمام عليه السلام.٣
وعليه، فإنّ ما نراه من الإمام هو ظاهره الذي ينظر إلينا، ويتحدّث معنا، ويمزح معنا، ويتناول الطعام معنا؛ وأمّا ما يوجد في باطنه وحقيقته، فلا اطّلاع لنا عليه؛ ولهذا، ذكرت أنّ الإمام عليه السلام يختلف عن غيره، حيث من الممكن أن يُخبر أحدهم عن الغيب، ويقوم ببعض الأفعال [الغريبة]، إلاّ أنّ جميع ذلك يجري بإرادة الإمام؛ فتجد المرتاض الهنديّ الذي يتمكّن من أداء بعض الأعمال يظنّ أنّه هو الذي يُؤدّيها، في حين أنّ إرادة إمام الزمان عليه السلام هي التي تُمكّن المرتاض الكافر والمشرك من القيام بتلك الأفعال غير المتعارفة؛ كما أنّ عمل الخير الذي يُؤدّيه المؤمن هو بإرادته عليه السلام؛ وكذلك الشأن بالنسبة للصلاة التي تُقيمونها، والصيام الذي تُؤدّونه؛ فلو لم يشأ إمام الزمان، لما صلّيتم، ونمتم، وصمتم؛ وما لم يأذن عليه السلام بصدور أمر، لما امتلك أحد القدرة عليه، ولو بمقدار جناح بعوضة.
الولاية وعلاقتها بالتوحيد
وعليه، فإنّ الولاية عبارة عن: تلك الجهة التي تخلق كافّة الأشياء في عالم الوجود، وتستوعبها؛ ولهذا، فإنّ مقولة: «التوحيد عين الولاية، ولا يُمكن للإنسان الوصول إلى التوحيد من دون ولاية» تُبيّن المسألة بشكل واضح جدًّا؛ فبالنظر إلى هذا المعنى والتفسير والبيان المذكور آنفًا، هل تكون الولاية أمرًا آخر غير ذات الحقّ تعالى في مقام الإبراز والظهور؟! وغير ذات الباري عزّ وجلّ التي تجّلت وظهرت في هذا العالم؟! وحينئذ، هل يتسنّى للإنسان الوصول إلى الله تعالى من دون ولاية؟! وهل يُمكنه بدونها بلوغ معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته؟!
إنّ معرفة الله تعالى في المراتب الدنيا عبارة عن معرفة فعله؛ وفي مرتبة أعلى منها، عبارة عن معرفة صفاته؛ وفي مرتبة أعلى من الإثنين، عبارة عن معرفة أسمائه؛ وفي مرتبة أعلى من الكلّ، عبارة عن معرفة ذاته؛ فما لن نطّلع على حقيقة فعل الله تعالى، كيف لنا أن نتعرّف على خالقيّته ورازقيّته وفاعليّته؟! في حين أنّ حقيقة هذا الفعل لن تنكشف للإنسان، إلاّ إذا تعرّف على مجراه؛ وهذا المجرى هو الولاية؛ وما لم نعرف بأيّ نحو تكون صفات الله تعالى، ويكون علمه وقدرته؛ وهل إنّ هذه القدرة تُماثل القدرات الظاهريّة، أم أنّ لها هناك معنى آخر، [فكيف يتسنّى لنا الاطّلاع على صفات الله تعالى وعلمه وقدرته؟!]
وعلى حدّ كلام العارف المشهور ابن الفارض الذي يقول في قصيدته التائيّة؛ وهي بحقّ قصيدة عجيبة جدًّا تُبيّن جميع أطوار عالم الوجود والسير والسلوك وكيفيّة تنزّل ذات الحقّ تعالى في الأسماء والصفات الجزئيّة: «شعرت أنّ القدرة ـ التي بواسطتها تُبرز الأشياء الخارجيّة وجودها ـ إنّما تصدر بأجمعها من نفسي»؛۱ أي أنّه أدرك حقيقة ولاية الإمام عليه السلام بهذا النحو عن طريق الاتّصال بها.
فحينما يُعمل الإمام عليه السلام ولايته، ويُفيض الوجود والعلم والرزق، فبأيّ نحوٍ يكون هذا الفيض؟ وكيف يتسنّى للإنسان الاطّلاع على هذا الأمر؟ لا يتسنّى له ذلك، إلاّ إذا تمكّن من إدراك نفس ذلك الحال الذي كان يعيشه الإمام بالنسبة لهذه المسائل؛ وفي غير هذه الحالة، سيكون قد اقتصر في هذه المعرفة على ما قرأه من كتب، وسمعه من مسائل.
وأنا أمنحكم الحقّ في النظر إلى هذه المسائل بتمعّن؛ لأنّني مثلكم أحتاج إلى من يأخذ بيدي، وأرجو من الله تعالى أن يشملنا الإمام عليه السلام جميعًا بفيضه وعنايته.
ولهذا، قال العرفاء: بدون ولاية؛ أي من دون أن يدخل الإنسان في ولاية الإمام عليه السلام، فلن يستطيع الوصول إلى التوحيد؛ وليس المراد من الدخول في الولاية أن نعقد المجالس، ونلطم الصدور، ولو أنّ هذه الأمور لها مكانتها الخاصّة، بل إنّ الدخول في الولاية يعني: أن يحصل الإنسان على نفس ذلك الإدراك الذي بواسطته يُؤثّر الإمام عليه السلام في عالم الوجود؛۱ فهذا هو المراد منها، غير أنّ هذه المسألة لا يُمكن أن تحصل من غير عمل، ومن دون الولوج في وادي الشهود والوجدان، وبدون اتّحاد نفس السالك بنفس وليّ الله المتمثّل في الإمام عليه السلام؛ فهذه الحقيقة لا تحصل من خلال قراءة الكتب، بحيث لو طالعنا ألف كتاب، لما تمكّنا من إدراكها؛ أجل، قد تأتي على أذهاننا مجموعة من الأمور المبهمة والمجملة؛ ومن باب المثال، قد يحصل لكم نحوُ معرفةٍ بالحلاوة، لكنّنا نتوفّر على عدّة أنواع من الحلاوة: فالعسل حلو، والحلويات حلوة، والسكّر حلو، والشمندر حلو، والتفّاح حلو؛ غير أنّ كلّ واحد من هذه الأشياء يمتلك طعمًا خاصًّا؛ ولهذا، فإنّ هذه الحلاوة ستظلّ مبهمة بالنسبة إليكم، ولن يرتفع إبهامها، إلاّ حينما تتناولون قطعة من هذه الفاكهة؛ وفي هذه الحالة، عندما تُقارنون وضعكم الحالي، مع وضعكم السابق الذي اقتُصر فيه على وصفها لكم، أ لن يكونا مختلفين؟!
وهذا بعينه الكلام الذي يقوله العرفاء؛ أي أن يضع الإنسان نفسه ـ بنحو من الأنحاء ـ في مجرى ولاية الإمام عليه السلام؛ بأن يسعى لإحداث تغيير وتحوّل وتبدّل نفسانيّ عن طريق الرياضات والمجاهدات، وتخطّي النفس والمهالك، والعبور من الدنيا والأمور الدنيويّة، والتخلّي عن الرئاسات والاعتباريّات والتوهّمات والتخيّلات والمجازات، والانخراط في سلك السائرين إلى الله، ومطابقة كافّة الأعمال والسلوكات والأفكار مع مدرسة العرفاء والأولياء الإلهيّين، إلى أن يصل تدريجيًّا إلى مرتبة يتمكّن فيها ـ عن طريق الاتّصال بالإمام ـ من استيعاب عين ذلك الإدراك والشعور والحقيقة التي يجريها الإمام عليه السلام في هذا العالم، باعتبارها مفاضة من ناحية الحقّ سبحانه؛ وهو أمر يستحيل ويمتنع تحقّقه من دون سلوك عمليّ.
فحتّى لو قرأتم مائة ألف كتاب، لما تمّكنتم من الوصول إلى هذه المرتبة، ولو استمعتم إلى مائة ألف خطبة، لما تسنّى لكم بلوغها، ولو اطّلعتم على مائة ألف حال من أحوال الأولياء، لما جنيتم أيّة فائدة؛ اللهمّ إلاّ أن تقوموا بنفس العمل الذي قاموا به. فلو فرضنا أنّ بجانبكم طنًّا من الفواكه، فما لم تتناولوا منها مقدارًا، لن تشبعوا، مهما بقيتم تنظرون إليها.
ومن هنا، فإنّ الولاية عبارة عن: المسار الوحيد الذي يتسنّى للإنسان من خلال الاتّحاد به ـ لا مجرّد الاطّلاع عليه، بل الدخول فيه والاتّحاد به ـ أن يتّصل بذات الباري عزّ وجلّ، وينكشف له التوحيد؛ ولهذا، لا يستطيع أهل السنّة أبدًا الوصول إلى مقام التوحيد؛ لأنّهم لا يعترفون بالولاية، ولا يضعون أنفسهم فيها، ولا يتقدّمون في هذا الطريق، ولا يرغبون فيه؛ فما إن يصل الأمر إلى الولاية، حتّى نجدهم يتقوقعون حول أنفسهم، ويلجؤون للمجابهة؛ فحينما تريد أن تصل المسألة إلى الخلفاء الغاصبين، نراهم يضعون خطًّا أحمر، ويقولون: «نحن نرتضيهم، وهم رجال صلحاء»؛ فنراهم هنا يُغلقون الباب أمام أنفسهم؛ في حين أنّ الإمام لا يعرف للانغلاق معنى، بل هو منفتح؛ ولهذا، عندما تريد أن تدخل تحت الولاية، فلا ينبغي أن يصدّك عن ذلك أيّ أمر اعتباريّ؛ إذ متى ما قامت هذه الاعتبارات والمعاملات والمصالح والمنافع بالتقدّم إلى الأمام قليلاً، فإنّ الإمام سيُغلق الطريق في نفس ذلك الحين، وينتهي الأمر؛ فيتعرّض الإنسان للخسارة والضياع بالمقدار ذاته؛ وعليه، فإنّ الولاية عبارة عن: طريق ومسار معرفة التوحيد المتمثّل في ذات الباري تعالى، من دون أن توجد بينهما أيّة بينونة.
نظرة العارف لواقعة عاشوراء
سؤال: من الطبيعيّ أن يكون لهذا النوع من الرؤية للولاية ـ والمعرفة بها ـ بروزٌ ظاهريّ في حالات الإنسان ومعنويّاته؛ وقد ذكرتم أنّكم وُفّقتم للتواجد في أيّام عاشوراء من إحدى السنوات في محضر السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه؛ ويتعيّن على الإنسان عادةً أن يرى ـ إلى حدّ ما ـ في سلوك هؤلاء الأفراد بعض تجلّيات هذه الحالات في أيّام العزاء؛ فهل تستحضرون مصاديق لظهور هذه الرؤية والمعرفة بمقام الولاية؟
جواب: أجل؛ وبالمناسبة، فإنّ هذا سؤال ذو مغزى كبير، وقد استعرضت ـ إلى حدّ ما ـ في ضمن حديثي السابق معكم بعض الإشارات الواردة في هذا الباب. إنّ رؤيتنا لمصائب الأئمّة عليهم السلام ـ لا سيّما تلك المرتبطة بحادثة عاشوراء ـ هي رؤية عاطفيّة، وهي رؤية ضعيفة جدًّا؛ فتجدنا نقصر نظرتنا إلى سيّد الشهداء على أنّه عليه السلام رُمي بالسهام، وعلى تلك الأوضاع الفجيعة، والتي ـ بحقّ ـ لا يُمكن تصوّر أنّها حصلت بذلك النحو وتلك الطريقة! فرؤيتنا لهذه الأمور هي دائمًا رؤية إحساسيّة وعاطفيّة؛ كما أنّك تجدنا أيضًا ننظر إلى الأئمّة عليهم السلام بهذه النظرة على الدوام، وأنّ الإمام سُجن ونُفي لعدّة سنوات، وأنّهم سمّوه عليه السلام، أو قطّعوه بالسيوف إربًا؛ لكن، هل أتى على بالنا لحدّ الآن أنّ: هذا الإمام الذي عانى من كلّ هذه المصائب والمشاكل والابتلاءات، ما هي البركات والخيرات والعوالم التي منحه الله تعالى إيّاها في مقابل ذلك؟
فلدينا رواية عن سيّد الشهداء عليه السلام جاء فيها: «إنَّ لَكَ فِي الجَنَّةِ دَرَجاتٍ لا تَنالها إلاّ بِالشَّهادَةِ»۱؛ فالإمام عليه السلام كان إمامًا حتّى قبل حادثة عاشوراء، وهو عليه السلام ناموس عالم الخلق، وحقيقة عالم الوجود، ومصدر كافّة الأفعال والمفاعيل، ومنبع كلٍّ من المؤثِّرات والمتأثّرات في عالم الكون، وهو أيضًا مظهر الأسماء والصفات الإلهيّة الكلّية؛ غير أنّ الكلام هنا يتعلّق بمسألة أنّه لدينا قضايا أخرى أرقى من الإمامة، حينما يُخاطب الله تعالى سيّد الشهداء، ويقول له: مع أنّك تملك مقام الإمامة، لكن، إذا كنت تُريد أن تصل إلى هناك، عليك أن تطوي هذا الطريق! أي: رغم أنّك إمام، وبلغت مقام العصمة المطلقة، إلاّ أنّه لدينا في حقيبتنا أشياء أخرى يلزم للوصول إليها أن تقطع هذا الطريق، وتتجاوز هذه الخصائص.٢
ولهذا السبب، لو كان سيّد الشهداء في يوم عاشوراء كقطعة خشب أو حديد، فلا يحزن، ولا يتأثّر، ولا يُقاسي تلك المصاعب، ولا يُعاني تلك الآلام، [لما تمكّن من بلوغ تلك المراتب].
أجل، ورد عن بعض أصحاب سيّد الشهداء، نظير عابس بن أبي شبيب الشاكريّ أنّهم: «لاَ يَمسُّون أَلَمَ الحَديدِ»٣؛ أي أنّ عابس كان في حال نستطيع أن نقول عنه أنّه: حال الفناء؛ ممّا يعني أنّ النفس في هذا الحال لا تتعلّق ـ كما يجب وينبغي ـ بالبدن، بحيث كانوا يضربونه بالسيف من دون أن يشعر! وأمّا بالنسبة لسيّد الشهداء، فإنّ الأمر لم يكن بهذا النحو، بل كان يشعر، لكن من دون أن يعني ذلك أنّ مقام عابس أعلى منه؛ فقد كان عليه السلام يحسّ بالألم، مثلما نحسّ به نحن من دون أدنى اختلاف من هذه الجهة؛ فهذا هو مقامه، وهذه هي حقيقة المسألة!٤
تأمّلوا الآن في قصّة حضرة عليّ الأصغر، وانظروا أيّ شعور كان يمتلكه الوالد حقيقةً تجاه هذا الولد ذي الشهور المعدودة؟ فهذا عجيب حقًّا! وقد كانت هذه المسائل عجيبة جدًّا، إلى درجة أنّ الإنسان يحتار بشأن الحادثة التي يريد أن يضع يديه عليها! فنجده يأتي بحضرة عليّ الأصغر وعبد الله الرضيع.. ابنه الذي لا يتجاوز عمره بضعة أشهر، والذي لا يساوي كلُّ العالم شعرةً واحدةً من شعيراته، بحيث لو أنّه بقي حتّى كبُر، لصار مثل حضرة عليّ الأكبر؛ غاية الأمر أنّ التقدير الإلهيّ تعلّق بشهادته في ذلك العمر، فيقوم ذلك الرجل ذو القلب القاسي والجاهل والمعاند بارتكاب ذلك العمل الفظيع، ويرميه بالسهم! وفي هذه الحالة، يضع الإمام يده، ويلتقط تلك الدماء، ويرمي بها إلى السماء، ويقول: «لو وقعت منه إلى الأرض قطرة، لنزل العذاب»۱؛ وهنا يأتي السؤال: ما هي الحقيقة العظيمة الكامنة من وراء حادثة كهذه؟ وبحقّ، أيّة مسألة عجيبة هذه؟! وما هي الحقيقة التي تجلّت في الإمام عليه السلام، بحيث نراه حتّى في تلك اللحظة التي يستشهد فيها ولدُه يُفكّر في الناس، لكيلا يحلّ عليهم العذاب ويهلكوا؛ فهذا هو مقام الجمع بين الوحدة والكثرة، والذي يكون فيه نظره عليه السلام موجّهًا بشكل تامّ إلى إرادة الله تعالى، والوصول إلى ذلك المقام الذي يريده الباري عزّ وجلّ، وتحصيل رضاه، والتسليم أمامه، بحيث نجده لا يتراجع عن طريقه، ولو بمقدار رأس إبرة؛ فلو أنّ كلّ العالم اجتمع على كلمة واحدة، لبقي ثابتًا، وقال: المسألة بهذا النحو؛ فهذا هو العارف، والإمام عليه السلام إمام العارفين! ففي نفس الوقت الذي يُراعي مقتضيات جهة الإمامة والولاية، فإنّه يُراعي أيضًا حال الآخرين؛ أي: مع أنّ عمر بن سعد كان يواجه الإمام، إلاّ أنّه عليه السلام كان يُراعي حاله، كما كان يُراعي حال الشمر ويزيد أيضًا؛ وفي نفس تلك اللحظة التي كانت تقع فيها هذه الأحداث الواحد تلو الآخر، وكانوا يضربون ولده أمام عينيه، فإنّه كان ملتفتًا إلى الدنيا بأسرها، وكافّة عوالم المـُلك والملكوت، من دون أن يغفل أبدًا عن بقيّة المسائل؛ فلم يكن غافلاً عن أنّ هناك نملة في الجبل الفلانيّ، عليها أن تحمل حبّة قمح، وتعيش حياتها، حيث كان ينظر إلى هناك حتّى في يوم عاشوراء وفي نفس ذلك الحين! لكنّنا لم نحمل الإمام على محمل الجدّ! وما قيل لنا في هذا المجال كان مجرّد مزاح!
إنّ أولياء الله تعالى ينظرون في حادثة عاشوراء إلى هذا الجانب من سيّد الشهداء عليه السلام، وليس إلى مجرّد ضربه بالسهام! فحينما يُلقي الإمام بذلك الدم إلى الأعلى، فإنّنا نجدهم ينظرون إلى المحلّ الذي أوقع فيه ذلك، والعالم الذي حقّق فيه هذه المسألة، كما ينظرون إلى تلك الحالة من العشق والتوجّه التي تكتنف هذه الحقائق والمسائل؛ لأنّ القضيّة مهمّة جدًّا! حسنًا، قد أطالع أنا هذه الأحداث، وتُطالعونها أنتم والآخرون، لكنّ أهل الدقائق يكتشفون المسائل الدقيقة المكنونة وراءها.
لقد كان اهتمام السيّد الحدّاد منصبًّا على هذه المسائل، كما أنّ أولياء الله تعالى والمرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كانوا يُشيرون في يوم عاشوراء ـ وحصول تلك القضايا والأحداث ـ إلى هذه المسائل، لا إلى أنّ الشمر جاء مثلاً، وقطع رأس سيّد الشهداء؛ فكم بلغ مقدار تألّم الإمام عليه السلام كحدّ أقصى؟ صحيح أنّ قطع الرأس يستتبع ألمـًا كبيرًا، ولا يُعدّ أمرًا يسيرًا، لكنّه في الأخير يستغرق عشر دقائق أو ربع ساعة، وينتهي؛ ففي نهاية المطاف، لن يبقى هذا الألم إلى الأبد؛ كما أنّه حينما يُصيب الإنسان سهمٌ، فإنّه يتألّم كثيرًا، وتسيل منه الدماء، ويتمزّق جسمه، لكنّهم في الأخير يخيطون جرحه يومًا ما، ويضعون له الضمادات، فيلتئم الجرح، وينتهي الأمر؛ غير أنّ كلامنا لا يدور حول هذه الأمور، بل حول تلك الأجواء التي كان يعيشها سيّد الشهداء في يوم عاشوراء؛ وهذه المسألة هي التي كان يهتمّ بها أولياء الله تعالى، وعلينا أيضًا أن نلتفت إليها كثيرًا؛ ولهذا، علينا أن ننظر إلى أقوال الإمام وأفعاله واحدًا واحدًا، ونتأمّل في علاقته بزوجته وأبنائه، ونركّز على الكلام الذي قاله عليه السلام لهم، ومتى بكى، ومتى ضحك، ومتى سعى لاستمالة هذا، واسترضائه، ومتى عمد إلى الربط على قلب ذاك، ومتى قام ببعض التصرّفات؛ فهذه هي حقيقة المسألة!
وبحقّ، لو لم تكن إرادة سيّد الشهداء هي الحاكمة في يوم عاشوراء، هل كانوا سيتمكّنون من التقدّم خطوة واحدة؟! فحينما كان الشمر يقطع رأس الإمام الحسين، فإنّ إرادته عليه السلام هي التي مكّنته من القيام بذلك؛ كما أنّه عندما رمى حرملة بالسهم، وأصاب به عنق حضرة عليّ الأصغر، فإنّ الإمام سلام الله عليه، هو الذي كان يُوجّه ذلك السهم؛ أ فهل فكّرنا إلى حدّ الآن بهذه المسألة؟! فالإمام عليه السلام هو الوليّ والمتحقّق بالولاية التي تنبع منها كافّة الأفعال في عالم الوجود؛ وبالتالي، فإنّه هو الذي يُوجّه السهم في مساره؛ فلو أنّ ريحًا قد هبّت، فانحرف ذلك السهم عن مساره بمقدار عشرة سنتمترات، لما استُشهد حضرة عليّ الأصغر؛ ولهذا، فإنّ الإمام هو الذي كان يُوجّه ذلك السهم في مساره، وهو الذي يسوق المشيئة الإلهيّة التي تعلّقت بضرورة استشهاد ابنه الرضيع؛ أي: بما أنّ الأمر صار بهذا النحو، فإنّ الإمام يأتي، ويُنفّذ هذه المسألة بنفسه؛ في حين أنّنا نعتقد بأنّ هذه القضايا تحصل صدفة، وأنّ الإمام الحسين ينظر إليها كمتفرّج وحسب، وأنّه [يقول في نفسه]: حسنًا، بما أنّ مشيئة الله تعالى تعلّقت بهذا الأمر، فليأتي هؤلاء، وليضربونا، ويقطعوا رؤوسنا، ويرموننا بالسهام، ويفعلوا بأبنائنا وإخواننا كذا؛ وبهذا النحو تتحقّق الإرادة الإلهيّة؛ كلاّ! إنّ جميع هذه الأحداث تقع بإرادة سيّد الشهداء؛ لأنّ إرادة الله تعالى ظهرت هنا بهذا النحو.
ولا يخفى أنّ ذلك لا يسلب الاختيار عن الأعداء؛ لأنّ مسألة اختيار المعاندين والكفّار ومعارضي الولاية محفوظة في مكانها، لكنّ كلامنا يدور هنا حول: بيد من يوجد رأس الخيط؟ فكما ذكرت لكم سابقًا، لا معنى لأن يفعل الإمام عليه السلام كلّ شيء بواسطة الولاية، لكنّه يتنحّى جانبًا في واقعة عاشوراء؛ فهذه الواقعة غير منفصلة عن الولاية، كما أنّها شهدت بدورها أيضًا خلق مجموعة من الحوادث؛ وبالتالي، فإنّ كافّة ضربات السيوف، وجميع تلك الأحداث التي وقعت آنذاك وبعد ذلك، كانت بواسطة الإمام، حيث نجد اهتمام العرفاء منصبًّا على هذه المسألة.
فبينما نلتفت نحن إلى أنّ الإمام عليه السلام ضُرب السيف والرمح، وسقط من الفرس، وأصيب بسهم مثلّث، نجد أنّ العارف ينظر إلى تلك الحقيقة التي بواسطتها يُوجد الإمام عليه السلام كافّة هذه الأحداث والأفعال؛ وحينئذ، ينتابه البكاء؛ وهو بكاء يختلف كثيرًا عن بكائنا العاطفيّ۱؛ لأنّ الدموع التي تنهمل من عينيه مصدرها الشوق، وليس الوقوع تحت تأثير الإحساسات.
مجالس العزاء عند الأولياء وعند غيرهم
ففي المجالس التي لا ينتاب فيها الناسَ البكاءُ، نجد قارئ العزاء يسعى بكلّ طريقة وإلى حدّ الموت لإبكائهم! فإذا لم يبك الناس، فلا يهمّ.. دعهم وشأنهم، واتركهم يذهبون لحال سبيلهم! فنراه يقوم بذلك كلّه لكي تزداد حرارة مجلسه، فيقول: كلّ من يُحبّ الإمام الحسين أكثر، فليضرب على رأسه أكثر! لا يا عزيزي، فلن يظفر أحد بولايته عن طريق الضرب على الرأس وشجّه، وإسالة الدماء، بل إنّ ولايته تحصل بواسطة مقدار من العقل والفهم. ففي يوم عاشوراء، نرى الجميع يضربون على رؤوسهم، وقد وُفّقت لزيارة العتبات في يوم الأربعين، فجاء العديد من الزوّار، وبدؤوا في التطبير، كما أتى الكثير من الإيرانيّين، وقاموا بالتطبير في النهار؛ لكن، عندما حلّ الليل، رأيتهم في الحرم يتبادلون الكلام الفاحش! أ فهل لأنّهم طبّروا، وظهرت الجروح على رؤوسهم، فقد انتهى الأمر؟! إنّ هذا النوع من التعامل هو تعامل إحساسيّ.
لقد أوقع الإمام الحسين نفسه في هذه المصائب، لكي يزيد من فهمنا؛ وهذا بعينه ما قاله المرحوم العلاّمة للحاج هادي الأبهريّ؛ فقد كان المرحوم الأبهريّ رحمة الله تعالى عليه يبكي كثيرًا على سيّد الشهداء، بحيث كان ينتابه البكاء عدّة ساعات في اليوم طيلة اثنتي عشرة سنة؛ كما أنّه كان أمّيًا، وكان ذكره الدائم: سيّدي حسين! سيّدتي زينب! فكان يُردّد هذا الذكر بحالة من الابتهال والبكاء؛ وبما أنّه كان من أهل الصدق والصفاء، فقد كانت تحصل له بعض الأحوال والمكاشفات؛٢ وإذا أراد أحد العلماء الذين يزورونه أن يبدؤوا أمامه بالتلاعب، فإنّه كان يعرض أمامه جميع ما يدور في نفسه؛ فقد كان بهذا النحو، ولم يكن يمزح مع أيّ أحد! وقد حضرت عددًا من المجالس التي كان يأتي إليها البعض، ويقول له بالتركيّة ـ لأنّه كان تركيًّا ـ : «أيّها الحاج، إنّنا نخلص لك المودّة كثيرًا»، فكان يردّ عليهم بالقول: «إنّك تكذب كثيرًا! هل تتذكّر الكلام الذي ذكرته في غيبتي بالمجلس الذي عُقد في الليلة الفلانيّة؟!»؛ هذا، مع أنّه لم يكن أيّ أحد مطّلعًا على ما قاله؛ أو يقول: «هل تذكر التصوّر الذي خطر قبل البارحة ببالك عن فلان في الشارع؟ ومع ذلك تأتي، وتقول: إنّي أخلص لك المودّة كثيرًا!»؛ وخلاصة القول، لم يكن أحد يجرأ على الهزل معه، فقد كان صريحًا جدًّا، ولا يلجأ للمواربة.
ومن بين الأحوال التي حصلت له، والأحداث التي شاهدها، سمعت منه بنفسي هذه الحكاية التي قال عنها:
حينما سافرت في أحد الأيّام إلى الشام، سألت الناس هناك: أين تقع البوّابة التي دخل منها الأسرى؟ فدلّوني عليها؛ وفي نهاية المطاف، ذهبت إليها، وجلست عندها ـ رحمة الله تعالى عليه، فقد كان يصطحب معه دائمًا كيسًا من التبغ، ويُدخّن غليونًا ـ، فأخرجت الغليون، وبدأت بالتدخين؛ وفجأة، شاهدت جميع الأحداث، ومن جاء في البداية، ثمّ أحضروا الرؤوس، وجاء الجيش والعسكر، وجاء أهل البيت، وكان الأطفال على الأرض بنحو....
وهذا عجيب جدًّا! فقد كان يتطابق جميعُ ما يقوله مع ما طالعناه؛ وهذه أمور واقعيّة، غير أنّ رؤية العارف أرقى وأعلى؛ ولهذا، قال له المرحوم العلاّمة:
إذا كنت لا تقبل بهذه الحقيقة التي تجلّت في السيّد الحدّاد، فعليك أن تعلم أنّك وضعت يدك في موضع بالغ الخطورة! فحقيقة وليّ الله تعالى متّحدة مع حقيقة الإمام عليه السلام وسيّد الشهداء؛ وأخشى أن يأتي يوم، فيكون خصمك نفس ذلك الذي كنت تبكي وتنتحب لأجله طيلة ثلاثين سنة، ويقف أمامك في يوم الحشر، ويُؤاخذك قائلاً: لماذا سلكت سبيل المجابهة؟! ولماذا وقفت في وجه السيّد الحدّاد؟! ولماذا عارضته؟!۱
ولا يخفى أنّ حالة تنبّه وتيقّظ حصلت للمرحوم الحاج هادي الأبهريّ في أواخر حياته، حيث كان المخالفون والمعاندون قد أثاروا فيه مجموعة من الإشكالات والشبهات، والتي تطرّق إليها المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرّد، إن طالعتموه.٢ وهذا عجيب جدًّا! إذ وصلت المسألة إلى أنّهم لم يكونوا يعتبرون السيّد الحدّاد من أهل الولاية بتاتًا! وبحقّ، انظروا إلى ما يفعله العدوّ، ولاحظوا إلى أيّ مدى يُمكن أن يبلغه العناد والأمور النفسانيّة! فقد كانوا يقولون: «إنّهم ليسوا من أهل الولاية بتاتًا! فهم لا يقرؤون العزاء، بل يكتفون بقراءة القرآن!».
كان ذكر السيّد الحدّاد أثناء قيامه: «يا صاحب الزمان»؛ ومع ذلك، كانوا يقولون: «إنّه ليس من أهل الولاية»؛ وبحقّ، إلى أيّ مدى يتعيّن على الإنسان أن يغوص في الجهل! ففي السفر الأخير الذي تشرّفت فيه بالزيارة لمدّة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، سألت ابنه عن هذا الأمر، فقال لي: «كان يذهب صباح كلّ يوم وبدون استثناء لزيارة سيّد الشهداء، ثمّ زيارة حضرة أبي الفضل عليهما السلام؛ وبعد ذلك، يرجع إلى المنزل لتناول الإفطار»؛ فقد كانت هذه عادته اليوميّة، ومع ذلك، يقول عنه هؤلاء: «لم يكن من أهل الولاية»؛ فلاحظوا المستوى الذي يوصل إليه العنادُ الإنسانَ!
لكن، في السنوات الأخيرة، انتبه المرحوم الحاج هاديّ، وتاب، وواجه أولئك المعارضين، وتغيّرت أحواله، وتبدّل حاله أيضًا مع المرحوم العلاّمة.
فأولياء الله تعالى لا يتعاملون مع الحوادث الواقعة بنوع من اللامبالاة، بل إنّهم أشوق وأرغب منّا ألف مرّة بالنسبة إلى إحياء ذكر أهل البيت، حيث كان المرحوم العلاّمة يوصينا ـ باعتبار ذلك تكليفًا ـ، ويقول لنا: تكليفكم في أيّام محرّم هو الذهاب عند الناس، وقراءة المقتل لهم، وحتّى أنّه كان يقول:
لا تدرسوا في العشرة الأولى من محرّم؛ إذ لا بركة في الدراسة أثناء هذه الأيّام، واقرؤوا [بدلاً عن ذلك] المقتل، وطالعوا تاريخ عاشوراء، وانقلوا ذلك للناس!
وفيما يخصّ عقد المجالس، كان الكلّ يقول بالإجماع: «إنّ ذلك المستوى من الإخلاص الذي تتّسم به مجالس السيّد الطهرانيّ لا نملكه نحن» ؛ وقد سمعت بنفسي أحد المشايخ ـ كان يعقد مجلسًا في بلدته ـ يقول: «إنّنا على علم بأنّ الإخلاص الموجود هنا لا يوجد بيننا نحن»؛ فقد كان أولياء الله تعالى بهذا النحو؛ فكان [المرحوم العلاّمة] يقف، ويلطم على صدره، ويستدعي بنفسه قارئ العزاء؛ وإذا قرأ العزاء، وقلّل من اللطم، يُوبّخه بقوله: «لماذا قلّلت اليوم من اللطم؟! لماذا اختصرت النعي؟!»؛ وحينما كنّا نرتقي المنبر، ونقرأ العزاء من دون تحسين الصوت، أو نختصر النعي، فإنّه كان يُوبّخنا؛ فقد كانت أحواله في المجالس التي يحضرها سابقًا في طهران بهذا النحو.
وكان يقول: «المنبر من دون نعي، كالطعام من دون ملح!»؛ فكان يعترض على بعض الأفراد بخصوص هذا الأمر.
وأذكر أنّ المرحوم الشيخ مطهّري جاء عنده ذات يوم؛ لأنّه كان يأتي لزيارته مرّة في كلّ أسبوع، وقد تواجدت هناك صدفةً لعدّة دقائق؛ لأنّني كنت آتي، وأصبّ الشاي، وأقفل راجعًا؛ فدار الكلام حول كتابه معرفة المعاد۱؛ إذ لو انتبهتم، لرأيتم أنّه أورد عند نهاية كلّ مجلسٍ نعيًا يتناسب معه، فاقترح عليه الشيخ مطهّري ما مفاده: «يا سيّدي، من الجيّد أن تحذف عبارات النعي، ليُعرض هذا الكتاب بشكل منسجم»، فأجابه قائلاً:
إنّ جميع الآثار المترتّبة على ذلك المجلس تظهر في ذلك النعي بعينه، فلا ينبغي حذف كلمة واحدة منه.
هل انتبهتم؟! فهذا عجيب جدًّا! يعني: أ لم يكن يستوعب تلك المسألة التي ذكرها الشيخ مطهّري؟! إنّها مسألة تأتي على بالنا نحن جميعًا؛ لكن، ما هي الحقيقة التي أدركها هو، فدفعته للقول: «إنّ التأثير الذي يمتلكه ذلك المجلس يجري ترسيخه بواسطة هذا النعي»؟ ولهذا، كان يقول لنا:
حينما تقرؤون مجلسًا [من كتاب معرفة المعاد]، لا تنتقلوا للمجلس اللاحق، بل اقرؤوا العزاء الوارد بعده، وطالعوا تلك العبارات التي أشرت إليها في آخره من باب النعي، حتّى تنتهوا منه، ثمّ انتقلوا للمجلس اللاحق!
أي أنّ ذلك النعي الوارد في نهاية المجلس عبارة عن: تلك النورانيّة، وتلك الحقيقة التي تصل الإنسان بمبدإ هذه النورانيّة؛ أي سيّد الشهداء عليه السلام؛ ولهذا، حينما يتّصل الإنسان به، فإنّ المسائل العلميّة التي طالعها من قبل، والعبارات التي وردت في ذلك المجلس تترك تأثيرها الخاصّ. لقد كان تأكيده على حادثة كربلاء وآثارها وبركاتها عجيبًا إلى درجة أنّه يقول:
لا ينبغي حذف ولو كلمة واحدة من كتبي، سواءً كنت حيًّا أو ميّتًا؛ فلا يجب المساس بهذه الكتب، حتّى بعد مماتي، بل يتعيّن أن تبقى موجودة بعينها.
ويتبيّن من خلال ذلك أنّ هذه المسألة لا تقتصر على كونها مصيبة ظاهريّة، ومجموعة من العواطف والأحاسيس، ومجرّد إثارات، بل هي عبارة عن عمليّة نقلٍ لأجواء الإمام الحسين عليه السلام، حيث كان [المرحوم العلاّمة] يسعى لنقل الإنسان إلى تلك الأجواء والأوضاع، وإلاّ، فإنّ هذه الأحداث والقضايا حصلت دائمًا عبر التاريخ؛ فكم هي الجرائم التي وقعت بأيدي الحكّام الظالمين وطواغيت العصر! فقد أشعلوا النيران، وقطعوا الرؤوس، ورموا الناس بالرصاص، وفعلوا ما فعلوا!
ولهذا، كانت رؤية هؤلاء العظماء لواقعة كربلاء، وحالة الابتهال والتوسّل التي يشعرون بها تجاهها عجيبة حقًّا؛ ومن باب المثال، كان المرحوم القاضي يقول:
لا يُمكن للإنسان فعل أيّ شيء من دون التوسّل بسيّد الشهداء.۱
كما كان المرحوم السيّد الحدّاد يذهب كلّ يوم لزيارة سيّد الشهداء وأبي الفضل؛ وقد سألت المرحوم العلاّمة عن ذلك، فقال:
إنّ الفتح الذي حصل للمرحوم السيّد الحدّاد إنّما حصل له في حرم حضرة أبي الفضل سلام الله عليه، وببركة التوسّل به.
وحينما كان المرحوم السيّد الحدّاد يتشرّف بزيارة الكاظمين، كان يأخذ التراب الواقع على ضريح موسى بن جعفر عليهما السلام ـ والذي كان مصنوعًا آنذاك من المعدن والخشب ـ ، ويمسح به رأسه وبدنه؛ فمن يا تُرى شاهدتم صدور هذا الأمر منه؟! وما الذي تعنيه هذه الأفعال؟ أ فهل هذا هو التوسّل الحقيقيّ، أم أن نضرب على رؤوسنا، ونُثير الضجيج، ونرفع أصواتنا في مجالس العزاء، ونملأ المكان بالصرخات؟! فلماذا كلّ ذلك؟ هل لكي نُقرّب أنفسنا أكثر؟ لا يا عزيزي، فهذا لا يعدو كونه تمثيلاً ولعبًا بأجمعه، وهي مجالسٌ للهو، لا أكثر!۱
فقراءة الأشعار العاطفيّة والإحساسيّة لا ترقى إلى شأن الإمام عليه السلام، بل هي إهانة له! وعلى الخطيب والناعي أن يتلو قصائد رزينة ووازنة؛ فيقرأ أشعار عظماء وعلماء من قبيل: المرحوم الكمبانيّ، والمرحوم نيّر، والمرحوم فؤاد، والمرحوم جوديّ، أو يقرأ أشعارًا لأفراد أنشئوا قصائد في هذا المجال تجري فيها المحافظة على حريم الإمامة والولاية، وتُطرح فيها أيضًا بعض المسائل العاطفيّة والإحساسيّة؛ وأمّا استعمال الألفاظ البذيئة والقبيحة والتي لا ترقى لمنزلة الإمام عليه السلام وشأنه، وتُثير عواطف الشباب، وتدفعهم للبكاء، فلا تليق بمجالس أهل البيت عليهم السلام.
ولهذا، بحسب ما أذكر، فإنّ مجالس العظماء كالمرحوم العلاّمة أو السيّد الحدّاد كان يُحرص فيها ـ علاوةً على مراعاة إحياء الذكر وقراءة العزاء وزيارة عاشوراء وأمثال ذلك ـ على اهتمام الحضور أكثر بالجانب المعنويّ والروحيّ، وبالمسائل العلميّة والحقائق المستورة عن الأذهان العادية.
قصّة الفتح الذي حصل للسيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه
سؤال: فيما يخصّ مسألة الفتح الذي نقلتم حصولَه للسيّد الحدّاد عن المرحوم الوالد، إذا جاء على بالكم توضيح أكثر، نرجو منكم أن تتفضّلوا بطرحه.
جواب: لا يخفى أنّه تحدّث عن هذه المسألة بنحو مجمل؛ وحقيقة الأمر أنّ العظماء يولون أهمّية بالغة للتوسّل بالأئمّة عليهم السلام، لكن بمعناه الواقعيّ، لا مجرّد النعي وإقامة المجالس، حيث كانوا يوصون تلامذتهم كثيرًا بذلك؛ لا سيّما المرحوم القاضي الذي كان يوصي به تلامذته بشدّة، ويقول: «لقد نمت ليالي في صحن سيّد الشهداء، من دون أن أترك شبرًا واحدًا لم أبت فيه»؛٢ كما أكّد كثيرًا على عقد مجالس أهل البيت في وصيّته التي نقلتها في الجزء الثاني من أسرار الملكوت.٣
قبل ثلاث سنوات من وفاة المرحوم العلاّمة جرّاء المرض الذي أصابه، كنت في خدمته بالمستشفى، فأوصاني بهذا الأمر: «ينبغي المحافظة على عقد مجالس الصباح في هذا المنزل، سواءً كنت حيًّا أو ميّتًا».
فنظرة أولياء الله تعالى لهذه المجالس لا تقتصر على نظرتنا نحن المتمثّلة في طلب الثواب وإحياء الشعائر الدينيّة وحسب؛ فعقد هذا النوع من المجالس بحدّ ذاته من الشعائر، ويجدر بالشيعيّ الاهتمام بهذا الأمر والعمل به؛۱ وهذه المسائل محفوظة في مكانها الخاصّ؛ لكن، لو كان هناك ـ مثلاً ـ مجلسٌ جاء فيه عاقِدُه بعد مرور نصف ساعة من بدئه، لدلّ ذلك على أنّ صاحب هذا المجلس يأخذ هذا الأمر على محمل الهزل، وأنّه يُريد مجرّد عقد مجلس في بيته، أو أن يحصل من خلاله على بركة وحسب؛ وكذلك الشأن أيضًا لو فرضنا أنّ هناك مجلسًا يُجبر فيه الخطيب على كيل أنواع المدح والثناء لعاقده وكافّة أفراد عائلته، بل وحتّى لِدِيكِ المنزل! فهذه أمور ابتُلينا بها، وهي تدعو للأسف حقًّا!
فلم يكن المرحوم العلاّمة، ولا أولياء الله تعالى بهذا النحو؛ ولو سعى أحد لمدحهم من أعلى المنبر، لما وجّهوا إليه دعوة بعد ذلك، بحيث نجدهم يُوبّخونه إذا تحدّث بمثل هذا الكلام، ثمّ إذا تكرّر منه حصول ذلك، فإنّهم لا يدعونه مجدّدًا؛ لأنّهم كانوا يرومون الوصول إلى أمور أخرى؛ فقد تخلّوا عن أنفسهم، ولم يكونوا ينظرون إلى المسائل بنفس نظرتنا نحن. أجل، يبقى أنّ التوسّل بالأئمّة عليهم السلام كان ولا يزال من الحقائق الثابتة في منهج الأولياء وطريقتهم، بحيث نجدهم يعتقدون أنّ هذا الطريق لا يتسنّى طيُّه من دون توسّل؛ أي بدون ذلك التوجّه الباطنيّ التامّ، بل لا يُمكن الحركة في هذا الطريق بتاتًا بمعزل عن ذلك! وهذه المسألة لا تتحقّق بعقد مجالس العزاء وحسب، بل إنّ ذلك يُمثّل نزرًا يسيرًا منها فقط؛ لأنّ التوسّل كان يُشكّل وجودهم بأجمعه.
لقد كانت للمرحوم السيّد الحدّاد وكذلك المرحوم العلاّمة ـ لأنّني لم أسمع بنحو شفاهي شيئًا عن بقيّة الأولياء سواهما ـ رؤية مغايرة لحضرة أبي الفضل؛ ٢ وكأنّه عليه السلام يقضي حوائج العرفاء والأولياء ـ والجميع بطبيعة الحال ـ بنحو أسرع، ويُعجّل في إخراجها إلى ساحة الوجود، حيث من المشهور أيضًا بين العوامّ أنّه إذا كانت لدى أحد حاجةٌ، فإنّ هذه الحاجة تُقضى أسرع عند حضرة أبي الفضل؛ والأمر بذاته يصدق على مسألة فتح الباب لأولياء الله تعالى؛ هذا، مع أنّ كلّ ما يقوم به عليه السلام يدخل تحت ولاية سيّد الشهداء، وبسبب كونه فانيًا فيه عليه السلام؛ لأنّه هو الذي جعله أبا الفضل؛ وهذه هي حقيقة المسألة؛ غاية الأمر أنّ إرادة الله تعالى ومشيئته اقتضت هنا أن يصل الناس لهدفهم المنشود عن طريق هذه النفس بنحو أسرع؛ فبهذا النحو بعينه تحقّق فتح الباب للمرحوم السيّد الحدّاد.
ففي لسان أهل المعرفة، يُطلق فتح الباب على انكشاف حقيقة التوحيد؛ إذ بوسع الإنسان أن يحصل ـ أثناء طيّه لمدارج التوحيد وخلال سيره ـ على معرفة إجماليّة بالأفعال والصفات والأسماء الإلهيّة، وتحصل له مجموعة من الأحوال، إلاّ أنّ ذلك بأجمعه لا يكفي في معرفة الذات؛ فلا يُمكن للإنسان أن يصل إل معرفة ذات الحقّ تعالى، إلاّ إذا بلغ مقام الفناء، ولم تبق فيه أيّة ذرّة من الأنانيّة والإنّية، وتتخلّص نفسه تمامًا من طابعها الاستقلاليّ، فيرى السالكُ الحقَّ بعين الحقِّ، لا بعينه وعين النفس؛ هذا، مع أنّه قد يكون سلك طرقًا عديدة وطويلة جدًّا.
ويُشير مصطلح "انكشاف الحقيقة" الوارد على لسان العرفاء إلى هذه المسألة؛ إذ حينما يقطع السالكُ مراتبَ التوحيد، الواحدة تلو الأخرى، فإنّه يصل إلى مرتبة يكون فيها لا يزال يرى أنّ هناك آثارًا من الوجود متحقّقة في نفسه؛ فينظر إلى الحقّ بوجوده، ويعبده بهذا الوجود؛ ولو أنّه وصل إلى مقام الإخلاص الذي عُبّر عنه في الآيات الشريفة بالمخلِصين، لا المخلَصين.۱ وأمّا مقام الإخلاص الذي تحقّق به المخلَصون، فهو عبارة عن: وصول الإنسان إلى مرحلة لا يعود فيها يرى نفسه؛ أي: لم تعُد هناك نفس حتّى يراها؛ وهي مرحلة التجلّي الذاتيّ التي يُعبّر عنها بالفناء، وعالم التجرّد، وعالم التوحيد الصرف، وعالم التوحيد المطلق، حيث يُحتاج لتجاوز هذه المرحلة إلى توسّل قويّ؛ أي: كأنّ الله تعالى يقود الإنسان إلى هذه النقطة، لكنّه بعدها، لا يأذن لأيّ أحد كيفما كان بالعبور؛ وفي هذه النقطة بالذات، يلجأ أولياء الله تعالى إلى ذلك التوسّل العجيب والخاصّ بالأئمّة، والانقطاع الخاصّ إليهم، لكي يتعدّوا هذه المرتبة. وهنا أيضًا، واجهت المرحوم السيّد الحدّاد هكذا مشكلة، فتوقّف في هذه النقطة بعدما تجاوز مراتب الأسماء والصفات، إلاّ أنّه تمكّن ببركة التوسّل بحضرة أبي الفضل من عبور هذه المرحلة، وحصل له ذلك الفناء٢.
سؤال: هل شاهدتم بأنفسكم أو شاهد سماحة العلاّمة حالات الفناء التي كانت تحصل للمرحوم الحدّاد أثناء الصلاة أو قراءة القرآن؟
تفسير لحالات الفناء التي كانت تحصل للسيّد الحدّاد
جواب: كانت صلاة السيّد الحدّاد تختلف تمامًا عن صلاتنا، وكانت أحواله بنحو آخر؛ فحينما نؤدّي نحن الصلاة، تجدنا نسعى نحو الإخلاص، وطرد الخيالات والأوهام والأفكار، وينبغي أن يكون الأمر كذلك؛ أي: عادةً، يتعيّن علينا أن نكون بهذا النحو، ولو أنّ هناك مراتب أخرى، حيث ذكر المرحوم العلاّمة بعض الإشارات ذات الصلة بهذا الموضوع. فعندما نقيم الصلاة، ترانا نُركّز على تنحية أفكارنا وتخيّلاتنا جانبًا، سواءً عن طريق الالتفات إلى المعاني، أو أن نكون كما قال المرحوم السيّد الحدّاد للشيخ مطهّري؛ أي أنّه لا ينبغي علينا الالتفات حتّى إلى هذه المعاني، بل يجب أن يكون التوجّه إلى الحقّ وحسب، حيث يتحقّق هذا الأمر بواسطة إرادتنا واهتمامنا وإعمالنا لهذه الإرادة.
وأمّا بالنسبة للسيّد الحدّاد، فلم يكن الأمر بهذا النحو أبدًا؛ فحينما كان يقول: «الله أكبر»، فإنّه كان يرحل! ولم يكن يقم بأيّ فعل، ولم يكن يطرد عنه أيّ تخيّل؛ إذ لم يكن موجودًا بتاتًا، حتّى تأتي الأفكار بعد ذلك على باله؛ فعندما كنّا نسمعه يُصلّي، كنّا نرى أنّ الذي يقول: ﴿إيَّاكَ نَعبُدُ﴾ غائب عن ذاته تمامًا، وأنّه غير ملتفت إلى نفسه بتاتًا، ولا يُفكّر أبدًا، ولا يُبدي أيّ اهتمام، حتّى نقول: إنّه يريد أن يُعمل فكره، ويسعى لإبراز جانب العبوديّة من نفسه؛ فحينما كان يقول: «الله أكبر»، كان يصير بعد ذلك عبدًا وفانيًا على الإطلاق؛ ولهذا، كان حاله في الصلاة مختلفًا تمامًا، فكان يوجّه نظره إلى التربة، ولكن، كأنّه لا ينظر إليها، وكان يسجد، ولكن، كأنّ أحدًا آخر يدفعه للسجود، وكأنّه لا يملك الإرادة والاختيار للسجود.
لقد سمعت المرحوم العلاّمة يقول عن أحد الأفراد: «في بعض أحواله أثناء الصلاة، أشعر أنّ عينيه لا تنظران إلى أيّ شيء»؛ فلو تحدّث السيّد الحدّاد معكم، لأحسستم بنفس هذا الأمر، وأنّه يُحدّق فيكم، لكن، كأنّه لا ينظر إليكم؛ مع أنّه قد يحصل أحيانًا للطفل أو لأحد أن يظلّ مدهوشًا في مكان ما، بل قد تحدث هذه الحالة لنا في بعض الأحيان؛ لكنّ السيّد الحدّاد كانت تحصل له هذه الحالات حتّى في الأوقات العادية؛ أي أنّه يتحدّث معكم، ويعرفكم، لكن، كأنّ حاله وذهنه في موضع آخر؛ فتجده يُراعي أمرين: الأوّل: كلامهم معكم، بحيث لو التقى بكم لاحقًا، لتعرّف على وجهكم، والآخر: حينما يتحدّث معكم، تشعرون أنّه في مكان آخر، وأنّه لا يتكلّم معكم ولا يُحاوركم الآن.
فكان هذا هو حاله الاعتياديّ، ويُعبّر عنه بحال المحو، ويُعدّ من آثار الفناء؛ فكان الإنسان يشعر بهذا الأمر عندما يتحدّث معه؛ وأمّا أثناء الصلاة، فكان السيّد الحدّاد يعيش هذا الحال بعينه، لكن مع مضاعفته مرّات ومرّات.
فنفس هذه المسألة كانت تحصل له أثناء الصلاة بنحو مختلف تمامًا؛ إذ حينما كان يقرأ دعاء القنوت، فكأنّ حضرة السجّاد بذاته يقرأ هذا الدعاء: «يَا مَن تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ المكَارِه»؛۱ وعندما كان يقول: «سبحان ربّي العظيم وبحمده»، كأنّ ذلك الذي أُلقي في قلبه هذا المعنى هو الذي يجري على لسانه معنى التسبيح والتعظيم؛ وحينما كان يقول: ﴿إيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعينُ﴾، فإنّنا كنّا نشعر أنّه يعيش نفس ذلك الحال والوضع الذي كنّا نراه في الروايات منقولاً عن الأئمّة،٢ وأنّه ينطق هذه العبارات بذلك اللسان وذلك الحال بعينه، وليس فقط بنفس ذلك التفكير وتلك الذهنيّة، بل بذلك الحال بعينه؛ أي أنّه تجاوز مرحلة التفكير في الكلام. فحينما كان يذكر كلامًا، لم يكن يُفكّر فيه، بل كان كلامه عبارة عن نفس ذلك المعنى المتنزّل عن الحقّ، والجاري على لسانه هو.. هل انتبهتم إلى ما أريد قوله؟
فحينما نريد أن نتحدّث نحن، فإنّنا نُفكّر بدايةً في كون كلامنا صحيحًا أم لا، وهل يجب أن نزيد فيه أو ننقص منه، وبأيّة طريقة علينا بيانه حتّى لا ينزعج المخاطَب؛ وأمّا بالنسبة إليه هو، فقد تجاوز هذه المسائل؛ ومن هنا، عندما يتحدّث معكم، فكأنّ ذلك المعنى قد تنزّل، وصدر من الحقّ تعالى وإرادته، وجرى على لسانه هو؛ ولذلك، فإنّه لم يكن يُفكّر في كلامه؛ وهذا بعينه هو معنى العبارة التي ذكرها المرحوم الوالد في حقّه، حيث قال:
إنّ كلام الحدّاد بذاته يُنشئ الحقّ، لا أنّ كلامه مطابق للحقّ.
أي أنّ كلامه يوجِد الحقّ في الخارج.
معنى مظهريّة السيّد الحدّاد لكلمة «لا هو إلاّ هو»
سؤال: يقول المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرّد: «كان المرحوم الحدّاد مظهرًا لكلمة لا هو إلاّ هو»؛٣ ولا يخفى أنّنا لا نستطيع بتاتًا فهم ذلك؛ غاية الأمر، بما أنّ هذه العبارة غامضة بالنسبة إليّ، وشعرت أنّه قد يكون لها ارتباط بما تتحدّثون عنه، فإنّني أرجو منكم أن تتفضّلوا بشرحها إن أمكنكم ذلك.
جواب: أعتقد أنّ هذه الجلسة لا يُمكنها استيعاب مسائل أكبر؛ لأنّ تساؤلاتكم أضحت تتجاوز مراتب الصور والأشباح، لتقترب أكثر من المراتب المعنويّة ومقامات التجرّد؛ ممّا يستدعي بيانًا أكثر؛ لكن، مع ذلك، سأسعى للحديث عن هذه المسألة بنحو مجمل:
فأولياء الله تعالى يتفاوتون في مراتب الفناء، ولا يصحّ أن نقول: إنّ الفناء عبارة عن مرتبة إذا بلغها الإنسان، فإنّه سيخرج عن كافّة الشؤونات والشوائب النفسانيّة، ولن يبقى فيه أيّ نوع من الأنانيّة والإنّية.
فإذا نظرنا إلى الناس، سنجدهم يتوفّرون في المسائل النفسانيّة على درجات مختلفة، بحيث يكون بعضهم أقوياء جدًّا، وبعضهم الآخر ضعفاء كثيرًا، ويكون بعضهم قادرًا على التخلّص من هذه المسائل النفسانيّة بكلّ يُسر، فيما يصعب ذلك على بعضهم الآخر، فيحتاجون لبذل الاهتمام في هذا المجال. لكن، حينما ننظر إلى هذا الأمر من منظار السنّ، فإنّنا نرى أنّه: كلّما كان سنّ الإنسان أصغر، كانت الأمور النفسانيّة فيه أقلّ. ومن باب المثال، فإنّ المراتب النفسانيّة التي يعيشها ذو السبعين سنة أقوى بكثير من نظيرتها عند صاحب الخمسين سنة؛ فمع أنّ قواه الظاهريّة آخذة في الضعف والضمور، إلاّ أنّنا نجده ـ بالموازاة مع ذلك ـ أشدّ كثيرًا من ناحية الأمور النفسانيّة، والأنانيات، والتفرعن، والفرعونيّة، والرغبات، والتوقّعات، لا سيّما إذا كان مسؤولاً عن عمل مّا، بحيث سيصعب عليه التخلّص من ذلك أكثر بكثير من صاحب العشرين أو الثلاثين عامًا، وكذلك من ذي الخمسة عشرة سنة، أو العشرة سنوات.
ولنضرب على ذلك مثالاً بمسألة الحرب والتضحية؛ فلو قيل لرجل متزوّج له ولدان أو ثلاثة أولاد: اذهب إلى الحرب! فبما أنّ الأمر يتعلّق بالشهادة والموت، فإنّ ذلك سيصعب عليه أكثر بكثير من شابّ مراهق لم يتجاوز خمسة عشرة سنة، ولم يحصل له أيّ تعلّق بعدُ؛ ولهذا، قد يمتثل ذلك المراهق للأمر بنحو أسرع، ويذهب للحرب قبل أن يُؤمر بذلك. ولا يخفى أنّه تُطرح هنا مجموعة من المسائل؛ فقيمة التضحية المقرونة بتلك التعلّقات أكبر بكثير من تضحية ذاك الذي لم يحصل له أيّ تعلّق بعدُ؛ وكما جاء في ذلك القول المشهور: بعض الناس شجعان، وبعضهم الآخر لا يشعرون بالخوف، بل لا يعلمون بتاتًا ما هو الخوف؛ ويوجد بون شاسع بين الشجاعة، وبين عدم الشعور بالخوف.
وهكذا أيضًا حينما ننظر إلى طفل ذي عشر سنوات، فإنّنا نجد إدراكه لهذه المسألة متدنٍّ جدًّا؛ وذلك لأنّ تعلّقاته أضعف بكثير؛ أو العكس، أي أنّ تعلّقاته تكون ضعيفة، لأنّ إدراكه متدنٍّ. وبنفس النحو، سرِّ هذه المسألة وتنزّل بها إلى طفل رضيع له خمسة أو ستّة أو عشرة أشهر، وليس له أيّ تعلّق سوى بأمّه والحليب الذي يرضعه منها، سوف ترى أنّه لا يملك نفسًا ولا تعلّقًا ولا أمورًا نفسانيّة، بل هو مجرّد كتلة من النور والصفاء والروحانيّة؛ وبالمناسبة، لدينا رواية تُشير إلى ضرورة اتّصاف الإنسان بهذه الخصال والخصائص التي يتوفّر عليها الصبيان؛۱ وأحدها: عدم التعلّق.
يقول المرحوم السيّد الحدّاد:
أحيانًا، حينما أنظر إلى الطفل الذي وُلد قبل عدّة أيّام، أرى بأنّه يمتلك في نفسه حالة وجوديّة ضئيلة، وبمقدار رأس إبرة (بمقدار أنّه يبحث عن أمّه من أجل الارتزاق والرضاعة)؛ لكن، عندما أنظر إلى نفسي، أرى أنّني لا أملك حتّى هذا المقدار!
وهذا عجيب جدًّا! فالطفل ذي الأيّام المعدودة له تعلّق بمقدار ميلمتر وسنتمتر واحد، وهذا خارج عن دائرة التصوّر تمامًا! ومع ذلك، نجد السيّد الحدّاد يقول: لا أجد فيّ مثل هذا التعلّق! أي أنّه عبارة عن واقعيّة لا يمثُل أمامنا منها إلاّ جسمٌ وحسب؛ وأمّا حقيقة هذه الواقعيّة، فهي عبارة عن وجود مجرّد جاء إلى هذا العالم من دون أن يملك أيّ نفس أو تعلّق؛ وهذا هو معنى: مظهريّة «لا هو إلاّ هو».
ولا يخفى أنّني بيّنت هذه المسألة باختصار كبير وعلى نحو التمثيل، وأنّها عبارة عن: الوجود المتنزّل للذات الإلهيّة، والخالي عن جميع أنواع التعلّقات والتعيّنات التي يتوفّر عليها بقيّة الناس، ولو تمكّنوا من الوصول إلى مراتب عالية جدًّا، وتخلّوا عن أنفسهم، وبلغوا مقامات التوحيد؛ لأنّ هذا النوع من الوجود هو بنحوٍ، وكأنّه لم ينزل بتاتًا من ذلك العالم إلى هذه الدنيا؛ فهو الآن هنا من دون اختياره، وهو الآن يعيش هذه الأوضاع من دون إرادته.
فمقام «لا هو إلاّ هو» إشارة إلى ذلك المقام الخالي من التعيّن والحدّ والقيد؛ ويُراد منه تلك الذات والحقيقة التي تنزّلت من هناك، ووضعت أقدامها هنا من دون أن تتورّط بما يجري من حولها، أو تقع أسيرة للتعلّقات، ولو بمقدار رأس إبرة؛٢ وحينئذ، نجده في مثل هذه الحالة والوضعيّة لا يتأمّل أو يُفكرّ في الكلام الذي يقوله.
كان هناك أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة الهمدانيّين رحمة الله تعالى عليه، فقال له:
توجد في بالي مسألة عن المرحوم الشيخ الأنصاريّ لم أر حصولها من غيره، ألا وهي: كلّ ما كان يقوله يتبيّن لاحقًا أنّه صادق وصحيح ومتطابق مع الواقعيّات الخارجيّة تمامًا.
فتأمّل المرحوم العلاّمة قليلاً، ثمّ قال:
أجل، أجل، رضوان الله عليه، رضوان الله عليه! فقد كان بهذا النحو؛ غير أنّ كلام السيّد الحدّاد كان مُنزِّلاً للحقّ، لا أنّه مطابق للواقع.۱
أي أنّ هناك فرق شاسع في المسألة كالفرق بين السماء والأرض؛ فتارةً، يرى أحدهم شيئًا، ثمّ يقول: سيتحقّق الأمر الكذائيّ؛ كأن يقول مثلاً: لا تُصادق فلانًا؛ لأنّه لا يُناسبك، أو: لا تتناول هذا الطعام، أو: لا تقم بالعمل الكذائيّ! وأمّا السيّد الحدّاد، فلم يكن بهذا النحو، بحيث يرى شيئًا، ثمّ يقول: لا تفعل! لأنّه لم يكن يرى شيئًا من الأساس، وكان قوله: «افعل ولا تفعل» هو قول الحقّ، لا أنّه يرى شيئًا، ثمّ يسعى لمطابقته مع الواقع، فيكون صادقًا، أو خاطئًا؛ وهذه المسألة بعينها عبارة عن تنزّل «لا هو إلاّ هو».
سؤال: حينما يكون السادة العرفاء في عالم الفناء، قد يعجزون عن أداء حقّ الكثرات في الحالات التي يعيشون فيها الوحدة؛ أ فلم يكن هذا الأمر مانعًا للسيّد الحدّاد من أن يعيش حياته الطبيعيّة؟
جواب: لا يخفى أنّه في بعض الحالات، قد تحدث للإنسان مثل هذه الأمور؛ وحينئذ، من المحتمل عادةً أن يتعرّض البدن لبعض الأضرار اللاإراديّة؛ فأحيانًا، كان يذهب ليلاً لتجديد الوضوء، وأثناء رجوعه، كان يسقط، فيبقى فاقدًا وعيه بهذا النحو إلى الصباح؛ وعندئذ، سيُصاب ـ بطبيعة الحال ـ ببعض الأضرار؛ أو أنّه كان مثلاً يبقى في حال المحو لعدّة أيّام من دون أن يتناول أبدًا ولو قطرة ماء أو لقمة طعام؛ أي أنّ هذا الطعام لم يكن يتجاوز حلقه بتاتًا؛ في حين أنّ البدن يظلّ يطوي مساره الطبيعيّ.٢ فمن الممكن حصول هكذا حالات؛ وأمّا بالنسبة لمسألة هل كان يقوم بشيء تجاه الآخرين، فلا يوجد لديّ أيّ اطّلاع عن هذا الأمر، ولم أسمعه عنه ذلك.
كلام الوليّ مُنزِّل للحقّ وليس فقط مطابق للواقع
سؤال: كيف يُمكننا الجمع بين المسألة التي نقلتموها عن سماحة الوالد، ومفادها أنّ: «كلامه كان يُنزِّل الحقّ»، وبين مسألة أنّ اطّلاع العارف يتعلّق بالعين الثابتة؟ وهل إنّ ما يوجد في العلم الإلهيّ، ويتحقّق في العالم يرجع سببه إلى إفاضة الوجود بنحوٍ ما، والاتّصال بمقام الولاية؟ وأيضًا، كيف يتسنّى لنا التوفيق بين هذه المسألة، وبين مسألة الرضا بالقضاء الإلهيّ والعلم بالإرادة الإلهيّة؟
جواب: عالم الثابتات هو بعينه عالم الملكوت، مع أنّ عالم المثال ـ الذي يُعبّر عنه بعالم الأشباح ـ متأثّر نوعًا ما بهذا العالم، غاية الأمر أنّ لعالم الملكوت ارتقاء إلى عالم المعاني؛ وفي هذا العالم [أي الملكوت]، قد يكتفي العارف أحيانًا ـ بحسب مقاماته المختلفة ـ بالاطّلاع على تلك الحقائق، بحيث لا يصل هذا الاطّلاع إلى درجة الاتّحاد، بل يكون في درجات أدنى؛ نظير اطّلاعنا نحن على الواقعيّات الخارجيّة؛ وهو بعينه ما نقلته عن المرحوم الشيخ الأنصاريّ، حيث نُشاهد حصول هذا النوع من الاطّلاع على الحقائق والأمور للعديد من العرفاء بالله؛ وهو اطّلاع صحيح وغير خاطئ، إذ يرى العارف فيه المسألة حقيقةً، ويُدركها واقعًا.
لكن، في بعض الأحيان، لا يقتصر الأمر على مجرّد الإشراف والاطّلاع، بل يتعدّاه إلى الاتّحاد بعين تلك الحقيقة التي صدرت منها هذه المسائل؛ فهنا لا يكون لدينا إشراف وحسب، حيث يقول الرسول الأعظم عن أمير المؤمنين عليه السلام: «عليٌّ مَعَ الحَقِّ، والحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ حيثُمَا دَارَ»۱.٢
فلو كان أمير المؤمنين جالسًا هنا، هل يصحّ أن نسأله عليه السلام: «لماذا جلست في هذا المكان؟ أخبرنا بعلّة هذا الأمر»؟ فهذا لا يحتاج إلى علّة! ولو أنّ الأمير عليه السلام تحدّث الآن بكلام من أعلى المنبر، هل يجوز لنا أن نشكّ؟! أجل، قد يتساءل الإنسان أحيانًا من أجل أن تتّضح له حقيقة الأمر؛ لكن، أحيانًا أخرى، قد لا تكون المسألة بهذا النحو، حيث نجده يتساءل بسبب أنّه يحتمل كون كلام الإمام مجانب للصواب، فيقول: «لماذا خرجت يا عليّ لمحاربة معاوية وجهاده؟ أ لم يكن من الأحسن أن تصبر قليلاً إلى أن تمرّ سنتان أو ثلاث سنوات؟! ولماذا يا عليّ لم تمنح طلحة والزبير نصيبهما، حتّى تتجنّب وقوع تلك الأحداث؟!»؛ فما هي علّة هذه التساؤلات؟ علّتها أنّنا نرى أمير المؤمنين مثلنا؛ غاية الأمر أنّ علمه أكثر قليلاً؛ أ ولا يقولون ذلك الآن؟! ففي نفس حوزتنا العلميّة، نجد أفرادًا الآن يُؤلّفون كتبًا يُنكرون فيها علم الإمام، ويقولون: «الإمام حاله كحال الناس العاديّين؛ فأحيانًا، يحصل له علم إن شاء الله تعالى، وأحيانًا لا يحصل له ذلك إن لم يشأ الله تعالى»٣؛ فهذا هو غاية ما بلغه مستوانا العلميّ!
لكن، حينما نسمع كلام رسول الله في حقّ أمير المؤمنين، والذي يقول فيه: «عليٌّ مَعَ الحَقِّ»، فإنّ ذلك يعني أنّه إذا رأيتَ شيئًا من أمير المؤمنين، فلا ينبغي أن تسأله عنه؛ فإن قال: «علينا الذهاب الليلة إلى حرب معاوية»، فالمسألة منتهية، ولا معنى للسؤال بـ «لماذا»؛ ثمّ إن تحرّكنا، وتقدّمنا بمقدار فرسخ، وقال عليه السلام: «علينا الآن الرجوع إلى موضعنا الأوّل»، فإنّ الأمر منتهٍ! ولا معنى للقول: «يا علي، لقد ودّعنا نساءنا وأطفالنا، وحملنا الزاد والأمتعة والحقائب، فما هذا الكلام؟!».
لقد وعد رسول الله الناس بفتح مكّة، فانطلقوا لفتحها؛ وعندما وصلوا إلى الحديبيّة، حصلت تلك المسألة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: احلقوا رؤوسكم! فقالوا له: ماذا؟! بأيّ شيء سنجيب عوائلنا وعشائرنا؟ هل سنقول لهم: لقد ذهبنا، ورجعنا خالو الوفاض؟! وسيقولون لنا حينئذ: إنّكم لم تحجّوا ولم تقوموا بالفتح! لكنّ حقيقة الأمر أنّه: حينما يقول رسول الله: انطلقوا باتّجاه مكّة، علينا أن نقول: سمعًا وطاعة؛ وحينما يقول: إذا وصلتم إلى الحديبيّة، توقّفوا، علينا أن نقول: سمعًا وطاعة؛ وإذا قال: احلقوا رؤوسكم، علينا القول: سمعًا وطاعة! وإن قال: ارجعوا للمدينة، علينا القول: سمعًا وطاعة؛ فالمسألة بهذا النحو.۱
وأمّا بالنسبة لبقيّة الناس، فينبغي عليهم أن يأتوا بالدليل والعلّة؛ فإذا قال السيّد الفلانيّ: عليك القيام بهذا الأمر، فعلينا أن نسأله: لماذا؟ ولأيّ سبب؟ وإذا قال: لأنّ علمي أكثر! سنقول له: صحيح أنّ علمك أكبر، لكنّك قد تُخطئ، ولهذا، عليك أن تأتينا بالدليل؛ وأمّا الذي لا يُطالب بالدليل، فهو الإمام المعصوم؛ فإذا أردنا منه عليه السلام دليلاً، سيكون ذلك عين الجهل والخرق والحمق؛ لأنّنا لا نستطيع الوصول إلى أفق تفكيره، حتّى نريد منه الدليل.
أجل، قد يحقّ لنا ذلك إذا كان إمام الزمان مثلنا، غاية الأمر أنّه أعلم، وبما أنّنا نحتمل منه الخطأ حينئذ، فإنّنا سنقول له: قدّم إلينا الدليل على الكلام الذي تطرحه! وهذا نظير ما نقوله لكافّة الناس؛ فحتّى لو كان فلان مرجعًا، فإنّ الكلام الذي يذكره، عليه أن يأتي بدليل عليه؛ كأن يقول: «دليلي يرجع إلى رواية أو مسألة رأيتها في الكتاب الكذائيّ، وفسّرتها بهذا النحو»؛ ففي هذه الحالة، سنقول له: «حسن جدًّا، لا كلام لنا عن هذه الرواية، غير أنّ تفسيركم لها خاطئ لهذا السبب وذلك السبب!»؛ وهنا، لن يوجد أيّ إشكال؛ لأنّ هذا الأمر هو الذي يعتقد به الشيعيّ.
فمدرسة التشيّع هي مدرسة التعبّد في مقابل الحقّ المطلق، لا مقابل الدراسات والتفسيرات والتنسيقات والتطبيقات؛ إذ لا يُمكننا التعبّد هنا، بل علينا إقامة الدليل، سواءً تعلّق الأمر بي، أو بغيري.
إذا قال أمير المؤمنين: «لنذهب عند معاوية!»، فعلينا ألاّ نُحاربه، بل نعقد معه الصلح؛ وإلاّ، كيف ظهر الخوارج؟ فهم بعينهم الحمقى الذين ابتدعوا هذا النوع من التساؤلات! حيث دامت حرب صفّين ثمانية عشرة شهرًا،۱ فبعث مالك الأشتر برسالة يقول فيها: «أمهلوني ساعة واحدة، وسأصل إلى معاوية»؛٢ لكن، لو كنّا في مكان مالك الأشتر، ووُفّقنا للحصول من أمير المؤمنين على فهم أكبر، لما بعثنا حتّى بتلك الرسالة؛ فحينما يقول أمير المؤمنين لمالك: «ارجع!»، فإنّ عليه أن يُرجع السيف إلى غمده، وإن كان معاوية على بُعد متر واحد منه؛ بل ولو رفع السيف حتى يضرب به معاوية، وجاء فجأة خبر موثّق لا شكّ بتاتًا في وثاقته مفاده أنّ أمير المؤمنين قال: «توقّف عن الحرب!»، فإنّ عليه أن يضع سيفه. لقد حاربنا طوال ثمانية عشرة أشهر، لكن، لأجل من حاربنا؟ هل لأجل عليّ، أم لأجل أنفسنا؟ فإن كان ذلك لأجل أنفسنا، فعلينا أن نُعيد التفكير في محنتنا؛ وإذا كان لأجل عليّ، فها هو ذا يقول: «صحيح أنّ هذا السيف يهوي ليُصيب معاوية، لكنّني أقول: توقّف، ولا تضرب!».
أ فلم يقل عليه السلام: «لا تقتلوا عثمان!»٣؟! هذا، مع أنّنا نجد البعض الآن يذكر في كتابه: «كلاّ! فقد كان كذبًا وتقيّةً»٤؛ وكيف كان تقيّة؟! لا يا عزيزي، فقد قال عليه السلام: «لا تقتلوا عثمان؛ إذ لا صلاح في قتله»؛ غير أنّهم ذهبوا، وقتلوه، فتهيّأت تلك الأرضيّة، لكي يأتي معاوية بعد ذلك، ويفعل ما فعل!٥ فلا ينبغي علينا تبرير هذه الأمور، بل علينا نقل الحقائق والواقعيّات.
إنّ كلام الإمام عليه السلام حقّ يجري من الله تعالى على لسانه هو، من دون أن يُفكّر فيه؛ وقد ذكرت هذه المسألة أثناء الحديث في الجزء الثاني من كتاب أسرار الملكوت عن خصائص العارف بالله، وشرحتها هناك قليلاً.٦ فالإمام لا يُفكّر مثلنا في الكلام الذي يطرحه، بل يُبيّن عين المشيئة الإلهيّة؛ فحينما يُريد الله تعالى أن يتكلّم، هل يلجأ للتفكير؟ وحينما أراد أن يُنزل القرآن على قلب الرسول، هل فكّر في ذلك؟ كأن يقول [تعالى عن ذلك]: «فلأقل هذه الآية لجبرائيل أوّلاً، ثمّ بعدها أذكر هذه الآية، وأذكر هذه الآية في المرحلة الثالثة، وأجعل هذه السورة بعد تلك»! إنّ الله تعالى لا يلجأ للتفكير، وكذلك الإمام؛ ولهذا، فإنّ كلامه حجّة بالنسبة إلينا، وهو كلام حقّ؛ فكلام الإمام هو كلام الله؛ غاية الأمر أنّه تعالى ظهر هنا في صورة؛ فالله تعالى لا صورة ولا شكل له، إلاّ أنّ تلك الحقيقة ظهرت في صورة، مع أنّهما في الواقع شيء واحد.
روا باشــد أنــا الحــقّ از درختــی | *** | چــرا نبــود روا از نیــک بختــی؟۱ |
[يقول: إذا جاز لشجرة أن تقول أنا الحقّ؛ فكيف لا يجوز ذلك لمن حالفته السعادة؟]
فحينما تصدر عبارة «أنا الحقّ» من الشجرة، تجدنا نقول: «الله تعالى الذي قال ذلك»؛ لأنّ الشجرة لا تتكلّم؛ وأمّا إذا صدرت نفس هذه العبارة من أحد عبيد الله تعالى، فإنّنا نقول: «كلاّ! فقد صدرت منه هو». إنّ عبارة «أنا الحقّ» التي صدرت من الشجرة بدون اختيار، قد تصدر بعينها من إنسان بدون تفكير؛ فيكون حاله حال تلك الشجرة؛٢ وهكذا يكون كلام الإمام.
ومن هنا، إذا بلغ وليّ الله تعالى إلى هذه المرحلة، فلن يكون لكلامه ارتباط حينئذ بمسألة أنّه مطّلع على العين الثابتة أو العلم الثابت ـ إن قلنا بهذه العين وهذا العلم ـ ، بل سيكون بذاته [هذه العين الثابتة]، وليس أنّه سيطّلع على الحقائق الموجودة هناك.
سؤال: هل إنّ إرادة الله تعالى تجري من خلال هذا المجرى بعينه؟
جواب: أجل، من نفس هذه الجهة؛ وهي المسألة بذاتها الموجودة بالزيارة الجامعة، والواردة في حقّ الأئمّة عليهم السلام؛ غاية الأمر أنّ أولياء الله تعالى يقومون بهذه المسألة تحت ولاية الإمام، وليس بشكل مستقلّ؛ أي أنّ تلك الولاية تحلّ بنفس إمام الزمان، ومن هناك تحلّ بعينها في الوليّ الإلهيّ؛ وبالتالي، فإنّ هذا الوليّ لا يقوم بشيء على نحو مستقلّ عن الإمام، وإلاّ، لكان كفرًا وشركًا؛ بل لأنّ نفسه اتّحدت مع نفس الإمام، فإنّ ولايته عليه السلام تحلّ فيه بهذا الشكل؛ ولهذا، سواءً ذكر الإمام مسألة من المسائل، أو ذكرها وليّ الله، فإنّ كلامهما واحد، وكلاهما حجّة وموثّق.
لديّ إيمان واعتقاد بأنّنا لا نستطيع الحديث عن هؤلاء العظماء؛ وليس هذا من باب التواضع؛ أي: ينبغي لمثل الوالد [العلاّمة] أن يأتي، ويُبيّن مقام المرحوم السيّد الحدّاد؛ مثلما أنّ بيان السيرة الذاتيّة للوالد يتعيّن القيام بها من قبل أحد شبهه، ولا يتسنّى لي أنا ذلك. ومن هنا، فإنّ ما كتبتُه عن هؤلاء الأكابر يعود إلى أنّني كنت أسعى لاستعراض ما يخطر ببالي القاصر، عسى أن يوجد أحدٌ من أرباب القلوب وأصحاب الفهم وذوي الاستعداد، فيتمكّن من استخراج واستنتاج شيء من مطاوي هذه المسائل؛ وحتّى أنّني سمعت أنّ البعض يُريد أن يُؤلّف كتابًا عن المرحوم العلاّمة وسيرته الشخصيّة، لكنّني أوصيهم بغضّ النظر عن هذه المسألة؛ لأنّ شأنه ومكانته لا ينحصر في كونه مجرّد عالِم ظاهريّ له درجة من القداسة والزهد والصلاح، حيث يختلف الأمر بين أن يكتب الإنسان، ويقيم مؤتمرًا، ويخطب، ويعقد جلسات حول عالم ومتعبّد ومتديّن ومؤمن، وبين أن يقوم بهذه الأمور حول شخصيّة تُشكّل حقيقةُ التوحيد تسعمائة وتسعة وتسعين بالألف من شؤونها؛ في حين تُمثّل بقيّة المسائل والشؤون التي تدور هي أيضًا حول هذا المحور الأساسيّ نسبة واحد بالألف. أجل، من الجيّد تأليف الكتب والحديث عن بقيّة الزهّاد والعبّاد وأرباب القلوب والمكاشفات، ولا يوجد أيّ إشكال في ذلك؛ غير أنّه من المناسب ـ على أيّ حال ـ مراعاة هذا الأمر.
فهذه المسائل التي أعرضها بين أيدي الرفقاء والأصدقاء رأيتها بنفسي؛ وقد عشت مع المرحوم العلاّمة ما يُناهز الأربعين سنة؛ وبالتالي، فإنّني سمعت منه بعض المسائل، وشاهدت منه أحيانًا عددًا من الأمور، وحصلت لي معه شخصيًّا بعض التجارب. التقيت بالمرحوم الشيخ الأنصاريّ عدّة مرّات، حينما كنت طفلاً أبلغ الرابعة والخامسة من العمر؛ ولهذا، فإنّني لا أذكر عنه أيّ شيء؛ وأمّا بالنسبة للسيّد الحدّاد، فإنّني أحفظ عنه مجموعة من الخواطر والمسائل المصيريّة اكتسبتها في ذلك السفر الذي تشرّفت فيه بزيارة كربلاء عندما كنت أبلغ السابعة عشرة من العمر، في حين أنّ القسم الأعظم من معلوماتي عن السيّد الحدّاد سمعته من المرحوم العلاّمة، كما أنّني كنت أشاهد أحواله، وحصلت لي معه بعض التجارب؛ ولهذا، توجد لديّ بعض المسائل حظيت بها من هذه الجهة؛ ومع ذلك، أين نحن من صيد العنقاء! وبحقّ أقول: إنّنا لا نستطيع ذلك! فالآن فقط، وبعد مرور سنوات من ارتحال المرحوم العلاّمة، أصبحت أنتبه ـ بمقدار قابليّتي ـ إلى بعض المسائل التي كان يذكرها؛ بل ولعلّني لا زلت لا أفهم بعضها الآخر، ولا زالت مجموعة من المسائل غامضة بالنسبة إليّ، حيث لم أتمكّن لحدّ الآن من اكتناه معانيها، وبلوغ مراده منها.
كيفيّة الارتباط بين الأولياء والإمام عليه السلام
سؤال: كيف يتحقّق الارتباط بين الأولياء والإمام عليه السلام؟ وهل يرتبط كل وليّ من الأولياء بالإمام عليه السلام ـ باعتباره مظهرًا لكافّة الأسماء والصفات الإلهيّة ـ عن طريق الاسم الذي تمكّن هذا الوليّ من بلوغ حقيقته؟
جواب: يبدو أنّني أشرت إلى هذه المسألة في طيّات حديثي؛ فالإمام عليه السلام هو المظهر الأتمّ لكافّة الأسماء، حيث يُراد من مظهريّته هنا: إيجاد الحقائق العينيّة والخارجيّة لهذه الأسماء والصفات. لنفرض مثلاً أنّ أحد المكتشفين والمخترعين نظير أديسون يُريد اختراع مسألة؛ ففي هذه الحالة، نجده يسلك طريقًا معيّنًا، ويقوم بعمل خاصّ، إلى أن يصل إلى نقطة معيّنة، فيتوقّف فجأة؛ وحينما يكون غائصًا في التفكير، إذا بشرارة توقد في ذهنه، فيتمكّن من حلّ المشكلة. إنّ حلّ هذه المشكلة عبارة عن ظهور اسم الله العليم بواسطة إمام ذلك الزمان؛ أي أنّ الإمام عليه السلام هو الذي أوقد آنذاك تلك الشرارة في عقل وقلب أديسون والمخترعين والمكتشفين.۱ وكذلك الشأن بالنسبة للطالب الجامعيّ الذي يفتح الكتاب، ويطالعه في الليل، وبالنسبة أيضًا لطالب العلم الذي يُراجع دروسه في الليل؛ فمن الذي يحلّ هذه المسائل؟ ومن الذي يفتح هذه العُقد؟ ومن الذي يقوم بكلّ هذه الأمور؟ فتجد الإنسان يظنّ أنّه هو الذي قرأ الكتاب، واستوعب مسائله، ويفتخر بتمكّنه من حلّ إشكالاته، لكنّه غافل عن أنّ "مقبض الصنبور" بيد شخص آخر، بينما نحن مجرّد دُمىً ورجال آليّين؛ فهو الذي يتحكّم فيه، فإن شاء فتحه، وإن شاء لم يفتحه.. كلّ ذلك بمقدار معيّن، ويفتحه لأحدهم بشكل أسرع، ولآخر بنحو أبطأ؛ وهذه الأمور مرتبطة كلّها بالإمام عليه السلام.
وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة لمسألة الرزق؛ فالتاجر الذي يفتح دكّانه، منتظرًا مجيئ المشتري، هل يعلم كيف جاء عنده ذلك المشتري؟ فحينما كان ذلك الرجل يُريد أن يخرج من المنزل، قالت له زوجته: «بما أنّك تُريد أن تذهب إلى خارج البيت، اشتر الشيء الكذائيّ، وأحضره معك»؛ فيأتي إلى هنا، وعندما يمرّ أمام المتجر الأوّل، يقول في نفسه: «هل أشتري من عنده أم لا؟»، ثمّ يتجاوزه، فيأتي على باله أن يستدير في اتّجاه ذلك الزقاق؛ وفجأة، يخطر على ذهنه أن يدخل لذلك المتجر؛ فمن الذي أحضره ـ والحال هذه ـ إلى هنا؟ وبوسعنا أن نُلاحظ هذه المسألة في كافّة شؤون حياتنا وعلاقاتنا، ونوسّعها لتشمل هذه الشؤون.
إنّ جميع الأعمال التي نقوم بها في هذا العالم، وكافّة الاكتشافات، وكلّ العُقد التي تنفكّ، وتلك التي تشتبك إنمّا تحصل بواسطة الإمام عليه السلام؛ فذات ليلة، كنت منهمكًا في المطالعة، حيث كنت أدرس آنذاك كتاب "القوانين" عند أحد أساتذتي۱، وأذكر أنّني كنت أراجع حاشيةً كان يُقال عنها إنّها معقّدة نوعًا ما؛ فجاء على بالي إشكال موجّه إليها؛ وفجأة، حصلت لي حالة [نفسانيّة] شعرت فيها أنّني تمكّنت من قراءة هذه الحاشية التي لا يفهمها حتّى أساتذة كتاب القوانين، والإشكال عليها، مع أنّني لم أدرسها بعدُ. وبعد أن وقع لي هذا الأمر، وأكملت المطالعة، اكتشفت فجأة أنّني لا أفهم إحدى العبارات بتاتًا! فمهما فكّرت في معنى تلك الكلمة، لم يأت على ذهني أيّ شيء، بحيث انسدّ أمامي باب الفهم تمامًا! حيث أتاني الجواب في نفس تلك اللحظة: «تفضّل! أ لست تدّعي أنّك تمكّنتَ أثناء مطالعتك التحضيريّة من فهم الحاشية التي لا يستطيع الأساتذة فهمها، بل وقبل دراستها؟!»؛ فلم أتمكّن تلك الليلة من النوم إلى الصباح بسبب ردّة الفعل النفسيّة التي حصلت لي، وبقيت متعجّبًا من أنّني عجزت طوال تلك المدّة عن فهم معنى تلك الكلمة؛ واستيقظت في الصباح، مقطّب الوجه، خائر القوى، مطأطئ الرأس، وما إن فتحت الكتاب، حتّى رأيت أنّه مكتوب فيه «لكنّه»! وبحقّ، هل توجد كلمة أسهل منها؟! فكنت أقرأها مثلاً: لَكَنْهُ، ولگن [فارسيّة بمعنى الحوض]، وأقول في نفسي: ما علاقة لَكَنْهُ والحوض بهذه العبارة؟ فجاء على بالي جميع المعاني إلاّ معنى "لكنّه"؛ فما حقيقة ذلك؟ أراد الله تعالى أن يقول لي: «تفضّل! تعال إلى هنا مع أحوالك، وأنانياتك، وخذ جوابك!»، وقد حصل نظير هذا الأمر لكافّتنا، والكلّ يعلم بذلك.
فالإمام عليه السلام يُعطي للأسماء الإلهيّة الكلّية صورة خارجيّة في الخارج، حيث إنّ جميع العلوم والقدرات المتحقّقة في الخارج، وكذلك الكلام الذي يحصل في الخارج ـ لأنّ لله تعالى مقام التكليم ـ ، والإلقاءات والأرزاق التي تُوزّع في الخارج على كلٍّ بحسبه.. إنّما تحصل بأجمعها عن طريق الولاية؛ وحينما تسعى النملة للظفر برزقها، فإنّ ذلك يتحقّق بواسطة الإمام؛ وعندما يلجأ حيوان إلى صيد هذه النملة، فإنّه صارًا مظهرًا للقدرة، ثمّ قام بعد ذلك بصيد هذا المظهر للرزق.
وما ورد في الروايات ـ وشوهد في الخارج أيضًا ـ بخصوص أنّ الحصى والسماء بكت في مصاب سيّد الشهداء عليه السلام هو أمر واقعيّ؛ أي أنّ الحصى تُدرك الإمام؛ إذا تمتلك إدراكًا وفهمًا.۱
نطق آب و نطـق خـاک و نطـق گِـل | *** | هست محسـوس حـواس اهـل دل٢ |
[يقول: كلام الماء والتراب والطين مشهود بأجمعه عند أرباب القلوب]
فهي تتوفّر على إدراك، لكنّنا لا نحسّ بذلك، ونقول: أيّ شعور تملكه هذه المسجِّلة الموجودة هنا؟ وكذلك هذا الحديد والبلاستيك؟ غير أنّ هذه المسجّلة عبارة عن موجود خارجيّ له علم وشعور وإدراك، فتفهم وتُدرك، حيث يوجد الكثير ممّا قيل في هذا المجال.
فبنفس هذه الأسماء والصفات، يقوم الإمام عليه السلام بهداية الناس وتربيتهم: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ﴾٣؛ ومعنى ذلك: أنّنا أوجدنا هؤلاء الأئمّة لكي يهدوا بواسطة عالم أمرنا؛ أي أنّهم يهدون بنفس مقام "كُن": ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا﴾٤، وبتلك الجهة التكوينيّة؛ بمعنى أنّ الجهة التشريعيّة تكون سببًا لتحقّق الجهة التكوينيّة؛ فلا ينبغي عليكم أن تعتقدوا أنّكم حينما تُؤدّون الصلاة، فإنّ وقوفكم وركوعكم هما اللذان يقودانكم للنتيجة المرجوّة، بل إنّ هذا العمل الظاهريّ والجانب التشريعيّ يعمل على تغيير جهتكم الملكوتيّة؛ وهذه الصورة الواقعيّة وتلك التغييرات والتحوّلات إنّما تحصل بأمر الإمام عليه السلام وإرادته.
ومن هنا، إذا كان أولياء الله تعالى ينجذبون للإمام عليه السلام، فسبب ذلك لا يرجع إلى أنّهم خاضعون لاسم خاصّ؛ كلاّ! وذلك لأنّ وجودهم بأجمعه ـ باعتبارهم أسماء وصفات جزئيّة ـ يدخل بواسطة إرادة الإمام ومشيئته في ذلك الاسم الكلّي، ثمّ يبدأ [هذا الوجود] في التكامل والرقيّ، إلى أن يتّحد مع هذا الاسم الكلّي؛ وحينئذ، لا يبقى هناك أيّ فارق بين هذا الاسم أو ذاك.
حقيقة الولاية واحدة وإن تعدّدت مصاديقها
سؤال: هل يُمكن أن يتحقّق هذا الاتّحاد بشكل متزامن في كلّ الأسماء، وفي كلّ زمان ومكان؟
جواب: أجل، في كلّ مكان؛ ولا يخفى أنّني سمعت من المرحوم العلاّمة أنّه لم يحدث حتّى الآن، ووُجد أكثر من وليّين إلهيّين في زمان واحد؛ فعادةً، يوجد علاوةً على الإمام عليه السلام وليّ واحد، أو وليّان؛ وإلى الآن، لم يوجد أكثر من وليّين، أو لا يُمكن لذلك أن يوجد؛ ولعلّه عبارته كانت بهذا النحو؛ لكن، إذا كانا متزامنين، فأيّ إشكال في ذلك؟! وهذا نظير أن يكون للإمام بدنان؛ فهل في ذلك أيّ إشكال؟ فحقيقة الإمام عليه السلام واحدة، غاية الأمر أنّها تكون متحقّقة في بدنين؛ فأيّ إشكال في ذلك؟! والأمر هنا بنفس هذا النحو؛ أي أنّ وجود وليّ إلهيّ إلى جانب الإمام عليه السلام لا يُحدث أيّ تغيير؛ إذ ليس هناك في الأساس أيُّ اختلاف.
سؤال: حينما نقول بوجود خمسة معصومين على الأرض في زمان حضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وهم أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام، فبأيّ نحوٍ كانت ولايتهم وإمامتهم وعصمتهم؟
جواب: كان مقام الإمامة مختصًّا بالرسول، ولم يكن لهم ذلك المقام.
سؤال: أ لم يكونوا يملكوا مقام الإمامة؟
جواب: كلاّ! لم يكن لهم ذلك؛ وحينما ارتحل صلّى الله عليه وآله وسلّم عن هذا العالم، أوكل مقام الإمامة إلى أمير المؤمنين.
وأمّا مسألة العصمة، فمحفوظة في مكانها؛ لأنّ العصمة شيء، ومقام تنفيذ مشيئة الله تعالى شيء آخر؛ وقد يوجد لدينا معصومان في آن واحد؛ نظير الإمامين الحسن والحسين، غير أنّ الذي يُؤدّي الأعمال في هذا العالم هو الإمام الحسن، بحيث إنّ الإمام الحسين بذاته كان في ذلك الحين يقوم بالأعمال عن طريق إرادة الإمام الحسن؛ ولو لم يشأ الإمام الحسن، لما تمكّن الإمام الحسين من تناول الطعام، ولا من إقامة الصلاة؛ فالإمام الحسن هو الذي كان يُعمل هذه الإرادة والمشيئة في أخيه.
سؤال: بأيّة طريقة تجلّت الولاية المطلقة بالنسبة للسيّدة الزهراء عليها السلام وحضرة أمير المؤمنين عليه السلام؟
جواب: فيما يخصّ السيّدة الزهراء، كان الأمر بذلك النحو أيضًا؛ أي أنّ جانب المشيئة وجهة الولاية كانا متحقّقين في وجود أمير المؤمنين عليه السلام، في حين أنّ السيّد الزهراء عليها السلام كانت في مقام الكمون، لا الإبراز والإظهار والإعمال؛ فذلك الوليّ الذي كان يُؤدّي الأعمال في هذا العالم هو أمير المؤمنين، بحيث كان هو الذي يُعمل الولاية ويقوم بالأعمال حتّى في حقّها عليها السلام؛ وأمّا بالنسبة للمقام العالي الذي تحظى به، فلم يكن مرتبطًا بتدخّلها وتصرّفها في هذه الدنيا، بل هو محفوظ في ذلك العالم.
سؤال: إذن، في ذلك العالم «كُلُّهُم نورٌ واحدٌ»۱؟
جواب: أجل، نور واحد من دون أدنى اختلاف.
سؤال: حينما قلتم: «بوسعه أن يُحقّق كافّة الأسماء في نفسه»، أُثير في بالي هذا السؤال؛ وهو أنّه لدينا رواية جاء فيها أنّ الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام كانا يمشيان، وكان أحد الناس ينظر إليهما، فرأى أنّ الإمام الباقر صار هو الإمام الصادق، والإمام الصادق صار هو الإمام الباقر، فقال له [الإمام] بعد ذلك: لا فرق بيننا، وكلّنا نورٌ واحدٌ.
فماذا يُمكننا أن نفهم من هذه الرواية، وكذلك من قولكم إنّ الإمام يُعمل ولايته في المأموم؟
جواب: هنا أيضًا، سنرجع إلى المسألة السابقة بعينها؛ فتارةً، نقول: إنّ حقيقة الولاية ـ وهي واقعيّة تتعلّق في كلّ زمان بفرد واحد ـ تنتقل [إلى فرد آخر]؛ في حين أنّها لا تقبل الانتقال؛ وتارةً أخرى، نقول: إنّ حقيقة الولاية واحدة؛ غاية الأمر أنّ الإنسان يتّحد معها؛ وهنا، يأتي الكلام الذي قلت فيه: إنّ ذلك الإعمال [للولاية]، وذلك النوع من الأعمال والأفعال الذي نرى صدوره من الأئمّة، نجده يصدر أيضًا من الأولياء والعرفاء عن طريق اتّحادهم بنفس الإمام وبالولاية؛ لا أنّ هذه الولاية قد صارت حينئذ اثنتين في فردين، بل إنّ حقيقة الولاية واحدة؛ وبما أنّ ذلك الفرد يتّحد بها، فإنّه يأخذ نفس صورة الإمام عليه السلام؛ إلاّ أنّ وجوده الخارجيّ ـ أي الجسميّ ـ مختلف عن وجود الإمام عليه السلام.
ومن هنا، فإنّ رؤية ذلك الرجل الإمام الباقر في صورة الإمام الصادق، والإمام الصادق في صورة الإمام الباقر تُشير إلى حقيقة أنّ الإمام الصادق سيصير بعد الإمام الباقر على نفس تلك الشاكلة؛ غاية الأمر أنّ تلك الصورة التي كان سيراها لاحقًا أحضروها أمامه، وقالوا له: انظر، إنّه نفس الإمام الباقر الذي سيتحوّل بعد ذلك إلى الإمام الصادق. فهما واحد، إلاّ أنّ الولاية متحقّقة الآن في الإمام الباقر، وليس في الإمام الصادق؛ لكنّ الإمام الباقر عليه السلام ـ وليس الصادق ـ أتى إلى ذهنه، وأراد أن يُبيّن له أنّ ابنه بعده هو نفسه؛ غاية الأمر أنّه يتوفّر على تلك الشمائل، وذلك الوزن والشكل والملامح؛ فهما واحد، غير أنّ الزمان قدّمه هو، وأخّر ابنه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد