المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمجبل عامل
المجموعةالدفاع عن الفلسفة والعرفان
التوضيح
في محاضرته الثانية للردّ على الشبهات والتهم الموجهة للفلسفة والعرفان، تحدّث آية الله سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله سرّه) عن أدلّة المدّعين أنّ الفلسفة لم تنشأ مِنَ الإسلام والردود عليهم، وِمن تلك الردود أنّ العلوم الظاهريّة كالطب وغيرها لم تكن وليدة الإسلام أيضًا، إلّا أنّه لا يمكننا الاستهانة بها. وبَيّن الأدلّة الّتي توجب الاستفادة مِنَ الفلسفة والبراهين العقليّة. ثم ردّ على مَن يقول بعدم إمكانيّة الوثوق بالحكمة بحجّة أنّ مسائلها لم تُذكر في الشرع، ومِن تلك الردود أنّ الآيات والروايات قد صرّحت بالمسائل التوحيديّة، واستعرض أمثلة كثيرة على ذلك، مؤكّدًا أنّه لا يمكن أن يَفهم الروايات التوحيديّة إلّا مَن تعلّم الفلسفة وانكشفت الحقائق في قلبه. ثمّ أشار إلى أنّ الإشكال المعروف حول واجب الوجود وممكن الوجود، لا يستطيع أحد حلّه والجواب عليه إلّا الحكماء والفلاسفة. وقال أنّ مَن يتّهم العرفاء والفلاسفة الإسلاميين بالكفر والنجاسة هو حتمًا جاهل، فالإسلام نفسه دعانا للتأمّل والتفكّر. ثمّ دافع عن العرفان بسرده قصّة وقعت بين أحد أبرز علماء النجف في عصره وبين العلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ (قدّس الله نفسه)، حيث نصحه الأوّل بعدم متابعة المسائل العرفانيّة والسلوكيّة وردّ الأخير عليه.
هو العليم
الردّ على إشكال أنّ الفلسفة لم تنشأ مِنَ الإسلام
الدفاع عن الفلسفة والعرفان – الجلسة الثانية
محاضرة القاها
آية اللـه الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس اللـه سره
أعوذ بالله الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على خير خلقه وأشرف بريّته
محمد الحميد المحمود وعلى آله أمناء المعبود
مِن أدلّة المخالفين للحكمة على بطلان الحكمة والردود عليه
قلنا في الأمس أنّ الحقيقة واحدةٌ في عالَم الوجود، وأنّ الطرق إلى هذه الحقيقة مختلفة. والحقيقة هي اللهُ تعالى وأسماؤه وصفاته وأفعاله ومظاهره في هذه النشأة وفي نشأة الشهادة وفي مناشئ الغيب والعوالِم الغيبيّة والملكوتيّة، بالنسبة إلى الدنيا والآخرة. ولكنّ المخالفين لطريقة العرفان يستدلّون بأدلّة [على بطلان هذه المسائل]، وإحدى هذه الأدلّة أنّهم يرون أنّ المسائل الحكميّة والفلسفيّة نشأت مِن غير الشرع ومِن غير الإسلام، يعني أنّها دخلت في الشرع مِن خارج الشرع، فهذه المسائل كانت قَبل الشرع في زمن اليونانيين، ثمّ تُرجمت إلى العربيّة في زمن الأئمّة عليهم السلام، وعلى هذا لا بدّ أن نقول أنّها غير ممضاة مِنَ الشرع.
والجواب [على كلامهم هذا] هو أنّ أكثر العلوم، لم تكن مِنَ الشرع، كعلم الرياضيّات والهيئة والفيزياء والكيمياء، فأغلب العلوم لم تكن مِنَ الشرع، ومع ذلك فنحن نعمل بها، ولا بدّ أن نعمل بها، إذ لا بدّ للإنسان أن يُراجع الطبيب [مثلًا] في هذه الأزمنة وفي هذا العصر، مع أنّه يوجد في العلوم الطبيّة ما لم يكن مِنَ الشرع، وكلّ هذه الأجهزة الّتي تُعِدُّ البيانات والمعلومات [وتشخّص] الأمراض، لم تكن مِنَ الشرع بأجمعها، بل كانت مِنَ الخارج، ولكن إذا تسامح الإنسان وتساهل في [الرجوع إلى عِلم الطبّ]، ثمّ وقع له حادث، سيكون معاقبًا يوم القيامة وسيُسائله الله.
ثمّ إنّا نسأل هؤلاء الأفراد [المعارضين للحكمة] أنّه إذا قلنا مثلًا أنّ المسائل الحِكميّة والعقليّة لم تكن ممضاة مِنَ الشرع [ولا يمكن الاحتجاج بها]، فبأيّ طريق نواجه المعاندين والمخالفين الخارجين عنّا؟! هل سيقبلون كلامنا [وأدلّتنا] إذا كانت أحاديثًا نبويّةً، هل سيقبلون كلامنا [وأدلّتنا] إذا كانت آياتٍ قرآنيّةً؟! أبدًا [لن يقبوا بذلك]؛ يعني كيف للمسيحيّ أن يقبل الآيات القرآنيّة، حتّى [يصحّ أن] نقول له إنّ الشاهد على التوحيد هو سورة التوحيد أي {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}۱؟! فإنّه لن يقبل بذلك. وكيف يمكن أن نتكلّم [ونحاجج] اليهود والنصارى أو الشيوعيّين وغيرهم مِنَ المخالفين في العالَم؟! [أيصح ذلك] بالروايات المنقولة عن الأئمّة؟! فإنّ هذا [سيكون مدعاة] للسخرية والاستهزاء! بل لا بدّ أن نتكلّم معهم بما يُفهمهم ويُقنعهم، وهل هذا إلّا الأدلّة العقليّة؟ فماذا يقول المعاندون [والمخالفون للحكمة] في هذا الأمر، وبماذا يجيبون! فنحن نتكلّم مع النصارى في مسألة التوحيد، في أنّهم قائلون بالتثليث أي (الأب والابن وروح القدس) ومع ذلك يقولون بالتوحيد. فنجيبهم بمسألة حِكميّة وفلسفيّة وهي أنّ الأمر الحقيقيّ والواقعيّ الخارجيّ إنّما هو واحد، لا يمكن أن يكون ثلاثة؛ وعليه، فلا يمكنهم الإجابة أبدًا أبدًا. فهل يصحّ لمخالفي الحكمة أن يجيبوا النصارى بالقول: يوجد في قرآننا {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}٢؟! فإنّهم لن يقبلوا بذلك، وسيقولون: هذا دينكم ولنا ديننا، فإن كان ذلك موجود في قرآنكم، ففي كتابنا يوجد التثليث. يعني لا يمكننا أبدًا أن نواجههم ونحاججهم بأدلّتنا النقليّة، أبدًا لا يمكن ذلك. هذا بالنسبة إلى النصارى، وكذا الحال بالنسبة إلى سائر الشُعب، إذ كيف يمكن أن نجيبهم بالمسائل النقليّة؟! فإنّهم سيسخرون منّا.
خطر الآن ببالي قصّة وقعت بين العلّامة فخر الإسلام ومفخرة الشيعة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ (مدّ ظلّه) وبين آية الله العظمى السيّد محمّد حسين البروجرديّ الّذي كان في قُم؛ فإنّ العلّامة الطباطبائيّ لمّا جاء إلى قُم مِن موطنه تبريز، وذلك بعد رجوعه مِنَ النجف الأشرف، شرع بدراسة العلوم الحكَميّة، ولم يكن قد حصل ذلك قبل تواجد العلّامة في قُم – هذه المسائل
الّتي أقدّمها لكم هي مِن أدقّ المسائل، والدقّة والتأمّل فيها يفيد، خصوصًا في هذا الزمان وفي هذا العصر وفي هذه المنطقة، مع ما يمكن أن تواجهوه مِن إشكالات مِن بعض النواحي – والأفراد الّذين يقولون أنّ الحوزات العلميّة كانت بصدد ترويج المسائل العرفانيّة والفلسفيّة، فإنّها كذب بأجمعها، أبدًا أبدًا، لم يكن قَبل العلّامة الطباطبائيّ في الحوزة العلميّة في قُم درسُ فلسفةٍ أبدًا، وبعد أن شرع العلّامة الطباطبائيّ في الدروس الحِكميّة كان تلامذته يخافون مِنَ الأفراد ومِن زملائهم، وكان أستاذي في العلوم العربيّة والإسلاميّة يقول لي: عندما كنتُ أحضر درس السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، كنتُ أخفي كتاب الأسفار في عباءتي حتّى لا يراه الناس، وقد أخذ السيّد العلّامة الطباطبائيّ بإشهار الدروس الحِكميّة والفلسفيّة، وكَسر المانع والحاجز لتربية النفوس والأفكار والعقل، فشرع في التدريس، رغم ما واجهه من اتّهامات وأمور، [ورغم] ما كان يُحكى خلف ظهره. وقد حدّثنا السيّد الوالد (رحمه الله) بهذا القصّة، فهو كان قد سمعها مِنَ العلّامة الطباطبائيّ، لأنّ السيّد الوالد كان تلميذ السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، فقال: أرسل آية الله السيّد محمّد حسين البروجرديّ شخصًا [برسالة إلى العلّامة الطباطبائيّ، يقول فيها] إنّ الناس الّذين يرجعون إليه، مِنَ التجّار والكسَبة، يعتقدون بأنّ أموال الخمس وسهم الإمام لا بدّ أن تُصرف في العلوم التفسيريّة والفقهيّة والحديث، لا في المسائل الحكميّة والفلسفيّة، ولهذا أتمنّى منكم أن تعطّلوا هذه الدروس – أي الدروس الحكميّة – لأنّ الأفراد الّذين يعطون الخمس لا يرضون بصرف الأموال على الطلبة الّذين يتعلّمون الحكمة والفلسفة. [أقول:] واقعًا، هذا كلام عجيب مِن شخصٍ عالِم مثل البروجرديّ، عجيب!! وقد أجابه السيّد الطباطبائيّ بأنّه كيف للأفراد الّذين يرجعون إليكم أن يقولوا ذلك! فإنّ التاجر والكاسب، لا يحقّ له أن يُبدي رأيًا في هذه المسألة، فإنّ وظيفة التاجر هي [فقط] أن يرجع إلى المجتهد ويعطيه أموال خمس الإمام عليه السلام وسهم السادة، فكيف جاز له أن يتصرّف [ويفرض شرطًا] في هذه المسألة! ليس هناك ارتباطٌ أبدًا بينه وبين هذه المسألة حتّى يتصرّف [ويفرض شرطًا فيها]، فهذه المسألة ليست مرتبطةٌ به أبدًا، بل هي مِن شأن المجتهد أن يصرف هذه الأموال في المصلحة الّتي يراه هو، ولا يجوز للإنسان والمسلم أن يعيّن للمجتهد التكليف، وأن يعيّن له المصارف، وأن يعيّن الموارد، [كأن يقول المكلّفُ للمجتهد:] لا بدَّ أن تصرف هذه الأموال في هذه القضايا وفي هذه المسائل! [هذا لا يصحّ] أبدًا، بل هي سخرية، ولا يمكن أن يكون. هذا أوّلًا، وثانيًا: توجد الآن في الدول الغربيّة، ما يُقارب مئة وعشرين مؤلَّفًا ومجلّدًا ضخمًا يردّون بها على الدين الإسلاميّ بالأدلّة العقليّة، فإن كان لديكم أنتم وأصحابكم مؤلّفًا واحدًا فقط يُجيب تلك المؤلّفات، فسأعطّل دروسي كليًّا ولم يجبه السيّد البروجرديّ أبدًا، وأجاز له أن يستمرّ بالدروس الحِكميّة.
فنحن لا يمكننا أن نواجه مسائل المخالفين الّتي يهجمون بها على الاعتقادات والمباني الشرعيّة، إلّا بالمسائل العقليّة؛ فهم أوّلًا لا يعتقدون برسولنا ونبيّنا، ولا يعتقدون بالقرآن، فكيف سيعتقدون بروايات الأئمّة، وكيف سيقبلون بذلك [كأدلّة وحجج]! فإنّ هذا القول مِنَ السخافة بمكان، ومِمّا يُضحك الأطفال. هذا الدليل الأول.
ومع هذا، لا بدّ أن نوضّح أنّ المسائل الحكميّة الّتي تُرجمت إلى العربيّة في زمان الأئمّة عليهم السلام، كانت مسائل بسيطةً جدًّا، فإنّ الكتب المؤلّفة في زمن أفلاطون وحكماء اليونان موجودة بأجمعها بين أيدينا الآن، وهي مجلّدات خفيفة، بمعنى أنّها تشتمل على أوراق [قليلة]، وليست مجلّدات ضخمة وثقيلة كالّتي لحكماء الإسلام وحكماء الشيعة بعد زمن الأئمّة عليهم السلام. وعندما دخلت تلك المسائل في الإسلام، تكلّم حولها علماء الإسلام وعلماء الشيعة وبدّلوها وغيّروها مِن هيأتها القديمة بهيأتها الجديدة، وجمعوا بينها وبين المسائل الفقهيّة والشرعيّة، وأخذوا يربطون ويجانسون بين المسائل الحِكميّة والمسائل الشرعيّة. ونحن نعتقد الآن أنّ هناك فرق بعيد بين [كتاب] الأسفار للحكيم المتألّه صدر الدين الشيرازيّ وبين المسائل اليونانيّة والحِكميّة قَبل الإسلام؛ فهذا الرجل الفخم والعظيم، آلف بين المسائل الحكميّة والمسائل الشرعيّة والمكاشفات العرفانيّة، فهذه الفلسفة الّتي بأيدينا الآن لا ارتباط لها أصلًا وأبدًا بالمسائل الّتي كانت قَبل الشرع وقَبل الإسلام، مع أنّ في تلك المسائل مسائل توحيديّة. هذا الأمر الأوّل.
دليل آخر للمخالفين للحكمة على بطلان الحكمة والردود عليه
والدليل الآخر الّذي يقدّمه المخالفون [للحكمة]، هو أنّ مسائل الحكمة ليست مِنَ الشرع، فهم لم يجدوا هذه المسائل في الشريعة، ولو كانت ممضاة مِنَ الشارع لوُجِدَ في كلامه أمثال تلك المسائل، أي لوُجِدت في القرآن الكريم وفي روايات الأئمّة وهكذا.
والجواب عن هذا الإشكال، هو أنّنا نجد [ذلك] في الآيات القرآنية، كآيات التوحيد، فهي تُنبئ عن تلك المسائل [الحِكميّة]؛
كما في سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}۱، فإنّ كلّ هذه الآيات عبارة عن مسائل توحيديّة، لا يمكن أن يصل المرء إلى مغزى ومفهوم هذه الآيات إلّا بالتدقيق في المسائل الفلسفيّة؛ فما هو معنى {الصَّمَدُ}، ما هو معناها؟ وماذا يقول هؤلاء في معنى {الصَّمَدُ} ؟ {الصَّمَدُ} يعني غير مجوّف، يعني مليءٌ غيرُ مجوّف، يعني لم يكن بطنه خاليًا، فوجود الصمد أَملَأَ وأخرج كلّ الأشياء في عالَم الوجود، هذا هو معنى الصمد؛ وهذا المعنى وحقيقة هذه القضيّة، هو وحدة الوجود.٢
[وفي قوله تعالى] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ۱، فماذا يقولون في معنى هذه الآية؟ [فهل قوله] فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ، يعني أنّه استوى على السماء وجلس! فإنّ هذا شرك. [وهل قوله] وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، يعني أنّه جلس هنا كجلوسنا! فإنّ هذا هو الشرك.
[وفي قوله تعالى] {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}٢، فما هو معنى هذه الآية؟ فإنّ كلّ ما يرتبط بالإنسان ليس كارتباط [الإنسان] بنفسه، مثلًا فإنّ الأبناء يرتبطون بوالدهم، والأولاد يرتبطون بوالدتهم، وللزوجة ارتباطٌ بزوجها، والأب والأمّ يرتبطان بأولادهما، ولكن كلّ هذه الارتباطات ليست بشدّة وقوّة ارتباط نفس الإنسان بنفسه، فارتباط الإنسان بنفسه وأقربيّته إلى نفسه أقوى مِن جميع القرابات والارتباطات والأولويّات، صحيح؟ ثمّ إنّ الآية تُنبئ بأنّ الله تعالى أقرب إلينا [مِن أنفسنا]، فكيف يكون ذلك؟ يعني أنّنا ذوات إرادة واختيار فيما يخصّ أنفسنا وحركة أيدينا وأرجلنا، ونفكّر كيفما نشاء، ونختار ما نشاء، ونرى ما في صالحنا كيفما نشاء، هذا بالنسبة إلينا، وذلك لأنّنا أقرب إلى أنفسنا مِن كلّ شيء، [ثمّ إنّ] الله أقرب إلى أنفسنا [منّا]، فماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّ الله تعالى داخل في هذا الشيء [بحيث] يكون أقرب مِن هذا الشيء إلى نفسه؛ وهذا، هو معنى قاعدة (بسيط الحقيقة كلّ الأشياء)، الّتي هي مِنَ القوانين والقضايا الفلسفيّة. فماذا يقول المخالفون [للحكمة]، وبماذا يجيبون في خصوص هذه الآية؟
وكآيات سورة الحديد {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}٣، فما هو معنى (الظاهر والباطن)؟! فـ(الظاهر)، يعني كلّ ما نراه مِنَ الظواهر، كالأشجار والأرض والسماء وهذا الكرسيّ ... جميعها هو ظاهر الله تعالى. و(الباطن)، يعني أنّ حقيقة هذه الأشياء وباطنها وربّها هو الله تعالى. فما هو معنى (الظاهر)؟ هل معناه أنّنا نرى الله تعالى، فهل نحن نراه؟! أبدًا [لا]، مع أنّه هو الظاهر. فما معنى (الظاهر) حينئذ؟ ومع أنّه هو الباطن؛ إنّ هذا، هو معنى حقيقة الوجود؛ فمسألة حقيقة الوجود تُثبت أنّ حقيقة الوجود هي حقيقة واحدة وهي الله تعالى، وجميع الأشياء الّتي نراها في الخارج هي مظاهرُ الله تعالى، وهذه مسألة [تُسمّى] بمسألة حقيقة الوجود.
هذا بالنسبة للآيات القرآنيّة الكثيرة، وتبيين هذا الأمر لكم [بما ذكرتُ مِن آيات] هو بحدود المثال، فأنا قد بيّنت أمثال هذه الآيات، والحال أنّ الآيات القرآنيّة كلّها تشير إلى ذلك.
أمّا بالنسبة إلى روايات الأئمّة، فأنظروا إلى خُطب نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام، [كقوله:] «داخل في الأشياء لا بالممازجة، وخارج عن الأشياء لا بالمزايلة»۱؛
فما هو معنى (داخل في الأشياء لا بالممازجة)؟ فهل [المسألة] هي كخلط السكّر مع الماء فيكون طعمه بهذا الشكل، يعني هل [المعنى] هو كضمّ هذا السكّر مع هذا الماء بهذا الشكل؟ لا، بل داخل في الأشياء لا بممازجة هذا الشيء بشيء آخر، يعني أنّ الله تعالى داخل في هذا الماء، وأنّ الله تعالى في هذا الكوب، وأنّ الله تعالى داخل في الأرض (داخل في الأشياء) يعني في جميع الأشياء، سواء في عالَم الشهادة وعالَم الغيب، لا بالممازجة، أي لا بالاختلاط ولا بالخلط ولا بالتركيب.
(وخارج عن الأشياء لا بالمزايلة)، يعني أنّ الله تعالى خارج عن هذا الماء لا بالمزايلة، [وعدم المزايلة هو نفي لكون الخروج] كخروج الماء وانعزاله عنّا، وكانعزالنا عن هذا الصديق، [أي] لا بالمزايلة. فإنّ هذه المسألة هي مسألة حقيقة الوجود، فماذا يقولون في هذا الأمر؟!
ويوجد [غيرها] مِنَ الروايات، وجميع خُطب نهج البلاغة موجودة بأيدينا.
هم يجيبون عن هذا الإشكال بأنّ خطب نهج البلاغة – لاحظوا فهذا واقعًا عجيبٌ – ليست مسندةً أبدًا! [أقول:] هذا [كلام] عجيب!! [فإن كان ذلك مبناهم]، فكيف يتفوّهون [بخطب نهج البلاغة]!! وكيف يخطبون ويحكون عن نهج البلاغة نقلًا عنكم، وهم على منابركم!! وكيف يُبيّنون خطب أمير المؤمنين عليه السلام ورسالته إلى مالك الأشتر النخعيّ وغيرها! أم أنّ الروايات [الّتي بهذا الخصوص] هي فقط غير مسندة! أم هل خصوص هذه الخطبة لم تكن مسندة! مع أنّنا إذا رأينا خطب نهج البلاغة سنجدها جميعها على نسق واحد، يعني أنّ الكلام الّذي تكلّم به [أمير المؤمنين] في الخطبة الشقشقيّة وفي خطب [أخرى] وفي وصيّته الّتي كتبها للإمام الحسن عليه السلام في حاضرين – وهم يقولون بذلك ويقبلون به – نجدها على عَلَمٍ واحدٍ وكلامٍ واحد ولسانٍ واحدٍ، فكيف ينفون [والحال هذه] النسبة بين خطب نهج [البلاغة] وبين أمير المؤمنين عليه السلام!!
ومع هذا، فإنّ مِنَ الواضح والبديهيّ أنّ السيّد الرضيّ رحمه الله هو الّذي جمع في زمانه هذه الخطب، فنسألهم مَن مِن زمن النبيّ إلى زمن السيّد [الرضي] تمتّع بهذا العِلم، حتّى يخطبَ وتصدرَ منه هذه الخطب؟! يقولون: نحن لا نعلم. [أقول:] مِنَ البديهيّ أنّ هذه الخطب لم تصدر [ولم تُجمع] بين زمن الرضيّ وزماننا هذا، وإنّما الّذي جمعها هو فقط السيّد الرضيّ، فنسألهم: مَن يمكن أن يكون العالِم الّذي تكلّم بهذه الخطب مِن زمن النبيّ إلى زمن [السيّد الرضيّ]؟ وُجِد على طول هذه القرون شخصٌ واحد وهو يعقوب بن إسحاق الكنديّ، ومؤلّفاته موجودة عندّي، وهي كالجريدة اليوميّة بالنسبة إلى آيات القرآن، يعني أنّ كلامه بالنسبة إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام [ككلام] الجريدة اليوميّة بالنسبة إلى آيات القرآن، مِن حيث الفصاحة والمغزى والمفهوم وغير ذلك؛ فمَن يمكن أن يكون حينئذ ذلك العالِم [الّذي خَطب تلك الخطب غير أمير المؤمنين]؟! فليحفظنا الله بحقٍّ مِن هذه الزمرة. واقعًا، بماذا سيجيبون يوم القيامة عن هذه السخرية! بماذا سيُجيبون [عندما يُسألون] عن نَسْبهم هذه الخطب لغير أمير المؤمنين؟!
ولو نفينا كون هذه الخطب لأمير المؤمنين، فماذا يقولون بالنسبة إلى ساير الأئمّة، [فلدينا] خطب وروايات، كما في كتاب (التوحيد) للصدوق، عن الإمام الرضا عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والإمام الكاظم عليه السلام والإمام الجواد عليه السلام، ماذا تقولون في هذه الروايات المسندة، ماذا تقولون فيها؟! ليس عندهم جوابٌ أبدًا. إنّ الروايات موجودة لن يصل أحدٌ إلى مرتبة فَهم مغزى ومراد هذه الكلمات العجيبة – الكلمات العجيبة – إلّا إذا تعلَّم الفلسفة أو انكشفت الحقائق والحُجب عن قلبه، إلّا أن يتعلّم الفلسفة. ويوجد هنا رواية مروية عن الإمام السجّاد عليه السلام حيث قال: "لَمّا علِم الله أنّه سيوجد في آخر الزمان أفرادٌ وأشخاصٌ يفهمون حقيقة التوحيد، أنزل على النبيّ سورة التوحيد والآيات الستّ الأُوَل مِن سورة الحديد".۱ هذا يعني أنّ الأفراد في طوال هذه السنوات، مِن زمن الشارع إلى آخر الزمان، لم يصلوا إلى حقيقة المسائل التوحيديّة ومسألة حقيقة الوجود، [إلّا بعض الأفراد في آخر الزمان]. وقد اعترف بعض الأفراد بذلك.
الردّ الوحيد على شبهة ابن كمّونة هو قاعدة (وحدة الوجود) الفلسفيّة
يوجد عندنا قضيّة عويصة في المسائل الفلسفيّة نسميها بشبة ابن كمّونة؛ نحن نُثبت أنّ واجب وجود هو الواحد، وأنّ باقي الممكنات هي ممكنة الوجود وليست واجبة الوجود، وإنّما هي معلولات للواجب، وأنّ الفرق بيننا وباقي المظاهر وبين الله تعالى هو أنّ الله واجبٌ ونحن ممكنات الوجود ومعلولات ومخلوقات لله تعالى. فابن كمّونة يقول: لِمَ يمتنع أن نأخذ إلهين مستويين في جميع الجوانب والجهات، يصدق عليهما عنوان واجب الوجود، لماذا يمتنع ذلك؟! فمعنى كلامه هو أن نأخذ إلهين لديهما جميع الصفات والأسماء والخصوصيّات، فيكون هذا واجبَ الوجودِ، وذاك أيضًا واجب الوجود، فما المانع مِن ذلك؟! وأولئك العلماء لا يقدرون أبدًا أبدًا وإطلاقًا أنّ يجيبوا [عن ذلك] ولو بجملة واحدة، أمّا الحكماء والمتألّهون والفلاسفة هم فقط مَن لهم منطقٌ ودليل للردّ على هذا الشخص، وذلك بمسألة حقيقة الوجود ووحدة الوجود؛ يعني أنّه [باستطاعتنا أن] نجيب هذا الشخص فقط بمسألة وحدة الوجود، والّتي تقول أنّ الوجود لا بدّ أن يكون واحدًا، لا يمكن التكثّر فيه، وتمتنع المماثلة والمشاكلة للوجود، فنحن نجيبه فقط بهذه القاعدة وبهذا الشكل (...)۱.
نحن مأمورون بالتدبّر والتعقّل
إنّ هذه المسائل عقليّة، {قُلْ فَلِلَهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}٢؛ فلنستمع لهذه المسائل، فإمّا أن نقبل بها أو لا نقبل، فما المحذور في ذلك؟! هل يمكن لشخص أن يربط الآخر ويقول له: لا بدّ أن لا تفكّر في هذه القضيّة؟! لا، إذ الحكم بيد الإنسان، وللإنسان أن يفكّر كيفما يشاء. ومع ذلك، لا يمكن لهؤلاء الأفراد والعلماء أن يقولوا: لا تفكّروا في هذه الروايات والآيات القرآنيّة وفي هذه الأدلّة! [لأنّهم سيُجابون] حينئذ: ولِمَ ذلك، فهذه مسائل فقهيّة، وهي أدلّة الاستنباط، وهي مسائل أصوليّة، فلماذا يجب أن نردّ هذه القضايا وهذه المسائل وهذه الأسس؟! وعليه، لا يجوز لنا، ولا يجوز لهم، القول: لا تفكّروا في المسائل! لِمَ ذلك، فالفكر بيد الإنسان؛ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ}٣، فالله تعالى يأمر الإنسان بالتدبّر والتعقّل؛ {فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}٤، فالخطاب والعتاب والمعاتبة هي مع الّذين ليس بأيديهم حجّة، أمّا الأفراد الّذين يملكون حجّةً فلا خطابٌ ولا عتاب ولا تهديد ولا إزعاج بالنسبة إليهم؛ فقد جاء يهوديّ بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة، وسأل عن الوصيّ بعد النبيّ، فقالوا: هذا الشيخ أبي بكر. وأشاروا إليه وهو على المنبر. فقال اليهوديّ: عندي أسئلة. قال أبو بكر: سَلْ. قال: مَن إلهك؟ قال: إلهنا إله واحد. قال: في أيّ مكان هو؟ قال: في السماء. قال: على هذا، لا يكون في الأرض! فقال أبو بكر: اضربوه وأخرجوه مِنَ المسجد. قال: على الإسلام السلام.٥ [أقول:] أهكذا يجيبون! إنّ هذا منطق العجزة، هذا منطق الشيخين، هذا منطق الخلفاء الغاصبين الّذين ليس لهم حجّة وليس عندهم حجّة وليس بأيديهم حجّة، [فتراهم] يضربون، كانوا يضربون ويعاقبون الأفراد. أمّا مدرسة الإمام الصادق عليه السلام، ليست كذلك، فقد كان الإمام عليه السلام يجذب الأفراد مِن جميع الملل، وكان له تلامذة يحاججون الآخرين ويتباحثون معهم ويصاحبونهم؛ هذا هو منطق الإسلام وهذا منطق الدين، لا منطق الضرب والجرح والإزعاج والإغضاب. فلماذا لا يجوز للمرء أن يتفكّر في أموره وفي المسائل الّتي تهمّه؟! فإنّ هذا سدٌّ لباب العِلم وسدٌّ لباب المعرفة. وكلّ مَن يقول بهذه الأمور، ليس عنده؟. إنّ أغلب الأفراد، حتّى أنّه باعتقادي أنّ تسعين بالمئة مِن هؤلاء [المخالفين للحكمة] لم يدرسوا ولم يتعلّموا حتّى صفحةً واحدة مِنَ الفلسفة! أبدًا لم يتعلّموا حتّى صفحةً واحدة مِنَ الفلسفة! ولا يفهمون أصل مسألة حقيقة الوجود، [ومع ذلك] ينفون [صحّة] مسألة حقيقة الوجود!
يوجد الآن في بعض الرسائل العمليّة مَن يقول مثلًا: المسألة رقم كذا: إذا اعتقد الشخص بمسائل حقيقة الوجود فهو نجس وكافر. [أقول:] هذا عجيب! فهل أنت [نفسك] تعلم ما هي مسألة حقيقة الوجود؟! فأنت لا تعلم حتّى أن تتلفّظ بلفظ (الحقيقة) بالحاء أو بالجيم، فكيف تقول بنجاسة الشخص [الّذي يقرّ بها]؟! إنّ ذلك كلّه هو مِنَ الجهالة، فهم لا يفهمون أبدًا هذه القضيّة، أبدًا، وهم لا يفهمون أبدًا المسائل الحكميّة، ولم يتعلّموا ولم يدرسوا ولم يمارسوا [الحكمة، ومع ذلك] يرفضون [الحكمة والفلسفة] بالكليّة والإطلاق!
الدفاع عن العرفان؛ قصّة السيّد الخوئيّ مع العلّامة الطهرانيّ
وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسائل العرفانيّة؛ فإنّها مسائل لا بدّ فيها مِنَ التحقيق والتأمّل والتفكّر.
سأذكر الآن قصّةً وقعت بين والدِي وبين السيّد الخوئيّ في النجف الأشرف. وإذا كان وقت [محاضرتي هذه] قد انقضى، فسنحول بعض المطالب إن شاء الله إلى وقت آخر. كان السيّد الوالد رحمه الله قد تكلّم عن هذه القضيّة والقصّة عدّة مرّات، وكنتُ قد سمعتها منه عدّة مرّاتٍ، حتّى أنّه تكلّم بها أمام الأصدقاء والرفقاء في المشهد الرضويّ وفي جلسته في عصر الجمعة. وأقول أنّ هذه المسألة يمكن أن. وقد سمعتُ [مِنَ البعض يقول] إنّ السيّد الوالد لم يتكلّم بهذه المسائل أمام الأفراد، ولكنّني أصرّح الآن أنّه [قد تكلّم] بهذه المسألة أمام الأصدقاء والرفقاء، ولا شكّ في هذا أبدًا.
كان السيّد الوالد مِن أفضل تلامذة الآيات في النجف الأشرف، كالسيّد الخوئيّ والسيّد محمود الشهروديّ، وبالأخصّ الشيخ حسين الحليّ الّذي كان خرّيط الفن ومتضلّعًا عجيبًا في المسائل الشرعيّة والفقه والأصول والّذي كان تلميذ الشيخ محمّد حسين النائينيّ، وكذلك كان [السيّد الوالد] تلميذ الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ صاحب [كتاب] الذريعة. ومع هذا كان منهج السيّد الوالد هو منهج الانعزال عن الأمور المختلفة المتداولة في النجف الأشرف، فلم يكن يحضر الجماعات، ولا مجالس العزاء، ولا مجالس العيد الّتي يحتفلون بها في منازل المراجع في النجف الأشرف. بل كان يشتغل بدرسه ودروسه دون أن يلتفت إلى أحد، ولهذا اشتُهر بأنّه صوفيّ؛ يعني [ما] كان يقوله السيّد الوالد مِن إنّه صوفيٌّ منعزلٌ عن هذه الأمور. مع أنّ السيد الوالد كان أفضل التلامذة في النجف الأشرف، وذلك باعتقاد جميع العلماء في النجف؛ فهو عندما أراد أن يسافر عائدًا إلى إيران، وذلك بأمر أستاذه السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله عليه، فإنّ بعض أصدقائه وهو الشيخ الأنصاريّ راجع السيّد عبد الهاديّ الشيرازيّ والتمس منه أن يحكم حكمًا وجوبيًّا [ببقاء السيّد محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ في النجف]. [مع العِلم] أنّ المجتهد إذا حكم بحكم، يجب على المجتهد الآخر اتّباع هذا الحكم، والحكم يختلف عن الفتوى، فإنّ الفتوى تكون بلحاظ المقلّدين، أمّا الحكم فيشمل المقلِّد وغير المقلِّد [كالمجتهد]. وقال: إذا بقي السيّد محمّد حسين [الطهرانيّ] في النجف واستمرّ بهذه الدروس، لانحصرت مرجعيّة الشيعة فيه. فإنّ هذا كلام الأفراد الّذين كانوا في النجف، كانوا يعتقدون بذلك في حقّ السيّد الوالد. ولكنّه بأمر أستاذه السيّد هاشم الحدّاد، عاد إلى إيران وتوطّن في طهران، وبعدها هاجر إلى المشهد الرضويّ. ولذلك اشتهر بأنّه صوفيّ وأنّه مِن أهل العرفان، لأنّه لم يخالط ولم يصاحب الأفراد والعلماء، كان لا يراود المجالس، ومع الأسف أقول أنّها مجالس لَهْو ولعب ومجالس لغويّة، وإن شاء الله سأتكلّم حول هذا الموضوع في وقتٍ لاحق إن شاء الله.
قال السيّد الوالد في إحدى الليالي بعد أن أتمّ السيّد الخوئيّ الدرس، أخذنا بالتكلّم مع السيّد الخوئيّ ومباحثته، ثمّ خرجنا مِنَ المسجد وسرنا معه في طريقه إلى منزله في النجف، وقال السيّد الخوئيّ للسيّد الوالد أثناء هذا السير: سيّد محمّد حسين، عندي نصيحة، طالما كانت في خاطري، وأريد الآن أن أتكلّم معك بها. فقال السيّد الولد: جيّد – [أقول:] رأيتُ السيّد الوالد يحكي هذه القصّة للشهيد الأستاذ الشيخ مرتضى المطهريّ، حين كنتُ معهما في بيت الشيخ مرتضى المطهريّ – قال السيّد الخوئيّ: نصيحتي لك، وأنت مشهور بالأمور والمسائل العرفانيّة والسلوكيّة، فإنّ هذه الأمور تنكشف للإنسان. فلا بدّ لطالب العِلم أن يتوجّه لدروسه ويُشغل كلّ أوقاته في الدروس، وأن لا يلتفت إلى تلك المسائل، فإنّها مسائل تحصل للمرء؛ يعني مثلًا إذا كان الشخص يصلّي صلاته اليوميّة ويصوم، فمِن خلال ذلك، تحصل له تلك الأمور كانكشاف المعارف الإلهيّة وارتفاع الحُجب – [أقول:] هذا واقعًا أضحوكة – وإنّك بحمد الله تعالى، طالبٌ مُجدٌّ في [تحصيل] العلوم الإسلاميّة، فلا تلتفت إلى تلك المسائل، فلا بدّ أن يصرف الإنسان أوقاته في الأمور المهمّة، في المسائل الأصوليّة والفقهيّة، وأنا أنصحك – والكلام للسيّد الخوئيّ – أن تفعل ما فعله قبلك الشيخ محمّد تقي بهجت؛ حيث أنّ بعض الأفراد تكلّموا مع والد الشيخ محمّد تقي بهجت وقالوا له: إنّ ابنك يراود السيّد علِيّ القاضي، ويذهب إلى منزله ويتعلَّم منه، ويأخذ منه الدساتير والأوراد، والحال أنّ السيّد علِيّ القاضي صوفيّ وعارف، فأْمر ابنك الشيخ محمّد تقي بهجت بترك منزل السيّد علِيّ القاضي، وأن لا يذهب إليه ولا يُراوده أبدًا. فأرسل هذا الوالد إلى ابنه رسالة قال فيها: أنا أنصحك وآمرك بعدم الذهاب مِنَ الآن إلى منزل السيّد القاضي واتركه. فقَبِل الشيخ محمّد تقي بهجت هذه النصيحة وترك السيّد علِيّ القاضي ورجع إلى إيران، وأخذ يشتغل بمشاغله وأموره.
فقال السيّد الخوئيّ للسيّد الوالد: أنا أنصحك أن تفعل مثل ما فعل الشيخ محمد تقي بهجت، فإنّ هذا الفعل فعلٌ حسن وجيّد، فلا تقوم بتلك الأمور ولا تشتغل بالأوراد والأذكار ... فقال له السيّد الوالد: سأجيبك بثلاثة أجوبة: الجواب الأوّل هو أنّك تعلم أنّه لا يوجد في النجف الأشرف طالبٌ أقوى منّي [وأكثر] اجتهادًا [وبذلًا] للجهود في الدراسة والتعلّم، وأنت تُقرّ بذلك. قال السيّد الخوئيّ: نعم. هذا كان الجواب الأوّل، وهذا يعني أنّ كلّ جهدي وأوقاتي مصروفان في الأمور الدراسيّة والتعليميّة. أمّا الجواب الثاني: فأنا [مستعدّ] لمحادثتك ومباحثتك أمام الناس في كلّ مسألة تريدها، ونقرّر [المباحثة فيها]، كاستنباط [حكم] في مسألة ما، وأنا بعد أسبوع ...۱ و ٢ و ٣
اللهم صل على محمد وآل محمّد