المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةعيد الفطر
التاريخ 1419/10/01
التوضيح
ما هي خصوصيّة الدعوة الإلهيّة العامّة في شهر رمضان التي تخالف بها سائر دعوات عالم المادّة؟ ولماذا يدعى في هذه الدعوة إلى الجوع خلافًا لسائر الدعوات؟ لماذا هناك إصرار في هذه الدعوة على العطش والتعب وكفّ النفس عن الذنوب؟ ولماذا من يكفّ نفسه أكثر ويراعي أكثر فهو المقبول أكثر عند صاحب الدار؟
يطرح سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني هذه الأسئلة ويجيب عنها بتفسيره لآية أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون، وآية إنّ الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا مبيّنًا ما يتطلّبه الطريق إلى الله من الهمّة العالية المتناسبة مع هذا الهدف العظيم، وأثر الصيام والحجّ في تحقيق ذلك.
هو العليم
تأثير همّة الإنسان في السير والسلوك إلى الله
عيد الفطر ۱٤۱٩ هـ - المجلس السادس
محاضرة القاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
«الحَمدُ لِلَّهِ الواصِلِ الحَمدَ بِالنِّعَمِ و النِّعَمَ بِالشُّكرِ. نَحمَدُهُ عَلَی آلائِهِ كما نَحمَدُهُ عَلَی بَلائِهِ. و نَستَعینُهُ عَلَی هذه النُّفوسِ البِطاءِ عمّا أُمِرَت بِهِ، السِّراعِ إلَی ما نُهیَت عَنهُ. و نَستَغفِرُهُ مِمّا أحاطَ بِهِ عِلمُهُ و أحصاهُ كتابُهُ؛ عِلمٌ غیرُ قاصِرٍ و كتابٌ غیرُ مُغادِرٍ. و نُؤمِنُ بِه إیمانَ مَن عایَنَ الغُیوبَ و وَقَفَ عَلَی المَوعودِ؛ ایمانًا نَفَی إخلاصُه الشّرك و یقینُه الشّك. و نَشهَدُ أن لا إلهَ إلّا الله وَحدَه لا شَریك لَهُ و أنَّ محمّدًا [صلّی الله عَلَیهِ و آله و سلّم] عَبدُهُ و رَسولُهُ؛ شَهادَتینِ تُصعِدانِ القَولَ و تَرفَعانِ العَمَلَ، لا یَخِفُّ میزانٌ توضَعانِ فیه و لا یثقُلُ میزانٌ تُرفَعانِ منه.
أوصیكم عِبادَ الله بِتَقوَی الله الَّتی هی الزّادُ و بِها المَعاذُ [المعاد]؛ زادٌ مُبلِّغٌ و مَعاذٌ [معاد] مُنجِحٌ. دَعا إلَیها أسمَعُ داعٍ و وَعاها خَیرُ واعٍ؛ فَأسمَعَ داعیها و فازَ واعیها»۱.
{بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ، قُلۡ هُوَ ٱللَهُ أَحَدٌ ، ٱللَهُ ٱلصَّمَدُ ، لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ، وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ}٢.
«اللهمّ صَلِّ و سَلِّم و زِدْ و بارِك علی أوّلِ التعیّنات المُفاضةِ من العماءِ الرّبانیِّ و آخر التنزلات المُضافةِ إلی النوع الإنساني، كان اللهُ و لم یَكنْ معه شیءٌ ثانی٣، الّذی روحُه نسخةُ الأحدیّةِ فی اللاهوت و جَسدُه صورةُ معانی المُلك و المَلَكوت، طاوُسُ الكبریاءِ و حَمامُ الجبروت»٤، الّذی سُمِّیَ فی السّماءِ بأحمد و فی الأرضِ بأبي القاسم المصطفی محمّد و علی آلِهِ الطّیبینَ الطّاهرینَ المَعصومینَ المُكرّمینَ و الحُجَجِ المیامین لا سیّما مولانا و صاحبِنا و كهفِنا ومَلْجأِنا و مَأوانا صاحبِ العصرِ و الزّمان الحجةِ بن الحسنِ العسكریّ القائمِ بأمرِ الله عجّل الله تعالیٰ فرجه و جَعَلَنا من شیعتِه و موالیه و الذّابین عنه، و اللعنةُ الدّائمَةُ الأبَدیّةُ علی أعدائِهم ومُخالفیهم و مُنكری فضائلِهم و مَناقبِهم إلی یومِ الدّین.
دعوة الله العامّة للناس في شهر رمضان
{بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ، الٓمٓ ، أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ}.۱
لقد مضى شهر من الصيام ومن الدعوة الإلهيّة العامّة، تلك الدعوة التي كانت لجميع الناس وجميع الطبقات ولم يكن لها اختصاص بطبقة دون طبقة، وهذه الدعوة تختلف عن سائر الدعوات. في هذه الدعوة الضيافة هي الجوع والعطش وكفّ النفس.
في الدعوات التي تجري عادة فإنّ المضياف الأكثر ضيافة والذي هو صاحب الدار هو الذي يهيّئ لضيوفه المزيد من الوسائل، فهذا هو المقبول فتقولون: هذه الضيافة اقترنت بالمزيد من المأكولات والمشروبات.
هذه الدعوة الإلهيّة العامّة ما هي خصوصيّتها التي تخالف بها سائر دعوات عالم المادّة؟ ولماذا يدعى في هذه الدعوة خلافًا لسائر الدعوات إلى الجوع؟ لماذا هناك إصرار في هذه الدعوة على العطش والتعب وكفّ النفس عن الذنوب؟ ولماذا في هذه الدعوة من يكفّ نفسه أكثر ويراعي أكثر فهو المقبول أكثر عند صاحب الدار؟ فما هي خصوصيّة هذه الضيافة؟ أفهل الله بخيل حتّى تكون ضيافة الله هذه مخالفة للضيافات المتعارفة؟!
دور الامتحان في تكامل الإنسان ومعنى آية أحسب الناس أن يتركوا...
تقول الآية الشريفة: {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ}
أيحسب الناس أنّهم بمجرّد الشهادتين وقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله انتهى الأمر وليس هناك امتحان في البين؟! ألن نجعلهم في بوتقة الامتحان؟! هكذا يظنّون؟!
الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أنّ نظام عالم التكوين مطابق تمامًا لعالم التشريع. فقد جعل الله في عالم التكوين لكلّ وجود استعدادًا خاصًّا، فللطفل الرضيع استعداده، وللطفل ابن العاشرة استعداده وهكذا الآخرون. كلّ إنسان حسبما أعطاه الله من استعداد، هذه الاستعدادات تعطى للمرور في عالم المادّة، ولو لم يعطها لما عوتب أحد، فمن كان جائعًا لا يطلب الدعاء من الآخرين لرفع جوعه؛ لأنّ الحركة نحو العلم ورفع الجوع وتأمين المعاش حركة تكوينيّة وطبعيّة، فإذا ما أحس إنسان بحاجة فإنّه يقوم طلبًا للمعاش، ولو لم يشعر بالحاجة لما قام لطب المعاش. فهذا النظام نظام عالم التكوين.
لأجل الوصول إلى الأهداف في هذا العالم لا بدّ في المرحلة الأولى أن يكون هناك احتياج، لا بدّ أن يشعر الإنسان بخلأ في وجوده، ولو لم يكن هناك احتياج لجلس الناس في بيوتهم ولما تحمّلوا متاعب كسب المعيشة لتحصيل حاجاتهم اليوميّة، الاحتياج هو الذي يُخرج الإنسان من بيته، والاحتياج هو الذي يأخذ بنا إلى السوق، ولولا ذلك لما ألقى أيّ عاقل نفسه في التعب والمشقّة طوال اليوم، لأنّنا إن لم نخرج ونعمل لكسب المعيشة لبقينا جائعين، ونحن نرى ذلك الاحتياج الظاهر هو الذي يسوقنا إلى ذلك الاتّجاه.
والأمر نفسه موجود في جانب التشريع والتربية الإلهيّة والوصول إلى تلك العوالم ورفع الخلأ والجهل، فما لم يكن احتياج لا يسعى أحد إلى الصلاة والصيام.
وهذا الاحتياج مختلف الدرجات بين الناس، فبعضهم يؤدّون العبادات لأجل الخوف من النار، وبعضهم طمعًا بالجنّة، وعلى أيّ حال كلّ ذلك هو احتياج، ولكنّه مختلف. وبعضهم أيضًا يعدّون الأمر أرفع من ذلك ويجعلون أعمالهم في مرتبة أعلى۱. لأنّ الداعي والحافز يتغيّر بحسب السعة الوجوديّة والبصيرة الكائنة في كلّ فرد.
فالإنسان الذي لا يمتلك الاستعداد والتهيّؤ الكافي للوصول إلى المبادئ العالية والمراتب الراقية فإنّه من البداية لا يبحث عن الدراسة والعلم ويبحث عن العمل والكسب لرفع حاجاته، ومن يرى في وجوده الوصول إلى المراتب العالية فإنّ هذا العلم والإدراك والشعور لا يدعه يهدأ ويشعر في وجوده بخلأ يرى رفعه بالوصول إلى أعلى مراتب العلم، ويرى كلّ مانع في طريقه منافيًا لحقوقه الطبيعيّة.
وهكذا فإنّ آراء وأنظار الناس بالنسبة إلى الدرجات المعنويّة ودرجات النفوس مختلفة، فمن لا يرى لنفسه قيمة واعتبارًا ويرى وجوده مختصًّا بهذا البدن فإنّه يريد أن يحفظ هذا البدن من نار جهنّم. ومن كان يرى اللذّة في الطعام والتفكّه والوصول إلى المطامع الدنيويّة وهذه اللذائذ فإنّه لا يمكنه أن يفكّر أصلاً بعالم وراء هذا، ولا يمكنه أن ينظر فيما قدّره الله لأوليائه، لذلك فإنّ طمعه في الجنّة، ويرى الجنّة وسيلة للوصول إلى هذه النوايا والمطالب الظاهريّة ويسعى إليها بهذا المقدار. أما من يرى وجوده ذا قيمة وجوهرة لا يقابلها شيء، ويدرك إلى حدّ ما قيمة ما أعطاه الله فإنّه لا يفكّر بعد ذلك في الجنّة والنار وتلك النعم التي في الجنّة، بل ينظر إلى مرتبة أعلى وهي الوصول إلى أعلى المراتب.
وعلى أساس الانسجام بين التكوين والتشريع فإنّ الوظائف والبرنامج الذي يقوم به هذا الإنسان لا بدّ أن يكون مختلفًا أيضًا عن سائر الناس. فهذا الإنسان عليه أن لا يكتفي بصلاة أو صيام ظاهريّين، ويجتنب عن الغيبة والتهمة والعمل الحرام الظاهري، بل عليه أن يبذل الجهد بمقدار الهمّة التي يراها لتلك الدرجات، فبدون العبور وبدون القيام بما يعِدّ ويساعد للوصول إلى هذه المرتبة لا يمكن الوصول تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى عالم التكوين.
فالطالب الجامعيّ الذي يريد الشهادة الرفيعة المستوى لو أنّه بدلاً من الدراسة قضى وقته بالتنزّه واللهو وكل ما هو بعيد عن الدراسة لا يمكنه أن يذمّ الآخرين لعدم وصوله إلى تلك الغاية وذلك الهدف، وهذا الذمّ في الحقيقة يرجع إليه، وهكذا إذا جعل الإنسان حبّ الحبيب وحريمه نصب عينيه، فلا يمكنه أن يقوم لأجل الوصول إلى تلك المرتبة بما يقوم به بقيّة الناس ويكتفي بذلك، وإلا سيكون هناك ظلم بيّن له ولسائر الناس الذين هم موضع اهتمام الحقّ تعالى. فالإنسان الذي لديه أمر مهمّ ويسعى إلى غاية مهمّة لا تتركه حاجته الباطنيّة يهدأ.
كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يقول يومًا:
عندما كنت في النجف ذهبت يومًا لزيارة أحد تلامذة السيّد القاضي، فسأل عن خصوصيّة صلاة الليل والسهر والاستيقاظ. فقلت: أنا أحضّر ساعة المنبّه لترنّ قبل ساعة من أذان الصبح لكي أستيقظ.
فقال ذلك الرجل: أأنت سالك وتحضّر ساعة المنبّه؟! على السالك أن لا يحضّر المنبّه، على السالك أن لا يعتمد على الساعة ليستيقظ.
فما معنى هذا؟! إنّه بهذا البيان يريد أن يقول له: من كان له شوق إلى الحبيب، ومن كان يشعر بمنتهى الفقر والحاجة، فعليه أن يرى نفسه في كلّ لحظة في تعب لكي يستيقظ. فكوننا نحضّر ساعة المنبّه فهذا لأجل لا مبالاتنا وعدم إحساسنا بالألم وعدم شعورنا بالحاجة. فنحن حتّى الآن لم نر في أنفسنا حاجة، أتعلمون متى نراها؟ عندما يقال لنا: لم يبق من عمرك سوى أسبوع واحد، عندما يقال لنا: لم يبق من عمرك سوى يوم واحد. فهل سيكون حالنا حينها كحالنا الآن؟! هل ما سنشعر به حينها من الحاجة الحتميّة والنقصان والخلأ هو عين ما نشعر به الآن بلا تفاوت؟!
فعدم الألم وعدم الاحتياج هو بسبب المرض الذي نبتلى به نحن الآن، مرض الغفلة فرض الغرق في الكثرات، مرض النسيان لما وعد به الله تعالى والأعاظم والرسل، لقد وعدوا وعدًا صادقًا، فمرض الغفلة هذا سيسيطر علينا ما لم تأت تلك الضربة النهائية والصدمة التي تطرد عنّا النوم وتزيح عن أبصارنا ستائر الغفلة، وإلى تلك اللحظة سيبقى هذا المرض في وجودنا، إلا إذا قمنا بالتفكير وحقّقنا في أنفسنا تلك اللحظة الأخيرة طوال عمرنا. لنفترض أنّنا علينا أن نستعدّ من الآن إلى ساعة، في هذه الحالة سيتحقّق ما وعد الله به عباده المخلصين سواء شاؤوا أم أبوا بمقتضى العلاقة بين العلّة والمعلول والعبد والمعبود ونظام التشريع ونظام التكوين، وهذا الأمر لا يحتاج إلى دعاء.
نحن دائمًا نسمع الناس يقولون: سيّدنا ادع لنا، نسألكم الدعاء، أن نستيقظ عند السحر، أن نوفّق أن نكون في وقت السحر كذا! ما معنى الدعاء؟ ما معنى نسألكم الدعاء؟! معناه أنّا لا نملك هذا الألم، أنا لست محتاجًا مسكينًا، أنا في حالة جيّدة ولذّة، أنا أعيش في هناء. إن كان الأمر هكذا فلنبق ولا نشكُ الآخرين ولنبك على مصيبتنا، ولا نلم الأعاظم الذين هم على تلك الحال والمكانة كانوا يرون هذه الأعمال شرط الوصول إلى المقصود، لا نلمهم على عدم الملاطفة والعناية.
على الإنسان أن يلتفت إلى نفسه ويرى أنّ هذا العمر الذي رزقه الله إيّاه لن يرجع مرّة أخرى، كيف ندقّق نحن في الأمور الماديّة ونحسب الحسابات التجاريّة حتّى كأنّ وجودنا قد اختصر في البيع والشراء، أو في هذه المعاملة العجيبة وفي هذه المسألة الحياتيّة والسعادة الأبديّة كأنّ الله لم يطلب منّا شيئًا. لا يمكن هذا، فبمقدار ما لدينا من همّة فإنّ الله يهتمّ بنا، بمقدار ما لدينا من همّة فإنّنا نتابع وبتبع ذلك نعمل. وهذا لا علاقة له بكون الهمّة منّا وكون الفضل والعناية من الله، كلاّ إن كان هناك همّة فبتبعها ستكون هناك حركة شئنا أم أبينا. وحالة عدم الحركة والضعف هذه دليل على عدم الهمّة.
معنى آية إنّ الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا
بناء على هذا فإنّ الله تعالى يقول في الآية الشريفة:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ، أُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ، إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ يَهۡدِيهِمۡ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمۡ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ}.۱
فالذين لم يؤمنوا بنا ورضوا بالحياة الدنيا بدلاً من الرضا بالحياة الآخرة والذين قاموا بالأعمال غير اللائقة يدخلون النار بسبب أعمالهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربّهم بمقدار ما لديهم من إيمان ويأخذ بأيديهم بمقدار تلك المرتبة من الإيمان التي لديهم.
وبعد هذه الآية يقول:
{دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}.٢
فادّعاؤهم وحديثهم وحوارهم في الجنّة تسبيح الله، وفي مقابل تسبيح الله فإنّ الجواب الذي يجابون به هو أنّ تحيّتهم سلام وطمأنينة ومقام السلام ومقام الطمأنينة، وهذا بداية القصّة، وأمّا نهايتها فحمد الله.
فمن ناحة التكامل والتربية، مرتبتهم هي مرتبة الحمد، أي إنّهم يصلون إلى مرتبة يمكنهم معها أن يحمدوا الله من دون تسبيح، فبعد الحمد الذي نقوم به هناك تسبيح: يا الله الحمد مختصّ بذاتك أنت، ولكن نحن لا قدرة لنا على هذا الحمد، وهذا الحمد متبوع بتسبيح. أمّا أولئك فهم أناس يصدر عنهم الحمد لله ربّ العالمين من دون تسبيح. وهذه المرتبة هي المرتبة العليا.
أثر الصيام في الوصول إلى الكمال ولقاء الله
وشهر رمضان هذا هو شهر دعوة الله للوصول إلى هذه المرتبة، ولأنّ هذه المرتبة هي مرتبة الروح والعبور من الدنيا والأهواء، فستكون متعارضة ومتنافية بطبعها مع مشتهيات الدنيا، لذلك فإنّ الله تعالى جعل الدعوة للجميع، ابتداء من العوامّ الذين يمنعهم عن خصوص المفطّرات، وانتهاء بالرسول الأكرم وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين والأعاظم والأولياء والصدّيقين الذين تختلف مرتبة ضيافتهم، وكفّ نفوسهم هو كفّ من نوع آخر، وما يقومون به لأجل الوصول إلى هذه المرتبة في شهر رمضان هو في مرتبة عليا لا ينالها تصوّرنا. لقد دعي جميع الناس بدعوة واحدة إلى هذه الضيافة، فلا تظنّوا أنّ الرسول الأكرم الذي وصل إلى تلك المقامات وإلى {قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ}٣ خارج عن هذه المائدة، بل هو أيضًا قد دعي إليها، أمّا أنّه ماذا يجري في مراتب السرّ والباطن والاتّصال بينه وبين المعبود؟ فهذا أصلاً خارج عن تصوّرنا.
لذلك فإنّنا نسأل في هذا اليوم:
«أسئلُك بِحَقِّ هذا الیَومِ الّذی جَعَلْتَه لِلْمُسلِمینَ عیدًا و لِمحمّدٍ صلّی الله علیه و آله»۱
فعيد الفطر هذا لا يختصّ بنا نحن، هذا العيد هو عيد نبيّك، هذا العيد هو عيد الضيافة الخاصّة والدعوة الخاصّة لله والتي قد لا تتوفّر في غير هذه الأيّام حتّى للنبيّ. فالخصوصيّة التي يمتاز بها هذا الشهر هو أنّه حتّى النبيّ والأئمّة عليهم السلام يستضافون في هذا الشهر.
علينا أن لا نظنّ أنّهم بعد أن وصلوا إلى مقام الفناء فقد انتهى الأمر، فإنّ النعم الإلهيّة ولا نهائية عناية الله بالموجودات وذلك الوجود الإطلاقيّ للحقّ تعالى يقتضي أن يختصّ بعنايته ولطفه كلّ متعيّن في أيّ مرتبة كان، وعناية الله ولطفه وفيضه يختلف في الأزمان المختلفة والأحيان المتفاوتة. ولذلك فإنّنا نستفيد من هذا الشهر بمقتضى سعتنا الوجوديّة، والرسول الأكرم بمقامه ومكانته وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجميعن والأولياء العظام يكتسبون الفيض والفائدة من الله تعالى بما يتناسب ومكانتهم، فهذا أمر لا بدّ من ملاحظته.
إنّ شهر رمضان هو شهر ضيافة الله، والله تعالى يقول فيه: ابذل بمقدار ما لديك من همّة في هذا الشهر، فإن كنت تريد أن تصل إليّ عليك أن لا تكتفي بما يكتفي به سائر الناس، إن شئت أن ترد إلى حريمي فعليك أن تخطو بما هو أعمق من خطوات الآخرين، لا بدّ أن يكون لديك إيثار، لا بدّ أن يكون لديك إنفاق، لا بدّ أن تتنازل عن حقّك، عليك أن تراعي حقوق الآخرين، عليك أن تسكت في كثير من الموارد، عليك أن تقدّم حقوق الآخرين على حقّك في كثير من الموارد، عليك أن تراعي حرمات الآخرين وإن كان الحقّ إلى جانبك، عليك أن تراعي مصالح الآخرين وإن كانت المصلحة مصلحتك. إن قمت بذلك ستشملك عنايتي تلقائيًّا، وإلاّ فإنّه بمقتضى نظام التكوين وقانون العدل والجود الإلهيّ يعطوننا من الطعام بمقدار ما نبذل من المال٢ فإن بذلنا الكثير من المال فإنّهم يعطوننا الكثير من الطعام، وإن أعطينا القليل فعلينا أن لا نتوقّع.
إنّ الأعاظم والأنبياء والأولياء والأئمّة لديهم أيضًا الشعور الذي لدينا، والجوع والعطش يؤثّران فيهم أيضًا، ففي يوم عاشوراء كان العطش قد أثّر على سيّد الشهداء حتّى قال الإمام الصادق عليه السلام: لقد سيطر عليه العطش حتّى كأنّ بينه وبين السماء دخان، لم يكن في عينه رمق لكي ترى. ۱
ولماذا وصل أبو الفضل العبّاس عليه السلام إلى هذا المقام؟! ذلك الرجل الذي رغم كلّ عظمته ومتانته ورفعته عندما يرد شريعة الفرات ويتّجه بغير اختيار نحو الماء، يذكر عطش الحسين٢ ما الذي دفعه أن يلقي الماء من يده؟ لأنّه كان يرى ريًّا يستحقّ أن يعطش من أجله ألف عطش في هذه الدنيا، لقد كان يشعر هناك بمقام وارتباط وبجانب يفوق عقولنا جعله مستعدًّا أن يقطّع بدنه إربًا ولكن لا يتقدّم على مولاه خطوة واحدة، كان مستعدًّا أن تنزل به كلّ مصائب الدنيا، ولكن لا يرى أن مولاه عطشان وهو ريّان. فتجاوزه هذا يوصله إلى مرتبة يجعله الله فيها باب الحوائج. فإذن هو لا يعطي أحدًا عبثًا، وهذا المقام لا يعطى لأحد عبثًا، ولازم تلك النيّة وذلك الهدف وذلك التجاوز هو الوصول إلى هذا المقام.
أمّا ذلك الهدف والأمور الماديّة التي نشاهدها في المخالفين، فماذا كان هدف الذين جاؤوا لمحاربة سيّد الشهداء عليه السلام؟! واقعًا أليس من المخجل والمسبّب للعار أن يخدع الإنسان الذي لن يبقى في الدنيا بعد يومين وليس هناك أيّ قيمة لوجوده وعدمه في هذه الدنيا، يخدع بكيس من القمح وبكيلو من الطحين فيقاتل ابن النبيّ؟ أليس هذا مضحكًا؟! أليس هذا من أفعال الأطفال؟ أليس هذا موجبًا للسخرية؟! لنفترض أنّه ليس هناك جنّة ولا نار، فهل يستحقّ أن يقاتل الإنسان ابن رسول الله في مقابل حطام الدنيا؟! فمع غضّ النظر عن هذه المقامات والمكانة والدخول في حريم الولاية التي قدّمت لأصحاب سيّد الشهداء عليه السلام السعادة الأبديّة فإنّ أصل الأمر كيف سيتحقّق؟ الأمر معقّد جدًّا والمسؤوليّة صعبة على الإنسان. فعندما يقول سيّد الشهداء للإنسان: لقد قدّمت لأجلكم ولأجل تكاملكم أنتم أيّتها لأمّة وأيّها الشيعة ولدي عليًّا الأصغر، وولدي عليًّا الأكبر، وألقيت بإخواني تحت حوافر الخيول، وألقيت بعيالي وأطفالي في هذا اليوم ولكنّكم في مقابل هذا الفداء والإيثار منّي اكتفيتم بحطام الدنيا، ولم تسلكوا سبيلي ولم تعتبروا ولم تأخذوا الفائدة الكاملة من ذلك، وأنتم الذين تسمّون أنفسكم بشيعتي خدعتم بحطام الدنيا هذه وخدعتم بصلاة وصيام ظاهريّين، وقضيتم وقتكم بأمور الدنيا كما يحلو لكم. ماذا لدينا من جواب يوم القيامة لهذا السؤال؟! لقد أوجد الإمام هذه الواقعة من أجلنا، من أجل كمال شيعته أوجد عاشوراء، لأجل وصول شيعته إلى تلك المرتبة وحريمه الخاصّ أوجد هذه الأحداث، فهل هذا إنصاف؟ فمع غضّ النظر عن المصائب التي تجري علينا هل هذا إنصاف وهل هذا جواب لنداء سيّد الشهداء عليه السلام؟! هل هذه الحالة وحياتنا اليوميّة هي تلبية لنداء ذلك الإمام؟ ينبغي أن لا يكون الأمر هكذا، بل ينبغي أن نخجل ونقبل على ما دعونا إليه ورغم دخولهم في حرم الأمن والأمان الإلهيّ جاؤوا وتنزّلوا وجعلوا أنفسهم في اختيارنا وصرفوا وقتهم معنا، ونزلوا بمقامهم من أجلنا، وبدلاً من الحياة الهانئة المطمئنّة في حريم القدس، قضوا حياتهم بالذهاب والإياب وتحمّل الأعباء والآلام معنا، ونحن هكذا استجبنا.
التشابه بين شهر رمضان وأيّام الحجّ
وعلى كلّ حال فاليوم هو يوم العيد، يوم الضيافة والشكر على الدخول والحضور إلى أمثال هذه الموائد، المائدة التي جعلها الله لعباده الصالحين. والجميل هنا أنّ الخصوصيّة التي في شهر رمضان لتلطيف النفوس وغفران الذنوب نراها في فريضة الحجّ المباركة. فهنا شهر من كفّ النفس، شهر من الصيام، شهر من الابتعاد عن الأهواء، شهر من الابتعاد عمّا يبتلى به سائر الناس، شهر من مشاهدة النفس حاضرة في محضر الله وبالتبع مغفرة الذنوب وتلطيف النفوس والانبساط، حالة البسط وحالة الاستعداد للحريم الإلهيّ، وهذا الأمر بنفسه نجده في عرفات وفي المشعر أيضًا. فانظروا عندما يحرم الحاجّ ويمضي إلى عرفات ما هي الحالة التي لديه هناك، فهو دائمًا في حالة من الالتجاء والابتهال. اقرؤوا دعاء سيّد الشهداء عليه السلام في يوم عرفة وانظروا من أيّ نفس تنبع كلمات ذلك الإمام؟ وأيّ نوع من الكلام يطرح مع الله؟ إلهي نحن الأشقياء، إلهي نحن المساكين، إلهي نحن صفر، إلهي أنت خلقتنا من العدم، جعلتنا في أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات، ومنذ أن وجدتُ في الدنيا هيّأت لي طعامي عند أمّي، حقّقت لي طريق التربية، أخذت بيدي، أرسلت نبيّك لأجل الدين، فعلت بي كذا وكذا من أجل هدايتي و... وهكذا يطوي الإمام تلك السلسلة الوجوديّة ويتقدّم إلى أن يطرح مقام الفقر والحاجة أمام حريم الله. ۱
يوم عرفات هو يوم التجاء وبكاء وابتهال، الله تعالى يحتفظ بالحجّاج في خارج الحرم المكيّ، فإذا ما طهروا بهذا الابتهال والالتجاء وشملتهم تلك الرحمة الإلهيّة والمغفرة وطهّرتهم حينها يؤذن لهم بالدخول إلى المشعر والورود إلى الحرم الإلهيّ، لأنّ المشعر من الحرم، فبما أنّك صرت طاهرًا يمكنك أن تأتي وتدخل إلى هنا، لا بدّ من الدخول إلى هنا متطهّرًا. وهنا بواسطة الدخول إلى المشعر يكون الحاجّ قد هيّأ نفسه للحرم، فإذا دخل الحاجّ المشعر فسواء شاء أم أبى فقد ورد في الحرم الإلهيّ. وطبعًا يختلف الناس هنا، فأصحاب المراتب العالية لهم نوع من الدخول في الحرم، وأصحاب المراتب الأدنى لهم نوع آخر.
وعلى أيّ حال هذه المقدّمة وهذه النتيجة التي هي الدخول في الحرم الإلهيّ تسبّب تحقّق العيد الذي هو عيد الفلاح والسعادة. ففي يوم عيد الأضحى أوّل ما يقوم به عند الوصول إلى منى قبل الذهاب هو الرمي، وقبل الذبح و الحلق لا بدّ أن يصلّي صلاة العيد، وطبعًا هو مستحبّ مؤكّد. فالله وفّقنا بواسطة غفرانه الذي شملنا بالأمس أن ندخل اليوم إلى الحرم وإلى تلك الضيافة الخاصّة به.
واللطيف هو أنّ صلاة عيد الأضحى هي عين صلاة عيد الفطر، فهذه الأدعية والخصوصيّات التي قرأناها اليوم:
«اللهمّ أهلَ الكبریاءِ و العَظَمَةِ و أهلَ الجودِ و الجَبَروتِ و أهلَ العَفوِ و الرَّحمَةِ و أهلَ التّقویٰ و المَغْفرة».
فانظروا نحن اليوم نقوم بتذكّر أوصاف الله من عطائه وجوده، ورحمته وعفوه، «و أهلَ العَفوِ و الرَّحمَةِ و أهلَ التّقویٰ و المَغْفرة»
فيا الله حيث إنّا عدّدنا صفات ووصفناك بهذه الصفات وأنت هكذا وجود تليق به هذه الصفات ويختصّ بك رداء الكبرياء ولا تليق عباءة الجبروت إلا بقامتك الجميلة ورحمتك هي الوحيدة التي يمكن أن تشمل العباد:
«أسئلُك بِحَقِّ هذا الیَوْمِ الّذی جَعَلْتَه لِلْمُسلِمینَ عیدًا و لمحمّدٍ صلّی الله علیه و آله ذُخرًا و شرفًا و كرامةً و مزیدًا أنْ تُصَلِّیَ علی محمّدٍ و آلِ محمّد».
يا ربّ إنّي أسألك بحقّ هذا اليوم وأوّل طلب هو الصلوات على محمّد وآل محمّد فهذا أوّل مطلب، لأنّ هذه الصلوات على محمّد وآل محمّد تؤدّي إلى فتح باب الرحمة وفتح باب المغفرة وفتح باب الوصول، وبدون ولاية الأئمّة عليهم السلام لا يمكن أن يفتح هذا الباب لأحد، بدون ولاية النبيّ الأكرم وأمير المؤمنين لا يمكن لأحد أن يدخل إلى حريم الله، وبدون العبور من هذه النافذة وبدون وساطة ومساعدة أهل هذا البيت لا يمكن لأحد أن يخطو خطوة، لذلك فإنّ الله تعالى يقول حسب سلسلة المراتب الطوليّة لا بدّ أوّلاً أن تأتي إلى محمّد وآل محمّد.
وبعد أن صلّينا على محمّد وآله وجعلنا أنفسنا في حريمهم، وبواسطة فيض الله ولطفه جعلنا أنفسنا شيعة لهم وطلبنا المساعدة والإرشاد منهم:
«أنْ تُدخِلَنی فی كلِّ خَیرٍ أدخَلتَ فیه محمّدًا و آلَ محمّد»
فما معنى ذلك؟ أنتم تظنّون أنّه دعاء قليل؟! «أن تدخلني في كلّ خير» فانظروا ماذا يقولون لنا وماذا يريدون منّا: كلّ خير متّعت به النبيّ وآله وجعلته من نصيبهم الوافر وتلطّفت عليهم به أعطنا إيّاه نحن أيضًا بعينه. لا يقول: أعطنا الدرجة الأولى من الجنّة، أو المرتبة الدرجة الثانية منها، بل ذلك الخير الذي... وكلّ هنا تدلّ على الجمع فلا تستثني أيّة درجة، كلّ خير والخير هو الوصول إلى معرفة الله بحقّ المعرفة، والوصول إلى مقام الذات الحقيقيّ، هذا هو الخير. فأنت يا ربّ جعلت هذا الخير من نصيب النبيّ وآله، فلماذا لا يعطينا الله نحن؟ الأمر بالنسبة إلى الله سهل، والله يعطينا هذا الخير بعينه تحت ولاية الإمام عليه السلام، وهذا عين كلام المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه من أنّ الإمام عليه السلام يأخذنا إلى المكان الذي هو فيه بعينه.
خصوصيّة مدرسة العرفان عدم التفريق بين التوحيد والولاية
فخلافًا لسائر المدارس وسائر المذاهب التي تجعل التوحيد في مرتبة عليا، وبعدها الولاية وبعدها ارتباط العبد بمقام الوليّ، ففي مدرسة العرفان الأصيل لا فرق بين التوحيد والولاية، والإمام عليه السلام إمام لنا في جميع الأحوال، إن لم يستطع أن يأخذنا إلى مرتبته فلن يكون إمامًا لنا في تلك المرتبة، وهو إمام لنا في مرتبة دنيا. والحال أنّ الإمام إمام لنا على الإطلاق وإلى غير نهاية، فإلى غير نهاية هو إمام ونحن مأمومون، وإلى غير نهاية هو المقتدى ونحن المقتدون، وإلى غير نهاية هو صاحب اللواء والسائق والقائد لنا. وهذا الأمر ينظر إليه الدعاء الشريف: «أن تدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّدًا وآل محمّد».
والدعاء الثاني:
«و أنْ تُخرِجَنی مِن كلِّ سوءٍ أخرَجتَ مِنه محمّدًا و آلَ محمّد».
طهّرني وبرّئني أنا أيضًا من كلّ سوء وممّا لا قيمة له ومن كلّ ما فيه نقص وكلّ ما فيه عدم، وكلّ ما لم يصل الوجود فيه إلى مرحلة متكاملة ممّا طهّرت وبرّأت منه النبيّ وآله.
فمن أيّ شيء كان النبيّ مبرّأ؟ من النقص والجهل والدخول في الدنيا والالتفات إلى ما سوى الله والاهتمام بغير الله، فكما أنّ الرسول الأكرم بواسطة عناية الله به قد رمّمت نقاط الخلأ في وجوده المبارك، ورفعت النقائص منه فإنّ الله تعلى يرفع جميع ذلك من وجودنا نحن أيضًا.
وأن تخرجني من كلّ سوء من كلّ ما يسمّى سوءًا يبرّئنا الله، فما المشكلة في ذلك؟! فنحن نتعامل مع الله، فما دام الله قد بسط هذه المائدة ـ كما ذكرت لكم سابقًا ـ فلماذا نبخل نحن؟ فالله قد بسط هكذا مائدة ويقول كلّ خير أعطيته للنبيّ يمكنني أن أعطيه لك أيضًا، فهذا ما يقوله هذا الدعاء، وكلّ سوء أخرجت منه النبيّ والأئمّة ففي قدرتي وباستطاعتي أن أخرجك منه، والآن نحن نقول: لا يا ربّ فهؤلاء لهم مقام رفيع ونحن لا يمكننا أن نصل إليه! فإنّ كان السائل عاجزًا عن السؤال فما تقصير صاحب الدار.۱
فهذا ما نقرؤه في دعاء هذا اليوم.
والأمر الآخر بعد ذلك في هذا الدعاء هو هذا:
«اللهمّ إنّی أسئلك خیرَ ما سَئَلَك به عبادُك الصّالحون»
اللهمّ إنّي أسألك وأطلب منك أفضل الأشياء التي يطلبها منك العباد الصالحون وأعلى ما يطلبونه منك. فما هو هذا الأعلى؟ عليكم أنتم أن تجيبوا من الآن فصاعدًا: وجود ذاته ومعرفة ذاته. فخير هنا بمعنى أفعل التفضيل: فأفضل الأشياء التي طلبها عبادك الصالحون أنا أطلبها منك.
هذا الدعاء لم يقله الإمام لنفسه، بل قاله لنا. الإمام عليه السلام أمرنا أن نقرأ هذا الدعاء، إنّه يعلّمنا ويقول: أيّها الناس، لقد ذهبت أنا ورأيت عظمة الله لقد رأيت أبّهته وأنا أنقل إليكم الخبر، فقد ذهبت إلى هناك ورأيت ماذا هناك، لقد رأيت أنّه جواد، لقد رأيت أنّه فيّاض، فهو مطلق في فيضه وجوده، لا حدّ له ولا تعيّن، فما دام الأمر كذلك فأنا آتي إليكم وأفشي لكم الأسرار، أنا أخبركم عن خصوصيّات ذلك المنزل، أحدّثكم عن صفات صاحب الدار، فخذوها منّي واغتنموها والتفتوا واعلموا أنّ صاحب تلك الدار ليس بالذي لا يهتمّ سوى بي وبأبي، بل له عناية بكم أيضًا كعنايته بنا، وهذا من الأسرار، فما أقوله لكم هو من الأسرار التي بيّنها الإمام عليه السلام هنا ونحن غافلون عنها.
«وأعوذ بك ممّا استعاذ منه عبادك المخلصون»۱
لدينا يا ربّ طلب آخر وهو أنّا نستعيذ بك ممّا استعاذ منه عبادك المخلصون، وهو أن لا تصرف نظرك عنهم، لم يستعيذوا بك من أن تدخلهم جهنّم وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «هَبنی صَبَرتُ عَلَی حَرِّ نارِك فَكیفَ أصبِرُ عن النَّظَرِ إلَی كرامَتِك».٢
إلهي لنفترض أنّي صبرت على حرّ نار جهنّمك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟! فقد وقعت نار جهنّم و... في نظر أمير المؤمنين عليه السلام موضعًا للسخرية وصارت الجنّة والنار و... للأطفال والصبيان، لذلك فهو لا يلتفت إليها. ما يستعيذ منه أمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام هو أن لا يلتفت عنهم الله ثانية وجزءًا من مائة جزء من الثانية وطرفة عين، وأن لا يتخلّى عن ذلك المقدار من عنايته بهم. أمّا ما هي تلك العناية؟ نحن نقول عناية ونمشي، نحن نقول لطف ونمشي، نحن لا ندري ما هي! سأخبركم بهذا المقدار: لو أنّهم أعطوا الدنيا والآخرة لأمير المؤمنين فإنّه يستعيذ بالله من أن تسلب منه تلك العناية لثانية واحدة، فهل التفتّم ما هي؟! أي لو جعلوا الدنيا كلّها في إحدى يدي عليّ والآخرة بكلّ درجات الجنّة والملائكة المقرّبين وجميع النعم والمراتب التي جعلها الله في ذلك العالم في اليد الأخرى، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «هَبنی صَبَرتُ عَلَی حَرِّ نارِك فَكیفَ أصبِرُ عن النَّظَرِ إلَی كرامَتِك».
أنا لا يمكنني أن أتخلّى لحظة واحدة عن ذلك النظر الذي لو خفّفناه ونزّلناه مئات آلاف المرّات لتلاطم الناس وحطّموا أرجلهم وأيديهم من أجله. طبعًا تلك النظرة في مرتبتها العليا يقول أمير المؤمنين أنا لا أريدها، ما أريده فقط هو أن لا تصرف نظرك عنّي! بأيّ إحساس يشعر في وجوده؟! هذا ما لا نعلمه نحن، ولكنّهم يعلّموننا أيضًا أن نفعل ذلك.
همّة المرحوم العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه
رحم الله المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، فما رأيناه منه هو الهمّة، لم يختر يومًا الأمر الأدنى إذا ما دار الأمر بين الأعلى والأدنى، لقد كان سعيه دائمًا إلى الأعلى، في كلّ عمل في كلّ تجاوز، في كلّ مسألة و... فكيف يمكن تصوّر ذلك؟!
سأقول لكم أمرًا واحدًا، وأنتم اعثروا على تتمّة الأمر بأنفسكم، لم يكن يقول هزلاً بل كان يقول جادًّا، لقد جاء إلى مشهد وبدأ بالكتابة فكان يقول:
لقد رأينا أنّ هؤلاء الناس قاموا على الطاغوت، وأبادوا نظام الكفر، قدّموا الشهداء وقدّموا حياتهم وتخلّوا عن كلّ الدنيا من أجل الإسلام، ليطبّقوا الإسلام، ولكن ليس في أيديهم شيء، وليس هناك من يعلّمهم الإسلام، وبما أنّكم أوجدتم هذه الحكومة فماذا تريدون أن تصنعوا؟ أيّ قوانين؟ أيّ مبادئ ومعارف؟ فبدأنا نحن بالكتابة، والله شاهد أنّي كنت أذهب إلى مشهد بعد غياب أربعة أشهر فأراه مشغولاً بتأليف الكتب، أسلّم عليه بعد أربعة أشهر فيجيبني فقط ويقول: اذهب إلى القسم الداخلي من المنزل فإذا أنهيت كتابتي آتي إليك.
فقد كان في حالة لا يمكنه معها يشغل فكره وذهنه حينها بسؤالي عن أحوالي!
لقد ابتلي بتمزّق الشبكيّة، فذهبت برفقته ذات ليلة إلى طهران لكي يعاينه فيها ذلك الطبيب المعروف، ثمّ إذا رأى أنّه لا بدّ من العمليّة يجريها له، ما إن جلسنا في الطائرة قال لي:
يا فلان، يقولون لي إنّك بسبب هذه المؤلّفات التي كتبتها ابتليت بهذا المرض، ترقّقت شبكيّتك وتوسّعت وتمزّقت. اعلم يا سيّد محسن أنّهم لو قطّعوني إربًا إربًا على أن أنقص ممّا كتبت سطرًا واحدًا فلن أفعل!
إنّه لم يكن يمازح، فما هو الإحساس الذي كان يشعر به وماذا كان يرى حتّى قال هذا الكلام؟! إنّ عينه الآن تنتهي وليس معلومًا ماذا سيجري لها، وقد أصيب بمرض الديسك في ظهره، وبضغط الدم وبألف مرض، ولكن ما هي تلك الحالة وماذا كانت؟! كلّ ذلك لأنّه اختار الأعلى، فهو يقول: فليأخذوا كامل رأسمال وجودي الظاهريّ فليأخذوه، فإنّي لن أتخلّى عن هدفي! فهذا الإنسان يصبح هكذا.
أمّا لو تنازلنا وقلّلنا من هذا الجانب قليلاً، وقلّلنا من هذا الجانب قليلاً و... فإنّهم سيعطوننا بهذا المقدار، فمبقدار ما نبذل من المال يعطوننا من الطعام. وهنا يقول جناب حافظ:
بر سر تربت ما چون گذری همّت خواه | *** | كه زیارتگه رندان جهان خواهد بود۱ |
والمعنى: إذا مررت على تربتي فاطلب الهمّة *** فإنّه سيغدو مزارًا لأهل الفهم في العالم
الهمّة أمر مهمّ جدًّا، وإذا حصل الإنسان على الهمّة فإنّه يسير بنفسه.
لقد مضى شهر ولم نتمكّن من الاستفادة كما ينبغي من هذه الضيافة، لم يكن هذا النقص والخلأ من قبل الفاعل والمعطي، بل من قبل القابل والآخذ، ونحن لم تكن لدينا القابليّة. ولكنّنا نسأل الله تعالى أن يغضّ بعظمته وكرمه ولطفه عن نقائصنا وأن يجعلنا صادقين في مقام العبوديّة، وأن يعطينا من الخير ما أعطى محمّدًا وآل محمّد، وأن يبعد عنّا ما أبعدهم عنه من السوء ومن كلّ ما كانوا يبرزون منه البراءة في كلّ مرتبة وفي كلّ مرحلة من عوالم الوجود، وأن يعجّل في فرج إمام الزمان عليه السلام، وأن يمنّ على سماحة القائد بدوام العمر وحسن العافية والصحّة المقرونة بخدمة الإسلام وحفظ مبادئه، وأن يلبس المرضى من شيعة أمير المؤمنين لباس العافية، ويرحم موتاهم برحمته العامّة، وأن يستجيب دعاء الأولياء في حقّنا.
ولسرور أرواح شيعة أمير المؤمنين عليه السلام الذين ودّعوا هذه الدار الفانية ورحلوا إلى الدار الباقية صلّوا على محمّد وآل محمّد ثلاثًا.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.