42

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

8680
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالملكية الحقيقية والاعتبارية

جلسات المجموعة(10 جلسة)

التوضيح

تتحدّث هذه المحاضرة حول فقرة حقيقة العبوديّة، مستمرّة في بيان مقدّمة ذلك من بيان معنى الحقاق والاعتباريّات الذي بدأت به في الجلسة السابقة، وذلك من خلال تفسير آية (أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد) واستعراض عدد من الأمثلة لتوضيح الفكرة، وكان المثال الأوّل حول المال، والثاني حول السلطة، والثالث حول الحياة والرابع حول الجمال، والخامس حول الاحترام (من خلال تطبيق هذا الأخير على المحاضر نفسه).
وقد أكّدت المحاضرة على ضرورة إعطاء كلّ من الحقائق والاعتباريّات حقّها وعدم المزج بينها ووضع كلّ منها في موضعه. وأنّ الحقيقة الوحيدة التي تستحقّ الحمد والتمجيد والاحترام هي الله تعالى.
وتضمّنت المحاضرة استطرادًا حول موقف القرآن وأهل البيت عليهم السلام من الشعر وتحديد المراد من الشعر المذموم، عارضة لنماذج من شعر الأئمّة عليهم السلام (الهادي والسجّاد عليهما السلام)
كما استشهدت بالعديد من القصص والوقائع منها:
قصّة الشاعر القاآني ومدحه لأحد الوزراء
قصّة موت والد ثمانية من الأطبّاء من دون استفادته منهم
قصّة مسخ بعض النواصب المتلهّين في يوم عاشوراء
قصّة عجب أحد السلاّك بنفسه وظنه أنّه تجاوز الحور العين في حين أنّه سقط في فتنة النظر إلى يد ممرّضة وإشارة العلامة إلى ذلك في جلسته العامّة من دون تصريح وغيرها.

/۱۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

  • شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ٤٢

  •  

  • القاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللَه من الشّيطان الرجيم‌

  • بسم اللَه الرّحمن الرّحيم‌

  • الحَمدُ للّه ربِّ العالَمين‌

  • وَ الصَّلاةُ وَ السّلام عَلى اشرَفِ المُرسَلين و خاتَمِ النَّبيّين‌

  • أبي‌القاسم المُصطفى محمّد وَ عَلَى آلِهِ الطّيّبين الطّاهرين‌

  • وَ اللَعْنَةُ عَلى اعْدائِهِمْ اجمَعِين‌

  •  

  •  

  • ما حقيقة العبوديّة؟

  • قلتُ: يا أباعبداللَه! ما حَقيقةُ العُبوديَّة؟ قال: ثَلاثةُ أشياءَ: أنْ لا يرَى العَبدُ لِنَفسِه فيما خَوَّلَهُ اللَه مِلكًا، لأنَّ العَبيدَ لا يكونُ لَهم مِلكٌ، يرونَ المالَ مالَ اللَه يضَعونَه حيثُ أمَرَهُم اللَه به.

  • يسأل عنوان الإمام الصادق عليه السلام عن حقيقة العبوديّة، فيجيبه الإمام بأنّها ثلاثة أشياء: الأوّل أن لا يرى العبد فيما أعطاه الله وأعاره ملكًا، ولا يشعر بالملكيّة. لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك والعبد وما في يده لمولاه. يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله. 

  • حاصل الجلسة السابقة: كلّ اعتباريّ يرجع إلى حقيقيّ

  • ذكرنا للأصدقاء في الجلسة السابقة أنّ كلّ أمر اعتباريّ لا بدّ أن يرجع إلى أمر حقيقيّ، والنفس وكافّة الاعتباريّات التي نهتمّ بها في هذا العالم لا بدّ أن تكون ناشئة من أمور حقيقيّة. وإلا كان منشأ الاعتبار غير معروف، وإن كان منشأ الاعتبار غير معروف صار الأمر الاعتباريّ لغوًا. هذه خلاصة ما تقدّم في الجلسة السابقة. 

  • نوع العلاقة بين العبد والله: عين الفقر والارتباط

  • والآن تعالوا لنرى ما هو نوع ارتباطنا مع الله؟ هل لنا حقّ الاختيار والتصرّف في أنفسنا وفي ما يتعلّق بنا أم ليس لنا ذلك فيها؟

  • هناك آية في القرآن الكريم تقول: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَه وَ اللَه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ۱ فیا أيّها الناس أنتم بدون استثناء فقراء ومحتاجون إلى الله، والله وحده هو الغنيّ، ولا طريق للفقر والاحتياج إليه، وهو محلّ الحمد والثناء. ولفظ الحميد بعد الغنيّ، هو بحسب اصطلاح العلماء يبيّن حيثيّة تعليليّة، فلماذا الله حميد؟ لأنّه غنيّ. أينما وجد الغنى وجد الحمد والثناء، وأينما كان الحمد والثناء كان الغنى، فلو كان في جيب أحدكم ورقة فيها حوالة بمائة مليار يريد أن يحوّلها من مؤسّسة إلى مؤسّسة، من وزارة إلى وزارة، أو يجعلها في بنك، فهل يضاف إليه شيء؟ هل يحصل على اعتبار وقيمة؟ كلاّ أنت مجرّد واسطة ولن يضاف إليك حتّى خمس ريالات، ولو أردت أن تتصرّف فيها فإنّ القانون سيحاسبك؟ لماذا تأخّرت في إيصالها؟ لمَ لمْ توصلْها قبل هذا؟ لماذا قصّرت في هذه المسألة؟ تعال وقل: هذه الحوالة كانت في يدي، يقولون: كانت في يدك كأمانة لا كمستقلّ فيها، لم تكن مستقلاًّ، لم يكن المال لك، كنت مجرّد حامل لعارية، حامل لأمانة ولا يترتّب عليك شيء أكثر من هذا. 

    1. سورة فاطر(٣٥)، الآية ۱٥.

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

3
  • ضرورة وضع كلّ من الحقائق والاعتباريّات في مواضعها (مثال الحمد والثناء على الناس لأجل مال أو سلطة)

  • إنّ هذه المحامد والثناءات التي نؤدّيها نحن في هذه الدنيا هي جميعها اعتباريّة ليس لها بُعد واقعي. افترضوا أنّا مدحنا إنسانًا ما: ما شاء الله! كم هذا الرجل ثريّ! هذا المدح الذي نمدح به هذا الإنسان هل له مكان أم لا؟ علينا أن ننظر ما هي حقيقته وواقعيّته؟ هذه مسألة مهمّة. علينا أن نعرف كيف نتحدّث في الاعتبارات والمسائل وأن نجعل كلّ شيء في مكانه. الظلم والعدل مقولتان متقابلتان ومتضادّتان. فالعدل يعني أن يجعل الإنسان كلّ حكم لموضوعه المناسب له، والظلم هو أن يجعل غير هذا الحكم. فمثلاً لو كان هناك منزل لزيد، فيقوم الناس بمراجعة المحكمة، والمحكمة لها حالتان: 

  • إمّا أن تحكم بالحقّ ولا تخضع لتأثير أيّة قوّة فوقها وتسير بالعدل، وتنتهي إلى أنّ هذه الدار لزيد، فتعطيه له. فهذا يقال له وضع للشيء في موضعه. 

  • وإمّا أن تأتي هذه المحكمة وهذا القاضي بواسطة مسائل مختلفة فيحكمان بأنّ هذا المنزل لعمرو مع أنّهما يعلمان أنّه لزيد أو لغيره. فهذا ظلم؛ لأنّ هذا الشيء في غير مكانه وموضعه المناسب. فهذا ظلم وذاك عدل. 

  • والآن نحن نرى أنّ هذه المحامد التي نقوم بها وهذا الثناء الذي يجري على ألسنتنا في هذه الدنيا وردًا، هل هما واقعيّان أم لا؟ أعتقد أنّا أشرنا إلى هذه المسألة فيما سبق، والآن نأخذ نتيجة إجماليّة. بالنسبة إلى المال نقول: كم هو جيّد هذا الرجل! كم هو محترم! كم هو صاحب فضل! يقولون: لماذا؟ نقول: له هذا المقدار من الثروة. نقول: أفهل الثروة تسبّب فضيلة لأحد ومحمدة؟ يقولون: فإن لم تكن تسبّب فما الذي يسبّب؟! ففي النهاية هذا الرجل يمتلك هذا المال والمنال وكل ما يحلو. ولكن فجأة ترون أنّ هذا الإنسان الذي يمتلك كلّ ذلك يفقده بمرسوم أو قانون أو سطوة سارق يسطو على كلّ مال في داره. وفي اليوم التالي لا يكون هناك أيّ فارق بين هذا الإنسان وغيره ممّن لا يملك شيئًا. فماذا حصل يا ترى؟ فإذن ذلك الحمد الذي حمدته به لم يكن له هو، لقد حمدت المال، لأنّ هذا الإنسان لا يزال كما كان، ولم ينقص منه غرام واحد. نعم يمكن أن يكون قد نقص منه كيلوّات دفعة واحدة، عشر كيلوّات أو خمسة عشر كيلوًّا، وقد وقع ذلك، فمثلاً لو أصابت الإنسان خسارة مفاجئة فإنّه يصاب بالسكتة وينقل إلى المستشفى، وقد رأيت عدّة موارد من ذلك. لماذا يحصل هذا؟ لأنّ هذا المسكين قد خلط بين الحقيقة والاعتبار، لذلك يصاب بالسكتة. لو كنت تفكّر بشكل صحيح من البداية لما حصل لك ذلك، ولمشيت بشكل طبيعيّ، فلئن خسرت فلا بأس، ولئن ربحت وكنت في سعة فلا بأس. هذا كلّه بسبب الخطأ في النظرة نقوم نحن بجلب المصائب على رؤوسنا، بسبب الخطأ في الرؤية. 

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

4
  • كم هذا الرجل محترم! 

  • لماذا؟ 

  • لأنّه صاحب مال. 

  • غدًا يخسر ماله فيخسر احترامه معه. 

  • كم هو محترم هذا الرجل! كم يدعو إلى الاحترام، نقوم أمامه، نجلس نفعل كذا وكذا، وقبل أن يأتيَ بنصف ساعة أو ثلث ساعة نقف منتظرين؛ فإنّ فلانًا يريد أن يشرّف، فلان يريد أن يفعل كذا، إنّه مدير تلك الدائرة، فنحن نقوم كي نكون محلّ اهتمامه. ففي النهاية عندما يشعر أنّ هناك من يحترمه فإنّه لا يبقى هكذا، بل يحترم ويهتمّ، فمن يحترِم فإنّه يختلف كثيرًا عن الإمام الجواد في القصّة التي نقلتها لكم مع المأمون حين كان يسير فبقي الإمام في مكانه لم يتحرّك، فسأله لماذا لم تذهب كما ذهبوا؟ قال: لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك وليس لي جرم فأخشاك. بقي واقفًا كالأسد: لم أسدّ طريقك وهذه طريقك فامض فيها، ولم أقم بعمل أخاف عواقبه فلذلك أنا في مكاني. 

  • انظروا الكلام كلام الإمام. لماذا؟ لأنّ الإمام عليه السلام لا يخلط بين الاعتبار والحق، وبالتالي فلا يخاف من أحد. إنّه لا يخلط بل يرى الحقّ في الحقّ والاعتبار في الاعتبار. كلّ منهما في موضعه. نقوم نعظّم نكرّم ما شاء الله كم هو إنسان جيّد! نقول فيه القصائد ونقول ونقول...

  • قصّة حول أحد الشعراء 

  • يقال إنّ القاآني كان من أولئك الشعراء الذين يقولون قصيدة في كلّ من يتصدّى للزعامة، ولم يكن يهتمّ بأنّه من هو؟ هل هو زيد بن أرقم أم غيره؟ كان يرى أنّه متصدٍّ للأمر جالس على الكرسيّ، ومتّكئ على عرش السلطة والصدارة أيًّا كان. وعادة الأمر هو كذلك، كان يقول فيهم القصائد. في يوم من الأيّام قبْل الميرزا تقي خان أمير كبير، كان الحاج الميرزا آقاسي من رؤساء وزراء إيران في العهد القاجاري. لم يكن الحاج ميرزا آقاسي إنسانًا سيّئًا فقد كان متديّنًا في الجملة، ولكنّه كان عديم اللياقة والتدبير، والشيء الوحيد الذي لم يكن يمتلك منه شيئًا هو تدبير شؤون الدولة ـ ويبدو أنّ هذا الأمر كان موجودًا ولم يكن له اختصاص بزمان الميرزا آقاسي أحيانًا كان يأتي أمثال الأمير كبير، وواقعًا كان الأمير كبير إنسانًا عجيبًا، رجلاً سياسيًّا، وواقعًا كان رجلاً مديرًا، ويحتار الإنسان من كيفيّة إدارته للدولة. والخلاصة أنّ علينا أن نعرض عن هذا الكلام ـ فجاء في زمان الحاج الميرزا آقاسي وألقى قصيدة غرّاء طويلة جدًّا فيه. وكان أصل هذه المسألة زكام أصيب به الميرزا، فقد أصيب بالزكام، فجاء هذا الشاعر وجعل هذا الزكام قد هزّ الدنيا، وأفسد الملكوت وأقلق الملائكة وفعل وفعل... وواقعًا هو قال ذلك ولو ذهبتم إلى ديوانه لرأيتم. فماذا أنت يا سيّد؟ إذا صعدت إلى الأعلى فإنّ العرش يهتزّ وإذا نزلت إلى الأسفل يهتزّ الفرش... ويبدو أنّه ينال من رعاية الصدر الأعظم ويتناول أجرًا عظيمًا. 

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

5
  • وتمرّ الأيّام وتنتقل الوزارة إلى الميرزا تقي خان أمير كبير، فيأتي هذا الشاعر فيقول له: أيّها الميرزا لقد قلت فيك قصيدة شعريّة ونريد أن نحفرها على صخرة وتعلّقها على باب الوزارة وكذا وكذا. فلا يبالي الميرزا تقي خان. فيقول من جديد: لقد قلنا كذا وكذا، وكان يتوقّع هذه الأمور والهدايا منه، فبدأ صبر الميرزا تقي ينفد شيئًا فشيئًا، وكان من أبيات تلك القصيدة: 

  • به جاي ظالم شقي***‌ نشته عادل تقي
  • أي: جلس العادل التقيّ***بدل الظالم الشقيّ
  • وما إن يصل إلى هذا البيت حتّى يقول له الميزرا تقي خان: اصمت! ألست أنت من أفسدت الملك والملكوت على زكام هذا الميرزا؟ وأغلقت السماوات والأرضين جميعًا لأجل زكامه وألم رأسه؟ والآن تأتي وتقول يا خبيث: جلس العادل التقيّ بدل الظالم الشقيّ؟ فلئن كان ظالمًا شقيًّا فقد كنت مخطئًا إذ قلت فيه تلك القصائد، وإن لم يكن ظالمًا شقيًّا فلماذا جئت تقول ذلك في قصيدتك؟ وكان أمر آقاسي معلومًا للجميع وواضحًا. 

  • المراد من الشعر والشعراء المذمومين في القرآن

  • وهنا يقول القرآن: (وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ)۱ فالشعراء يبحثون عن الضالّين، والضالون يبحثون عن الشعراء، والشعراء هم الذين يبحثون عن الخيال، وليس الشعر بمعنى النظم، فالشعر بمعنى النظم هو أحد صناعات البيان، والأئمة عليهم السلام كانوا يقولون الشعر أيضًا. 

  • نماذج من شعر الأئمة عليهم السلام

  • فالإمام الهادي عليه السلام قال للمتوكّل العبّاسي في تلك الليلة حينما أحضره إلى دار الإمارة:

  • باتوا عَلى قُلَل الأجبال تَحرسُهُم‌***غُلبُ الرِّجال فَلَم تَمنَعُهُم القُلَل‌
  • و استُنزَلوا بَعد عزِّ من مَعاقلهم‌***فَأسكِنوا حُفَرًا يا بئسَ ما نَزَلوا
  • لقد صعد هؤلاء السلاطين إلى أعالي الجبال، وبنوا لأنفسهم أيّ قصور، وأيّ قلاع، وادّخروا أيّ أموال! لماذا؟ لكي يأمنوا الموت، لكي يحفظوا أنفسهم من جنود الله، غافلين عن أنّهم إذا جاء داعي الموت سيوضعون في نفس المكان الذي يوضع فيه ذلك المشرّد المسكين. فلمن هذا الكلام؟ إنّه كلام الإمام الهادي عليه السلام. 

  • ويقول طاووس اليماني أنّي كنت أطوف في مكّة في جوف الليل فسمعت صوت بكاء وعويل، تقدّمت إذ جذبني الصوت إليه، فرأيت شابًّا له ذؤابتان متعلّقًا بأستار الكعبة يقرأ شعرًا. شعر يحكي عن مقام اللجوء والعبوديّة والخضوع والتواضع: غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حراسها، وبابك مفتوح للسائلين. لقد احتجب الجميع ووضعوا الحواجز والحجّاب والحرّاس حتّى لا يدخل أحد عليهم في حريمهم، وليس إلا بابك بغير حاجب ولا حارس. وهكذا يتابع الإمام ذلك ويتطوّر الأمر ويشتدّ الكلام وتبلغ المناجاة أوجها فيخرّ الإمام على الأرض ـ ولم يكن يعرفه ـ يقول: فدنوت منه وشلت رأسه ووضعته على ركبتي فرأيت أنّه عليّ بن الحسين فأحضرت ماء ورششته على وجهه فأفاق فقال: من أنت؟ ثّم يقول: يا بن رسول الله أنت تقول هذا الكلام؟ فقد جعل الله الجنة لأطفالكم والناس كلّهم خلقوا من من فاضل صدقتكم. وللإمام هنا بيانات عجيبة جدًّا أن لا تظنّ أنّ الأمر كذلك، فالمقرّب هناك من كان عبدًا ولو كان عبدًا حبشيًّا، والبعيد والمبتعد من كان يرى نفسه في مقام الاستغناء ولو كان سيّدًا قرشيًّا فهناك لا يقبل هذا الكلام.٢  وكان الإمام السجّاد يقول [بعض] هذا الكلام بالشعر، وأحيانًا تكون هذه المسائل بالشعر أجمل وفي القلب أوقع. 

    1. - سورة الشعراء (٢٦)، الآيتان ٢٢٤ و ٢٢٥.
    2. ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج٣، ص ٢٩۱: طاوس الفقيه : رأيته يطوف من العشاء إلى سحر ويتعبد ، فلما لم ير أحدًا رمق السماء بطرفه وقال : إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد في عرصات القيامة ثم بكى وقال : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك . وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولكن سولت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به علي ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني ، وبحبل من اعتصم ان قطعت حبلك عني ، فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا ، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، أما آن لي أن استحي من ربي ؟ ثم بكى ، ثم أنشأ يقول :
      أتحرقني بالنار يا غاية المنى * فأين رجائي ثم أين محبتي 
      أتيت بأعمال قباح ردية * وما في الورى خلق جنى كجنايتي
      ثم بكى وقال : سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم . ثم خر إلى الأرض ساجدا فدنوت منه وشلت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده فاستوى جالسًا وقال : من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي ! فقلت : انا طاوس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون أبوك الحسين بن علي وأمك فاطمة الزهراء وجدك رسول الله ؟ قال : والتفت إلي وقال : هيهات هيهات يا طاوس دع عني حديث أبي وأمي وجدي خلق الله الجنة لمن اطاعه وأحسن ولو كان حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا ، أما سمعت قوله تعالى : ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح (مناقب آل أبي طالب، ابن شهراشوب، ج٣، ص ٢٩٢) 
      وفي مستدرك الوسائل ، ج٩، ص ٣٥٢ عن طاووس اليماني ، قال : رأيت في جوف الليل رجلا متعلقا بأستار الكعبة ، وهو يقول : 
      " ألا أيها المأمول في كل حاجة * شكوت إليك الضر فاسمع شكايتي
      ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي *** فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي 
      فزادي قليل لا أراه مبلغي **** أللزاد أبكي أم لطول مسافتي
      أتيت بأعمال قباح ردية **** فما في الورى عبد جنى كجنايتي 
      أتحرقني في النار يا غاية المنى **** فأين رجائي ثم أين مخافتي " 
      قال : فتأملته فإذا هو علي بن الحسين ( عليهما السلام ) 
      ابن شهرآشوب في المناقب : عن الأصمعي قال : كنت أطوف حول الكعبة ليلة ، فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، وهو يقول : " نامت العيون ، وعلت النجوم ، وأنت [ الملك ] الحي القيوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوح للسائلين ، جئتك لتنظر إلي برحمتك يا أرحم الراحمين . ثم أنشأ يقول : 
      يا من يجيب دعا المضطر في الظلم **** يا كاشف الضر والبلوى مع السقم 
      قد نام وفدك حول البيت قاطبة ****وأنت وحدك يا قيوم لم تنم 
      أدعوك رب دعاء قد أمرت به **** فارحم بكائي بحق البيت والحرم 
      إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف **** فمن يجود على العاصين بالنعم " 
      قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين ( عليه السلام ).

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

6
  • فالمراد من الشعراء أولئك الذين يبحثون دائمًا عن التخيّل، هؤلاء الذين ترونهم، فاليوم يمدح فلانًا ويثني عليه، وغدًا يمدح آخر. اليوم يقول قصيدة في هذا ، وغدًا يقول قصيدة لآخر. هكذا هم في النهاية (وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)

  • فهذا ما يسمّى بالاعتبار، إنّ كلّ ذلك الضجيج والأبّهة تزول فجأة، كلّها تزول، وتزول معها تلك المحامد والثناءات، ويتغيّر الموضوع ويتبدّل فتذهب المدائح معها. 

  • اختصاص المِلك والمُلك الحقيقيّين بالله

  • وبناء على ذلك فلنر أيّ ملك وأيّ سلطان هو الذي لا يزول أبدًا، وأيّ مِلك وتملّك لا يتغيّر أبدًا وله أصالة؟ إنّه ملك الله فقط. وحده ملك الله وسلطانه. هذا يختصّ به وحده. كم هو واضح هذا الأمر وكم نحن غافلون عنه! فقد ضربت لكم مثالين أحدهما عن المِلك والآخر عن المُلك، أحدهما عن التملّك والآخر عن السلطة. فكلّ أمر اعتباريّ خاضع للزوال والتغيّر والتبدّل، إلا أن يكون ذلك الأمر حقيقيًّا واقعيًّا فلن يتغيّر. 

  • ولذلك فإنّ المرحوم صدر المتألّهين رضوان الله عليه يقول في تفسير هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أنّ الفقير في هذه الآية هو بمعنى الفقر لا بمعنى الفقير الاصطلاحيّ؛ لأنّه في الفقير الاصطلاحيّ نفس الإنسان حيّة، نعم في حال يذهب مالها وفي آخر يرجع. أمّا في مسألتنا وما يرتبط بنا فإنّ وجودنا أيضًا هو عارية لنا. أفهل يمكننا أن نحفظ وجودنا؟ ليس لنا اطلاع على ساعتنا اللاحقة، ولا نرى أبعد من متر أمام أرجلنا، فمن أين لنا أن نضمن لأنفسنا الحياة؟ فإن كان الأمر كذلك فالذين يملكون المال والمِلك بطريق أولى لا يستطيعون.

  • الحياة ليست ملكنا (قصّة في كيفيّة وفاة والد لأطبّا ثمانية)

  • ينقل أحد الأصدقاء فيقول: نحن سبعة إخوة، سبعة إخوة وأخت واحدة، ولحسن الحظ جميع الإخوة أطبّاء وأختنا أيضًا طبيبة، فمجموع الأسرة من الأطباء، وبعضهم أطبّاء مهرة جدًّا ومن الجرّاحين المهرة في بعض المحافظات. 

  • كان نفسه يقول لي: كلّ من كان يرانا يقول: إنّ الأبوين اللذين يمتلكان سبعة من الأطبّاء وابنة طبيبة لا يأتيهما الموت. وكانوا يقولون ذلك جادّين، فقد تأمّنت الحياة لهؤلاء، والحياة لهم ضروريّة، فسبعة من أبنائهما أطبّاء، فعلى الأقلّ في كلّ يوم يتواجد منهم اثنان في البيت، فهل هناك أفضل من هذا؟ كان يقول: يا سيّد إنّ أبي هذا رحمة الله عليه والذي كان رجلاً شريفًا ومتديّنًا وملتزمًا يخرج في الصباح من المنزل متوجّهًا نحو المسجد ليفتح بابه ويصعد إلى المئذنة ويرفع الأذان، فهذه عادته في أصفهان، وما إن يعبر من الشارع حتّى تأتي سيّارة تصدمه فيطير من هذا الجانب إلى ذاك وتفارق روحه الحياة ولا أحد من أبنائه عنده. هل التفتّم؟ فما هذه المسألة؟ له سبعة أبناء فليكونوا سبعين. أفهل الموت بأيدينا نحن؟ الأمر من مكان آخر، والكلام عن مكان آخر. والحساب والتقدير من مكان آخر، فبماذا غررنا وخدعنا؟ إنّ كافّة تعلّقاتنا اعتباريّة. فلا الجمال له حقيقة. قال: لا تفرح بمالك فإنّه مربوط بليلة، ولا تغترّ بجمالك فإنّه مربوط بدرجة حرارتك. 

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

7
  • قصّة حول مسخ نواصب يلهون في يوم عاشوراء

  • رحم الله المرحوم الشهيد آية الله دستغيب رحمة الله عليه ورضوان الله عليه، فقد كنت أستمع إلى حديثه في وقت من الأوقات، فسمعت منه مثالاً سررت به، ولم أكن قد سمعت به حول الآية التي حول مسخ الله تعالى لبعض الأقوام السابقين (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)۱ وبالطبع لم يكونوا يبقون إلى أكثر من ثلاثة أيّام ثمّ يموتون. فمسألة المسخ لها وجود حتّى أذكر أنّه ذكر مثالاً ـ وهناك قصّة أخرى أيضًا سمعتها حول هذا الموضوع ـ يقول: كان هناك رجل في شيراز يتردّد على بعض دول الخليج وكان يعيش فيها ـ ويبدو أنّها البحرين ـ وكان له منزل هناك. وفي يوم عاشوراء من إحدى السنوات يرى الرجل أنّ أصوات طبول وآلات الموسيقى ترتفع من دار جاره، فيتعجّب هذا الرجل كثيرًا أن كيف يعزفون ويضربون الطبول ويهلهلون وفق عادات العرب و... فيتأثّر كثيرًا، لقد كان يعلم أنّهم من النواصب والمبغضين لأهل البيت، ولكن لم يكن يتوقّع أن يكونوا إلى هذا الحدّ الذي يجعلهم يصفّقون ويهلهلون في يوم عاشوراء و... فلم يكن يتوقّع هذا المقدار ولم يستطع الصبر فتوجّه إلى الله واعترض عليه قليلاً: يا سيّدي أين ألوهيّتك إذن؟! أنت جالس هنا يوم شهادة أعظم البشر، الإنسان العالم على مرّ التاريخ وهؤلاء يهلهلون فما هذه الحالة؟! وكلامًا من هذا القبيل... والحاصل أنّه شرع بالنزاع مع الله وحاول محاولة. كان يقول: وبينما هم يصفّقون ويرقصون ـ وكان الوقت بعد الظهر عند الساعة الثانية ـ شعرنا فجأة أنّ الصوت قد انقطع. وكان هذا الرجل قد نقل الحادثة بنفسه للسيّد دستغيب، فكان يقول: انقطع الصوت. تعجّبنا كثيرًا أن ما الخبر؟ قال: صبرنا قليلاً فسمعنا أنّ أصواتًا عجيبة تأتي، أصوات حيوانات، فقد تغيّرت المسألة، ما الأمر؟ تقدّمنا وطرقنا الباب فلم يفتح أحد، ضغطنا على الجرس وفي النهاية ذهبنا واستدعينا شرطيًّا وأخبرناه بالأمر، ومهما طرق الباب لم يفتح أحد، فصعدوا من فوق الجدار ونزلوا برفقة الجنديّ، فرأوا عددًا من القرود في داخل هذه الغرفة يركضون ويصرخون. هل التفتّم؟! فالقصّة مسلّمة، وقد وقعت في البحرين. ففي النهاية هذا الصراخ الذي صرخه مع الله أثار غيرته فانظر إلى النتيجة الآن! وقد سمعت أنا نظير هذه الحادثة من مصدر موثوق في مورد من الموارد في يوم شهادة أمير المؤمنين عليه السلام في شهر رمضان. 

    1. - سورة البقرة (٢)، ذيل الآية ٦٥.

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

8
  • هذا ما يقال له مسخ، أي أنّهم تحوّلوا فجأة ثمّ ماتوا بعد ثلاثة أيّام، ويبدو أنّهم كانوا سبعة، وهذه القضيّة معروفة الآن في البحرين من أنّه يوجد أمر كهذا، فأدرك الآخرون حساب عملهم، وأن لا يخطئوا في حقّ الإمام الحسين فهنا الأمر يختلف. 

  • جمال الوجه ليس ملكًا لنا

  • وعلى أيّ حال بعد ذلك ضرب السيّد دستغيب مثالاً أعجبني كثيرًا فقال: لاتنظروا إلى مسخ إنسان يتبدّل إلى حيوان، إلى قرد، كلا تعال وانظر يا سيّد! أحضر صورتك حين كنت ذلك الشاب الظريف الجميل الجذّاب في العشرين أو الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين، وضعها إلى جانبك الآن حين صرت رجلاً عجوزًا ابن تسعين سنة، هل بين هذين انسجام وتناسب؟ فذلك المسخ هو مسخ دفعيّ ولكنّ هذا المسخ مسخ تدريجيّ. فلا ارتباط بين الاثنين أصلاً. فأين ذلك الوجه الظريف الجميل؟ إلى أين ذهب؟ لا، بل الملائكة الفعالة في نظام العالم والقوى الموجودة في العالم يدًا بيد يسيرون به إلى هذه الحالة، بحيث أنّك لو التقطت فيلمًا فراقبنا هذا السير النزولي ـ النزوليّ في عالم المادّة لا في عالم المعنى، بل يمكن أن يكون في عالم المعنى على العكس بحيث كلّما تنزّل في عالم المادّة ترقّى في عالم المعنى ـ لوجدنا أنّ هذا الوجه وهذا الجلد يتغيّر شيئًا فشيئًا وتتساقط منه البثور، واللحية تبيضّ فأولاً شعرة واحدة بيضاء ثمّ اثنتنان ثمّ ثلاثة ثمّ شيئًا فشيئًا يغدو كلّه أبيض وينتهي الأمر. ولكن على الإنسان أن لا يخدع فهذا السير في عالم الخلق، وعلى الإنسان أن يكون فكره في مكان آخر، حيث يمكن أن يكون سيره تصاعديًّا، فلو كان الإنسان في الطريق فكلّما حصل نزول في جانب الخلق، فإنّه في جانب الأمر والباطن على العكس من ذلك يكون في صعود، طبعًا ما دام في الطريق وما دام ملتفتًا. 

  • ماذا يقال لهذا؟ هذا ما يقال له عارية يا عزيز! فلو كان ذلك الوجه الجميل حقيقة لك فاحتفظ به، تناول الأدوية والموادّ المقوّية والفيتامينات التي تجعل الوجه بشوشًا على الدوام، فماذا تصنع كلّ هذه؟ وأحيانًا يستعينون ببعض العمليّات الجراحيّة والأمور الأخرى... تستطيع أن تقوم بعمليّة ليومين وتظهر الأمر على خلاف ما هو عليه، ولكن في النهاية لا بدّ أن تسلّم وترفع يديك إلى الأعلى، فهذه هي نهاية الأمر. فهذا هو الأمر الاعتباري. 

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

9
  • جمال الله هو الذي يستحقّ الحمد

  • وما حقيقة هذا الحمد الذي تحمد به هذا الجمال والظرافة؟ إنّه اعتباريّ. بأيّ جمال يتعلّق الأمر الحقيقيّ والحمد الحقيقيّ؟ بالجمال الربوبيّ، بذلك الجمال الذي لا يقبل المقارنة أصلاً بالجمال الآخر. أصلاً هو غير قابل لأن يتصوّر من قبلنا. يقول المغربي: 

  • خيال وصل دو عالم نياورد به خيال‌***دلى كه يافت دمى لذّت‌وصال‌حبيب‌
  • لا يخطر وصالُ كلا العالَمَين***لقلبٍ نالَ لحظةً وصالَ الحبيب ‌
  • وليس يقول هزلاً، بل يقول حقيقة الأمر، "لا يخطر وصال كلا العالَمين" حكومة الدنيا والآخرة، الآخرة تعنى كلّ الغلمان والحور العين، الحور العين اللاتي تحدّثنا يومًا بقصّة حولها عن المرحوم العلاّمة حين كان بعضهم يقول: نعم نحن تجاوزنا عن الحور العين، نحن عبرنا عن ذلك، نحن لا نتوجّه إلى شيء آخر في طلبه، وكذا وكذا، فقال المرحوم العلاّمة: يا سيّد إنّ النظر إلى يد ممرّضة يجعلك تنسى كلّ شيء، فكيف تقول إنّك تجاوزت عن الحور العين؟ كان الرجل نفسه قد ذهب صباحًا إلى المستشفى لعيادة صديقه وهو نفسه نقل لي ذلك فقال: كنتُ قد ذهبتُ إلى المستشفى، وكنتُ كثير الادّعاء، ذهبتُ صباحًا إلى المستشفى لعيادة أحد أصدقائي، فجاءت ممرّضة لتغيّر المصل ـ وكان ذلك في زمان الطاغوت ولم تكن الممرّضة محجّبة وكان كمّها قصيرًا ووضعها... ـ فقال: فلمّا جاءت ـ ولا أدري كم استغرق وقت عملها نصف دقيقة أو دقيقة كاملة ـ كنت مدهوشًا بيدها. فهذا عن اليد وحدها، قال كم من الجمال شاهدت في هذه اليد بحيث أصيب رأسي بالدوار! فأنت الذي تصاب بالدوار من يد، الويل لك لو...! 

  • في تلك الليلة وكانت ليلة الثلاثاء حيث كان للمرحوم العلاّمة جلسة تفسير في المسجد، وقراءة للقرآن، حيث كان يجلس بعد صلاة المغرب والعشاء ساعة، يقرؤون القرآن خلال ثلاثة أرباع الساعة، كلّ واحد يقرأ بدوره، وكان هو يصحّح الأخطاء، فكنّا نقرأ تقريبًا ثلاثة أرباع الساعة بهذا النحو، ثمّ هو يقرأ روايات يا أحمد يا أحمد من الجزء السابع عشر من البحار ـ ونحن متأسفون لعدم وجود هذه المطالب بين أيدينا وعدم وجود تسجيل أو كتابة لها. فهذه إحدى الخسارات الشخصيّة لي، حيث لم أكن ملتفتًا إلى هذا الأمر، فجرت من لسانه درر لم يكن لنا نصيب بها ـ يقول ذلك الرجل في كلامه: كنت جالسًا أنا أيضًا في الصفّ الثاني أو الثالث، فجرى الحديث حول هذه النقطة: على الإنسان في طريق الله أن يكون نظره فقط إلى المحبوب، وأن لا تشغله الأمور التي تقع أمامه، ويمكن أن يرسل الله إليه بعض النعم الظاهريّة ولكن عليه أن لا يتعلّق بقلبه بها، ثمّ فجأة قال: نعم يا سيّدي، يقولون نحن تجاوزنا عن الحور العين، وتجاوزنا عن الغلمان، إنّ يد ممرّضة تجعلك تشعر بالدوار، فكيف تجاوزت عن الحور العين؟! فقد كان للمرحوم العلاّمة شيء من هذه القضايا على نحو التفنّن. والغرض من كلّ ذلك كان أن يلتفت الآخرون، فالأمر ليس صدفة وأحيانًا كانت تظهر مثل هذه الأمور. 

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

10
  • على كلّ حال هل تعلمون ماذا يريد الملاً محمّد المغربي؟ يريد أن يقول: لو أنّ الله تعالى أعطاك حكومة الآخرة كلّها. وما هي حكومة الآخرة؟ تلك الجنان التي سمعنا وصفها ومقارناتها معروفة لدى الجميع بكلّ ما فيها ومراتبها السبعة والغلمان والملائكة والحور والقصور (وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ)۱ لو أعطي كلّ ذلك فإنّه لا يدخله إلى ذهنه، لا يدع هذا يخطر، من؟ ذلك الإنسان الذي حصل على لحظة من وصال الحبيب، لو أصابته شرارة، جذبة تقلعه وتسلخه عن تعلّقات الدنيا، فتلك لذّة وجمال يضحكان على كلّ جمال في الدنيا والآخرة، بحيث لا يُنظر إليه بعد ذلك. 

  • حال من السرور لثانية واحدة لو استمرّ لأدّى إلى الانفجار

  • كان هناك أحد الأصدقاء ينقل لي أنّه: حصل لي حال ـ وكان ذلك في شهر رجب ـ فكان يقول: يا فلان لقد صرت أشعر للتوّ بمعنى السرور. كان يقول ما هو السرور؟ أنت ماذا ترى السرور؟ ترى السرور في امرأة جميلة؟ في طعام ما فيه من الزعفران؟ في الوصول إلى المال؟ لقد أصابني حال لثانية واحدة، ولو أنّه صار ثانيتين لتبدّلت كافّة ذرّات وجودي قنبلة وانفجرت. فمن شدّة السكر والسرور لم أستطع أن أصل إلى الثانية الأخرى. كان يقول: ماذا أقول؟ ماذا أقول؟ فلساني ليس قادرًا. فقلت له: يا سيّدي إنّ سرورك هذا سرور صوريّ، حدث لك في عالم الصورة، ولم تصل بعد إلى المعنى، إلى الذات التي هي فوق المعنى. هل التفتّم إلى حقيقة الأمر؟ كان يقول: لو استمرّ الأمر لثانيتين لانفجرت وانسلخت وانفصلت. فهذه حقائق، لم يقل ذلك في عالم الاعتبار. 

  • فإذن الجمال الحقيقيّ لمن؟ الجمال الحقيقيّ له هو. هو الجميل دائمًا، كان جميلاً وهو الآن جميل وسيبقى جميلاً، وكلّ ما في الدنيا من جمال هو قطرة وتنزّل ورأس إبرة، في حين أنّا نراه مستقلاًّ. نحن ننظر إليه باستقلال، نحن نعشق هذا الجمال، نحن نظنّ أنّ هذا الجمال جمال حقيقيّ ونغفل عن الجمال الحقيقيّ. 

  • كان أحد الأصدقاء ينقل لي قصّة: كنت في أحد الأسفار إلى تبريز لزيارة رجل، فرأيت أنّ هذا الإنسان لديه استعداد. قلت: فلأحاول معه وأكلّمه، وأعالجه قليلاً وأتحدّث معه قليلاً وأجرّه إلى الله وأبدّل أحواله وبرنامجه و... كان يقول: لقد حدثت له مشكلة، وكانت مشكلته عائليّة، فقد فارقته زوجته منذ عدّة أيّام بعد مشكلة ونزاع بينهما، تركته وذهبت إلى بيت أبيها، وكان هذا الرجل يحترق من ألم فراق الحبيب وحسرته. والحاصل أنّه كان يقول: كنت أحاول أن أعالج المشكلة التي في قلبه وأجعلها ربّانيّة وآتي بالله إلى الميدان وأبدّل حال ذلك الرجل. وما إن كنت آتي من هذا الجانب حتّى كان يقول: يا فلان! إن كانت لديك قدرة فأرجعها إلى البيت، ونحن ندبّر أمرنا مع الله. فكنت أسعى جاهدًا أن آتي من طريق آخر وأتقدّم قليلاً فقال: يا فلان! إن كانت لك يد بيضاء فأرجعها. فرأيت أنّه لا بدّ من إعادتها. قال: لحسن الحظ أعدتها، حيث ذهبت إلى منزلها ورأيت أمّها وأباها، وقلت لها: ارجعي! والمشكلات التي عندك لها حلول. وعلى أيّ حال أصلحنا بينهما. بالطبع أنا لا أقول لا سمح الله أن نقوم يومًا ما... إنّ جميع هذا الأنس والمحبّة هو أنس ومحبّة إلهيّة، فلا نقوم بإفسادها. 

    1. ۱- سورة الزّخرف (٤٣)، الآية ۷۱.

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

11
  • على كلّ حال، فالكلام هو حول موضع الحقيقة وموضع المجاز، هذا هو محلّ الكلام، فأين الجمال الحقيقيّ وأين الجمال الاعتباري؟ وأنت عليك أن تستنتج التفاصيل من هذا الإجمال. إنّ ما نحمده ونثني عليه ونمجّده في هذا العالم هو كلّه على أساس تنزّل الصفات والأسماء الجماليّة والجلاليّة لله في عالم الوجود. غاية الأمر أنّا لا نرى ذلك المبدأ، ولا ننظر إلا إلى الأسفل. يا سيّدي إنّ طرف الحبل هذا له ابتداء في الأعلى. فلو انقطع من الأعلى لانقطع من الأسفل. فلماذا تنظرون دائمًا إلى الأسفل، فلهذه القصّة رأس في الأعلى.

  • من صاحب الاحترام الحقیقيّ؟ (حقيقة العلاقة بين المحاضر والحضور)

  • فمثلاً افترضوا أنّكم تحبّونني ولي عندكم مودّة، ففي النهاية هذا شرط الرفقة وليس هناك أمر أكثر من ذلك، ففي النهاية لا بدّ من مساعدة المساكين، لا بدّ من الأخذ بأيدي الفقراء. وما أقوله لكم أنتم تعلمون أنّي لا أقوله عن تواضع وكسر للنفس، ولا شكّ أنّ الأصدقاء يعلمون بوضعي، فأنا أعلم بنفسي (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‌ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ویعلم على أيّ حال هو، وعلى كلّ حال فالأحوال الآن هي هكذا. فلأقم أنا الآن باختبار نفسي وأضعها على محكّ التجربة وبوتقة الامتحان، فلماذا تحبّونني أنتم؟ لماذا تكنّون لي المودّة؟ للوهلة الأولى لكوني سيّدًا. فهل هذه السيادة لي؟ أو لانتسابي إلى النبيّ؟ فهذا لأجل الانتساب إلى النبيّ، فأنا هنا صرت بلا سلاح. ففيما يرتبط بالاحترام الذي تقدّمونه إليّ وللوهلة الأولى لأجل السيادة والانتساب إلى رسول الله، إنّ احترام السيّد أمر جيّد ومستحسن، لا لأنّي سيّد بل لأنّ هذه حقيقة ولها ثواب، وفيها رواية، وذلك لأجل رسول الله، لا لأجل الإنسان نفسه. فإذن بناء على ذلك هل عليّ أن أرى هذه المحبّة والمودّة من الأصدقاء على أنّها حقيقة أم مجاز؟ إنّها مجاز. فالأصدقاء لا يريدونني أنا بل يريدون النبيّ. النبيّ الرسول الأكرم، فخر عالم الكائنات، أب جميع الأمّة، مبدأ عالم الوجود، الرحمة للعالمين هو الذي أدّى إلى أن تحترموا أبناءه وذريّته. فهذا أمر بيّن واضح. 

  • الأمر الثاني الذي يجعلكم تحترمونني وتكنّون لي المودّة ـ والآن إريد أن آخذ منكم إقرارًا ـ أليس هو اتّباعي مدرسة ذلك الكبير المرحوم الوالد رضوان الله عليه والاقتداء به ومعرفتي الصحيحة بمدرسته؟ فهناك الكثير من المدارس لماذا لم تذهبو إليها؟ لم يجبركم أحد على ذلك، لم يأت أحد بكم بالبندقيّة، بل جئتم باختيار أنفسكم، فواحد يأتي من الأهواز وواحد من كرمان وواحد من أصفهان، فكثير من الأصدقاء جاؤوا من أصفهان، وبعضهم من قزوين، ومن كرج، ومن طهران، هذا إذا حجّمنا المسافة. فلماذا تأتي إلى هنا؟ لماذا؟ لأجل أن تقرّب نفسك إلى ذلك المبدأ. أليس كذلك؟ لكي تقرّبوا أنفسكم من هذا المسير، لكي تجعلوا أنفسكم في ذلك الوادي، وتقولوا: نحن أيضًا جئنا، نحن كنّا، أن تقفوا يوم القيامة أمام السيّد محمّد الحسين أمام الوالد أن يا سيّد محمّد حسين نحن جئنا إلى هنا لكي نسمع الكلام الذي كان يدّعيه ابنك وينقله عنك، جئنا لنسمع ذلك. هذه هي المسألة في النهاية، نحن نتحدّث من دون مجاملة، بشكل صريح، كلام أصدقاء، فنحن أصدقاء. لأنّا لا يمكننا أن نتملّق أمامكم، فنحن نتكلّم كلام الأصحاب. لأجل مطالعة كتبه، لأجل تلك الحقيقة أنتم جئتم إلى هنا، فهناك أماكن أخرى وهي كثيرة أيضًا. 

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

12
  • بعد وفاة المرحوم العلامة رضوان الله عليه، وفي الليلة الرابعة، تحدّثت بحديث إلى الأصدقاء: يا سادة! إنّ هذا العظيم قد فارق الدنيا، ولكنّ الله لم يفارق الدنيا. هو أمره سهل، الأعلى منه من الأولياء والأئمة والنبيّ جميعهم ذهبوا تحت التراب ـ بالطبع أبدانهم ذهبت تحت التراب ـ كلّ هؤلاء ذهبوا تحت التراب. ذلك التراب الذي نثرناه عليهم هو بعينه نثر على النبيّ وأمير المؤمنين. ليس هناك من هو أرفع من النبيّ، ولكنّ سجلّ الله لم يطو، بل سجلّ هذا السيّد، الذي جاء في هذه المدّة، هذا العبد الصالح الذي قام بهذه المسائل والأعمال وأدّى هذه الوظائف، وكتب هذه الكتب، ونحن نعلم ما هي المسائل التي تحمّلها، ثمّ قام بوظيفته و (قَضى‌ نَحْبَهُ)۱ وسار فی طريقه إلى لقاء الله ومضى. لا بأس فالله لا يزال موجودًا. ذلك الله الذي كان في ذلك الزمان موجود، وأقول: طريق الله ليس طريق الخداع، لقد قلت ذلك تلك الليلة: طريق الله ليس طريق الكذب، طريق الله ليس طريق الاحتيال، طريق الله ليس طريق فتح المتاجر والاتّجار بالمريدين. طريق الله طريق الصدق، في هذا السوق يشترون متاع الصدق، وغير الصدق مهما كان هو لأهله، هنا لا يشترون إلا الصدق، هنا لا يشترون إلا الإخلاص. لكلّ إنسان من يستفيد منه، فمن لم يذهب إليه فهو معاقب ومؤاخذ يوم القيامة، فعليه أن يذهب إليه، فطريق الله ليس فيه ذاك الكلام، أنتم جئتم لأجل هذه الأمور، لأنّكم رأيتم كتبه وطالعتموها، وجدتم حقيقة إمّا أنّها في سائر الكتب كانت أقلّ ، أو أنّ ما في تلك الكتب لا يفيدكم، في النهاية يمكن أن تكون، ولكن على أيّ حال اطلاعنا واطّلاعكم على القضايا هو في هذه الحدود. أنتم جئتم إلى هنا تنظرون فوجدتم أنّي جئت أدّعي مطالب سمعتها منه ورأيتها، وتجربة كانت لي معه أضعها بين أيدي الأصدقاء والإخوان والأخوات، هل الأمر هو غير ذلك؟ فإذن ما ربط المسألة بي أنا؟ ما علاقتي أنا بذلك؟ لو كان هناك إنسان آخر غيري ألم تكن المسألة كما هي الآن؟ فإذن مودّتكم لي ماذا تصبح؟ تصبح اعتباريّة. لا بمعنى أنّ الاعتباريّ لا قيمة له، لا، بل المراد هو أن أقيس في وجداني وأرى هل جئتم لأجل الخصوصيّات التي فيّ فتحبّونني من أجلها، أم لأجل انتسابي إليه وهذه الحالة التي نحن عليها الآن؟ لأجل ذلك. لو نظرنا لرأينا المسألة ترجع إليه، فلماذا أنسبها إلى نفسي؟ وليس في هذه المسألة أيّ مزاح. أقولها لكم بصراحة، ولست أتواضع، أو أتظاهر بالحسن، ولا أحتاج إلى هذه الأمور أبدًا، أتكلّم بهذا الكلام حتّى لا يأتي أحد غدًا يقول: كم كان رجلاً جيّدًا لقد تواضع. في النهاية يقال ذلك، يتكلّم أحدهم فيقولون: ما شاء الله كم تواضع هذا الرجل؟ لا يقولون لم يكن مؤهّلاً أصلاً، بل يقولون: لا، أرأيتم؟ كم هو عظيم! كم هو كذا... كم هو متواضع! لا يا سيّدي العزيز، فالمسألة ليست مسألة تواضع. لا تقيّة ولا تواضع، ولا شيء من هذا الكلام، لا شيء، بل أقول لكم الحقيقة، إن شئتم قبلتم بها وإن شئتم رفضتموها، فهذه حقيقة. 

    1. - سورة الاحزاب (٣٣) قسم من الآية ٢٣

وضع الحقائق والاعتباريات في مواضعها

13
  • فهذا اعتباريّ وذاك حقيقيّ. أمّا لو أردنا أن نعمّق المطلب أكثر من ذلك فننظر إلى المرحوم العلامة نفسه لرأينا أنّ مسألة الحقيقة والاعتبار أيضًا موجودة بالنسبة إليه؛ فمن الذي أوجد هذه المودّة له؟ أيّة عناية سبّبت أن يصل إلى هذا الحدّ؟ فالعناية ماذا تكون؟ عناية الله. فإذن كلّ ذلك يرجع إلى من؟ إلى الله، وقد كان هو يعلم ذلك، ونحن الذين لا نعلم. أنا أقول بالكلام، وأمّا في مقام الامتحان نبدأ بالتساؤل لماذا ولماذا؟ التفتوا جيّدًا يا سادة! نبدأ بالتساؤل لماذا لماذا؟ ونتّخذ موقفًا. فلنلتفت، إنّ يومَي الدنيا هذين لا يستحقّان أن يقضيهما الإنسان بالاعتبار، فلا قيمة لهذه الأمور. ماذا عليه أن يصنع؟ على الإنسان أن يبحث عن الحقيقة. 

  • وحاصل الكلام أنّ كلّ ما نعدّه نحن حقيقيًّا هو اعتباريّ، ومردّه إلى نزول الأسماء والصفات الجماليّة والجلاليّة لله على أصل الوجود وشوائبه. وهذا نتركه إلى الجلسة اللاحقة. 

  • فتح الله أعيننا ومشاعرنا على المدركات الحقيقيّة وعلى معارفه، ولا قصّر أيدينا عن حبل ولاء أهل بيت العصمة والطهارة في الدنيا والآخرة، ولا وكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وجعلنا في كلّ يوم أوفر نصيبًا وتمتّعًا من سابقه، وعجّل في فرج إمام الزمان عليه السلام وجعلنا من الشيعة الحقيقيّين والذابّين عن حريمه. 

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد