المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةتفريغ القلب لتلقي دستورات الأولياء
التاريخ 1429/06/02
التوضيح
كلّما فُتح شراع مِن أشرعة (تفريغ القلب) وُجِدَ شراع آخر ينتظر دوره. فنجده قَدّسَ الله نفسه، وبجَلَدٍ عزيز، لا يتوانى عن فتحها وإن طال به المقام. بيّن سماحته أنّ هذه الأشرعة تتمحور حول لواء التوحيد، وإلّا لكانت هباءً منثورًا. وخلاصة ما قدّمه هذه المرّة؛ أنّ للسلوك بلا استاذ نتائجَ عكسيّة، وأنّ الناس يتفاوتون في تقبّلهم للتعليمات وتعاملهم معها، وأنّ طريق العرفاء هو طريق الجمع تحت لواء التوحيد. وفي السياق نفسه تحدّث عن محل نزول الملائكة والوحي، وأنّ مَن يتجاوز حدّه يلقى عقابه، فجميع الأمور مبنيّة على حساب دقيق. ثمّ تعرّض للأفعال المتشابَهة، وعرض بعض الآيات المحكمات ذات البرامج السلوكيّة. وتحت هذه المواضيع فسّر جملة مِنَ الآيات القرآنيّة.
هو العليم
طريقُ العرفاء هو طريقُ الجمع تحت لواء التوحيد
شرح حديث عنوان البصريّ -۱٥٥
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّد وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
كان حديثنا في المجالس السابقة – إن كان الإخوة يتذكّرون – يدور حول كيفيّة التمييز بين المُحكم والمتشابَه، علمًا أنَّ الحديث عن هذا الموضوع تفرّع عن حديثنا السابق المتعلّق بموضوع تفريغ القلب، وهو ما استحضره عنوان البصريّ عندما كان يتلقّى تعليمات الإمام الصادق عليه السلام. وقلنا حينها أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى هدفه المنشود ما لم يفرّغ قلبه، وإلّا سيجد جميع الطرق مسدودةً في وجهه.
النتائج العكسيّة للسلوك بلا استاذ
فلو عمّر أحد عُمْر النبيّ نوح، صائمًا نهاره قائمًا ليله مُنْفِقًا مِلء الأرض ذهبًا في سبيل الله، لن يتقدّم في هذا الطريق مقدار خطوة واحدة [إن لم يفرّغ قلبه]، ولن يترقّى ويتكامل مقدار ذرّة، بل سيعمل كلّ ذلك على ترسيخ الأنانيّة في نفسه لا على تزكيتها، وسيعمل على تقوية مكانته النفسيّة لا على تصفية باطنه ولا على تكامله الروحيّ وتجرّده العقليّ.
إنّ أقلّ ما يمكن أن يُشبّه به عمله هذا – خلال تلك الفترة – هو أنّه كقراءةٍ سُجّلتْ في جهاز تسجيل الصوت – وإن كان الأمر يختلف نوعًا بالنسبة للإنسان – فمتى ما يُشغّل الجهاز يصدح بما سُجّل فيه ابتداءً مِن سورة الفاتحة وانتهاءً بسورة التوحيد، ولكن كم زاد ذلك مِن قيمة الجهاز، فلو كان سعره اليوم خمسين ألف دينارٍ فهل ستقول أنَّه أصبح يستحقّ خمسة ملايين دينارٍ بسبب ما سُجّل فيه مِنَ القرآن خلال شهر مثلًا؟! كلّا، لا يمكن لأحد أن يقول بمثل هذا، بل سيُقال بانخفاض قيمته بمقدار عشرة آلاف دينار بسبب استهلاك الجهاز بتشغيله خلال ذلك الشهر، وهو أقلّ ما يمكن فرضه في هذه الحالة.
أمّا فيما يتعلّق بالإنسان، فإنَّ الأمر أكبر وأشدّ خطرًا؛ فعندما لا يتمّ الاهتمام بتربية النفس وتكاملها، ولم يَسعَ صاحبها للوصول بها إلى مرحلة التجرّد العقليّ، ولم يتم الالتزام بالمراقبات الشرعيّة والرياضات الإلهيّة، فإنَّ تلك الأعمال العباديّة الّتي يقوم بها ستعمل على زيادة الأنانيّة، وستجعل الأمر أسوء ممّا كان عليه، وهنا يكمن الخطر؛ فليت الرجل – والحال هذه – لم يكن قد صلّى تلك الصلاة، ولم يكن قد صام تلك الأيّام، ولم يكن قد أنفق ما أنفقه، ولم يكن قد قام بتلك الأعمال الجذّابة الّتي يستحسنها العرف عادةً؛ فليته لم يَقم بكلّ ذلك، ما دام يقوم به مِن تلقاء نفسه ومِن دون أن يضع نفسه تحت تربية رجلٍ خبيرٍ وبصيرٍ، فيعمل وفق ما يأمره به ذلك الخبير أو ينهاه عنه. فلو أنَّه لم يُقدم على تلك الأفعال الّتي كان يفعلها، لكان لا أقل قد أدركت نفسه مستوى فقرها وضياعها.
أرأيتم كيف أنَّ بعض مَن يرتكب الذنوب، وهم يمتلكون قلوبًا صافية، أرأيتم كيف ينفجرون بالبكاء عندما يُذكر اسم الله أمامهم، ويقولون: إنّ الله يعلم مقدار ما نحن عليه مِن سوء .. [اعلموا] أنَّ هؤلاء الناس أفضل وأسمى مِن أولئك الّذين أمضوا مثل عمر نوح في العبادة مِن تلقاء أنفسهم بدون أن يكون ذلك وفق أمرٍ قد أُمروا به، ومِن دون رعاية موازين تربية النفس وتزكيتها، ودون أن يضعوا أنفسهم تحت تربية وهداية رجل خبير أو أستاذ كامل. نعم، سيكون أولئك أفضل مِن هؤلاء بكثير، وذلك لأنَّ أقلّ ما يمكن أن يُقال هو أنّ شيئًا مِنَ الصفاء والنور ما زال في قلوبهم، فلا تزال هناك نقطة ارتباط لهم بالله – فهم بعكس الّذين لم يتبقَّ لديهم أيّ شيء – وهناك طريق في قلوبهم يمكن أن يُوصلهم إلى الله، فلا تزال قلوبهم مستعدّة لتقبّل الأوامر والنواهي والتعليمات.
الناس يتفاوتون في مستوى تقبّلهم للتعليمات وتعاملهم معها
لقد شاهدتُ بنفسي المئات مِن هذه الحالات في عهد المرحوم العلّامة (رضوان الله عليه) وأكثر منها بعد ارتحاله، وذلك مِن خلال التعامل مع أُناسٍ مختلفين وفي ظروف مختلفة. كنتُ أشاهد كيف أنّ رجلًا مِن عامّة الناس – مِنَ الّذين لا يتحايلون في معاملاتهم ولا يداهنون ولا يبرّرون أفعالهم [كيفما كان] ولا يبغون رفع مكانتهم الشخصيّة – عندما يتمّ توصيته بأمر ما، فهو يستقبله برحابة صدر ويعمل بموجبه دون أن يراوغ فيه يمينًا وشمالًا.
لقد ذكرتُ للإخوة – خلال هذه الفترة – نماذج كثيرةً لهذا الموضوع؛ إحداها هو مهر السنّة، والّذي تكلّمت عنه مرارًا. ويوجد الكثير مِن هذه النماذج البسيطة وغير المعقّدة. قال رسول الله: أبلغني جبرائيل أن آمر أمتي أن يجعلوا مهر نسائهم كمهر ابنتي فاطمة الزهراء. وهي رواية موثّقة، أي إنَّها تشبه في وثاقتها وثاقة روايات الصلاة والصيام والحجّ، الّتي نؤدِّي تكاليفنا وفقها. وهي الرواية المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في كتاب محاسن البرقيّ، يستطيع الإخوة مِن طلبة العلوم الدينيّة مراجعتها هناك.۱
فقد نزل جبرائيل بأمر مِنَ الله على الرسول يأمره أن يبلّغ أمّته أن يجعلوا مهور نسائهم بمقدار مهر السنّة الّذي يبلغ خمسمائة درهم شرعيّ، والمساوي لمائتين واثنين وستين مثقال فضّة صيرفيّ ونصف المثقال، وهو المثقال المعروف في الأسواق باسم (مثقال أحمد شاهي)٢. هذا كان أمر النبيّ لأمّته، وهو لم يقل لهم أنَّ هذا الأمر مختصّ بزمانه أو أنّه خاصّ بعرب الجاهليّة أو بالمسلمين المتواجدين في جزيرة العرب فقط، ولم يقل أنَّه أمر خاصّ بمَن يعتبرهم المجتمع صلحاء. كلّا، إنَّه لم يقل شيئًا مِن هذا، بل بيّن الأمر بكلّ وضوح وصراحة. على أنَّ النبيّ ترك أيضًا الباب مفتوحًا أمام الآخرين في تحديد مقدار المهر المراد تقديمه، فليدفع المرء ما شاء، وإن بلغ مائة مليون كيلوغرام مِنَ الذهب.
لقد ابتلي أحد أصدقائنا مؤخرًا بمثل هذه المشكلة، فعندما تقدّم لخطوبة فتاةٍ، كانت تلك الفتاة ترغب بمهر السنّة، غير أنَّ أبويها أصرّا أن لا يقل مهرها عن مهر أختها الّتي خُطبت قبلها، والّذي كان ألفَي مسكوكة ذهبيّة. والآن هما على عقد شرعيّ منذ مدّة، ولكنّ العقد الرسميّ لم يُنجز بعدُ، وقد تحيّروا في أمره [لأنّ الوالدين لا يقبلان بمهر السنّة والزوج لا يريد أن يدفع إلّا مهر السنّة]، والحال أنّ العقد الرسميّ الّذي يُكتب في المحضر له حساب وكتاب وآثار قانونيّة، وبما أنّ الزوج – في الواقع – لا يريد أن يدفع ذلك المهر فسيكون في العقد إشكال شرعيٌ. وإن تمّ العقد بناءً على مهر صوريّ، ففي حليّة هذا العقد إشكال، فلا بدَّ أن يكون المهر مُنجَّزًا وصحيحًا ومُحدّدًا، وإلّا لقام كلّ شخص بتحديد مقدار المهر [وفق ذوقه ومزاجه] كأن يحدّده مثلًا بألف مسكوكة أو مليون مسكوكة ذهبيّة .
لا أتذكّر أحدًا سبق المرحوم العلّامة في الترويج لمهر السنّة – وإن كنتُ طفلًا حينها – ثمّ تبعه الكثيرون في ذلك .. والنبيّ لم يقل أنَّ هذا الحكم خاصٌّ بذلك الزمان فقط، فلو كان الأمر كذلك لقال أنَّ الحكم يختصّ بذلك الزمان – الّذي كانت فيه قيمة الدرهم ما كانت – ولقال: ستتنوّر أفكار أمتي في آخر الزمان، وسيكبر حجم مخّهم بمقدار كذا. فإن كان وزن مخ عرب الجاهليّة في الجزيرة العربيّة ثمانمائة غرامًا، فقد تضخّم اليوم وأصبح يعادل أربع أو خمس كيلوغرامات، فعقولهم قد تكاملت في هذا الزمان، وعليه فلم يعد ذلك الأمر مقبولًا اليوم، ولم تعد تلك الأمور الّتي طُرحت في ذلك الزمان تتناسب مع حاجات أهل هذا الزمان!! [هذه سخرية مِن سماحته].
ما الّذي يمكن أن أقوله بشأن أهل هذا الزمان؟! فليتنا كنَّا نعيش في ذلك الزمان بدلًا مِن هذا!! كنتُ قبل مدّة في مجلس وذكرتُ لأحد الإخوان قضيّة لا بأس أن تسمعوها الآن، وقد حصل ذلك قبل مدّة مِنَ الزمن .. علينا أن نعرف على يد من تدوّن بعض قوانين هذه الأيّام، ومن هم الّذين يسنّون قوانين حقوق الإنسان وأمثالها، وكم بلغت عقولهم مدارج الفكر النيِّر والخارق، وكم تميّزوا عن مخلوقات الأزمنة الغابرة. نعم، كم تكاملت عقول هؤلاء الّذين يعيشون في عصر التكنولوجيا الجديدة؟! ففي فرنسا، الّتي كانت إلى وقت قريب تُعتبر مهد الفكر والحريّة – أمّا الآن فقد دُقت طبول فضائحهم في كلّ مكان – تراهم قد سنُّوا قانونًا يسمح للناس في بعض المدن بالتجوال دون قيدٍ أو شرطٍ. ما الّذي يعنيه هذا؟ إنَّه يعني أنَّ بإمكان الرجال والنساء أن يظهروا في الشوارع والأسواق عراة تمامًا وعلى مرأى مِنَ الجميع صغيرهم وكبيرهم. وقد حصل هذا الأمر وهو يحصل الآن وفي هذا الوقت الّذي أتكلّم معكم فيه، ومَن شاء فليذهب وليتأكّد مِن صحّة كلامي بنفسه.
وأنا لا أتكلّم هنا عن المرأة التافهة في عصر التكنولوجيا هذا، والّتي تمسك بيدها سلّة وتطوف في السوق العصريّ، لتنتقي الحمّص والعدس وهي عارية تمامًا، فهي مِن صنف الحمير ولا شأن لنا بها. ولكنَّنا نتكلّم هنا عمّن سَنَّ مثل هذا القانون، وعن المجلس الّذي صادق عليه، [وعن الّذين] يقولون أنَّ الدين الإسلاميّ كان صالحًا للتطبيق قبل ألف وأربعمائة سنة فقط، أمّا الآن فالأفكار تفتّحت وتنوّرت، وعليه فإن كنَّا لا نزال نضع على أجسامنا عدّة قطع مِنَ الملابس فعلينا أن نخلعها ليرى الناس ما تحتها!! هكذا هو حال الناس الّذين يعيشون في هذا العصر!
أمّا ما يتعلّق بالقوانين الأخرى الّتي سُنَّت في المملكة المتحدة وغيرها، كقانون السماح بالزواج المثليّ، فلا أدري مِن أين أبدأ حديثي عنها، فهل أبدأ مِن أعلاها أم مِن أسفلها، وإن كان أعلى هؤلاء الناس يشبه أسفلهم وأسفلهم يشبه عاليهم. فقد استُبدلت خلايا مخهم بالجبس، فترى الواحد منهم قد تخلّى عن عقله وملأ رأسه بالشيطنة والنفسانيّات والأوهام، فذلك الفكر لا يمكن أن يُسمّى بالفكر الحرّ، فإلى أيّ درجة مِن درجات الانحطاط والهبوط الفكريّ والعجز عن إدراك القِيم والملاك الصحيح قد وصل الفرد منهم، حتّى يكون مستعدّا للسير عاريًا كما ولدته أمّه، وهو في الأربعين أو الخمسين مِنَ العمر، ليستعرض نفسه على هذه الحال أمام طفل ذي أربع أو خمس سنوات؟! أيّ حيوانٍ يمتلك مثل هكذا إحساس؟! على أنَّ هذا الأمر لا يختص بذلك البلد وحسب، بل هي حالة موجودة في الكثير مِنَ البلدان الأخرى.
فما دام النبيّ قد أمر أن يكون مهر نساء أمّته بمقدار مهر السنّة، وما دام جبرائيل هو الّذي أبلغ النبيّ بذلك عن ربّه، وقال له أنَّه أمر سارٍ إلى يوم القيامة، فعلينا أن نسأل هنا: هل نحن مِن أمّة النبيّ أم لا؟ نعم، علينا أن نعلن بصراحة أن كنَّا مِن هذه الأمّة أم لا، [فليس مقبولًا] أن تأتي بتبريرات [كيفما كانت] مِن أجل التهرّب مِنَ الالتزام بهذا الأمر، ومِن أجل أهواء شخصيّة، ومِن أجل الوقوف بوجه أمر الرسول ووضعه جانبًا، ومِن أجل أن نُثبت وجودنا في مقابل سنّة الرسول ونتخلّى عنها، كأن نقول: إنَّ هذا الأمر كان مختصّا بذلك الزمان، فما هي علاقتنا به، فالزمان قد تبدّل ولا يمكن الأخذ بمثل هذه الأوامر، وكانت قيمة الدراهم الخمسمائة تلك تستطيع بها أن تشتري منزلًا. [أقول] هذا كلام غير صحيح لم يكن ممكنًا شراء منزل بمثل هذا المبلغ في ذلك الوقت. وعلينا أن نقول لهم أنَّ القيمة الشرائيّة للخمسمائة درهم لم تتغيّر كثيرًا، وأنَّ الأمر لا يتوقّف عند شراء قطعة أرض سكنيّة، فلم يكن لقطعة الأرض أيّة قيمة في ذلك الوقت. فمَن يقول هذا الكلام مَثَلُه كمثل مَن يعلن عن استعداده لبيع المتر المربع الواحد في صحراء لوط۱ بفلسين، فيُقال له: هل فقدتُ عقلي لكي أدفع فلسين وأعيش في ذلك المكان، فإن كنت جادًّا فيما تقول، أعلن عن بيع المتر المربع في شارع الزعفرانيّة في طهران بفلسين، أمّا السُكنى في صحراء لوط – تلك الأراضي المالحة – حتّى لو كان سعر المتر المربع فيها أقلّ مِن فلس فهو ممّا يخالف العقل. وهكذا كان الأمر في ذلك الزمان، غير أنَّ الجميع كان يمتلك مسكنًا في ذلك الوقت، فلم يكن هناك مَن يستأجر للسُكنى.
كان وضع طلاب العلوم الدينيّة في مدينة النجف يختلف عمّا هو عليه الآن، كان الكثير منهم يسكنون منازل مستأجرة، وقد سكن المرحوم العلّامة لسنوات في بيت مستأجرٍ. يقول المرحوم العلّامة: ضاقت الأمور بأحد إخوتنا في ذلك الوقت، فوقف أمام قبّة أمير المؤمنين يومًا وخاطبه قائلًا: إنَّني على علم بكلّ ما حلّ بك مِن بلاء، فأنا أعلم كيف غُصبت منك الخلافة وكيف مزّقوا جسد زوجتك أمامك، وحصل لك كذا وكذا، ولكنَّك لم تعانِ في حياتك مشكلة استئجار المنازل الّتي نعاني منها اليوم.
لا توجد لدينا رواية تشير إلى أنَّ الأئمة كانوا يسكنون منازل مستأجرة، وهو حال جميع الناس في عصرهم، فقد كان الجميع يمتلكون مساكن، وإن كانت صغيرة الحجم في ذلك الوقت.
إنَّ الناس وبحسب فطرتها تختلف عن بعضها البعض، مِن حيث مراعاة الموازين الشرعيّة، ومِن حيث طاعة الأوامر، ومِن حيث الاستقامة. فإن تكلّمت مع رجلٍ مِنَ الّذين يسعون لاستثمار أعمارهم وتحقيق الهدف الّذي خُلقوا مِن أجله – وهذا لا يشمل جميع الناس – أو مع رجلٍ مِن عوام الناس [حول موضوع مهر السنّة]، لقال لك: سمعًا وطاعةً، فأنا أثق بكلامك وأنت مورد ثقتي واعتمادي، ولكن هل تلتزم بكلامك هذا يوم القيامة؟ سأقول له عندها: نعم سأَثبت على كلامي، لأنَّه كلام رسول الله قد نُقِل إلينا بواسطة الإمام الكاظم، فلن نجيب نحن عن ذلك يوم القيامة، بل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام هو الّذي سيُجيبك عنه، والإمام موسى بن جعفر يختلف عن غيره .. فترى الرجل منهم يزن الأمر بعقله، وعندما يراه منطقيًّا يقول: قبلتُ بهذا الكلام، وسأعمل بموجبه. هذا بالنسبة إلى هذا النوع مِنَ الناس، غير أنَّك إن نظرت إلى النوع الآخر منهم ستجده يقول: أنا لا أقبل بهذا الكلام، فليس مِنَ المعلوم صحّته، ولا يستطيع أحد أن يعمل برواية أُحاديّة فيما يتعلّق بالقضايا الاجتماعيّة.
كنتُ يومًا في مجلس عقد [قرانٍ]، وجرى بحث بيني وبين مَن كان يُردّد مثل هذا الكلام، فتهجّم علَيّ بشدّة، فقلتُ له: هل قرأت رواية الإمام موسى بن جعفر؟ قال لي: دعك مِن هذا الكلام، فأنت تقول هذا الكلام وتذهب، وأنا أتحمل التبعات. [أقول] ما الّذي يعنيه قوله (دعك منها)؟! إنَّه يعني أنَّ الإمام موسى بن جعفر لا يعني شيئًا – والعياذ بالله مِن هذا الكلام – فقد قال ذلك الجاهل وعديم الإحساس أمرًا لا أستطيع أن أذكره هنا، فلا يمكن للمرء أن يتفوّه بكل كلام قذر ويكرّر كلّ كلام باطل. فبقوله (دعك مِن هذا الكلام) إنَّما يقول: دعك مِنَ الإمام موسى بن جعفر ومِن رسول الله ومِن الصدّيقة الكُبرى، وتعال وانظر إلى ما يريده المجتمع والناس، وسايرهم في ذلك. [وكأنه يقول أيضًا:] مَن يكون الإمام، ومَن يكون إمام الزمان، فاذهب إلى حالك يا هذا، فمَن قد رآه وسمع منه وأبلغنا عنه؟! فإنَّ البعض يصرّحون بمثل هذا الكلام، والبعض الآخر يسرّونه في قلوبهم، هذا هو معنى {فِي قُلُوبِهِم زَيْغٌ}۱. ونظائر هذا الأمر كثيرة.
كلّما طال عمر هذا الرجل وأمثاله، فلا يزداد إلاّ بُعدًا عن رحمة الله، وكلّ يوم يمرّ عليه وهو على هذا النهج، لا ينشر إلّا دين عمر وأبي بكرٍ في واقع الحال، وإن كان بحسب الظاهر يروّج لدين النبيّ ويتزيّا بزيّ أهل الحقّ .. هذا ممّا لا شكّ فيه. [إنَّ هذا أحد مصاديق المتشابه]، ولا بدَّ أن الإخوة يتذكّرون حديثنا عن المتشابه.
طريق العرفاء هو طريق الجمع تحت لواء التوحيد
إنَّ العامل الأساسيّ المؤثِّر في سير الإنسان – كما ذكرتُ سابقًا – هو تفريغ القلب؛ وهو يعني، أنّ على السالك أن يقبل ما يحصل له، وأن لا يتّخذ موقفًا معاكسًا، وأن لا يفسد حياته وحياة الآخرين، وأن لا يقف بوجه المطالب الحقّة، وأن يحافظ على صفاء نفسه؛ وذلك مِن أجل أن يتمكّن مِنَ الوصول إلى هدفه المنشود، ويتجاوز [عالم النفس]. فأفعاله وعباداته لا يمكن أن تأخذ مكانها الصحيح ما لم يحصل هذا العبور. فلم يكن لتلك الأعمال حتّى اللحظة أيّة قيمة، بل كانت هباءً منثورًا، {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا}۱، [يقول الله هنا:] سأقوم بإحضار كافّة الأعمال الّتي قمتم بها يوم القيامة وسأُريكم إيّاها، فلا تتصوّروا أنَّها كانت خافية عنّي؛ نعم لا تتصوّروا أنَّ قيامكم في منتصف الليل كان خافيًا عنّي، [فها هي] تعالوا وعاينوها. ولا تتصوّروا أنَّي لم أر صيامكم، بل هو مسجّل لديّ، ولكن اصبروا قليلًا لتروا كيف سأتعامل معها. ولا تتصوّروا أنَّ إنفاقكم خافٍ عنّي .. إنَّ كلّ ما قمتم به، مِن صلاة وصيام وإنفاق وتواضع في الكلام ووعظ الناس للقيام بهذا العمل واجتناب ذاك، فهو مسجّل عندي بأجمعه، وكذا المجالس الّتي تقيمونها والّتي يمجّدها الناس قائلين: يا للحُسن، يا لها مِن مواضيع يطرحها جناب السيّد .. نعم، عبارة (جناب السيّد) هذه الّتي يلصقونها بالناس .. وأنا أقصد نفسي بهذا الكلام، وأوّل مَن أوجّه إليه كلامي هو نفسي.
إنَّ الآية لا تشمل أمورًا مِن قبيل السرقة والزنا ولعب القمار والشطرنج وشرب الخمر، فحرمة الإتيان بهذه الأمور معلومة للجميع. فأيّ شيءٍ إذًا يريد الله أن يجعله هباءً منثورًا؟ فإنَّ السرقة سرقة، فهي ليست بشيء يمكن أن يُجعل هباءً منثورًا، إذ ليست شيئًا أصلًا لتكون موردًا للتقييم، فأمرها معلوم مِنَ الأوّل، والعقوبة الّتي تترتّب عليها معلومة أيضًا، وكذا الأمر بالنسبة إلى لعب القمار والغيبة والبهتان والوقيعة بين الناس، فليس هذا مورد الحديث.
إنَّ الوقيعة بين مؤمنَين لهو أشدُّ مِنَ الزنا والسرقة ولا يمكن لله أن يتجاوز عنه؛ فقد يتجاوز الله عن الزنا والسرقة، أمّا الشيء الّذي لا يمكن أن يتجاوز عنه هو إفساد ذات البين. قال أمير المؤمنين: الله الله في إصلاح ذات بينكم۱. فلا يوجد ما هو أسوء وأشدّ وَبْقًا مِنَ الإفساد بين اثنين مِنَ المؤمنين. قد يكون هناك أَخوَان مؤمنان متحابّان ومتفاهمان، فيقول رجل لأحدهما: أتدري ما الّذي قاله صديقك عنك؟! ثمّ يقول للآخر مِثْلَ قوله للأوّل؛ فيُفسد بهذا العمل، تلك العلاقة الصادقة النقيّة الخالية مِنَ العداوة والبغض. فالله لن يتجاوز عن فعل هذا الرجل، وسيُلقي به على رأسه في نار جهنّم، وسيُضرب على رأسه يوم القيامة بجميع العبادات الّتي أتى بها في الدنيا، فتنزل على رأسه كالمطرقة.
وعلى العكس مِن ذلك، فإن سعى المرء بمصالحة بين اثنين مِنَ المؤمنين بينهما خلاف حول موضوعٍ ما، بأن فيقول لأحدهما: كنتُ في مجلسٍ وسمعتُ فلانًا يمتدحك. وإن لم يكن ذلك قد حصل بالفعل، إذ لا بأس بنقل مثل هذا الكلام حتّى لو لم يحصل في الواقع، فإن تكرّر هذا الأمر مرّة واثنين وثلاث، فسيقول الآخر بعد مرور شهر: ولِمَ تسوء علاقتي به .. وكذلك ستكون ردّة فعل الأوّل أيضًا، وبهذا سينتهي الخلاف بينهما بالتدريج.
لا يوجد ما يمكن أن يفتح الطريق أمام الإنسان، كما يفعل إصلاح ذات البين، وهذا كلام المرحوم الوالد. أتلاحظون كيف هي أحكام السلوك والعرفان، فانظروا بأنفسكم لتروا أيّ نوعٍ مِنَ التربية يستطيع المجتمع أن يتكامل في ظلّها؛ أيمكن أن يحصل ذلك في ظلّ تلك التربية أم هذه، ومع تلك المعاملة أم هذه؟
حضرتُ يومًا مجلسًا يضمّ المرحوم الحدّاد والمرحوم العلّامة، وإن كان ذلك في الماضي البعيد غير أنَّني لا زلت أتذكّر هذه الحكاية جيّدًا، فأراد أحد أصدقاء السيِّد الحدّاد أن ينقل أمرًا يتعلّق بشخص، فاستوقفه السيِّد الحدّاد قائلًا: هل ما ستذكره عن الرجل سيحسّن صورته أمامنا أم العكس؟ فتسمّر الرجل في مكانه، وما كان يريد قوله كان معلومًا. إنَّ السيِّد الحدّاد يريد أن يقول هنا: نحن لم نسمع بهذا الخبر مِن قبل، وأنت تريد أن تكون واسطة في نقله، فلماذا تفعل ذلك، ألا تستحي مِن عملك هذا؟! ومِنَ الواضح أن المرحوم الحدّاد أراد بعمله هذا أن يعلّمنا نحن، أمّا هو فمطّلع على مُلك العالَم وملكوته، فهو الرجل الّذي قال لصديقه ذات مرّة: أستطيع أن أجلب العمل الّذي قمت به وأضعه بين يديك، وإن كنت قد فعلته على سطح القمر. وهو صادق فيما يقول، ولقد أثبت ذلك، فلم يدَّعِ السيِّد الحدّاد ذلك إدّعاءً، وهو لا يريد بقوله ذاك أن يخدع الآخرين، بل قد أثبت قوله عمليًّا، والجميع على علمٍ بذلك، فهو أمرٌ لا يقبل الشّك.
فمِن أجل مَن قال السيِّد الحدّاد ذلك الكلام؟ نعم، لقد قاله لأجلنا .. فهو أراد أن يقول: هل ما تريد نقله سيزيد مِن ثقتنا بالرجل أم سيزعزعها، فإن كان سيزعزعها فلماذا تنقله، أَنقْله سيفيدنا في دنيانا أو آخرتنا أم سيُشوّش أذهاننا؟
لنفترض أنَّ أحدكم الآن يُسيء الظنّ بي، فقد يكون محقًّا في ذلك الظنّ وقد لا يكون، وعلى كلّ الأحوال، فهو يُسيء الظنَّ بي، فهل مِن مصلحتي أن أطّلع على ما يدور في ذهنه أم لا؟ ما دام لم يذكره على لسانه ولم يخبرني به أحد، وما دام الخبر لم ينتشر بين الآخرين بعدُ [فلماذا أشغل ذهني باحتمال ذلك]. بل لنفترض أنّه فَلَتَ لسانه فذكره، فهل يُفترض – والحال هذه –أن يُسارع أحدهم وينقل الخبر لي قائلًا: لماذا أنت جالس مكانك، تعال وانظر ما الّذي قاله فلان عنك، فقد ذكرك في ذلك المجلس بكذا وكذا .. وعندها يبدأ الذهن بالتجوال – كأنّه ماكينة تمّ تشغيلها فأخذت دواليبها بالدوران أو كأنّها قاطرة ما لبثت تتحرّك بمجرد تشغيلها – قائلًا: يا للعجب، هل قال عنّي هذا الكلام، لا بدّ أنَّ كلامه الآخر قصد به كذا وكذا ولم أتفطّن للأمر حينها، ولعلّه كان يقصد شيئًا آخر في كلام آخر له .. وهكذا يستمرّ الذهن في جولاته. عليك التريّث يا هذا، فما هذا الّذي تفعله؟! نعم، تراه ينطلق دون توقّف، كما تنطلق القاطرة دون توقّف ما إن تتحرك على السكّة، إذ لا يوجد في طريقها ازدحام وإشارات مرور حمراء، وإن أعاقها شيء تدوسه، سواء كان إنسانًا أو قطارًا، وتدمّر كلّ ما يقع أمامها، فهي بدون سائق تسير وتسير باتّجاه واحد.
إنَّ العظماء يلومون الأوّل على ما تفوّه به، وينذرونه مِنَ العذاب الّذي يترتّب على فعله، وفي الوقت نفسه يلومون المَحكيّ عليه ويقولون له: عليك أن تعرف أنَّ مَن تكلّم عليك هو رجل فاقد للاتّزان والوقار، فلماذا ترتّب على كلامه كلّ هذا الأثر، ولعلّ كلمته تلك كانت مجرّد فلتة لسان، أو لعلّه كان في حالة عصبيّة حين أطلقها، أو لعلّه أراد شيئًا آخر .. وعلى كلّ حال، كان عليك أن تغلق الموضوع حين سمعته.
سمعت المرحوم العلّامة يقول لإخوته في أحد المجالس: إنَّ الغِيبة حرام، غير أنَّ هناك ما هو أشدُّ حرمة منها وهو أن يقوم الشخص الّذي اغتاب بإخبار المغتاب أنّه اغتابه ويطلب منه السماح. لماذا؟ لأنّك باغتيابك له قد أخطأت وارتكبت ذنبًا، فكان لزامًا عليك أن تتوب عن ذنبك ولا تعود إليه، يقول الحديث «الغيبة أشدُّ مِنَ الزنا»۱، أمّا الأمر الأسوء مِنَ الغيبة هو أن يقوم الّذي اغتاب بتشويش ذهن المغتاب، والحال أنّ اغتيابه له لم يصل إلى مسامعه بعد. نعم إن كان خبر اغتيابك له قد وصل إلى مسامعه فلا بدّ والحال هذه أن تذهب إليه وتعتذر منه، وتطلب منه السماح وأن تعِده بعدم تكرار هذا الأمر. أمّا إن كان الخبر لم يصل إلى مسامعه ولم يتكدّر قلبه وذهنه تجاهك بعدُ، ولا تزال نظرته لك نظرة صافية لم تتلوّث بعدُ، فلماذا تذهب إليه وتخبره بخطئك هذا، فلعلّ مَن اغتبته عنده كان رجلًا عاقلًا قد حفظ الأمر في نفسه [ولم يبحه لأحد]، فحينئذٍ سينتهي الأمر عند هذا الحدّ دون أن يُذاع الخبر بين الناس، وستبقى نظرته تجاهك نظرة إيجابيّة إلى آخر المطاف. هذا مِن جانبه، أمّا مِن جانبك فستكون قد تبت عمّا ارتكبت مِن خطئ [بكلّ تستّر]، وستستمرّ صداقتكما على ما كانت عليه. وبذلك ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، فلا مبرّر حينئذٍ لتعقّب الموضوع.
يقول المرحوم العلّامة: إنَّ الذنب الّذي يرتكبه المرء عندما يُبلّغ المغتاب أنَّه قد اغتابه، هو أشدّ مِن ذنب الاغتياب نفسه. كيف يكون ذلك؟ لأنَّ هذا العمل سيكدّر قلبه، وإن كان سيعتذر ويطلب منه العفو، غير أنّ الأمر سيبقى في قلبه إلى آخر عمره، فهذا عمل سيّئ في حدّ ذاته، ويجلب لصاحبه الضرر. فلماذا يُلقي الإنسان بالأوساخ والخبائث في القلب الّذي جعله الله إناءً شفّافًا صافيًا كالزلال؟! وإن كانت صداقتهما ستستمرّ [بعد أن يصارحه ويطلب منه العفو] دون حصول قطيعة بينهما، غير أنَّه كلّما يراه سيتذكّر أنَّه اغتابه في ذلك المجلس، وعليه كم هو قبيح هذا العمل ..
هذا هو أسلوب وطريقة العرفاء وأولياء الله، تلك الطريقة الّتي تعمل على جمع الكلّ تحت لواء التوحيد، فليست كالطُرق الّتي تعمل على تفريق الجمع تحت مُسمّى لواء التوحيد، والّتي ترى لكلّ طريق منها صاحب يدعو الآخرين إلى دكّانه وخيمته وقصره ليكونوا مِن أتباعه هو لا غيره، فتلك الطُرق لا يمكن أن تكون مِن طُرق أهل الله وأوليائه ومِن طرق أهل البيت.
لذا نرى عنوان يقول «ففرّغتُ قلبي له»؛ أي قد طرحتُ كلّ ما في قلبي جانبًا وصفّيته تمامًا مِن أجل استقبال ما يريد الإمام قوله، وقد حسمتُ موقفي تجاه الإمام [حيث جلستُ وفكّرتُ في نفسي:] هل سأقبل ما يقوله الإمام أم لا، وما هو مقدار قبولي لكلامه، فهل سيكون بمعدّل ثلاثين بالمائة مثلًا، وهل سأعمل بكلامه ما دمتُ مضطرًا فقط ثمّ أهمله في غير ذلك الحال أم لا؟! فنرى عنوانًا يقول هنا: بل سأفرّغ قلبي له.
محل نزول الملائكة والوحي
ولا بدّ حينئذ أن يساعد اللهُ العبدَ ليتحقّق له ذلك، فكلّ ذلك بيد الله، ولا بدّ أن يأخذ الله بيد الإنسان ليتمكّن مِن حفظ هذه الحالة؛ فإن تمكّن المرء مِنَ المحافظة عليها، سيتقدّم في الباطن وإن لم يتقدّم في الظاهر، شريطة أن يمتلك هذه الحالة. أمّا إن فَقَدَها، فلن يكسب شيئًا ولو حضَر مئة ألف مجلسٍ مِن مجالس عنوان البصريّ وحضَر مئة ألف مجلسٍ مِن مجالس عزاء سيِّد الشهداء. نعم، لو حضَر مئة ألفٍ أو مليون منها [وهو فاقد لهذه الحالة] لما اكتسب منها شيئًا، [وبالتالي] لن يتعدّى ذهابه وإيابه كونه بذلًا للجهد والوقود والوقت دون الحصول على أيّة نتيجة أو فائدة.
على مَن يحضر مجلسًا مِن مجالس الذِّكر أن يصفّي قلبه مِن كلّ ما مِن شأنه الحيلولة دون ورود النور الإلهيّ إليه، ومِن كلّ ما مِن شأنه منع الملائكة مِنَ الدخول إلى هذا القلب. وذلك لأنّ تلك الحالات والنورانيّة والروحيّة إن حصلت لأحدنا، إنَّما تحصل بواسطة نزول الملائكة الربوبيّين على قلوبنا، وهي تنزل علينا بنفس الطريقة الّتي تنزل بها على قلوب الأنبياء، غير أنّ ما ينزل على قلوب الأنبياء هو مِن نوع الوحي، أمّا ما ينزل على قلوبنا فهو مِن نوعٍ آخر، فنزول الوحي خاصّ بالأنبياء دوننا، أمّا نفس نزول الملائكة فكما يحصل للأنبياء فهو يحصل لكلّ مَن أخلص لله وصفّى نفسه.
إنَّ الملائكة يدخلون القلب بنفس تلك الكيفيّة [الّتي يدخلون بها على قلوب الأنبياء]، فيزرعون الأثر المعنويّ والروحيّ والتجرّدي، الّذي يقطع بدوره الإنسانَ عن التعلّقات الدنيويّة وتترتّب به الآثار؛ آثار حضور المجلس الأوّل والثاني، وآثار أنشطته في الشارع وفي بيته وعند استخدامه الهاتف واستماعه لكلام ما .. فتحلّ تلك الآثار الواحدة تلو الأخرى في القلب، وهو أمر خارج عن إرادتي وإرادتك، فليس لك أيّ دخل فيما يحصل لك مِن شعورٍ روحيّ متميّز وحالٍ معنويّ ومشاهداتٍ عند حضورك مجالس عزاء سيِّد الشهداء ومجالس ولادة وشهادة أهل بيت العصمة ومجالس الوعظ والذِّكر وتصفية النفس، نعم إنَّ مصدر هذا الأمر هو شيء آخر، وهذه الحالات تحصل نتيجة الارتباط مع الملائكة.
كان يحصل هذا الشيء عندما كنَّا نحضر المجالس في عهد المرحوم العلّامة. فعندما كان يهيمن حالٌ معينٌ على المجلس، كان يقول أحد الحاضرين أنَّه أدرك حصول ذلك الحال، ويقول آخرون أيضًا أنّهم أدركوا الحالة نفسها في الوقت نفسه. فكان الأربعة والخمسة منهم أو الاثنان والثلاثة يُدركون الأمر نفسه وبالكيفيّة نفسها، فكيف يمكن أن يحصل الأمر إن لم يكن هناك ارتباط بينهم؟! فهل كلّ واحد منهم هو الّذي أوجد ذلك الحال المُنعش والمُبهج والمُفعم بالمعنى، والّذي لا يقتصر على الصورة فقط؟! نعم، كيف يمكن إدراك ذلك الحال الّذي لا يمكن إدراكه ولو قرأ أحدهم مئة كتاب؟! وهل يكون هو مَن أوجد في نفسه تلك الحالة المعنويّة، وتمكّن بنفسه مِن إدراك تلك المسألة العقلانيّة والروحيّة؟! كلّا، بل إنَّ مصدر هذا الأمر هو شيء آخر، ويتمّ إنزاله على النفوس بمقدار ما تمتلكه النفوس مِن استعداد، فالناس تختلف عن بعضها البعض في ميزان استعدادها، فلعلّ نصيب كلّ واحدٍ منهم مِن ذلك الفيض يختلف عن نصيب غيره. فإنَّ ما يحصل يحكي عن وجود يد غيبيّة خفيّة وراءه، فهذه اليد هي الّتي تدبّره وتسيطر عليه.
وكما يحصل هذا يمكن أن يحصل عكسه تمامًا، وذلك في المجالس الّتي ترتكب فيها الغيبة والبهتان وسبّ المؤمنين والتعدّي عليهم. فهذه المجالس لا يمكن أن تحضرها الملائكة. فإن دخلتَ مجلسًا ورأيت هذه الأمور، فلا تتوقف فيه لحظة واحدة، بل عليك مغادرته فورًا. قال لي بعض الإخوة: عندما كنتُ أذهب لحضور مجلسٍ ما، فما إن أقترب مِن ذلك البيت حتّى تسوء حالتي، فأقول لسائق الأجرة أن يُعيدني مِن حيث أتيت، فقد بلغتُ مقصدي .. وقد يفتح أحدنا بابَ دارٍ فيجد الظلمة قد عمّت جميع أرجاء المكان. وهذا أمرعاديّ، ولعلّكم أدركتموه أكثر مِن مرّة، على أنَّ إدراك هذا الأمر يكون أكبر لمَن اقترب مِن نقطة التجرّد أكثر.
ومع ذلك نرى البعض يقول [مستنكرًا]: ما هذا الكلام! فما الّذي يعنيه مثل هذا التساؤل؟! [إنَّه يعني] أنَّ الناس سُكارى [أي غافلون لا يَعُون هذه الأمور]، وإلّا فالموضوع صحيح والنهج صحيح. فإن لم يتمكّن شخص مِن إدراك ذلك، فليس ذلك تقصير الآخرين، وليس ذلك قصور في قواعد ومباني عالَم الربوبيّة. كان أحد عباد الله يقول: لسنا مسؤولين عن عدم قدرة الناس على الفهم، فعليهم أن يرفعوا بأنفسهم قابليّاتهم على الفهم، فإن وُجد مَن لا يتمكّن مِنَ الفهم فليس ذلك مِن مسؤوليّتنا.
وعلى هذا الأساس تمّ تشريع القوانين والأحكام الإسلاميّة. نعم، لقد تمّ تشريعها بناءً على نورانيّة وظلمانيّة المسائل. إنَّك تستطيع أن تختبر ذلك بنفسك، فاجلس في نادي الشطرنج، وانظر هل تستطيع العثور هناك على الملائكة، وهل ستتمكّن مِن قراءة القرآن في ذلك المكان .. فإن كان عدد مِمّن يلعبون الشطرنج والقمار يتواجدون في مكانٍ ما، فهل تستطيع أن تُصلِّي في ذلك المكان أو تقرأ فيه القرآن وتكسب فيضًا معنويًّا .. إنَّ الظلمة الّتي تنبعث مِن تلك الأماكن تصل إلى عنان السماء .. انظر بنفسك لترى هل بإمكانك الصلاة وقراءة القرآن في مكان يُرتكب فيه الزنا والغيبة والتخطيط للإطاحة بأحدٍ، والتخطيط لِمَا سيفعلونه غدًا وبعد غدٍ وما سينشرونه في الصحف. اذهب إلى مثل هذه الأماكن وانظر هل ستجد الله وملائكته فيها، هذا في الوقت الّذي يدّعي فيه هؤلاء الناس أنَّهم مسلمون.
مَن يتجاوز حدّه يلقى عقابه
إن غادرت الملائكة مكانًا ما، فمَن سيحلّ محلّها؟ لا شكّ أنَّ الشياطين وجنود إبليس هم الّذين سيحلّون محلّهم. ولقد قال سيِّد الشهداء عن أمثال هؤلاء القوم {اِستَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ}۱.
أتعلمون مِن أجل أيّ شيء قام أولئك القوم بقتل بنت النبيّ وتقطيع جسدها بين الباب والجدار؟ [يدّعون] أنّهم قاموا بذلك مِن أجل الإسلام، [فهم يقولون] أنّه يمكن قتل أيّ أحد مِن أجل المحفاظة على الدين الإسلاميّ ولو كان [ذلك الشخص هو] بنت النبيّ، فنستطيع قتلها وإسقاط جنينها المُحسن!! تبًّا لهم، لأيّ شيء تراهم يفعلون ذلك؟! إنَّهم يفعلون ذلك ليجلسوا يومين على كرسيّ الخلافة، ولكن هل يستحقّ هذا الأمر [أن يفعلوا] ما فعلوه؟! يا لهم مِن حمقى، واللهِ إنَّ أمير المؤمنين لا يرى الخلافة تستحقّ أن تُسحق نملة صغيرة تحت قدميه مِن أجلها. نعم، واللهِ لا قيمة لها لدى أمير المؤمنين، ألم يقل ذلك بنفسه، فإنَّ أمير المؤمنين لا يكذب، فهل يمكن أن يكذب أمير المؤمنين!! ألم يقل: لو أُعطيتُ مفاتيح السماوات والأرض على أن أَسلب نملةً حبّة حنطة ما فعلته٢. [فهو يقول لو أعطيتُ السماوات والأرض] لا فقط الخلافة لسنتين، وهي الّتي لم تكتمل لأولئك الحمقى.
لاحظوا التفاوت بين الحالتين؛ إنَّ الإمام لا يستطيع هنا أن يسلب حبّة واحدة مِن فم نملة صغيرة، فكيف الحال بقتل بنت النبيّ وتقطيع أوصالها، فمِن أجل ماذا؟! مِن أجل أخذ البيعة لخليفة رسول الله!! تبًّا لهم وتبًّا للّذين شاهدوا بأنفسهم جميع تلك الحوادث وظلّوا يتفرّجون عليها كالأغنام والحمير، ولربّما أيّدوا ما شاهدوه. هل يمكن أن يصل الحال بأحدهم أن يفقد جميع القِيَم والمبادئ؟! لا يمكن حتّى للفهد والنمر أن يفعلا ما فعله [أولئك]، إذ هذه الحيوانات ترحم ما سواها، فهي لا تفترس بشكل عشوائيّ، بل تمتلك الإحساس والشعور، وقد نُقلت الكثير مِنَ الحكايات بهذا الخصوص، وهي ممّا يتعجّب منها المرء.
نقل أحد الأصدقاء – وهو مِن أقاربنا ولا يزال على قيد الحياة – حكاية قبل عدّة سنوات، لا أدري إن سبق ونقلتها للإخوة، قال فيها: ذهبتُ مع عدد مِنَ الأصدقاء في إحدى أيّام الجمعة في سَفرةٍ ترفيهيّة لتسلّق الجبال في منطقة تابعة لمدينة خرّم آباد، وأثناء سيرنا وصلنا إلى وادٍ، فسلكت مجموعة منّا أحد طرفي الوادي، والمجموعة الأخرى الطرف الآخر. وبعد عشرة دقائق مِنَ المسير، رأينا نمرًا كبيرًا يتحرّك باتجاه المجموعة الأخرى البالغ عددها خمسة أو ستّة أشخاص، حتّى وصل إلى الطريق الّذي يسلكونه، فقلنا: لقد قُضي عليهم. وكانوا وكأنَّ على رؤوسهم الطير مِنَ الخوف، فقد شاهدوا الموت يقف فوق رؤوسهم، وكنَّا نراقبهم قائلين: لقد انتهى أمرهم. ثمّ قال: وصل النمر إلى أوّلهم، فنظر في وجهه نظرة ثمّ تجاوزه، ثمّ وصل إلى الثاني والثالث والرابع، وفعل مع كلٍّ منهم الشيء نفسه وتجاوزهم – إنَّ ناقل الحكاية لا يزال على قيد الحياة وهو أحد أقاربنا المقرّبين – ثمّ قال: كنَّا نراقب ما يجري، حتّى إذا ما وصل النمر إلى الرجل الخامس، نظر في وجهه نظرةً، ثمّ خفض رأسه، ثمّ نظر إليه ثانيةً وخفض رأسه، وكرّر هذه الحركة مرتين أو ثلاثة ثمّ تجاوزه، فلمّا تجاوزه النمر، قام هذا الأخير بضرب النمر ضربة أسقطته في قعر الوادي – لقد تجاوزك النمر يا هذا فما شأنك به، وانتبهوا إلى هذا الأمر وهو أنَّ النمر كرّر النظر إليه لهذا السبب، فما فعله الأخير لا يفعله حتّى الحيوان – ثمّ قال ناقل الحكاية: وعندما سقط النمر في قعر الوادي سمعنا أنينه وصيحة هلاكه. ثمّ أقسم الرجل قائلًا: كرّر أصدقائي سفرهم في العام التالي، ولكن لم أكن معهم، غير أنَّهم نقلوا أنّه عندما وصلوا إلى نفس النقطة الّتي ضرب فيها ذلك الرجل النمر، انهارت الصخرة الّتي كان يقف عليها الرجل نفسه دفعةً واحدةً، وسقط في الوادي بنفس الطريقة الّتي سقط فيها النمر.
اعلموا أنَّ أمر الله وأمور الدنيا مبنيّة على حساب دقيق، فصحيح أنَّ النمر حيوان، ولكنَّه كان قد تجاوز عنك، فلماذا تضربه وتقتله؟!
لاحظوا أنَّ الحيوان لم يقتل الرجل، ولاحظوا ما الّذي فعله أولئك القوم مِن أجل الخلافة وأخذ البيعة؟! وها هم بعض علماء الشيعة – الّذين هم أسوء مِن متعصّبي السنّة – يتفاخرون بتلك الخلافة، ويعتبرونها خلافة شرعيّة ومقبولة ويعدّون خلافة أبي بكرٍ وعمر مِن مفاخر العالَم الإسلاميّ. تبًّا لِمَن يحاول الوقوف بوجه الحقّ وبوجه مذهب أهل البيت بلسانه وقلمه، يريد بذلك توجيه ضربة للمذهب. أسأل الله أن يحشرهم مع أبي بكرٍ وعمر، ولا أعتقد أنَّ هؤلاء القوم – مع ما هم عليه مِنَ المكانة والعُمُر – يمكن أن يهتدوا، فلا يوجد دعاء يستحقّونه غير أن نقول لهم: حشركم الله مع أبي بكرٍ وعمر. فإنَّهم يمتدحون الخلافة الّتي كان ثمن الحصول عليها هو قتل بنت النبيّ، وتقطيع جسدها، وجلب أمير المؤمنين على تلك الهيئة لأخذ البيعة منه.
فكيف يمكن أن يُوصف مثل هذا العمل؟ إنَّه العمل الّذي سيجعله الله يوم القيامة هباءً منثورًا. أتعمدون لقتل بنت النبيّ، وتقفون مكانه لإقامة صلاة الجماعة؟! أتعتقدون أنَّ كلّ شيء قد تمّ بتيتيمكم أبناء النبيّ، والجلوس على منبره تعظون الناس؟! أهكذا يجب أن تجري الأمور، أهذه هي الرجولة والمروءة؟! بل [ما سيحصل أنّ] الله سيُحضر هذه الصلوات والخُطب والمواعظ، وذلك الجهاد وتلك الفتوحات الّتي كانت [بزعمكم] مِن أجل نشر الإسلام، وسيحضر كلّ ما أقمتموه مِن حكومات وقضاء بين الناس – ما أريد أن أصل إليه مِن كلامي هذا، ولا أدري إن كنت سأتمكّن مِن ذلك، هو مسألة المتشابَه النفسانيّ، وبذلك نستكمل الحديث عنه ليصبح موضوعًا واضحًا ومعلوم الخطورة ويأخذ حيّزه المناسب، ولا نكون قد مررنا عليه مرورًا عابرًا – نعم، سيُحضر الله جميعَ تلك الأعمال ويجعلها هباءً منثورًا؛ فيتوجّه إلى صلاتك الّتي أدّيتها ويجعلها هباءً منثورًا، ويقول لك: انظر إلى صلاتك في مسجد النبيّ، وهو أشرف مكانٍ على وجه الأرض، والّتي أدّيتها خلف النبيّ، انظر إنّها لن تفيدك شيئًا وسأجعلها هباءً منثورًا. أرأيتم عندما تهبّ الرياح العاتية فتنثر القطن والأشياء الخفيفة وتأخذها معها إلى الأعلى في دوّامة فلا يبقى لها أيّ أثرٍ .. أرأيتم أحيانًا عندما تهبّ ريح عاتية فتنقل جبلَ رملٍ مِن مكان إلى آخر، فينظر الإنسان متعجّبًا ويسأل أين ذهب ذلك التلّ الرمليّ، فينمحي كلّ أثر لذلك التلّ، وهذا ما يحصل بالفعل .. فهذا هو معنى أن يصبح الشيء هباءً منثورًا، أي لا يبقى للإنسان أيّ شيء.
فالصيام الّذي صاموه – لا نستطيع أن ننكر أنّهم كانوا يصومون – قد أصبح هباءً منثورًا. فلو نظرت إلى صحيفة أعمالهم، ستجد فيه ما قاموا به مِن صلاة وصيام، ولكنّا سنجعلها الآن هباءً منثورًا، فلو أعدْت النظر إلى صحيفة الأعمال تلك لَمَا وجدت فيها شيئًا ولكانت جميع صفحاتها سوداء، ثمّ تُسلَّم تلك الصحيفة إلى صاحبها ويُقال له: تفضّل وانظر فيها، أظننت أنَّ ما يجري في الدنيا كان بلا حسيب ورقيب، حتّى تفعل ما شئت وتتعدّى على هذا وذاك دون أن تُحاسب.
الأفعال المتشابَهة
هذا هو العمل المتشابه، وتلك هي الصلاة المتشابهة. فهذه الصلاة تشبه صلاة مَن؟! إنَّها تشبه [في الظاهر] صلاة رسول الله بالأمس وفي نفس هذا المكان. ولكن أيّهما صلاة حقّ وأيّهما باطلة؟ إنَّ الصلاة الّتي يُراد بها رضا الله والقُرب والتجرّد، هي تلك الصلاة الّتي أدّيتها بالأمس، وها قد مضى الأمس وانتهى أمره، أمّا الصلاة الّتي ستؤدّيها غدًا في التاسع والعشرين مِن شهر صفر، فهي تشبه تلك الصلاة الأولى في التكبير والبسملة وضبط مخارج الحروف عند النطق بـ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}۱ و {وَلَا الضَّالِّينَ}٢، بل لعلّ أداءك للتفخيم أشدّ وصوتك أجمل [مِن ذي قبل، ولكن صلاتك هذه تغاير الأولى في الباطن والحقيقة].
انظروا إلى الصلوات الّتي تُقام في بعض البلدان، فقد سافرتم إليها ورأيتم كيف أنَّ أئمّة الجماعات يعتنون بشدّة بالتلفّظ الصحيح في مثل كلمة {وَلَا الضَّالِّينَ} في الصلاة، وذلك لكي يستحسنه الآخرون فيُقال: يا لها مِن قراءة جميلة تلك الّتي يقرأها إمام الجماعة الفلانيّ. والحال أنّه لا توجّه عندهم إلى معاني الكلمات وإلى الله ورسوله ولا إلى جبرائيل الّذي أنزل تلك الكلمات على الرسول، بل كلّ ما يهمّهم هو كيفيّة أداء القراءة وأداء الدور التمثيليّ وتحسين الصوت. ونحن نشهد – للأسف الشديد – كيف بدأنا نُبتلى بشكل تدريجيّ بنفس هذا البلاء، فترانا بدلًا مِنَ التوجّه نحو المعنى، نُشغل أنفسنا في الأداء الظاهريّ للألفاظ وما شاكل ذلك، وهو عمل غير صحيح ونهج باطل.
إنَّ الصيام الّذي صمته في زمن رسول الله هو صومٌ حقيقةً، لأنَّه كان بإشراف رسول الله وتوجيهاته، أمّا صيامك الّذي هو مِن أجل استحكام الظلم وتمكين أنانيّتك، ومدّكَ السماط٣ في المسجد لإطعام الناس حتّى يمدحوك، فما الّذي يمكن أن يُطلق عليه؟! إنَّه عمل باطل ومتشابه، يقابل عمل الحقّ ذاك .. ما هي طبيعة العملَين؟ إنَّ كيفيّة العملَين واحدة، ففي كلتا الحالتين، يتمّ الإمساك عن المفطرات، فهذا يُمسك وذاك يُمسك أيضًا. وكلامنا هنا عن الظاهر ولسنا بصدّد الحديث عن الباطن، فما هو الفرق بينهما حينئذ؟ إنَّ الفرق هو أنّ الأوّل يقع في مسير إحياء الولاية ومذهب أهل البيت والإمام المعصوم، فيكون عملًا حقًّا حينئذٍ، أمّا الثاني فيقع في مسير إحياء المذاهب الباطلة والمعادية للولاية وإحياء المذاهب الشيطانيّة الّتي تقف في وجه مذهب أهل البيت، فستكون تلك الأعمال باطلة حينئذٍ ومِنَ النوع المتشابه، هذا مع كونهما عملَين متشابِهين في ظاهرهما.
بعضٌ مِنَ الآيات المحكمات ذات البرامج السلوكيّة
هناك آية تدلّ بوضوح على الموضوع الّذي نتحدّث عنه، سأتلوها عليكم وأكمل بمشيئة الله حديثي عن هذا الموضوع في المجلس القادم بحول الله وقوّته. تقول الآية {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}۱، وهي الآية الّتي تلوتها عليكم سابقًا، يقول الله فيها أنَّ القرآن الّذي أُنزل عليك يتضمّن نوعين مِنَ الآيات. فلماذا يكون هناك نوعان مِنَ الآيات؟ فلْنُؤجّل الحديث عن ذلك الآن.
إنَّ النوع الأوّل مِنَ الآيات هي الآيات المحكمات الّتي لا شكّ فيها ولا ترديد وهو قوله {مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ}، وهي الآيات الّتي تُشكّل أساس القرآن، ولا يمكن الطعن فيها ولا تأويلها، فما هي هذه الآيات؟ إنَّهنَّ أُمّ الكتاب.
توضيح آية {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
كم مِنَ المناسب أن نقوم مِنَ الآن وصاعدًا عندما نقرأ القرآن، بكتابة الآيات الّتي تبدو لنا أنَّها مِنَ النوع المحكم، نعم نستطيع أن نفعل ذلك؛ كالآية التالية الّتي تتضمّن برنامجًا سلوكيًّا {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}٢، فهي واحدة مِنَ الآيات القرآنيّة الّتي تقول لك: إن كنت لا تمتلك المعلومات الكافية عن أمرٍ ما، فلا تُقدم عليه، ولا تتصرّف كما تتصرّف الأغنام، بل عليك التريّث. إنَّ قاعدة {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} هي قاعدة منطقيّة وعقليّة، لا أمرًا تعبديًّا. فهذه الآية ليست مِنَ الآيات التعبّدية، بل تُرشد إلى ضرورة الأخذ بحكم العقل والواقع.
فحتّى الرجل الجاهل لا يُقدِم بنفسه على بناء منزل بصفّ الحجر فوق الآخر، لأنّه سينهار لأقلّ حركة، بل تراه يستشير مهندسًا، والّذي سيقوم بإجراء التحاليل لطبيعة التربة وتماسكها، ويقوم بالإجراءات اللازمة لمعرفة قوّة الهزّات الأرضيّة الّتي تضرب المنطقة عادةً، وبناء عليه يضع التصاميم اللازمة للبناء، وإلّا فلا يوجد أحمق يصرف مقدارًا كبيرًا مِنَ المال في بناء بيتٍ سينهار عليه وعلى عائلته وعلى مَن حوله، بمجرّد هبوب عاصفة قويّةٍ، أو بسبب هزّة أرضيّة تصيب المنطقة. وهذا الأمر تراه يسري في جميع مجالات الحياة؛ فعندما يشكو الإنسان العاديّ – غير المتخصّص بالطبّ – مِن ألم رأسه أو معدته، لا نراه في مقام العلاج يتناول الخضار مِن تلقاء نفسه قائلًا: سأُشفى بإذن الله. فلعلّه يموت إن فعل ذلك، فربما كان مُصابًا بانسداد في أمعائه، فعليه حينئذٍ مراجعة طبيب لإجراء عمليّة جراحيّة خلال بضع ساعات وإلّا سيموت، فالأمر جدّي ولا يقبل التهاون.
إنَّ قاعدة {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} هي قاعدة منطقيّة تفيد أنّه لا يجوز لك أن تُقدم على عمل لا تعرف عنه شيئًا، فإن رأيتَ الناس يقومون بعملٍ فلا يجوز لك أن تقول: ولماذا لا أعمل مثلهم. إذ مَن يفعل هذا، يكون تصرّفه كتصرّف الأغنام – الّتي لا تُؤاخَذ على تصرّفاتها – الّتي إن رأت ماعزًا تقتفي أثره أينما ذهب.
إنَّ الآية تقول للإنسان: أنت لا تشبه الأغنام، فقد جعل الله في رأسك مخًّا ولم يملأه حشيشًا، فإن كان غيرك يريد أن يموت ويهلك، فهل ستنتخب نفس مصيره أم أنَّ لك شأنًا خاصًّا. تقول الآية هنا: فاسألوا أهل الذِّكْر، ومَن له خبرة في الحياة.
إنَّ كلمة (الذِّكر) جاءت هنا بمعنى التنبيه، وهي مشتقّة مِنَ (الذُكر) بمعنى التذكير، فأهل الذِّكر هم أهل التنبُّه [والنباهة]، أي هم أهل البصائر، فليست عقولهم في أعينهم وأحاسيسهم، حتّى تتحكّم بهم أحاسيسهم بدل عقولهم، وحتّى تسيطر على عقولهم كثرة الأتْباع والدعايات والإشاعات الّتي يرونها بأعينهم، لتصمّهم وتعميهم، فهؤلاء لا يمكن أن يُسمَّوا بأهل الذكر.
فما دامت الآية تقول {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، فعليك إذن مراجعة أهل الذِّكر والاستفسار منهم عن القضايا الحاصلة، فتذهب إلى أحدهم وتقول له: ما الّذي يجري هذه الأيّام، وما هذا الّذي يُتداول على ألسنة الناس، فهل صحيح ما يقولونه أم لا؟ فإن كنت تثق بالرجل فيمكنك الاكتفاء بإجابته، وإلّا فاذهب واسأل غيره، بل اسأل ثالثًا ورابعًا وخامسًا وعاشرًا، فلا بدَّ أن تتّضح لك حقيقة الأمر في نهاية المطاف، فإن اتّضحت الحقيقة يمكنك حينئذ اتّخاذ قرارك على أساسه؛ فإمّا أن تُشارك فيما يجري، أو أن تعتزل الناس فيه. [فإن تصرّفت بهذا الشكل سيكون موقفك سليمًا]، وإلّا سيجعله الله هباءً منثورًا، حتّى لو كان اختيارك صحيحًا، لأنَّك عندما أقدمت على الفعل لم يكن [إقدامك] مبنيّ على اليقين والبصيرة.
إنَّ هذه الآية هي واحدة مِنَ الآيات المُحكمات اللاتي هنَّ أُمّ الكتاب، أي هنَّ مِنَ الآيات الأصل الّتي يُبنى عليها. وكنتُ قد استعرضت لكم بعض الآيات المحكمات في المجلس السابق، وسأعرض عليكم المزيد منها في المجلس القادم، فهنالك الكثير مِنَ هذه الآيات.
توضيح آية {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}
[ومِنَ الآيات المحكمات آية] {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}۱، إنَّ كلمة (تَقْفُ) مِن قفا يقفو [قفوًا]، أي المتابعة٢. فالآية تقول: لا تسر في مسير ولا تتّبع أحدًا في مسيره، ما لم تكن على بيّنة مِن أمرك. فسوف يسألك الله عن الجوارح الّتي منحك إيّاها قائلًا: لِمَ لمْ تستثمرها، ألم أمنحك حاسّة السمع لتستثمرها وتسمع بها؟! أكنت أصمّ [حينها]، حتّى تقول لله يوم القيامة: لا ذنب لي، قد كنتُ أصمّ؟! فلِمَ مُنحتَ هذه الأُذُن، أمنحتُك إيّاها لتوظفها في الاستماع إلى الغيبة والموسيقى والبهتان، أم لتستغلّها في الاستماع إلى أحد العظماء؟! بل منحتُك حاسّة السمع لتستثمرها في هذا المجال، لا في الأباطيل والترّهات.
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ }.. فسيسألك الله عنها جميعًا فيقول: لقد منحتُك إيّاها كوسيلة لهدايتك إلى الطريق الصحيح أيّها المسكين، ولَم أجعل فيك السمع والبصر والفؤاد والشعور والوجدان عبثًا، فلَم أجعلك كالخروف، بل جعلت تلك الجوارح فيك لأحاسبك على كلّ واحدة منها يوم القيامة قائلًا: كيف استثمرت أذنك وعينك ورجلك ويدك، إذ كان عليك أن تستثمرها في تكاملك الروحيّ وإصلاح مسيرك. فأنت عندما ترى التناقض في كلام أحدهم في موقفين له، عليك حينئذ أن تعرف طبيعة الرجل. وعندما تراه ينبسط لأمرٍ ثمّ ينزعج ويتجهّم ويتهجّم على الأمر نفسه، عليك أن تعرف أنَّ كلّ كلامه واهٍ، وأنَّه ينجرّ وراء الأهواء النفسيّة، فهو يتكلّم مع الناس على هذا الأساس؛ فإن جرتْ الأمور وفقًا لهواه، تراه يضحك وتنبسط أساريره ويستحسن ما يُنجَز مِن عمل ويمتدح مَن قام به. أمّا إن جرت الأمور بخلاف ما يهوى، تراه يستشيط غضبًا ويلوم مَن قام بالعمل. هذا مع كون أولئك المساكين الّذين قاموا بتلك الأعمال لم يقصّروا، فلِم ينزعج منهم!! عندها تستطيع أن تعرف ومِن خلال هذه التصرّفات أنَّ باطن الرجل أجوف.
فما الّذي سيساعدك للتوصّل إلى هذه الحقيقة؟ إنَّ استثمارك لأذنك وعينك، وتسخيرهما كوسيلة يستفيد منها القلب، ليقوم بوضع هذه الحقائق جنبًا إلى جنب، ولمّا كان قلبك صافيًا وكنتَ قد فرّغته، ولم تكن بصدد تقوية أنانيتك وترسيخ مكانتك الشخصيّة، والحال أنّك تمرّ في هذه الظروف، فسيعمل الله على إنارة طريقك الّذي تسير فيه، فهو أمر موكول إلى الله. فلمّا كنتَ قد فرّغت قلبك مِنَ الأوّل، ثمّ جعلت هذه الآيات القرآنيّة دليلًا، فستُسعفك هذه الآيات في حالتك هذه.
دعونا أيّها الأخوة – مِنَ اليوم – نكتب هذه الآيات، كآية {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ونعلّقها على الجدار. فكم هو أمر مستحسن أن نستعيض عن لوحات الأباطيل والترّهات بهذه الآيات القرآنيّة الجميلة، فنكتبها بخطٍّ جميل ونجعلها لوحة جذّابة، وبذلك يقرؤها الكبير والصغير ويستفيدون منها.
انظروا إلى هذه اللوحة الّتي أمامكم والّتي كُتِبَ عليها «يا حجّة بن الحسن»، كم هي لوحة جميلة. فكم هو مُستحسن أن تكتب عبارات كعبارة «الّلهمّ إنَّا نَرغبُ إليكَ في دولةٍ كريمةٍ تُعزُّ بِها الإسلام وأهله ...»، لاحظوا جمال هذه العبارة، فعندما نسمع بأمثال هذه العبائر الصادرة عن المعصوم، تكاد الروح تخرج مِنَ البدن لتسمو وتحلّق عاليًا.
أتعلمون أنّ هذه العبارة هي الّتي نشرها المرحوم العلّامة بمناسبة النصف مِن شعبان في الوقت الّذي كانوا يُعدّون للقيام بالثورة الإسلاميّة، فجعلها لوحة ووزّعها على الآخرين بمناسبة النصف مِن شعبان، وكان قد أرسل نسخًا منها إلى مدينة النجف، فما الّذي كان يسعى لتحقيقه في ذلك الوقت؟
«اللهُمَّ إِنّا نَرْغَبُ إلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة تُعِزُّ بِهَا الإسْلامَ وَأهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَأهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ إلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ إلى سَبيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ»۱؛ إنَّ كلّ وجودنا يا ربِّ هو مِن وجود إمام الزمان، فنحن لا نملك لأنفسنا شيئًا، وكلّ ما نقوم به فهو لأجله، وكلّ خطوة نخطوها فهي للوصول إليه، فهو هدفنا، وكلّ شيء لدينا هو له. لاحظوا كيف ستتبدّل أوضاعنا لو جرت الأمور على هذا المنوال، وكيف ستختلف عمّا هي عليه الآن، سيكون الفرق كالفرق بين السماء والأرض وكالفرق بين المشرق والمغرب.
فلو كان كلّ ما يقوم به الإنسان مِن عمل، كالصيام والجهاد وإقامة العدل ودحض الظلم، نعم لو كان كلّ ذلك يجري مِن أجل إمام الزمان، ألن يساعدنا إمام الزمان [حينئذ]، أيُعقل أن يضع إمام الزمان حينئذٍ إحدى يديه على الأخرى ويتفرّج علينا؟! فالتفاوت كبير جدّا بين أن نكون على الحالة الّتي وصفتها آنفًا، وبين أن نكون على الحالة الّتي نحن عليها الآن. وها نحن في حالتنا هذه نُلصق بإمام الزمان كلّ ما نقوم به، والحال أنّه يعيش في غيبة لا يستطيع معها الدفاع عن نفسه!
علينا أن نعمل – على أقلّ تقدير – على إصلاح أنفسنا ولا شأن لنا بغيرنا، فدعوا الآخرين يفعلون ما يحلو لهم، وعلى كلّ واحدٍ منَّا أن يعمل وفق ما كُلّف به. فعلينا أن نجعل فقط إمام الزمان نُصب أعيننا، وذلك في شؤوننا الشخصيّة والعائليّة وفي علاقاتنا مع الآخرين، وإلّا لن يصيبنا إلّا الخسران المبين.
نسأل الله أن يجعلنا مِنَ السائرين على نهج الإمام، ومِنَ المطيعين له، ومِن شيعته الخُلّص، وأن يُعجّل في فرجه، وأن يجعلنا مِنَ المنتظرين الواقعيِّين لظهوره. وألّا يحرمنا مِن زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآلِ محمّد