2

العارف وتحقّقه بالتوحيد

نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

2375
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسممباني الإسلام

المجموعةنفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ

جلسات المجموعة(3 جلسة)

التوضيح

أهم محتويات المحاضرة:
- أهمّية مسألة العشرة وكيفيّة الارتباط بالناس في السير والسلوك؛
- اهتمام العرفاء البالغ بشؤون المسلمين؛
- زيارة الأئمّة عليهم السلام بين الظاهر والباطن؛
- تأثير كيفيّة النظر لحقيقة الولاية في سير الإنسان وسلوكه؛
- أهمّية الالتفات إلى البعدين العقليّ والشهوديّ في مسألة وحدة الوجود؛
- اختلاف العظماء من ناحية المراتب التوحيديّة الشهوديّة؛
- بيان لحقيقة التوحيد وكيفيّة تنزّل وجود الباري تعالي في مراتب عالم الوجود؛
- معاناة الأولياء للوصول إلى حقيقة التوحيد؛
- رؤية العارف لظهور إمام الزمان عليه السلام وغيبته؛
- علّة عدم اعتناء الأولياء بخوارق العادات والأمور غير المتعارفة.
و...
/۳٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • العارف وتحقّقه بالتوحيد

  • نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

  •  

  • حوار مع سماحة

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

2
  •  

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  •  

  •  

  • أهمّية مسألة العشرة وكيفيّة الارتباط بالناس في السير والسلوك

  • سؤال: حاول الإخوة في هذه الجلسة أن يطرحوا معظم أسئلتهم حول المسائل المذكورة في كتاب الروح المجرّد؛ أي أنّنا نريد أن نسأل سماحتكم بالنظر إلى الأبحاث الموجودة هناك، وباعتبار الأسئلة التي تُثار أمامنا، أو التي تتطلّب كحدّ أقلّ بالنسبة إلينا مزيدًا من الشرح؛ فإذا أجبتم عنها بحسب ما ترونه مناسبًا، نكون لكم من الشاكرين.

  • ففي كتاب الروح المجرّد، ورد أنّ المرحوم القاضي كان يضنّ بالمرحوم السيد هاشم الحدّاد على الآخرين، ولم يكن يُرجع التلامذة إليه؛ وفي الواقع، كان يخصّه بنوع من الحماية؛۱ فهل يوجد سبب خاصّ لهذه المسألة؟ وهل يرجع ذلك إلى المعنويّات الخاصّة للمرحوم الحداد، أم أنّ هناك شيء آخر؟

  • جواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيِّدنا ونبيِّنا أبي القاسم محمّدٍ، ولعنةُ الله على أعدائهم أجمعين.

  • موضوع التربية والتزكية في المنهج العرفانيّ والسلوكيّ موضوع معقّد جدًّا، ولا يستطيع الجميع أن ينهض بأعبائه؛ فالوليّ الإلهيّ والعارف هو الذي لديه الإشراف الكامل، بل الإشراف العِلّي على مصالح الإنسان ومفاسده؛ يعني أنّ حقيقة نفس السالك حاضرة عند العارف والوليّ الكامل الإلهيّ بنحو الوجود العينيّ والنفسيّ، ولا يخفى عليه شيءٌ مِن أُمورِهِ، ممّا يكون ضروريًّا له، أو واجبًا عليه تركُه؛ ولذلك، فهو أعلم بما ينبغي فعله تجاه التلامذة والسلاّك.

  • والموضوع المهمّ الذي دائمًا ما كان أولياء الله تعالى يذّكرون به ويؤكّدون عليه تربويًّا، هو موضوع العشرة، والعلاقة مع الناس، والذي أشير إليه في حديث عنوان البصريّ، كما طُرحت بشأنه بعض المسائل في الروايات، بما في ذلك الروايات التي جاء فيها ما معناه: «قلّل من أصدقائك، وكن حريصًا ومنتبهًا في علاقاتك!»٢؛ وهذه مسألة مهمّة جدًّا؛ فالروايات التي تُشير إلى ضرورة اعتزال الخلق٣ كلّها حاكية عن أنّ الإنسان بحاجة في التربية والتزكية إلى التركيز الذهنيّ والنفسيّ، والانطواء على النفس، وحشد الانتباه؛ في حين أنّ الارتباط بالناس يبعثر أحوال الإنسان، كما أنّ التحدّث معهم ـ بل الكلام بشكلٍ عامّ ـ يشتّت باله؛٤ مثلما ورد في حديثٍ لحضرة لقمان: «يا بُنيَّ! إن كُنتَ زعَمتَ أنَّ الكلامَ مِن فِضَّةٍ، فإنَّ السّكوتَ مِن ذَهبٍ».٥ فقد تمّ التأكيد كثيرًا على هذا الموضوع في الروايات، كما نُهي بشكل أكيد في المنهج التربويّ للأولياء والعرفاء عن الإكثار في الكلام، ولو لم يكن لَغويًّا؛ وأمّا إن كان لغويًّا أو عبثيًّا أو محرّمًا، فلا مجال فيه للنقاش. وبشكل عامّ، فإنّ الأمر الذي يضرّ بالسالك كثيرًا هو عبارة عن الارتباط بالناس؛ لا سيّما إذا كانت لهم أفكار مختلفة وظروف مغايرة؛ إذ سيُؤدّي هذا التنقّلُ والارتباطُ إلى خروج الإنسان من تلك الوضعيّة وذلك الاستقرار النفسيّ الذي يُساعده على الحركة، إلى التشتّت والتفرّق، فيفقد حالة السكون والهدوء والاطمئنان؛ ممّا يستتبع أضرارًا كبيرة جدًّا.٦

    1. الروح المجرّد، ص ۱٣.
    2. لمزيد من الاطّلاع، راجع: الشيخ الصدوق، مصادقة الإخوان، باب من يجب اجتناب مؤاخاته.
    3. مصباح الشريعة، باب العزلة، ص ٩٩؛ جامع السعادات، ج ٣، ص ۱٩٤، العزلة.
    4. آيين رستگاری (فارسي)، ص ۱٦۰ ـ ۱٦۷.
    5. الكافي، ج ٢، ص ۱٦٤؛ بحار الأنوار، ج ٦۸، ص ٢٩۷.
    6. راجع: لبّ اللباب، ص ٩٩؛ آيين رستگاری (فارسي)، ص ۷۰.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

3
  • ولهذا، كان الأولياء يوصون تلامذتهم بشكل دائم أن: قلّلوا من رفقائكم بقدر ما تستطيعون، واحرصوا في باب العِشرة على هذه المسألة بقدر بوسعكم! حيث كان الأولياء يُؤكّدون دائمًا على هذا الأمر، وكذلك على اجتناب الشهرة، اللهمّ إلاّ في الموارد التي حثّ عليها الشرع، كصلة الأرحام وعيادة المرضى، أو في دائرة العلاقات المهنيّة، لكن بمقدار الضرورة، أو في نطاق الأمور الواجبة التي تُواجه الإنسان.۱

  • حينما كنت مقيمًا بمشهد، وقبل أن آتي إلى قمّ لكي أقيم بها مجدّدًا، شرعت مع بعض الأصدقاء ببحث حول شرح القصيدة الخمريّة لابن الفارض؛ لكن، بعد مرور الجلسة الأولى، أحسست بأنّ هذه القضيّة قد لا يكون فيها صلاحي؛ وبالمناسبة، فإنّني رأيت بعد فترة الظهر منامًا يحكي عن الأمر ذاته. وكنت عادةً أذهب في النهار عند المرحوم العلاّمة، وألتقي به، ثمّ أذهب بعد ذلك إلى الدرس، حيث كان تُعقد دروسنا في مدرسة المرحوم آية الله الخوئيّ بمشهد؛ فما إن دخلت الغرفة، وسلّمت عليه، حتّى التفت إليّ، وقال:

  • يا سيّد محسن! إن كنت تُريد خير الدنيا، فاحرص على أن تبقى مغمورًا! وإن كنت ترغب في خير الآخرة، فاحرص على أن تظلّ مغمورًا!

  • أي أنّه أشار إلى نفس المنام الذي كنت رأيته قبل ساعة أو ساعتين من ذلك، ونبّه على الأمر ذاته، حيث كان الأولياء يُؤكّدون دائمًا على هذه المسألة.

  • هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ النفوس تختلف في كيفيّة تأثّرها بهذه المسألة؛ إذ هناك بعض النفوس التي بوسعها ـ إلى جانب نحوٍ يسير من الارتباط بالآخرين ـ أن تُحقّق لذاتها حالة التركيز إلى حدّ ما، في حين أنّ هناك نفوس لا يُمكنها ذلك.

  • وبكلّ تأكيد، فإنّ هذا المسألة كانت تضطلع بدور أساس في طريقة سير المرحوم السيّد الحدّاد الذي كان بعيدًا عن الارتباط بالناس؛ علاوةً على أنّه كان من الممكن أن تظهر منه بعض الأحوال التي تُثير انتباه الآخرين، ممّا سيُفضي لانجذاب الناس إليه، وملئهم وقته، وقضائه في الكلام، والرفقة، والجلسات، و...؛ فلا يتمكّن بذلك من جني الفائدة التي يُمكنها تحصيلها من العزلة والتركيز على الذات. لكن، بما أنّ المرحوم القاضي كان ـ بطبيعة الحال ـ مطّلعًا على مستقبل تلميذه، وطريقة سيره، فإنّه كان يعلم أنّ هذا النحو من الارتباط والعشرة سيكون بكلّ تأكيد مضرًّا بمستقبله، ولن يبلغ بتربيته إلى مستوى الكمال؛ ولهذا، كان يُحذّره من الارتباط ببقيّة الناس، اللهمّ إلاّ بمقدار الضرورة الملحّة؛ فكان كلامه مع بقيّة تلامذته من باب الصدفة والاتّفاق، وحتّى أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول: 

    1. آيين رستگاری (فارسي)، ص ۱٦٩؛ الكافي، ج ٦، ص ٤٤٤، باب كراهية الشهرة.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

4
  • حينما كنت في قمّ مع المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ (فقبل أن يرحل إلى النجف، كان خاضعًا لتربية المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ، وكان يأخذ منه البرامج والأذكار، حيث توجد هذه الأذكار والدساتير التي كتبها آنذاك محفوظة في كتّيبه الصغير؛ وفيه: ذكر المرحوم العلاّمة هذه المسألة في اليوم الفلاني، وغيّر المرحوم العلاّمة المسائل بطريقة أخرى بعد مرور عدّة أشهر)، كان رضوان الله تعالى عليه يذكر أحيانًا اسم المرحوم السيّد الحدّاد، ويتحدّث عن علوّ مقامه ودرجاته، وكان يقول أيضًا: «لم يكن له به ارتباط كبير؛ إذ كنّا في النجف، وكان هو بكربلاء، فلم نكن نراه إلاّ نادرًا؛ كأن يأتي أحيانًا إلى النجف الأشرف لأجل الزيارة، فنلتقي به في الصحن أو في منزل المرحوم القاضي صدفةً».۱

  • سؤال: من جملة المسائل التي تُنقل عن المرحوم السيّد الحدّاد، أنّه كان يقول لبعض الأفراد الذي يقضون أيّامهم دائمًا في رحلات الزيارة، وينتقلون من هذه الزيارة إلى تلك: «لا يحتاج الأمر إلى كلّ هذه الأسفار إلى مكّة وكربلاء! انظر قليلاً إلى نفسك، وتأمّل في ذاتك، لكي تعثر على نفسك؛ فتجد حينئذ الله!».٢

  • هل يُمكن أن يكون هذا الأمر حاكٍ عن منهج سلوكيّ خاصّ ومسلك معيّن تعلّمه من أستاذه، ويتحرّك على أساسه؟

  • جواب: أجل، بوسعنا القول إلى حدّ ما أنّ هذا الأمر من فروع ولوازم تلك المسألة التي حدّثتكم عنها؛ وهي مسألة تحظى بأهمّية بالغة في تربية السالك وتزكيته وتجرّده؛ أي مسألة تركيز البال، والتي تنتفي وتضمحّل بواسطة العلاقات والارتباطات، ليحلّ مكانها التشتّت والتفرّق.

  • فحينما تستيقظون في الصباح، تكونون غير مطّلعين بتاتًا على الأحداث التي ستقع في ذلك اليوم، ويكون ذهنكم خاليًا ومغلقًا بشكل كامل؛ وفي هذه الحالة، إن بقيتم في منزلكم من الصباح إلى المساء من دون أن تفتحوا الباب، حتّى لو طرقه أحدهم، فإنّك ستظلّون غير عالمين بما يقع خارج البيت، وبالأمور التي حصلت هناك: كأن تقع حادثة سير، أو يموت أحدهم، أو يولد آخر، أو يكون هناك عزاء، أو يحدث اكتظاظ وازدحام وتجمّع، أو تكون هناك ضوضاء وتناقل للأخبار؛ وافرضوا أيضًا أنّكم لم تفتحوا المذياع، ولم تسمعوا أيّة أخبار، بل قضيم يومكم بهذا النحو داخل المنزل؛ فحينئذ، قارنوا بين حالكم هذا، وبين حالكم في اليوم السابق الذي خرجتم فيه من البيت، وتواصلتم فيه مع الناس، حيث سترون كم فرقت صلاتكم عن صلاة اليوم السابق! وكم اختلفت تخيّلاتكم وتصورّاتكم! وكم تغيّرت أفكاركم عن اليوم السابق! وستشعرون بحالة في أنفسكم كأنّها أوجدت فيكم هذا اليوم نوعًا من الاتّزان والرزانة والتماسك والاستقرار والثبات والطمأنينة والهدوء؛ وهي حالة لم تكونوا تشعرون بها في اليوم السابق بسبب الارتباطات.

    1. راجع: الروح المجرّد، ص ۱٢.
    2. الروح المجرّد، ص ٦٦٢.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

5
  • ولهذا، كما أشرت آنفًا، ينبغي على السالك أن يقتصر في ارتباطاته على المقدار الضروريّ؛ فلا يستمع إلى الأمور التي لا تُفيده في شيء؛ إذ لو فتحتم المذياع، واطّلعتم على وقوع زلزال في المكان الفلانيّ، فأيّة علاقة ستكون لكم بذلك؟! وكذلك الشأن إذا اندلعت حرب في البلد العلاّني، وتساءلتم: ما الذي ينبغي عليّ فعله الآن؟! أو أُطيح برئيس الجمهوريّة الفلاني، أو سقطت الحكومة العلاّنية، أو ارتفع سعر البنزين، أو انخفض سعر النفط، أو حصل تذبذب في سعر الشمندر، أو وقعت مظاهرات في المكان الفلاني، أو جرى اقتياد أحدهم إلى المحكمة وآخر إلى المشنقة، أو تمّت تبرئة فلان، أو ... . فإذا شاهدنا الآن هذه الأخبار، سنرى أنّ نسبة تسعة وتسعين بالمائة منها تتعلّق بأمور تفضي لزيادة التخيّلات والتوهّمات أكثر من أن تحتوي على أمور مفيدة؛ ولهذا، تجدنا حينما نؤدّي الصلاة، نُفكّر في أنّ البلد الفلاني اندلعت فيه مظاهرات؛ وحينئذ، أيّة منفعة ستُرجى من هذه الصلاة؟!

  • اهتمام العرفاء البالغ بشؤون المسلمين

  • فلأجل هذا الأمر، كان العظماء يقولون: «على الإنسان أن ينأى بنفسه عن الأخبار!»؛ مع أنّ ذلك لا يعني عدم اهتمام الإنسان بمصالح المسلمين والأمور المفيدة بالنسبة إليهم؛ لأنّهما مسألتان منفصلتان؛ وقد كان عظماء الدين وأولياؤه حريصين جدًّا على شؤون المسلمين، ومنتبهين كثيرًا لمصالحهم؛ فليس فقط أنّهم لم يكونوا نائين بأنفسهم عن هذه المصالح، بل كانوا منتبهين إليها وحريصين عليها. ففي لقاء جمع بين أحد أقاربنا، وبين المرحوم العلاّمة بمدينة مشهد، وذلك في السنوات الأخيرة من حياته ـ حيث كنت متواجدًا في تلك الجلسة ـ ، طُرحت في مطاوي الحديث مسألةٌ، فقال المرحوم العلاّمة في جوابه:

  • يا سيّدي! هل تعلم لماذا أتيت إلى مشهد؟ لقد رأيتُ أنّ الناس قاموا بالثورة، وقدّموا دماءهم وأرواحهم ودنياهم، وضحّوا بكافّة ما يملكون في سبيل الدين وبكلّ إخلاص، وأثبتوا عمليًّا التزامهم؛ فهذا ما فعله الناس؛ وحينئذ، ألا ينبغي علينا أن نُحافظ على ما قدّموا لأجله كلّ هذه التضحيات، ونشرح لهم هذا الهدف، ونُبيّن لهم ذلك المقصود؟ فلأجل ماذا قام هؤلاء الناس بذلك العمل؟ لكي يُبرزوا الإسلام في الساحة؛ حسنًا، أين هو الإسلام؟ وأيّ إسلام هو؟ ومن الذي عليه أن يُبيّن هذا الإسلام؟ فالإسلام يوجد فيه المعاد والإمامة والتوحيد والعرفان والفقه والتفسير.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

6
  • فحينما جاء هؤلاء الناس، وقالوا: «لقد تمكّنا من التقدّم إلى هذا المستوى، وضحّينا إلى هذا الحدّ، وتخلّينا عن ثرواتنا الحياتيّة إلى هذه الدرجة»، ألا يتعيّن علينا القيام بشيء حيال هذا الأمر؟!

  • فلأجل ذلك، هاجرت من طهران إلى مشهد، حتّى أحصل على وقت فراغ، لكي يتسنّى لي أن أبيّن للناس الإسلام الذي جاء به الرسول والأئمّة؛ فهذا هو سبب مجيئي إلى مشهد.

  • وأنا لم أر في حياتي أحدًا مثل المرحوم العلاّمة يولي كلّ هذه الجدّية والأهمّية لهدفه؛ وقد حصلت عدّة مرّات، كنت أجيء فيها إلى مشهد لأجل الزيارة بعد مرور ثلاثة أو أربعة أشهر؛ فكنت أهمّ بالدخول إلى الحجرة الخارجيّة، لكي آتي عنده، وكنت أراه جالسًا خلف الطاولة، فما إن كنت أقول: «السلام عليكم»، حتّى كان يقول لي من دون أن يرفع رأسه: «وعليكم السلام، أتيت؟ اذهب إلى الغرفة الداخليّة، وحينما أنتهي من الكتابة، سألتحق بك إلى هناك»؛ أي أنّه لم يكن يسمح لي حتّى بالسؤال عن أحواله؛ مع أنّني كنت غائبًا عنه طيلة ثلاثة أشهر؛ هل انتبهتم؟!

  • لقد كان يقول: 

  • إنّني أستمرّ في الكتابة إلى أن يَيْبَس أصبعي على القلم، فلا أستطيع طيّه.

  • وفي أحد الأيّام، أصيب بانفصال وتمزّق في الشبكيّة،۱ فقام رفيقنا وصديقنا الدكتور سجّادي بإجراء عمليّة جراحيّة على عينه؛ وفي تلك الليلة، حينما رجعت برفقته إلى طهران، قلت له في الطائرة: «يا سيّدي، يقولون إنّ سبب مرضك هذا يرجع إلى كثرة المطالعة وأمثال ذلك؛ أ فلا يُمكنك أن تُقلّل شيئًا من هذه المطالعة؟»، فقال لي:

  • يا فلان! اعلم أنّهم لو قطّعوا جسدي إربًا إربًا، لما رفعت يدي عن كلمة واحدة ممّا كتبته أو سأكتبه!

  • فهذا الكلام لم يصدر من إنسان عادي؛ أجل، لو صدر منّا نحن، فقد نكون حينئذ خاضعين للإحساسات والتخيّلات والتوهّمات، أو قد يتوفّر ذلك أحيانًا على صبغة وطابع دينيّين؛ غير أنّ ذلك الكلام صدر من وليّ إلهيّ! وفيما يخصّ الاهتمام الذي كان يوليه ذلك الرجل لنشر المعارف الإسلاميّة، يقول أحد الأصدقاء: بعد مرور ساعة واحدة من خروجه من المستشفى، ذهبت لعيادته، فوجدته حاملاً كتابًا، ومشغولاً بالكتابة، فقلت له: ما هذا يا سيّدي؟! اصبر قليلاً، ولو لليلة واحدة! فقال لي: «يا سيّدي! لم يمنحونا فرصة كبيرة، لم يمنحونا فرصة كبيرة!»؛ هل انتبهتم؟! فهؤلاء الأفراد لم يكن فعلهم عاديًا؛ أي أنّه لا يتناسب مع توهّمنا وتخيّلنا؛ فقد كانوا ملزمين بأداء مهمّتهم.

    1.  Retinal Detachment

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

7
  • فقلمهم يختلف عن بقيّة الأقلام، والمسائل التي يطرحونها مغايرة لبقيّة المسائل؛ فنحن نُطالع الكتب، ونُقيّم المسائل، ونركّبها، ونؤّلف بينها طبقًا لما هو موجود في هذه الكتب؛ وإذا كنّا أمينين جدًّا، فإنّنا لن نخون عند النقل، ولن نلجأ ـ لا سمح الله تعالى ـ إلى الزيادة أو النقصان، ونضيف بعض المسائل، وننقص البعض الآخر بحسب ما تقتضيه مصلحتنا.

  • فبعد وفاة المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، طلبت منّي إحدى الجرائد بمشهد أن أعطيهم مقالة؛ فكتبت مقالة مختصرة جدًّا في صفحتين، وشرطت عليهم ألاّ يقوموا بالتحريف أو إعمال الرقابة، لكي أمنحهم إيّاها؛ فالتزموا شرعًا بذلك؛ لكن، حينما نشروا تلك المقالة، رأيت أنّهم لجؤوا علاوةً على الرقابة إلى التحريف أيضًا! فهذه خيانة! لأنّني لم أكن أنا الذي أتى عندكم لكي يعطيكم المقالة، بل أنتم الذين جئتم إليّ؛ فأيّ تديّن هذا؟ وما هذا التبليغ للدين، بحيث إنّني أكتب العبارة بنحو معيّن، فتنشروها بنحو آخر؟! حسنًا، لا تنشروها، وقولوا: «يا سيّدي، إنّ هذه العبارة لا تنسجم مع ذوقنا ومصلحتنا، ولهذا، لن ننشرها!»؛ ففي هذه الحالة، سأقول لكم: «جزاكم الله خيرًا، لا تنشروها، فأنا أيضًا لست مصرًّا على ذلك، وأمّا بالنسبة للذين ينبغي إيصال هذا العلم إليهم، فسيصلهم [من طريق آخر]»؛ فإذا كنتم أنتم الذي أتيتم عندي، وطلبتم منّي بإصرار كتابة المقالة، وقدّمتم لي التزامًا شرعيًّا، فلماذا لجأتم للتحريف؟! أ فهل هذا هو الإسلام؟! أ هذا هو الإسلام الذي ينبغي علينا تبليغه؟! أم أنّه أمر مختلف؟ 

  • فأولياء الله تعالى ليسوا على هذه الشاكلة، ومنهجهم لا يقوم على أساس المصالح والمفاسد، بل على أساس الحقّ؛ ونحن غير ملزمين بتاتًا بأن يقبل الجميع بما نطرحه من مسائل؛ لأنّها من المسائل التي لا يقبل ـ بل لن يقبل بها ـ الجميع؛ فهكذا كان الأمر دائمًا؛ إذ لكلّ مسألة طلاّبها الخاصّين، وكلّ واحد لا يقبل بكلّ مسألة كيفما كانت؛ كما أنّنا لا نستطيع الإفصاح عن جميع المسائل، بل نقتصر على طرح ما يبدو لنا مناسبًا، غاية الأمر أنّ الناس مختلفون، وأذواقهم متعدّدة؛ فقد يتقبّله أحدهم بقبول حسن، وقد يمرّ عليه آخر من دون اعتناء، وقد يتعامل معه ثالث بحالة من النقد والاعتراض والتعنيف؛ لكنّنا في جميع الأحوال لا نستطيع أن نرفع أيدينا عن الحقّ؛ فالتخلّي عن الحقّ هو الذي يقصد به البعض مسألة الصلح، حيث وُجد هذا الصلح حتّى في صدر الإسلام. أ فلم يكن أولئك الذين تخلّوا عن أمير المؤمنين من أهل الصلح؟! فكانوا يقولون: «يا علي، تعال، وصالح! يا علي، تعال، وغضّ الطرف عن حقّك! يا علي، لقد انتهى الأمر! يا علي، ...»؛ حسنًا، أيّهما خسر؟ وأيّهما ربح؟ ففي نهاية المطاف، لم يعد موجودًا بيننا لا أمير المؤمنين ولا عمر؛ فكلاهما رحل إلى ذلك العالم، وكلاهما يعرض حسابه أمام الله تعالى؛ وهناك، يُعلم من خسر، ومن ربح، ومن كان يسعى نحو المصالح والدنيا، ومن كان يُريد الله تعالى، فجعل الحقّ نُصب عينيه على الدوام، واتّبعه؛ فهذه مسألة جوهريّة.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

8
  • يقول المرحوم العلاّمة:

  • أتينا إلى مشهد حتّى نُبيّن للناس الدينَ الذي ضحّوا بأنفسهم لأجله، ونعرضه أمامهم من دون نوايا أو أغراض نفسانيّة، بل بنحو خالص وطاهر ومطهَّر، ومن مصدره ومنبعه، وكما كان، وتجلّى في قلب عارف، ونقول لهم: هذا هو الدين!۱

  • وحينئذ، من شاء فليقبل، ومن شاء فليرفض؛ ومن شاء فليقبل بنسبة مائة بالمائة، ومن شاء فليقبل بنسبة تسعين بالمائة، أو ثمانين بالمائة، أو سبعين بالمائة.. كلٌّ بحسب مصلحته ومنفعته، وهمّته ورغبته؛ فكان هذا هو مراده.

  • وخلاصة القول، أنّ الارتباطات تتسبّب في وقوع الإنسان في حالة من التشتّت والتردّد، بحيث مهما قلّل من هذه الارتباطات، تضاعف تركيز ذهنه ووجدانه ونفسه، وزاد استقراره، وصار بوسعه قطع الطريق بنحو أسرع؛ لأنّ طريق السلوك يتمثّل في تخطّي الاعتباريّات؛ وبعبارة واحدة: إذا حذفت الاعتبار، ووضعت مكانه الواقع، فإنّك ستحصل على التوحيد؛ في حين أنّك إذا حذفت التوحيد، وجعلت محلّه الاعتبار، فإنّك ستحصل على الدنيا والكثرات؛ وأمّا إذا قرنت التوحيد بالدنيا، فإنّك ستظفر بمقام الجمع.

  • زيارة الأئمّة عليهم السلام بين الظاهر والباطن

  • ويُعدّ السفر أيضًا من الأمور المضرّة بالسالك؛٢ لأنّ زيادة الترحال والتنقّل من هذا المكان إلى ذاك يوقع الإنسان في التشويش والاضطراب؛ فكلّما كان الإنسان أهدأ وسفره أقلّ، زادت عنده حالة التركيز والاستقرار؛ هذا، مع أنّ البعض يظنّ أنّه بالذهاب إلى هنا وهناك، وتكرار الأسفار للأماكن المقدّسة سينكشف وينفتح له الطريق، ويحصل له فتح للباب؛ في حين أنّ الله تعالى ربّ الإنسان موجود في كلّ مكان: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه﴾،٣ وعلى الإنسان ألاّ يبحث عن الله تعالى في هذه الجهة وتلك!

  • ينبغي على الإنسان أن يبحث عن الله تعالى في نفسه وضميره؛ فإذا قام عوضًا عن التنقّل من هذا الموضع إلى ذاك، وكثرة السفر بالجلوس في مكانه، والسعي نحو الحقيقة، وإخلاص نيته، وتصفية ضميره، والتسليم لإرادة الحقّ تعالى من دون أن يحتفظ لنفسه بأيّ شيء، فإنّ الله تعالى سيأتي عنده في ذلك المكان؛ لأنّ الله تعالى موجود في نفس ذلك الموضع. فنحن لا نهتمّ بالمسائل الجوهريّة؛ وحينئذ، تجدنا نُديم الذهاب لزيارة الأئمّة، معتقدين أنّ فتح الباب سيحصل هناك. إنّ زيارة الإمام الرضا عليه السلام جيّدة جدًّا، ولها ثواب عظيم، وعلى الشيعة الذهاب لزيارته بشكل مستمرّ؛ لأنّ الزيارة بحدّ ذاتها من الشعائر، فلا ينبغي أن تخلو هذه الأماكن المقدّسة من الزوّار؛ نظير الحجّ الذي تُؤكّد الروايات على ضرورة عدم خلوّه من الحجّاج، بحيث إذا قلّ عددهم في سنة ما، يلزم على الحاكم الإسلاميّ أن يُرسل مجموعة منهم على نفقة الدولة الإسلاميّة، لكيلا يخلو بيت الله تعالى في أيّ وقت من الأوقات٤؛٥ إذ لا ينبغي أن يُترك الحجّ أبدًا، ولا يجب أن يتعطّل مهما كانت الظروف، بل يتعيّن أن يكون موجودًا على الدوام.

    1. راجع: الشمس المنيرة، ص ۱٤۱.
    2. آيين رستگاری (فارسي)، ص ۱٥٩؛ مهر تابناك (فارسي)، ج ۱، ص ٢٥٣.
    3. سورة البقرة، الآية ۱۱٥.
    4. الكافي، ج ٤، كتاب الحجّ، باب الإجبار على الحجّ، ص ٢۷٢؛ وسائل الشيعة، ج ۱۱، كتاب الحجّ، أبواب وجوبه وشرائطه، الباب ٥، ص ٢٣.
    5. لمزيد من الاطّلاع، راجع: أسرار الملكوت، ج ۱، ص ۱٣٤ و۱٣٩.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

9
  • فشأن زيارة المراقد المطهّرة للأئمة الأطهار عليهم السلام شأن الحجّ، وينبغي أن يتواجد بها الزوّار دائمًا، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أن يقضي الإنسان كلّ أوقاته في الزيارة، ويذهب للزيارة ويرجع بشكل مكرّر؛ لأنّ الإمام الرضا موجود في كلّ مكان؛ وهو موجود حتّى في المنزل، ولا ينحصر وجوده بمشهد وبنقطة معيّنة؛ حيث إنّ ولاية الإمام عليه السلام مقرونة ومعجونة بدم الإنسان ولحمه وجلده، ومخلوطة بنفسه وضميره وسرّه وروحه.

  • وقد أشرت في الجلسة السابقة إلى أنّ ولاية الإمام ولاية طبعيّة وعلّية؛ أي أنّ وجود كافّة الأشياء منطوٍ في وجوده عليه السلام على نحو المعلوليّة والمتأثّرية؛۱ والذهاب لزيارة الإمام والتوجّه للمراقد المقدّسة هو إظهار للخلوص، وإبراز للمحبّة تجاهه عليه السلام؛٢ فهل عند الشيعيّ أحد سوى الإمام عليه السلام؟! إذ لو أخذوا منّا الإمام، لكنّا صفرًا، ومجموعة أصفار! وإلاّ، لو تعلّق الأمر بالأحكام [الفقهيّة]، فإنّ السنّة أيضًا لديهم هذه الأحكام؛ ولو أنّها مختلفة عنّا؛ لأنّنا مثلاً نتوضّأ من الأعلى إلى الأسفل، في حين أنّهم يتوضّؤون من الأسفل إلى الأعلى؛ لكن، ألا يوجد أيضًا خلاف في الفقه الشيعيّ؟! أ ليست لدينا أيضًا خلافات كثيرة في باب الطهارات والنجاسات، ومختلف الأبواب الفقهيّة، حيث نجد أحدهم يقول بالحرمة، والآخر بالحلّية؟! حسنًا، فالسنّة أيضًا على نفس هذه الشاكلة.

  • إنّ خلافنا مع أهل السنّة لا يدور حول رسالة فقهيّة ورسالة لتوضيح المسائل، بل خلافنا ينصبّ على أنّنا نقول: «ينبغي أن يكون فوقنا إمام معصوم»؛ في حين أنّهم يقولون: «كلاّ، لا يلزم ذلك»؛ ومن نتائج هذه المسألة أنّه: مهما حصل من أمر، فإنّنا نقول: يجب أن يكون فوقنا أمير المؤمنين وحسب؛ وفي هذا العصر، ينبغي أن يكون فوقنا إمام الزمان؛ وبدونه عليه السلام، يكون الشيعيّ مساويًا للسنّي؛ وبدونه عليه السلام يكون الشيعيّ مجرّد خواء، وصفر! فهذه هي حقيقة التشيّع.

  • وأمّا أنّ واحدًا يُصلّي على التربة، والآخر على السجّادة، فليست مسألة مهمّة جدًّا؛ مع أنّه قد يوجد خلاف في نفس الحجر [الذي يجوز السجود عليه]، بل هو حاصل فعلاً؛ إذ يقول البعض بالجواز والبعض الآخر بالحرمة، حيث كنت متواجدًا بحرم أبي الفضل عليه السلام، ولم تكن هناك تربة، فصلّيت على حجر الرخام؛ وفي تلك اللحظة، جاء أحد العلماء، وقال: « أيّها السيّد، هل تُصلّي على الحجر؟!»، 

    1. راجع: فقرة تحت عنوان: (حقيقة الولاية في الرؤية العرفانيّة) من الجلسة الأولى.
    2. معرفة المعاد، ج ٣، ص ۱٥۱؛ ج ٤، ص ۱۷٦.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

10
  • قلت: وما المشكلة في ذلك؟!

  • قال: حرام!

  • قلت: «حرام؟! من أين حكمت بأنّه حرام؟

  • قال: هذا الحجر رخام

  • قلت: فليكن! لأنّ السجود على الأحجار المعدنيّة لا يحرُم، إلاّ إذا خرجت هذه الأحجار عن كونها من وجه الأرض؛ فالصلصال هو أيضًا من المعدنيّات، وحجر الجرانيت أيضًا من المعدنيّات؛ فلا يصحّ القول بعدم جواز السجود على كلّ معدن؛ إذ ما دام لم يخرج الحجر عن عنوان وجه الأرض، فلا يوجد أيّ إشكال في الصلاة عليه؛ وفي هذه الحالة، فإنّنا نجد أهل السنّة يعتقدون بجواز الصلاة على السجّاد؛ في حين أنّها مسألة ليست بالغة الأهمّية؛ لأنّ خلافنا معهم في جواز السجود على الصلاة أو الحصير أو غيرهما هو خلاف في حكم فقهيّ؛ وقد يستطيع الإنسان تنبيههم في هذا المجال، حيث كنت أسعى في أسفاري إلى تنبيه العديد منهم إلى هذا الأمر، فلا يعودون أبدًا إلى الصلاة على السجّاد، مع أنّهم كانوا من أهل السنّة.

  • تأثير كيفيّة النظر لحقيقة الولاية في سير الإنسان وسلوكه

  • فالمهمّ هو أنّنا نتّبع الولاية؛ في حين أنّهم لا يعترفون بها؛ هذا، مع أنّ الإنسان لن يصل إلى أيّ مقام من دون ولاية؛ فهذه هي حقيقة المسألة! إنّ الذي لا يشعر بإمام الزمان في داخله، ولا يرى نفسه في محضره صباحًا وظهرًا ومساءً ذهب عمرُه هباءً منثورًا؛ لأنّني إذا أحسست بوجود إمام الزمان، سأُخضع نفسي لقيادته؛ وإذا لم أحسّ به، سأضع زمام أموري بيدي، وأفعل كلّ ما يحلو لي؛ ولهذا، تجد كلّ من لا يرى إمام الزمان فوقه، أو يعدّه إنسانًا عاديًا، يتجرّأ على القيام بكلّ فعل؛ أ فلا يقولون ذلك الآن؟! يقولون: «لا يا سيّدي! من قال إنّ الإمام يعلم الغيب؟! ما هذا الكلام؟ فعلم الغيب مختصّ بالله تعالى فقط!»؛ كلاّ! فإمام الزمان يختلف عن بائع الشمندر، لكنّهم لم يُفرّقوا بين الأمرين.

  • فحينما أشاهد الإمام عليه السلام في نفسي، وأراه حاضرًا في وجداني، وأعلم أنّه مطّلع عليّ، فلن يكون بوسعي الإقدام على أيّ خطأ، ولن أتمكّن من ارتكاب أيّ فعل كيفما كان، وسأشعر بقليل من الخوف والوجل؛ وحينئذ، لن أكون محتاجًا للذهاب دائمًا إلى هذا المكان أو ذاك، وأداء الزيارات بشكل مستمرّ، وإدامة التردّد على أماكن أخرى، لكي أعثر على الإمام هنا أو هناك؛ لأنّني سأشاهد الإمام في وجودي، وإلى جانبي، وأقرب منّي إلى نفسي، بحيث أراه واقفًا ينظر إليّ، ويُراقبني هل سأذهب يمينًا أو يسارًا.۱ ولنفرض الآن أنّ هذه الآلة تلتقط صورنا وتُسجّل فيلمًا عنّا؛ فلو لم تكن هذه الآلة موجودة هنا، أو لم أكن أعلم بوجودها، لغططت في النوم؛ إذ لن يوجد أحدٌ يُسجّلنا، ولا آلة تُراقبنا، ولا رقيب يُشاهدنا، ولا أيّ شيء! لكن، بما أنّ هذه الآلة تترصّدنا، فإنّك تجدني منتبهًا لما أقوله وما لا أقوله، ولطريقة كلامي. أ لم تُشاهدوا البعض حينما يُريدون التقاط فيلم عنه، وكيف يُهيّئ نفسه لذلك، فيضع صورة في هذه الجهة، وجهازي حاسوب في الجهة الأخرى، ويجلس خلف الطاولة؟! فهو لم يكن سابقًا بهذا النحو، لكن، حينما يرى أنّ صورته ستُنشر، فإنّه يصير كذلك؛ وهذا كلّه بسبب آلة وفيلم ظاهريّ جعلانا نُضيّع أنفسنا إلى هذا الحدّ.

    1. كتاب عنوان البصريّ (فارسي)، ج ۱، ص ۸٩.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

11
  • وأمّا إذا نظرنا بنفس هذه النظرة، وبالطريقة ذاتها إلى أنّ وليّ عالم الإمكان.. الإمام عليه السلام حاضر وناظر فوقنا إلى حتّى غمض الجفون، ألن يختلف الأمر بالنسبة إلينا؟! و ألن تتغيّر أعمالنا؟! فلو كنّا نحسب حسابًا لإمام الزمان بمقدار ميكروفون يلتقط الصوت، أو نصفه، أ لن يُحدث ذلك فارقًا في أعمالنا وسلوكاتنا؟! سيفرق الأمر كثيرًا! فمع أنّ هذه الكاميرا لا تقرأ أفكارنا، بل تلتقط صورنا الظاهريّة فقط، إلاّ أنّك تجدنا خاشعين أمامها؛ في حين أنّ الإمام الذي يقرأ أفكارنا وأنفسنا، ويُطالع خيالاتنا قبل أن تظهر اعتبرناه نسيًا منسيًّا، وتخلّينا عنه، وأودعناه في جزر الخالدات؛ وكأنّ الله تعالى لم يخلق موجودًا كهذا له مثل هذا التدبير وهذه الولاية. فلو كنّا نستشعر في أنفسنا الخوف قليلاً، وحريصين على مستقبلنا، لحسبنا الحساب لإمام الزمان، ولو بمقدار كاميرا تسجيل كحدّ أقلّ.

  • فالله تعالى في كلّ مكان، وولاية الإمام في كلّ مكان، وهو عليه السلام يقول: لا يحتاج الأمر لأن تذهب إلى هنا وهناك، بل تقدّم إلى الأمام بصدق، لا بخداع؛ وحينئذ، سترى هل سآخذ بيدك أم لا. إنّ التقدّم بصدق أمر مهمّ جدًّا، ومسألة بالغة الأهمّية؛ فإذا لم يخدع الإنسان نفسه، ولم يُرجّح مصالحه الدنيويّة على الأخرويّة، ولم يغضّ النظر عن شؤونه جلبًا لرضا البعض، فإنّ الأمر سيختلف كثيرًا بالنسبة إليه.

  • فولاية الإمام عليه السلام حاضرة مع الإنسان، وتهديه؛ في حين أنّ الانتقال من هذا المكان إلى ذاك سيصرف الذهن عن الانجذاب للولاية والتوجّه إليها، ويُوجّهه نحو مظاهرٍ؛ نظير الكعبة التي يأتيها الناس، ويطوفون حولها مردّدين: «لبّيك» و «لا إله إلاّ الله»، أو حرم الإمام الحسين وحرم الإمام الرضا اللذين يأتيهما الناس، ويطوفون حولهما، ويبكون عندهما، فيقرؤون العزاء هناك، ويُؤدّون الزيارة؛ في حين أنّ الإمامين الحسين والرضا عليهما السلام في كلّ مكان؛ فهما حاضران في بيوتنا، وموجودان معنا؛ وهذا لا يعني أنّه لا يجب زيارتهما، بل ينبغي الذهاب إلى هناك؛ لكن، ليس بهدف أن يجد الإنسان الله تعالى هناك فقط؛ لأنّه شرك! فإذا سافرنا إلى مشهد بسبب أنّ حقيقة الإمام الرضا موجودة هناك؛ فإنّه شرك؛ لأنّ الإمام الرضا موجود في كلّ مكان، غاية الأمر أنّنا حدّدناه بقالب جسمانيّ، وحبسناه في قفص الجسد والظاهر والكثرة؛ في حين أنّه عليه السلام لا يُحوى في قالب، وحقيقته لا تُتضمَّن في إطار. فصحيح أنّ جسده موجود هناك، غير أنّ الإمام ليس هو ذلك الجسد؛ مع أنّه جسد مبارك وطاهر ومطهَّر. فالرضوخ لولاية الإمام يعني: عوضًا عن تذهب عند الإمام الرضا، أحضره، وأحضر إمام الزمان إلى بيتك؛ فهذا هو السلوك، وهذا هو الطريق إلى الله تعالى.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

12
  • لقد قال السيّد الحدّاد لذلك الرجل:

  • بدلاً عن كلّ هذه الأسفار إلى هذا المكان وذاك، أحضر [الله تعالى] إلى هنا! فلماذا تلجأ للانتقال دائمًا من هذا الموضع إلى ذاك، وتُلهي نفسك بذلك؟!۱

  • وحينئذ، سنجد الإنسان في هذه الأسفار ينظر إلى هذا المتجر وذاك، وتقع عيناه على أناس متعدّدين؛ وحينما يرجع إلى بلده، لن يكون حصل على فائدة كبيرة.

  • وتحضرني هنا قصّة عجيبة عن جدّي من أمّي رحمة الله تعالى عليه، فقد كان رجلاً صالحًا جدًّا، وهو الرجل بعينه الذي أشرتم إليه في ضمن حديثكم عن المرحوم السيّد الحدّاد، وكان من الصلحاء والعبّاد والعلماء، وكان زاهدًا ومنزّهًا كثيرًا عن الهوى، حيث أحفظ عنه العديد من الحكايات، وكان بحقّ رجلاً فاضلاً جدًّا، كما كان يُكنّ مودّة ومحبّة كبيرتين للسيّد الحدّاد. فقد ذهب في أحد أسفاره إلى الحجّ برفقة أقربائه وأقربائنا، ممتطين سيّارة شخصيّة؛ ويبدو أنّهم استقلّوا سيّارتين أو ثلاثة؛ فتعرّضت سيّارتهم لحادثة سير، وأصيب في صدره، فأحضروه إلى المدينة؛ ويبدو أنّه ظلّ مدّة معيّنة في أحد مستشفياتها، ولم يُوفّق لأداء الحجّ، ورجع. حينما عاد إلى إيران، ذهبت برفقة المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه لزيارته؛ فهو لم يتمكّن من أداء الحجّ؛ أو هكذا يبدو لي، لأنّ وضعه لم يكن مناسبًا لأداء الحجّ، إلاّ أنّني لا أعلم بنحو دقيق بتفاصيل المسألة، وهل استطاع القيام بالحجّ، أم أنّه استناب شخصًا آخر؛ غير أنّه كان واضحًا أنّ حاله لا يُساعد بتاتًا على أدائه؛ لأنّه كان يُعاني من المرض وبعض الكسور؛ لكن، مع ذلك، فقد كانت تبدو عليه حالة من الانكسار العجيبة والجذّابة، وتظهر منه حالة من التوجّه؛ وأذكر أنّه حينما رجعنا إلى المنزل، قال المرحوم العلاّمة لوالدتي:

  • لو أنّ الحاج السيّد معين سافر إلى الحجّ عشر مرّات، لما جنى مقدار الفائدة التي حصّلها في هذا السفر.٢

  • هل انتبهتم؟! فهذه الحادثة التي حصلت له، وساهمت في حصوله على نوع من التوجّه، ولطافة الروح، وتجرّد إجماليّ، لو أنّه ذهب إلى الحجّ عشر مرّات، لما تمكّن من الحصول على نفس تلك الفائدة التي اكتسبها منها؛ لأنّ الأمر لا يتمّ فقط بواسطة الحجّ، بل المهمّ هو أن يعلم الإنسان بالعمل الذي ينبغي عليه القيام به، وأن يكون في مقام التسليم، لكي يُحقّق رضا الله تعالى.

    1. الروح المجرّد، ص ٦٦٢.
    2. أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٣۱٣.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

13
  • فأويس القرنيّ لم يتمكّن من رؤية النبيّ، لكن، هل تخلّف عن القافلة؟ فكما تلاحظون، فقد جاء عند الرسول بعد مرور مدّة طويلة، غير أنّ الله تعالى قدّر الأمور، بحيث يأتي إلى المدينة من دون أن يلتقي به؛ ففعل الله تعالى يكون بهذا النحو! إذ خرج النبيّ من المدينة في نفس يوم مجيئه إليها؛ أ فهل كان النبيّ غير عالم بأنّ أويس يريد المجيء؟! كان عالمًا بذلك؛ فلماذا إذن رحل منها؟! لأنّ ذلك لم يكن في مصلحته؛ فكان عليه أن يأتي إلى المدينة، ولا يلتقي بالنبيّ، وينكسر قلبه، ويرجع؛ فيجني فائدة لم يكن ليجنيها لو أنّه رأى الرسول؛ ولهذا، فإنّه لم يلتق به صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى آخر عمره، غير أنّ نفسه كانت متحّدة بنفس النبيّ، إلى درجة أنّه حينما أصاب حجر سنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّ حجرًا أصاب أيضًا في اليمن أويسًا في السنّ ذاته، فكسره؛۱ فإلى هذا الحدّ كانا متّحدين! وهذا الذي نقول عنه: إنّه موحّد! فذلك الإله الموجود بالمدينة هو الإله بعينه الموجود باليمن، غاية الأمر أنّ هذا الموجود باليمن يقول له: ابق هنا، وأطع والدتك بدلاً عن رؤية النبيّ! وهذه مسألة عجيبة حقًّا!٢

  • فأحيانًا قد يكون لهذه الترحالات والأسفار إلى الأعتاب المقدّسة والزيارات طابع التلذّذ النفسانيّ أكثر من الطابع الولائيّ، بحيث يتعيّن على الإنسان الالتفات إلى هذه المسألة؛ وقد كان هناك أحد أصدقاء المرحوم السيّد الحدّاد يُكنّ له محبّة كبيرة جدًّا، غير أنّ أباه لم يكن راضيًا على زيارته له، أو كحدّ أقلّ أنّه كان يُريده التقليل من زيارته له؛ ومع ذلك، فإنّه كان يأتي عند السيّد الحدّاد، فيُعاتبه على ذلك بقوله: «لماذا جئت عندي، في حين أنّ أباك غير راض عن ذلك؟ لماذا أتيت؟»، فأولياء الله تعالى هم بهذا النحو؛ أي أنّه يقول له: عليك أن تبقى هناك؛ وحينئذ، ستستفيد منّي هناك كما لو كنت هنا؛ لكن، بما أنّك أتيت عندي إلى هنا، فلن تجني أيّة فائدة! فهذه المسألة كانت تحظى باهتمام الأولياء.

    1. تذكرة الأولياء، القسم الأوّل، ص ۱٩.
    2. لمزيد من الاطّلاع على أحوال أويس القرنيّ، راجع: أنوار الملكوت، ج ٢، ص ۱٣۸ ـ ۱٤۰ ؛ معرفة الإمام، ج ۱٢، ص ٣۰؛ سرّ الفتوح (فارسي)، ص ٣۷.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

14
  • أهمّية الالتفات إلى البعدين العقليّ والشهوديّ في مسألة وحدة الوجود

  • سؤال: نقل المرحوم العلاّمة عن السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليهما مجموعة من الكلمات بخصوص وحدة الوجود، لكن بتعبيرات مختلفة، حيث قال: «هذه المسألة من المسائل الراقية والرفيعة التي لا يُمكن أن يفهمها كلّ واحد كيفما كان»۱؛ ومن جملة ما ذكره بهذا الخصوص قصّة ذلك الرجل الذي قال له أثناء الوضوء: «أيّها السيّد! الماء هو الله، الوضوء هو الله؛ لا يخلو من الله مكان!».٢

  • وبعد ذلك، حينما تشرّف في أواخر حياته بزيارة السيّدة زينب عليها السلام، سأله أحد مرافقيه في الحرم عن مسألة التوحيد، فوضع يده على تربة، وقال: «ما هذا؟»، قال: «تربة للصلاة»، قال: «أنت الذي وضعت اسم التربة عليها، فأزل هذا الاسم جانبًا، ولن يبقى هناك شيء غير الله تعالى!»، ثمّ قال: «إنّك تعقّد الأمر وتجعله معضلة، على الرغم من شدّة وضوحه وبساطته».٣

  • وقد كتب سماحة العلاّمة حول هذا الموضوع، لكن بنحو انتقائيّ وعلى شكل درر؛ فهل يُمكنكم أن تشرحوا لنا قليلاً هاتين العبارتين، حتّى يتسنّى لأمثالي فهمها ولو يسيرًا، حيث كان البعض يعترض على السيّد الحدّاد ويُثير الإشكالات ضدّه، فقال رضوان الله تعالى عليه في أحد الموارد: «متى قلت إنّ هذا الكلب هو الله؟!»؛ لأنّ هذا النوع من الكلام خارج ـ إلى حدّ ما ـ عن ما تألفه أذهان العوامّ، فيُسيء البعض فهمه؛ فنرجو منكم ـ إذا أمكنكم ذلك ـ أن تُبيّنوا هذه المسألة، مع إيراد شواهد أكثر عن المرحوم السيّد الحدّاد، أو المرحوم العلاّمة.

  • جواب: تتوفّر هذه المسألة على بُعدين: فلسفيّ وعرفانيّ؛ وما دام الإنسان لم يتمكّن بعدُ من الاطّلاع في الفلسفة المتعالية على مسألة حقيقة الوجود وأصالته وبساطته وإطلاقه، علميًّا بل وحتّى وشهوديًّا، فلن يتسنّى له بطبيعة الحال فهم هذا الموضوع والتساؤل الذي أثرتموه؛ لكن، بما أنّكم طرحتم هذا السؤال، فإنّني سأسعى لبيان الموضوع بمستوى معيّن؛ هذا، بغضّ النظر عن أنّ المرحوم العلاّمة قال عن كتاب الروح المجرّد:

  • ما أوردته في هذا الكتاب يقتصر على الأمور التي استطعت أن أذكرها؛ وأمّا الأمور التي أحتفظ بها في داخلي عن السيّد الحدّاد، فيبلغ عددها أضعاف ما هو موجود في الروح المجرّد؛ وهي مسائل لا يُمكن كتابتها بتاتًا.

    1. المصدر نفسه، ص ٥٤٣.
    2. المصدر نفسه، ص ۷٣.
    3. المصدر نفسه، ص ٥۸۸.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

15
  • فمع أنّه اقتصر على إيراد هذه المسائل، غير أنّكم لاحظتم كيف أثارت كلّ تلك التساؤلات؛ فعادةً، يتوفّر كلّ كتاب على مطالعين مختلفين، كما أنّ المؤلّف يطرح فيه موضوعات يُنظر فيها إلى أفراد متعدّدين؛ والذي يكون له اطّلاع كاف على بعض المسائل يتمّكن ـ إلى حدّ ما ـ من إدراك كنه المسألة المبحوث عنها.

  • فينبغي النظر إلى مسألة التوحيد من منظورين اثنين: الأوّل هو المنظور العلميّ، حيث تصدّى الفلاسفة إلى بيان هذه المسألة عن طريق البراهين العلميّة، ومن خلال التأمّل وإعمال العقل؛ والثاني هو المنظور الشهوديّ، إذ على أثر التجرّد النفسانيّ الذي يحصل للسالك تدريجيًّا، تظهر فيه خصائص التوحيد وآثاره وصفاته بالمقدار ذاته الذي يزداد فيه تجرّده وتقرّبه؛ وهذا أمر لا علاقة له بتاتًا بالمطالعة والدراسة والتدريس؛ فنجد أفرادًا لم يكونوا من أهل البحث والدرس ـ ومن ضمنهم المرحوم السيّد الحدّاد الذي لم يدرس أيّ كتاب ـ ، إلاّ أنّهم وصلوا عن طريق السلوك العمليّ والتجرّد النفسيّ إلى مراتب من التوحيد لم يبلغها عقليًّا أعظم الفلاسفة المسلمين؛ وذلك بسبب تلك الوحدة التي تظهر للنفس في حقيقة التوحيد.

  • فالفلاسفة يسعون لإدراك المسائل التوحيديّة من خلال الدليل والبرهان والمقدّمتين الصغرى والكبرى المنطقيّتين؛ مع أنّ هناك فلاسفة كان لهم سلوك نفسانيّ؛ من قبيل المرحوم الملاّ هادي السبزواريّ، والمرحوم الحكيم النوريّ، وشيخ الإشراق، ومولانا جلال الدين، والذين كانوا من أعاظم الفلاسفة والعرفاء المسلمين؛ ونظير أيضًا محيي الدين بن عربي الذي قال عنه المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ:

  • منذ صدر الإسلام، وإلى الآن، لم يتمكّن أحد أن يُبيّن حقيقة التوحيد ويكتب عنها، مثلما فعله محيي الدين.۱

  • لقد كان كلّ من العلاّمة الطباطبائيّ، والآخونذ ملاّ حسين قلي الهمدانيّ، والمرحوم القاضي، والمرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ الذي طُبعت مناظراته مع المرحوم الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ على شكل كتاب،٢ والمرحوم العلاّمة الوالد رضوان الله تعالى عليهم من الأفراد الذين بلغوا مقامات عالية من ناحية علميّة، ووصلوا إلى درجة الكمال من حيث إدراك المرتبة العقلانيّة للتوحيد؛ وعلاوةً على ذلك، فقد حصلت له أيضًا مرتبة الشهود التي لم تحصل للعديد من العظماء؛ وهذا هو الأمر المهمّ.

    1. مجموعة مصنّفات الشهيد مطهّري (فارسي)، ج ٩، ص ۱٩٤، التعليقة؛ شرح مبسوط منظومه (فارسي)، ج ۱، ص ٢٣٩.
    2. توحيد علمى وعينى (فارسي).

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

16
  • اختلاف العظماء من ناحية المراتب التوحيديّة الشهوديّة

  • ويبقى أنّ مراتب الشهود مختلفة؛ أي: كما أنّ الإنسان يكون من ناحية فلسفيّة في مراتب مختلفة من اليقين والبرهان العلميّ في دائرة الحقائق التوحيديّة، وآثار عالم الوجود، بل الوجود بشكل عامّ ومطلق، فإنّ العرفاء أيضًا يختلفون فيما بينهم من ناحية شهوديّة. وعلى سبيل المثال، نرى أنّ المرحوم السيّد الحدّاد يُشكل على بعض أحوال محيي الدين مع كلّ المقام الذي وصل إليه، أو أنّ هناك بين تلامذة العظماء أفرادًا مختلفين من هذه الجهة؛ فمثلاً، كان للمرحوم القاضي تلامذة متعدّدون، كانوا كلّهم من الأكابر والأولياء والأخيار والصلحاء وأرباب المعرفة؛ نظير الشيخ محمّد تقي الآمليّ،۱ والمرحوم العلاّمة الطباطبائيّ وأخيه الأكبر٢ رحمة الله تعالى عليهم، والذين كانوا من النجوم الساطعة في سماء العرفان والتوحيد؛ وكذلك المرحوم السيّد حسن المسقطيّ الأصفهانيّ،٣ والمرحوم الشيخ عبّاس هاتف رضوان الله تعالى عليهما، وغيرهم كثير من الذين حظوا بتربية هذا العظيم وعنايته؛ لكن، حينما ننظر إلى أحوالهم، نراهم يتوفّرون على مقامات مختلفة.٤

  • كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يقول: ««إنّ العلّامة الطباطبائي هو إنسانٌ لا تأتي الملائكة على ذكر اسمه بغير طهارةٍ ووضوءٍ»؛٥ هل انتبهتم؟! فهذا الكلام ليس من باب المزاح، ولا يُمكننا أن نأخذ هذه المسألة على محمل الهزل؛ لكنّه في مقام المقارنة مع السيّد الحدّاد يقول: «الحدّاد شيء آخر!»؛ ولاحظوا أنّ الذي يذكر هذا الكلام لم يكن إنسانًا عاديًا، بل كان تلميذًا علميًّا وعمليًّا للعلاّمة الطباطبائي، وفي الوقت ذاته تلميذًا للسيّد الحدّاد؛ وقد رأى أحوال الاثنين وأدركها، ولم يُشاهد النار من بعيد، بل مسّ نار التوحيد، ولمسها فيهما معًا من قريب؛ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ وما هي العلّة في اختلاف التعبيرين؟

  • وعلى سبيل المثال، فإنّ العبارة التي سمعته يستخدمها في حقّ الشيخ القوجانيّ، وأوردتها في كتاب أسرار الملكوت، هي: «كان الشيخ عبّاس القوجانيّ رجلاً صادقًا»٦.. بهذا المقدار فقط، ولم أسمعه يتحدّث عن مراتبه التوحيديّة رغم جلالة قدره؛ في حين أنّه كان الوصيّ الظاهريّ للمرحوم القاضي، ورجلاً عظيمًا جدًّا، غير أنّ كلامنا هنا هو في مقام التقييم والمقارنة بين مراتب التوحيد، وتجلّيه في الأفراد، وكيفيّة هذا التجلّي.

    1. للاطّلاع على أحوال المرحوم الآمليّ رضوان الله عليه، راجع: الشمس الساطعة، ص ٣۱۰؛ معرفة الإمام، ج ٢، ص ۱۷٦.
    2. للاطّلاع على أحوال السيّد حسن إلهي أخ المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله عليهما، راجع: الشمس الساطعة، ص ٣٦.
    3. للاطّلاع على أحوال المرحوم المسقطيّ رضوان الله عليه، راجع: الروح المجرّد، ص ۱۱۱ ـ ۱۱٤؛ توحيد علمى و عينى (فارسي)، ص ٢٣۱.
    4. للاطّلاع على أحوال تلامذة المرحوم القاضي رضوان الله عليه، راجع: الشمس الساطعة، ص ٢۷، و ص ٣٤۷؛ مهر تابناك (فارسي)، ج ۱، ص ۸٥ ـ ۸۷.
    5. حريم القدس، ص ۱۱٢.
    6. أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٥۰۱.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

17
  • ويُمكنكم أن تُلاحظوا وجود هذه المسألة بعينها بين الأنبياء؛ إذ كانوا عليهم السلام يمتلكون مقامات مختلفة؛ فشتّان ما بين نبيّ الله إبراهيم، ونبيي الله داود وسليمان، وشتّان ما بين الذين وصلوا إلى مقام الصلاح، وبين الذين لم يصلوا إليه! فما يلزم تحقّقه في الأنبياء هو أمور ثلاثة: العصمة في مقام تلقّي الوحي، ومقام الحفظ، ومقام البيان والتبلیغ؛۱ وأمّا أن يكون الأنبياء في مرتبة واحدة من المراتب العلويّة لمقامي الملكوت واللاهوت، وأن تكون مدركاتهم في مستوى واحد، فهذا ليس بصحيح؛ لأنّهم عليهم السلام كانوا مختلفين فيما بينهم، حيث كان رسولنا الخاتم تجلّيًا للاسم الأعظم؛ بينما لم يكن بقيّة الأنبياء بهذا النحو؛ هذا، مع أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان نبيًّا، وكان بقيّة الأنبياء أيضًا من المرسلين الذين يتنزّل عليهم الوحي، ويتوفّرون على كتاب.

  • والمسألة ذاتها تنطبق على العرفاء بنفس الطريقة، حيث نجد اختلافًا بينهم في إدراك حقيقة التوحيد والتجرّد، وكيفيّته.

  • بيان لحقيقة التوحيد وكيفيّة تنزّل وجود الباري تعالي في مراتب عالم الوجود

  • فحينما قال المرحوم الحدّاد في حرم السيّدة زينب عليها السلام المطهّر: «أزل اسم التربة عن هذه التربة، فهناك التوحيد»، فإنّه إشارة إلى قاعدة «بسيطُ الحقيقةِ كُلُّ الأشياء» التي أوردها صدر المتألّهين، من دون أدنى زيادة؛ أي: عندما تتنزّل حقيقة الوجود من عالمها القدسيّ البسيط، وتظهر في قوالب مختلفة، فإنّها تتّخذ ألوانًا وأشكالاً وأنواعًا متعدّدة، سواءً في عالم المجرّدات والعقول والملائكة والنفوس، أو في عالم المادّة والاستعداد والكون والفساد، حيث تكون بأجمعها عبارة عن مراتب مختلفة للوجود الذي وقع أسيرًا للحدود الماهويّة، وجرت صياغته في ضمن قوالب؛ فإذا رفعنا هذه الحدود، سيبقى هذا الوجود في مقامه الخاصّ.

  • والمراد من ذلك أنّه: حينما ينصبّ نظرنا على الماهية، فإنّنا نجد اختلافًا بين هذا الشيء وذاك؛ كأن نفرض مثلاً كأسين من مادّة واحدة؛ لكن، بما أنّ لكلّ واحد منهما حدوده الخاصّة، فإنّهما يكونان منفصلين عن بعضهما، فأتمكّن من الإمساك بأحدهما بيد، والآخر بيد أخرى؛ وفي هذه الحالة، إذا وضعتُهما معًا في فرن، فذاب كلاهما، هل سيبقى لديّ كأسان؟ كلاّ! فأين ذهبت ماهيتهما؟ لقد زالت! وحينئذ، إن جئنا إلى ذلك المصنع، ووضعنا ذلك السائل في قالب مرّة أخرى؛ فما إن يدخل في القالب، حتّى يحدث الاختلاف، فيصير ذلك السائل الذي كان واحدًا اثنين وثلاثة وأربعة؛ وهكذا، إن وضعنا الجميع في فرن واحد، ستصير كلّها موجودًا واحدًا؛ وقد ذكرت هذا المثال من أجل تقريب الأمر للأذهان، وإلاّ، فإنّ مسألة الوجود أرقى من ذلك.

    1. معرفة الإمام، ج ۱، ص ۱٥؛ أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٢۷٣.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

18
  • فمسألة الوجود وقوالبه تتمثّل في أنّ: جميع هذه القوالب عبارة عن حصص لحقيقة واحدة اسمها الوجود، وأصلها هي ذات الحقّ تعالى؛ سواء كانت هذه القوالب قوالب للمجرّدات أو المادّيات؛ لأنّ المجرّدات تتوفّر بدورها على ماهيات، ولو أنّ ماهياتها عبارة عن نفس اشتدادها وضعفها الوجوديّين، لا أنّ لها قوالب زمانيّة ومكانيّة؛ إذ للزمان والمكان دور في التحقّق العينيّ والخارجيّ للمادّيات [وحسب].

  • فمقام الأحديّة هو مقام الهوهويّة بعينه؛ وأمّا ما ورد في بعض الكتب من الفصل بين هذه المقامين، فهو مجانب للصواب؛ لأنّ مقام الهوهويّة هو مقام العماء، ومقام "لا اسم ولا رسم"، ومقام اللاحدّ، ومقام الإطلاق الذي لا يُمكن الإشارة إليه بأيّة إشارة؛ لأنّ كلّ إشارة تستدعي وجود مشار إليه، ممّا يوجب تحديد ذلك المقام؛ أي مقام الهوهويّة الذي هو عبارة عن مقام الذات الإلهيّة الصرفة والبسيطة، ويُعبّر عنه في اصطلاح الفلاسفة ببسيط الحقيقة والفيض الأقدس، ومقام اللفّ، وليس الفيض المقدّس الذي يُمثّل مقام النشر، حيث يعتقد الفلاسفة بالتجرّد الحقيقيّ للوجود، كما يرون أنّ كلّ شيء اتّخذ في العالم صورة عينيّة هو عبارة عن حقيقة منزّلة للوجود بعينه، لا شيء آخر. فلكي يخلق الله تعالى الوجودات الخارجيّة للإنسان والحيوان والملائكة و...، لم يحتج إلى أن يضع يده في كيس خارج عنه،۱ بل إنّ نفس وجوده الذي تكون الوحدة لازمة لذاته في مقام الأحديّة ـ لكن ليس بمعنى أنّها وصف عارض عليه ـ ، ونفس هذه الحقيقة الواحدة تصير مَلَكًا وإنسانًا و... حينما تصل إلى مرحلة الظهور.

  • سأضرب لكم مثالاً على هذه المسألة التي أشار إليها السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه: انظر الآن إلى يدي؛ فما هي حقيقة هذه اليد؟ إنّها عبارة عن لحم وجلد وعظم؛ لكن، هل بوسعكم أن تُبيّنوا لي شكل هذه الحقيقة؟ لا يُمكنكم ذلك! ستقولون: «ليدكم شكل مستقيم، وأصابعها ملتصقة ببعضها»، غير أنّ ذلك لا يُمثّل يدي، بل هو مجرّد حدّ عرضيّ يعرض اليد، فترونها بهذا الشكل؛ وفي هذه الحالة، إذا أغلقت يدي، ستبقى هذا اليد يدًا، وكذلك الشأن إن فتحتها؛ إذ لن ينضاف إليها أيّ شيء من خارجها. فإذا كان وزن يدي يبلغ ثلاثمائة جرامًا مثلاً، هل من الممكن أن يصير وزنها نصف كيلو حينما أُغلقها، ومائتي جرامًا حينما أفتحها؟! كلاّ! لن ينضاف إلى وزنها، ولو جرام واحد؛ أجل، قد يتبدّل لونها جرّاء بعض التغييرات والتحوّلات؛ لكن، يبقى أنّ اللون أيضًا من الأعراض؛ ومن هنا، إن رفعت يدي للأعلى، ستظلّ هذه اليد يدًا؛ وإن خفضتها إلى الأسفل، ستظلّ أيضًا يدًا؛ وإن حرّكتها بأيّة طريقة، ستبقى يدًا.

    1. عبارة مجازيّة يعني بها المصنّف أنّ الله تعالى لم يخلق الموجودات من شيء خارج وجوده. المعرّب.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

19
  • وعليه، إذا قلت هنا: «لماذا إذن تكون يدكم بهذا النحو؟ ولماذا هي على شكل قبضة؟»، سأقول: «كلاّ؛ فلأنّك تنظر إلى القبضة، سترى يدي قبضةً؛ فارفع نظرك عن هذه القبضة، وستُشاهد اليد فقط، وأَحِد برؤيتك عن هذا الحدّ، وسترى نسبتها إليّ أنا». فإذا وضعتُ يدي هنا، هل ستدوسها بقدمك، محتجًّا بأنّها مجرّد قبضة؟! كلاّ؛ إذ مع أنّ يدي هي على شكل قبضة، لكن، بما أنّها تنسب إليّ، فلن تطأها بقدمك.

  • إنّ كلّ ما في عالم الوجود هو مظهر للحقّ تعالى، وعبارة عن حدود عرضت على هذا الوجود؛ فالله تعالى لم يأت بأيّ شيء من الخارج، وكلّ شيء موجود في داخله۱؛ وبالتالي، فإنّ كافّة الموجودات عبارة عن ظهورات لله، ومظاهر تجلّى بها سبحانه وتعالى.

  • يقول السيّد الحدّاد: ما دُمت تنظر إلى تربة الصلاة باعتبارها دائريّة ومؤلّفة من التراب ولها مجموعة من الخصائص، فإنّ اسمها سيكون هو: التربة، حيث يتعيّن علينا أن نُقبّل تربة سيّد الشهداء، ونسجد عليها، ونمسح بها أعيننا، ونرفعها من الأرض إذا رأيناها ملقاة عليها، ونُكنّ لها الاحترام، ونراعي الأمور والخصائص التي وردت في الفقه بخصوص هذه الأشياء المطهّرة والمقدّسة؛ لكن، ما إن ترفع النظرة الماهويّة عن هذه التربة، حتّى تُصبح وجودًا، فلا يعود هناك أيّ فارق بينها، وبين تلك؛ والوجود هو الله تعالى؛ فهذا بعينه هو نفس الأمر الذي تحدّث عنه المرحوم الحدّاد هناك.

  • معاناة الأولياء للوصول إلى حقيقة التوحيد

  • لكن، هل من السهولة بمكان إدراك الإنسان لهذه المسألة أم لا؟ إنّ الجمَل ليلجُ في سَمّ الخياط قبل أن‌ يتمكّن الإنسان من التوصّل إليها؛ فعليه أن يُقاسي الويلات، ويخوض في الرياضات، ويخضع للبرامج، ويمتثل للدساتير، ويُعرض عن الدنيا، ويتخطّى النفس والنفسانيّات، ويمتلك الهمّة العالية والإرادة الراسخة، ويُنفذّ كلّ ما أُمر به، إلى أن تتحقّق هذه المسألة تدريجيًّا في نفسه بنحو عينيّ؛ ومن هنا، فإنّ مراد السيّد الحدّاد من قوله: «إنّ هذه المسألة لا تحصل للإنسان بكلّ سهولة» هو حقيقتها العينيّة؛ ومع أنّه رضوان الله تعالى عليه كان يقول: «أزل اسم التُربة عن هذه، وسيكون هو [الله]»، إلاّ أنّه لم يصل إلى هذا المقام بكلّ يُسر.

    1. أي أنّ الموجودات فانية ومندكّة في الله ؛ وهو تعالى محيط بها إحاطة وجوديّة لا مكانيّة. المعرّب.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

20
  • رحمة الله على مولانا، ونوّر الباري تعالى مضجَعه، حيث كنت أقول للرفقاء: لو لم يكن لدينا مثنوي، فما عسانا كنّا نفعل؟ فهل بقيت مسائل لم يذكرها هذا العظيم في كتابه؟!

  • يقول مولانا في أشعاره:

  • روســتایی گــاو در آخــور ببســت***شیر، گاوش خورد و بر جایش نشست
  • [يقول: شدّ قرويّ ثوره في الحظيرة، فجاء أسد، وافترسه، وجلس مكانه]۱

  • ويستمرّ في شعره، إلى أن يقول: إذا أضاءت هذه النار وهذه الحقيقة للناس، فلن يبقوا على قيد الحياة، ولو لثانية واحدة، ولن يتمكّنوا من التحمّل، ولو للحظة واحدة!

  • فإذا كان السيّد الحدّاد يقول هنا بكلّ سهولة: «أزل الاسم عن التربة، وانظر إلى المسمّى! ارفع عنها الحدّ، وشاهد الحقيقة! ونحّ عنها الماهية، وانظر إلى الوجود!»، فإنّه لم يصل إلى ذلك، ولم يتوصّل إلى هذا الإدراك، إلاّ بعدما تجرّع الغصص؛ فهو لم يدرس فلسفة صدر المتألّهين، ولا المشارق والشوارق؛ لكن، ما هي المصائب التي حلّت به، وما هي التغييرات والتحوّلات التي طرأت على نفسه، بحيث أضحى يُشاهد بالعيان الحقيقة التي عجز عن إدراك واقعها أعظم فلاسفتنا؟ فهذا هو المراد من قوله: «إنّ ذلك صعب»؛ فالصعوبة هنا تعني أنّ المسألة لا تنحلّ عن طريق الدراسة والمطالعة وأمثال ذلك، بل إنّ الوصول إلى هذه المسائل يستدعي السلوك العمليّ، والتعب، والمشقّة.

  • سؤال: بخصوص الأحداث التي وقعت بعد المرحوم آية الله الأنصاريّ، يقول المرحوم العلاّمة: «السبب من وراء عدم استعداد بعض الأفراد للرجوع إلى السيّد الحدّاد أنّه كان يصف الله تعالى منزّهًا بلا تنميق، ولا تزيين»؛٢ فكيف كان يصف الله تعالى؟ 

  • وبعد ذلك، يستند سماحة العلاّمة إلى هذه الآية الشريفة: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾، ويورد تساؤلين أو ثلاثة بنحو أساسيّ، لكنّه لم يتطرّق لشرح هذه التساؤلات؛ ولهذا، نرجو منكم بيان هذه المسألة، والتفصيل فيها شيئًا ما.٣

  • جواب: نعم، كان المرحوم السيّد الحدّاد صريحًا جدًّا في كلامه، ولم يكن من الذين يتّبعون سياسة الاسترضاء، مع أنّه كان من أهل الكتمان بالنسبة للحقائق التوحيديّة العالية، ولا يطرحها أو يبيّنها أمام أيّ أحد، اللهمّ إلاّ إذا كان أهلاً لها، كالمرحوم العلاّمة أو بعض الأفراد الآخرين؛ ففي مجالسه التي كنت أتشرّف بحضورها، كنت أشعر أنّه لا يتحدّث عن كلّ شيء، بل كان يُراعي كثيرًا مستوى الناس في كيفيّة تلقّيهم للحقائق التوحيديّة، وكان بنفسه يوصي المرحوم العلاّمة والبقيّة بأنّ الإنسان لا يستطيع أن يطرح كلّ شيء؛ لكن، في بعض الحالات، كنّا نطّلع على بعض الأسرار إن كان ذلك في مصلحتنا؛ وتارةً، ترشح منه مجموعة من الأسرار، فنلتفت إلى حقيقة المسألة.

    1. المثنويّ المعنويّ، الكتاب الثاني.
    2. الروح المجرّد، ص ٦٢.
    3. لمزيد من الاطّلاع على الأحداث التي حصلت بعد وفاة آية الله الأنصاريّ الهمدانيّ، واستشهاد المرحوم العلاّمة الطهرانيّ بهذه الآية الكريمة، راجع: الروح المجرّد، ص ٤۱ ـ ٦٤.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

21
  • وعلى سبيل المثال، أتينا إلى كربلاء بعد رجوعنا من رحلة الحجّ التي كنت أبلغ فيها آنذاك السابعة عشرة من العمر تقريبًا؛ وفي الليلة الأولى، كنت نائمًا مع أخي الأكبر، فصحوت في منتصف الليل، لكنّني بقيت مستلقيًا في الفراش، ولم أنهض منه، فرأيت المرحوم العلاّمة والسيّد الحدّاد مستيقظين، والمصباح غير مضاء، والغرفة مظلمة، وهما يتحدّثان مع بعضهما، إلى أن حلّ أذان الصبح، حيث كانت حالهما ـ عادةً ـ في كلّ ليلة بهذا النحو؛ وقد اطّلعت على بعض المسائل من كلامهما عن أسرار الحجّ؛ ومن ضمن ذلك: موضع قبر السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، لكنّني لم أخبر أحدًا بهذا الأمر إلى الآن؛ لأنّه من الأسرار؛ ولو كان يجوز الإفصاح عنه، لأفصحوا عنه بأنفسهم، أو أثاروا بعض الإشارات بخصوصه؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة لبعض المسائل الأخرى التي كان ينبغي علينا الاطّلاع عليها، حيث كانوا يقومون بعدد من التصرّفات [لكي نطّلع عليها]؛ وأمّا بالنسبة المسائل التي لا يجب أن نعلم بها، فإنّنا كنّا نبقى غاطّين في النوم، أو كانت تحدث أوضاع أخرى [حتّى لا نعلم بها].

  • وعلى أيّ حال، فقد كان السيّد الحدّاد يبذل مجهودًا كبيرًا في مسألة الكتمان، حيث قال في هذا الصدد: «قمتُ خلال عمري كلّه بإفشاء سرّ ما لمرّة واحدة فقط، ولا أزال حتّى الآن أعاني من ذلك».۱

  • وكانت أوامر المرحوم القاضي والعظماء وبقيّة الأولياء بخصوص هذه المسألة على المنوال ذاته، غير أنّ كلماتهم ومجالسهم كانت توحيديّة؛ أي أنّ محور كلامهم كان يدور حول التوحيد؛ فقد تُلاحظون البعض يتحدّثون عن مسائل أخرى؛ كطيّ الأرض، وعلم الغيب، وظهور إمام الزمان؛ كما هو الأمر في الكثير من الأماكن، إلاّ أنّه لم يكن بتاتًا من أهل الكلام عن وقت ظهور الإمام عليه السلام.

  • رؤية العارف لظهور إمام الزمان عليه السلام وغيبته

  • وبوسعي القول: إنّ الذي يتحدّثون عن وقت ظهور إمام الزمان مخطؤون بنسبة مائة بالمائة، حيث عاشرت العديد من هؤلاء، وشاهدت بالعيان خلاف كلامهم؛ فتجد أولياء الله تعالى الذين لديهم اطّلاع على الحقائق الواقعة في ما قبل عالم المثال لا ينبسون ببنت شفة؛ في حين أنّ الذين يتحدّثون عن هذه المسائل لا يملكون أيّ اطّلاع؛ ولهذا، فإنّ الكلام في هذه الموضوعات مجانب للصواب تمامًا؛ وعلاوةً على ذلك، لنفرض أنّني علمت بأنّ إمام الزمان سيظهر في السنة القادمة، أو أنّه لن ظهر فيها، فما هي الفائدة التي سأجنيها من ذلك؟

    1. الروح المجرّد، ص ٤٤٤.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

22
  • عليّ أن أكون مطيعًا للإمام، وفي صدد إطاعته، وأسعى لتحصيل ما أعتقد أنّه يحظى برضاه؛ وحينئذ، إن ظهر عليه السلام، فبها ونعمت؛ وإن لم يظهر، فلا إشكال في الأمر؛ وقد مات العديد من العظماء من دون أن يُدركوا ظهور الإمام، فآتي أنا حينئذ، وأقول في كلامي: «إذا وقعت الحرب الفلانيّة، سيكون ذلك مقدّمة للظهور، وإذا وقع كذا بين البلد الفلاني والبلد العلاّني، سيكون ذلك مقدّمة للظهور»، ثمّ يتبيّن بعد ذلك أنّ هذا الكلام كذبٌ بأجمعه! ولكي، لا يُفضح أمري، ألجأ إلى مسألة البداء الإلهيّ، حيث نجد هذه المسألة من المسائل التي تُستخدم كثيرًا في هكذا موارد، ويلجأ إليها مباشرة كلُّ من يحصل له عجزٌ في موضع ما؛ كلاّ يا عزيزي! لم يحصل بداء، بل أنت عديم الفهم! فلماذا تتحصّن بالبداء من دون داعٍ؟! فإمام الزمان عالم بذلك، والله تعالى عالم به، ويعلم أيضًا بوقته، بينما أنت لا تعلم؛ فلا تلجأ إلى خداع الناس بهذا الكلام من دون أيّ داع! وعوضًا عن ذلك، علّم الناس الدين والتربية والأدب والصدق؛ فإمام الزمان سيظهر عندما يحين أوانه.

  • وما علاقتي أنا بظهور إمام الزمان؟ فعليّ أن أكون منتظرًا لظهوره عليه السلام، بأن أُصلح نفسي، وأهيّئ القابليّة لإدراك هذا الظهور؛ فإذا تحقّق هذا المعنى، فلن يفرق بالنسبة لي ـ كما ورد في رواية الإمام الباقر عليه السلام ـ الظهور وعدمه؛ وأمّا إذا لم يتحقّق، [فإنّنا لن نرتقي إلى الأعلى ولو بظهور الإمام]. فمن كان أفضل: الرسول أم إمام الزمان؟ لكن، ماذا حصل للذين رأوا الرسول بعد وفاته؟ فإمام الزمان ليس بأفضل منه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ومع ذلك: «ارتدّ الناسُ إلاَّ ثلاث، إلاّ أربع، إلاّ خمس»،۱ حيث ثبت بعد الرسول ثلاثة أصحاب، أو أربعة، أو خمسة، واتّبعوا الولاية؛ وأمّا الذين كانوا يتسابقون للظفر بفضل وضوء النبيّ، ويمسحون به رؤوسهم،٢ فهم عينهم الذين وقفوا خلف أبي بكر في الصلاة، وهم الذين جاؤوا، ورفسوا منزل بنت رسول الله، وقطّعوها إربًا إربًا، هم بعينهم!

  • فرؤية الإمام ليست شرطًا، وهي لا ترتقي بالإنسان إلى الأعلى، ولا تعمل على تربيته، بل الشرط في ذلك هو اتّباع الإمام؛ والغيبة والحضور سيّان بالنسبة إليه عليه السلام؛ فهذا هو التوحيد والعرفان، حيث يقول العرفاء: «لا ينبغي عليكم التفرقة بين غيبة إمام الزمان عليه السلام، وبين حضوره وظهوره»؛٣ لأنّ هذه التفرقة من شأن العوامّ، وهذا الكلام كلام عامّي، وهو كلام الذين يُريدون قضاء مجالسهم بمجرّد الحديث عن القصص الحلوة، وكلمات العظماء، وبالمسائل التي تتناسب مع الإحساسات وقوى الخيال؛ نظير طيّ الأرض، ومسألة أنّ فلانًا اشتهى في الطريق بطّيخًا، فأينعت أمامه فجأة بطّيخة، أو أنّ فلانًا جاع في الطريق، ودعا بطعام معيّن، فظهر أمامه فجأة هذا الطعام.

    1. الاختصاص، ص ٦.
    2. صحيح البخاريّ، ج ۱، كتاب الوضوء، الباب ٤۱: باب استعمال فضل وضوء الناس؛ الباب ۷٤: باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب.
    3. لمزيد من الاطّلاع، راجع: الروح المجرّد، ص ٤٩۷؛ معرفة الإمام، ج ٢، ص ۱۷۷؛ ج٥، ص ۱٦٩؛ افق وحى (فارسي)، ص ۱٢٣ ـ ۱٢٥؛ أسرار الملكوت، ج ٢، ص ٢٢٦ ـ ٢٥۰؛ سرّ الفتوح (فارسي)، ص ٦٩؛ الشمس المنيرة، ص ۱۰٦؛ كتاب عنوان البصري (فارسي)، ج ۱، ص ۷٢ و٩۰ و۱۰٥ ـ ۱۱٥.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

23
  • وعلى سبيل المثال، إذا قام أحد في قمّ الآن بالحديث عن مسائل من قبيل علم الغيب وطيّ الأرض و...، فإنّ الناس سيأتون من أصفهان وشيراز ومناطق نائية من إيران، فتجتمع عشرة ملايين نسمة بقمّ؛ وأمّا إذا اعتلى المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله عليه المنبر، وأراد أن يتحدّث عن إحدى الحقائق التوحيديّة في ضمن عشر جلسات، فلن يجلس للاستماع عليه، ولو مائة فرد! ولن يأتي عنده، سوى ثلّة من الفضلاء والعلماء الذين ينتفعون من هذه المسائل؛ لأنّ الناس لا يألفون الحقائق التوحيديّة، ويُحبّون سماع الحكايات والموضوعات الظاهريّة؛ فلو أنّ خطيبًا ارتقى المنبر لمدّة ساعة، ولم يتحدّث في معرض كلامه عن بعض القصص، لشرع الحضور بأجمعهم في الشخير؛ لكن، ما إن يبدأ في إيراد حكاية، حتّى تُفتح جميع العيون! ويعود ذلك إلى عالم التخيّلات الذي نخضع له؛ فنحن غارقون في التخيّلات والإحساسات؛ وبما أنّنا لا نألف كثيرًا الحقائق والمسائل التوحيديّة، فإنّ نفسنا لا تشعر بالقرب تجاه هذه الحقائق، بل تشعر بذلك تجاه الأمور الملموسة غير المتعارفة؛ ومن باب المثال، إذا ذهب أحد بواسطة طيّ الأرض من قمّ إلى طهران في مدّة خمس دقائق، فإنّ الجميع سيتعجّبون، ويقولون: «يا للعجب! كيف حصل هذا؟!»؛ لكن، إذا قلنا: «إنّ فلانًا امتطى الحافلة، وذهب»، فلن يكون الأمر بهذا النحو.

  • حصلت معي مسألة لا بأس بذكرها من باب المرح؛ فذات يوم، ذهبت إلى مكان معيّن يروج فيه ذكرُ هكذا موضوعات، وكانت هناك أيضًا ثلّةٌ من أهل هذه المسائل، ولعلّ بعضهم كانوا من أصحاب طيّ الأرض؛ وخلاصة القول، أنّه دار الكلام حول هذه الأمور، فقلت لهم: «هل حصل لأيٍّ منكم لحدّ الآن طيّ السماء؟»، قالوا: لا، لم يحصل لنا ذلك!، فقلت: «أنا أعرف أحدًا يقدر على طيّ السماء»، فتعجّبوا جدًّا، قلت: «وحتّى أنا أطوي السماء في بعض الأحيان!»؛ فالتفتوا إليّ كلّهم فجأة، وقالوا: بأيّ نحو تذهب من هنا مثلاً إلى مشهد؟ قلت: «يستغرق ذهابي إلى هناك من ساعة وعشر دقائق إلى ساعة وربع»؛ لكنّهم لم يفهموا مرادي من ذلك، فقلت: «حينما أسافر بالطائرة، فإنّ سفري يستغرق تقريبًا ساعة واحدة وعشر دقائق!».

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

24
  • علّة عدم اعتناء الأولياء بخوارق العادات والأمور غير المتعارفة

  • فلا يوجد أدنى فارق بين طيّ السماء هذا الذي أقوم به، وبين طيّ الأرض الذي يقوم به ذلك الشخص إلى مشهد في خمس دقائق؛ فجميع هذه الأمور عبارة عن خيالات وأوهام؛ وقد كان بحوزة العظماء البرنامج الذي يُخوّلهم طيّ الأرض، كما أنّهم منحوني إيّاه، لكنّني لم أعمل به، ولو يومًا واحدًا؛ لأنّ ذلك لم يكن منسجمًا مع المنهج الذي شاهدناه من العرفاء ـ مع أنّني أكون مخطئًا إذا ادّعيت لنفسي العرفان ـ ، اللهمّ إلاّ في حالات الاضطرار التي يُؤذن لهم بذلك.

  • فالعارف لا يسعى للحصول على طيّ الأرض والعلوم غير المتعارفة.۱ ففي السفر الذي تشرّفت فيه بزيارة كربلاء بعد الانتهاء من الحجّ، توفّقت لزيارة سامراء برفقة المرحوم العلاّمة، وأخي، وأحد تلامذة السيّد الحدّاد، فكان هذا السفر عجيبًا وجذّابًا وممتعًا، بحيث لا تزال ذكرياته حيّة في داخلي. وقد سكنّا في النُّزُل الذي بناه في سامراء المرحوم السيّد البروجرديّ رحمة الله تعالى عليه للزوّار الإيرانيّين؛ فكانوا يعطوننا هناك الوسائل المنزليّة، والكؤوس والأطباق، وأمثال ذلك، فنطبخ الطعام بأنفسنا، لأنّنا كنّا من دون زوجات! فكنت هناك مع والدي وأخي وتلميذ المرحوم الحدّاد الذي كان يُكنّ لي مودّة كبيرة، فكنّا نذهب لشراء الخضروات و...، ثمّ نطبخ مرق اللحم، أو طعامًا آخر. وفي أحد الأيّام، ما إن ذهبنا خارجًا، حتّى قال لي: «هل تُريد يا فلان أن نذهب الآن إلى مكّة ونرجع؟»، قلت: «دعني وشأني يا عزيزي!»، فقال: «كلاّ! سنذهب إلى هناك، ونرجع من دون أن نخبر أيّ أحد». قلت: «ألا أخبرك بشيء: أنا أشكرك كثيرًا، لكن، عليك أوّلاً أن تحصل على الإذن من أبي؛ وحينئذ، سأذهب معك إلى جبل قاف إن شئت». وخلاصة القول أنّه قال: «دع عنك الخوف، وتعال لنذهب»، فقلت: «أنا لا أستطيع كتمان هذه الأمور؛ فعليك أوّلاً أن تذهب عند والدي، وتقول له: يا سيّدي، أريد أن آخذ فلانًا إلى هناك؛ وحينئذ، سآتي معك»؛ فلم أقبل بهذا الأمر، حيث كان ذلك التلميذ من أهل هذه المسائل.

    1. لمزيد من الاطّلاع على امتناع الأولياء عن إبراز الكرامات وخوارق العادات، راجع: الروح المجرّد، ص ٥۸٦؛ افق وحى (فارسي)، ص ٢۱٥؛ الشمس المنيرة، ص ۱۰٩؛ مهر تابناك (فارسي)، ج ۱، ص ۱٩٩؛ آيين رستگاری (فارسي)، ص ٥٩ ـ ٦۷؛ حريم القدس، ص ٤٣.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

25
  • ففي هذه الحالة، لو ذهبتُ بذلك النحو إلى مكّة، ما الذي كان سيحصل؟ وأيّة ثمرة كنت سأجنيها من ذلك؟ وما هو الفارق بين هذه الطريقة من السفر، وبين السفر بواسطة الطائرة الذي يستغرق ساعتين؟! فالعرفاء يُريدون أن يسوقونا في هذا الاتّجاه.

  • وأمّا أهل الظاهر، فغاية سعيهم هو البحث عمّن يطوي الأرض، ومعرفة ماذا يفعله فلان، وأنّ علاّن خرج من القبر، وحدّد زمان ظهور الإمام، وأنّ آخر حصلت له مكاشفة، وقال: «سيظهر الإمام في عام كذا!»، وأنّ آخر تعلّم علمي الرمل والجفر، وقال: «ظهوره سيكون سنة ألف وأربعمائة وستّة عشر»، في حين أنّه مرّت الآن عشر سنوات على ذلك التاريخ، ولم يأتنا أيّ خبر عن ظهور الإمام! ولهذا، فإنّكم تُلاحظون أن السوق الذي تُطرح فيه هكذا مسائل مزدهر جدًّا؛ بينما يوجد في سوق عرفان السيّد الحدّاد فردان أو ثلاثة أفراد، ولا يأتي إليه أحد؛ وذلك لأنّ الناس غارقون في الإحساسات والتخيّلات، ولا يَقبلون إلاّ بالمسائل التي تكون قريبة من عالم خيالهم؛ فهذه هي المسائل التي يُقبلون عليها؛ وأمّا إذا طرح السيّد الحدّاد مسألة وحقيقة توحيديّة؛ كأن يقول: «أزل اسم تربة الصلاة عن هذه التربة، وسيكون هناك الله»، فإنّ حالة التثاؤب والنوم والكسل ستسودهم فجأة بعد مرور عشر دقائق، ويقولون: «هذا يكفي يا عزيزي، فقد استوعبنا الأمر!».

  • فالذين انقسموا إلى طائفتين بعد وفاة المرحوم الشيخ الأنصاريّ كانوا أمثال هؤلاء، حيث كنت بنفسي حاضرًا بينهم؛ فكانت غاية همّهم واهتمامهم أن يجتمعوا فيما بينهم، ويتحدّثوا عن بعض المسائل الولائيّة، ويُقيموا مجلسًا للعزاء والتوسّل، ويتطرّقوا لمسائل من قبيل طيّ الأرض والاطّلاع على الضمائر؛ كما كانت الأسئلة التي يطرحها البعض عادةً بهذا النحو: أيّها الحاج، متى يحين وقت وفاتنا؟

  • ـ إذا جاء فلان ممتطيًا حصانًا أبيضًا، وأركبك معه، وذهب، فسيحين زمان موتك!

  • ـ أيّها الحاج، ما هو الدواء النافع للمرض الفلاني؟

  • ـ تناول الدواء الفلاني.

  • فتجد المسائل التي يتحدّثون عنها لا تتعدّى هذه الدائرة؛ في حين أنّ السيّد الحدّاد لم يكن أهلاً لهذه الأمور! فما معنى الحصان الأبيض؟! وما معنى الحمار؟! وما معنى كلّ هذا الكلام؟! فلم يكن يُضيّع لحظة واحدة من عمره في هكذا مسائل، بل كان يعتبر الحديث عنها مضيعة للعمر ومفضيًا للبطالة؛ فلم يكن يطرحها بتاتًا، لا مع نفسه، ولا في المجالس مع تلامذته، بل كان حديثه عن التوحيد المحض وحسب؛ وبطبيعة الحال، لم يكن هؤلاء يرغبون كثيرًا في سماع مثل هذه المسائل؛ وعلاوةً على ذلك، قد تُطرح في بعض كلماته موضوعات تتجاوز مستوى استعدادهم، ولا يستطيعون تحمّلها.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

26
  • تفسیر للفقرة الشريفة «یا مُمتَحَنَةُ امتحنکِ اللهُ الذي خلقکِ قبل أن یَخلُقکِ»

  • سؤال: في السفر الذي جاء فيه حضرة السيّد الحدّاد إلى إيران، وذهب إلى همدان، ذكر المرحوم العلاّمة في هامش كتاب الروح المجرّد حكاية تتعلّق بسؤال المرحوم التألّهي عن معنى هذه الفقرة من زيارة الصدّيقة الطاهرة: «يَا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ اللهُ الذي خَلَقَكِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَة»؛۱ فعرض السيّد الحدّاد جوابًا مجملاً وغير مفصّل كثيرًا، ممّا بعث السرور والبهجة في نفس الشيخ التألّهي وبقيّة الحاضرين، وختم الجواب في هذا الموضع؛ فإذا أمكنكم بيان شمّة من التفسير الذي عرضه السيّد الحدّاد، سيكون ذلك جيّدًا جدًّا.

  • جواب: لا يخفى أنّني أشرت في الجلسة السابقة إلى أنّني لم أوفّق في ذلك الزمان لإدراك المسائل التي كان يطرحها كما يجب وينبغي، ولو أنّني لا زلت أستحضر قليلاً بعض هذه المسائل؛ لأنّني كنت أبلغ آنذاك الثانية عشرة من العمر تقريبًا؛ فباعتبار سنّي في ذلك الحين، لم أتمكّن من الاستفادة منه في ذلك السفر؛ وبالتالي، فإنّني لا أتذكّر شيئًا ممّا قاله في ذلك المجلس؛ لكنّني سأتّحدث عن هذه المسألة بحسب ما بلغه فهمي القاصر.

  • فقبل الخلقة العينيّة والخارجيّة للأشياء والمخلوقات في عالم الخارج، كانت كلّ الصور الخارجيّة لهذه الأشياء حاضرةً بنحو عينيّ في عالم العلم الربوبيّ، والذي هو عبارة عن علم الله تعالى العنائيّ.

  • ويعتقد بعض الفلاسفة أنّه: قبل خلق هذا العالم، كانت الأشياء متحقّقة في علم الله تعالى العنائيّ بصورها، وليس بوجودها الخارجيّ؛ ولهذا، فإنّ الوجود الخارجيّ يحتاج إلى حدوث الزمان؛ وعلى سبيل المثال، فإنّ الرسول الأكرم الذي وُلد قبل ألف وأربعمائة سنة تقريبًا كانت صورته منقوشة في العلم العنائيّ للحقّ تعالى، ثمّ اتّخذت هذه الصورة لنفسها ـ بعد مرور الأيّام والدهور ـ صورة عينيّة وخارجيّة في هذا الزمان الخاصّ.

  • لكن، يبدو أنّ المسألة أعمق وأدقّ من ذلك، حيث إنّ حقيقتنا التي هي عبارة عن وجودنا النفسيّ كانت موجودة في علم الله قبل خلقتنا الجسمانيّة والمادّية وقبل خلق بدننا العنصريّ؛ أي أنّ وجود كلّ موجود يُخلق بواسطة نفس الإرادة التكوينيّة، و "كُن" الوجوديّة للحقّ تعالى، ولو أنّه يكون محتاجًا من ناحية خارجيّة إلى مرور الزمان والأيّام والسنوات.

    1. الروح المجرّد، ص ۱٦٦.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

27
  • ولهذا، تجدنا نُدرك الصورة الواقعيّة للأشياء من دون أن تتحقّق بعدُ في الخارج؛ ولنضرب مثالاً على ذلك بالذين يطّلعون في المنام أو في مكاشفة على أمر سيحدث بعد أسبوع أو سنة، فهل يرى هؤلاء صورته أم واقعيّته؟ وأيضًا، فإنّ هذا الجهاز يلتقط الآن صورتي؛ وبعد ذلك، ستأخذونه إلى بيتكم، وتصلونه بجهاز آخر، فتُشاهدون صورتي؛ في حين أنّ واقعيّة هذه الصورة تتمثّل في وجودي بينكم الآن؛ غاية الأمر أنّ صورة عن هذه الواقعيّة تُسجّل في هذا الجهاز، فتتسنّى لكم بعد ذلك مشاهدتُها في أيّ مكان تُريدون؛ فتُشاهدونها في السيّارة، أو في المنزل؛ مع أنّ حقيقة هذه الصورة واحدة لا أكثر؛ وهي عبارة عمّا كان موجودًا هنا. فهذه الحقيقة لا تدخل في الجهاز، بل ينتقش شكلها وملامحها وشبحٌ عنها في هذا الجهاز؛ وهنا، يُطرح السؤال: إنّ ما نراه في النوم، أو يراه أصحاب المكاشفات فيما يرتبط بالأحداث التي تقع في الخارج، أو أن يكون أحدٌ يمشي في الشارع، فيُشاهده آخر وهو جالس في بيته، هل إنّه يراه في الواقع بنفسه، أم يرى صورة عنه؟ إنّه يراه بنفسه حقًّا؛ لكنّه غير موجود في الغرفة أو في المنزل؛ فإذن، ماذا رأى ذلك الشخص؟ ولنفرض مثلاً أنّني رأيت في المنام أنّني سألتقي غدًا برفيقي الفلاني، وسأراه في الشارع؛ وحينما يحلّ الغد، وأكون ماشيًا في الشارع، ومع أنّه لم يحدث إلى الآن أيّ شيء، إلاّ أنّني أرى فجأة رفيقي أتى، فأبدأ بتبادل الحديث معه حول المسائل بعينها التي رأيتها في المنام ليلة أمس؛ ففي هذه الحالة، هل رأيت في المنام مجرّد صورة، أم أنّني شاهدت نفس الحقيقة والواقعيّة؟ وما هو الإحساس الذي يكون لديّ تجاه الحالة التي أكون فيها أرى منامًا؟ هل هو نفس الإحساس الذي لديكم الآن هنا، أو كالإحساس الذي يكون لديكم حينما تذهبون للبيت، وتضعون الشريط في الجهاز، وتُشاهدونه؟ لا، يوجد فارق بينهما! حيث لديكم الآن إحساس بالواقعيّة، في حين أنّكم تشعرون في المنزل بأنّكم وضعتم الشريط في الجهاز، وأنّكم تُشاهدون الصورة؛ أي أنّ إحساسكم هو إحساس الصورة، لا إحساس الواقع؛ بخلاف ما يحصل في المنام والمكاشفة.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

28
  • فما هي حقيقة علم الغيب الذي يتوفّر عليه الإمام؟ حيث كان أمير المؤمنين جالسًا في مسجد الكوفة يتحدّث مع أصحابه، وكان أحد هؤلاء الأصحاب يشعر بمحبّة كبيرة تجاهه عليه السلام؛ وفجأة، بدأ الإمام بالحديث عن قضيّة سيّد الشهداء، وتَوَجُّهِ الجيش من الكوفة إلى كربلاء؛ فأبدى ذلك الرجل تعجّبه الكبير من ذلك، وقال: يا للعجب! وهل ستقع مثل هذا الأحداث؟

  • فقال الإمام: أجل، والأعجب من ذلك أنّك ستكون أنت حاملاً للواء تخرج به من باب مسجد الكوفة هذا، وتذهب لمحاربة ولدي الحسين!

  • قال: يا عليّ، أ وسأقوم أنا بهذا العمل؟!

  • قال عليه السلام: أجل، ستقوم به أنت!

  • قال: لا أراني الله تعالى ذلك اليوم!

  • قال الإمام: سواء أراد الله تعالى أن يريك إيّاه أم لا، [فلا يهمّ]، لكنّني أراه بنفسي الآن».۱

  • فحينما يرى أمير المؤمنين هذا المشهد، ما الذي يراه؟ إذ نجد أنّ نفس تلك الواقعيّة قد تحقّقت من دون أدنى اختلاف؛ وهذا، كما كان الإمام يتحدّث في تلك اللحظة مع أولئك الأصحاب، حيث إنّه أمر واقعيّ.

  • فأنا الآن موجود بينكم، وأرى كلّ واحد منكم، وأنتم أيضًا ترونني بأجمعكم، ولا يوجد هنا أيّ معنى للخطأ؛ وفي هذه الحالة، افرضوا أنّكم اطّلعتم على هذه المسألة بعينها في المنام، أو أن يكون الإمام عليه السلام قد أخبر عنها من عالم الغيب قبل عشرين أو ثلاثين سنة... وعلى سبيل المثال، فإنّ الرسول رأى في السنوات الأخيرة من عمره الشريف حادثة كربلاء بعينها، وذلك في القصّة المعروفة التي ورد فيها أنّه كان جالسًا في منزل السيّدة الزهراء عليها السلام، فجاء جبرائيل، وأخذه إلى كربلاء، فعاد من هناك، وثيابه مغبرّة، وهو يبكي، ويحكي عن تلك المسائل، ويقول: لقد ذهبت الآن إلى كربلاء، ورأيت ولدي الحسين على تلك الحال؛٢ ففي هذه الحالة، هل كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقتصر هناك على مشاهدة فيلم؟ أم لا، أنّه رأى الواقعيّة؟ لقد كان يبلغ سيّد الشهداء آنذاك سبع أو ستّ أو خمس سنوات، فما الذي رآه النبيّ إذن؟ من المؤكّد أنّه لم يُشاهد فيلمًا؛ ومن جهة أخرى، نعلم أنّ الأمور التي رآها واقعيّة؛ أي أنّها تحقّقت بعينها من دون أدنى اختلاف، ولو بمقدار رأس إبرة، وفي كافّة المسائل، حيث رأى قطع الأيدي، وسقوط الرؤوس، وأسر أطفال الرسول وأهل بيته؛ فشاهد تلك الحقيقة التي لم يسمح الزمان بعدُ بارتدائها لصورة خارجيّة؛ هل انتبهتم؟! فالمانع هنا هو الزمان وحسب؛ بينما الحقيقة موجودة.

    1. بحار الأنوار، ج ٩، ص ٥۷۸.
    2. المصدر نفسه، ج ٤٤، ص ٢٣٩؛ الإرشاد، الشيخ المفيد، ج ٢، ص ۱٣۰.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

29
  • فالذين يقولون: إنّ علم الله العنائيّ هو مجرّد نقوش لم يلتفتوا إلى أنّ علم الحقّ تعالى وإرادته لا يخضعان للزمان؛ أي أنّ الحقائق تنوجد، غير أنّ صورها الخارجيّة تكون متوقّفة على الزمان؛ فهناك فارق بين أن نقول: «إنّ الله تعالى سيخلق هذه الواقعيّة في سنة واحد وستّين للهجرة»، وبين أن نقول: «إنّ تلك الحقيقة قد خُلقت، لكن، سيُسدل عنها الستار في سنة واحد وستّين»؛ فهما مسألتان مختلفتان.

  • إنّ مسألة السيّد الزهراء عليها السلام والمصائب التي حلّت بها عجيبة جدًّا! أي أنّ تلك القضايا التي حصلت لها لم تكن عادية بتاتًا؛ ومفاد العبارة الواردة في زيارتها هو: أنّكِ قدّمتِ كافّة امتحاناتك قبل أن يخلقك الله تعالى، ونحن هنا، قمنا بمجرّد إظهارها وإسدال الستار عنها؛ أي أنّ جميع مراحل الكمال ومراتب التوحيد والتجرّد والولاية التي وصلت فيكِ بواسطة هذه الامتحانات إلى درجة الأتمّية والأكمليّة المطلقة قد تحقّقت في ذلك العالم؛ ونحن نشاهد الآن بروزها وظهورها الخارجيّ؛ أي أنّ نفسكِ كانت كاملةً، ووصلتِ إلى الولاية المطلقة، وطويتِ باختيارك كافّة مراتب التجرّد قبل أن تأتي إلى هذه الدنيا، حيث نستنتج من هذا الأمر أنّ: جميع ما يحصل للناس في هذا العالم هو مجرّد إسدال للستار، وأنّ ذلك برمّته قد تحقّق خارجًا في ذلك العالم باختيارهم.

  • عظمة مقام السيّدة الزهراء عليها السلام في كلام الأولياء وبيان لمعنى كونها «أمّ أبيها»

  • سؤال: هل سمعتم من حضرة السيّد الحدّاد شيئًا عن شأن السيّدة الزهراء عليها السلام ومنزلتها وخصائصها؟

  • جواب: أجل، ذات ليلة من الليالي التي كنّا فيها بكربلاء، سمعته فجأة يتحدّث عن السفر الذي تشرّف فيه بالذهاب إلى الحجّ، وزيارة الرسول والسيّد الزهراء وأئمّة البقيع؛ ولا يخفى أنّني أبوح بهذه المسألة لأنّها ليست من الأسرار، حيث قال: 

  • أكثر ما كان يجذبني في حرم رسول الله هي حقيقة السيّدة الزهراء عليها السلام؛ أي: رغم السعة العجيبة للنبيّ الأكرم الذي يُعدّ أبًا بالنسبة للصدّيقة، إلاّ أنّ مقامها عليها السلام، وجاذبيّتها، وسعتها، وقدرتها، وقوّتها كانت تُخرجني عن طوري؛ فما إن كنت ألج مسجد النبيّ والحرم، حتّى أرى أنّ ولاية السيّدة الزهراء قد محت وجودي بأجمعه (أي جميع عوالمي، وليس فقط وجودي هذا بأجمعه)، ولم يتبقّ منّي أيّ شيء!۱

    1. الروح المجرّد، ص ۱٥۷.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

30
  • وفي تلك الليلة، كان يتباحث مع المرحوم العلاّمة بخصوص هذه المسألة باعتبارها مسألة عجيبة؛ وقد سمعت كثيرًا من المرحوم العلاّمة في حديثه عن أحواله أنّ التوسّل بالسيّد الزهراء عليها السلام كان بالنسبة إليه مفتاحًا لحلّ العديد من المصاعب، وموانع الطريق والسلوك التي كانت تعرض له؛ كما كان المرحوم العلاّمة بهذا النحو أيضًا.

  • سؤال: هل تستحضرون عن العظماء بيانًا لعبارة «أمّ أبيها»، وما هي المعاني التي تُقصد منها؟ فعلى أيّ حال، أولئك الأعاظم هم الذين بوسعهم إدراك حقيقتها، في حين أنّنا لا نُدرك منها إلاّ معنى صوريًّا.

  • جواب: لقد سمعت من المرحوم العلاّمة كلامًا عن هذه المسألة، لكنّني لم أسمع بشأنها أيّ كلام عن السيّد الحدّاد، حيث تحكي عبارة «أمّ أبيها» عن حقيقة الجهة الانفعاليّة في عالم الوجود. فرسول الله يُمثّل الجهة الفاعليّة لعالم الوجود؛ أي أنّ نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم هي الجهة الفاعليّة لمقام الواحديّة، وهي الجهة التي تُمثّل إرادة الله تعالى في خلق عالم الوجود، بما يشمل عالمي المجرّدات والمادّيات؛ في حين أنّ الجهة الانفعاليّة التي تقبل هذه الفاعليّة هي نفس السيّدة الزهراء؛ ومن هنا، تكون نفسها عليها السلام سببًا لخلق عالم الوجود، ومن ضمنه النبيّ الأعظم؛ أي حتّى الوجود العينيّ والخارجيّ لرسول الله قد تحقّق بواسطة تجلّي الجهة الانفعاليّة للحقّ تعالى في نفس السيّدة الزهراء، بحيث لن تكون هناك أيّة فائدة في الجهة الفاعليّة من دون هذه المسألة.

  • فحينما أسعى لكي أُعمل إرادتي لرفع هذا الماء، ينبغي أن يوجد لأجل ذلك كوب؛ فلأُعمل هذه الإرادة كيفما أشاء؛ لكن، إن لم يكن هناك كوب، فبأيّ شيء ستتعلّق هذه الإرادة؟ ولهذا، فإنّ إرادة الفاعل بالنسبة لفعل أيّ شيء تستدعي وجود جهتين: جهة فاعليّة وجهة انفعاليّة، بحيث إذا لم توجد أيّة واحدة منهما، لن يتحقّق ذلك الفعل في الخارج.

  • الجهة الفاعليّة بالنسبة لعالم الخارج هو وجود النبيّ الأكرم، وجهته الانفعاليّة هي النفس الولائيّة للسيّد الزهراء عليها السلام، وضمّ الاثنين يُؤدّي لخلق عالم الوجود برمّته؛ وبالتالي، بوسعنا القول: إنّ الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها علّة من هذه الناحية لخلق حضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

31
  • ضرورة الاهتمام بمسألة التأسّي بالأولياء عند الحديث عن أحوالهم 

  • السائل: نريد بحقّ أن نشكركم على هذه البيانات والتوضيحات؛ إذ كانت المسائل راقية جدًّا من ناحية علميّة، كما أنّه جرى أثناء ذلك ذكرُ العديد من أولياء الله تعالى، وهو أمر كان بالنسبة إلينا قيّمًا جدًّا؛ وعلى أيّ حال، نقدّم لكم جزيل الشكر على بذل وقتكم واهتمامكم، مع كلّ ما تُقاسونه من مصاعب، علاوةً على المرض الجسديّ الذي ألمّ بكم.

  • المجيب: نرجو من الله تعالى أن يُوفّقكم؛ فمهمّتنا تتمثّل في التصدّي لهذه المسائل بعينها؛ وإذا كان من المفروض أن يكون هناك وقت يحظى برضا الله تعالى، فهو الوقت الذي نقضيه في بيان هذه المسائل التي تحدّث عنها العظماء والأولياء. فكما ذكرت في الجلسة السابقة للرفقاء والأحبّاء، لا ينبغي أن نقتصر في هذه المسائل على نقل الكلمات وذكر الحكايات؛ وإذا تأمّلتم في كلامي، ستجدون أنّني لا أتحدّث كثيرًا عن الحكايات والكرامات وخوارق العادات؛ لأنّني أعتقد أنّه من الاستخفاف والإهانة بمكان أن يقوم الإنسان ـ في هكذا ظروف ومجالس تُعقد للحديث عن أحوال العظماء ـ بنقل القصص غير العادية التي يغلب عليها الطابع الإحساسيّ والتخيّلي، حيث نجد الآن أنّ الكتاب الذي يحظى عادةً عند الناس بجاذبيّة أكبر من بقيّة الكتب المنشورة هو الكتاب الذي يحوي عددًا أكثر من هذه الحكايات والقصص؛ في حين أنّ هذه المسألة لا تُمثّل إلاّ قسمًا ضئيلاً من شؤون العظماء ومراتبهم الوجوديّة. فكم هو جيّد أن يستفيد الإنسان من المسائل التي تحظى بأهمّية بالغة في التربية، والكلمات التي يُمكنه أن يتأسّى ويقتدي بها، والبيانات التي من شأنها أن تقلبه رأسًا على عقب.

  • فما هي الفائدة الآن في أن أحكي لكم عن الكرامات التي شاهدتها من المرحوم الوالد؟ لقد كان من أولياء الله تعالى، وله مجموعة من الكرامات، بل وكرامات كثيرة، حيث شاهدت العديد منها برأي العين؛ كما كان تلامذته من أصحاب الكرامات؛ لكنّ هذه الكرامات ذهبت في نهاية المطاف جميعها برفقته! وحينئذ، إذا قلت: «لقد كان يُحيي الموتى»، فأيّة ثمرة سنجنيها من ذلك؟ أجل، هذا جيّد لمجرّد الاطّلاع على أنّه كان شخصيّة بارزة؛ لكن، إلى هذا الحدّ فقط. وما هي الأهميّة التي يكتسيها الحديث عن أنّه كان يُخبرني مرارًا وتكرارًا عمّا يجول في نفسي، وعن الغيبيّات، والحوادث المستقبليّة، والمسائل التي ستطرأ على إيران وغيرها بعد الثورة، والتي لم أخبر بها أيّ أحد إلى حدّ الآن؟ فكلّ ما كان يملكه في هذا المجال أخذه معه.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

32
  • فالذي ينفعني الآن أنا وأنت، هي المسائل التي تصنع حياتنا؛ وهي التي تحظى بالأهمّية، وينبغي الإفصاح عنها؛ أي تلك المسائل التي تُساهم في تربيتنا، وذلك الطريق والمنهج الذي يهدينا؛ وأمّا أنّه كان يعلم الغيب، ويتوفّر على كرامات، فهذا أمر كان يخصّه، وهو الآن غير موجود بيننا؛ وبالتالي، ما هي علاقتنا نحن بذلك؟

  • ولهذا، إذا كنت أشير إلى بعض هذه المسائل في مجالسي، فإنّ ذلك من باب التنوّع والتنبّه، ولا يوجد إشكال من هذه الناحية؛ لكن، أن يُركّز الإنسان أثناء بيانه لأحوال هؤلاء العظماء على هذه المسائل، وعلى الكرامات التي ظهرت منهم، والمسائل التي طرحوها في هذا المجال، فهو ممّا لا فائدة فيه، حيث شاهدت بنفسي صدور العديد من الكرامات من السيّد الحدّاد، والتي نقلها حتّى الآخرون؛ كما أنّني شاهدتها من المرحوم العلاّمة، لكن، لم تكن أيّة واحدة منها بنّاءة ومفيدة بالنسبة إليّ؛ وأمّا الأمور التي استفدت منها، فهي المسائل والكلمات التي سمعتها منهم، والطريق والمنهج اللذان رسموه لي، والحقّانية التي شاهدتها في طريقهم، والنزاهة والإخلاص والصدق الذي رأيته في أسلوبهم وسلوكهم؛ فهذه هي الأمور المفيدة والمصيريّة بالنسبة إليّ الآن، والتي أستخدمها في علاقتي بالله تعالى وبالناس، حتّى لا تخدعني الدنيا، ولا يُضلّني الرفيق والمريد عن طريقي، ولا يضع المريد قلادة على عنقي، فيسوقني نحو أهوائه؛ فهذه هي الأمور البنّاءة. كما أنّ المسائل التي كنت أوليها أهمّية في حياة العظماء تتمثّل في الحذر من الاغترار بتردّد الناس عليّ، وترحيبهم بي، ورفعهم أصواتهم بالصلوات عند مجيئي، وألاّ ألاحظ في كلامي وفي المسائل التي أطرحها المصلحة والمنفعة الظاهريّة والدنيويّة، بل أصدح بالحقّ الذي أرى أنّه وصلني من الأئمّة، من دون الاهتمام بمسألة أنّ كلامي أعجب فلانًا اليوم، ولن يُعجب الآخر غدًا؛ وأمّا أنّ أولئك العظماء كانوا يتوفّرون على كرامات ومعجزات وخوارق للعادات، فهذا أمرٌ يخصّهم، وهم الآن غير موجودين بيننا! فهذه هي المسألة المهمّة.

  • ولهذا، إذا كان الرفقاء والأحبّاء يسعون وراء بعض المسائل، فعليهم أن يُركّزوا اهتمامهم أكثر على هكذا أمور، حيث كانت تتوفّر العديد من المسائل التي طرحتموها على جهات علميّة أو فلسفيّة أو ذات صلة بالعرفان النظريّ؛ وهي بأجمعها جيّدة ومفيدة؛ لكن، ما يُمكننا أن نستفيد منه أكثر يتمثّل في المسائل التي كان العظماء يوصون بها في نطاق الحياة، والعلاقات، والسلوك العمليّ؛ وهي مسائل بنّاءة ستكون بالنسبة إلينا نموذجًا نحتذي به على الدوام، بحيث حتّى لو ارتحل الإنسان عن هذه الدنيا، فإنّها ستبقى معه إن شاء الله تعالى.

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

33
  • السائل: نشكركم غاية الشكر؛ وسنسعى إن شاء الله تعالى للاستفادة أكثر من الجلسة اللاحقة، والتركيز على هذه المسألة، لكي يحظى الجميع بالفائدة العمليّة والفكريّة المرجوّة.

  • المجيب: إن شاء الله تعالى، ونسألكم الدعاء بأن نظلّ جميعًا ثابتين وراسخين على الطريق، وأن نتمكّن من الظفر بتلك الخيرات والبركات التي حباهم الله تعالى بها؛ وبحقّ أقول: ماذا كان بوسعنا أن نفعل من دون هؤلاء العظماء؟ فهذا عجيب جدًّا! وبمن كنّا سنتأسّى؟ بمن؟!

  • ففي الليلة السابقة، كنت جالسًا بعد الدرس في زاوية بالمدرسة الفيضيّة؛ لأنّ دروسي وأبحاثي تُعقد في مدرسة دار الشفاء، فخطرت على بالي فجأة بعض المسائل، حيث ألّف بعضهم كتابًا أنكر فيه حادثة القلم والقرطاس اللذين دعا بهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين وفاته؛۱ وهذا أمر يبعث كثيرًا على الأسف؛ فكم ينبغي على الشيعيّ أن يتحسّر ويضرب على رأسه بسبب هذه السهولة في محو وتضييع أحد المستندات والأدلّة على حقّانية التشيّع! وكم يتعيّن على الإنسان أن يكون جاهلاً [حتّى يُنكر هذا الدليل]! وهذا عجيب جدًّا! مع أنّك تجده بلغ سنّ السبعين أو الثمانين! فما هي حقيقة تلك القداسة وذلك التقوى؟! فرأيت أنّ هكذا قداسة وتقوى لا ترفعان الإنسان إلى أيّة مرتبة! فترى الإنسان يُلقي دروسًا في الأخلاق، ومعروفًا بالزهد وكافّة الأمور، لكنّه يفتقر إلى الفهم، ويُعوزه إدراك الولاية والمعرفة؛ وهذا عجيب جدًّا! وتجد آخر يُنكر وجود الإمام تمامًا، وثالثًا يرفض مسألة دفع الباب على الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء؛ فما الذي تُريدونه من التشيّع؟! وما الذي تُريدونه من الأئمّة؟! وما الذي ستجنونه من هذا الكلام؟ فإذا كان أهل السنّة قالوا بأنفسهم: «إنّ عمر رفس الباب، فقطّع بنت الرسول إربًا إربًا»٢، لماذا تأتي أنت، وتُنكر هذا الأمر بعدما بلغتَ السبعين من العمر؟! ليأتي بعد ذلك علماء السنّة، ويقولوا: «أخيرًا، وبعد مرور ألف وأربعمائة سنة، اكتشف الشيعة الطريق الخاطئ الذي سلكوه، والتهم التي لفّقوها لنا!».

  • فمن هم الذين ينبغي علينا التأسّي بهم؟ ومن هم الذين علينا أن نجعلهم قدوةً لنا؟ ومن هم الذين علينا أن نحضر دروسهم، ونُصغي إلى كلامهم؟ فلو لم يكن لدينا هؤلاء الأولياء، ولو لم يوجد السيّد القاضي والعلاّمة الطباطبائيّ والسيّد الحدّاد والمرحوم الوالد، ولولا أنّني شاهدت هذه المسائل منهم، فبمن كنت سأقتدي؟ كنت سأكون مثل بقيّة الناس؛ وهنا، يلزمنا الانتباه للمكان الذي يجب علينا الذهاب إليه، والباب الذي يتعيّن علينا طرقه، والموضع الذي ينبغي علينا العثور فيه على الحقيقة. نرجو من العليّ القدير أن يمنّ علينا بفتح هذه المسائل، ويُوفّقنا لفهمها أيضًا.. إن شاء تعالى.

    1. كشكول زمان (فارسي)، ص ٢٩ ـ ٣٣.
    2. مطلع انوار (فارسي)، ج ۸، ص ٣۰۰، التعليقة:«تهديدُهم‌ عليًّا بالتّحريق ثابتٌ بالتّواتر القطعيّ، وحسبُك ما ذكَره الإمامُ ابنُ ‌قتيبة في أوائل كتاب‌ الإمامة والسياسة، والإمام الطبريّ في موضعين من أحداث السنة الحادية عشرة من تاريخه المشهور، وابن عبد ربّه المالكيّ في حديث السقيفة من الجزء الثاني من العقد الفريد، وأبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهريّ في كتاب السّقيفة؛ كما في ص ۱٣٤ من المجلّد الأوّل من شرح النّهج الحديديّ والمسعوديّ في مروج الذّهب، نقلًا عن عروة بن الزّبير في مقام الاعتذار عن أخيه عبدالله إذ همَّ بتحريق بيوتِ بني ‌هاشم حين تخلّفوا عن بيعتِه؛ والشّهرستانيّ نقلًا عن النظّام عند ذكر الفِرقة النظّاميّة من كتاب الملل والنّحل، وأفرَدَ أبو مخنف لأخبار السّقيفة كتابًا فيه تفصيلُ ما أجمَلناه. وناهِيك في شهرة ذلك وتواترِه قولُ شاعر النّيل، الحافظ إبراهيم في قصيدته العُمَرِيّة السّائرة الطّائرة:
      و قَولةً لعليٍّ قالها عمرُ***أكرِمْ بسامعها أعظِمْ بمُلقيها
      حرَّقتُ دارَك لا أُبقِي عليك بها***إن لم تُبايع و بنتُ المصطفى فيها
      ما كان غيرُ أبي ‌حفصٍ بقائلها***أمامَ فارِس عدنانٍ وحاميها»

العارف وتحقّقه بالتوحيد - نفحات الأنس - الإنسان الكامل في الفكر الشيعيّ - الجلسة الثانية

34
  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.