3

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق

نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

2135
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسممباني الإسلام

المجموعةنفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ

جلسات المجموعة(3 جلسة)

التوضيح

أهم محتويات المحاضرة:
- العارف لا يتنازل عن مقام التوحيد؛
- حقيقة ارتباط الأولياء بالإمام عليه السلام؛
- معجزات الأئمّة بين الأولياء والعوامّ؛
- رؤية العارف لظاهرة الوحي والملائكة عليهم السلام؛
- العارف عاشق لكلّ عالم الوجود؛
- العارف الحقيقيّ هو الجامع بين مقام الباطن والوحدة ومقام الظاهر والكثرة؛
- دور الشهود في إدراك حقيقة التوحيد؛
- اشتراك الأئمّة عليهم السلام (والعارف بالتبع) في الولاية على كلّ ما سوى الله تعالى؛
- اختلاف الأئمّة عليهم السلام من حيث الظاهر؛
- السعة الوجوديّة والاستمداد من الأسماء الكلّية وجه آخر لاختلاف الأئمّة عليهم السلام (والعارف بالتبع).
و...
/۳٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق 

  • نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

  •  

  • حوار مع سماحة

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

2
  •  

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  •  

  •  

  • العارف لا يتنازل عن مقام التوحيد

  • سؤال: في موضع من كتاب أسرار الملكوت، أشار سماحتكم إلى أنّ «العارف لا يتنازل عن مقام التوحيد ومحوريّته»،۱ ثمّ تطرّقتم إلى مسألة تتعلّق بعروج جبرائيل عليه السلام إلى عالم الوحي، واستعرضتم ذلك البحث الذي أثير في الكاظمين؛ فنرجو منكم توضيح ذلك إن أمكن.

  • جواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

  • لا يخفى أنّني تحدّثت بنحو عامّ في الجلسات السابقة عن هذه المسألة، خصوصًا فيما يرتبط بمجالس المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، وأنّه كان في وضعٍ لا يسمح فيه بتاتًا لنفسه ولبقيّة الأفراد بتكريس هذه المجالس للمسائل المتلفة للوقت والعامّية وغير المفيدة. وعمومًا، فإنّ حاله كان بنحوٍ لا يُطيق معه أبدًا الحديث عن القضايا غير التوحيديّة؛ ومرادي هنا من كونها غير توحيديّة ما يشمل حتّى المسائل الولائيّة بمعناها المتعارف والعامّي، وليس بمعناها الحقيقيّ الذي تحدّثت عنه سابقًا، حيث قلت هناك: إنّ الولاية هي عين حقيقة التوحيد المنزّلة في عالم العلل والمعلولات، وعالم الأسباب، وعالم التعيّنات والتشخّصات الخارجيّة.

  • فالولاية عبارة عن حقيقة إرادة الله تعالى ومشيئته في مرتبة الواحديّة، حيث بوسعنا التعبير عن تنزّل مقام "هو" إلى مقام الواحديّة بالظهور في مرتبة الولاية؛ إذ لا معنى للولاية ـ إذا أريد منها الاستيلاء والظهور والبروز ـ في مقام الهوهويّة، والمتمثّل في مقام العماء والفناء والإطلاق، ومقام لا حدّ ولا رسم؛ والذي يُعبّر عنه عند أهل الفلسفة والحكمة والعرفان بالوجود البسيط وبسيط الحقيقة، حيث يكون نفس الوجود هناك قائمًا بالذات، وتكون الذات بعينها موجِبةً لحقيقة التشخّص والتعيّن، بحيث يكون هذا التشخّص والتعيّن لازمًا ذاتيًّا لها. فكما تكون الحياة لازمًا ذاتيًّا لكلّ تشخّص وتعيّن، فإنّ حقيقة الوجود تكون ـ بتجرّدها وبساطتها ونفس حضورها وشهودها ـ عين حقيقة ذات الباري تعالي، والتي هي عين التشخّص والتعيّن، حيث يُعبّر عن هذه الحقيقة بمقام الهوهويّة والأحديّة.

  • فلا يوجد أدنى فارق بين مقامي الأحديّة والهوهويّة؛ وإذا شاهدنا في بعض الكتب أنّه جرى اعتبار مقام الأحديّة متنزّلاً ـ بنحو ما ـ عن مقام الهوهويّة،٢ فإنّ هذه المسألة قد لا تخلو بنظر الحقير من تأمّل؛ لأنّ مقام الأحديّة هو نفس الوحدة المنتزعة من الذات من دون إضافة وصف إليها؛ وبذلك يختلف عن مقام الواحديّة؛ وهذا لا يحصل بواسطة اعتبار معتبِر، بل يكون ذاتيًّا لنفس الذات؛ وهذا نظير ما نقوله عن الحياة، حيث تكون ذاتيّة للذات من دون اعتبار معتبِر؛ أي: لا يُمكننا أن نصف الذات الإلهيّة بالتشخّص والتعيّن، ثمّ نفصل عنها الحياة، أو نفصل عنها القدرة، أو علمها بذاتها؛ أي العلم الحضوريّ للذات بنفس وجودها وذاتيّتها وهويّتها؛ ولهذا، فإنّ مقام الأحديّة هو عين مقام الهوهويّة.٣

    1. أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱۷٩ ـ ٢۷٢، الخصوصيّة الثانية.
    2. توحيد علمى و عينى (فارسي)، ص ۱۸٢؛ الرسائل التوحيديّة، ص ٣۰ و۱٢۰.
    3. لمزيد من الاطّلاع، راجع: افق وحى (فارسي)، ص ٤٥ ـ ٤۸.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

3
  • أجل، حينما تخرج الذات إلى مرتبة تعيّنها الخارجيّ، وظهور آثارها الوجوديّة، فإنّه يُعبّر عن ذلك بمقام الواحديّة، وهو مقام الولاية بعينه؛ فمقام الولاية يُراد منه المقام الذي تخرج فيه الذات إلى مرتبة التعيّن الخارجيّ، وتتكثّر فيه آثارها ولوازمها الوجوديّة؛ ومن هنا، لا يوجد أيّ فارق بين الولاية والتوحيد، سوى أنّ الولاية عبارة عن ظهور الذات الإلهيّة في عالم الكثرة، بحيث تكون هذه الكثرة عين الذات، وتكون الهوهويّة والتوحيد عبارة عن نفس جهة الوحدة في هذه الكثرة؛ وبالتالي، لا توجد كثرة في الواقع، بل ليس هناك إلاّ الوحدة التي تجلّت في الكثرة بصور مختلفة؛ وهذه هي حقيقة الولاية.

  • فحقيقة التوحيد هي الهدف الوحيد الذي يسعى إليه العرفاء والموحّدون الحقيقيّون والخُلّص الذين تخطّوا مراتب التعيّن الواحدة تلو الأخرى، ووصلوا إلى مقام التجرّد التامّ؛ نظير مولانا، ومحيي الدين، وابن الفارض؛ وكذلك الشأن بالنسبة لبعض العلماء والفقهاء، مثل المرحوم الآخونذ ملاّ حسين قلي [الهمدانيّ]، والمرحوم القاضي، والعلاّمة الطباطبائيّ، والمرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ، والذي يظهر من مكاتباته تحقُّقه بهذه المعاني، كما يبدو منها الأفقُ الذي وصل إليه؛۱ ومثل المرحوم السيّد الحدّاد، والمرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؛ وفي هذه الحالة، لا يُمكن أن تكون الولاية منفصلة عن هذا التوحيد؛ وإلاّ، إذا لاحظنا الولاية من دون جهة التوحيد، فإنّنا سنسقط في الإثنينيّة والبينونة التي كان يفرّ منها هؤلاء، وكانوا خائفين ومتوجّسين منها، حيث يقول ابن الفارض في خمريّته التي بيّن فيها ـ بحقّ ـ مسائل عرفانيّة راقية وعجيبة: 

  • عليكَ بها صِرْفاً وإن شئتَ مَزْجَها***فَعَدْلُكَ عن ظَلْم الحبيبِ هو الظُّلمُ٢
  • يقول: «عليك أن تصبّ بالغ همّتك، و كلّ هدفك، ومرادك بأجمعه على الوصول إلى التوحيد، وعليك أن تطلب من الله تعالى أن يُجلّي لك حقيقة هذا التوحيد، وعليك أن تبلغ هذه الحقيقة؛ وحتّى إذا أردت أن تتنزّل عنها، فلا ينبغي عليك أن تتخلّى عن الأئمّة»، حيث يُراد من عبارة «ظَلم الحبيبِ» هنا وفي لسان العرفاء: أنوار الأئمّة المعصومين الأربعة عشر، وهم ولاة حقيقة التوحيد، والقيّمون عليها في عالم الكثرة، والذين تتجلّى فيهم إرادة الحقّ تعالى.٣

    1. راجع: توحيد علمى و عينى (فارسي).
    2. ديوان ابن الفارض، ص ۱۸٤.
    3. راجع: الروح المجرّد، ص ٣٤٣.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

4
  • ولهذا، فإنّنا نرى أنّ الموحّدين وأهل التوحيد لا يطرحون في مجالسهم أيّة مسألة سوى معرفة الله تعالى، وطريق الوصول إليه، والمتمثّل في طريق معرفة الولاية، حيث لا يدور في هذه المجالس أيّ حديث عن الأمور العادية، أو العوالم، أو طيّ الأرض، أو عالم الجنّة والغلمان والحور والدرجات، أو انكشاف الغيب، أو انجلاء المسائل والمجهولات العادية، أو المسائل غير المتعارفة التي يسعى إليها العديد من بني آدم؛ فحينما كنت أحضر مجالس السيّد الحدّاد وكذلك المرحوم العلاّمة، لم أسمع بتاتًا، ولو كلمة واحدة عن زمان الظهور، بل كان تركيزهم موجّه بأجمعه إلى النفس المقدّسة لإمام الزمان، وكان كلام المرحوم العلاّمة والسيّد الحدّاد وإرشاداتهما تنصبّ كلّها على التوسّل به عليه السلام؛۱ وحتّى أنّ السيّد الحدّاد كان يقول:

  • إنّ الذي يستيقظ من النوم، ولا يشعر بأنّ صاحب الولاية موجود إلى جانبه، ومطّلع على أحواله ليس شيعيًّا بتاتًا!٢

  • فهذا هو مفاد عبارة السيّد الحدّاد؛ كما كان لسانه يلهج دائمًا بذكر: «يا صاحب الزمان»؛٣ فكانت جميع الأدعية التي يقرؤونها، والتوسّلات التي يقومون بها هي لأجل الوصول إلى الولاية، حيث كانت طريقة التوسّل العجيب والغريب الذي يلجأ إليه المرحوم القاضي تجاه حضرة بقيّة الله مشهورًا بين تلامذته.٤

  • حقيقة ارتباط الأولياء بالإمام عليه السلام

  • وهكذا الشأن بالنسبة لنوع الارتباط بإمام الزمان عليه السلام، والذي كنت أشاهده في وجنات المرحوم الوالد وأحواله، بحيث كان يرى نفسه صفرًا أمام الإمام، ويشعر بأنّه منمحٍ وفانٍ بكافّة وجوده فيه عليه السلام؛ ومتى طرق سمعه اسم إمام الزمان، تغيّر لون وجهه، وانقلبت أحوله بشكل تامّ؛ فكنّا نحن الجالسون إلى جانبه نشعر أنّه خرج عن طوره، وكانت طريقة كلامه تتغيّر، وكأنّه تبدو عليه حالة من التخلّي والتجريد النفسانيّ، وحالة من الابتهال والانقطاع التامّ نحو تلك الناحية، لكن ليس بذلك النحو المتعارف بين بقيّة الناس الذين يشرعون في البكاء، ويطرأ عليهم عدد من التغييرات، وتحصل لهم بعض الحالات؛ كلاّ، فهو لم يكن بهذا النحو، بل حينما يأتي ذكر اسم الإمام عليه السلام، كنّا نشعر بأنّه لم يعُد هناك رجل اسمه السيّد محمّد الحسين؛ فهذا هو الحال الذي كنّا نُشاهده فيه!

    1. آیین رستگاری (فارسي)، ص ٦۸.
    2. الروح المجرّد، ص ٤٩۷.
    3. المصدر نفسه.
    4. مهر تابناك (فارسي)، ج ۱، ص ۱٤٥ و٢۰٦.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

5
  • لقد صاحبت العديد من الناس، وعاشرت الكثير من مدّعي الولاية الذين كانت لهم في مجالسهم توسّلات وابتهالات تجاه الولاية والإمام عليه السلام، غير أنّ ذلك كان مقتصرًا على الظواهر فقط، حيث كانت الأجواء يسودها ضجيج كبير، لكن، حينما كنت أنظر إلى حقيقة الأمر وباطن المسألة وعمقها، كنت أرى أنّ هذه الحالات ظاهريّة وسطحيّة؛ وعمومًا، فإنّني لست جاهلاً بهذه الأمور، لكن، يبقى أنّ هكذا مسائل لا تُلامس القلب، ولا تجذب الإنسان كثيرًا.

  • وأمّا بالنسبة لأولياء الله تعالى، فقد كان توسّلهم بالأئمّة عميقًا، حيث يرى أهل التوحيد أنّ شأنهم ومقامهم بأجمعه هو شأن التوحيد ومقامه، ويعدّون أنفسهم صفرًا مقابل الولاية؛ وهذا ليس من باب الطاعة والانقياد والرضوخ للأوامر؛ إذ لم يكونوا يرون أنفسهم بتاتًا في مقابل إمام الزمان عليه السلام، حتّى يسعون للطاعة؛ فهم لم يكونوا يشعرون بأيّ شيء، بل يرون أنفسهم صفرًا! أي أنّ التوحيد يُشكّل كلّ حقيقة الموحّد والوليّ؛ ولذلك، فإنّه لا يملك في وجوده أيّ إحساس، ولو بمقدار شعرة، حتّى يسعى لعبادة الله تعالى، أو يكون في مقام الانقياد؛ لأنّ الأمر تعدّى هذه الكلمات والمسائل.۱

  • ذات يوم، كنت أستمع في المذياع إلى كلام أحد المشايخ رحمة الله تعالى عليه، فقد كان رجلاً عظيمًا ومن كبار علماء الإسلام، وتلميذًا للمرحوم العلاّمة الطباطبائيّ؛ فكان يتحدّث عن ضرورة أن يسعى الإنسان لتغيير أوضاعه بحسب قضايا الساعة، وأن يُكيّف دائمًا نفسه مع المسائل والمقتضيات والظروف المستجدّة؛ وفي ضمن ذلك، قال: «علينا أن نتأمّل في حسين الزمان، ونأخذه بعين الاعتبار، و...»؛٢ فمن يا ترى يكون حسين الزمان؟! وما معنى حسين الزمان؟! لا يوجد لدينا حسين الزمان! فحينما تقول: «حسين الزمان»، من المؤكّد أنّ مرادكم منه ليس هو إمام الزمان، بل رجل آخر؛ لأنّ هذا الأمر واضح من كلامكم؛ وذلك يعني أنّه بوسعنا في هذا العصر أن نضع رجلاً بدل سيّد الشهداء، ونقول: هذا هو سيّد الشهداء في سنة ألف وأربعمائة وستّة وعشرين هجريّة قمريّة! فمن يا تُرى هذا الرجل؟ دلّوني عليه! أرشدوني إلى الرجل الفلانيّ الذي يكون سيّد الشهداء بعينه، ويمتلك نفس ولايته وإمامته. وقد نقول هنا إنّ مسألة الإمامة مختلفة؛ لأنّها منصب تشريعيّ يختصّ بالمعصومين الأربعة عشر، وأمرها مغاير، كما أنّه لا يوجد من يعتقد بهذه المسألة؛ لكن، هل يوجد من يُمكنه الحلول مكان سيّد الشهداء، وتكون له نفس أفكاره، وسعته، وقابليّته، وإحاطته بالملك والملكوت؟! فالأفراد الموجودون في هذا الزمان لا يملكون القدرة، ولو على حمل كوب، ووضعه أمامهم، ولا يُمكنهم النظر إلى أبعد من متر إلى الأمام، ولا يتسنّى لهم الاطّلاع على ما يقع خلف هذا الجدار، ولا العلم بما سيحصل في الغد! فتجد أحدنا يقرأ كتابين، ويُحدّث الناس بالمسائل المطروحة فيه، ثمّ يصبح بعد ذلك سيّد شهداء الزمان! أو يدرس سنتين في الحوزة، فيضحى حسين الزمان! أو يدرس ثلاث سنوات، فيصير على إثر ذلك عليّ الزمان! هل انتبهتم؟! لكن، هل يقبل الشيعيّ بهذا النوع من الإمامة؟ أي: هل هذا هو مقام سيّد الشهداء ومنزلته؟!

    1. لمزيد من الاطّلاع، راجع: أسرار الملكوت، ج ٢، ص ۱٩۰.
    2. مجموعة آثار الشهيد مطهّري (فارسي)، ج ٣، ص ٤٣٥؛ ج ٢٤، ص ۷٩.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

6
  • فأنا أطرح هذه المسألة، لكي يُعلم إلى أين يُريد الموحّدون وأولياء الله تعالى أن يسوقونا، وما هو الأفق الذي كانوا يتواجدون فيه؛ فإلى هذا الحين، كنّا نعقد المجالس ونلطم على رؤوسنا وصدرونا في سبيل أئمّة خياليّين، غير حقيقيّين؛ وجميع الأئمّة الذين كنّا لأجلهم نعقد المجالس، ونحتفي بعاشوراء، ونقيم مجالس الأعياد والوفيات، خياليّون ووهميّون! فالذي يقول: «علينا التفكير بحسين الزمان»، ما هو مراده من حسين الزمان؟! تعال، ودُلّني عليه! فنحن أيضًا لدينا اطّلاع؛ وكما أنّكم تملكون أعينًا ترون بها، فإنّه لدينا أيضًا أعينًا نتمكّن بها من رؤية الناس وتمييزهم؛ فما هو مرادكم من تلك العبارة؟ هل هو السيّد الفلانيّ، أو السيّد العلاّني؟ فهل هؤلاء هم حسين الزمان؟! يعني: هل استطاعوا الوصول إلى مقام الولاية الكبرى والمطلقة؟! نعوذ بالله! نستجير بالله! وهل تمكّنوا من التوصّل إلى علم سيّد الشهداء؟! نستجير بالله! وهل تسنّى لهم بلوغ مرتبة الطهارة، ومقام الخمسة الطيّبين من أهل الكساء؟! أجل، فهذا هو معنى تلك العبارة، وهذا هو المراد من حسين الزمان! فلماذا إذن نأخذ الأمر على محمل الهزل؟! ولماذا نتلاعب بالألفاظ؟! ولماذا نُهين مقام الولاية؟! فتجدنا نحدّث هؤلاء العوامّ ـ الذين ما يعرفون هرًّا من برّ ـ بكلّ كلام كيفما كان، لِنُبتلى بعد ذلك بعواقب هذه المسألة.

  • فحسين الزمان هو رجل واحد في هذا العالم وحسب؛ وهو إمام الزمان حضرة بقيّة الله؛ إذ لا يوجد أدنى فارق بينه وبين سيّد الشهداء، ولو بمقدار شعرة واحدة؛ كما أنّ حسين الزمان بعد سيّد الشهداء هو الإمام السجّاد، وبعده الإمام الباقر؛ كما أنّ حسين الزمان هو الإمام الصادق، وموسى بن جعفر، والإمام الرضا، والإمام الجواد، والإمام عليّ النقيّ، والإمام الحسن العسكريّ، والآن، إمام الزمان هو حسين الزمان!

  • وهنا، أريد أن أشير إلى مسألة، وهي: لا يُمكنكم أن تروا صدور هذه العبارة من المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ طيلة عمره، ولا يتسنّى لكم رؤيتها ولا سماعها من المرحوم الوالد طوال حياته، ولا يُمكنكم، بل لن يُمكنكم سماعها أبدًا من المرحوم القاضي؛ وهذا هو الفارق بين العارف وغيره، كائنًا من كان، ومهما كانت المكانة التي بلغها، والكتب التي طالعها، بل ولو طالع ألف كتاب فلسفيّ، وعشرة آلاف كتاب فقهيّ!

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

7
  • قبل بضعة أيّام، سمعت أنّ أحد مراجع قمّ قال بعد نهاية درسه:

  • توجد مسألة أحتفظ بها في صدري، وأريد أن أطلعكم عليها؛ ألا وهي: إنّ ما يُقال عن امتلاك الأئمّة للولاية التكوينيّة هو أمر مجانب للصواب!

  • يا عزيزي، اقتصر على إلقاء دروسك الفقهيّة والأصوليّة! فإذا كنت لم تُطالع صفحة واحدة من الفلسفة، ولم تقرأ صفحة واحدة من العرفان النظريّ، ولا تملك أيّ اطّلاع على هذه المسائل، فما هي علاقتك بهذا الكلام؟ ألق درسك، واذهب لحال سبيلك! فهل تكفي في معرفة الإمام دراسة كلمتين، والتباحث لبضع سنوات؟! أ وهل الإمام بائع شمندر، حتّى تذهب عنده وتشتري منه شمندر؟! فما معنى هذا الكلام؟!

  • ...***عِرض‌ خود مى‌برى و زحمت ما مى‌دارى‌۱
  • على كلّ واحد الاطّلاع على حدّه وشأنه وأحواله؛ فلماذا نلجأ إلى تعدّي حدودنا، وتجاوز مستوى علمنا؟! فعلى الإنسان أن يوكل هذه المسائل إلى أهلها وأصحاب التخصّص فيها!

  • ونجد ذاك أيضًا يذكر في كتابه: «إنّ أبا حنيفة من مفاخر الإسلام»؛ وذلك لأنّه قضى سنتين في سجن المنصور؛ فصار بالتالي ثوريًّا، وانتهى الأمر!٢

  • لكن، هل حقًّا انتهى الأمر بالنسبة إلينا؟! وهل إنّ أبا حنيفة من مفاخر الإسلام؟! سلمت يداك، وجزاك الله خيرًا! نحمد الله تعالى على أنّنا نمُت قبل أن نسمع هذه الأشياء التي يخجل الإنسان من سماعها من طالب أو طفل يبلغ الثانية عشرة من العمر! أ فهل صار أبو حنيفة من مفاخر الإسلام؟! وهل أضحى العدوّ الأوّل لعليّ عليه السلام من مفاخر الإسلام؟! وهو الذي كان الخصم اللدود للولاية، والذي لم يتخلّ عن محاربتها إلى آخر لحظة من حياته!

  • ففي أحد الأيّام، ذهب أبو حنيفة برفقة رجلين إلى عيادة سليمان الأعمش الذي كان آنذاك شيخًا كبيرًا فقد بصره، ويُنازع الموت، كما كان أيضًا من الأصحاب والشيعة المتصلّبين والراسخين؛ وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة: «كان سليمان الأعمش من الشيعة الراسخين والمتصلّبين والمتشدّدين في أمر الولاية»؛ فكان أبو حنيفة صديقًا له، وأثناء حديثه معه، قال له: «توجد في بالي مسألة أريد أن أخبرك بها؛ وهي: إنّك الآن في صدد الرحيل تدريجيًّا من هذه الدنيا إلى عالم القيامة؛ ففي نهاية المطاف، توجد آخرة، وأنا قلق على أوضاعك، وأريد أن ترحل من هنا خفيف الحمل، ولا تذهب إلى هناك مُثقلاً بالذنوب!».

    1. عجز بيت شعريّ لحافظ الشيرازيّ أعلى الله مقامه، وجاء فيه:
      اى مگس عرصهء سيمرغ نه جولانگه تست***‌عِرض‌ خود مى‌برى و زحمت ما مى‌دارى‌
      [يقول: أيّتها الذبابة، لا تحاولي التحليق في مجال طائر السيمرغ، فإنّ ذلك يوجب لنفسك الهتك ويُسبّب لنا المتاعب‌].
    2. اسلام و مقتضيات زمان (فارسي)، ج ۱، ص ۱۰٤؛ اسلام ونيازهاى زمان (فارسي)، ج ۱، ص ٦٦؛ خدمات متقابل اسلام و ايران (فارسي)، ص ٥۸٥؛ مجموعة آثار الشهيد مطهّري (فارسي)، ج ٢۱، ص ۸۱.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

8
  • قال له: «وما الذي ارتكبتُه؟!».

  • قال: «أريد منك أن تُنكر رواية "قسيم الجنّة والنار" التي نقلت فيها أنّ عليًّا يقف يوم القيامة على الصراط، ويقول للجنّة: هذا وليّي فخذيه، ثمّ يلتفت إلى جهنّم، ويقول: هذا عدوّي فخذيه!».

  • فدبّر له سليمان مكيدة، وقال: «حسن جدًّا، أجل؛ وبالمناسبة، فهذه مسألة ليست سيّئة؛ لكن، بما أنّني ذكرت هذه الرواية لأناس كثيرين، فمن الأفضل أن يجتمع الناس، وأُنكرها أمامهم، وأتحدّث بهذا الكلام في حضور الجميع».

  • ولهذا، نادوا بذلك في المسجد، وأذاعوه في الكوفة، فجاء الجيران؛ وبما أنّه كان أعمى، ولا يتمكّن من الرؤية، فقد تحسّس من همهمة الحضور أنّ المجلس صار غاصًّا؛ وحينئذ، قال: «هل الجميع أتوا؟»، قالوا: نعم! قال: «أقعدوني»، فأقعدوه؛ إذ لم يكن قادرًا على الجلوس. فشرع في الكلام، والحديث عن فضائل أمير المؤمنين... ورحمة الله تعالى عليه! وبحقّ، حينما أطالع مثل هذه الأخبار، فإنّني أقول لاإراديًّا: رحمة الله تعالى على هؤلاء الذين كانوا حماةً للولاية بهذا النحو! أجل، فيا ليتنا، ويا ليتنا نتذوّق حلاوة هذه الحقيقة وعذوبتها، ولو قليلاً، فلا نتفوّه حينئذ بمثل تلك الترّهات! ثمّ قال بعد ذلك: سمعت عن فلان، عن فلان ـ حيث أوصل الحديث إلى النبيّ عن طريق واسطتين ـ أنّ رسول الله قال لأمير المؤمنين [ما معناه]:

  • يا علي، إنّك تقف في يوم القيامة والمحشر بجانب الجنّة والنار، فتُقسّم الناس الذين يأتون، وتأمر الجنّة بأن تُدخل إليها أولياءَك، وحينما يجيء أعداؤك، تقول لجهنّم: خذي هؤلاء! فأنت قسيم الجنّة والنار في يوم القيامة؛ تقول للنار: خذيه! وتقول للجنّة: هذا من شيعتنا، فأدخليه!۱

  • فلمّا أتّم كلامه، التفت إلى أبي حنيفة، وقال له: «قم، واخرج من هنا! لقد قضيت عمرًا مديدًا في ولاية عليّ، ثمّ تأتي أنت في آخر نَفَس، وتُريد أن تسلب منّي هذه الولاية! قم، وارحل!»؛ فطرده من هناك.

  • فقام أبو حنيفة، وقال: «لا توجد أيّة فائدة في بقائنا هنا»، فنهض، وغادر المجلس مع الرجلين اللذين أتيا برفقته، وارتحل سليمان عن هذه الدنيا بعد بضع ساعات.. رحمة الله تعالى عليه!٢

    1. الأمالي، الشيخ الطوسيّ، ص ٦٢۸ و٦٤٣.
    2. المصدر نفسه، ص ٦٢۸؛ بحار الأنوار، ج ٤۷، ص ٤۱٢.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

9
  • إنّ عبارات من قبيل: حسين الزمان وعليّ الزمان باعثة حقًّا على الخجل! ونحن لا نسمعها من العرفاء، ولا نراها في كلمات أمثال العلاّمة الطباطبائيّ؛ ولهذا، قلت لكم في الجلسة السابقة أنّه يلزمنا أن نرى من هم الذين علينا اتّخاذهم أسوة؛۱ فهذه هي المسألة المهمّة؛ أي أن نقتدي ونتأسّى بالذي عُجنت روحه بالإمام والولاية؛ فهذا هو الذي ينبغي أن نعتمد عليه؛ وأمّا بقيّة الناس، فيتفاوتون فيما بينهم من حيث الخصائص والظروف.

  • ومن هنا، فإنّ أهل التوحيد لا يتنازلون أبدًا في سلوكهم وأفعالهم عن التوحيد، ولا يتنزّلون بتاتًا عنه؛ فالكلام عن مظاهر الحقّ تعالى؛ نظير الملائكة والجنّ والقوى الملكوتيّة وغير الملكوتيّة لا يُحقّق أيّة فائدة في تكامل الإنسان؛ كأن نبحث مثلاً عن العلم الذي يملكه جبرائيل؛ إذ ما هي علاقتي أنا بذلك؟! أو نتحدّث عن القدرة التي يتوفّر عليها ميكائيل؛ إذ ما هي الثمرة التي سأجنيها من ذلك؟! أجل، لا إشكال في أن نعلم بأنّ الله تعالى له جنود ملكوتيّون ومجرّدون، وأنّهم يُدبّرون الأمر والعالم بسيطرة وإشراف ولاية الإمام ونفسه؛ لكن، بهذا المقدار فقط؛ غير أنّ محلّ بحثنا هنا هو: إذا كان حال العارف وظروفه لا تسمح له بالأنس، سوى بالذات الإلهيّة، وكان لا يستطيع التقرّب، إلاّ بالنفس الملكوتيّة والولائيّة للإمام عليه السلام، ولا يلتذّ روحيًّا، إلاّ عن طريق نفس الإمام، فكيف سيتسنّى له الحديث عن بقيّة مراتب التعيّنات والظهورات والتجلّيات التي تكون أدنى من الولاية؟! لن يتحمّل حالُه ذلك أبدًا! وعلى سبيل المثال، انظروا إلى المستوى الذي بلغتموه أنتم من حيث المدركات والمشاعر والظروف والعلوم والإدراكات؛ فإذا كان نشاطكم وفكركم وكلامكم ينصبّ على نوع خاصّ من الكتب والمسائل، وكنتم تعيشون هكذا ظروف، أ لن تشعروا بالضجر حينما يتحدّث معكم طفل يدرس في السنة الأولى؟! فما إن يتحدّث معكم بكلمة واحدة، حتّى تقولوا له: قم يا عزيزي، واذهب للعب مع صديقك هناك! أو طالع الكتاب الفلاني! أو قم بالعمل الكذائي!

  • معجزات الأئمّة بين الأولياء والعوامّ

  • ولا يخفى أنّ هذه الحالة كانت شديدة في السيّد الحدّاد؛ لأنّ حاله في مسألة التوحيد ـ كما بيّنت في الجلسات السابقة ـ لم يكن يسمح بالحديث بتاتًا عن شيء مغاير لها ولحقيقة الإمام؛ فكان يعيش هكذا حال ووضع، وكان يرى أنّ الكلام عن بقيّة المسائل تضييع للوقت، وأنّه: لماذا على الإنسان أن يعمد لإتلاف وقته؟! فإذا كان من المفروض عقد جلسة ما، لماذا لا تُقضى في المسائل العالية والراقية، ويُقتصر فيها [بدلاً عن ذلك] على الحديث عن المسائل المتدنّية؟! إلى درجة أنّه قال عن معجزات الإمام عليه السلام: هل يحسُن بنا أن نُحدّد الإمام بالمعجزات؟! كأن نفرح ونُسرّ مثلاً لقيام حضرة السجّاد عليه السلام بالمعجزة الفلانية! أي: هل علينا حقًّا أن نعرف الإمام السجّاد بمعجزاته وحسب؟! فإذا جاء إلى هنا، ولم يقم أمامنا بأيّة معجزة، هل ينبغي أن ننظر إليه بنظرة أخرى؟! وهل طلب سلمان الفارسيّ أيضًا من الرسول معجزة، أم أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى بالمعجزة للعوامّ فقط؟ 

    1. راجع: الفقرة الأخيرة من الجلسة الثانية.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

10
  • وحينئذ، لو أنّ النبيّ لم يشقّ القمر، ويقسمه إلى نصفين، هل كان سيُنقص ذلك شيئًا من رسالته؟! ولو أنّ تلك الشجرة، وتلك السحليّة لم تنطقا، وتشهدا له بالرسالة، هل كان سينقص منه شيءٌ؟!

  • لقد وقف الإمام السجّاد مع محمّد بن الحنفيّة أمام الحجر الأسود، ليتّخذاه شاهدًا على الولاية؛ فلم يُجب الحجر محمّد بن الحنفيّة، وشهد للإمام السجّاد عليه السلام بالإمامة؛۱ وفي هذه الحالة، لو أنّ الإمام لم يقم بهذا الفعل، هل كان ذلك سيُعدّ دليلاً على عدم إمامته؟! إنّ المعجزات والأمور التي كان الأئمّة يقومون بها إنّما كانوا يقومون بها من باب الاضطرار، ولأجل العوامّ، وليس لأجل الأفراد الذين يتّسمون باللياقة، وينظرون بنظرة عميقة للإمامة؛ فلو تحدّث الإمام بكلمة واحدة قلبت حالنا ومعرفتنا ووضعنا رأسًا على عقب، لكان ذلك أعلى ألف مرّة من المعجزة!

  • ولنفرض أنّ إمام الزمان حوّل هذا الكوب إلى ذهب، فأيّ شيء سيكون قد حصل؟! فمع أنّه تبدّل إلى ذهب حقيقة؛ لكن، ألا يستطيع غير إمام الزمان القيام بهذا العمل؟! لقد شاهدت بأمّ عينيّ أنّ شخصًا كان مشرفًا على الموت، وتوقّف قلبه عن العمل، فوضع أحدٌ يده عليه، وقرأ الفاتحة، فقام ذلك الشخص، وقعد! وهذا رأيته بعيني أنا؛ مع أنّ ذاك لم يكن إمام الزمان، ولا الرسول، بل كان إنسانًا عاديًا من الصلحاء والزهّاد والعبّاد؛ فلم يكن حتّى من أهل العرفان والتوحيد! مع أنّ أهل التوحيد لا يقومون بتاتًا بهكذا أفعال، ولا يسعون أبدًا وراء هذه المسائل!

  • وحينئذ، نأتي نحن، ونعقد مجالس للحديث عن الفعل الذي يتسنّى للإمام القيام به، ويعدّه الأفراد المبتدؤون في هذ الطريق أمرًا غير معتدّ به، ونقول: لقد قام الإمام عليه السلام بالمعجزة الفلانية! أو نعمد دائمًا إلى نقل معجزات الإمام الرضا في مجالسنا! بدلاً عن ذلك، تعالوا بنا لننقل روايتين تتحدّثان عن معارف الإمام الرضا، أو لنُبيّن تلك الرواية التي تكلّم فيها عليه السلام عن مسألة الولاية، لكي نفهم ما الذي قاله؛ فلنفرض أنّ الإمام الرضا قام بمعجزة في موضع ما، لكن، في نهاية المطاف، هو عليه السلام غير موجود بيننا الآن؛ أجل، يبقى أنّ الأئمّة كانوا يقومون ببعض الأفعال لأجل العوامّ؛ حتّى يكون لهؤلاء أيضًا نصيبٌ من الأمر كحدّ أقلّ؛ فكانوا عليهم السلام يُؤدّون مهمّتهم وتكليفهم طبقًا لما يرتؤونه من مصلحة؛ غير أنّ السؤال هنا هو: لأجل من كان الإمام الرضا يُظهر المعجزة؟ هل كان يقوم بذلك لأجل الأفراد الذين بوسعهم السموّ للأعلى، والارتقاء بمستوى تفكيرهم؟ أم أنّه كان يقوم به للأفراد الذين لولا ذلك، لما تمّكنوا من التفريق بينه وبين المأمون؟ فكان الإمام عليه السلام يلجأ إلى هذا العمل حتّى يُقال كحدّ أقلّ: يوجد شيء هنا لا يوجد هناك! فلأجل من كان يقوم الإمام الرضا بذلك العمل؟ ولأجل من كان الأئمّة يُؤدّون هذه الأفعال ويطرحون تلك المسائل؟ لقد كانوا يصومون ثلاثة أيّام؛ ومع شعورهم بالجوع ﴿يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾؛٢ فكانوا هم أيضًا يمرضون، ويُعانون من ألف ضيق وعُسر، لكنّهم لا يلجؤون لاستعمال المعجزة لأجل أنفسهم!

    1. مدارك الأحكام، ص ٤٦۱؛ إثبات الهداة، ج ٥، ص ٢۱۸؛ معرفة الإمام، ج ٣، ص ٣۱.
    2. سورة الإنسان، الآية ۸.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

11
  • كان السيّد الحدّاد يقول:

  • لماذا يجب أن تُكرّس مجالسنا للحديث عن معجزات الأئمّة؟ فالواجب تخصيصها لاستعراض الروايات التي من شأنها أن تقلبنا رأسًا على عقب، والكلام عن الروايات التوحيديّة الواردة عن أمير المؤمنين والإمام الرضا، وبيان الحقائق ومكارم الأخلاق وطريقة سلوك الأئمّة وأسلوب معاشرتهم للناس، وتوضيح كلماتهم، وتسليط الضوء على منهج التعرّف على الولاية وحقيقتها، وتفسير الروايات التي تُجلّي حقيقة الأئمّة، ممّا سيُساهم في تقرّبنا من هذه الحقيقة.

  • فلنفرض أنّني جلست لأقول: «لقد قام الإمام الباقر في اليوم الفلاني بالمعجزة الفلانية، فتحدّث معه الحيوان الفلاني، وتكلّم معه ذئب جاء من البريّة»، فإنّ ذلك سيكون جيّدًا بالنسبة للعوامّ، وإلاّ، لو لم نتحدّث بمثل هذا الكلام على المنبر، لشعروا بالنعاس، وانتابهم النوم؛ ففي نهاية المطاف، يتعيّن علينا إيراد مثل هذه المسائل؛ لكن، حديثنا هنا يدور حقيقةً حول مسألة أنّه: [هل يحسُن بنا] أن نغضّ الطرف عن الروايات الأخلاقيّة والتوحيديّة والعقائديّة الصادرة عن الإمام الباقر والإمام الصادق، ونخوض في الحديث عن مسائل من قبيل: لم يكن الإمام الصادق في المكان الفلاني يتوفّر على ماء، فدعا الله تعالى، وإذا بالماء يخرج من البئر؟! فلماذا يتعيّن علينا التنزّل بتفكيرنا عن الإمام إلى هذا الحدّ، ونقصر اهتمامنا على مسألة أنّ الكرامة الفلانية مثلاً ظهرت من الإمام موسى بن جعفر حينما كان في طريقه للحجّ؟ ولماذا لا نأتي إلى تلك الرواية العجيبة التي يُبيّن فيها الإمام الصادق حقيقة الإمام وحقيقة التوحيد، ويتحدّث فيها عن معرفة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام وصفاته، ويقول إنّه سيأتي بعده [الإمام الرضا عليه السلام] رجل يكون عِلم هذه الأمّة ونورها،۱ ونعمد إلى بيانها وتفسيرها، ونسعى إلى توخّي ذلك من معدنه؟!

  • كان السيّد الحدّاد يقول: هل تنظرون إلى الموضع الذي أنا فيه؟ عليكم أن تطلبوا منّي ما هو أعلى من ذلك! وأمّا المعجزات، فقد تطرّقت لها حتّى الكتب، حيث ذُكرت معجزات الإمام عليه السلام حتى في كتاب ناسخ التواريخ، فاذهبوا وطالعوها هناك! فما الذي عليكم طلبه منّي؟ فإذا كنت وصلت إلى معدن ولاية الإمام الرضا، وولاية الإمام عليه السلام، فعليك أن تطلبوا منّي ذلك! لقد استعرض العلاّمة المجلسيّ في كتابه بحار الأنوار مجموعة من المسائل ذات الصلة بمعجزات إمام الزمان، والتي بوسع الإنسان أن يُطالعها، بل ويجب عليه أن يُطالعها هناك؛ لأنّ هذه المسائل ـ في نهاية المطاف ـ من خصائص الإمام؛ ولا بدّ للشيعيّ أن يطّلع على كافّة خصائص الإمام في كلّ عصر؛ غير أنّ السيّد الحدّاد يريد أن يقول: أيّها القلب الغافل، لماذا تُضيّع وقتك هنا؟ اطلب منّي الشيء الذي لم يذكره الآخرون في كتبهم، أو إذا ذكروه، فإنّهم مرّوا عليه مرورًا يتّسم بالغموض والإجمال، أو أنّهم اكتفوا بنقل مسألة ورواية عنه من دون أن يفهموا بأنفسهم ما الذي كتبوه.

    1. الكافي، ج ۱، ص ٣۱٤؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج ۱، ص ٢٤؛ الروح المجرّد، ص ٢٣٩:
      «يُخْرِجُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ غَوْثَ‌ هَذِهِ‌ الأمَّةِ وَغِيَاثَهَا، وَعِلْمَهَا وَنُورَهَا، وَفَهْمَهَا وَحُكْمَهَا»

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

12
  • ولهذا، حينما نطالع في العديد من هذه المصنّفات روايةً من تلك الروايات، نجد أنّ المؤلّف بنفسه يُشكّك فيها، أو يقول: إنّ فيها غلوًّا، أو يقول: إنّني لا أفهمها، أو يقول: أوكل علمها إلى أهلها؛ في حين أنّ السيّد الحدّاد لا يقول: علينا أن نوكل علمها إلى أهلها، بل يقول: تعالوا اسألوني، وسأجيبكم! فكلّ من أتى عنده من أهل العرفان والفلسفة، وطرح عليه سؤالاً، لم يرجع خالي الوفاض؛ فهذه هي حقيقة الأمر!

  • رؤية العارف لظاهرة الوحي والملائكة عليهم السلام

  • ذات ليلة، ذهب المرحوم الحدّاد إلى منزل أحد الأصدقاء بالكاظميّة، حيث كان هناك العديد من العلماء، وكان مجلسًا حافلاً جدًّا؛ فبدؤوا بالحديث عن رواية تتعلّق بعلم جبرائيل عليه السلام، وكيفيّة نزول الوحي عن طريقه على نفس النبيّ والرسول، وكيف أنّه يستقبل هذا الوحي من مقام العظمة، ويجعله في وعائه الوجوديّ، ثمّ يغرسه في نفس الرسول، لا أنّه يُخاطبه به وحسب؛ أي: حينما يُنزّل جبرائيل الوحي على النبيّ، لا يأتي مثلاً، ويجلس، ويقول: «الله تعالى يُسلّم عليك، ويقول لك: فيما يخصّ المسألة الفلانية، عليك أن تقوم بالعمل الفلاني»، أو: «عليك أن تؤدّي الصلاة بهذا النحو، والصيام بذلك النحو»، أو: «عليك أن تُصدر الحكم بهذه الطريقة»؛ كلاّ! بل كان ينقش الحقيقة العلميّة للوحي في نفس هذا النبيّ، ويُوحّدها معها؛ وبالتالي، لم يكُن هذا الوحي يُمحى بعد ذلك أو يخرج من قلب الرسول أبدًا! ولهذا السبب، لم يكن النسيان يعرض للنبيّ؛ إذ كما يكون له علم حضوريّ بمشاعره وصفاته وغرائزه النفسيّة والباطنيّة، فإنّه يُشاهد في نفسه وبالطريقة ذاتها ـ أي بالعلم الحضوريّ وليس الحصوليّ ـ تلك الحقيقة التي جاء بها جبرائيل، بحيث لا يُمكنه نسيان ما شاهده؛۱ أ فهل بوسعي الآن نسيان وجودي؟!

  • ففي تلك اللحظة، بدت هذه المسألة لأولئك الأفراد عجيبة وعظيمة جدًا؛ إذ علينا أن نرى ما هي المكانة والمرتبة التي يحتلّها جبرائيل، لكي يأتي، ويُلقي تلك المعاني في قلب الرسول، مع ما له من مقام وعظمة!

  • لكنّ السيّد الحدّاد كان يقول: «يا عزيزي! إنّ جبرائيل أثر من آثار نفس الرسول»؛ أي أنّ تلك الحقيقة الروحيّة لرسول الله، وذلك السرّ الذي ينطوي عليه هما في مقام لا يُمكن لألف جبرائيل الاقتراب منه! لأنّ «نفس النبيّ» عبارة عن حقيقة مقام الواحديّة الذي يُمثّل بروز المشيئة المكنونة، وظهور الذات الإلهيّة البسيطة والوجود المجرّد للحقّ تعالى في مقام الهوهويّة؛ وفي ذلك الحين، هل كان جبرائيل متحقّقًا في عالم الوجود وعالم الكثرات؟ لا يوجد في مقام الواحديّة جبرائيل ولا ميكائيل.

    1. لمزيد من الاطّلاع، راجع: افق وحى (فارسي)، ص ٢۱۱؛ الشمس الساطعة، ص ٢۸۷.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

13
  • فمقام الواحديّة عبارة عن نفس حقيقة الولاية التي تتحقّق بواسطتها إرادة الله تعالى حين تعلّقها بالتكثّر الوجودي في عالم المجاري والمظاهر، حيث تتمثّل هذه الحقيقة في نفس الرسول؛ هذا، مع أنّ جبرائيل يتّصف بكلّ تلك العظمة، ومع أنّه لدينا في الروايات أنّ حقيقته استوعبت شرق العالم وغربه،۱ ومع أنّ هذه الحقيقة هي التي تصدر منها جميع العلوم البشريّة وغير البشريّة وكافّة علوم الموجودات في الدنيا، بحيث تكون نفس حضرة جبرائيل هي التي ينبع منها إدراكُ هذا الكوب وهذا الإبريق، وإدراك الحصى، وإدراك الحيوانات، وعلوم الإنسان وإحساساته، والاختراعات والاكتشافات وكافّة العلوم هنا وفي بقيّة الكواكب، سواءً تحقّقت، أو أنّها ستتحقّق إلى يوم القيامة، بل حتّى قبل تحقّقها، ومهما كانت طريقة تحقّقها؛ لكن، مع كلّ ذلك، فإنّ جبرائيل هذا بذاته صادر من نفس الرسول!

  • يقول السيّد الحدّاد: تعالوا لنتحدّث عن نفس النبيّ، لا عن جبرائيل؛ لأنّ جبرائيل شأنه شأن بقيّة الأفراد! لكن، هل تعلمون حقيقة هذه المسألة؟! فإدراكها صعب جدًّا! يقول السيّد الحدّاد: لقد تخطّينا جبرائيل! فمن يكون ـ يا ترى ـ جبرائيل؟! أي: أنّه في درجة ومقام يتعيّن على جبرائيل أن يأتي عنده لكي يتعلّم! يا للعجب!! فالسيّد الحدّاد يقول: أنا في نفس الدرجة التي يقول عنها جبرائيل: «لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ»؛٢‌ وبالتالي، لماذا تعمدون إلى تضييع وقتي بالحديث عن جبرائيل، وكيفية نزوله، وعن الوحي وإنزال الكتب والرسل؟! فإذا أردتم الكلام عن هذه المسائل، فلا يوجد أيّ إشكال في ذلك؛ لأنّ جبرائيل يمتلك مقامًا رفيعًا جدًّا لا يستطيع كلّ واحد بلوغه؛ لكن، اذهبوا إلى مكان آخر، واطرحوا فيه مثل هذه المواضيع؛ وأمّا هنا، فلا ينبغي لكم ذلك.

  • فهذا هو الأمر الذي قلت لكم لأجله: لقد كان حال المرحوم السيّد الحدّاد لا يوصَف ولا يُدرك أبدًا؛٣ فهو كان مستعصٍ على الوصف؛ أي أنّه كان في مقام، بحيث لا يتحمّل بتاتًا الحديث النازل عن مرتبة الذات! فلو سألتَه عن جبرائيل أو ميكائيل، لتحدّث لك عن كلّ واحد منهما بحذافيره، وقال لك: هذا هو جبرائيل! وهذا هو ميكائيل!

    1. الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم عليهم السلام، ص ٤٥٢.
    2. مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، ج ۱، ص ۱۷٩؛ بحار الأنوار، ج ۱۸، ص ٣۸٢.
    3. الروح المجرّد، ص ۱٤.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

14
  • ذات يوم، جاء أحدهم، وحاول أن يُخفي عنه أمرًا معيّنًا، فقال له:

  • هل تُريد أن تُخفي عنّي أنا ذلك؟! لو كنتَ في السماء الرابعة، لأحضرت تلك المسألة، ووضعتها بين يديك! فما الذي تُريد إخفاءه عنّي؟ هل تُحبّ أن أُفصح عمّا فعلته؟ هل أذكر المسألة التي أتت على بالك في المكان الفلاني؟۱

  • أجل، لقد كان دأب الأولياء هو الكتمان وعدم الفضيحة، لكنّهم كانوا يقولون: إذا أتيت إلى هنا، فلا تُخفِ أيّ شيء! أ فهل بوسعك إخفاء أيّ أمر على الله تعالى؟! فلا وجود لي أنا في البين، بل إنّ الله تعالى هو الذي يُنزّل الحقائق، ويأتي بالمسائل؛ وحينئذ، تأتي أنت، وتُريد أن تُخفي الأمور عنه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾.٢

  • يقول السيّد الحدّاد:

  • إنّ مقام الإنسان ومكانته أعلى من أن يقضي وقته في الحديث عن جبرائيل وميكائيل وأمثال ذلك؛ فقم، وارتقِ إلى مكان يأتي فيه عندك جبرائيل للتعلّم منك، والاستفادة من أنفاس وجودك.

  • ويأتي حتّى الملائكة للاستفادة منك بحسب مراتبهم الخاصّة؛ إذ لا يصحّ القول إنّهم توقّفوا في مرتبة كماليّة معيّنة، وأنّهم بلغوا مرتبة الفعليّة دفعة واحدة؛ ولو أنّهم توقّفوا طوليًّا على مستوى الاشتداد الوجوديّ؛ إذ ما داموا على قيد الحياة، وما دام الله تعالى إلهًا في هذا العالم، فإنّ نعمة الفيض تجري على وجودهم في المراتب العرضيّة.

  • لكن، من أين يأتي هذا الفيض؟ من نفس الرسول والإمام عليهما السلام؛ فإمام الزمان هو الذي يمنح الرزق لجبرائيل، بحيث لو قطع عنايته عنه للحظة واحدة، لعرضه الموت والفناء في نفس هذه اللحظة؛ وليس أنّه سيموت وحسب، بل ـ بتعبيرنا نحن ـ سيتبخّر، ويعرضه الفناء! فالإمام عليه السلام هو الذي يهب الرزق المعنويّ لجبرائيل وميكائيل وعزرائيل من نفسه، بحيث إنّ عظمة عزرائيل عليه السلام في قبض الأرواح وبقيّة الأمور التي تلاحظونها.. كلّها بإرادة الإمام عليه السلام الذي يتعيّن عليه أن يُمضيها؛ فلو لم يُمضها، لما صارت لعزرائيل القدرة ـ ولو بمقدار جناح بعوضة ـ على قبض نفس أيّ أحد؛ وحتّى حينما يُريد قبض روح الإمام، فإنّ ذلك ينبغي أن يتمّ بإذنه عليه السلام، وإلاّ، لما تمكّن من القيام بأيّ فعل بتاتًا؛ ومن هنا، [في هكذا أمور]، يكون الإمام يتصرّف في آثاره (وأفعاله)، ويُعمل آثاره الوجوديّة.

    1. المصدر نفسه، ص ۱٥۰.
    2. سورة آل عمران، الآية ٥.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

15
  • فحينما قال السيّد الحدّاد: لماذا تتحدّثوا عن جبرائيل وهذه الأمور؟ فإنّ معنى ذلك أنّه على الإنسان ألاّ يُكرّس مجالسه للحقائق التي تقع في مرتبة دون التوحيد والولاية من آثار الكثرات، وللحديث عن الكثرات التي توجد في مراتب دنيا، ولو كانت بمستوى عظمة جبرائيل وعزرائيل عليهما السلام.

  • فتجدنا ننظر إلى عظمة المسألة، وإلى أنّ عزرائيل هو المسيطر على أرواح كافّة الموجودات، والجنّ، والشياطين، وبني آدم، والمهيمن على أرواح الجميع في كلّ حال، حيث يستولي على لباسهم، ويكسيهم لباسًا آخر؛ فعزرائيل هو مغيّر حال كافّة الأنبياء من نشأة إلى نشأة أخرى؛ وبعد ذلك، نقول: يا للعجب! أيّ مقام يملكه عزرائيل هذا، بحيث لا تكون لدى نبيّ الله أيّة قدرة في مقابله! ولا يقدر الإمام عليه السلام على أيّ شيء في مقابله! وإلاّ، لو كانت له أيّة قدرة، لوقف في وجهه! ألا يُقال الآن: إذا كان الإمام يمتلك قدرة، فلماذا يطرأ عليه الموت؟ لكنّنا نقول في الجواب: إنّ الإمام بنفسه هو الذي يرغب في الرحيل، ولا يريد أن يظلّ في هذه الدنيا؛ كان المرحوم العلاّمة يقول:

  • لماذا يقوم الرفقاء بالتصدّق والدعاء إلى هذا الحدّ، لكي نظلّ [على قيد الحياة]؟! فأي خير وجدناه في البقاء هنا؟! وأيّة فائدة رأيناها حتّى نرغب في هذا البقاء؟!

  • لقد كانوا بأنفسهم يرغبون في الرحيل، ويُنادون على عزرائيل بنحو مستمرّ، أن: «تعال، وعجّل في إراحتنا!»؛ في حين نجد البعض يقول: لماذا لا يمتلك الإمام القدرة على الوقوف في وجه عزرائيل؟

  • وعندما ننظر إلى هذه المسائل، نتصوّر بفهمنا القاصر أنّها غير حقيقيّة؛ وبما أنّ الملائكة مستورة عن أعيننا، في حين أنّنا نرى الإمام وبقيّة الناس أمامنا؛ فإنّ جهة الغيب في الملائكة وجهة الشهادة في الإمام ـ علاوةً على الآثار التي نُشاهدها فيهم ـ تُعمي أعيننا عن رؤية الولاية؛ فلا نتمكّن من رؤية أنّ عزرائيل لا يبلغ ظفرًا واحدًا من أظافر الإمام عليه السلام، ولو كان يمتلك كلّ تلك القدرة! فعزرائيل هذا، مع كلّ عظمته، هو مجرّد عبد مطيع ومنقاد ومسلوب الإرادة والاختيار في مقابل إمام عصره! فنحن نجهل هذا الأمر، ونقتصر على النظر إلى عظمة عزرائيل، غافلين عن أنّ مصدر هذه العظمة هناك.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

16
  • كان السيّد الحدّاد يريد أن يُلفت انتباه الناس إلى المسألة التالية: انظروا إلى الواقع، وغضّوا أبصاركم عن الظاهر! فسواءً تعلّق الأمر بجبرائيل أو عزرائيل أو البقيّة، انظروا إلى المصدر، وأين يوجد هذا المصدر؛ ألا وهو باطن إمام الزمان؛ فاسعوا إليه، لا إلى الأعمال التي يقوم بها الملائكة؛ مع أنّها محفوظة في مكانها؛ لكن، يبقى أنّها تخضع أيضًا إلى طاعة وتبعيّة إمام الزمان والتوحيد؛ شأنها في ذلك شأن بقيّة الموجودات.

  • العارف عاشق لكلّ عالم الوجود

  • سؤال: تتمثّل الرؤية التي نُقلت لنا عن أكابر العرفاء بخصوص عالم الوجود في أنّه: باعتبار أنّ كافّة الموجودات محبوبة لله تعالى، وموضعًا لرعايته وعنايته، فإنّهم كانوا يرون هذه الموجودات ـ بنحو من الأنحاء ـ محبوبة وجميلة؛ بل الأرقى من ذلك، ما حُكي في الروح المجرّد عن السيّد الحدّاد أنّه قال: «العالم بجميع أرجائه عشق، سواء ذهبت من الأعلى إلى الأسفل، أو من الأسفل إلى الأعلى»؛ ويبدو أنّ هذه المسألة تُمثّل رؤية خاصّة للعالم، ولها بطبيعة الحال مراتب مختلفة أيضًا، كما يقول سعدي مثلاً: 

  • به‌ جهان‌ خرّم‌ از آنم كه جهان خرّم از اوست‌***عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست‌۱
  • [يقول: إنّي سعيد ومُبتَهج بهذا العالَم لأنّ العالَم كلّه سعيد ومُبتَهج به هو؛ وأنا عاشقٌ لكلّ العالَم لأنّ العالَم كلّه صادرٌ منه‌]

  • وعادة، ينبغي أن يصدُق هذا الأمر حتّى في المراتب الأعلى من ذلك؛ فنرجو منكم ـ إذا أمكن ـ أن توضّحوا لنا هذه المسألة قليلاً، وكيف كانت رؤية العظماء كالمرحوم الحدّاد للعالم، بحيث يرون هذا العشق ساريًا فيه بشكل واضح؟

  • جواب: نعم، إنّه سؤال مثير للاهتمام كثيرًا، غير أنّ الجواب عنه يفوق مستوى علمي القاصر؛ وأنا جادّ فيما أقول؛ أي أنّني لم أقل هذا من باب التواضع؛ لأنّني لست من أهله، ولا أراه حسنًا في كلّ مورد؛ إذ معظم هذه الموارد تُشبه النفاق والرياء والتمثيل أكثر من شبهها لحقيقة التواضع؛ فحقيقة الأمر هي أنّه: يا ليتنا كنّا نملك من نفس أولئك الأولياء توضيحًا أكثر، وبيانًا أوفى وأكمل! أجل، يبقى أنّهم تحدّثوا عن هذه المسألة إلى حدّ ما؛ إذ لكي ينكشف هذا الموضوع للإنسان حقيقةً، ينبغي أن يحصل له إدراك شهوديّ له؛ وإلاّ، سيصعب عليه قليلاً ـ أو أكثر من ذلك ـ استيعابه، لا سيّما بالنظر إلى العالم الإحساسيّ والإدراكيّ الذي يخضع له.

    1. كلّيات سعدي، المواعظ.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

17
  • وسأضرب لكم على هذا الأمر مثالاً، قد يكون مقرّبًا إلى حدّ ما: لاحظوا معي، لا شكّ أنّ رأفة الأب وعنايته بولده ومحبّته له هي مسألة مستمرّة ووجدانيّة بالنسبة إليه، بحيث لا يُمكنها أن تنفكّ عن وجوده؛ فالأب يرى نفسه وليًّا لابنه، ويعتبر وجوده جزءًا من وجوده، ويشعر تجاه هذا الابن بنفس الحبّ الذي يشعر به تجاه ذاته وحقيقته الوجوديّة؛ وكما أنّه إذا صادف خيرًا، فإنّه يتحرّك نحوه، فكذلك، إذا وجد الخير في مسألة بالنسبة لابنه، فإنّه يسعى لسوقه إليها؛ وإذا تحتّم عليه إنفاق المال لأجل دفع ضرر عن ولده، فإنّه يكون مستعدًّا لدفع كلّ أمواله في سبيل ذلك؛ وإذا رأى أنّ خطرًا يتهدّده، فإنّه لا يبخل بأيّ شيء لدفعه؛ كما أنّه لا يتردّد حقيقةً في توفير كلّ ما يحتاجه في تربيته وكماله وسعادته وبقيّة الأمور التي يقدر عليها؛ ويحكي كلّ ذلك عن وجود تعلّق وطيد، وربط عميق ودقيق بينه وبين ابنه، بحيث يعتبره حقيقةً وجوديّة متنزّلة عن نفسه، ويعدّه جزءًا من هذه النفس؛ إلى درجة أنّه يكون مستعدًّا للتضحية بذاته في سبيله. ومع أنّ هذه المسألة متحقّقة في وجوده بكلّ ما للكلمة من معنى؛ لكن، إذا واجه ذلك الابن خطرٌ ما، وأصابه مرض معيّن، وكان الوالد مضطرًّا للقيام بفعل من أجل دفع هذا الخطر وذلك المرض؛ كأن تُجرى له عمليّة، أو يُحقن بإبرة، فيحصل ألم للابن، [فإنّ الأب يقوم بذلك]؛ حسنًا، رغم أنّ الولد يبكي الآن، ويُعرب عن انزعاجه وتألّمه، إلاّ أنّ وجود الوالد مكتنف ببُعدين اثنين في الوقت ذاته؛ بمعنى أنّه متحقّق بحيثيّتين ذاتيّتين، وواقعيّتين شهوديّتين ووجوديّتين.

  • الواقعيّة الأولى: واقعيّة الانزعاج والألم الذي يُشاهده في نفسه جرّاء تألّم الابن؛ إذ نجده يتألّم حقيقةً حينما يكون هذا الابن يبكي؛ لأنّ بسمة ولده ـ في نهاية المطاف ـ أحلى بالنسبة إليه من بكائه وألمه؛ وعليه، فإنّ هناك حقيقة وجوديّة مكنونة في ذات الأب ونفسه تتمثّل في الألم الذي يشعر به تجاه مسألة أنّ ابنه يتألّم الآن، وأنّه يحقن بإبرة، ويُعالج من المرض بواسطة المِشرط، ويبكي، ويتضوّر، من دون أن يتمكّن من الدفاع عن نفسه؛ لأنّهم قيّدوه، ويُمارسون عليه تلك الأفعال؛ فلاحظوا هنا إلى أيّة درجة يُعاني هذه الوالد!

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

18
  • لكن، بالتزامن مع هذه الواقعيّة، توجد واقعيّة أخرى، ويوجد إحساس آخر مكنونان في وجوده؛ حيث نجده يشكر الله تعالى في كلّ آن على أنّ هذا الخطر آخذ في الارتفاع عن ابنه، وهذا المرض آخذ في الزوال عنه، وأنّه في طريقه لاستعادة صحّته بواسطة هذه العمليّة.

  • فهاتان الواقعيّتان لهما ـ بشكل متزامن ـ تحقّقٌ عينيّ وخارجيّ في نفس هذا الأب، من دون أن يكون أيّ منهما اعتباريّ؛ أي: من جهة أولى، لا نراه يتصنّع الألم، بل إنّ دموعه تنهمل من عينيه حقيقةً كما يحصل مع الأمّ؛ ومن جهة ثانية، نجده مسرورًا، ويسعى لتقبيل يد الطبيب؛ لأنّه يُخلّص الطفل من الموت عن طريق الأفعال التي يقوم بها؛ فهاتان الواقعيّتان موجودتان معًا في نفس كلّ من الأب والأمّ.

  • حسنًا، في هذه الحالة، تعالوا بنا نرجع للمثال الذي طرحتموه هنا؛ فحينما ننظر إلى جميع الأشياء التي اكتست في عالم الوجود صورة خارجيّة من جهة الله تعالى وبواسطة مشيئته، هل كانت خارجة عن إرادته تعالى أم لا؟ إنّ وجود كافّة الأحجار والمياه والجبال والكواكب والسماوات والأرضين والحيوانات والملائكة وأفراد الجنّ والإنس والمؤمنين والفسّاق كان خاضعًا لإرادة الباري عزّ وجلّ؛ بمعنى أنّه: هل نستطيع القول إنّ الإنسان غير المؤمن جاء إلى هذه الدنيا بغير إرادة الله تعالى، وإنّ المؤمنين هم الذين أتوا إليها بإرادته وحسب؟! سيكون هذا عين القول بالوثنيّة والثنويّة، والاعتقاد بيزدان وأهريمن، والتصريح بالشرك والكفر وعبادة الأصنام! ومن هنا، فإنّ موجودات العالم جاءت بأجمعها إلى الدنيا بإرادة الله تعالى ومشيئته؛ مع أنّ هذه الدنيا توجد فيها جميع أنواع القضايا والظواهر والآثار والصفات؛ إذ نرى إرادة الله تعالى متجلّية في كلّ شيء، بدءًا من الغزال المليح، وانتهاء بالعقرب، والأفعى، والحيوانات الخطيرة والضارّة والقاتلة، بحيث إنّ كافّة هذه الموجودات قد وُجدت بإرادته عزّ وجلّ.۱

  • أ فهل وُجد العقرب الذي يلسع في هذه الدنيا بإرادته هو؟! وهل وُجدت الحيّة التي تزحف وتحمل في فمها السمّ القاتل في هذه الدنيا بمشيئتها؟! أم أنّنا نجدها تقول: ما عساي أن أفعل؟! فكما خلقك الله تعالى إنسانًا، فقد خلقني أيضًا حيّة أو عقربًا؛ من دون أن يكون لي أيّ دخل في ذلك! فالحقّ تعالى هو الذي ألبسك رداء الإنسانيّة والخلافة الإلهيّة، ولم يكسني إيّاه! فأيّ ذنب ارتكبته أنا في ذلك؟! أ وهل كنت أنا من وضعت هذا السمّ في فمي؟ كلاّ!

    1. لمزيد من الاطّلاع، راجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج ۷، ص ۱٤۷؛ افق وحى (فارسي)، ص ٥۰.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

19
  • يقول مولانا جلال الدين الروميّ:

  • پس بد مطلق‌ نباشد در جهان***‌ بد به نسبت باشد اين را هم بدان
  • زهر مار آن مار را باشد حيات***نسبتش با آدمى باشد ممات۱
  • [يقول: لا وجود للشرّ المطلق في العالم، فاعلم: أنّه إنْ كان هناك شرّ فهو نسبيّ السمّ للأفعى قوام حياة، *** لكنّه للناس محض ممات‌]

  • وعليه، فإنّ كلّ شيء في هذا العالم تحقّق بإرادة الله تعالى ومشيئته، غاية الأمر أنّ دائرة الاختيار تختصّ بالإنسان والجنّ، بل وحتّى الملائكة، في حين أنّ الحيوانات والجمادات لا اختيار لها، اللهمّ إلاّ بنحو ضعيف، بحسب ما تملك من مشاعر؛ لكن، مع ذلك، فإنّ أصل وجود كافّة الأفراد، سواءً كانوا مؤمنين أو كفّار، أو مشركين أو صالحين، أو ... قد تحقّق بأجمعه بإرادة الله تعالى ومشيئته؛ فلا ريب في ذلك بتاتًا.

  • وتتوفّر رؤية العارف لعالم الخلق على كلا البُعدين معًا، حيث يتمثّل البُعد الأوّل في النظر إلى إرادة الله ومشيئته الكليّتين والشاملتين لعالم الوجود برمّته، بحيث يكون كلّ شيء قد تحقّق بواسطة هذه الإرادة والمشيئة؛ فحينما يقول سعدي؛ مع أنّه لم يكن عارفًا، ولم يكن يستوعب هذه المسائل بتاتًا، بل اقتصر على اقتباسها من الآخرين، والتأليف بينها:٢

  • به‌ جهان‌ خرّم‌ از آنم كه جهان خرّم از اوست‌***عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست‌٣
  • [يقول: إنّي سعيد ومُبتَهج بهذا العالَم لأنّ العالَم كلّه سعيد ومُبتَهج به هو؛ وأنا عاشقٌ لكلّ العالَم لأنّ العالَم كلّه صادرٌ منه‌]

  • فإنّه يريد القول: حينما ينظر العارف إلى الله تعالى، فإنّ قلبه يتعلّق بكافّة مظاهره أيضًا؛ إذ متى ما أحببتم معشوقًا ما، فإنّك ستُحبّون حتّى اللباس الذي عليه؛ لأنّ محبوبكم ارتداه؛ مع أنّ هذا اللباس كان سابقًا في المتجر، وقد تكونون مررتم به في الشارع من دون أن تعتنوا به؛ لكن، ما إن حلّ ببدن محبوبكم، حتّى تسعوا إلى تقبيله؛ مع أنّه ظلّ على حاله، ولم يزدد وزنه! وحذاء محبوبكم يكون كذلك محبوبًا بالنسبة إليكم؛ وهكذا الشأن أيضًا فيما يخصّ المنديل الذي يضعه محبوبكم في جيبه، والسواك الذي يُنظّف به أسنانه، والنظّارات التي يضعها على عينيه، والقلم الذي يكتب به؛ فكلّ هذه الأمور تكون محبوبة لديكم؛ لأنّكم تعشقون ذلك المحبوب؛ وبالتالي، تعشقون آثاره بأجمعها أيضًا؛ ألا تُلاحظون ذلك؟ أ وليس الناس بهذا النحو؟! فحينما يدخل المحبّ والعاشق منزل محبوبه ومعشوقه، ولا يجده هناك، تراه يُقبّل الباب، ويسعى لتقبيل طاولته ومحبرته وقلمه ولباسه؛ في حين أنّ هذا اللباس مجرّد ثوب!

    1. المثنوي المعنوي، الكتاب الرابع.
    2. لمزيد من الاطّلاع على رأي المرحوم القاضي رضوان الله تعالى عليه بخصوص سعدي، راجع: مهر تابناك (فارسي)، ج ۱، ص ٢۷٣.
    3. كلّيات سعدي، المواعظ.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

20
  • ولماذا نعمد إلى تقبيل الباب أثناء الدخول إلى حرم المشاهد المشرّفة؟ ومع أنّنا نعثر على هذا الباب في عدّة أماكن، وهي مصنوعة من مجرّد خشب وحديد وموادّ أخرى؛ لكن، بما أنّها رُكّبت الآن في حرم الإمام الرضا عليه السلام، فإنّها صارت مختلفة عن بقيّة الأبواب؛ ورغم أنّ الضريح من حديد، والحديد لا يُقبّل؛ لكن، بما أنّ هذا الضريح أصبح منسوبًا للإمام الرضا عليه السلام، صار لازمًا عليكم مسح أعينكم به؛ فمتى ما كان المرحوم العلاّمة يذهب إلى الحرم، كان يهوي للأرض، ويُقبّل العتبة؛ وبدوري أيضًا، حينما أدخل إلى المشاهد المشرّفة، أهوي للأرض، وأقبّل العتبة؛ وكذلك الشأن عندما أريد الخروج من الحرم أثناء التوديع، وأداء الزيارة الأخيرة.

  • سمعت أنّ المرحوم السيّد البروجرديّ كان يُشكل على هذه المسألة، ويقول: «إنّها تُشبه السجود»؛۱ كلاّ! لا تُشبه السجود؛ لأنّ التقبيل مختلف عن السجود؛ والسجود يكون لله تعالى، في حين أنّ التقبيل يكون من باب الخضوع، وإبراز المحبّة؛ ونحن لا نسجد للإمام الرضا، بل نُقبّل أعتابه، ونُكحل أعيننا بترابها؛ كلاّ! فما ذكره مجانب للصواب؛ لأنّ التقبيل مغاير للسجود، حيث يتعيّن علينا السجود لله وحده؛ كما أنّ الإمام الرضا لا يسمح في مقام الغيرة بأن يسجد له أيّ أحد، ويضعه في مقابل الله تعالى؛ لأنّه إمام، والإمام لا يقوم بهكذا أفعال؛ غير أنّ تقبيل العتبة عبارة عن إبراز للمحبّة والمودّة؛ وصحيح أنّ هذه العتبة حجر، والحجر موجود في كلّ مكان؛ لكنه حجر يفوق حتّى رأس جبرائيل؛ لأنّه يخصّ الإمام الرضا؛ فهذه هي حقيقة الأمر.٢

  • ففي رؤية العارف، يوجد بُعدان لنزول عالم الكثرة؛ وذلك العارف الذي يحصر عشقه ومحبّته وتوجّهه بأجمعه في الله تعالى، كيف يُمكنه أن يرى آثار الحقّ الوجوديّة منفصلة عنه؟! فتجده يقول في نفسه: إنّ الله هو الذي خلق هذا الشيء، وإرادته تعالى قد تعلّقت به، أ فيكون بوسعي أن أوجّه نظري للحقّ، وأصرف هذا النظر عن آثاره؟! لأنّ الذي يعشق المحبوب يعشق حتّى آثاره الخارجيّة، مهما كانت هذه الآثار.

  • وعليه، فإنّ الرؤية الأولى التي يمتلكها العارف تجاه المظاهر الخارجيّة في عالم التعيّنات ـ سواء كانت ملائكة، أو صورًا مجرّدة، أو إنسًا، أو جنًّا، أو شياطين، أو أفرادًا مؤمنين أو كفّارًا، أو حيوانات، أو جمادات ـ هي رؤية تعلّقية وربطيّة بالذات الإلهيّة تكون فيها هذه المظاهر عبارة عن وجودات متنزّلة من مقام إرادة الله تعالى ومشيئته. فحينما تدخل إلى منزل رفيقك الذي يكون له ثلاثة أولاد؛ اثنان منهم صالحان، والثالث يرتكب حتّى المحرّمات، هل تقوم من مكانك، وتضربه أمام صديقك؟ أم أنّك تكون ملزمًا بمراعاة الأدب، وتسعى لإبراز الاحترام تجاه [صديقك]؟ لأنّه أعلم بحاله، ولا يُمكنكم التدخّل في شؤونه؛ كما أنّ ما يقتضيه إظهار الأدب والاحترام في حقّه أن تحترم أيضًا جميع أولاده بسبب انتسابهم له؛ أجل، إن لجأ هو إلى العقاب ألف مرّة، فلا يوجد أيّ إشكال؛ لكن، إذا رأى أنّ أحدًا يُقلّل من احترام ابنه، فإنّه سينزعج منه، بل قد يعمد إلى مجابهته؛ ولهذا، تجده يقول: عليّ أنا معاقبته! وإذا قمت أنا بذلك، فلا يوجد أيّ إشكال؛ لكنّكم لا تستطيعون أنتم ولا غيركم القيام بهذا الفعل.

    1. لمزيد من الاطّلاع على هذه المسألة، راجع: گلشن اسرار (فارسي)، ج ۱، ص ۸۷.
    2. راجع: الروح المجرّد، ص ٢۱٤.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

21
  • العارف الحقيقيّ هو الجامع بين مقام الباطن والوحدة ومقام الظاهر والكثرة

  • فحينما ينظر العارف إلى الذات الإلهيّة، لا يُمكنه أن يتصوّر آثارها الوجوديّة بنحو منفصل عنها؛ فهذه هي الرؤية والواقعيّة الأولى.

  • وأمّا الواقعيّة الثانية المكنونة في نفس العارف، فتتمثّل في المحافظة على عالم الظاهر والكثرة، ومراعاة قوانينه؛ إذ حينما يأتي إلى هنا، يجد عالم الإرادة والاختيار، وعالم الأمر والنهي والشريعة، ومسألة الطاعة والعصيان، والتي ترتبط كلّها بعالم الاختيار؛ وبسبب هذه الواقعيّة، فإنّه يُميّز بين الناس على مستوى العلاقات الظاهريّة؛ فيحترم الإنسان الصالح، ويُعاقب المذنب، ويعاتبه، ويُوبّخه بنفس ما كان يفعله الأئمّة والأنبياء.

  • فيسعى العارف للمحافظة في نفسه على هذين البعدين الواقعيّين؛ أي في عين أنّه يُعاتب ويُعاقب ويُوبّخ، فإنّ تلك الجهة التعلّقية والربطيّة تكون محفوظة في داخله؛ ومع أنّه يتوفّر على هذه الجهة التعلّقية والربطيّة، فإنّنا نجده يُراعي تلك الجهة الظاهريّة، والمسائل التي تتحقّق في هذا العالم؛ لأنّ إرادة الله ومشيئته اقتضتا ذلك؛ وهو تعالى الذي أراد أن يتبلور هذا اللحاظان، بنحوٍ يكون كلّ واحد منفصل عن الآخر، لكنّه موجود في جانبه.

  • وهنا، نرى أنّ الإنسان الواصل إلى مرتبة الكمال ومقام البقاء والجمع هو الذي يتمكّن من تحقيق هذين البعدين بنحو أكمل؛ وليس هو سوى ذات الإمام عليه السلام؛ ويأتي بعده، العارف الذي استطاع أن يُحقّق أكثر هذه المسألة؛ أي أنّ أكثر ما نلحظه في المراتب الكماليّة للعرفاء هو مراعاة هذين البُعدين.۱

  • فنرى في بعضهم سيادة البُعد الأوّل والحيثيّة الأولى؛ لكن، في البعض الآخر لا يكون لهذا البُعد الأوّل أيّ ترجيح بتاتًا؛ وهم علماء الظاهر الذي لا يرون إلاّ الظاهر، من دون أن يكون لديهم أدنى اطّلاع على الباطن، بحيث قد يكون لأحد الأفراد باطن جيّد، لكنّ عمله الظاهريّ غير مناسب، فيلجؤون إلى مواجهته بسبب اقتصار رؤيتهم على الظاهر؛ وكمثال على ذلك، كم كان هناك من العلماء الذين أعدموا بعضًا من أهل العرفان لأنّهم كانوا في الظاهر من الصوفيّة! لماذا حصل ذلك؟ لأنّهم حصروا نظرهم بالظاهر، ولم يكونوا ينظرون بتاتًا للبُعد الآخر؛ فلأنّه كان عالِمـًا ظاهريًّا، ولم يكُن يرى باطن الإنسان وضميره وحقيقته، ورآه في الظاهر فقط يقوم بعمل غير مناسب إلى حدّ ما، فإنّه يقول: «انتهى الأمر، لقد صار صوفيًّا، ووجب قتله!»؛ أو سمعه يتلفّظ بكلام لم يفهمه، فإنّه يقول: «بما أنّني لم أفهم كلامه، فإنّه نطق بالكفر! وبما أنّه تحدّث عن حقيقة الوجود ووحدته، فإنّه كافر!»؛ حسنًا، أنا أيضًا أقول بوحدة الوجود، فيجب إذن أن تحكموا عليّ بالنجاسة والكفر، وتُعدموني! افعلوا ذلك! لماذا تخافون إذن؟! لقد كان العلاّمة الطباطبائيّ، والملاّ صدرا، ووالدي، والكثير من العظماء يعتقدون بوحدة الوجود؛ أ لم يكُن المرحوم آية الله الخمينيّ يقول بوحدة الوجود؟! لقد كان يقول بها؛ وبالمناسبة، فقد كان يطرح مسائل عرفانيّة مثيرة للاهتمام كثيرًا، حيث أذكر أنّه تطرّق في تفسيره لسور الحمد إلى العديد من هذه المسائل الراقية؛ وهي مسائل سامية وبديعة حقًّا.٢ فهل علينا ـ والحال هذه ـ أن نقول: كلّ هؤلاء محكومون بالنجاسة؟! وبكلّ هذه السهولة؟! ثمّ نأتي بعد ذلك، ونُصدر الحكم بالإعدام والقتل والنفي! حسنًا يا عزيزي، إذا كنت لا تفهم المسألة، فاذهب، وزد من فهمك! وبذلك، ستُريح نفسك، ولا تتجنّب تعريض الآخرين للأذى والبلاء!

    1. لمزيد من الاطّلاع، راجع: لبّ اللباب، ص ٥.
    2. تفسير سورة الحمد، الفصل الثالث.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

22
  • وبينهما متوسّطات؛ أي أنّ مراعاة البُعدين الأوّل والثاني، والجمع بين الظاهر والباطن هي المسألة التي تُؤدّي إلى كمال الإنسان؛ فإذا فُتحت عين العارف لرؤية الحقيقة الربطيّة، وليس فقط كان يشعر بهذه المسائل، وتأتي على ذهنه عن طريق الفلسفة والعرفان النظريّ، ولم يكُن مقتصرًا على رؤية تلك الحقيقة الربطيّة، بل أضحى يُشاهدها في وجوده، كيف له أن يغضّ الطرف عن ربط هذه المخلوقات ببارئها تعالى؟! والمشكلة تكمن هنا في أن يتمكّن العارف من مراعاة الظاهر في نفس الوقت الذي يكون فيه يُشاهد هذه الحقيقة، حيث يُشكّل هذا الأمر الفارق بين العرفاء في السلوك وكيفيّة الارتباط بعالم الخارج والظاهر؛ فإذا كنّا نرى طائفة منهم تصدر منهم بعض الأمور، فإنّ ذلك يعود إلى عدم وصولهم بعدُ إلى مقام الجمع التامّ، ومرتبة الكمال المنشودة.

  • ومن هنا، حينما كان المرحوم السيّد الحدّاد يقول: «العالم بأجمعه مظهر للحّق»،۱ فإنّ نظره كان موجّهًا للبُعد الأوّل من المسألة، بحيث لا يتعارض هذا النظر مع بُعدها الثاني؛ وبالمناسبة، فقد كان دقيقًا جدًّا في حفظه للظاهر، ومراعاته للأحكام والقواعد الظاهريّة، وطاعته لأوامر المجتهد الذي يُقلّده، إلى درجة لم أرها في غيره أبدًا؛ فذات يوم، كنت أتوضّأ، فمسحت على رجلي وهي مرفوعة إلى الأعلى ـ وقد أقوم بذلك أحيانًا الآن ـ ، فكان ينظر إليّ، ثمّ قال لي: «يا سيّد محمّد محسن، حينما تكون رجلك مرفوعة لأعلى، وتمسح عليها، قد تتحرّك هذه الرجل؛ ولهذا، عليك أن تضعها في مكان، وحينما تُصبح ثابتة، امسحها!»؛ فكان يُراعي الأمور إلى هذا الحدّ! فما أريد أن أقوله لكم هو: لا ينبغي على الإنسان أن يلتفت إلى بعض عبارات العرفاء، ويغفل عن بقيّة شؤونهم؛ ففي عين تلك النظرة التي كانت لهم بخصوص تعلّق كافّة الموجودات بالذات الإلهيّة، وعشقهم لهذه الموجودات بسبب ذلك التعلّق، فقد كانوا يُراعون ظاهر المسائل بنحو أتمّ، ويهتموّن بهذا الأمر إلى درجة تفوق حتّى المرجع الذي يُقلّدونه.

  • دور الشهود في إدراك حقيقة التوحيد

  • سؤال: هل يُمكن إدراك وفهم مسائل نظير مسألة الخير والشرّ أو الأمر بين الأمرين من دون بلوغ مقام الولاية أو شهوده؟

    1. الروح المجرّد، ص ٥٦۷.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

23
  • جواب: لا يُمكن بتاتًا! كان المرحوم السيّد الحدّاد والشيخ الأنصاري رضوان الله عليهما يقولان:

  • يستحيل التوصّل إلى حقيقة التوحيد ومغزى الأمر بين الأمرين بلا عرفانٍ، ومن دون بلوغ هذا التوحيد، بل ولا يُمكن ذلك بتاتًا!۱

  • فلا يستطيّع أيّ واحد إدراك هذه المسألة، مهما كان المرتبة الفلسفيّة والعقلانيّة التي بلغها؛ أجل، قد تُطرح عبارات لتقريب المسألة إلى الذهن، كما بوسعنا امتلاك تصوّرات عنها، وتقريب أنفسنا إليها قليلاً؛ هذا، وقد كان لي حديث بخصوص هذه المسألة مع العديد من أهل الفلسفة والعرفان النظريّ ـ لا الشهوديّ ـ والكلام والحديث، فكنت أكتشف في الأخير أنّهم يُعانون بأنفسهم من الاضطراب والتشويش؛ ولو أنّهم كانوا في البداية يتحدّثون عنها بضرس قاطع، وبيقين، وتأكيد بالغ؛ لكن، في نهاية المطاف، حينما كنت أغيّر العبارات، وأُقلّب البحث، كنت ألتفت إلى أنّ هناك مجرّد أمر ظاهريّ منتقش في نفوسهم، وأنّهم لا يملكون أيّ اطّلاع على هذه المسألة؛ وبالمناسبة، كانت لي مباحثات كثيرة جدًّا مع المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه بخصوص هذه المسألة، لكنّني توقّفت عن الكلام عنها بعد مرور فترة من الزمان؛ لأنّني وجدت أنّ حقيقة مسألة التوحيد مستعصية على الفهم من دون شهود؛ كما أنّنا من جهة أخرى لا نستطيع التوصّل إلى المسائل التي كان يطرحها، وذلك باعتبار المسائل الذهنيّة المسيطرة علينا؛ وفي الأخير، وفي الشهور الأخير من حياته، عمد بنفسه ذات يوم إلى إثارة ذلك الموضوع، وقال لي:

  • فيما يخصّ الكلام الذي طرحته بخصوص هذه المسألة، فإنّ الحقّ معك؛ لكن، ليس من يسمع كمن يرى ويتذوّق!

  • اشتراك الأئمّة عليهم السلام (والعارف بالتبع) في الولاية على كلّ ما سوى الله تعالى

  • سؤال: لقد ذكرتم مسألة تختصّ بشهود العارف، واتّحاده بحقيقة الإمام المعصوم عليه السلام، وتتعلّق أيضًا بالفيوضات التي تصله من تلك الجهة؛ هل بوسعنا القول: يُمكن للعارف إدراك هذه الفيوضات بحسب ما يملكه من سعة وجوديّة؛ أي بمقدار ما يقتضيه وجوده، وبميزان مظهريّته للاسم الذي تجلّى فيه، لا أنّه يتّحد معها بنحو تامّ؟ أي: حينما يحدث للعارف اتّحاد بالإمام، هل يتمكّن من الحصول بالضبط على نفس إدراك الإمام المعصوم لاسم الله «المحيي» مثلاً، أم أنّه يُدركه بمقدار سعته الوجوديّة وحسب؟ وإذا كان الإمام هو الذي يتحقّق كلُّ عالم الخلق وحياة هذا العالم بطرفة عين واحدة منه، هل يتّحد العارف مع هذه الولاية بمقدار تلك السعة الوجوديّة، أم بمقدار سعته الوجوديّة هو وحسب؟

    1. افق وحى (فارسي)، ص ٦٤۸.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

24
  • جواب: لاحظوا معي، إنّ المراد من الولاية هو تجلّي جميع الأسماء والصفات الإلهيّة بنحو أتمّ؛ وأمّا مسألة السعة الوجوديّة، فهي متحقّقة في كافّة عالم الوجود والتجلّيات الإلهيّة بنحو مختلف، بحيث لا يكون لكلّ موجودين اثنين سعة وجوديّة واحدة؛ إلى درجة أننّا نجد اختلافًا في ذلك بين نفسي رسول الله وأمير المؤمنين؛ أي أنّ نفس رسول الله أوسع من نفس أمير المؤمنين عليه السلام.

  • سؤال: كيف يُمكننا الجمع بين هذا الأمر، وبين آية ﴿أَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ﴾۱؟

  • جواب: سأسعى الآن لبيان ذلك؛ فالمسألة التي ذكرتُها [آنفًا] مرتبطة بسعتهما الوجوديّة من حيث كيفيّة تجلّي الذات الإلهيّة في عالم التعيّنات، وكيفيّة تشكّل الموجودات وصياغتها في قوالب معيّنة؛ وعلى سبيل المثال، يوجد إلى جانبي الآن كوبان؛ وهما متماثلان؛ بينما هذا الإبريق حجمُه أكبر من حجم الكوبين؛ ومع ذلك، فإنّ هناك حقيقة واحدة موجودة داخل هذه الأشياء؛ ألا وهي الماء؛ مع أنّ الماء الموجود الآن في هذا الكوب جاء من هذا الإبريق. إنّ الحقيقة الموجودةَ في كافّة المعصومين على منوال واحد، والمتحقّقةَ فيهم من دون أيّة زيادة أو نقصان، ولو بمقدار رأس إبرة تتمثّل في: تلك الإرادة والمشيئة المتعلّقتين بالتصرّف في عالم الوجود، والمتحقّقة في رسول الله، وأمير المؤمنين، والإمام السجّاد، والإمام الباقر، والإمام الرضا عليهم السلام من دون أدنى اختلاف؛ أي أنّ بقاء حقيقة عالم الوجود واستمرارها يحصلان بواسطة نفس الإمام عليه السلام.

  • ومن هنا، فإنّ لنفس الإمام عليه السلام الولائيّة إشرافًا علّيًا على ما سوى الله؛٢ أي أنّ حياة كلّ ما سواه تعالى قائمة بنفس الإمام والولاية؛ وهذا هو المراد من الواسطة هنا؛ فإذا ألغى الله تعالى مقام الواسطة هذا، فإنّ العالم سيصير بأجمعه عدمًا؛ وعليه، فإنّ هذه الواسطة هي عبارة عن نفس الإمام عليه السلام، حيث لا يوجد أيّ فارق بين المعصومين من هذه الناحية؛ أجل، يبقى الحديث عن بقيّة أولياء الله تعالى، وسنتطرّق إليه لاحقًا.

  • افرضوا من باب المثال أنّ هناك مجموعة من الأطبّاء يختلفون من حيث السنّ والقدرة، لكنّهم يشتركون جميعًا من ناحية العلم بالمرض والتعرّف عليه؛ بمعنى أنّه إذا أحضروا مريضًا للطبيب الأوّل، فإنّه سيُقدّم نفس التشخيص الذي سيُقدّمه الطبيب الثاني إن عرضوا عليه ذلك المريض، من دون أدنى فارق، ولو بمقدار رأس إبرة؛ كما أنّ الدواء الذي يصفه كلّ واحد منهما لن يكون مختلفًا، ولو بمقدار شعرة واحدة، بحيث يُعيّن الطبيبان نفس الجرعة من هذا الدواء؛ لكن، يبقى أنّ هذين الطبيبين مختلفان عن بعض من حيث شخصيهما؛ فيكون أحدهما قويًّا، والآخر ضعيفًا.

    1. سورة آل عمران، الآية ٦۱.
    2. كتاب عنوان البصري (فارسي)، ج ۱، ص ۸٩ و۱۱٥.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

25
  • وعلى سبيل المثال، هل كان الإمام السجّاد يتوفّر على نوع القدرة ذاتها التي كانت لدى أمير المؤمنين؟ كلاّ! فلا دليل على ضرورة امتلاكه لنفس القدرة الظاهريّة، لا الولائيّة؛ إذ لا كلام لنا بتاتًا عن هذه القدرة الولائيّة، حيث يقول أمير المؤمنين:

  • ما قَلَعتُ بابَ خَيبَرَ بِقُوَّةٍ جسمانِيَّةٍ، بل بِقُوَّةٍ رَبّانِيَّةٍ.۱ 

  • أي: إنّني لم أقلع باب خيبر بهاتين اليدين؛ إذ كيف يتسنّى لي ذلك، مع أنّ أربعين رجلاً لم يتمكّنوا من تحريكها؟! بل، حتّى لو أتى "رستم دستان"٢، لما قدر على ذلك! وحينئذ، هل يصحّ لنا القول: بما أنّ الإمام السجّاد عليه السلام إمام، فإنّ قدرته ينبغي أن تكون أكبر من قدرة رستم؟! كلاّ، لا يصحّ ذلك؛ فالقدرة الظاهريّة للإمام ليست بهذا النحو؛ إذ يُحتمل أنّه إذا أصيب الإمام بالحمّى، وانتابه مرض ما أن يعرضه نفس العجز والوهن الذي يعرضنا نحن، ولا يتمكّن من رفع هذا الكوب؛ فلا يوجد في مسألة الظاهر أيّ تباين من هذه الناحية؛ أجل، يبقى أنّ مسألة الباطن هي مسألة مختلفة.

  • اختلاف الأئمّة عليهم السلام من حيث الظاهر

  • ومن هنا، ينبغي علينا التفريق بين هاتي المسألتين؛ فإذا قلنا إنّ الإمام عليه السلام يمتلك الولاية، فإنّ هذه المسألة تختلف عن مسألة الظاهر، وعن الشؤون الجسديّة للإمام؛ ورُغم أنّ الأئمّة يتوفّرون على حقيقة ولائيّة واحدة، فإنّ ذلك لا يكون مسوّغًا للقول إنّهم يشتركون جميعًا في الآثار الظاهريّة، وفي المظهر والملامح، بل كانوا عليهم السلام مختلفين من هذه الناحية؛ وحتّى أنّهم كانوا يتميّزون عن بعضهم من حيث الجمال الظاهريّ؛ فكان بعض الأئمّة أجمل من البقيّة؛ وحينئذ، هل لأنّهم أئمّة بأجمعهم، يجب أن يصير لهم جمال يوسف المصريّ؟! وهل لأنّ الإمام إمام، ينبغي أن نقول: عليه أن يكون أجمل من كافّة الناس؟!٣

  • لقد كان هناك فارق بين الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام من ناحية الملامح الظاهريّة؛ فكان الإمام الحسن أجمل من الإمام الحسين؛ كما كان الإمام السجّاد عليه السلام مختلفًا من هذه الناحية عن باقي الأئمّة، حيث كان لون عينيه أزرقًا، في حين أنّه لا أحد من الأئمّة غيره كانت عيناه زرقاوتين؛ لأنّه كان ـ طبقًا لأشهر الأقوال ـ ابن شهربانو بنت يزدجرد؛٤ فوافق أمّه، ولم يُوافق الإمام الحسين من هذه الجهة؛ حسنًا، فالله تعالى هو المسؤول عن هذا الفعل؛ وهو يقول: إنّني أرجّح من الناحية الظاهريّة كفّة الأمّ، أو كفّة الأب، أو لا أرجّح أيًّا منهما، فأجعله يمتلك لذاته أجواءً [وملامح] خاصّة! فلا يوجد لهذه المسائل أيّ دور في صياغة الإمامة.

    1. بحار الأنوار، ج ٥٥، ص ٤٦.
    2. بطل أسطوريّ فارسيّ خياليّ. المترجم
    3. لمزيد من الاطّلاع، راجع: معرفة الإمام، ج ۱٥، ص ٢٤٣ ـ ٢٤٩.
    4. الإرشاد، ج ٢، ص ۱٣۷.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

26
  • إنّ إمامة الإمام تكمن في حقيقة اتّصال عالم الوجود بالذات الإلهيّة؛ وهي ما نعبّر عنه بالولاية المطلقة؛ فهذه هي حقيقة الإمام التي لا تختلف في كلٍّ من رسول الله وإمام الزمان، ولو بمقدار رأس إبرة؛ ويبقى الكلام هنا في وجود مسألة أخرى تتمثّل في السعة الوجوديّة التي يتوفّر عليها المعصومون عليهم السلام من حيث مقدار ما يُفاض عليهم من الأسماء والصفات الإلهيّة الكلّية، حيث نجدهم يختلفون في هذه المسألة (والسعة)؛ أي أنّ لرسول الله سعة وجوديّة تتمتّع بصبغة عِلِّية بالنسبة لباقي الأئمّة؛ ممّا يعني أنّ نفس النبيّ الأكرم علّة لوجود الأئمّة، ولِتَشَكُّلِ نفوسهم عليهم السلام؛ فلا يصحّ القول: إنّ رسول الله يوجد إلى جانب أمير المؤمنين، والسيّدة الزهراء، والإمام الحسن، والإمام الحسين ـ إلى أن نصل إلى إمام الزمان ـ في درجة واحدة ومستوى واحد من السعة الوجوديّة؛ لأنّ النبيّ الأكرم علّة بالنسبة لأمير المؤمنين؛ وهما مع السيّدة الزهراء علّةٌ بالنسبة للحسنين؛ والإمام الحسين عليه السلام علّةٌ بالنسبة لباقي الأئمّة؛ وهذا من حيث السعة الوجوديّة؛ ومن هنا، نُلاحظ في الروايات أنّ الأئمّة يختلفون فيما بينهم من ناحية هذه السعة.۱

  • السعة الوجوديّة والاستمداد من الأسماء الكلّية وجه آخر لاختلاف الأئمّة عليهم السلام (والعارف بالتبع)

  • أجل، يبقى أنّ مسألة الولاية التكوينيّة وتحقّق كلُّ عالم الخلق وحياة هذا العالم بطرفة عين واحدة من الإمام هي مسألة واحدة في كلّ الأئمّة، من غير أدنى اختلاف؛ أي: كما أنّ الرسول تصدق عليه مقولة: «لولا عنايته لما استقام حجر على حجر»، فإنّ إمام الزمان تصدق عليه أيضًا المقولة ذاتها؛ لكنّ كلامنا هنا يدور حول: أ لم يوجد أيّ فارق بين الأئمّة من ناحية استمدادهم من الأسماء والصفات الإلهيّة الكلّية؟! وهذا الأمر لا علاقة له بعالم الوجود بتاتًا! فلنفرض أنّ الله تعالى لم يخلق في الأساس عالم الوجود؛ فهل كان ـ والحال هذه ـ سيمتلك الاسم العليم أم لا؟ وهل كان سيتوفّر على الاسم القدير أم لا؟ وهل كان سيحوز على الاسم الرؤوف والعطوف وبقيّة الأسماء الكلّية، وهكذا الشأن بالنسبة للصفات الإلهيّة، أم لا؟ فالآن، بما أنّ كلّ عالم الوجود واقع تحت هيمنة إمام الزمان، هل بوسعنا القول: ما عسى نفس الرسول أن تكتسبه؟! فهل إنّ نفس النبيّ الأكرم قد توقّفت الآن، وكان بإمكانها استجلاب الأنوار الإلهيّة في زمان حياته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحسب؟! أم لا؟ فكما أنّه لا حدّ للذات الإلهيّة، ولا نهاية، ولا رسم، بحيث إنّها تتمتّع بمقام الإطلاق، وتأبى عن الحدّ، ولا يُمكنها أن تصل إلى مرتبة تنتهي عندها، فكذلك الشأن بالنسبة لاسم الله العليم؛ إذ لا يُمكن أن يصل علم الله تعالى إلى مستوى يقف عنده؛ فما دام الإله إلهًا، فإنّ علمه لا ينتهي.

    1. لمزيد من الاطّلاع، راجع: المراقبات، ص ۸٢.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

27
  • لاحظوا معي هذه الأوراق الموضوعة أمامكم، كم يبلغ عددها؟ عشرة أوراق، أو عشرون ورقة؛ لكنّها في نهاية المطاف ستنتهي؛ وهكذا الشأن بالنسبة للأسئلة التي تُريدون طرحها؛ فإنّها ستقف في الأخير عند موضع معيّن إن شاء الله تعالى؛ لأنّها لم تصل إلى مرتبة الإطلاق؛ غير أنّ علم الله تعالى لا ينتهي ما دام الإله إلهًا؛ فهل يُمكننا أن نتصوّر بأنّ حياة الله تعالى ستنتهي في آن من آنات الدهر (وليس حتّى الزمان)؟ كلاّ، لأنّ هذا التصوّر في حدّ ذاته باطل؛ ففي نفس الوقت الذي تعمل فيه الحياة الإلهيّة على ضمان بقاء الحقّ تعالى، فإنّ علم الله تعالى لا ينتهي؛۱ ممّا يعني أنّه: ما دام الإله يُمارس ألوهيّته، فلن يتمكّن الرسول من الإحاطة بعلمه تعالى.

  • لماذا كان النبيّ يقول باستمرار: «ربِّ زِدني فيكَ تَحَيُّرًا»؟ وما هو منشأ زيادة الحيرة؟ فإذا كان الإنسان جاهلاً بمسألة معيّنة، هل سيُصاب بالحيرة تجاهها؟ كلاّ؛ لأنّ الجاهل لا يفقه منها شيئًا. إنّ الحيرة تحصل من أمرين اثنين: الأوّل هو العلم بمسألة معيّنة، والثاني هو الشعور بالجهل تجاه الأعلى منها؛ فهذان الأمران يُساهمان في حيرة الإنسان. لقد قال رسول الله: «ربِّ زِدني فيكَ تَحَيُّرًا» في اللحظات الأخيرة من عمره الشريف، وبعد أن بلغ مقام ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾،٢ وصار خاتم النبيّين، وطوى كافّة مراتب البقاء والفناء بأتمّ الوجوه وأكملها؛ فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني: إنّنا لا زلنا في بداية الخطّ! فهذه المسألة هي التي كنت أقصدها حينما تحدّثت عن السعة الوجوديّة، ولم أكن أقصد مسألة الولاية على العالم؛ لأنّها أقلّ شيء وهبه الله تعالى للأئمّة والمعصومين، حيث لا يوجد بينهم أدنى اختلاف من هذه الناحية.

  • وأمّا ما يتميّز به وجود الرسول عن الأئمّة، فيتمثّل في أمورٍ لا يتحمّلها فكرنا ولا قابليّتنا، وتتعلّق بمقام علم الله تعالى وقدرته وحياته؛ كما أنّ أمير المؤمنين كان مختلفًا من هذه الناحية، وكذلك الإمام الصادق؛ فمن جهة السعة الوجوديّة، كان لكلّ واحد من الأئمّة وجود مغاير لوجود الآخر؛ وأمّا من جهة الولاية على عالم الوجود، فقد كانوا سواءً؛٣ وسيكون شأن هذه المسألة شأن ما ذكرته سابقًا عن إشراف عدّة أطبّاء على مرض واحد؛ فلو جاء النبيّ، لشخّص نفس المرض، ولو جاء إمام الزمان، لشخّص المرض ذاته، ولوصف عين الدواء الذي يصفه النبيّ.

    1. أي أنّ الحياة الإلهيّة تعمل على ضمان بقاء هذا العلم أيضًا. المترجم
    2. سورة النجم، الآية ٩.
    3. لمزيد من الاطّلاع، راجع: الروح المجرّد، ص ٥٦٩؛ معرفة الإمام، ج ۱٥، ص ٢٤٣؛ كتاب عنوان البصري (فارسي)، ج ۱، ص ۱۸۷.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

28
  • فمن ناحية الولاية، كما أنّه لا يوجد أدنى فارق بين رسول الله والأئمّة، لا يوجد أيّ فارق أيضًا بين إمام الزمان والعارف الذي له نفس متّصلة [بالإمام]؛ غاية الأمر أنّ وجود هذا العارف وولايته تكونان داخلتين تحت ولاية الإمام عليه السلام؛ فالولاية واحدة لا تتثنّى؛ أي أنّ: ولاية إمام الزمان هي عين ولاية الإمام الحسن العسكريّ، وهي عين ولاية الإمام الهادي، وهي عين ولاية الإمام الجواد، إلى أن نصل إلى الرسول الأعظم؛ وتحت هذه الولاية، تقع ولاية العارف الذي اتّصل بذات الإمام عليه السلام وولايته؛ لا الذي لم يبلغ درجة التمام والكمال، ولا زال يقبع في بعض المراتب النفسيّة، ولم يحصل على التجرّد التامّ؛ أجل، فالعارف الواقع تحت الولاية هو الذي وصل من حيث العبوديّة والطاعة والانقياد إلى مرتبةٍ خرق فيها كافّة الحجب والعوالم، سواءً كانت ظلمانيّة أو نورانيّة، وتحقّق بعبارة: «حَتّى تَخرِقَ أبصارُ القُلوبِ حُجُبَ النورِ، فَتَصِلَ إلى مَعدِنِ العَظَمَةِ».۱ فمعدن العظمة عبارة عن نفس الولاية أو التوحيد؛ إذ لا يوجد بينهما أيّ اختلاف من هذه الجهة؛ والمراد من العارف الواصل إلى معدن العظمة هو العارف الذي وصل إلى معدن عظمة إمام الزمان؛ وهنا أيضًا، لو أراد هذا العارف أن يُفني العالم بأجمعه، لفعل ذلك بمجرّد طرفةٍ من عينه، حيث لا يوجد أيّ اختلاف من هذه الناحية [بينه وبين الإمام عليه السلام].

  • وأمّا فيما يخصّ السعة الوجوديّة لكلّ من إمام الزمان عليه السلام والعارف من حيث إدراك الأسماء والصفات الكلّية، فقد يوجد بينهما فارق كما بين السماء والأرض؛ فشتّان بين العارف وبين إمام الزمان! لأنّ كلّ ما يحصل عليه العارف إنّما يحصل عليه من هناك؛ كما أنّ إمام الزمان يستمدّ ذلك من نفس الرسول الأكرم؛ ولهذا، يتعيّن علينا التفريق بين المسألتين.

  • فمسألة الإحاطة العلّية بكافّة عالم الوجود سواءٌ وفي مستوى واحد بالنسبة للمعصومين بأجمعهم؛ وفي أمر تربية الناس وإرشادهم، مثلما أنّ كلام الرسول حجّة، فإنّ كلام إمام الزمان حجّة بالدرجة ذاتها، ومن غير أدنى اختلاف؛ ولهذا، فإنّ التمرّد على إمام الزمان هو تمرّد على رسول الله؛ كما أنّ الانصياع لكلام إمام الزمان هو انصياع لكلام رسول الله، ولا يوجد أيّ فارق بينهما من هذه الناحية. ومثلما أنّ النبيّ كان في زمان حياته يسوق من ناحية ولائيّة وباطنيّة كافّة النفوسَ ـ الكافرة منها والمؤمنة ـ نحو كمالها الخاصّ، فإنّ الكافر يمضي الآن نحو كماله في الأسماء الجلاليّة، والمؤمن يسير باتّجاه كماله أيضًا لكن في الأسماء الجماليّة عن طريق نفس وجود إمام الزمان عليه السلام وولايته؛ فلا يوجد أدنى اختلاف من هذه الجهة [بين الرسول والإمام]؛ وأمّا إذا نظرنا للجهة الأخرى، فإنّنا نجد اختلافًا بين الموجودات، وأنّ الله تعالى لم يخلق موجودين متشابهين؛ فلجبرائيل وجود يختلف عن ميكائيل، ولكلّ واحد منهما وجوده الخاصّ، فيكون أحدهما أعلى والآخر أدنى؛ مع أنّهما يتوفّران معًا على اسم كلّي؛ فنجد هذا يمتلك البقاء والحياة الكلّيين، ويمتلك ذاك الرزق الكلّي، ويتمتّع الآخر بالتدبير الكلّي للعالم؛ ولهذا، لا ينبغي علينا الخلط بين هاتين الجهتين.

    1. إقبال الأعمال، ج ٢، ص ٦۸۷: فقرة من المناجاة الشعبانيّة.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

29
  • ولا يخفى أنّ كلامنا عن هذا الموضوع يستند إلى فهمنا القاصر والمحدود؛ وأمّا إذا أردنا الاطّلاع على حقيقة المسألة، فينبغي علينا أن نسأل [العظماء]؛ لأنّنا نفتقد الأهليّة لذلك.

  • وعمومًا، حينما أطرح هذه المسائل بين يدي الرفقاء والأحبّة، فإنّني أعوّل على كلّ كلمة منها؛ فلا يأتي على بالِكم ـ لا سمح الله تعالى ـ أنّني أطرحها من باب الانفعال والخضوع للإحساسات؛ كلاّ، فالأمر ليس بهذا النحو، بل إنّني أسعى من خلال هذه العبارات والكلمات إلى عرض معتقدي ومذهبي؛ وإذا لاحظتم وجود مسائل في كتاب أسرار الملكوت واجَهَت عددًا من الاعتراضات من قبل بعض المعارف مفادها أننّي لم أراعِ فيه بعض الاعتبارات، وطرحتُ كلامًا بخصوص بعض الشخصيّات بطريقة مخالفة لما جرى عليه الأمر إلى حدّ الآن، فإنّني أجبت بالآتي: أنا لا أقصد في كلامي إهانة أيّ أحد أبدًا، ولا أسعى إلى تخطئة الآخرين؛ إذ لربّما أرى نفسي أقلّ منهم، من دون أن يكون في ذلك أيّة منقصة بالنسبة إليّ؛ لأنّنا نسعى كلّنا نحو الكمال؛ فإذا قلت إنّ علمي أقلّ من فلان، فليس في ذلك أيّة معرّة بالنسبة لي، بل على الإنسان أن يسعى بنفسه نحو كماله؛ فأنا لا أدّعي أنّني فوق الجميع، وأنّ علمي أكثر من الكلّ؛ لأنّه ادّعاء باطل، وأنا أخطّئ كلّ من يدّعي ذلك؛ فما معنى أعلى وأدنى؟! إذ كلنّا نعتقد أنّ العلمَ رزقٌ من الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾،۱ فأيّ معنى لأن نأتي، وننسب هذه المسائل لأنفسنا، ونُباهي بها الناس، ونفتخر بها عليهم؟!

  • في زمان المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ، كنت متواجدًا بأحد المجالس [برفقته]، فأبدى أحدُهم تعجّبه بغزارة معلوماته، فقال له بكلّ هدوء: «﴿قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾،٢ وبوسعك أنت أيضًا أن تطلب ذلك من الله!»؛ فكان يريد تنبيهه لأمرين:

  • الأوّل، أنّ ما أملكه لم يأت منّي، بل الله تعالى منحني إيّاه؛ والثاني، أنّه بمقدورك طلب ذلك من الله مثلما فعلتُ، وسيهبك تعالى إيّاه؛ إذ لا يفرق الأمر بالنسبة إليه.

  • أهمّية وضع كلّ شخصيّة في مكانتها الخاصّة

  • فهذا ما أعتقده بخصوص الموضوعات التي أطرحها؛ لكنّ المسألة الأخرى التي ينبغي الحديث عنها هي أنّني سعيت في هذا الكتاب لبيان حقيقة العرفان والتوحيد والعارف؛ وبالتالي، لا يُمكنني أن أمزح هنا، ولا أستطيع أن أحمل مذهبي على محمل الهزل، وليس بوسعي هنا أن أتراجع، وألجأ إلى الصلح؛ هل انتبهتم؟! فحينما نرى البعض يقيم المجالس لزيد أو عمرو أو هذا أو ذاك، ويعقد له المؤتمرات، ويتّحدث عنه بكلّ مبالغة وغلوّ؛ مع أنّني متيقّن أنّه ليس بذلك النحو، فإنّني لا أستطيع غضّ الطرف عن هذا الأمر! أجل، قد يكون رجلاً فاضلاً، وعالمـًا، ومن أهل التقوى والتهجّد والصلاة؛ فجميع هذه المقامات محفوظة، غير أنّ الشيعيّ ملزم بالمحافظة دائمًا على المنطق حين المقارنة [بين الشخصيّات].

    1. سورة المائدة، الآية ٥٤.
    2. سورة طه، الآية ۱۱٤.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

30
  • فالشيعيّ يضع أمير المؤمنين في مكانته الخاصّة، ويضع عمّارًا في مكانته الخاصّة، ويضع أيضًا الزبير وعائشة في مكانتهما الخاصّة؛ فيجعل كلّ واحد في منزلته الخاصّة، حيث يضع الإمام الصادق في مكانته الخاصّة، ويجعل أصحابه في مكانتهم التي يستحقّونها.

  • لقد شهد المذهب الشيعيّ العديد من العظماء والمفاخر؛ كأمثال العلاّمة الحلّي، والشيخ المفيد، حيث كان هؤلاء من الأعاظم؛ لكنّ المهمّ بالنسبة إلينا هو أصل المذهب؛ فالإمام الصادق هو الذي يهمّنا، لا العلاّمة الحلّي ولا المجلسيّ؛ لأنّ الشيعيّ بحصر تفكيره بالإمام الصادق، وليس بالعلاّمة المجلسيّ. لقد كان العلاّمة المجلسيّ عالمـًا، ومن دواعي فخره أن يكون تلميذًا للإمام الصادق؛ مع ذلك، فإنّ له العديد من الأخطاء؛ فأيّ إشكال في ذلك؟! فجميع هؤلاء سيكونون موضعًا للرحمة والغفران والشفاعة والمقامات العالية ببركة الأئّمة عليهم السلام.۱

  • يوجد أحد عظماء الشيعة وأولياء الله تعالى اسمه المرحوم الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ النجفيّ؛ وبالمناسبة، فإنّ سنّه لم يكن كبيرًا، وتوفّي في الثانية والأربعين من العمر، حيث عاش بعد زمان المرحوم الشيخ الأنصاريّ، وتتلمذ على يد المرحوم الميرزا حسن الشيرازيّ، والميرزا حبيب الله الرشتيّ، وكان رجلاً عظيمًا جدًّا، وذا علم غزير، ومن أهل الفلسفة، كما ألّف كتابًا في التفسير٢ يظهر منه أنّه رجل عالم، وليس بالشخصيّة الهيّنة؛ وفي أواخر حياته، عرضت له بعض الحالات الروحيّة، فتخلّى عن المسجد؛ مع أنّه كان مرجعًا لكلّ مدينة أصفهان ـ ولا يخفى أنّه غير الشيخ محمّد حسين الغرويّ الذي كان متأخّرًا عنه ـ، وخصّص أوقاته للبكاء والابتهال والعزلة والابتعاد عن الناس، فحصلت له مكاشفات وحالات روحيّة عجيبة؛٣ وكان المرحوم الوالد يقول:

  • قال لي المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازيّ: «كلّما قرأت قدرًا ـ صفحة واحدة أو صفحتين ـ من هذا التفسير ليلاً، انتابتني حالة لا أتمكّن معها من النوم إلى الصباح».٤

  • وأنا بدوري أطالع هذا الكتاب، بل إنّني كنت أطالع قليلاً منه للتوّ قبل أن تأتون عندي، حيث يحكي أسلوبه عن كونه كتابًا مفعمًا بالحياة، وتسري فيه الروح.

  • وكان شقيقه المرحوم الشيخ نور الله الأصفهاني مشهورًا، ومن المناضلين، كما كان أيضًا من مراجع أصفهان؛ وقد كتب مقدّمة على ذلك التفسير مدحه فيها كثيرًا، وكان يقول فيها عنه: «روحي له الفداء!»؛ كما ذكر هناك أنّ:

    1. لمزيد من الاطّلاع، راجع: الشمس الساطعة، ص ٥۱.
    2. مجد البيان في تفسير القرآن. المترجم.
    3. لمزيد من الاطّلاع على أحوال المرحوم الأصفهاني مسجد شاهي رضوان الله تعالى عليه، راجع: نور ملكوت القرآن، ج ٢، ص ۷۸.
    4. نور ملكوت القرآن، ج ٢، ص ۷۸.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

31
  • أحد الثقات حدّثه أنّه رأى بعد وفاة أخيه رسول الله في النوم، فقال له: هل الشيخ الأنصاريّ ناج؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: نعم، هو ناج بشفاعتنا.

  • ثمّ قال له: وهل المرحوم الشيخ محمّد باقر الأصفهانيّ نالته الشفاعة؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ناج بمحبّتنا.

  • ثمّ قال له: وماذا عن الشيخ محمّد حسين، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّه قد ورد على الله، فأعطاه كلّ ما أراد.۱

  • لقد كان الشيخ الأنصاريّ رجلاً عظيمًا، غير أنّ له درجة معيّنة؛ لأنّ هذا الطريق لا يحصل بمجرّد دراسة الفقه والأصول، حيث من المؤكّد أنّه كان أفضل فقهيًّا وأصوليًّا من الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ، وليس لدينا أيّ شكّ في ذلك؛ لكنّ الكلام في أنّ بلوغ المقامات الروحانيّة له حدّ؛ وكلّ واحد يصل إلى حدّه الخاصّ؛ ولهذا، على الشيعيّ أن يضع كلّ واحد في مكانته الخاصّة؛ فيضع العلاّمة الطباطبائيّ في منزلته التي يستحقّها، ويجعل تلامذته في مكانتهم التي يستأهلونها؛ وهكذا بالنسبة لهذا الفرد وذاك، فيضع كلّ واحد في موضعه الخاصّ.

  • إنّ مهمّتي تنحصر في عدم التقصير عند التعريف بالمدرسة والمذهب؛ وحينئذ، قد يُعجب ذلك أحدًا، ولا يُعجب الآخر.

  • كما أنّ ذلك الرجل الذي كنت أتحدّث عنه يدعو لي الآن في ذلك العالم، ويقول: «جزاك الله خيرًا!»؛ لأنّه اطّلع على الحقائق هناك، ولم يعُد موجودًا في عالم الاعتباريّات حتّى يُسرّ أو لا يُسرّ؛ بل هو الآن يلعن الذي يُجاملون، ويكتمون الحقائق في هذه الدنيا، طمعًا في جني المنافع؛ ولو كان هؤلاء الذين يُنحّون الإمام الصادق جانبًا، ليظفروا بالدنيا ومنافعها، يمتلكون عين البصيرة، لسمعوا لعنات ذلك الرجل وآهاته وأنّاته لأجلهم، ولأدركوها؛ فيا ليت أعينهم كانت مفتوحة!

  • فحينما ألّفت ذلك الكتاب، قلت في نفسي: لا يُمكنني أن أمزح هنا؛ لأنّ من يقف أمامي هو صاحب الزمان! وإذا كنت أستطيع أن أمزح مع كلّ أحد، فإنّني لا أستطيع أن أمزح مع إمام الزمان، أو الإمام الصادق؛ إذ لا يُمكن العبث مع هؤلاء، أو التغاضي؛ فلو سعينا إلى التخلّي عنهم، والمحافظة على شخصيّة الناس، لصرنا نتلاعب بالمذهب!

    1. مجد البيان، ص ۱٦.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

32
  • ولهذا، على الإنسان أن يتحدّث عن الأخطاء العقائديّة التي يرتكبها البعض، لكن، من دون إهانة أو شتم؛ وأنا لم أعمد إلى البوح بأسرار حياة الناس؛ إذ ما علاقتي أنا بذلك؟! ولم أسع إلى ذكر عيوبهم الشخصيّة والمكنونة؛ لأنّ ذلك حرام؛ لكن، إذا رأيتُ أنّه ورد في كلام فرد ـ باعتباره مبلّغًا دينيًّا ـ ، أو في كتابه الحديثُ عن مسألة تتعارض مع التشيّع؛ ألا أكون مكلّفًا بتسليط الضوء عليها؟! فإذا لم يتناسب ذلك مع شخصيّته، فلا يهمّ، مهما حصل؛ لأنّني لا أستطيع أن أظلّ ساكتًا، وأرى أحدهم يذكر في كتابه: «أبو حنيفة من مفاخر الإسلام!»۱؛٢ ولا يسعني أن أظلّ ساكتًا في مقابل الإمام الصادق! بل أنا مسؤول أمام الإمام الصادق عليه السلام، أعجب ذلك أحدًا، ألم يُعجبه؛ وأنا بدوري، إذا ذكرت في كتابي مسألةً مجانبة للصواب، يتوجّب على الآخرين أن يجيبوا عنها؛ فلا يوجد هنا أيّ فارق؛ لأنّني قد أخطئ أيضًا؛ لكن، إن لجأنا إلى التغاضي عن بعض الأمور في سبيل المصالح والمنافع الدنيويّة، فبأيّ شيء سنتميّز حينئذ عن أهل السنّة؟! لأنّهم قاموا بالعمل ذاته؛ وبالتالي، لن نكون نحن أتباعًا لأمير المؤمنين!

  • الإمام أصل والوليّ الكامل فرع

  • وحتّى أنّني أشكلت بنفسي على بعض المسائل التي طرحها المرحوم العلاّمة حينما لم يكن قد بلغ تلك المراتب العالية، وصرّحت بذلك؛ أجل، يبقى أنّه لم يكُن قد وصل في ذلك الوقت الذي ذكر فيه هذا الكلام إلى تلك الحقائق، حيث كان يبلغ آنذاك فرضًا الثلاثين أو الخامسة والثلاثين أو الأربعين من العمر؛ لكن، حينما رأيته ذكر مسألة خاطئة، فإنّني قلت: «إنّها مجانبة للصواب، والأمر ليس بهذا النحو»؛ إذ لا يُمكننا أن نمزح في هذه الأمور مع أيّ أحد!

  • يأتي الآن عندي بعض الأصدقاء، ويقولون لي: «يا سيّدي، نريد الذهاب إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا، وزيارة والدكم»، فأقول لهم: ماذا؟!! ماذا قلت؟! هل قلت: زيارة الإمام الرضا ووالدكم؟! ستكون مخطئًا إن جعلت أحدًا في مقابل الإمام الرضا؛ والذي يذهب إلى مشهد بِنِيَةِ زيارة الإمام الرضا ووالدي زيارته باطلة، فليس هناك إلاّ الإمام الرضا، وانتهى الأمر! وينبغي أن تكون الزيارة له وحسب؛ أجل، إذا صادف، ومررت بالقرب من قبره، فاذهب إلى هناك، واقرأ سورة الفاتحة؛ فلقد كان من دواعي فخر والدي أن يوصي بدفنه أسفل قدم الإمام الرضا؛ وحينئذ، تأتي أنت، وتقول: زيارة الإمام الرضا ووالدك! ما معنى هذا الكلام؟!

    1. اسلام و مقتضيات زمان (فارسي)، ج ۱، ص ۱۰٤؛ اسلام ونيازهاى زمان (فارسي)، ج ۱، ص ٦٦؛ خدمات متقابل اسلام و ايران (فارسي)، ص ٥۸٥؛ مجموعة آثار الشهيد مطهّري (فارسي)، ج ٢۱، ص ۸۱.
    2. لمزيد من الاطّلاع على هذه المسألة، راجع: أسرار الملكوت، ج ٣، ص ٥۷ و۱٢٢.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

33
  • فحقيقة الأمر تكمن في أنّه علينا اتّباع التشيّع، والخضوع للإمام وحسب؛ وأمّا بالنسبة لأولياء الله تعالى، فمهما كانت الدرجة والمكانة اللتان وصلوا إليها، فهذا أمر يخصّهم؛ وأنا بدوري، كلّما تشرّفت بالسفر إلى مشهد، إذا كان حالي يسمح، فإنّني أذهب بعد الزيارة للجلوس عند قبر المرحوم الوالد، وأقرأ الفاتحة إمّا عن بُعد أو قُرب؛ وإذا رأيت تواجد بعض الناس هناك، فإنّني لا أقترب؛ وإذا لم يكن هناك أحد، فإنّني أتقدّم للأمام، وأجلس، وأقرأ الفاتحة؛ وأمّا إذا كان حالي لا يسمح، فإنّني لا أذهب إلى قبره، بل أقرأ الفاتحة من داخل الحرم، وأعود للمنزل؛ فهذه هي المدرسة التي علينا الخضوع لها؛ وهنا تكمن حقيقة الأمر.

  • وعليه، فإنّني ناظر إلى كلّ جملة وكلمة سطّرتهما في هذا الكتاب، ولا يُمكنني أن أرفع يدي، ولو على كلمة واحدة منه؛ وبوسعكم أن تُطالعوه، حيث ستُلاحظون الأمور الذي أشرت إليها في آخره؛ فلا تتصوّروا أنّ المسائل التي ذكرتها إنّما ذكرتها هكذا من تلقاء نفسي، بل لاحظت فيها مسألة أنّه لا يجوز لنا التنازل عن الحقّ والواقع: «قُل الحقَّ ولو على نفسِكَ»؛۱ إذ لا يوجد ما هو ألذّ وأعذب وأكثر جاذبيّة من الاعتراف بالحقّ.

  • فلو سعينا لتجميل شخصيّة الأفراد، وتنميق صورتهم، لصنعنا منهم تمثالاً، ولم نُبيّن شخصيّتهم [الحقيقيّة]؛ ولهذا، علينا المحافظة على المرتبة التي يحتلّها الرجال العظماء، مهما كانت هذه المرتبة؛ وأمّا إذا عمد الإنسان ـ لا سمح الله ـ إلى عرض شخصيّة الأفراد بنحوٍ يُؤدّي إلى وقوع الناس في الخطأ والانحراف بسبب طاعتهم وانقيادهم لهؤلاء الأفراد، وهيمنة شخصيّتهم على نفوسهم، فإنّ مسؤوليّة ذلك ستقع على عاتق هذا الإنسان؛ ومن هنا، علينا القول: «كان فلان إنسانًا يمتلك هذه الأفكار الحسنة، ويتوفّر في الوقت ذاته على هذه الأفكار المنحرفة»؛ فإذا كان هناك من يقول: «فلان حسين الزمان، وعلاّن عليّ الزمان»، فإنّه على الإنسان تحديد موقفه منه؛ أي أنّه رجل صالح، لكن بمستواه؛ ولهذا، لا يُمكنه أن يكون أسوة، وعلى الإنسان أن ينظر إلى كلامه بتمعّن.

  • وإذا كنّا نسمع البعض يقول: «إنّ ما يكتبه بعضهم صحيح مائة بالمائة، وينبغي القبول به جملة وتفصيلاً»، فإنّ كلامهم مجانب للصواب؛ إذ ينبغي على كلّ واحد أن ينظر بتدبّر وتمعّن في كتابات الآخرين؛ فإن وجد قسمًا منها منسجمًا مع المذهب، يقبل به؛ وإن رأى قسمًا منها يُعاني من الانحراف، يُنحّيه جانبًا؛ مع أنّنا ندعو للناس، ونرجو من الله تعالى أن يغفر لهم ويرحمهم، لكن، علينا في الوقت ذاته ألاّ نُصغي لكلامهم، بل نُصغي لكلام الإمام الصادق والعارف الإلهيّ؛ لأنّ أولئك الناس لا يستطيعون الأخذ بأيدينا في ذلك العالم، وهم منشغلون هناك بملفّهم الخاصّ.

    1. من لا يحضره الفقيه، ج ٤، ص ۱۷۷؛ بحار الأنوار، ج ۷٤، ص ۱۷٣.

الوليّ الكامل بين الاستمداد من الحقّ والولاية على الخلق - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثالثة

34
  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.