5

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

6538
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمالمناسبات الإسلامية

المجموعةعيد الفطر

التاريخ 1418/10/01


التوضيح

ما معنى إنّك كادح إلى ربّك كدحًا فملاقيه؟
وما هي أعظم النعم والعطايا الإلهيّة التي هيأها الله للإنسان للوصول إليه؟
وما معنى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم؟ وما أنواع الناس في هذه الدنيا؟
وما هي حقيقة أحوال الذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملأ الأعلى؟
كيف كانت علاقة المرحوم العلاّمة بمسجد القائم؟
تبحث هذه المحاضرة حول هذه المواضيع وتجيب عن تلك الأسئلة بأفضل بيان موضّحة حقيقة مقام الإنسان والخسارة العظمى التي تصيبه لو تلهّى بحطام الدنيا معرضًا عن لقاء ربّه.

/۱٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

  •  

  • عيد الفطر ۱٤۱۸ هـ - المجلس الخامس

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربِّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد

  • (اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • «الحمدُ للَّه الواصلِ الحمدَ بالنّعَم و النّعَم بالشّكر. نَحمَدُه علیٰ آلائهِ كمٰا نَحمَدُه علیٰ بلائهِ، و نَستَعینُهُ عَلیٰ هذه النُّفوسِ البِطاءِ عمّا أُمِرَت بِه، السِّراعِ إلیٰ ما نُهیَت عَنهُ. و نَستَغفِرُهُ مِمّا أحاطَ بِهِ عِلمُهُ و أحصاهُ كتابُهُ، عِلمٌ غیرُ قاصِرٍ و كتابٌ غیرُ مُغادِرٍ. و نُؤمِنُ بِه إیمانَ مَن عایَنَ الغُیوبَ و وَقَفَ عَلَی المَوعودِ؛ إیمانًا نفیٰ إخلاصُه الشّرك و یقینُه الشّك و نَشهَدُ أنْ لا إله إلّا الله وَحدَه لا شَریك لَهُ و أنَّ مُحَمَّدًا [صلّی الله علیه و آله و سلّم] عَبدُهُ و رَسولُهُ؛ شَهادَتینِ تُصعِدانِ القَولَ و تَرفَعانِ العَمَلَ، لا یَخِفُّ میزانٌ توضَعانِ فیه و لا یثقُلُ میزانٌ تُرفَعانِ عنه.

  • أُوصیكم عِبادَ الله و نفسي بِتَقوَی الله الَّتي هي الزّادُ و بِها المَعاذُ [المعاد]؛ زادٌ مُبلِّغٌ و مَعاذٌ [معاد] مُنجِحٌ. دَعا إلَیها أسمَعُ داعٍ و وَعاها خَیرُ واعٍ؛ فَأسمَعَ داعیها و فازَ واعیها.۱

  • {بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ، قُلۡ هُوَ ٱللَهُ أَحَدٌ ، ٱللَهُ ٱلصَّمَدُ ، لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ، وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ}.٢

  •  

  • بسم الله الرّحمٰن الرّحیم

  •  

  • الحمد للّه ربِّ العالَمین، حمدًا أبدیًّا بأزَلیّتِه و أزَلیًّا بأبَدیّتِه و الصّلاةُ و السّلام علیٰ خَیرِ خَلْقِه وأشرَفِ بَریّتِه، أبِی ‌الأكوانِ بفاعلیّتِه و أُمِّ ‌الإمكانِ بقابلیّتِه،٣ طاوُوسِ الكبریاءِ و حمامِ الجبروت٤ 

  • الّذی سُمِّیَ فی السّماءِ بأحمد و فی الأرَضینَ بأبی ‌القاسمِ محمّد.

  • اللهمّ صلّ و سلّم و زِدْ و بارِك علیٰ نبیِّك و رسولِك و خِیَرَتِك مِن خلقِك أجمعین، و صلّ اللهمّ علیٰ سیّدِ الوصیّینَ و خیرِ خلقِه مِن بعدِ نبیِّك أجمعین أمیرالمؤمنین علیِّ بن أبی‌طالب و علیٰ فاطمة الزّهراء الشّفیعةِ فی یوم الجزاء و علَی السّبطَين الحسن و الحسین و علیِّ بن الحسین ومحمّد بن علیٍّ و جعفر بن محمّدٍ وموسَی بن جعفرٍ و علیّ بن موسیٰ و محمّد بن علیٍّ و علیّ بن محمّدٍ و الحسن العسكری و الحجّة القائم المهدیّ صلواتُك و سلامُك علیهم أجمعین.

    1. نهج البلاغة (صبحي الصالح)، ص ١٦٩.
    2. سورة الإخلاص (١١٢). 
    3. مقتبس من صلوات محي الدين بن عربي المعروفة في كتاب الأئمّة الاثنا عشر والصلوات الكبرى، ص ۱٥۱؛ مطلع انوار، ج٤، ص ۱٢٤.
    4. مقتبس من ناسخ التواریخ، ج ٤، ص ١٧٥٥، كلام أمیرالمؤمنین علیه السلام عند دفن جثمان الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله و سلّم.

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

3
  • «اللهمّ كن لِولیّك الحُجّةِ بنِ الحَسَنِ صَلَواتُك عَلیهِ و علیٰ آبائِهِ فی هذِه السّاعَةِ و فی كلِّ ساعَةٍ ولیًّا و حافِظًا و قائِدًا و ناصِرًا و دَلیلًا و عَینًا حَتیٰ تُسكنَهُ أرضَك طَوعًا و تُمَتِّعَهُ فیها طَویلًا».۱

  • معنى إنّك كادح إلى ربّك

  • قال الله تعالیٰ فی كتابِه و مُبرَم خطابِه:

  • {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ ، فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ ، فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا ، وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا ، وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ ، فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا ، وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا}.٢

  • يا أيّها الإنسان إنّك راجع إلى ربّك بأيّ طريق وبأيّ حال، فهذا قانون لا يتخلّف في نظام الخلقة وليس لأحد أن يغيّره ويبدّله. وعندما تعطى كتاب أعمالك بيدك في ذلك اليوم يوم الجزاء، فإن أعطيتها من جانب اليمين ومن جانب الخير والسعادة فهنيئًا لك، فقد كُتبت لك السعادة ولم يذهب عمرك هدرًا، ولم تذهب حياتك الدنيا عبثًا، وقد استفدت من هذه الذخيرة التي أعطاك الله، تنظر إلى أهلك مسرورًا، وأمّا إذا أعطيت كتابك من ناحية الشمال ومن وراء ظهرك فأنت في حجاب وقد ضاع عمرك وخسرت السعادة وبقيت فجًّا ناقصًا في هذه الدنيا، ولم تستطع الاستفادة من الذخيرة الإلهيّة للوصول إلى مقصودك. 

  • الآية آية عجيبة للغاية، يبيّن تعالى فيها أنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان في هذه الدنيا ليس خارجًا عن قدرة الله وحكومته وسلطنته، وكلّ فعل يقوم به الإنسان في هذه الدنيا يتبدّل في المآل إلى مظهر من مظاهر الحق، لا تظنّوا أنّا خرجنا بأعمالنا عن حيطة قدرة الحقّ وحكومته، أينما ذهبنا وأينما كنّا فلسنا خارجين عن كوننا مظهرًا لحضرة الحقّ، وبعبارة أخرى لم نخرج عن سلطة الله واقتداره. 

  • رگ ‌رگ است این آب شیرین و آب شور *** در خلایق می‌ رود تا نفخ صور٣
  • يقول: كلّ شريان من شرايين الخلق يسري فيه هذا الماء العذب والماء الأجاج إلى يوم ينفخ في الصور.

  • ... *** گروهی این، گروهی آن پسندند.٤
  • يقول: بعضهم يعجبه هذا وبعضهم يعجبه ذاك.

    1. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٦٣٠.
    2. سورة الانشقاق (٨٤) الآیات ٦ ـ ١٢.
    3. مثنوی معنوی (آذر یزدی)، دفتر اول، ص ٣٦.
    4. دوبیتی‌های بابا طاهر، دوبیت رقم ٤٠:
      دلا خوبان دلِ خونین پسندند *** دلا خون شو كه خوبان این پسندند
      متاع كفر و دین بی‌مشتری نیست *** گروهی آن گروهی این پسندند
      يقول: يا قلب إنّ الحسان يحبّون القلوب الحرّى *** فلتكن ذا حرقة يا قلب لكي تحبّك الحسان
      ليس متاع الكفر والدين خاليًا من المشترين *** فئة تختار هذا وفئة تختار ذاك

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

4
  • ليس تجلّي مظهر قهّارية الحقّ في ذاك العالم فحسب، ولا تخلو الجنّة من السكّان بواسطة ترك الأعمال الحسنة، بل جميع الأعمال التي يطويها الإنسان في هذه الدنيا هي في النهاية غير خارجة عن حكومة الله. وفي حركته في أيّ طريق، يتعلّق به ظهورُ واحدٍ من الأسماء الإلهيّة. إذا ما عفونا في هذه الدنيا وآثرنا، تعلّق بنا ظهور اسم الجواد، وإذا ما كنّا رحماء عطوفين وتصرّفنا بشكل جيّد وراعينا الجميع في علاقاتنا تعلّق بنا ظهور اسم الرحمة. إذا كنّا في هذه الدنيا صالحين وعملنا بالتكاليف تعلّق بنا هناك القرب من الله. 

  • وأمّا إذا كان العكس فخرجنا من التكاليف، وأوكلنا زمام أمورنا إلى الشيطان وأردنا أن نتجاوز عن أوامر الله ونواهيه، فاعلموا أنّ الجنّة لن تكون خالية، فقد خلق الله لجنّته أناسًا، فليس نظام التكاليف والأحكام الشرعيّة الإلهيّة بالذي يبقى خاليًا. هناك سعادة ومائدة بسطت، فكلّ من كانت له همّة واستعداد وكلّ من كان يفكّر في نفسه وفي سعادته في ذلك العالم فإنّه يجلس على هذه المائدة، ومن لم يكن لديه هذا الاستعداد فلن يجلس. 

  • كلّ عمل نقوم به في هذه الدنيا فإنّه يبدّلنا ويغيّرنا إلى واحد من ظهورات الله، وهذا التغيير والتبدّل إمّا أن يوصل الإنسان إلى نقطة الكمال ويجعله من زمرة المقرّبين، أو أنّه يجعلنا في زمرة الأشقياء ويختم علينا بخاتم البطلان، أو يجعلنا في الوسط، فبين الشقاوة والسعادة الأبديّتين المطلقتين حدّ فاصل قد يقع فيه الإنسان. فما دام الأمر كذلك وقد أنعم الله تعالى على الإنسان بهذه النعم، وبالالتفات إلى الأدوات والوسائل والوسائط التي جعلها الله باختيار الإنسان، ويمكنه بها أن يسير في طريق الهداية، فإذا قصّر فلا يلومنّ إلا نفسه. 

  • ما أعظمُ نعم الله علينا؟! 

  • لقد أنعم الله علينا وامتنّ علينا حين أرسل إلينا نبيًّا كهذا: {لَقَدۡ مَنَّ ٱللَهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولًا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ}۱ هل تعلمون أنّا لو كنّا في زمان الأمم السابقة لما أمكننا أن نصل إلى كمالات أمّة النبيّ؟ هل فكّرنا يومًا ما بهذا الأمر؟ أليست هذه أعظم منّة امتنّ بها الله علينا حين خلقنا في زمان صادفنا فيه شريعة النبيّ الأكرم ودخلنا في أمته لا في أمم الأنبياء السابقين؟! لو دار الزمان بنحو آخر وكانت الظروف بنحو آخر وكنّا في الأمم السابقة لكنّا حرمنا حتمًا من هذه السعادة الكبرى. فإذن أعظم منّة امتنّ بها الله علينا هي الوجود المبارك للنبيّ الأكرم، فهذه منّة. 

    1. سورة آل ‌عمران (٣) الآیة ١٦٤. 

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

5
  • والمنّة الأخرى التي امتنّ بها علينا هي أنّه جعل لنا وصيًّا للنبيّ كالنبيّ أعني أمير المؤمنين عليه السلام. الوصيّ الذي لا يمكن للإنسان طوال حياته أن يخرجه عن كونه أسوة، أي إنّ هذا الوصيّ يغيث الإنسان ويأخذ بيده في كلّ برهة من المراحل الصعبة والمشكلة في الحياة فيفتح أمامه الطريق. نحن يمكننا أن نحلّ جميع المشاكل بمقارنتها بحياة هذا الرجل. 

  • ثمّ ماذا جعل لنا؟ جعل لنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها، شفيعة يوم الجزاء، فهل تعلمون أيّ مقام لفاطمة؟! عندما تقرّر أن يتزوّج أمير المؤمنين عليه السلام وفاطمة الزهراء قال النبيّ لأمير المؤمنين: يا عليّ كم لديك من مال الدنيا؟

  • فقال: يا رسول الله ليس لديّ إلا سيف ودرع.

  • حينها جاء جبرائيل بخطاب من عند الله: 

  • يا رسول الله، الله يقرئك السلام ويقول إنّ مهر فاطمة في عهدتي، لها ما شاءت، فالله تعالى هو الممثّل لأمير المؤمنين! 

  • قال النبيّ للزهراء سلام الله عليها إنّ الله تعالى يقول إنّ لك ما تشائين من المهر. 

  • فقالت أريد شيئًا واحدًا هو الشفاعة للمذنبين يوم الجزاء. ۱

  • أليس هذا منّة عظيمة؟ فماذا ينقصنا مع وجود جميع هذه الألطاف التي منّ الله بها علينا؟! أرسل إلينا نبيًّا كالنبيّ الأكرم، ووصيًّا كأمير المؤمنين عليه السلام وأمًّا كالسيّدة فاطمة الزهراء التي هي أمّ جميع الأمّة والأئمّة والذين كان وجودهم جميعًا لأجل سعادتنا، فهل تعرفون على مرّ التاريخ كهؤلاء؟!

  • أولئك آبائی فَجِئنی بمِثلِهِم *** إذا جَمَعَتنا یا جَریرُ المَجامِع٢
  • الآن وجود بقيّة الله المبارك ناظر على جميع أعمالنا، وكلّ همّه ومقصده ومقصوده هو أن يأخذ بأيدي الشيعة ويرتقي بهم إلى الأعلى، كلّ هدفه أنّه إذا ما قال قائل: يا الله أن يجعلها سببًا لقربه. فهذه مسائل ووسائط وأدوات لدينا جعلها الله في اختيارنا. فإذا قصّرنا مع كلّ ذلك فماذا ستكون النتيجة؟

  • {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ}٣

  • فأنت تسير إلى ربّك بأيّ نحو، فإن كنت من زمرة الأشقياء فأنت لست خارجًا عن حكومة الله، وإن كنت من زمرة السعداء فأنت أيضًا لست خارجًا عن حكومة الله. ولكنّ الكلام هو في أنّه أليس من البعيد عن العقل واقعًا أن يلهي الإنسان نفسه ـ بعد وجود هذه النعم والإمكانات التي جعلها الله تحت تصرّفه ـ في هذه الأيّام المعدودة من عمره بأمور وأفعال سافلة؟

    1. راجع عوالم العلوم، ج ١١، قسم «١» فاطمة سلام الله علیها، ص ٤٥٠؛ إحقاق الحق، ج ١٩، ص ١٣١: 
      فلمّا سمعت فاطمة عليها السّلام بأنّ أباها زوّجها وجعل الدراهم لها مهرا قالت:
      «يا أبت ! إنّ بنات سائر الناس يزوّجن على الدراهم والدنانير، فما الفرق بينك وبين سائر الناس، فاسأل من اللّه تعالى أن يجعل مهري شفاعة عصاة أمّتك.
      فنزل جبرائيل عليه السّلام من ساعته وبيده حريرة فيها مكتوب:
      جعل اللّه تعالى مهر فاطمة الزهراء ابنة محمّد المصطفى صلى اللّه عليه وآله وسلم شفاعة امّته العصاة.
      وأوصت فاطمة عليها السّلام وقت خروجها من الدنيا أن يجعل ذلك الحرير في كفنها؛
      وقالت عليها السّلام: إذا حشرت يوم القيامة أرفع هذا إلى يدي وأشفع في عصاة أمّة أبي». 
    2. دیوان الفرزدق، القصائد، قصیدة البحر الطّویل.
    3. سورة الانشقاق (٨٤) الآیة ٦.

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

6
  • ما معنى خلقنا الإنسان في أحسن تقويم؟

  • {لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ، ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ ، إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ}۱؛

  • لقد خلقنا الإنسان في أحسن مقام، أحسن مقام لا أنّا أعطيناه عينًا ويدًا وجوارح، فهذه الأشياء موجودة أيضًا لدى سائر الحيوانات، ولا يعني أنّ الإنسان يمشي على رجلين، حيث يمكن أن تمشي بعض الحيوانات على رجلين أيضًا. 

  • {لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ} أفضل تقويم يعني الاستعداد للوصول إلى مقام كبرياء الحقّ فهذا المعنى هو معنى التقويم، فقد جعلنا نحن في الإنسان استعدادًا لا وجود له عند سائر الموجودات من الحيوانات والجنّ وحتّى الملائكة. فالله لم يقل عن الملائكة إنّهم في أحسن تقويم بل آية {لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ} هي في حقّ الإنسان. وأفعل التفضيل هنا تفيد الإطلاق، فأيّ مرحلة من مراحل الكمال أنتم تتصوّرونها فقد جعلنا نحن في الإنسان أحسن وأفضل منها، ومقام الإطلاق يقتضي اللانهاية في كلّ صفة، ولأنّ مقام الكبرياء لذات الحقّ وحده فيه تجرّد مطلق بغير حدّ ولا نهاية فإنّنا نستفيد أنّ معنى {فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ} هو أنّا جعلنا في الإنسان الاستعداد للوصول إلى مقام الذات. ثمّ بعد ذلك نجد أنّ هذا الإنسان صاحب هذه المكانة والتي يمكنه من خلالها أن يرفع نواقصه ويوصل استعداداته إلى الفعليّة كيف يقضي وقته في أيّ أمور طفوليّة وفي أيّ قضايا في هذه الدنيا! 

  • {ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ}؛

  • لقد أرجعنا الإنسان إلى هذه الدنيا وجعلناه ملتفتًا إلى عالم الطبع وعالم المادّة، وهنا ينقسم الناس إلى قسمين:

  • أنواع الناس في الدنيا 

  • فئة رغم أنّهم في هذه الدنيا ويعيشون فيها ويتقلّبون فيها، إلا أنّ قلوبهم ليست فيها، لا يجعلون قلوبهم تتعلّق بهذه الدنيا، يختارون الدنيا كمعبر، وتبعًا لـ {أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ} فهم يسعون للوصول إلى مقام كبرياء الحقّ. فهذه فئة لا يخدعها المقام والموقع، لا يمنعهم المال والجاه عن تلك الخطّة ولا يحرفهم عن تلك النقطة. انظروا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ماذا كان أمير المؤمنين؟ لقد أخذوا منه الخلافة، ولكن ما الفرق بالنسبة إليه؟ مرّت على ذلك خمس وعشرون سنة ومع ذلك أعطوه الخلافة فهل اختلف حاله؟ هل كان هناك تفاوت في حاله؟! إنّه يقسم لابن عبّاس أن والله «دنیاکُم عندي أهوَنُ مِن عَفْطَةِ عَنْز».٢

    1. سورة التین (٩٥) الآیات ٤ ـ ٦.
    2. الاحتجاج، ج ١، ص ١٩٤؛ نهج البلاغة (صبحي الصالح)، ص ٥٠: 
      «أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على أولياء الأمر: أن لا يقروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز .وفي نهج البلاغة ص ۷٦: قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذيقاروهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النّعل فقلت: لا قيمة لها فقال عليه السّلام: والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقّا، أو أدفع باطلا».
      وفيه ص ٥۱۰: «واللَّه لَدُنْيَاكُمْ هَذِه أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عِرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ».

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

7
  • لم يكن أمير المؤمنين يمازح، بل يقول حقًا وجدًّا. يعني يريد أن يقول إنّ هذه السنوات الخمس والعشرون من الحرمان من الخلافة لم تؤثّر في وجود عليّ، سواء وصلت الخلافة إليه أم لم تصل فإنّه يسير في طريقه الحقّ، فهذا هو الأسوة، وهذا هو القدوة، وهذا هو موضع التأسّي. 

  • لقد جاء هذا الرجل إلى الدنيا ولكنّه لم يتلوّث، جاء إلى هذه الدنيا ولكنّه لم يبتلَّ بها، جاء إليها ولكنّه لم ينظر إليها، كان نظره إلى الجانب الربوبيّ والجانب الأمري لعالم الدنيا، لا إلى الجانب الخلقيّ منها، كان يرى ما وراء الستار، لا ما هو خارجه، لقد كان عليّ يرى باطن الأمر، كان يرى فراغها، وأنّه سيترك يومًا ما كلّ ذلك ويمضي.

  • نحن غافلون عن هذا، ولا ننظر إلاّ إلى ظاهر الأمر دون أن نرى خلفه وباطنه وحقيقته، لذلك نخدع وتختلف أعمالنا تبعًا لذلك، ويظهر في أفعالنا وسلوكنا وقولنا وسريرتنا تحوّل. كلّ هذا لأنّنا لا نرى ما وراء الستار وباطن الأمر، ولم يتّضح لنا خواء الدنيا واعتباريّتها. نرى كلّ هذه الآثار ولا نعتبر، تحصل لنا كلّ هذه الأمور والمسائل ولا نعتبر. نؤنس أنفسنا في هذه الدنيا بمجموعة من الأمور الفارغة وحينها يكون قد فات الأوان ولا ينفع الندم. فهؤلاء هم هكذا. 

  • وبعض الناس يأتون إلى هذه الدنيا وهم ينظرون إلى هذه الجهة وإلى تلك أيضًا، يصلون إلى شيء من هذه الدنيا كما يرجعون إلى شيء من جانب الباطن، يشتغلون مقدارًا بمسائل الدنيا، ويجيلون أفكارهم فيها، ومن جهة أخرى يذكرون الله أيضًا أحيانًا، أحيانًا يفكّرون بالخيرات، أحيانًا يفكّرون بالعمل الصالح، فهؤلاء رغم أنّهم ليسوا في تلك المرتبة، ولكنّهم رغم ذلك أقرب إلى الحقيقة شيئًا ما. ومع ذلك فهم مبتلون بالخسران أيضًا، فهم لم يستفيدوا من تلك الذخيرة الوجوديّة التي لها قابليّة الوصول إلى منتهى الفعليّة. وهكذا تتوالى المراتب. 

  • وهناك فئة أيضًا كأمير المؤمنين والأئمّة المعصومين والأولياء والأعاظم الذي يأتون إلى هذه الدنيا ولكن لا يعلق شيء من غبارها بعباءاتهم وثيابهم. هؤلاء يخرجون من الدنيا كما جاؤوا إليها. تمامًا كالمسافر الذي يسير وهدفه مدينة معيّنة فيعبر بين المدن للوصول إلى هدفه غير آبه ولا ملتفت إلى هذه الأماكن ويستفيد منها فقط كطريق، لأنّ هدفه مكان آخر. فهؤلاء هم الذين لا وجهة لهم إلا جانب الملكوت، ولا وجهة لهم إلا الجانب الربوبيّ. هؤلاء هم السعداء، وهؤلاء هم الذين استفادوا من هذه الدنيا لأجل الوصول إلى كمالهم دون أن يتلوّثوا ويصبحوا أسرى في هذا الشراك. 

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

8
  • {وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا}.۱

  • يدخلون عالم الطبع وعالم الدنيا، وكلّ إنسان يدخل بمقداره وبمقدار استعداده والهمّة التي لديه للعبور من الدنيا وعدم التلوّث بزخارفها.

  • {ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّ نَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا}٢؛ 

  • ننجّي الذين جاؤوا إلى هذه الدنيا وتحرّكوا وعبروا منها ولكنّهم لم يلوّثوا ذيولهم بزخارفها. 

  • النجاة تعني أنّا نبلغ بمقام استعدادهم وقواهم الملكوتيّة إلى الفعليّة، نفتح أعينهم الباطنة على عوالم الملكوت والجبروت، ونجعل قلوبهم مستنيرة ومنيرة بأنوار اللاهوت ونجعلهم {فِي مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقۡتَدِرِۢ}٣ نفعل بهم هذا.

  • وأمّا الذين جاؤوا إلى هذه الدنيا وتلوّثوا بها فلا مكان لهم في مقام كبرياء الحقّ. من كانت نفوسهم ملوّثة {أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۢ بَعِيدٖ}٤؛وهؤلاء هم الذين يقول فيهم {وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ}٥

  • يؤتون كتاب أعمالهم من وراء ظهورهم، ليست وجهتهم وجهة الربوبيّة ولا يتوجّهون نحو الله، وجهتهم الظلمة وقد جعلوا الله تعالى وراء ظهورهم، لذلك فإنّهم يؤتون كتاب أعمالهم من وراء ظهورهم، وهذا كلّه تمثيل وتشبيه، وجوههم متوجّهة إلى جهنّم، وجهتهم وجهة الباطن، عليهم أن يعودوا ويخرجوا من الظلمة إلى النور ولكن لا يستطيعون، لقد فات الأوان. 

  • «اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل»٦. 

  • أليس من الحماقة واقعًا أن يقضي الإنسان هذين اليومين اللذين منّ الله بهما عليه بأمور هو يذعن بخطرها الجادّ وخسرانها اليقينيّ القاطع؟! هل يقف الإنسان متفرّجًا إذا أحسّ بخطر؟ إذا رأينا أن نعمة دنيويّة تفوتنا فهل حصل يومًا أن وقفنا متفرّجين؟ إذا رأينا أنّ خطرًا يهدّدنا هل حصل أن نقف مكتوفي الأيدي؟! أم نقوم ونتابع؟ فماذا حصل هنا حتّى صرنا لا نلتفت إلى مسألة بهذه الأهميّة يرتبط بها رأسمالنا الأبديّ وحياتنا الخالدة وخسراننا الأبديّ وشقاؤنا الدائم، ثمّ نسعى إلى أمور فارغة؟! لماذا نكون هكذا؟ انظروا إلى كامل نهج البلاغة وماذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام حول الآخرة والموت؟ يقول: 

  • «ما رأيت يقينًا لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه كالموت»۷. فرغم يقين الناس بالموت إلى هذا الحدّ لكنّهم يتعاملون معه معاملة الشكّ وكأنّ شيئًا من ذلك لن يكون. 

    1. سورة مریم (١٩) الآیة ٧١.
    2. سورة مریم (١٩) الآیة ٧٢. 
    3. سورة القمر (٥٤) الآیة ٥٥. 
    4. سورة فصّلت (٤١)الآیة ٤٤.
    5. سورة الانشقاق (٨٤) الآیة ١٠.
    6. نهج البلاغة (صبحي الصالح)، ص ٨٤.
    7. في تحف العقول، ص ٣٦٤:قال [الصّادق] علیه السلام: «وَ لَمْ یَخْلُقِ اللهُ یَقِینًا لا شَك فِیهِ أَشْبَهَ بِشَك لا یَقِینَ فِیهِ مِنَ الْمَوْتِ."
      وفي بحار الأنوار ج ٦، ص ۱٣۷ ح ٤۰: الإمامُ عليٌّ عليه السلام: «ما رَأيتُ إيماناً مَع يَقينٍ أشبَهَ مِنهُ بشَكٍّ على* هذا الإنسانِ ؛ إنّهُ كُل يَومٍ يُوَدِّعُ إلَى القُبورِ ويُشَيِّعُ، وإلى غُرورِ الدّنيا يَرجِعُ، وعنِ الشَّهوَةِ والذُّنوبِ لا يُقلِعُ، فلَو لَم يَكُن لابنِ آدمَ المِسكينِ ذَنبٌ يَتَوَكَّفُهُ ولاحِسابٌ يَقِفُ علَيهِ إلّامَوتٌ يُبَدِّدُ شَملَهُ ويُفَرِّقُ جَمعَهُ ويُوتِمُ وُلدَهُ، لَكانَ يَنبَغي لَهُ أن يُحاذِرَ ما هُوَ فيهِ بأشَدِّ النَّصَبِ والتّعَبِ». * في دعائم الإسلام ص ٢٢۱ إلا هذا الإنسان. 

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

9
  • {ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ...}؛۱ كان هناك أناس جاؤوا إلى هذه الدنيا أيضًا وكانوا فيها، وكان لهم فيها مال وتزوّجوا وعملوا فيها بالتجارة واشتغلوا فيها بالعلوم المتعارفة وغير المتعارفة، ولكنّهم لم يتركوا قلوبهم تتعلّق بها، هذا هو المهمّ. رأوا الله مالكًا لجميع الأمور، لا أنفسهم، عدّوا هذه الأمور اعتباريّة، لا حقيقيّة، رأوا أنفسهم عبادًا وفي يد قدرة الله وعبادًا للمولى، لا أنّهم رأوا أنفسهم أسيادًا وأحرارًا. وكما قال موسى بن جعفر عن بشرٍ الحافي: «أعبدٌ صاحب هذه الدار أم حرّ؟ فقالت: حرّ. فقال: «صدقت لو كان عبدًا لخاف من مولاه»٢

  • فالعبد لا يمكنه أن يتصرّف في أمور مولاه، ويعمل خلاف ما يقوله وخلاف رضاه، لأنّه ليس له أيّ اختيار من نفسه. نحن نرى أنفسنا أحرارًا وأسيادًا، لا نرى أنفسنا عبيدًا لله ولا نشعر بالعبوديّة لله، لو كنّا نشعر بذلك لاختلف سلوكنا وأفعالنا.

  • إنّ رواية عنوان البصري رواية عجيبة يقول فيها الإمام الصادق عليه السلام لعنوان ـ وقد كان المرحوم العلاّمة يوصي مريديه دائمًا بمطالعتها ويقول: عندما كنت في النجف أنا بنفسي كنت أعمل بهذا الأمر وعلى الأقلّ كنت أطالعها في الأسبوع مرّتين٣

  • {وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}٤؛ على الإنسان أن يكون دائم التذكّر. 

  • في هذه الرواية كامل همّ الإمام الصادق هو أن يوصي عنوان بأن يعدّ نفسه عبدًا لله. إن حصّلت مالاً فاعلم أنّه لله، هو مال الله وأنت مجرّد واسطة ووكيل، أنت لست موكِّلاً، إذا تزوّجت فاعلم أنّك تحت قيّوميّة الله وملكيّته، ولا يمكنك أن تتصرّف مع زوجتك وعيالك كما يحلو لك، ولا يمكنك أن تأمرهم بما يحلو لك! يحقّ لك أن تأمر وتنهى تحت ولاية الله، لا أكثر ولا أقلّ. هناك أمانة إلهيّة في يدك، وأنت عليك أن تقوم في مقام التربية بمقدار أمر الشرع وحكمه ورضا الله، وإذا ما أفرطت فقد تصرّفت في حقّ مولاك، وإذا ما قصّرت تكون أيضًا قد تصرّفت في حقّ مولاك وخالفت أمره ونهيه. عندما تتعامل مع الناس فعليك أن تعلم أنّك أنت نفسك عبد وجميع الناس الذين تتعامل معهم عباد أيضًا. فإيّاك أن تغشّ في المعاملة، وإيّاك أن تقول غير الحقّ في تجارتك ومعاملاتك، أن تقول غير الحقّ وتغشّ في المعاملة فهذا يعني خداع الله. أنت تتعامل مع عبد الله، مع عبد هو أيضًا ليس له اختيار وهو أيضًا تحت تكفّل الله، فمن تريد أن تخدع؟! من تريد أن تغشّ؟! أتريد أن تغشّ عبد الله؟! أنت مخطئ! أنت تغشّ الله والله لا يخدع؛٥ {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَهُ وَٱللَهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ}٦

    1. سورة مریم (١٩) الآیة ٧٢.
    2. العلامة الحلّي، منهاج الكرامة، ص ٥٩: اجتاز [الإمام الكاظم عليه السلام] على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب: فقال لها: «يا جارية ! صاحب هذه الدار حرّ أم عبد ؟ فقالت: بل حر فقال: صدقت، لو كان عبدا خاف من مولاه»!.
      فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأك علينا ؟ فقالت: حدثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافيًا حتى لقي مولانا الكاظم عليه السلام فتاب على يده .
    3. راجع آیین رستگاری، ص ١٦٨. وفي الترجمة العربية: سبيل الفلاح، المحاضرة السادسة، ص ۱۰.
    4. سورة الذاریات (٥١) آلآیة ٥٥.
    5. للاطّلاع الكامل على مضمون الروایة المعروفة بحدیث عنوان البصري يراجع: بحار الأنوار، ج ١، ص ٢٢٤ ـ ٢٢٦؛ الروح مجرّد، ص ١٧٦ ـ ١٨٥.؛ سلسلة محاضرات المصنّف رضوان الله عليه في شرحها. (م)
    6. سورة آل‌ عمران (٣) الآیة ٥٤. 

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

10
  • نحن نظنّ أنّا إذا قمنا بعمل خاطئ فنحن الرابحون، كلاّ بل نكون قد خدعنا أنفسنا، ونكون قد سبّبنا لأنفسنا الشقاء. من كان في أعيننا مخدوعًا فهو الرابح، ونحن الرابحون خسرنا. على الموحّد أن يلاحظ في جميع الأمور مقام عبوديّته وعبوديّة الجميع. إذا كنّا كذلك أمكن أن نصل إلى شيء، وإلا {وَ نَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا}۱؛ نكون هناك في زمرة الظالمين والجهّال وفي زمرة الظالمين الذين خسروا أعمارهم.

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام إنّ هؤلاء أيّ أناس كانوا؟ هؤلاء جاؤوا إلى هذه الدنيا ومضوا والآن لم يعودوا بيننا. علينا الآن أن ننظر إلى أنّنا في يوم من الأيّام سنلحق بهم أيضًا، وعندها سنرى عندما يجعلوننا إلى جانب ذلك الإنسان هل سنتحسّر أم لن نتحسّر؟ ففي النهاية هؤلاء فارقونا ولم يعودوا بيننا:

  • «و صَحِبوا الدّنیا بأبدانٍ أرواحُها مُعلّقةٌ بالمَحَلِّ الأعلیٰ»٢ 

  • لقد كان هؤلاء في الدنيا بأبدانهم فقط، أي إنّهم لم يتلوّثوا بغبارها، ولم يكن إلى جانب الناس سوى أبدانهم، كانوا يخالطون الناس، ولكنّ أرواحهم في الحقيقة كانت في مكان آخر. 

  • كيف كانت علاقة المرحوم العلاّمة بمسجد القائم؟

  • لقد كنّا مع المرحوم العلاّمة الوالد المعظّم، فكيف كانت شخصيّته؟ كان يأتي ويتكلّم، يتحدّث مع الجميع، يضحك، يذهب، ولكنّ فكره كان في موضع آخر، لم يتعلّق قلبه بهذه الدنيا، وما كان الآخرون يسعون إلى جمعه ويستمسكون به بكامل وجودهم كان هو يغضّ الطرف عنه. 

  • عندما هاجر من طهران لتقبيل عتبة عليّ بن موسى الرضا وتشرّف بالسكن في مشهد قال لي كثير من علماء الطراز الأوّل في طهران: 

  • إنّه مع قيامه بأعباء أحد المساجد كيف يترك هذا الموقع ويمضي؟! لقد كان مسجده في مكان مناسب، وكان له مريدون فماذا حصل حتّى ترك ومضى؟! 

  • انظروا إلى مستوى التفكير والعلم والمعرفة كم هو؟! ندرس سبعين سنة، سبعين سنة نظنّ أنّنا نبذل الجهود من أجل النبيّ والشرع ولكنّنا خالو الوفاض من المعرفة. 

  • لقد قال لي مرارًا: 

  • إنّني إذ أتولّى هذا المسجد وأقوم بهذه الأعمال التي أقوم بها فلا تظنّ أنّ قلبي هنا. 

    1. سورة مریم (١٩)الآیة ٧٢. 
    2. نهج البلاغة (صبحي الصالح)، ص ٤٩٧.

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

11
  • أنتم تعلمون كم بذل من الجهود في مسجد القائم، لقد كان له شأن بجميع جزئيّات العمل في المسجد حتّى إنّ الإنسان لو لاحظه لقال: لا شكّ أنّ هذا المسجد هو جزء من ملكه الشخصيّ وليس وقفًا. 

  • كان يقول: يجب أن يكون سجّاد المسجد هكذا، وأبوابه وجدرانه يجب أن تكون هكذا، ونظافته يجب أن تكون على هذا النحو، وهكذا يُدعى الناس، يُدعى فلان، وفلان لا يدعى، هذه الأمور يتحدّث بها، والاحترام هكذا يحفظ، الإعلان لإتيان الناس إلى المسجد هكذا ينبغي أن يكون، الناس الذين يدعون يجب أن يختاروا اختيارًا. 

  • واقعًا هكذا كان اهتمامه بالمسجد حتّى إنّي لا أظنّ أنّ أحدًا كان له اهتمام إلى هذه الدرجة. كيف كان مجيئه إلى المسجد؟ أحيانًا لم يكن يجد وسيلة للمجيء إلى المسجد، حيث لم يكن هناك سيّارة أجرة، فكان يأتي ماشيًا، أذكر أنّا كنّا نسكن حينها في منطقة شهباز في شارع آهنگ، ويفصله عن شارع سعدي على الأقل فرسخ واحد [حوالي ٥ كلم]، فقد كان يمشي للوصول إلى المسجد فرسخًا ويعود فرسخًا، وعند العصر أيضًا هكذا، ولا زلت أذكر أنّه أحيانًا وفي فصل الشتاء ربّما لا يتوفّر لديه المال للذهاب إلى المسجد، فكان يذهب عند الظهر فوق الثلج وفي صقيع شتاء تلك الأيّام ثمّ يرجع، وفي الليل أيضًا كان يأتي ماشيًا ويرجع، فكان لا ينام الليل كلّه من شدّة ألم الرجلين، لأنّه كان يعاني من الروماتيزم، فلم يكن يتمكّن من النوم.

  • فهل لديكم إنسان كهذا يبذل إلى هذا الحدّ من أجل الدين؟! بعض الناس يكون المسجد إلى جانب بيتهم ومع ذلك لا يذهبون إليه بل يرسلون أحدًا بدلاً منهم، فهل لدينا واقعًا إنسان يسعى إلى هذا الحدّ لأجل الناس واهتمامًا بالأمر ولأجل تحصيل رضا الله؟! 

  • وفي الوقت نفسه كان يقول لي: 

  • يا فلان الاثنتان وعشرون سنة أو الأربع وعشرون سنة التي قضيتها في طهران لم تكن ساعةٌ واحدة منها برغبتي الخاصّة وبرضاي. 

  • فكيف تجمعون بين هذين الأمرين؟! وعندما تقرّر أن يترك المسجد تركه بطريقة قال فيها: "من الآن فصاعدًا لا تأتوا على ذكر اسم مسجد القائم أمامي." 

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

12
  • وذات يوم سألته: ما هي نتيجة المجيء إلى المسجد والمجيء إلى طهران ثمّ مغادرتها؟ 

  • فقال: نتيجة المجيء إلى المسجد والهدف من هذه الجهود هو هؤلاء الشباب المعدودون الذين تراهم حولي، هؤلاء الأفراد المعدودون الذين يسمعون كلمة يعملون بها، هذا كاف بالنسبة إليّ. 

  • هؤلاء هم الذين «صَحِبوا الدّنیا بأبدانٍ أرواحُها مُعَلّقةٌ بالمَحَلِّ الأعلی»ٰ. كانوا هنا بأبدانهم ولكنّهم لم يتلوّثوا بالدنيا، لم يتلوّثوا بالناس، لم يتلوّثوا بالمريد وجمع المريدين، لم يتلوّثوا بالرئاسات، ولم يتلوّثوا بموقع المسجد. 

  • إنّ للدنيا أنحاء وأشكالاً مختلفة، والشيطان يأتي بشكل جيّد، فأحيانًا يأتي من طريق ارتكاب الحرام، وأحيانًا من طريق الدين، من طريق الإحساس بالوظيفة الشرعيّة، ويقضي على دين الناس بعنوان الإحساس بالوظيفة الشرعيّة. وهنا على الإنسان أن يستعيذ بالله، عندما يكون الدين هو الفخّ لدين الإنسان، وعندما تكون الحركة إلى الله قاطعة للحركة إلى الله، فهنا الموضع موضع عسير! 

  • «صحبوا الدنيا بأبدان... » لقد كان هؤلاء في الدنيا، ولكن فقط بأبدانهم، وكما يقول أمير المؤمنين: «كنتُ جارًا جاوَرَکم بدنی»۱؛ كنت جارًا لكم وكان بدني معكم، ولكن لم يكن لكم اطّلاع على حالي، فقط كنتم ترون عليًّا في الميدان، كنت ترون عليًّا وقت الصلاة، ترون عليًّا لابسًا لامة الحرب، ترون عليًّا يخطب في الناس، أمّا ماذا يخطر في مخيّلة عليّ وفي أيّ حال كان؟ فهل كنتم تطّلعون على ذلك؟ والآن ترون أنّي أفارقكم، ومع ذلك حقيقتي باقية، تدفنون بدني في التراب، ولكنّ حقيقتي حيّة دائمًا، وأنا لن أزول أبدًا، أنا مرتبط بالأبديّة، وقد ختم عليّ بخاتم الأبديّة والخلود، هذا بدني فقط ألقوه واجعلوه حيث شئتم. إنّه بدني الذي يفسد ويزول، أمّا أنا فلن أزول. 

  • وهذا هو الموضع الذي على الإنسان أن يلجأ فيه إلى الله، ويطلب منه أن يوفّقه إلى الاستفادة من هذه الذخيرة التي منّ بها عليه، وهذا العمل الذي قدّمه له، وهذه النعم الإلهيّة التي تشكّل كلّ واحدة منها أعلى منّة على البشريّة. 

  • في رحاب دعاء العيد

  • اليوم يوم عيد، وأيّ عيد هو؟ هل هو عيد رأس السنة؟ عيد الربيع؟ عيد الليل والنهار؟ 

    1. المصدر السابق، ص ٢٠٧.

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

13
  • «اللهمّ...، أسْأَلُك بِحَقِّ هذا الیَوم الّذی جَعَلْتَه لِلْمُسلِمینَ عیدًا».

  • هذا العيد هو عيد الأولياء، هذا العيد عيد الأعاظم، عندما ينتهي شهر رمضان نفرح نحن، ترتفع تلك الموانع والحصار ونصبح أحرارًا في تناول الطعام والشراب، ولكنّ الأولياء يقيمون مأتمًا. 

  • الأعاظم والأولياء يتّخذون هذا اليوم عيدًا لأنفسهم، لأنّ الله وفّقهم للحضور في ضيافته مدّة شهر على الأقلّ، ضيافة الجوع والعطش. فضيافة القرب من الحقّ لا تنسجم مع الأكل والانغماس في الشهوات والكيف واللهو. 

  • «أسْأَلُك بِحَقِّ هذا الیَوم الّذی جَعَلْتَه لِلْمُسلِمینَ عیدًا و لِمحمّدٍ صلّی الله علیه و آله ذُخرًا و شَرَفًا وَ کَرامَةً و مَزیدًا».

  • لقد جعلت يا الله هذا اليوم عيدًا للمسلمين وللنبيّ، وجعلته ذخرًا وشرفًا وكرامة. 

  • فاليوم يوم العيد، يوم الفلاح والنجاج والفوز، لقد صمنا شهرًا، أمسكنا شهرًا ويجب أن نأخذ اليوم عيديّتنا من الله تعالى وعيديّتنا هي هذه: 

  • «أنْ تُدْخِلَني فی کُلِّ خَیرٍ أدْخَلْتَ فیه محمّدًا و آلَ ‌محمّد».

  • هذه هي عيديّتنا، علينا أن نقول: اللهمّ لا تعطنا عيديّة غير هذا. يجب أن تكون عيديّتنا اليوم هي الدخول في طريق محمّد وآل محمّد.

  • ثانيًا

  • «و أنْ تُخْرِجَنی مِن کُلِّ سوءٍ أخْرَجْتَ مِنه محمّدًا و آلَ‌ محمّد».

  • صنّا واحفظنا من كلّ سوء وانحراف حفظت منه مطهّري مقامك.

  • أليست هذه عيديّة؟! فما هي العيديّة إذن؟! هل العيديّة هي مال الدنيا الذي تتركونه وتمضون؟! هل العيديّة هي المقام والمكانة و الرئاسة التي تتغيّر وتتبدّل بقانون واحد فيعزل الإنسان؟! هل العيديّة هي الوصول إلى متاع الدنيا؟! 

  • فإذن على ماذا تطلق العيديّة؟ العيديّة تطلق على أمر أبديّ، على حياة سرمديّة، العيديّة تطلق على سعادة لا تفارق الإنسان بل تقارنه إلى الأبد، هذه هي العيديّة. هم أنفسهم يعلّموننا وهم أنفسهم يقولون لنا: نحن هكذا كنّا وأنتم أيضًا كونوا كذلك. فنحن اليوم أخذنا من الله هذه العيديّة: «أنْ تُدْخِلَنی فی کُلِّ خَیرٍ أدْخَلْتَ فیه محمّدًا و آلَ ‌محمّد و أنْ تُخْرِجَنی مِن کُلِّ سوءٍ أخْرَجْتَ مِنه محمّدًا و آلَ‌ محمّد». فلماذا لا نأخذ نحن أيضًا؟! 

المقام الحقيقيّ للإنسان ولزوم الجهاد للوصول إليه

14
  • وماذا نريد من الله بعد؟! 

  • «اللهمّ إنّی أسْئُلُك خَیرَ ما سَئَلَك به عبادُك الصّالِحون».

  • اللهمّ إنّا لا علم لنا بمصالحنا ومفاسدنا، لا ندري ما هو الشيء الذي فيه صلاحنا والذي فيه ضررنا نقول هكذا مجملاً: أفضل شيء طلبه منك عبادك الصالحون قدّره لنا نحن أيضًا. 

  • «و أعوذ بكَ مِمّا اسْتَعاذَ مِنه عِبادُكَ المُخلِصون».۱

  • يا ربّ نعوذ بك من المفاسد والشرور والصوارف عن الطريق وما يحرف اتجاه الحركة إلى الله، ونعوذ بك من كلّ ما استعاذ منه المخلِصون الذين وصلوا إلى مقام الإخلاص وصاروا طاهرين وخرجوا من جميع شوائب الدنيا والشوائب النفسيّة. 

  • يا ربّ، في هذا اليوم الذي هو عيد أوليائك، عيد هؤلاء الذين لم يروا غيرك، ولم يفكّروا بغيرك، اجعل عيديّتنا المتابعة المطلقة والصرفة للأعاظم وأئمّة الهدى وأوليائك الراسخين. 

  • اللهمّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، كن أنت المباشر لجميع شوائب وجودنا من أفعالنا وأقوالنا وأفكارنا وسرّنا وسويدائنا.

  • لا تفرّق بيننا وبين أهل البيت في الدينا ولا في الآخرة. 

  • اللهمّ شاف مرضى المسلمين وشيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وارحم موتاهم. 

  • وعجّل في فرج إمام الزمان عليه السلام. 

  • اللهمّ زد في تأييد سماحة القائد وأطل في عمره بالصحّة والعافية، واجعلنا من المنتظرين الحقيقيّين لإمام الزمان عليه السلام. 

  • لأرواح الشيعة من المؤمنين والمؤمنات ولتعجيل الفرج المبارك لبقيّة الله أرواحنا وأرواح العالمين له الفداء صلّوا على محمّد وآل محمّد ثلاثًا.

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد. 

    1. إقبال الأعمال، ج ١، ص ٢٨٩.