المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
المجموعةمحاضرات شهر رمضان 1439 هـ
التاريخ 1439/09/15
التوضيح
كيف كان أولياء الله يقرؤون القرآن؟ و كيف كانوا يصلّون بين يدي الله تعالى؟ و ما هو الفرق بين صلاتهم و الصلاة التي يدعو إليها بعض علماء الظاهر؟ أسئلة أجاب عنها سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني قدس سره في هذه المحاضرة التي ألقاها في ليلة 15 رمضان في مدينة مشهد المقدسة. ومن الجدير بالذكر أن أهم عناوين المحاضرة كانت كالتالي: الاستماع أنفع من الإلقاء. توصيات الأولياء حول كيفية قراءة القرءان. كيفية صلاة الإمام الصادق عليه السلام. المقارنة بين صلاة الأولياء والصلاة التي يدعو لها علماء الظاهر.
هو العليم
كيف يصلّي أولياءُ اللـه؟
محاضرات شهر رمضان لعام ۱٤٣٩ هـ ق – الجلسة الأولى
ألقيت المحاضرة في الليلة ۱٥ من شهر رمضان المبارك
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمّد و آله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
الاستماع أنفع من الإلقاء
كنّا سابقًا نسمع من المرحوم العلاّمة ـ حتى في أواخر عمره ـ أنه كان يقول: (أحبّ أن أجلس وأستمع لنصيحة الآخرين ومحاضراتهم)، وكان يقول: (أحب أن أجلس وأستمع.. وكم أستفيد من ذلك!) ولم تكن آنذاك هذه المسألة مفهومةً لنا بشكل جيّد؛ فإن كان الهدف هو الوصول إلى المعاني والحقائق فهؤلاء الأشخاص هم أولى بالحقائق والواقعيات والوصول لها من غيرهم؛ لإنهم قد وصلوا إلى الواقع والحقيقة، وليس عندنا نحن شيء غير الألفاظ والدفتر والمذكّرة ومجموعة من الأشياء التي نلفّقها ونسردها [ونذكرها على المنبر]؛ ولكنّي أرى الآن وكأنّ كلامه لم يكن بلا حساب، فأنا الآن أرى في نفسي الرغبة بأن أجلس وأكون مستمعًا، وإنّي لأقول ذلك بجدّ فحالي هي كذلك: وهي أن أجلس وأستمع فقط، وأن [أتأمل] بالمطالب التي أسمعها.
وذلك كما في المجالس التي تعقد في قم؛ ففي بعض الأحيان عندما يلقي الإخوان هناك محاضرةً فإنّ الأفكار التي تُطرح تشغل فكري أحياناً ليومٍ كاملٍ حتّى، وأنشغل بها وبتقييمها من الجهات مختلفة، وبعض الأحيان أقول: يا لها من مسألة جديدة قد خطرت على بال أولئك المحاضرين، فمثل هكذا مسألة لا تخطر على بالي، أو أنها لم تخطر على بالي من قبل أصلًا.
ولكنّي الآن أشعر بأن مراد المرحوم العلامة قد يكون هو أنّ الشخص عندما يلقي المحاضرة فإنّ تلك الحقائق والمعاني تحضر في نفسه وفي ذهنه فيقوم بدراستها وتنميتها وتحقيقها ثم يقوم بإخراجها وإظهارها من خلال اللسان أو القلم؛ ولكن في مقام الاستماع فإنّ الشخص لا يقوم بفعل شيء من نفسه، أي أنّه لا يقوم بتحليل الكلام وتركيبه، وإنما الذي يحصل هو أنّ تلك المطالب التي تخطر على ذهن الخطيب تأتي بنفسها إلى ذهن الشخص [المستمع]من دون أي دخل وتصرّف من الشخص نفسه في تلك المسألة وذلك المطلب، وهذا يسبب فرقًا كبيرًا بين الحالتين.
توصيات الأولياء حول كيفية قراءة القرءان
إنّ إحدى الوصايا التي كان المرحوم العلاّمة يوصي بها تلامذته هي أن عليهم عندما يقرؤون القرآن أن يروا أنهم مستمعون وأنّ القارئ هو الله، وفي الواقع فإنّ تلك القراءة هي ظهور لاسم «الملهِم» و«المفيض» و«المُسمِع»، أي أنّ الإنسان حال قراءته بهذه الطريقة يلعب دورين؛ الأول: أن يكون مستمعًا ومدرِكًا ومتلقيا للمسائل، والثاني: أن يكون هو نفسه مخاطِبًا لنفسه، فهو الذي يُلقي هذه الآيات والمعاني على نفسه من جانب الله عزّ و جلّ، فلا يكون للإنسان في البين إلا جنبة الوساطة فقط، فهو ليس إلا واسطة ولا يملك شيئاً في نفسه، فهو مِثْل النهر الذي يجري فيه الماء، وهذا النهر في حدّ نفسه ليس هو مصدر الماء ولا علاقة له به وإنما هو مجرّد ظرف ووعاء يجري فيه الماء فيوصل هذا الماء إلى المزارع والحدائق والمنازل وهذه الأمور، فلو أتى هذا النهر وقال: (أنا الذي سقيت الحدائق و البساتين، أنا مَنْ فعل كلّ ذلك)، فسيقال له: لم تكن أنت الفاعل لهذه الأمور، وإنما الذي قام بذلك هو الماء، فكلّ ما تحققّ هو من قِبَل الماء، غاية الأمر أن الماء يحتاج لظرف ومكان يجري فيه، وذلك المكان قد يكون أنبوبًا، أو قناةً للماء، أو نهرًا، فهذه كلّها مهما تكن ليست إلا ظروفًا.
وبهذه النظرة نكون نحن أيضاً ظروفًا، ويكون الله ـ عزّ و جلّ ـ هو من يلقي علينا هذه الأمور والكلمات والأفكار، فيحسّ الإنسان بأنّه هو المخاطَب بهذه الآيات. ثمّ إنّ هذا المعنى يقوى شيئًا فشيئًا حتى يشعر الشخص بأنّ المتكلّم والمستمِع كلاهما واحد، وهذا أعلى حدّ للإدراك الشهودي لهذه المسألة.
كيفية صلاة الإمام الصادق عليه السلام
لذلك فقد ورد عندنا بأنّ الإمام الصادق عليه السلام ذات يوم عندما أراد أن يصلّي حينما وصل إلى قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ﴾ ـ وهذه الرواية موجودة۱ ـ لا زال يكرّرها حتى سقط على الأرض مغشياً عليه، أي أنّ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ﴾ لا زالت تؤثّر في الإمام عليه السلام، وتقرّبه من مرتبة الوحدة أكثر فأكثر؛ حتى صار تجلّي الوحدة بالنسبة له قويًا لدرجة أنه عليه السلام لم يقدر أن يحافظ على مقام الجامعيّة، ثم سقط على الأرض لأنه لم يقوَ على تحمّل ذلك، فسُئل عليه السلام عن ذلك فقال: عندما وصلت إلى هذه الآية شعرت بأنّ شخصًا آخر هو من يخاطبني، فأعدت العبارة مرةً ثانية حتى أسمع خطابه مرّة ثانية، وكذا أعدتّها مرة ثالثة لكي أسمعها منه مرّة ثالثة، حتى رأيت بأنّ المخاطِب والمخاطَب كلاهما واحد، وعندها لم يتحمّل البدن تلك الضغوط الإشراقية غُشي عليه.
وقد وقع هذا الأمر مع عدّة أشخاص كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد حصل هذا الأمر معه؛ وكذلك مع السيّد الحدّاد فإنّ المرحوم العلامة كان يقول: عندما كان يذهب السيد الحدّاد للوضوء ليلًا، لم يكن أحد يطّلع عليه حيث إنهم كانوا عائدين إلى غرفهم أو غير ذلك؛ ولكنهم عندما كانوا يخرجون صباحًا نازلين من الطابق العلوي يريدون أن يذهبوا إلى أعمالهم، فقد كانوا يرون السيّد الحدّاد ساقطًا إلى جانب الحمّام، إمّا أن يكون ساقطًا على الأرض أو جالسًا من دون أي حركة، وكان ينتبه هو من تلك الحال بعض الأحيان، وفي بعضها الآخر يكون هناك سبب أو شيء ما يسبّب انتباهه، وكانت هذه الحالة تحصل له كثيرًا، وهي من قبيل ما ذكرناه أعلاه حيث إنه عندما يذهب إلى الوضوء ويريد أن يتوضّأ فإنّ عالم الطهارة يأخذه ويسحبه نحوه بحيث لا يقدر البدن على التحمل فيسقط هناك.
المقارنة بين صلاة الأولياء والصلاة التي يدعو لها علماء الظاهر
وفي المقابل، ترى بعض الأشخاص يقولون: يجب على الشخص في أثناء الصلاة ألاّ يقصد المعنى حقيقةً من الألفاظ التي يؤدّيها، يعني عليه أن يقرأها كأنّه يقرأ جريدة يومية! فانظر ماذا يقولون!! فحتى الجريدة عندما يقرأها الشخص فإنه يفهم معناها؛ ولكنهم يقولون: عندما تقول: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ فإنّ وظيفتك هي أن تقول هذه العبارة وليس لك دخل بالمعنى؛ لأنك أصلًا أنت لا تفهم المراد من قوله تعالى ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، فبالنتيجة أنت تقول كلامًا لغويًا وبلا معنى، أو يقولون: إنّك عندما تقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فنحن واقعًا لا نعبد الله وليست عبادتنا له إلا عبادة ظاهريّة، وبما أن المسألة كذلك فليس علينا إلا التلفظ بهذه العبارة، وأمّا المعنى فلا دخل لنا به ما هو!! أو على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿قل هو الله أحد﴾ فنحن لسنا مخاطبين بقوله «قل» وإنما المخاطب به هو «رسول الله» أي قل يا «رسول الله» ونحن لسنا «رسول الله» فلماذا نعد أنفسنا نحن المخاطبين؛ فلذا نحن إنما نقرأ ذلك في الصلاة لأنهم أمرونا بالقراءة؛ ولولا أنهم أمرونا بالقراءة لما قرأنا، فلا يوجد فرق بين القرآن وكتاب «ننه كلثوم»۱ فنحن لا نقرأ إلا لأنّهم أمرونا بذلك خوفًا من أن يعاقبونا يومَ غد.
ولكن يا عزيزي، هل هذه صلاة؟! هل هذه صلاة حقيقة؟! عندما أقرأ ﴿بسم الله الرحمن الرحيم ، قل هو الله أحد﴾ لا دخل لي بمعناها؛ وإنما أقرأها لأنهم قالوا لي اقرأها؟! أيّ صلاة هذه؟! وأي حضور هو هذا؟! ومن الشخص الذي يقول هذا الكلام؟ العجيب أن قائله شخصٌ اختلط عظمه تسعين سنة بالفقه وهذه الأمور، فيأتي ويأمر الناس ومقلديه بذلك، واهًا لحال هؤلاء المقلدين الذين يقلّدون شخصًا غاية معرفته أن يقول: «لا دخل لنا بمعاني القرآن ما هي!»، ويقول: «بما أنّهم قالوا لك اقرأ، فاقرأ؛ حتى لا يعاقبونك يوم القيامة» وبقي على هذه الدرجة من المعرفة حتى وفاته.
فانظر إلى الفرق بين هذا وبين أحد العرفاء كالعلامة أو السيد القاضي عندما يقول: عليك أن تتجاوز حتّى المعنى، وفقط عليك أن تستشعر بأنك في مقابل وفي محضر الله عز وجل، أي عليك أن تكون في مرتبة أعلى من مرتبة إحضار المعنى وهذه الأمور.
إنّ الكلام الذي دار مع المرحوم المطهري والسيّد الحدّاد كان ملفتاً جدًا، حيث قال المرحوم المطهري في جوابه على سؤال السيد الحداد حينما سأله: كيف تصلّي؟ قال: أنفي الخواطر.
إنّ الشخص الذي ينفي الخواطر تركيزه على أي شيء سيكون؟ على سبيل المثال لو أنّك ذهبت إلى رؤية صديقك وكان ذهنك مشغولًا بشيء حصل في الخارج قبل دخولك عليه، وكل توجّهك حال حديثك معه إلى ذلك الشيء الذي كان قد شغل بالك قبل مجيئك، فلن تفهم حينئذٍ ما الذي قلته ولا ما الذي سمعته؛ لأنك عالق في تلك الأفكار التي قد شغلت ذهنك، خصوصاً لو لم تكن سارةً، أو أنك جالس أمامه ولكن الصور والخيالات تخطر على ذهنك وتذهب بشكل متتالي، ففي هذه الحالة لن يكون عندك أي حضور أو إدراك، ولن تدرك شيئاً من هذا اللقاء، فكأنك لم تقم بأيَ عمل، أي أنك لم تستفد شيئًا.
لقد أجابه السيّد الحدّاد رضوان الله عليه: إنّ نفي الخواطر ليس هذا محلّه؛ بل عليك أن تنفي الخواطر خارج الصلاة، وعندما تكبّر لا يبقى هناك أيّ خاطرة؛ نحن نكبّر ثم نشرع بنفي الخواطر! فمتى تتوجّه إلى الله إذن؟! كلمّا أردت الحديث مع الله أتتك خاطرة كلقائك مع فلان فتنفيها، أو خاطرة «كيف أردّ عليه»، أو أنّ فلانًا تحدّث معي بهذا الشكل، أو أن فلانًا قال لي هذا الكلام وما شابه ذلك، فالخواطر لا تتوقف، وكلّما ذهبت واحدة جاء غيرها، فالشيطان لا يهدأ؛ فهو كلّما ذهبت خاطرة أرسل ثانيةً، وعندما تذهب الثانية يرسل ثالثةً وهكذا، إلى ما شاء الله فالشيطان عنده الكثير، فلو انتهت الخواطر التي حول الأرض والزمان والقمر والمجرات لجرّ الحديث ـ على سبيل المثال ـ عن كوكب نبتون وكم يبعد عن الأرض وأين مكانه، يا عزيزي ما علاقتك أنت بكوكب نبتون وفينوس وبينوس، ولم تفكّر بهذه الأمور في الصلاة؟! حتى أن الأفكار التي لا تخطر على الذهن تخطر عليه أثناء الصلاة، وكلّها عليك أن تنفيها واحدة واحدة!! فإذا انشغلت بردّها ونفيها فستتوقّف ولن تتخلّص منها.
لهذا قال السيد الحدّاد رضوان الله عليه: بدل أن تنشغل بنفي الخواطر، توجّه لشيء واحد فقط وستذهب تلك الخواطر لوحدها، ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾ فجهة قهر الله ستنفيها وتبعدها جانبًا، ولن تبقي وجودًا لسواه من الأغيار والأمور الاعتبارية.
إذن انظر كم الفرق كبير بين هذا المنهج وهذه المدرسة وبين باقي المناهج والمدارس والشرايع الأخرى! إنّ الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض، فذاك يقول: صلَّ واقرأ بعنوان الحكاية، ولا دخل لك بالمعاني ولا بالله ولا بالرسول، فيكفي أنك تقول «الله أكبر» وتتأرجح قليلًا وتقوم ببعض الحركات ولا حاجة لأكثر من هذا؛ بينما هذا يقول لك: عندما تريد أن تأتي إلى الله فعليك أن تتجاوز حتى المعاني والمفاهيم، وبالطبع فإن المعاني والمفاهيم لابد أن تكون موجودة في عمق نفسك وقلبك؛ ولكن عليك أن تشعر بنفسك أنك فوق هذه المعاني، أي أنّك تجعل هذه المعاني في الأسفل ويكون توجّهك فوقها متجاوزًا إياها، وكأنهما خطّان أحدهما فوق الآخر يتحرّكان معًا إلى الأمام، فلا المعنى يذهب بحيث يكون قولك ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لا معنى له، وقولك ﴿الرحمن الرحيم﴾ يعني «لا شيء» [أي لا تكون الآيات خالية من المحتوى]، ولا أنك تبقى وتعلق عند المعنى، كمعنى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ و ﴿الرحمن الرحيم﴾ فتفكّر في معنى الرحمن والرحيم والفرق بينهما وماهي موارد استخدام كل واحدة منهما، فأين سيكون الله حينئذٍ؟! فهذا فيه مبالغة.
فبهذه الكيفيّة نجمع بين هذين الاثنين، وهذا ما كان يعنيه الإمام الصادق عليه السلام وهو أن علينا أن نتوجّه لكلا الخطّين في ممشانا وحركتنا وسيرنا باتجاه الله. علينا أن نشكر الله كثيرًا واقعًا حيث منّ الله علينا [أن هدانا لهذا الطريق ولهذا السبيل]، وأي منّة منّ بها علينا!!
في إحدى المرّات عندما كنت أذهب إلى «مدرسة الفيضيّة»۱ عند الغروب، كنتُ أذهب يوميًا للصلاة جماعةً خلف المرحوم الشيخ الأراكي، فقد قال لي المرحوم العلامة: يا سيّد عندما تذهب إلى قم فصلّ الظهر خلف فلان، ثم عند صلاة المغرب صلِّ خلف الآقا الشيخ محمّد علي الأراكي؛ فكنت أذهب ليلًا للصلاة خلفه في «الفيضية» ثم أرجع إلى حجرتي، فكنت أذهب إلى الحرم كلّ يوم قبل الغروب بساعة أكمل دراستي، ثم أرجع إلى «الفيضيّة» فأجلس هناك لمدّة ربع ساعة أو عشرين دقيقة أو نصف ساعة ثم تبدأ صلاة الشيخ الأراكي فأصلّي ثم أعود إلى الحجرة.
في إحدى المرات كنت جالسًا أتشهّد وكان ظهري ينحني قليلًا أي أنه لم يكن مستقيمًا تمامًا كالعمود، وكان هناك شيخ ذو لحية بيضاء جالسًأ إلى جانبي لا أدري ما اسمه، وفجأة صفعني على ظهري فتعدّل ظهري وصار مستقيمًا تمامًا، فاستغربت من فعله هذا لماذا فعل هكذا معي؟! هل وجد شيئًا على ظهري أم ماذا؟! وخلاصة الأمر أني لم أعرف لماذا فعل ذلك، ثم انحنى ظهري قليلًا بعدها فصفحني صفعة أخرى ففهمت أنه يقوم بذلك لأجل انحناء ظهري [وأنه يريد أن يعدّله لي]، فصرت أتعمّد إحناء ظهري! فصار يصفعني بين الفينة والأخرى كلّما انحنى ظهري حتى أنه صفعني ست أو سبع مرّات أثناء قراءة التشهد إلى آخر التسليم، فقد كانت مهمّته هي تعديل وتقويم ظهري!
وبعد الصلاة قلت له: يا سيد ما الذي تفعله؟
فقال: إنك لا تراعي...
فقلت له: ما الذي لا أراعيه؟
فقال: يجب عليك حال الجلوس أن يكون ظهرك مستقيمًا هكذا، فلماذا تحنيه و لماذا تعاند؟!
فقلت له: من الذي كلّفك بظهري؟! اجلس واهتم بتشهّدك فما دخلك أنت سواء كان ظهري مستقيمًا أم منحنيًا أم في حالة سجود.
فقال: وعندك كلام أيضًا!!
فقلت له: هل أنت مكلّف بظهري؟! إن كنتَ ستراقب ظهري فأين ذهب [التوجه إلى] الله؟ فمادامت عينك على ظهري هل انحنى أو لا [فأين سيذهب توجهك لله]؟!
وأنا لم أكن صبيًا هادئًا فمادام يريد أن يشتغل فلندعه يعمل [فكنت أحني ظهري متعمدًا]! كان عمري آنذاك سبعة عشر عاماً أو ثمانية عشر تقريبًا، فهذه الخلاصة وهي أنني قلت له: هل أنت مكلّف بظهري حتى تقيمه كلما انحنى؟!
هل التفتم؟ ما هي هذه الصلاة يا عبدالله؟! إن كنت هكذا تفعل فمن الواضح أنّ صلاتك كلّها كانت هكذا من أول التكبير إلى التسليم حيث كنت تريد أن تقيم ظهري، ففي جميع الأوضاع كانت هذه سيرتك و طريقتك.
نعم قلتُ له: وهل أنت مسؤول عن ظهري حتّى تراقبه وتقوّمه طوال وقت الصّلاة؟! هل التفتُّم؟ أيُّ صلاة هذه يا عزيزي؟! إنّ هذا يكشف أنّك طوال الصّلاة هذا هو حالك؛ منذ التكبير ودخولك في الصّلاة وحتّى آخر لحظة منها حيث أردتَ تقويم ظهري [يضحك سماحته والحضور] فيُعلم أنّ جميع صلاتك وأعمالك ستكون على نفس هذه الشّاكلة وهذه الطّريقة.
ولكنّك حينما تقف إلى جانب السيّد الحدّاد، سترى أنّه منذ أن يشرع بالتّكبير إذا به قد ذهب وأصبح في مكان آخر، لقد صار في مكان لا يعلمه إلا الله، وبالجد أقول أنّه كان كذلك، يعني إذا نظرت إلى عينيه حينما يُكبّر، ترى من عينيه أنّه في مكان آخر. هل رأيتم بعض النّاس أو حتّى الأطفال حينما يركّزون نظرهم وكأنّه أصابهم حالة من الدّهشة والتحیر؟ والحال أنّه يحرّك يديه ولكنّ نظره يبقى ثابتًا على شيء معيّن، لقد كان حال السيّد الحدّاد هكذا، فهو حينما كان يكبّر كانت عيناه تصبح كهذا الطّفل وحاله يتغيّر بشكلٍ كلّي!
أجل، هذا نوعٌ آخر من الصّلاة، فذلك شكل بينما هذا شكلٌ آخر للصّلاة.
نحمد الله نشكره على وجود هؤلاء [الأولياء]، وعلى أنّهم عرّفونا على هذه الأمور والمسائل، والحال أنّك إذا نظرت للآخرين وكيفيّة أدائهم للصّلاة، ترى أحدهم قد وضع هاتفه الجوّال أمامه إلى جانب موضع السجود! فعلى الأقل لو وضعه على الرّف! وأنا رأيت هذا الأمر بنفسي؛ فقد ذهبتُ يومًا إلى منزل أحد الأشخاص، ولم يلتفت هذا الشّخص لقدومي ولم يلحظ أنّني كنتُ أجلس على الكُرسي الواقع خلف ظهره فقد كان يُصلّي، ثم وفي أثناء ركوعه شرع حضرة الهاتف الجوّال بالرّنين، فما كان منه إلاّ أن أخذ هاتفه وقبل أن يهوي إلى السّجود ليرى من هذا الذي يتّصل به كي يتّصل به بعد انتهائه من الصّلاة!! ثمّ هوى بعدها للسّجود!
أجل، هذا شكلٌ آخر وطريقة أخرى للصّلاة. هل التفتّم؟ إنّ هذا الأمر يبيّن أنّ حال صلاتنا وعبادتنا وقراءتنا للقرآن من الأساس وبأجمعه بعيدٌ جدًا عن الصلاة الصحيحة.
نسأل الله أن يأخذ بأيدينا ويعرّفنا هذه المعاني والحقائق ويهب لنا فهمها ومعرفتها.
يقول المرحوم العلّامة رضوان الله عليه: (ذهبنا ذات مرّة بصحبة السيّد الحدّاد إلى المقبرة –مقبرة كربلاء التي دُفن فيها سماحته- وكان الوقت حينها وقت صلاة المغرب)، وكان السيّد العلامة هو الذي يؤمّ الصلاة [في صلاة المغرب]، بينما كان السيّد الحدّاد يتقدّم لإمامة الجماعة في كثير من الصلوات الأخرى خصوصاً في صلاة الصُبح إذ كان يتقدّم بشكلٍ دائمٍ فيها، أمّا صلاة المغرب فكان السيّد العلّامة هو الذي يصلّي بهم غالباً إلا في بعض الأحيان. يقول السيّد العلّامة: (كان السيّد الحدّاد قد أمرني أن أقرأ السور الطوال، فكنتُ أقرأ السّور التوحيديّة مثل سورة الحديد وسورة الحشر وأمثالها).
وذات مرة كان هناك سيّد كبير في السّن، (وقد انقلب هذا السيّد فيما بعد وأصبح أحد المخالفين)، وكان حاضرًا في إحدى الصّلوات التي قرأ فيها المرحوم العلّامة سورة الحشر و سورة الحديد، وبما أنّ هذا الرّجل كان مسنًّا، فحينما انتهت الصّلاة وضع يده على ظهره وقال: «والله انكسر ظهري» [ضحك من سماحته].
فيُكمل المرحوم العلّامة حديثه قائلًا: «كنتُ أشعر أثناء الصّلاة بأنّ هناك قوّة تجعلني أقف على تلك المعاني والحقائق [التوحيدية] وتثبّتها في نفسي، وكأنّ سماحة السيّد الحدّاد عندما كان يأمرني بقراءة تلك السّور الطوال كان في الوقت نفسه يتحكّم بنفسي بواسطة جهاز التحكّم عن بُعد، فكلّما كانت [السّورة] أطول كلّما ازداد هذا الأمر [عُمقًا وأثرًا]، وكنتُ أشعر بهذا الأمر بشكل واضح، وكأنّ تركيزي وتوجّهي يزداد وتثبيت تلك المعاني والألفاظ يشتدّ شيئًا فشيئًا»
أيّ صلاة هي هذه؟! أيّ صلاة تلك التي يؤدّونها؟! وفي المقابل ما الصّلاة التي نُصلّيها نحن ؟! هنيئًا لهم، نسأل الله أن يأخذ بأيدينا، و أن يُذيقنا من تلك الأمور التي رأينا قليلًا منها و لكننا لم نتذوّقها، فنسأله أن يذيقنا منها.
اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد.