17

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه

وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

6434
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1438

التاريخ 1438/09/30


التوضيح

قدّم سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله نفسه) كشفًا مبسّطًا عن مرتبتين مِن مراتب ستّارية الله؛ مُبيّنًا عجائب هذا الإله الّذي يتودّد إلى عبده وهو غاضُّ الطرف عن ذنوبه، وراسمًا صورةً واقعيّةً عن هذا الإله الّذي يشتاق إلى عبده ويمحي ذنبه رغم إدباره عنه. فالمرتبة الأولى مِن ستّارية الله هي غض الطرف عن الذنب، والمرتبة الثانية هي محو الذنب، على أنّ الثانية أعلى مِنَ الأولى. فعلى الإنسان الامتثال لهما والتمثُّل بهما ليتحرّك نحو التجرّد، وإلّا توقف. فوضّح سماحته كلا المرتبتين بجملةِ أمورٍ تُعدّ مِن أركان السلوك.

/۱۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي سنة ۱٤٣۸ هـ ق المحاضرة سبعة عشر

  •  

  • محاضرة ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد

  • وعلى آله الطيبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • «وَلَو خِفتُ تَعجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ، لا لِأَنَّکَ أَهوَنُ النَّاظِرِينَ وَأَخَفُّ المُطَّلِعِينَ؛ بَل لِأَنَّکَ يا رَبِّ خَيرُ السَّاتِرِينَ وَأَحکَمُ الحاکِمِينَ وَأَکرَمُ الأَکرَمِينَ»

  • لو كنتُ خائفًا مِن تعجيل العقوبة، لَما ارتكبتُ الذنوب؛ كما أنّ عدم خوفي هذا ليس بسبب قصور إشرافك ونقص اطّلاعك على أعمالنا؛ فلا مجال للكلام عن هكذا أمر أصلًا، وهو أن لا تكون مطّلعًا ومشرفًا! أو أن يكون اطّلاعك قاصرًا وإشرافك ناقصًا! {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}۱، فلا يأخذ اللهَ نومٌ ولا غفوة، هو حاضر وشاهد علينا دائمًا في جميع الأحوال، فـ {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‌ ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ}٢، ما مِن ثلاثةٍ يتناجون بأمرٍ ما في أيّة زاوية مِن زوايا العالَم، إلّا هو رابعهم، وهو بالنسبة إلى الإنسان {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ}٣، إنَّ حبل الوريد هو ذلك العِرق الّذي يوصل الدم إلى الدماغ، فإن انقطع هذا العرق وانقطع وصول الدم إلى الدماغ لثانية واحدة، لسقط الإنسان فورًا على الأرض مغشيًّا عليه؛ فالله أقرب إلى الإنسان مِن حبل الوريد.

  • إذن فعدم خوفي هذا ليس بسبب عدم اطّلاع الله، وليس ناشئًا عن اعتقادي بأنّ الله مشغولٌ بأمور أخرى بحيث تجعله غير مطّلع على أعمالي وبالتالي سيتركني وشأني دون أن يكون له شغل بي! كلّا، بل لأنَّك [يا إلهي] في عين امتلاكك لأعلى درجات الرقابة والاطّلاع، فإنّك خير الساترين في مقام الستر، وأحكم الحاكمين والمحاسبين في مقام المحاسبة، فأنت الأكثر دقّة وواقعيّة، وأنت عين الحقيقة؛ وفي مقام الكرم والشهامة والنُّبل، تُعامِل عبادك بأعلى درجات الكرم والشهامة .. هذه الصفات الثلاث هي الّتي جعلتني لا أهتمّ – كما ينبغي – بارتكاب المعاصي، وأن لا أخاف كما يجب، وأن لا أراقب المراقبة المطلوبة .. هذه هي الصفات الّتي أعرفك بها يا ربّ.

  • المرتبة الأولى مِنَ ستّارية الله؛ التغاضي عن الذنوب

  • تحدّثتُ مع الإخوة والأصدقاء عن موضوع ستّارية الله، وقلتُ: إنّ الله يغطّي الذنب ويستره، وأنّ هذه المرحلة هي المرتبة الأولى مِن مراتب الستر، أي أنَّه يتغاضى عن الذنب –بحسب ما نصطلح عليه في كلامنا – ويغضّ طرفه عمّا يصدر مِن أعمال عباده.

    1. سورة البقرة (٢)، جزء مِنَ الآية ٢٥٥.
    2. سورة المجادلة (٥۸)، جزء مِنَ الآية ۷.
    3. سورة ق (٥۰)، جزء مِنَ الآية ۱٦.

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

3
  • بعض الخصال الّتي توجب توقف السالك وحركته

  • وقلتُ حينها أنَّ هذا الموضوع يُعَدّ ركنًا أساسيًّا في حركة السالك وسيره إلى الله؛ فلولا هذه الستّارية لَما تمكّن الإنسان مِنَ التقدّم خطوةً واحدة إلى الأمام. فلو أنَّ الإنسان عمّر ألفَ سنةٍ كنوح عليه السلام، ساهرًا ليله إلى الصباح، صائمًا نهاره، متحمّلًا الجوع والعطش الشديدين وأنواع المشقّات، غير أنَّه يتّصف بصفة التجسّس على أعمال الآخرين، ويحاول أن يعرف ما الّذي قام به فلان وما الّذي قام به فلان، فيُنشئ لهم ملفات ودفاتر ملاحظات يكتب فيها: فعل فلان كذا، ويعزّزه بذكر تأريخ الحادثة، ثمّ يحتفظ بها لكي يكشفها في الوقت المناسب .. نعم، مَن يدأب على تتبّع أعمال الآخرين، ويحتفظ بملفٍ يتضمّن ما يقوله هذا وذاك ليقوم باستغلاله في مناسبةٍ ما، فهكذا رجل سيبقى متوقّفًا في الدرجة نفسها وفي الأفق نفسه الّذي هو فيه إلى الأبد، ولن يتكامل ولو بمقدار شعرة؛ فهو مع أنّه يصلّي ويصوم ويحجّ ويقوم بأعمال أخرى، إلّا أنّه لا يتقدّم ولا يبرح المكان الّذي هو فيه .. لماذا لا يتحرّك ولا يتقدّم؟ لأنّه في وضع يتناقض مع الحركة والتقدّم، فمَثَله في ذلك كمَثَلِ سيّارة تمّ ربط مؤخرّتها بسلسلة إلى عمودٍ، وصاحبها يضغط على دوّاسة الوقود ويريد أن يتقدّم بها إلى الأمام؛ فلو أنَّه استمرّ على عمله هذا مدّة مئة سنة، لَما تحرّكت السيّارة مِن مكانها، ولَما استفاد، كما أنّ وقود السيارة سينفد، فذلك العمود وذلك المانع مِن الحركة موجود وهو يناقض التحرّك تمامًا؛ فلا بدّ مِن أن تتوفّر مستلزمات الحركة لكي تتمكّن السيّارة مِنَ السير، ومِن هذه المستلزمات: أن تكون السيّارة صالحة للعمل، وأن يكون الطريق الّذي تسير عليه مستويًا، وأن لا يكون في طريقها ما يعيق حركتها. فالمهمّ بالنسبة لهذه السيّارة الآن هو وجود ذاك المانع خلفها الّذي يمنع حركتها.

  • إنَّ هذه الحالة هي واحدة مِن أسوء الحالات الّتي تحصل للإنسان في حياته، فهي تجعل الإنسان يتوقّف في نفس المرتبة الّتي هو فيها .. وقد قلتُ لكم أنَّه حتّى إن عمّر عمُر النبيّ نوحٍ، لَما تمكّن مِنَ الحركة إلى الأمام ولو بمقدار سنتيمترٍ واحد، ولَما تمكّن أن يبرح مكانه.

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

4
  • هناك بعض الأمور الّتي على المرء أن يراعيها في حياته! ويؤكِّد العظماء باستمرار على ضرورة رعاية بعض الأمور، ومنها ستر العيوب؛ فقد سمعتهم يؤكّدون في أحاديثهم تأكيدًا شديدًا على ضرورة أن يغضّ السالك عينيه، ويكون على الدوام في حالة الستّارية .. عليه مِنَ الأساس ألّا يتتبّع العورات، فإن اتفق ورأى شيئًا فعليه أن يدير وجهه عنه وكأنّه لم يرَ شيئًا.

  • كان العظماء يؤكّدون تأكيدًا شديدًا على بعض الأمور، منها قضاء حوائج المؤمنين، فقد كانوا يؤكِّدون على هذا الأمر تأكيدًا شديدًا؛ سأل المرحومُ العلّامة [الطهرانيّ] المرحومَ الشيخ الأنصاريّ (رضوان الله عليهما) يومًا، عن أفضل ما يمكن أن يساعد في تسريع سير السالك، فقال الشيخ الأنصاريّ: لا يوجد عمل – بعد أداء الواجبات وترك المحرمات – يفي بهذا الغرض كاكتساب قلب المؤمن وقضاء حاجته، فما مِن عملٍ يصل في تأثيره إلى ما يصل إليه هذا العمل. وفي المقابل، ما مِن شيءٍ يقصم ظهر السالك ويسدّ الطريق بوجهه، مثل كسر قلب شخص وإيذاء خاطره بدون وجه حقّ – نعم إنّ التكليف في هذه المسألة شيء آخر –فكسر قلب المؤمن وإيذاؤه هو بمثابة وضع قطعة كبيرة مِنَ الخرسانة في طريق المرء، فمهما ضغط على دوّاسة الوقود، لن يستطيع الحركة، لأنَّ الطريق قد سُدَّ أمامه تمامًا.

  • هناك عدّة مسائل؛ واحدة مِن تلك المسائل الّتي كان العظماء يؤكّدون عليها أيضًا أشدَّ التأكيد – وقد لاحظتُ ذلك خلال مرافقتي للمرحوم العلّامة (رضوان الله عليه) وحديثي معه، كما لاحظته في جلساتنا مع المرحوم السيِّد الحدّاد، حيث شهدتُ تأكيدهم الشديد على هذا الأمر في الموارد [المتعلقة] به – ألا وهي: ضرورة عدم التدخّل في شؤون الآخرين وتتبّعهم؛ كأن يتفحّص عن ما فعله فلان وما فعله فلان .. فكانوا يقولون: إنَّ هذا العمل في حدّ نفسه – وبغضّ النظر عمّا يترتّب عليه مِن عواقب وتبِعات ومفاسد – يُعدّ عملًا شيطانيًّا.

  • فإن كنتَ تسير في طريقك، ورأيت أحد إخوتك يقف جانب الطريق منتظرًا أحدًا ما، لماذا توقف درّاجتك لترى مَن ينتظر؟! ما هي علاقتك بهذا الموضوع؟! فلينتظر مَن يريد، فما هي علاقتك بذلك؟! نعم، هذا فيما لم يكن وقوفه بسبب أمر يحتاج فيه إلى مساعدةٍ أو بسبب مشكلة معيّنة قد حصلت له، فذلك أمر آخر .. فإن كان توقّفك لمجرّد أن تعرف مَن ينتظر، كأن تقول في نفسك: مَن ينتظر هذا الشخص هنا، وهل يُعدّ هذا المكان صالحًا للوقوف أصلًا؟! فما مِن أمرٍ يستحقّ أن يجعل أحدهم يقف هنا، سأتوقف لأعرف سرّ هذا الوقوف! نعم يوجد هكذا أناس، بل يوجد الكثير منهم! ما هي حقيقة هذا العمل؟ إنَّ هذا العمل بحدّ ذاته عمل شيطانيّ.

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

5
  • فتراه يقف وينتظر ليرى ما الّذي سيجري!! هذا ولعلّ الرجل كان ينتظر صديقًا له، أو كان ينتظر مَن لا يريد أن يعرفه أحد، فاطّلاعك هذا سيكون على خلاف رغبته وهدفه و ... فهناك إلى ما شاء الله مِن تبعات غير هذه. إنَّ العظماء يصفون هذا العمل وما شابهه بأنَّه عمل شيطانيّ، لأنَّه يمنع النفس مِنَ التحرّر؛ وذلك لأنّ الإنسان عندما يريد أن يسير إلى الله، فهو يسير باتّجاه التجرّد، أي بالاتّجاه الّذي لا يحدّه قيد، فيجب عليه حينئذ أن يتخلّص مِن جميع القيود ومِن جميع الأمور الاعتباريّة، والأوهام، والتخيّلات، فالسير إلى الله مع وجود هذه الأشياء غير ممكن، إذ لا وجود للوهم والقيد والتعيّن والكثرة في الله، بل إنَّ ذلك العالَم هو عالَم الإطلاق، والمحبّة، والعشق، والرحمة، والتوحيد، والوحدة، فجميع الأشياء هناك شيءٌ واحد ولها الشكل نفسه، وهي فانية في ذلك الوجود البحت والبسيط وذلك الوجود الصرف والمطلق. أمّا نحن، فنريد أن نذهب إلى هناك ونحن مقيّدون بألف قيدٍ!! لا فائدة تُرجى مِن مثل هذه الحركة يا هذا .. فنحن نريد أن نذهب آخذين معنا شهواتنا، وكثراتنا، وبخلنا، وحقدًا نحمله في قلوبنا، وما أدراك ما الحقد! حقدنا على فلان وحقدنا على فلان .. نريد أن نذهب وفي قلوبنا كدورة على إخوتنا في الإيمان!! ما معنى أن يكون في قلب السالك كدورة تجاه أخٍ له في الإيمان؟!

  • إفراغ وتصفية القلب شرط السلوك وأدب الطريق

  • عندما يريد الإنسان أن يكبّر [تكبيرة الإحرام] وهو على تلك الحالة مِنَ الكدورة، سيقول له الله: كيف تتوجّه إليَّ وبالك مشغول بألف فكرٍ، وألف مشكلةٍ؟! لو أنَّ أحدًا اتّصل مسبقًا بك وطلب منك موعدًا للمقابلة، ثمّ جاء إلى بيتك وجلس بجانبك، فرأيت أنَّه جالس إلى جانبك وباله مشغول بأمرٍ آخر، ألن يُثيرك هذا التصرّف ويُزعجك؟ ألن تقول في نفسك: ها أنا مُقبل عليك وأتكلّم معك، والحال أنّك تفكّر بأمرٍ آخر!؟ فلماذا استأذنت للحضور والحال هذه؟! لقد كان عليك أن تحضر وقد فرّغت بالك مِن كلّ شيءٍ آخر، وبدون أن تشغلك أيّة مشكلة.

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

6
  • يأتي البعض ليسأل عن موضوعٍ ما، وهو يحمل هاتفه المحمول في جيبه، وما أن يشرع الطرف المقابل بالإجابة على أسئلته، يبدأ هاتفه بالرنين، فيستأذن للإجابة على الاتصال، فيُخرج الجهاز مِن جيبه ويبدأ بالحديث مع المتّصل .. تبًّا لهذا الاستئذان!! فما دمت قد حضرت للسؤال، فما هو معنى جلبك للهاتف معك؟! هذه إهانة، هذه إهانة للشخص الّذي تجالسه مثلًا! صار الناس الآن يأخذون هواتفهم، حتّى لو ذهبوا إلى الدكّان وإلى كلّ مكان، ولو عند زيارة أحد العظماء! حتّى إذا ما رنَّ الهاتف تراه يستأذن متعلّلًا بأنّها مكالمة ضروريّة، فيقول له ذلك العظيم: حسنًا تفضّل ..

  • إنَّ المتكلّم [في هذه الحالة] سينسى ما كان قد شرع في بيانه، ثمّ ما إن يبدأ في الحديث مجدّدًا، حتّى يرنّ الهاتف مِن جديد، فيستأذن للردّ مرّة ثانية. أيّ استئذانٍ هذا!! وأيّة طريقة للتصرّف هذه!! إنَّ هذا التصرّف يعتبر إهانة للطرف المقابل، وهو على خلاف ما تقتضيه الآداب والثقافة .. يبدو أنَّنا نسينا تلك الأصول، وأنَّ الأفكار قد تبدّلت! إنَّ مثل هذا التصرّف يؤذي الطرف المقابل، ولسان حاله يقول: كنتَ قد اتصلتَ هاتفيًّا واستأذنتَ للحضور لديّ، فقمتُ بإلغاء ما خطّطتُ له مِن أعمال لأجلك، ومنحتك فرصة الحضور للنظر في الموضوع الّذي جئت مِن أجله، فما إن حضرتَ حتّى بدأت بمحادثة هذا وذاك! نعم، لا بدّ والحال هذه أن يتأثّر الطرف المقابل.

  • إنْ وقف أحدهم بين يدي الله للصلاة وهو يحمل في قلبه ضغينة على أخيه، ألن يؤثّر ذلك مع الله؟! ألن يقول له: ما دمت قد حضرت بين يديّ، فلِم لَم تأت بقلبٍ نقيٍّ، وجئت بقلبٍ يحمل ضغينة تجاه أحد عبادي؟! فإن كنت عبدًا مِن عبادي، فهو أيضًا مِن عبادي، وهو يتوجّه نحوي في هذا الوقت. فإن كانت هناك مشكلة واقعة بينك وبينه، فلماذا تعمل على استدامتها؟! بل كان عليك أن تضع حدًّا لها، وأن يقبّل كلّ منكما الآخر وتُنهي المسألة. فما معنى الإصرار على إدامة هذه الخصومة؟! إنَّ الإصرار عليها يضع حاجزًا في طريقك.

  • ما هو المطلوب بالعبادة وما هي حقيقة العبادة وشروطها

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

7
  • إنَّك عندما تقف للصلاة وتكبّر قائلًا (الله أكبر)، يجب أن يكون هذا التكبير مِن نوع التكبير الّذي يقطع النفْس عن تعلّقاتها ويجعلها تتجاوز الكثرات. نعم إن [مجرّد ترديد ألفاظ] الله أكبر مرّة، والحمد مرّة، وسبحان ربّي العظيم مرّة، وسبحان ربّي الأعلى مرّة، يرفع ظاهر التكليف، ولكن الصلاة لا تنقضي بهذا الحدّ، فهل يصلّي الإنسان مِن أجل أن يسقط وجوب القضاء فقط؟! مِثل هذه الصلاة لن يكون لها أثر، ولن تتجاوز هذا السقف، فهل على المرء أن يصلّي هكذا صلاة أم عليه أن يصلّي صلاة حقيقتها الاتّصال بالحبيب، ولا علاقة لها بالقضاء، فأيّ الصلاتين أفضل؟ وأيّهما تعمل على ارتقاء الإنسان وحركته؟

  • هذا فيما يتعلّق بالصلاة، وكذلك الأمر في غيرها مِنَ التكاليف، كالصيام وبقيّة العبادات، بل حتّى النَّفَس، نفْس النَّفَس في شهر رمضان، ألم نقرأ في الروايات: «أنفاسُکم‌ فيهِ ‌تَسبيحٌ‌ ونَومُکم فيهِ عِبادَة»۱، نعم، إنّ هذا الكلام هو كلام رسول الله .. التفتوا «أنفاسكم فيه» أي في شهر رمضان «تسبيح»، وهذا يعني أن شهر رمضان هو شهر بمجرّد أن تكون فيه فأنت تسير وتتقدّم شئت أم أبيت؛ نعم، هذا ما يترتّب على وجودك في هكذا جوّ وفضاء، فهذه النتيجة تحصل حتّى مِن دون الإتيان بصلاةٍ، فمجرّد التنفّس عبادة، ومِنَ المعلوم أنَّ التنفّس لا يتضمّن أيّ نوعٍ مِنَ الذِّكر.

  • «ونَومُکم فيهِ عِبادَة»، هل تعتقدون أنَّ العبادة هي فقط الركوع والقيام، أو أنَّها ليست إلّا السجود والإتيان بالأذكار والأوراد، أو أنّها الجلوس والإتيان بالذِّكر؟! كلّا، إنَّ العبادة هي ذلك العمل الّذي يُخرج الإنسان مِن عالَم الكثرة ويُدخله في عالَم الوحدة والتجرّد، مهما كان ذلك العمل؛ سواء كان درسًا فهو عبادة، أو مساعدة مَن هو تحت مسؤوليّتك وفي عهدتك فهو عبادة، أو مساعدةَ الوالدين فهو عبادة، فكلّ ذلك عبادة، وكذا فيما يتعلّق بإرضاء ذوي الحقوق وإصلاح ذات البين، فجميع هذه الأعمال هي مِنَ العبادات، بل هي أعلى بكثير مِن تلك الأعمال الّتي نؤدِّيها على أنَّها مِنَ العبادات، نعم، إنَّها أعلى بكثيرٍ منها.

  • يقول رسول الله «أنفاسكم فيه تسبيح»، فذلك النَّفَس الّذي تستنشقه في هذا الشهر [أي شهر رمضان] هو تسبيح لله. ولكن ما هي شروط ذلك؟ إنَّ ذلك يحصل عندما يترك الصيام هذا الأثر عليك، وهو أن يقوم الصيام بإخراجك مِن عالَم الكثرة وإدخالك في جوّ الصيام. ألا يحصل لنا مثل هذا الشيء في شهر رمضان؟ ألا تشعرون بالانبساط والسرور فيه؟ ألا تحسّون بالفرق بينه وبين غيره مِنَ الأشهر؟ ها قد انتهى شهر رمضان، فهنيئًا لمَن شملهم التوفيق واستطاعوا أن يستفيدوا فائدةً واقعيّةً منه. أمّا أنا، فلم يشملني هذا التوفيق وقد حُرمت منه، وذلك إلى أن يشاء الله أمرًا، فها هي حسرة انقضاء هذا الشهر وعدم توفّقي لصيامه تكتنفني٢.

    1. الأمالي للشيخ الصدوق، ص ٩٣. (م)
    2. مِنَ الجدير ذكره، أنّ سماحته كان مبتلًا لفترات طويلة بمرض يمنعه شرعًا مِنَ الصيام. (م)

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

8
  • هذا الشهر هو الشهر الّذي يأخذ الصيام صاحبه إلى جوّه الخاصّ به، فإن دخلتَ ذلك الجّو ستصبح أنفاسك فيه تسبيح.

  • يجب علينا الاهتمام بشدّة بهذه الحالة، وقد كان العظماء يولّونها اهتمامًا أكثر مِن غيرها مِنَ الأمور، ألا وهي: التغاضي وعدم التحقيق في أعمال الآخرين وشؤونهم. فعلى كلّ واحدٍ منَّا أن يشتغل بأموره ما لم يُطلب منه العون .. فما هو شأنك بما يجري هنا أو هناك؟! بل عليك أن تهتمّ بأمر نفسك.

  • المرتبة الثانية مِنَ الستّارية؛ محو الذنوب

  • أمّا الأمر الثاني الّذي تحدّثنا عنه فيما يتعلّق بستّارية الله، هو أنَّ الله يمحي السيّئات؛ وهذا المقام أعلى مِنَ المقام السابق، فهنا يتجلّى مقام الستّارية أيضًا، غير أنَّ ستّارية هذا المقام تعتبر أعمق مِن ستّارية المقام السابق، فهي لا تتضمّن تغاضي الله عن السيّئات، وأمره لملائكته بالتغاضي فحسب – وتوجد لدينا روايات في هذا المجال – بل يقوم الله هنا بمحو السيّئة الّتي أتى بها عبده المؤمن بشكلٍ وكأنّه لم يرتكبها.

  • محو الذنب يعني إزالة كدورة العمل الذنبيّ مع بقاء العمل نفسه

  • إن كان الأمر كذلك، فما هو مصير ذلك العمل الّذي صدر عنه بالفعل؟ إنَّ نفس العمل باقٍ في محلّه ولن يُمحى، إذ كلّ ما يحصل في عالَم الوجود ينسلخ عنه العدم؛ إنّ لهذه الليلة الّتي نحن فيها – وهي ليلة السبت – وجودها الخاصّ بها، نعم، إنَّ لها حصّة وجوديّة مختصّة بها، ولها حقيقة، وهي الحقيقة الّتي نشعر بها الآن، فها نحن نشعر بوجودنا في هذا المكان، وكذا الحال بالنسبة إلى بقيّة الإخوة، فهم يشعرون بوجودهم ووجود مَن يجلس إلى جانبهم. وماذا عمّا يجري مِن حديث الآن؟ إنَّ لهذا الحديث وجوده المتعيّن والخاصّ به أيضًا، والّذي يختلف بطبيعته عن الحديث الّذي جرى في الليلة الماضية، وهو يختلف عن الحديث الّذي سيجري في الليلة القادمة، إن منحنا الله التوفيق لذلك. نعم، إنّ لحديث هذه الليلة – الّذي يحصل في هذا التاريخ وفي هذه الأجواء – حصّة خاصّة في عالَم الوجود، فهي حصّة لا يُمكن أن تفنى أبدًا، فهي تشبه تسجيل الصوت بواسطة هذه الأجهزة، فهذا الحدث سيبقى على ما هو عليه دائمًا.

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

9
  • وبسبب [بقاء] هذا الوجود، يستطيع مَن تُفتح عينه الباطنيّة – سواء كان ذلك عن طريق المكاشفة أو عالَم الرؤيا – أن يطّلع على تلك الأمور، وإلّا كيف يمكن للإنسان أن يطّلع على أمرٍ عدميّ! كلّا، لا يمكن ذلك، حتّى الله لا يمكنه الاطّلاع على ذلك، فكيف بعباده! وذلك لأنّ العدم عدم، والعدم يعني اللاوجود.

  • كيف يمكن للمرء أن يرى في المنام أنّ قضيّة ما ستحصل في الأسبوع القادم، ثمّ تحصل تلك القضيّة كما رآها بالضبط؟ كيف يمكن أن يرى هذا الشيء؟ لا بدّ وأن يكون هناك شيء موجود بالفعل لكي يراه، فما هو ذلك الشيء؟ إنّه تلك الحقيقة المثاليّة الّتي يمكن أن تُرى بواسطة العين الباطنيّة الّتي تُفتح بطريقة أو بأخرى، فقد يحصل ذلك مِن خلال المكاشفات – والّتي هي على أنواع مختلفة – أو مِن خلال الرؤيا الصادقة؛ {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي‌ ساجِدينَ}۱، فقد رأى يوسف هذه الرؤيا عندما كان صبيًّا، وعندما كبُر وبلغ مرحلةً مِنَ العمر جاء أبوه وإخوته ووقفوا أمام عرشه، وقاموا بما قاموا به. إنّ نبيّ الله يوسف كان قد رأى كلّ ذلك، فكيف تمكّن مِن رؤيته؟ نعم، لو لم يكن هناك شيءٌ موجود بالفعل، لَما كان بالإمكان رؤيته، فلا بدّ أنّه موجود بالفعل. ولكن وجوده هذا غير محسوسٍ لنا، فمَن يستطيع أن يشعر به؟ يستطيع أن يرى ذلك مَن فُتحت عينه الباطنيّة بإحدى الطرق، فأولئك هم مَن يستطيعون الرؤية، فهم يطّلعون على المستقبل وعلى الماضي.

  • كان رسول الله جالسًا في بيت أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة – هذه قصّة معروفة٢ – فلاحظ المتواجدون في البيت اختفاء النبيّ، ثمّ بعد مضيّ فترة مِنَ الزمن، عاد رسول الله وقد غطّى التراب وجهه وملابسه، وكان الحزن ظاهرًا عليه، فقال: أخذني جبرائيل في هذه الساعة إلى أرض كربلاء، فرأيتُ كلّ ما حدث فيها. فما الّذي حصل هنا؟ إنَّ غياب النبيّ يعني أنَّه قد ذهب بجسده إلى كربلاء، وإلّا كان بإمكانه أن يرى جميع ما قد رآه وهو في مكانه، كما يحصل لمن يرى منامًا، أو كما حصل لأمير المؤمنين عند عودته مِن صفّين حيث رأى الشيء نفسه في غفوته عند مروره بأرض كربلاء، فأفاق وهو يقول «صبرًا صبرًا لك يا بنيّ»، وعندما سُأل عن ذلك قال «هنا مناخ ركابٍ ومصارع عشّاقٍ لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق»٣، أي إنّ هذا المكان هو المكان الّذي سينزل فيه ويسقط على أرضه عشّاقٌ لا تُعرف أماكن رؤوسهم مِن أرجلهم، هم الّذين لم تأتِ الأزمنة السابقة بمثلهم ولن تأتي الأزمنة اللاحقة بمثلهم.

    1. سورة يوسف (۱٢)، جزء مِنَ الآية ٤.
    2. بحار الأنوار، الشيخ المجلسيّ، ج٤٤، ص٢٣٩؛ افق وحى (فارسي) للسيّد محمّد محسن الطهرانيّ ص۱٣۸. (م)
    3.  معرفة الله، العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ، ج۱، ص٣٤٥. مع اختلاف في العبارة؛ بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ج٤۱، ص٢٩٥. [المترجم]

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

10
  • كان هذا ما حصل لأمير المؤمنين في الرؤيا في ذاك المكان، أمّا النبيّ فقد شهد الواقعة في صحراء كربلاء ببدنه العنصريّ قبل أن تحصل تلك الواقعة بستين عامًا، وذلك بانكشاف حقيقتها المثاليّة للنبيّ في أرض كربلاء قبل وقوعها، أي أنَّ نفس وجود تلك الواقعة – الّتي ستحصل بعد ستين عامًا –قد حضرت في ذلك الوقت بارتفاع الزمان في البين، فعندما ارتفع الزمان حضر نفس ذلك الوجود، وعندما عاد الزمان إلى ما كان عليه، غابت عنه واختفت تلك الواقعة مرّة أخرى. هذا يعني أنَّ نفس تلك الحقيقة ونفس ذلك الوجود ونفس ذلك التعيّن موجود ولا يمكن له أن يزول، نعم، لا يمكن أن يفنى أصلًا.

  • فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت الأعمال باقيةً في حدّ ذاتها ولا يمكن أن تفنى، فكيف يمحو الله السيّئات والحال هذه؟ نعم، لا يمكن إزالة تلك الأعمال مِنَ الوجود، فهل يستطيع الله أن يمحو هذا المجلس المنعقد في هذه الليلة مِنَ الوجود؟! نعم يستطيع الله أن يتعامل مع الأشياء الّتي ستحصل بعد هذه اللحظة، فيجعلها تظهر بشكلٍ آخرٍ، أمّا فيما يتعلّق بما حصل إلى الآن، فهو موجود وغير قابل للمحو. وهذا الأمر يعود إلى القضيّة التالية، وهي أنّ كلّ ما يحصل في هذا العالَم لا يتعدّى كونه آثار الله الوجوديّة، وبما أنَّ هذه الآثار لا يمكن أن تكون ظلمانيّة بحدّ ذاتها، فإنَّ ما يمكن أن يجعلها نورانيّةً أو ظلمانيّةً ليس إلّا النيّة والإرادة الّتي أوجبت تحقّقها في الخارج، فتلك النيّة هي الّتي تجعل تلك الأعمال ظلمانيّةً أو نورانيّةً.

  • في الآية الشريفة مِن سورة الفرقان ما يُبيّن هذا الموضوع، وهي الّتي تتحدّث عن أوصاف [المؤمنين]؛ {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا}۱ .. بعض الآيات في سورة الفرقان عدّدت بعضًا مِن صفات المؤمنين، مِن قبيل أنَّهم يمتنعون عن ارتكاب الذنوب وعن شهادة الزور وغيرها مِنَ الأمور المخالفة٢ .. ثمّ تقول الآية [القرآنيّة]: {كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}٣، أي إنّ الله لا يحبّ كدورة وسوء تلك الأعمال الّتي مرّ ذكرها، لا نفس تلك الأعمال؛ فنفس العمل الّذي يقوم به الإنسان ليس إلّا عملًا لا أكثر، فنفس هذا العمل [الّذي تلبّس بالذنب] قد لا يختلف عن غيره مِنَ الأعمال العباديّة مِن حيث الظاهر؛ فإنَّ الطعامَ طعامٌ، إن أكله الإنسان بنيّة الغصب، سيكون الطعام حرامًا، وإن أكله بإذن صاحب البيت، فلن يترتّب على أكله أيّ إشكالٍ، ليس هذا فقط، بل قد يكون أكله مستحبًّا؛ فالطعام [في الحالين] هو نفس الطعام – كأن يكون صحنًا مِنَ الأرز مثلًا – والأكل هو نفس الأكل، غير أنَّه محرّم وموجب للظلمة وجالب للسخط الإلهيّ في الحالة الأولى، أمّا في الحالة الثانية فهو موجب لرضاه تعالى.

    1. سورة الفرقان (٢٥)، الآية ٦٣.
    2. يشير سماحته إلى الآيات ٦٣ إلى ۷۷ مِن سورة الفرقان (٢٥): {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا ، وَالَّذينَ يَبيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا ، وَالَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا ، إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا ، وَالَّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا ، وَالَّذينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتي‌ حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فيهِ مُهانًا ، إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُورًا رَحيمًا ، وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتابًاً ، وَالَّذينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا ، وَالَّذينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْيانًا ، وَالَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقينَ إِمامًا ، أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فيها تَحِيَّةً وَسَلامًا ، خالِدينَ فيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا ، قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا}. (المترجم)
    3. سورة الإسراء (۱۷)، الآية ٣۸.

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

11
  • قد يدخل عليك أحدهم، فتقوم بتعظيمه واحترامه، ويكون مِمّن يستحقّ التعظيم حقًّا؛ كأن يكون والدك أو والدتك أو أحد الرجال العظام، أو أستاذك أو معلمك أو واحدٌ مِمّن لهم حقّ عليك، فستكون في هذه الحالة قد قمت بعملٍ جيّدٍ ومستحبٍّ، وقد يحصل نفس قيامك هذا بنيّة الاستهزاء بهم والتمثيل عليهم، فتكون قد قمت بعملٍ باطلٍ هنا؛ إنّ القيام هو نفس القيام، غير أنَّه يوجب رضا الله في حالة، وسخطه في الأخرى.

  • إنَّ الله لا يمحو العمل الّذي يقوم به المرء، بل يقوم بمحو سوء ذلك العمل وظلمته والكدورة الحاصلة منه، ذلك السوء والكدورة والظلمة الّتي تُبعّد عن الله وتوجد حجابًا بين الإنسان وبين الله، فذلك الحجاب هو الّذي سيُرفع مِنَ البَين، لا نفس العمل؛ لأنَّ العمل بحدّ ذاته غير قابل للمحو. نعم هناك مرتبة أعلى مِن هذه وأرقى .. 

  • لو علِم المدبرون عن الله مقدار شوقه لهم لذابوا شوقًا

  • إنَّ كلّ ما نتكلّم عنه هنا يمثّل مقام ستّارية الله تعالى، فكم هو إله عجيبٌ إلهنا! كنتُ قد قلتُ هذا الكلام مرّةً: يا له مِن إله عجيبٍ إلهنا! ما الّذي كان سيحصل لو كان إلهنا يمتلك صفاتٍ أخرى؟!

  • ما هو مصدر تلك النظرة السلبيّة وذلك التصوّر غير المناسب الّذي يرتسم في أذهان الناس عن الله ونبيّه وعن الدين؟ إنَّ كلّ ذلك ينشأ عن الصورة السلبيّة التي قدّمناها للناس عن الله؛ فلم نقم بوصفه للناس كما وصفه الإمام السجّاد عليه السلام، بل قمنا بتقديمه لهم بشكلٍ مغايرٍ؛ ولهذا السبب ترى الناس يقولون: إن كان الله كما تصفون، فنحن لا نريد مثل هكذا إله! وهم محقّون في ذلك .. فلو أنَّنا عرّفنا اللهَ للناس كما يعرّفه لنا الإمام السجّاد في دعاء أبي حمزة الثماليّ الآن، فمَن سيستنكره مِنَ الناس حينئذ؟! ومَن منهم سيقول: لا أقبل به إلهًا؟! ومَن سيرفض الدين؟! ومَن سيرفض الإسلام؟! ومَن سيذهب إلى هنا وهناك للاعتراض على الدين؟! فإنّ هذه الأمور المختلفة الّتي تُنقل عن الدين تجعل الناس يتركونه ويتديّنون بدين آخر، ونحن – مع الأسف – نسمع بأمثال هذه الأمور. إنَّ جميع ذلك ناشئ عن الفهم الخاطئ والتصوير الخاطئ، وإراءة الله والعوالِم الربوبيّة بما لا يناسبها ولا يتوافق معها.

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

12
  • إن كان الله قاصم الجبّارين، فهو خير الساترين أيضًا، فهو لا يتّصف بإحداها دون الأخرى. وإن كان الله قاهرًا، فهو رؤوف في الوقت نفسه. وإن كان مبيد الظالمين، فهو الرحمن الرحيم أيضًا .. فلا ينبغي لنا أن ننتخب صفة دون أخرى نصف الله بها، ولا ينبغي أن نصفه للناس وفقًا لميولنا الشخصيّة، فما يتمّ تعريفه للناس في هذه الحالة هو الله الّذي يتلاءم مع ميولنا الشخصيّة لا الله الواقعيّ، والنبيّ الّذي يتلاءم مع ميولنا، والشريعة الّتي تتلاءم مع ميولنا، لا تلك الشريعة الواقعيّة، ولا ذلك الدين الواقعيّ والحقيقيّ.

  • إن جلستم لمدّة ساعة تشرحون عبارة الإمام السجّاد هذه۱ للشباب وعامّة الناس، الّذين لم تصلهم المعارف والحقائق كما ينبغي، فما الّذي سيقولونه؟ ما الّذي كانوا سيقولونه حقًّا؟ أما كانوا سيقولون: إن كان الله كما تصفون، فسنكون خُدّامًا وعبيدًا له، وسنكون مِنَ المحبّين المطيعين له .. وها نحن نقول لهم: نُقسم بذات الله إنّه كذلك، فالله ساتر الذنوب، وهو ليس بساتر فقط، بل يمحي أعمالك وذنوبك بالشكل الّذي لا يمكنك – حتّى أنت – أن تطّلع عليها بعد ذلك .. لهذا الحدّ إلهنا جيّد، ولهذا الحدّ إلهنا عجيب، فهو واقعًا عجيب!

  • ماذا أفعل لقد تعبت! إنّي أحب أن أبين المطالب أكثر مِن هذا، ولكنّني أشعر بالتعب، وعلَيَّ ألّا أتجاوز الخطّ الأحمر المرسوم لي .. إنّ الأمر لعجيبٌ حقًّا، وسنطّلع على مقدار منه في هذه الدنيا، وما تبقّى منه نطّلع عليه عندما نعبر إلى الجانب الآخر، حيث سنرى أيّ نظام حاكم هناك.

  • نقل لي أحد أصدقائي، الّذي لا يزال على قيد الحياة، وهو شخص تقيٌّ، أسال الله أن يحفظه، نقل هذه الحكاية قائلًا: التقيتُ بأحد أصدقائي في سفري إلى أحد البلدان الأجنبيّة لأداء مهمّةٍ ما، فقال لي: جاء إلى هذا البلد أحد المواطنين الإيرانيّين فخرج عن الإسلام واعتنق الدين المسيحيّ، فهل تسمح بأن أدعوه لتتحدّث معه. فجاء الرجل وقلت له: ما الّذي جعلك تخرج عن الدين الإسلاميّ وتعتنق غيره؟ على أنَّ اعتناقه للمسيحيّة جاء لمجرّد سدّ الفراغ الحاصل .. فبدأ الرجل بسرد الأسباب – تلك الأسباب الّتي لا بدّ أنّ الجميع قد سمع عنها شيئًا – قائلًا: بما أنَّ الإسلام بهذا الشكل، فأنا لا أريده، ما الّذي سأفعله إن كنت لا أرغب فيه .. قلتُ له: لا شأن لي بهذه الأمور الّتي تُطرح، وبما يقوله هذا وذاك، وبالصورة الّتي رسمها الآخرون لك عن الإسلام، فلا شأن لي بكلّ ذلك، بل دعنا نتحرّى أصل الموضوع ونتحدّث عن الله نفسه، دعني أنقل لك جملة واحدة فقط، وهي عبارة عن حديث قدسيّ، أي إنّه كلام الله نفسه – إذ ما ينزل على قلب الرسول مِنَ ناحية الله هو إمّا على هيئة وحيٍ قرآنيٍّ أو حديثٍ قدسيٍّ – فهذا الحديث عبارة عن حديث قدسيّ، يقول فيه، ولعلّ عبارته الدقيقة هي التالي «لَو عَلِمَ المُدبِرونَ عَنّي، كيف اشتياقي بِهِم وشَوقي إلى رُؤيَتِهِم لَماتوا شَوقًا»٢، أي لو علم أولئك، الّذين يديرون ظهورهم لي وينصرفون عنِّي، مقدار اشتياقي للقائهم، لذابوا وماتوا مِن شدّة الشوق، ولكنّهم لا يعلمون ذلك. يقول الرجل: ما إن قرأتُ عليه هذا الحديث حتّى أطرق رأسه إلى الأرض، ثمّ قال: أهذا كلام الله حقًّا؟ قلتُ له: نعم، وهو موجود في مصادرنا. فقال: إن كان الله على هذا النحو، فها قد عدتُ إلى الإسلام، وها أنا أعترف بما ارتكبته مِن خطأ وأتوب عنه. فعاد الرجل إلى الإسلام مِن جديد.

    1. يشير سماحته إلى الفقرة مورد البحث هنا مِن دعاء أبي حمزة الثمالي «وَلَو خِفتُ تَعجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ، لا لِأَنَّکَ أَهوَنُ النَّاظِرِينَ وَأَخَفُّ المُطَّلِعِينَ؛ بَل لِأَنَّکَ يا رَبِّ خَيرُ السَّاتِرِينَ وَأَحکَمُ الحاکِمِينَ وَأَکرَمُ الأَکرَمِينَ». (م)
    2. جاء في كتاب المراقبات (أعمال السنّة) للشيخ الميرزا جواد الملكي التبريزيّ: لو علِم المدبرون عنّي كيف انتظاري بهم، وشوقي إلى توبتهم، لماتوا شوقًا إليّ، [و] لتفرّقت أوصالهم. [المترجم]

مرتبتان مِن مراتب ستّارية الله: التغاضي عن الذنب ومحوه - وشرح (أنفاسُکم‏ فيهِ ‏تَسبيحٌ‏ ونَومُکم فيهِ عِبادَة)

13
  • لو كان ذلك قد حصل أمامنا، لقلنا على الفور بارتداده وأوجبنا إعدامه، مع أنَّ الأمر لم يصل بالرجل إلى الحدّ الّذي يوجب تعليقه بحبل المشنقة. نعم، عاد الرجل واعترف بخطئه وتاب عنه، وهو يقول: لقد أخطأتُ يا ربِّ، فإن كنتَ هكذا فسأكون عبدًا مِن عبيدك وسأحبّك.

  • تو کجایی تا شوم من چاکرت***چارقت دوزم کنم شانه سرت۱
  • (يقول: أين أجدك لأكون لك خادمًا، وأقوم برقع نعليك وتمشيط شعر رأسك) 

  • قد قال [الراعي] هذا الكلام وهو في تلك الحالة الّتي كان يعيشها .. أتلاحظون كيف أنَّنا لم نصف الله للناس بالشكل الّذي يصفه لنا الإمام السجّاد عليه السلام هنا، ولهذا السبب تحصل مثل تلك الأمور.

  • بناءً على هذا، لا بدَّ أن نعود إلى مذهب أهل البيت وإلى ما أوصونا به. نعم، يجب أن نرجع إلى ما صدر عن أهل البيت، لكونهم هم أهل ذلك البيت، أمّا غيرهم فلا نصيب لهم في ذلك. فلمّا كنتم أنتم أهل البيت، ولمّا كنتم أدرى بما يجري في البيت مِن غيركم، فأنتم مَن يُخبرنا بما يجب علينا القيام به. وها هم أهل البيت يقولون لنا: نحن بيّنا لكم كلّ ذلك.

  • نسأل الله، ببركة هذا الشهر، أن يفتح أبصارنا، وأن يجعل طريقنا طريقًا مستقيمًا، وأن يجعله نفس الطريق الّذي سار عليه أولياؤه وأهل بيت نبيّه المعصومون. آمين 

  • الّلهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد

  •  

    1. هذا البيت لمولانا الروميّ مِن كتابه المثنويّ المعنويّ الجزء الثاني، حيث يروي فيه حكاية أحد الرعاة، الّذي وجده نبيّ الله موسى يناجي ربّه بتلك العبارات. [المترجم]