المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالإنفاق و الإيثار
التاريخ 1424/08/14
التوضيح
هو العليم
ما هي المصيبة؟ وما الغاية منها؟
شرح حديث عنوان البصريّ -٩٤
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
ما هي المصيبة ولماذا تحدث؟
يقول الإمام الصادق عليه السّلام مخاطبًا «عنوان»: «وَ إذا فَوَّضَ العَبدُ تَدبِيرَ نَفسِهِ عَلَى مُدَبِّرِهِ هَانَ عَلَيهِ مَصَآئِبُ الدُّنيا.»
إن كان الرفقاء والأصدقاء يذكرون، فقد قرّرنا في الجلسة السابقة أن نتحدّث عن أمرين:
الأوّل: ما هي حقيقة المصيبة؟
الثاني: ما هي فلسفتها وضرورتها؟
وبصورة عامّة: لماذا المصيبة؟ وعلى أيّ المقولات تطلق؟ وفي المرحلة الثانية ما هي العلّة التي وراءها؟ ولماذا ينزل الله تعالى المصائب على عباده؟
ما هي المصيبة؟
وقد تحدّثنا يسيرًا عن الأمر الأوّل وقلنا: إنّ المصيبة عبارة عن الأمر غير المتوقّع الذي ليس للنفس رغبة في تحقّقه أو عدم تحقّقه، وطبعًا له مراتب، فأحيانًا يمكن أن يكون الأمر غير الملائم في أعلى الدرجات من الصعوبة وعدم الملاءمة بالنسبة إليّ أو إلى أيّ إنسان، وأحيانًا لا يكون كذلك، وذلك تبعًا للظروف والحالات المختلفة، فهذا الأمر يختلف من إنسان إلى آخر، فيمكن أن يكون أمر ما بالنسبة إلى إنسان ما وفي ظرف معيّن صعبًا، وهو بعينه في مرتبة أخرى سهلاً جدًّا بحيث يختلف من حالة إلى أخرى. وبصورة عامّة، ليس هناك صعوبة مطلقة أو سهولة مطلقة. فالظروف مختلفة والحالات مختلفة. إذا ما خرب جدار منزل ما فإنّ صاحبه يراه أمرًا شديدًا جدًّا، لأنّ عليه أن يحضر بنّاءً وعاملاً ويبذل المال لكي يعيد إصلاحه. أمّا لو سقط جدار وعثر تحته على كنز فإنّ هذا العسر يصبح يسرًا عظيمًا، فيقولون: لو أنّه سقط قبل هذا لكنّا وصلنا إلى هذه النعمة من البداية.
أو لو فرضنا أنّ إنسانًا ما يعاني في مصيبة ما ومن مرض فيظنّون أنّ الزائدة أو الطحال فيه مشكلة، وما إن يخضعوه لعمليّة جراحيّة يكتشفون أنّه يعاني من مرض خطير جدًّا في داخله، ويمكن أن تتحوّل إلى مرض عواقبه وخيمة. وهذا الأمر كثيرًا ما يقع، فلو أنّ هذا الأمر لم يحدث لاستمرّ ذلك المرض، ولكنّهم يوقفونه من البداية، ويتمكّن هذا الإنسان من الاستمرار في حياته. ثمّ يقولون: حصل خير، لقد صار هذا المرض سببًا للقضاء على هذا الخطر.
ولدينا الكثير من نماذج ذلك، وبصورة عامّة المصائب والمشاكل التي تحدث للإنسان في حياته لها صور وأبعاد مختلفة وحيث إنّ للإنسان سلائق وأفكار مختلفة فإنّ مسألة كون الشيء مناسبًا للإنسان أو صعبًا عليه ستحدث بشكل طبيعيّ في حياة الناس اليوميّة. وهذا أمر لا بدّ منه، فضرورة الحياة وضرورة العيش تقتضي ذلك.
هل ينجو أحد من المصائب؟
ليس لدينا أحد حتّى الآن قد عاش حياة رائعة بدون أيّة مشكلة أو صعوبة أو مصيبة. لجميع الناس في حياتهم حالات من المدّ والجزر، سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، أي إنّ جبر الحياة في هذا المحيط والمحيط الاجتماعيّ بعد ملاحظة الظروف المحيطة بالإنسان سيقتضي ذلك بشكل طبيعيّ.
إنّ المتاعب أمر لا مفرّ منه ولا مهرب لأحد ولا فرق في ذلك بين المؤمن وغيره. فهذه هي الحياة، سواء كان الإنسان مشركًا سيواجه ذلك، أو كان مؤمنًا.
هل يمكن أن يخلو طريق الله من المصائب والمصاعب؟
ومن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها كثيرون ـ وحيث إنّه طال الزمان بين هذه الجلسة وسابقتها فقد نسيت ولا أدري ماذا ذكرت في الجلسة السابقة فإن كان هناك تكرار فليسامحنا الأصدقاء فأنا لا أدري ما إن كنت ذكرت هذا الأمر أم لا ـ فأنا أشعر أنّ الكثيرين لم يحقّقوا بعد ويتأمّلوا ويصحّحوا رؤيتهم بشكل كاف حول هذا الأمر، فهم يتصوّرون أنّ الاستعداد والحركة والتهيّؤ والسير في طريق الله يجب أن يذهب بالمصائب التي هي من هذا القبيل، وأن يقضي على المتاعب، والحال أنّ هذا خطأ محض وغلط محض. نعم نحن لا نقول كما يقول البعض أنّه ربّما يكون هذا الأمر سببًا في زيادتها، كلاّ، فنحن نخفّف عن الرفقاء بهذا المقدار، ولكن سنتحدّث عن ذلك في المستقبل. لماذا؟ لأنّ هناك في هذا المجال بعض الكلام سنبيّنه للرفقاء شيئًا فشيئًا، حتّى لا تحصل صدمة فيقولون: يا ولينا ماذا صنعنا؟! وكما يقول أحد الرفقا: سيّدنا هل يمكننا أن نستعفي بعد أن وصلنا إلى هنا؟! ولكن ليس الأمر كذلك، فنحن نسير على هذا المنوال المتعارف وبهذا النحو...
ما هو طريق الله وما حقيقة السير والسلوك فيه؟
طريق الله عبارة عن الحركة من المجاز إلى الحقيقة، ومن النفس إلى التوحيد، ومن الاعتبارات إلى الواقعيّات، ومن الهوى إلى النور والضياء والبصيرة، ومن الجهل إلى العلم، ومن التعلّقات إلى قطع التعلّقات والتمركز والتركيز في نقطة واحدة هي عبارة عن تلك الوجهة الإلهيّة، وجعل المقصد والمقصود حريم الله والفناء في مقام أمنه وأمانه وكبريائه. فهذا هو السير والسلوك. وبعبارة أخرى فإنّ أمر السير هو حركة ترافق وتصاحب الحياة لأجل قطع التعلّقات والورود إلى ذلك المقام، وتنحية الاعتبارات والوصول إلى الحقيقة، هذا هو السير والسلوك.
وحيث إنّ الإنسان يعيش في هذا المجتمع ويعاشر هؤلاء الناس، فلا شكّ أنّه سيتأثّر بمجموعة من العلل والعوامل الطبيعيّة والأحداث الاجتماعيّة سواء من الناحية الاجتماعيّة أو الفرديّة، فهي ستؤثّر وتتأثّر، وهذه العلل والعوامل تؤثّر على وجود الإنسان. والطريقة نفسها من المدّ والجزر اللذين يحصلان في الحياة المعتادة للناس تحصل للسلاّك أيضًا، فالسالك حاله كحال غيره في ذلك. فهو أحيانًا يصاب بمرض، وأحيانًا يكون معافى، أحيانًا يكون في ضَيق، وأخرى في سعة ورخاء، أحيانًا تسبّب له الأحداث والأحوال ضغوطًا نفسيّة، وأحيانًا يرتفع عنه ذلك. وعلى كلّ حال فالأمر يسيرُ هكذا.
جانب من ابتلاءات الشيخ الأنصاري
كان الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه مبتلى بمرض في القلب، وكان المرحوم العلاّمة يسعى جهده لعلاجه۱ وقد أرسل إليه من طهران الأطبّاء المتخصّصين لمرّات عديدة.
لقد كان يعاني من مرض القلب آلامًا شديدة، ومن جهة أخرى كان يعاني من ضغوط اقتصاديّة وماديّة مدّة ما. وقد ذكر المرحوم العلاّمة أمرًا عجيبًا لا اطّلاع لأحد عليه: كنت ذات يوم في منزله فرأيت أنّ رجلاً قد طرق بابه، فذهبت وفتحت الباب، فرأيت أنّ رجلاً قد جاء يقول: أهذا منزل الشيخ الأنصاري؟ قلت نعم. فدخل إلى المنزل ولم ألتفت بعد ذلك ماذا صنع، ولكن رأيت أنّه يتحدّث معه ـ وما أنقله إليكم هو لكي نتأمّل قليلاً، وبمزيد من التأمّل نخوض في الأمور، ونعدّ جميع الأمور والأحداث المختلفة في سياق نزول التقدير والمشيئة الإلهيّة فلا تخدعنا الأمور وتغرّنا فننسى حقيقة الأمر في بعض الظروف التي نقع فيها، فقد حصل لهم هم أيضًا أمور كهذه ـ كان المرحوم العلاّمة يقول: سمعت من داخل المنزل ضجيجًا وكلامًا، ويبدو أنّ هناك جدالاً وأخذًا وردًّا. وسمعت أنّ ذلك الرجل قد ارتفع صوته قليلاً، ففهمت أنّه كان سمسارًا وأنّ الشيخ الأنصاري يبيع فرش منزله، وهذا السمسار يريد أن يخفّض قيمتها ويشتريها بثمن بخس وهو يقول له: لا، فهذا قيمته أكثر من ذلك ولا يجوز وليس من الصحيح... يقول المرحوم العلاّمة: لقد تأثّرت كثيرًا في حين أنّ كثيرًا من الناس آنذاك كان يعتقدون أنّه يهيئ لنفسه أمر المعاش من الطرق الخارقة للعادة ـ وكانوا يعبّرون عن ذلك بتعبيرات جارحة لن أنقلها بمعنى أنّ لديه تصرّفات من خلال قواه الباطنيّة ـ فكان الناس يأتون من كلّ حدب وصوب من شيراز والنجف وطهران وأصفهان ثلاثة أو أربعة أيّام ويقيمون في منزله، وبصورة عامّة كان منزله موضع تردّد. كان المرحوم العلاّمة يقول: لا علم لهؤلاء أنّه يبيع أثاث منزله ليهيّئ لهم ما يحتاجون، ولكن لديّ اطّلاع.
كان المرحوم العلاّمة يقول: لقد ذهبنا ذات ليلة إلى المسجد الجامع في همدان والذي كان الشيخ الأنصاري يصلّي فيه، وكان الفصل صيفًا والطقس حارًّا، ويبدو أنّهم كانوا يصلّون على سطح المسجد. وفجأة خطرت في بالي هذه الفكرة وهي أن أذهب فورًا إلى طهران وأن أجمع من الأصدقاء فيها مبلغًا ولا أسمح أن يصل الأمر إلى هذه المرحلة. وما إن انتهت الصلاة التفت إليّ وقال: يا سيّد محمّد حسين إيّاك وهذه الأعمال! فسدّ عليّ الطريق. لقد كان الأمر هكذا، وهو عامّ للجميع.
جانب من ابتلاءات المرحوم العلاّمة
وكان الأمر بالنسبة إلى المرحوم العلاّمة إلى حدّ ما مشكلاً أيضًا، ففي أواخر حياته ابتلي بأمراض وأدخل إلى المستشفى. وكان الرفقاء ينذرون النذور لأجل سلامته واستمرار حياته ويذبحون لأجله الأضاحي. وذات يوم التفت إلى جميع رفقائه وأصدقائه وقال: ماذا جرى؟! لماذا تنذرون النذور هكذا؟! ففي النهاية يجب أن أغادر! ماذا لنا في هذه الدنيا سوى الآلام؟! ومع ذلك أنتم تريدون أن تبقوا عليّ فيها وتمسكوا بي! فهذه الدنيا كلّها أمراض ومتاعب وضيق ـ فقد كانت لديه هو أيضًا مشكلات، فهذا من جانب، وكانت لديه مشاكل لا يمكن أن يأتي عليها البيان، ولها أحداثها الخاصّة سوى الجوانب الاقتصاديّة ـ كان يقول: ماذا لنا في هذه الدنيا سوى الآلام؟ نعم أنا لا أرى ما يوجب البقاء في هذه الدنيا سوى الأنس والألفة مع هؤلاء الرفقاء والأصدقاء. فقلبي يؤلمني ـ وقد أصيب في أواخر عمره بسكتة دماغيّة ـ فما دامت أوضاعنا هكذا ـ وكانت هناك أمور أخرى أنتم ترونها! ـ فلماذا يبقى الإنسان في هذه الدنيا؟ فليذهب إلى ذاك العالم على الأقل و...
شمول التقدير الإلهيّ بالبلاء لجميع الناس
فهذه الأمور موجودة، وعلى كلّ حال فالمسألة ليست كما يتصوّر بأنّ الإنسان إذا ما أراد أن يسير في هذا الطريق فقد تخلّص من كلّ شيء، كلاّ بل إنّ أمر التقدير الإلهيّ والمشيئة الإلهيّة سيقومان بفعليهما في حياة الإنسان، شئنا أم أبينا، وسواء كنّا مشركين أم مؤمنين، وسواء كنّا سلاكًا أو غير سلاّك، فهذا الأمر سيتحقّق. وإن كانت هناك آية في القرآن حول المشركين تفيد أنّنا نمهلهم ليزدادوا إثمًا۱، وطبعًا سنتعرّض لذلك لاحقًا في فلسفة البلاء، ولكن بصورة عامّة هذا الأمر جارٍ في حقّ جميع الناس، وللّه تعالى تقدير خاصّ لكلّ إنسان حول المدّ والجزر الذي سيصيبه. فهذا أمر لا بدّ منه وعلى الإنسان أن يسير مع هذا التقدير الإلهيّ والمشيئة الإلهيّة.
التغيّرات في الحياة سواء في الأمور الروحيّة أو الماديّة أو الرحميّة وبصورة عامّة ما يرتبط بشأن الإنسان وشؤونه هو أمر جار على الجميع وربّما كان بالنسبة إلى البعض أكثر كما وعدنا سابقًا أن نتحدّث عن ذلك لاحقًا، والآن نحن نتحدّث عن الأمر بالإجمال.
رحم الله جدّنا السيّد معين، فقد نقل لنا هذه القصّة فقال: كنّا ذات يوم عند الشيخ الأنصاري، وقلنا له: في النهاية ادعوا لنا لرفع هذه المشاكل التي أصابتنا.
فقال الشيخ الأنصاري: ألست راضيًا أن تتحمّل حتّى هذا المقدار؟! حتّى هذا المقدار؟!
ثمّ نقل أمرًا عن نفسه وقال السيّد معين أمرًا أنقله إليكم فقد كان يقول: عندما حدّثني بتلك القصّة طأطت رأسي ولم يخرج منّي نفس!!
فقال له الشيخ الأنصاري: يا سيّد معين لو كنت مكاني هل كنت تحتمل؟
قلت: لا.
فالأمر والطريق هكذا، الطريق هو عبارة عن قطع التعلّقات، الطريق عبارة عن قطع التعلّقات، الطريق عبارة عن ترك الحيثيّات والشؤون التي تجعل الإنسان يميل إلى الدنيا، وتقوّي فيه جانب الابتعاد والبعد عن الله، هذا هو الطريق. فنحن في هذه الدنيا بماذا نتعلّق؟ بشؤوننا وحيثيّاتنا وأمرنا ونهينا وعلاقاتنا، بهذا نتعلّق. فإذا أوشكت هذه التعلّقات أن تنقطع وتتّخذ لنفسها شكلاً آخر، أو تحدث بعض الأمور فمن الطبيعي أن يكون ذلك صعبًا على الإنسان.
إن شاء الله وإذا وفّق الله سنوضّح هذا الأمر للرفقاء والأصدقاء، فإذا اتّضح سيتقبّل الإنسان ذلك بنفسه، بل يصبح باحثًا عن البلاء لو انقطع عنه يومًا أو بضع أيّام. فهذه أشياء سيرسلها الله للنّاس كلٍّ حسب ظروفه واستعداده.
وقد كان السيّد الحدّاد يقول: إنّ هؤلاء يأتون إلينا ـ هكذا كانت تعبيره ـ وبدلاً من أن نصنع لهم أمرًا يقلّل من تعلّقهم، يريدون المحافظة على تلك التعلّقات وإبقاءها. يقولون: ادع لنا أن يتمّ هذا الأمر! أو مثلاً ادع لنا أن يأتينا صهر جيّد لا يؤذينا! ادع لنا أن يصلح ذاك الأمر المعوجّ في حياتنا! لقد جاءت الدولة وطلبت منّا ضرائب، علّمنا دعاء أو عملاً ليكون ذلك الأمر عندها نسيًا منسيًّا. سيّدنا في هذا المورد لدينا كذا وفي ذاك نواجه كذا... فكان يقول: لم يأت أحد ليقول: سيّدنا اصنع لنا ما يقطع هذه التعلّقات، أن تنقطع هذه التعلّقات وهذه الاعتباريّات ويحلّ مكانها أمر آخر!
هل يكفي الكلام والعلم لقطع التعلّقات أم لا بدّ من الوقوع في التجربة العمليّة؟
والأمر لا يتمّ بالكلام، فلو أنّي تحدّثت معكم ألف ساعة فمن الممكن أن يصبح هذا الأمر موضعًا لاهتمامكم، ولكن ما لم يقع الإنسان في مختلف جوانب الابتلاءات فإنّه لن يدرك ما ينبغي أن يدركه.
كى بود دانستن سركنگبین | *** | دفع صفرا ای نگار مهجبین |
أيّها المعشوق قمريّ الجبين *** متى كان العلم بشراب السكنجبين دافعًا لمرض الصفراء؟!
العلم لا فائدة منه، وقد ذكرت هذا الأمر مرارًا: فقد كنت أبحث مع المرحوم العلاّمة حول بعض الأمور وقد استمرّت هذه الأبحاث إلى نهاية عمره، وأحيانًا هو نفسه كان يبدأ بها ويطرحها وكنت أرى أنّه لا فائدة، فما إن كان يشرع كنت أقول: سيّدنا النتيجة هي التي وصلنا إليها في الجلسة السابقة! فكان يضحك ومع ذلك كنّا نتابع، وكانت بعض الأبحاث التوحيديّة تستمرّ لساعتين، ولم تكن لها فائدة، لا أنّها لم تكن لها فائدة، فهذا خطأ هذا خطأ منّي بل لا شكّ أنّها كانت ذات فائدة، ولكن كنّا نشعر أنّ الأمر يرجع إلى النتيجة التي وصلنا إليها في الجلسة السابقة.
وباعتقادي أنّ هذا الأمر ربّما لم يكن ليتّضح لي بدون وفاته ومفارقته للدنيا والأحداث التي حدثت بعده! فهذا الأمر وهذه المسائل لا تتحقّق بالكلام وهذا أمر مهمّ. فهذه كلّها بركات يمكن للإنسان أن ينالها من خلال بعض الظواهر غير الملائمة، فيمكن أن يكون هناك أمر غير مناسب في ظاهره ويعدّ نكبة ولكنّ ذلك الخير الذي في داخله كبير إلى حدّ يجعل الإنسان مستعدًّا ليبذل مقابله أضعاف ما تحمّل. فلو علم ماذا وراء هذا الأمر لصارت قصّته قصّة انقضاض ذلك الجدار والعثور على الكنز، ولكنّ هذا الكنز لا يبيّنه الله، لا يبيّنه فيقع الإنسان في حالة من الغليان، فيصعد ويهبط، يقفز ويقول: لقد حدث كذا، وحدث كذا.
ـ إنّ تحته خيرًا يا عزيزي، تحته خير.
ـ كلا يا سيّدي لا أفهم شيئًا من ذلك، لا أدرك شيئًا، كلاّ لا يوجد شيء. هو إذ يقول ذلك يحكي عن ذلك الكنز، يحكي عن تلك الحالة التي تتغيّر، حالة الانسلاخ في داخله، غاية الأمر، أنّه يبدو الآن بهذا الشكل وبهذه الصورة. فهذا الموضوع مهمّ جدًّا.
خلاصة الكلام في معنى المصيبة
فإذن المصيبة عبارة عن ذلك الأمر الصعب الذي يواجه الإنسان في حالة معيّنة لو واجهه في حالة أخرى أو واجه غيره من الناس فمن الممكن أن لا يكون صعبًا. قد يموت إنسان ما فيفرح عدد من الناس ويحزن آخرون ويبكون ويقيمون المآتم. قد تحدث حادثة أو حريق فيحزن عدد من الناس، وهم الذين يتضرّرون أمّا الذين سيصلون بعده إلى منافع فيفرحون. أو الزلزال الذي يحدث هو كذلك، وجميع الأحداث لا يمكن أن تكون مصيبة مطلقة، لأنّ النظام نظام اجتماعيّ ونظام متفاعل. ولا أدري إن كنت قلت هذا للرفقاء أم لا، فقد توفّي مرّة أحد الأقارب في مشهد وعندما ذهبنا إلى المقبرة، ذهبت بنفسي إلى المغتسل لأنّهم طلبوا منّي الحضور والإشراف. وكانوا قد جاؤوا في الوقت نفسه بالعديد من الجنائز، وكان هناك ازدحام. وكان المتصدّون لتغسيل الأموات فرحين وكما يقال راجت سوقهم. وقفت جانبًا في زاوية وكنت أسمع كلامهم ولم يكونوا ملتفتين إليّ، فرأيت أنّ الذي يغسّل الجنازة كان مسرورًا جدًّا ويقول بظرافة ومرح: تحرّك إلى هذا الجانب فاليوم يوم النقود تحرّك! لماذا لا تتحرّك؟ والحال أنّ هناك جماعة ينوحون ويلطمون على رؤوسهم لأنّ أباهم قد مات، أو أخاهم قد مات أو الزوج قد مات. هذا يقول له: اليوم يوم النقود تحرّك قبل أن تفوتنا.
هذه هي الدنيا، فهذه المصيبة بالنسبة إلى هذا هي مصيبة ولكنّها لذاك فرحة وسرور. وهذا الأمر موجود عند الجميع! كلّ إنسان حسب وضعه، فما دام النظر إلى الكثرة فالأمر هكذا. النظر إلى الكثرة دقّقوا، ما دام النظر إلى المادّة فهناك ألم وعذاب ومصيبة بالنسبة إلى بعض والأمر نفسه سبب للفرح والسرور والسعادة عند آخرين، فهذا أمر واضح في النهاية، فلا يحتاج أن نوضّح بمثال، فالرفقاء جميعهم يعلمون كيف هي حقيقة الأمر، ابتداء منّي أنا المتكلّم وإلى جميع الرفقاء المستمعين وغيرهم فنحن جميعنا أدركنا هذه الأمور وندركها ونلمسها.
فهذه المسألة بصورة عامّة، ففيما يرتبط بالنظر إلى الكثرة والنظر إلى الدنيا فهي مصيبة. فإذن المصيبة هي الأمر الذي لا يمكن التخلّص منه في النظام الاجتماعيّ وفي حياة الإنسان، سواء كان مشركًا أو مؤمنًا، سالكًا أو غير سالك. فهذا أمر.
اختلاف مصيبة كلّ إنسان باختلاف رؤيته ومعاييره
أمّا لماذا يأتي الله بالمصيبة للإنسان؟ وما هي فلسفة الأمر؟ لا أريد أن أتكلّم عن السبب ولكن ما هو الهدف الكامن وراء المصيبة؟ وما هو الشيء الذي يؤدّي بالإنسان إلى أن ينسى هذا الهدف ويغفل عن هذا المقصود؟ لأنّ من الممكن للإنسان أن ينسى بعض الأمور، استنادًا إلى الرؤية التي لديه والتي على أساسها يقيّم الأشياء، فيعدّ ما ليس مصيبة مصيبة، وما هو مصيبة ينسى كونه مصيبة.
ماذاكانت مصيبة الشهيد الأوّل؟
لقد كان الشهيد الأوّل من أعاظم الفقهاء ومن العلماء الراسخين والذين يهتمّ بهم جميع العلماء، وكذلك الحال في الشهيد الثاني، وطبعًا كان الشهيد الأوّل أقوى من الشهيد الثاني في الأمور العلميّة والفقهيّة، ولكنّ الشهيد الثاني من حيث الجانب العرفاني كانت له مقامات وهذا واضح من عباراته، وكلاهما استشهدا أيضًا في زمان سلاطين الحكومة العثمانيّة وأمثالهم۱ حيث أفتى القضاة الذين لا يعرفون الله والمتعصّبون من أهل السنّة بقتلهما بتهمة التشيّع.
وحول الشهيد الأوّل٢ لدينا أنّ الذي كان معه هو الذي قتله رغم أنّهم طلبوا منه أن يحضره إلى السلطان، ولكنّ قضاة الشام أغروا ذلك الرجل بالمال واشتروه لأنّهم كانوا يخافون أن لا يعدمه السلطان العثماني، وأنّه إذا وصل إليه بدّل له رأيه. ولذلك فقد أغروا هذا الرجل وقالوا له: اقتله في وسط الطريق وخذ برأسه إلى السلطان العثماني، فقام عديم الأصل هذا قبل الوصول إلى اسطنبول التي كانت مقرًّا للسلاطين العثمانيّين بقتله قرب البحر. فرأى أهل تلك القرية جميعهم نورًا يتصاعد متلألئًا منتصف الليل من جانب البحر، فجاؤوا إلى ذلك المكان فوجدوا جثّة مرميّة، فعلموا بحقيقة الأمر، فدفنوه هناك، وهو الآن موضع زيارة، فالشهيد الأوّل كان هكذا.
وطبعًا عندما يصل ذلك الرجل برأسه إلى السلطان العثماني يقول له: أنا لم أطلب رأسه أنا طلبته هو، فيقوم بإعدامه، وهذا جزاء الخيانة التي قام بها.
وقد سمعت هذا الأمر مرارًا من المرحوم العلاّمة ـ ولم أره في مكان أنقله عنه ـ فقد كان يقول: كان الشهيد الأوّل إذا قام في الليالي لصلاة الليل كانت له مناجاة وأحوال معنويّة جيّدة جدًّا، وكان تهجّده يستمرّ لساعات. وفي إحدى الليالي غفت عينه فرأى في الرؤيا أنّ الله أعطاه حوريّة وروضة وقصرًا وجاءت الحوريّة وجلست قربه وبدأت بالحديث معه ـ نعم الحور العين! وقد ذكرتُ إشارة وربّما كان الرفقاء أعلم منّي ـ ولهذا استمرّ نومه وفاتته صلاة الليل، ولمّا استيقظ ورأى أنّه قد حلّ وقت أذان الصبح وطلوع الفجر ـ كانت عبارة المرحوم العلاّمة عنه هكذا ـ كان الأمر عليه صعبًا إلى درجة بحيث تغيّرت حالته وبدأ بالبكاء وشكا إلى الله أن ماذا فعلت حتّى سلبت منّي فيض صلاة الليل في مثل هذه الليلة بواسطة مرافقة الحور العين؟ وله في ذلك أبيات تبيّن مصيبته:
عَظُمَت مُصيبَةُ عَبدِكَ المسكينِ | *** | فى نَومِهِ عن مَهرِ حوُرِ العينِ |
الأولياءُ تمتّعوا بِكَ فى الدُّجى | *** | بتهجّد وتَخَشُّعٍ و حنينِ |
فَطرَدتَنى عن قَرع بابِكَ دوُنَهُم | *** | أَتُرىَ لِعِظمِ جَرائِمى سَبَقُونى؟۱ |
فيا لها من مصيبة عظيمة تلك التي أصابت عبدك المسكين حين رجّحت له النوم ومرافقة الحور العين، على القرب والأنس بك، وسلبت منه هذا الأنس.
حرمتني من قرع بابك...
واقعًا عجيب! فانظروا رؤية الإنسان العارف والإنسان الناسك الذي يريد أن يتقرّب إلى الله في أيّ شيء يرى المصيبة؟! في ماذا يراها؟! فلو أنّنا نحن رأينا مثل هذه الرؤيا لما نسيناها إلى ثلاث سنوات! ولبقينا نبحث عن تتمّتها! ولكنّه هو يستيقظ ويرثو حاله ويقول:
فطردتني عن قرع بابك دونهم
حرمتني من أن أطرق بابك وسمحت لهم.
أترى لعظم جرائمي سبقوني؟!
لماذا المصيبة؟ وما الهدف منها؟
فمسألة المصيبة هذه تختلف باختلاف الرؤى. فلماذا تحدث؟
لأنّ نظام العالم نظام يرتكز إلى أحداث قدّرها الله ويسير على أساسها. فشئت أم أبيت هذه التغيّرات موجودة في هذا النظام. إذا ما التفت الإنسان إلى هذا الأمر فإنّه يستفيد من الأمور التي تحدث له في تصحيح أفكاره وعمله، وإن لم يلتفت فإنّه يسير في اتّجاه آخر.
الأمور والمصائب التي تواجه الإنسان هي في طريق تكامله، سواء المشرك أو المؤمن؛ حيث إنّ هدف خلق الإنسان هو تكامله، وتقدير الله ومشيئته هي أن تتحقّق هذه الأمور في سبيل قطع التعلّقات وقطع العلائق. لأجل من؟ لأجل الذين يمكنهم أن يستفيدوا، حتّى لأجل المشرك، حتّى المشركون وحتّى المخالفون يواجهون طيلة حياتهم موارد من التنبيهات والتذكيرات والمصائب التي يمكنها أن تجذبهم إلى الطريق وتغيّر مكانهم، فهذه الأشياء هي لهم.
وفي الآية الشريفة: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} ٢؟ فهؤلاء الناس العوام لا يعلمون إلاّ ظاهر الحياة الدنيا، لا يعلمون إلا العلل والعلاقات المتعارفة والظاهريّة، وأمّا الآخرة وما وراء هذا الستار فهم غافلون عنه. فما يجري وراء الستار، الأمر الذي تتحقّق من أجله هذه المشكلة هم غافلون عنه، ولو علموا لما غفلوا.
كان هناك أحد الأقارب، وكانت أعماله في الدنيا غير صحيحة فقد كان يرتكب المعاصي، وكان هناك عدد كبير يتأثّر بمعاصيه ويتألّم من أعماله القبيحة والقذرة. وربّما كان من القلائل الذين لا يذكرون بخير، وقد مات في حادثة ما وانتقل إلى رحمة الله. أذكر أنّه عندما كان المرحوم العلاّمة يعزّي والدته كان يقول لها وقد كنت حاضرًا في تلك الغرفة: يا فلانة أترضين كأمّ له أن يبقى وتزداد ذنوبه وتثقل أوزاره؟ فلو أنّه بقي لكان كما كان، فقد لطف الله به وذهب من هذه الدنيا لكي تكون أثقاله أقلّ. فالأمر جادّ. ولم يكن من قبيل: رزقك الله الصبر وإن شاء الله يضاف إلى درجاته وأمثال ذلك.
فهذا الإنسان كان عاصيًا ولو بقي لازدادت أوزاره، والله أخذه ليكون وزره أقلّ، فهذا بنفسه نوع من التعزية، هذا بنفسه نوع من التعزية، هذه حقيقة. {وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ}۱ فهذه الأمّ التي يحترق قلبها الآن وتبكي على فراقه غافلة عن الآخرة، إنّها لا تعلم أنّ كلّ يوم يمضي في حياة هذا الابن يزيد في خراب آخرته، ووزره هناك يزداد.
هنا تتغيّر النظرات. من هنا نحن نريد أن نشرع في النقطة الثانية التي هي فلسفة وعلل المصائب التي يأتي بها الله، وأنّه لماذا لا بدّ في هذه الدنيا من المصيبة؟ لماذا لا بدّ في هذه الدنيا من المضائق؟ لماذا لا بدّ في هذه الدنيا من الموت؟ لماذا لا بدّ في هذه الدنيا من الأمراض والآلام النفسيّة والضغوط الجانبيّة؟ لماذا كلّ ذلك؟
الآن نحن لا علاقة لنا بالأمور الأخرى، الآن نريد أن نتحدّث ضمن دائرتنا نحن، فهذا الإنسان الذي يسير في طريق الله ما معنى حركته في طريق الله؟ ما معنى هذا العبور؟ ما معنى هذا القطع للتعلّقات؟ ما هي الآثار المترتّبة على ذلك؟ ما هي الآثار التي تتركها على هذا الذي تصيبه دون غيره؟ ما هي الحالة التي يدخلها هذا الإنسان في حين أنّ غيره يحرم منها؟ كلامنا فعلاً هو هنا.
لا شكّ أنّ الحركة إلى الله هي عبارة عن عبور النفس والنفسانيّات والأهواء وقطع التعلّقات بالأمور والجوانب التي توجب الانصراف والامتناع عن الحركة وتعيقها وكلّ ما يشدّ نظر الإنسان إلى غيره، فالإنسان يعتمد طوال حياته على إخوانه، الحمد للّه لديّ إخوة، فهم موجودون ونحن نعيش معهم، فهم لي المأوى والملجأ، فهذا من جهة أمر جيّد ومهمّ، ويجب أن يكون الإخوة متّحدين، يجب أن يكون للأخ أنس وألفة مع أخيه، عليه أن يحافظ على علاقة من الأنس والألفة الرحميّة في أجواء إيمانيّة. يجب على الأخوين الذين يرجعان إلى نسب واحد وأصل واحد أن يحافظا على هذا الأمر.
ما هو الأمر الذي على الإنسان أن ينظر إليه مع محافظته على علاقاته مع من حوله؟
ولكنّ الكلام هو في أنّ المؤمن ما دام يسير إلى الله فلا بدّ إلى جانب أمر الرحم والاتّحاد والألفة والأنس والترابط والتي هي أمور أمر بها الشارع وشجّع عليها وساق إليها، لا بدّ إلى جانبها أن يكون ذلك الهدف الأساس أمام عينيه، وإيّاه أن ينساه! فالهدف الأساس هو الحركة نحوه، تلك الحركة الأساس هي أنّ على الإنسان أن يجعل حياته وعمره وحركاته لأجل الوصول إلى ذلك الهدف. افترض أنّ سائقًا يقود سيّارته في الطريق بسرعة وعليه أن يركّز جميع حواسّه وفكره على المحيط الذي هو فيه فيأتي إنسان من خلفه ويكلّمه ويقدّم له شيئًا، وبدلاً من أن يتابع قيادته فإنّه يدير برأسه إلى الخلف فيأخذ الشاي أو الحلوى أو الفاكهة، فيصطدم بهذا الجانب وبذاك. السائق الذي عليه أن يجعل كامل هدفه الالتفات أمامه وإلى ما حوله ينبغي أن لا يدير برأسه إلى خلفه، وأن يتناول الشاي أو الفاكهة أو الحلوى. يجب أن يكون وجهه مستقيمًا ومتوجّهًا إلى الأمام، نعم لا بأس أن يحرّك يده، لا رأسه فتتخبّط السيّارة كلّها مع حركته هذه. هنا ماذا يحصل؟ هنا يفنى ذلك الهدف الأساس، إنّ حبّة من الفاكهة أو قطعة من الحلوى أو كوبًا من الشاي سبّب أن ينقطع ذلك الهدف الأساس لمدّة يسيرة، وهذه المدّة اليسيرة تنهي الأمر.
إنّ الحركة التكامليّة للإنسان هي كهذا السائق فعن أيّ شيء يبحث الإنسان في مسيرة حياته؟ لماذا يتحرّك؟ عن أيّ هدف يبحث؟ الأمور الأخرى هي أمور جانبيّة، والاهتمام بالأمور الجانبيّة لا بدّ أن يكون منسجمًا مع اهتمامه بذلك الهدف. أمّا لو سبّب الاهتمام بالأخ والاهتمام بالأخت والاهتمام بهؤلاء جعل هذه الحركة باهتة إلى حدّ ما، جعلها باهتة، فهذا يصبح عائقًا، يصبح مانعًا، يصبح صارفًا، وفجأة يحدث أمر لا قدّر الله فتنقطع العلاقة بينهم ويا للعجب كأنّ شيئًا لم يكن، وكأنّهم لم يولدوا من أمّ واحدة، يبتعدون كأنّهم على حدّي نقيض وليس بينهم أيّ نوع من العلاقة، حينها يلتفتون للتوّ أنّه هل هذا هو الأخ الذي كنّا نعتمد عليه؟! هل هؤلاء هم الذين كنّا نهتمّ بهم؟ ماذا حصل الآن؟!
هذا الأمر يحدث بالنسبة إلى الشريك، هذا الأمر يحدث بالنسبة إلى الأقارب والأرحام، هذا الأمر يحدث بالنسبة إلى الأفراد، بالنسبة إلى الذين يثق بهم، بالنسبة إلى الأشياء التي يثق بها الإنسان، فهذه تصبح مصيبة، قطع العلاقة هو مصيبة. افترضوا أنّ إنسانًا عاش مع آخر أربعين سنة، وبينهما علاقة، وبينهما تحيّات وتواصل عائلي وأنس ومحبّة، وفجأة يحدث أمر تصبح العلاقة كأنّها لم تكن وكأنّ شيئًا لم يكن، كأنّه لم يكن هناك انتساب ولا رحم، فماذا حصل؟ هذه مصيبة وليست بالأمر القليل.
ولكن ذلك بالنسبة للإنسان الذي هو في الطريق هو بركة وخير يحرّكه ويهزّه من الأعماق فيعود إلى نفسه، هذا الأمر سيحدث مع آخرين غدًا أيضًا. أتتخلّى عن الأخ؟! حسنًا. مثلاً شريك الحياة في البداية يأتي للتعرّف حاملاً باقة من الزهور والحلوى ويستقبلك بالترحيب وينتهي اللقاء بالفرح والسرور، ينقضي شهر أو شهران، فلا يعود هناك شيء من المجاملات والتناغم وأنّنا في طريق واحد، ونموت معًا، كلّ هذه العبارات واللطائف وهذه الأمور الحسنة والجميلة. إن شاء الله يكون الأمر دائمًا هكذا، فنحن نتحدّث عن الآخرين، وما إن يمضي قليل من الزمان، ففي الحياة مدّ وجزر، ومشكلات ومتطلّبات وطبائع مختلفة، بعد ذلك وشيئًا فشيئًا تغيب تلك العبارات وذلك اللطف وتلك المحبّة وتحلّ مكانها أمور أخرى، تصبح العبارات أكثر اتّزانًا ولها اصطلاحات خاصّة، ثمّ تنتقل إلى تعبيرات دبلوماسيّة وسياسيّة، وبعد ذلك انتفاء الحدود وإن شاء الله لا يصل الأمر إلى هذه المرحلة، حيث يظهر كلّ ما يخبّأ في القلب، فيرى الإنسان أن يا للعجب! ماذا كان الأمر؟! ماذا كانت نيّتنا؟ ماذا كنّا نعتقد ونتخيّل؟ ماذا كنّا نتصوّر؟ سواء في ذلك الرجل بالنسبة إلى المرأة أو المرأة بالنسبة إلى الرجل، فهذه مرحلة.
طبعًا وكما ذكرت مرارًا فإنّي أبيّن مثالاً، ولكنّ رأي الأعاظم والأولياء والشرع هو مضاعفة المحبّة، وهذا الأمر قد بيّن مفصّلاً فلا حاجة إلى ذلك.
على كلّ حال، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يتحقّق لدى كثيرين، بحيث تقع تلك التوقّعات بصورة أخرى، وتقع تلك الأفكار بصورة أخرى، وتقع تلك الأمنيات والرغبات بصورة أخرى، فجأة يرى الإنسان أن يا للعجب! لقد كان كلّ ذلك رؤيا ومنامًا؟! كان رؤيا وخيالاً؟! وتلك الأمور التي كانت تطرح ليس فقط لم يعد عنها خبر، بل يطرح ما هو نقيضها، تطرح أمور أخرى، فيرى الإنسان فجأة أنّه قد سحب البساط من تحت رجليه، فماذا جرى؟! ماذا كنّا نعتقد؟! كيف حصل ذلك؟ فهذا أيضًا يصبح نوعًا من الضربات ونوعًا من المصائب. أي يشعر الإنسان بأنّ تلك التعلّقات التي بَنَتِ النفسُ بها هذه الأمور، وبنت عليها الحياة في هذه الدنيا، قد انهارت دفعة واحدة، اثنان يعيشان معًا ولكنّهما ليسا معًا، فقط بينهما نوع من العلاقة لا أكثر، يحلّ أحدهما على الآخر، بينهما نوع من المعرفة، ولا وجود لتلك التعلّقات، فهذا ليس جيّدًا.
والآن نأتي إلى الأبناء: إن شاء الله يكبرون وماذا يصبحون. وطبعًا ما أقوله لكم لا تتصوّروا أنّه لا بدّ أن يقع حتمًا، فالله أعلم منّا بالأمور والمسائل ولديه في سجلّه الكثير من هذه الأمور، علينا أن لا نكون قلقين على أنفسنا، ويجب أن يكون بالنا مطمئنًّا من هذه الناحية، فإنّ لديه الكثير في سجلّه، ينتهي بعضها ويأتي البعض الآخر، فمن لم نكن نتصوّر أصلاً الأمر في حقّه نجد فجأة أنّ سجلّه قد فتح، فمن أين جاء ذلك؟! نقول: لعلّه خير إن شاء الله. تنقضي مدّة فنقول: الحمد الله الأمور على ما يرام، فما إن نقول ذلك حتّى يفتح سجلّ آخر، على كلّ الحال فالأمور هكذا.
هذه المسألة تحتاج إلى مزيد من الاهتمام: وعلى الإنسان أن يصل في هذه الأمور إلى مرحلة تجعله في الوقت الذي يعمل بالتكاليف، يراعي الأمور الدقيقة في علاقته مع الآخرين، مع الزوجة والأبناء، مع أفراد العائلة، مع الصديق والرفيق، مع الرفيق يا عزيزي! فهل هناك أعلى من الرفيق؟ الرفيق السلوكي، الرفيق الذي كان مع الإنسان مدّة مديدة ويشترك معه في المسير، يرى الإنسان فجأة أنّه (كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة) تزول العشرون سنة، تزول كلّ تلك الأمور والتعابير المعبّرة عن المحبّة والكلمات الجذّابة والعذبة وتتحوّل كلّ واحدة منها إلى ما يشبه السهم يشق قلب الإنسان. بسبب ماذا؟ بسبب لا شيء وفراغ، يقول الإنسان: عجيب هذا من الرفيق؟! فمن الذي يبقى؟! حينها يقول الله: الآن تعال إليّ. اعتمدت على أخيك، لقد ذهب ومضى، اعتمدت على زوجتك، لقد ذهبت ومضت. اعتمدت على ابنك فقد ذهب ومضى. اعتمدت على أبيك على أمّك فصار ذلك، اعتمدت على جارك، على زوجك فصار كذا، ثمّ قلت فليبق لنا على الأقل هذا الرفيق السلوكيّ، فحتّى هذا صار كذلك أيضًا. حينها يبقى الإنسان وحيدًا. حينها يلتفت الإنسان للتوّ أنّ ما قالوه صحيح. صحيح ما قالوه أنّه:
تنها تويى تنها تويى در گوشه تنهايىام | *** | تنها تو مىخواهى مرا با اين همه رسوائيم |
وحدك أنت وحدك أنت في زاوية وحدتي | *** | أنت تريدني وحيدًا مع كلّ آلامي |
يجب أن يبقى هو وحده، تأتي هذه المصائب وتسبّب هذه الأحوال وهذا لا يحصل بسهولة، يتأذّى الإنسان يتخبّط، يغلي يرى ألف كابوس، يتحدّث مع ألف إنسان، كلّ هذه الأمور هي في قلبه... ولكن عليه أن يلتفت إلى أنّ هذه الأعمال التي تحدث ما هي آثارها عليه؟ إنّها محبّة الله، إذا سيطرت المحبّة الإلهيّة على الإنسان صار هكذا.
فإذن العمل الذي على الإنسان أن يلتزم به هو أن يقوم بتكاليفه ووفق الضوابط الدقيقة الواردة، لأنّه إن لم يقم بها بقي عمله ناقصًا، أي إنّه في الوقت الذي يرى فيه هذه الأمور، عليه أن يعمل بوظيفته وتكليفه، وفي الوقت الذي يرى فيه هذه المشكلات عليه أن لا يتجاوز ذلك الطريق. يحصل لكثير من الناس كثيرًا أنّه ما دام الأمر كذلك فلنمض نحن أيضًا إلى أمورنا! ما دام الأمر كذلك فأنا أيضًا سأتصرّف هكذا! كلاّ كلاّ كلاّ هذا لا يسمح لأن يتحقّق الأثر الصحيح.
الأثر الذي يبقيه طريق التوحيد المتقن ومسير أولياء الله الصحيح في نفس الإنسان هو أنّه في نفس الوقت الذي تنقطع فيه هذه العلائق، يعمل الإنسان بدقّة بالتكليف مع زوجته وعياله، مع شريكه، مع أرحامه، مع رفاقه، مع الناس، مع كلّ ما يحيط به، ومع نفسه، يقوم بذلك شعرة بشعرة ويلتزم به، حتّى أنّه لا يلتفت أحد ماذا يجري في قلبه، هذه المسألة مهمّة جدًّا ودقيقة للغاية.
أنا أظنّ أنّ الرفقاء تعبوا وإن لم يكونوا قد تعبوا فأنا تعبت. وإن شاء الله بالالتفات إلى الدقّة التي تحيط بهذه المسألة أعتقد أنّا سنتحدّث في الجلسة القادمة عن التوفيق بين هذين الطريقين: السير إلى الحقّ والاهتمام بالظاهر والاهتمام بعالم التكليف الذي هو بيت القصيد في تربية أولياء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.