المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1436
التوضيح
اختلاف نظرة العرفاء وعلماء الظاهر إلى الأحكام الشرعيّة عدم قبول الصلاة إذا كان مشتغلاً فيها بغير الله للصوم درجات مختلفة قراءة القرآن والتأمّل بآياته لا الأنس بصوت القارئ قراءة الدعاء لمعرفة معانيه لا للانتهاء منه اختلاف تعامل أهل الظاهر والباطن مع أساتذتهم عدم اكتراث الأولياء بنسبة ما يفعلونه إليهم الأولياء لا يرون أن ما يقومون به هو منهم بل من الله تعالى الأولياء لم يعدّوا شيئاً للقاء الله تعالى سوى رحمته
هو العليم
كيفية تعامل الأولياء وغيرهم مع الأمور
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٦ هـ ق - المحاضرة السادسة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم
بسمِ الله الرحمنِ الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّدٍ
اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائِهم أجمعينَ
هَبْنِي بَفَضْلِكَ وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ؛ أَيْ رَبِّ، جَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ.
جميع هذه العبارات تعكس معنىً واحداً، ألا وهو طلب العفو من الله تعالى، وعدم المؤاخذة على الأعمال التي يقوم بها الإنسان عند عرضها في مقام الحساب والميزان.
اختلاف نظرة العرفاء وعلماء الظاهر إلى الأحكام الشرعيّة
تقدَّم الحديث في الليلة الماضية عن الفرق بين العبارات التي يستخدمها العرفاء وأولياء الله كالأنبياء والأئمة والعظماء من أصحاب المعرفة والتوحيد في أحاديثهم وكتاباتهم وآثارهم، وبين تلك التي يستخدمها سائر العلماء من أهل الظاهر، ولو كانوا من أهل الصلاح والتقوى؛ فالفرق يكمن في أنَّ ملاك علماء الظاهر في النظر إلى الأعمال التي يقومون بها، هو نفس تلك الطاعة الظاهرية والانقياد لتعليمات الشارع لا غير، فهم لا يهتمّون بما سوى ذلك؛ فلا تعنيهم تلك الحقائق وأمور عالم المعنى التي تتضمّنها تلك التكاليف والأحكام؛ فإن أدّى المكلّف صلاته بوضوء واستقبال قبلة وتكبيرة إحرام بشكلها الصحيح، وقام بقراءة الفاتحة والسورة، وأدَّى القنوت والركوع والسجود بصورة صحيحة، فسيُقال بأنَّه قد أدَّى صلاته وفرغ من التكليف المترتّب عليه، فلا يعود بحاجة إلى قضاء هذه الصلاة أو إعادتها؛ وسيقبل منه الله تلك الصلاة.
فلا يعنيهم الحال المعنوي للمصلِّي؛ فإن كان فكر المصلِّي في بدء الصلاة مشغولاً بالمعاملات التجارية، بحيث يكون عند تسليمه قد انتهى من توقيع عدّة عقود، وتلاعب في عدّة معاملات، وغشّ عدداً من الناس، ويقول عندها: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. فستكون هذه الصلاة من وجهة نظرهم صحيحة لا تحتاج إلى إعادةٍ أو قضاءٍ.
هذا فيما يتعلّق بالصلاة، فماذا عن الصيام؟ فملاك صحّة الصيام عندهم هو الإمساك من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس عن المفطرات المذكورة في الرسائل العملية، وهي الطعام والشراب والتدخين ـ وإن كان البعض قد أجازه ـ وترك النارجيلة ـ إذ يبدو أنّها ليست من المفطّرات عندهم أيضاً؛ لأنّهم إن أجازوا التدخين، فستكون هي الأخرى جائزةً ـ بالإضافة إلى غمس الرأس في الماء وسائر المفطّرات الأخرى، فإن امتنع عن هذه الأمور سيكون صيامه صحيحاً. ولا شأن لهم بما سوى ذلك؛ فلا يختلّ صيامه وإن وجّه ألف سبّ وشتم لجيرانه وأصدقائه وشركائه في العمل؛ أو كذب في معاملاته التجارية.
فكم كذبة يستطيع المرء أن يكذب من الصباح حتّى المساء؟! إنَّه يستطيع أن يكذب إلى ما شاء الله من الكذب، لذا بإمكاننا أن نقول بدلاً من ذلك: كم يستطيع أن يصدق في كلامه؟! فلا يستطيع أحدهم أن يصدق في زماننا هذا أكثر من موردٍ أو موردين في كلامه!! فلا بأس بالكذب عندهم، بل أصبح والحمد لله من الأمور المستحسنة هذه الأيام. فلا يضرّ بصيامه إن كذب ألف كذبةٍ من الصباح إلى المساء، بل حتّى وإن أقسمَ قَسم كذبٍ.
كنت أتكلّم مع أحدهم يوماً، وكان معمّماً فقال: أقسِم بالله العلي العظيم بأنَّني لم أقل هذا الكلام، فقلت له: لقد كنتُ خلف الباب وسمعتك تقول ذلك بنفسي! فبُهت. انظروا فقد أقسم بكلّ بساطة بالله وأسماء الله العليّ والعظيم؛ فقلت له: لقد سمعتك بنفسي مباشرة.
فصار معلوماً بأنّه لا إشكال في ذلك، بل نستطيع أن نفعله بكل بساطة؛ ولا فرق في ذلك بين كون الفاعل معمّماً أو غير معمّم، إذ يستطيع المعمّم تبرير عمله بكل بساطة؛ فغير المعمّم يخشى بعض الأمور التي لا نخشاها نحن، نسأل الله أن يجعل عاقبة أمورنا خيراً! نعم، نطلب من الله فعلاً أن يجعل عواقب أمورنا خيراً. وكيف سنتمكّن من دفع الثمن؟! فستّتضح الأمور في نهاية المطاف.
لا يبطل الصوم وإن كذَبَ ألف كذبةٍ، وأقسمَ ألف قسم كذبٍ. وبعضهم، وإن قال بالاحتياط في احتمال بطلان الصوم بالقسم كذباً، غير أنَّه يبرّره باقتضاء المصلحة والحفاظ على المكانة، أو لضرورة تجارية أو لأيّة ضرورة أخرى، فهذا مما لا ضير فيه. فحتى لو أقسم الصائم من الصباح إلى المساء كذباً واستغاب الآخرين ووجّه التهم لهم، فصيامه صحيح ولا يحتاج إلى قضاء أو إعادة، غاية الأمر أنّ تلك الأعمال ستُقلِّل من ثواب الصائم عندهم. هذا فيما يخصّ الصوم؛ وكذا الحال مع بقية التكاليف، وعلى ذلك فقس.
عدم قبول الصلاة إذا كان مشتغلاً فيها بغير الله
لكن، ما الذي يقوله أهل المعنى؟ يقول الإمام الصادق عليه السلام: لا تُرفع صلاة من أشرك غير الله فيها؛ أي من شغل فكره بغير الله بدلاً من أن يكون توجّهه إلى مُخاطَبهِ، ومعرفته بمن يقف أمامه ومع من يتكلّم الآن، وكلام مَنْ ذلك الذي يتلفّظ به في صلاته الآن.. فبدلاً من هذا ترى فكره يجول هنا وهناك، ويكون ذهنه مشغولاً بارتباطاته مع هذا وذاك.
وقد رأيت بنفسي أحدهم وقد فرش سجادة الصلاة ووضع الموبايل إلى جنبها ليرى من سيتّصل به خلال هذه الدقائق، ورأيته كيف ألقى نظرة على شاشة الموبايل قبل أن يسجد ليرى من هو المتّصل؛ لئلا يفوته معرفة المتّصل، وجيداً فعل حين لم يردّ على المتّصل وإلاّ لبطلت صلاته!! ولقد أرسلوا لي مقطع فيديو لأحدهم وهو في حال السجود ويقول: أنا مشغول بالصلاة الآن، اتصل بي بعد دقيقتين!! وهذا لا يختلف عن تصرف ذاك بشيء سوى أنَّ هذا المسكين قد قالها بلسانه، دون ذاك، فالأمر واحد، ويبدو أنَّ ذلك المقطع كان واقعياً، فتراه يضع الموبايل إلى جنب السجادة ليعرف من الذي يتّصل به الآن، ثمّ يكمل صلاته بهذا الشكل.
ولما كان للأعمال التي يقوم بها الإنسان ـ وكما بيّنت لكم في الليلة الماضية ـ حقيقة تكوينيّة؛ فتلك الحقيقة التكوينيّة؛ أي الحقيقة العينيّة؛ وهي حقيقة شعورنا بأنفسنا، لا الحقيقة العلمية.. إمّا أن تكون حقيقةً نورانيةً أو ظلمانيةً. لذا يقول الإمام: إنَّ الملائكة عندما يرفعون العمل إلى الأعلى، يقول لهم الله: إنَّ عبدي قد أشرك غيري في صلاته، ولم يُصلِّ لي وحدي، بل جعل لي فيها شريكاً؛ فصحيح هو قد نطق بالبسملة وبـ ﴿ولا الضالين﴾، وركع وسجد، غير أنَّ فكره كان مشغولاً بأمر آخر. أراد أن يُطيعني من هذا الجانب، فقام بالركوع والسجود، أمّا من الجانب الآخر، فلم يكن ذهنه معي، بل كان مشغولاً بأمور أخرى، ولما كنتُ أنا خير شريك، فها أنا أُعطي حصّتي لشريكي! نعم، أتنازل عن حصّتي ولا أريدها، فاضربوا بهذه الصلاة رأس ذلك المصلّي، وقولوا له: هذه الصلاة لك!
كلام من هذا؟ إنَّه كلام أهل المعنى. فهم يقولون بأنَّ هذه الصلاة لا تساوي فلساً، وعليك إعادتها. فإن قمت إلى الصلاة، وكان ذهنك مشغولاً بأمور أخرى، فعليك إعادة تلك الصلاة، وعليك أن تركّز ذهنك؛ فتختار مكاناً هادئاً، وتُبعد عنك ما يُسبب تشتّت أفكارك. وإن أردت الصلاة، فلا تبادر إليها مباشرة فور وصولك إلى البيت؛ بل عليك الاستراحة والاسترخاء قليلاً، واستجماع أفكارك التي كانت مشتّتة ومشغولة بما كان يجري في الخارج، فإن حصل لك التهيؤ، فقم للصلاة عندها، واعلم أي صلاة ستصلّي. أتذكّر بأنَّني قد تحدّثت عن موضوع الصلاة قبل ثلاث أو أربع سنوات في عدة ليالٍ في شهر رمضان. عندئذٍ، تكون هذه الصلاة هي التي يمكن أن ترفعها الملائكة، وسيقول الله: هذه الصلاة التي صلاّها عبدي هي لي، ولم يجعل فيها شريكاً.
وكذا الأمر فيما يتعلّق بالصوم، فالصوم لا يعني الإمساك عن المفطرات فقط، بل يجب أن يكون وسيلة ومقدمة لتهيئة الأرضيّة كي يتوجّه الإنسان في مراتبه الثلاثة: الظاهر والباطن والسِّر، إلى تلك الحقيقة اللّا متناهية البحتة البسيطة، حتى يستطيع التخلّص من جميع التعلّقات الظاهرية، والتعلّقات الباطنية المتمثّلة بالفكر والخيال، وتعلّقات مقام السرّ المتمثلة بالميل والرغبة والاشتياق إلى ما سوى الله.
للصوم درجات مختلفة
لذا فإنَّ للصوم درجات مختلفة للناس باختلاف رتبهم؛ فصوم العظماء مثل المرحوم العلاّمة أو المرحوم الحدّاد أو المرحوم القاضي لم يكن صوماً عن شرب الخمر أو الماء أو الطعام فقط، فهذا مما لا يمكن الحديث عنه في هذا المجال؛ كما أنَّه لم يكن ـ في مقام أعلى بقليل ـ مقتصراً على اجتناب الغيبة والكذب وتوجيه التُهم للآخرين، فلا يمكن تصوّر صدور مثل هذه الأفعال عنهم، ولم يكن صيامهم بمعنى إبعاد سوء الظنّ عن أذهانهم وإن لم يجروه على ألسنتهم، فهذا الأمر هو الآخر غير متصوَّر بشأن أولياء الله. فعمّ يصومون إذاً؟ من الواضح أنّنا عندما نصوم ماذا يكون هدفنا من الصوم؛ فنحن نصوم لكي نعود إلى أنفسنا ونهتمّ بها، فنحن لا نرتكب ذلك الذنب الظاهري المتمثّل بشرب الخمر؛ نعم، نحن نشرب الماء ونأكل الطعام ونغمس رؤوسنا تحت الماء، كما أنَّه ليس من شأننا تسلّق جدران بيوت الناس أو شرب الخمر أو أكل المال الحرام أو ما شابه ذلك. فصومنا للذين هم في مرتبتنا هو من أجل السيطرة على الخواطر التي ترد على أذهاننا ومنعها من الورود، وحفظ ألسنتنا عن الخوض في كلام اللغو إذاً. فهذا من شأننا، ونحن نسعى لذلك في الرتبة التي نحن فيها؛ فنقوم بحفظ ألسنتنا عن التكلّم بغير ما يرضي الله، وأقدامنا عن السير في الطريق الذي لا يرتضيه الله، وأيدينا عن أن تنال ما لا يرضاه الله، وكذا الأمر بالنسبة إلى حفظ عيوننا وحواسّنا الأخرى. فهذه درجة أخرى من درجات الصوم.
أمّا فيما يتعلّق بتلك الدرجة الأعلى والتي هي مرتبة السّر، وهي مرتبة يشتدّ فيها تعلّق نفس الإنسان وروحه بالجانب الربوبي وبعالم التجرّد أكثر من تعلّقها بالجانب المادّي؛ فلا نستطيع نحن فعل شيء هناك، وهذا الأمر يتعلّق بالأولياء والعظماء فقط؛ فأيّ صوم يصومون وعن أيّ شيء يُمسكون، وهل يوجد بالأساس إمساك في ذلك الجوِّ، أم لا؟! فبالنسبة لصوم الإمام عليه السلام، فإمام الزمان على سبيل المثال يصوم أيضاً، إذ الصوم واجب حتّى على إمام الزمان، ولا فرق في ذلك بينه وبين غيره، فهل يصوم الإمام بالإمساك عن شرب الخمر أو السرقة أو أكل المال الحرام والعياذ بالله أو عن الأكل والشرب؟! لا معنى لهذه الأشياء من الأساس بالنسبة إلى الإمام! وهل يتمثّل صيامه بحفظ لسانه وكفّ بصره؟! أيضاً لا مكان لهذا الكلام في مقامه، فأيّ صوم يصومه الإمام إذاً؟ إذ نحن نعلم بأنَّه يصوم.
قراءة القرآن والتأمّل بآياته لا الأنس بصوت القارئ
نقل المرحوم العلاّمة عندما كان يرتقي المنبر، رواية عن ابن مسعود، وقد سألته بعد ذلك عن سرّ هذا الأمر؛ حيث كان رسول الله يحب ابن مسعود كثيراً، ويأمره بقراءة القرآن، فكان ابن مسعود يقرأ القرآن بصوت حزين يحبّه النبي وينصت إليه، ثم تبدأ عيناه بذرف الدموع. لقد قرأ المرحوم العلاّمة هذه الرواية، وهي رواية موجودة في كتبنا.
طبعاً، ينبغي أن نعرف بأنَّ ابن مسعود لم يكن من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين، بل كان من أهل الصلاح والتقوى. لذا عندما سُئل أمير المؤمنين عن أصحاب النبي ووصل الدور إلى ابن مسعود، قال الإمام ــ إن لم أكن مخطئاً ــ قرأ القرآن ووقف عنده۱؛ أي لم يحرّكه القرآن ولم يرفعه، ولم يُسيّره في العوالم الباطنية، بل اكتفى ابن مسعود بقراءة القرآن كما نقرأه نحن في الوقت الحاضر؛ حيث نشكّل مجالس قراءة القرآن، وندعو القرّاء من مختلف البقاع ونجلس متربعين في مكان مرتفع، ونقرأ القرآن من خلف منصّة الخطابة؛ فما أن نقرأ آية حتى ترتفع الأصوات من هنا وهناك: الله! الله! ما هذا الذي تفعلوه؟ فما هي مناسبة الصياح الله الله؟ فلماذا لا تدعه يقرأ القرآن أيها المسكين؟ على أنّ القارئ يريد ذلك.. فلو لم يمدحه أحد لقال: لماذا لا يمدحونني؟!
هذه ليست الطريقة الصحيحة لقراءة القرآن، وهذا ليس سيراً وحركة وتأمّلاً في القرآن.. ما إن يقرأ القارئ نصف آية، حتى يبدؤوا بالصياح: الله! الله! ما الذي يجري؟ وما هي مناسبة ذلك الصياح؟ وهل كانت هذه هي الطريقة التي تتم بها قراءة القرآن في عهد النبي والأئمة؟ كلاّ، كانوا يقرءون القرآن بتجويد آياته. ومن جهة أخرى نرى من القرّاء من يقرأ بصوت جميل يبعث على تحريك السامع؛ مثل عبد الباسط؛ حيث كنت أستحسن صوته منذ الطفولة، ولا زلت استحسنه الآن أيضاً، فلم أسمع قارئاً مثله ـ هذا رأيي الشخصي بالطبع، ولكلٍ ذوقه الخاص به ـ فهو يعمل حقاً على تحريك نفس الإنسان في قراءته ويأخذها معه إلى الأمام في ذلك الجو ويترك أثره على النفس.
فما إن يبدأ القارئ بالقراءة، إلاّ ويضجّ المجلس بالصياح الله! الله! ويعملون على سلب الحال المعنوي للإنسان بصياحهم هذا، فهذا يقول: غفر الله لوالديك، وذاك يقول: يرحمك الله! دعوه يقرأ لمدة نصف ساعة على الأقل! فإن أكمل قراءته، فصيحوا ما شئتم أن تصيحوا! لا ينبغي أن تتم قراءة القرآن على هذا النحو، بل يجب قراءة القرآن بصوت جميل، وبصوت حزين، وبتأنٍّ؛ لكي يعمل القرآن على تسيير القارئ مع تلك المعاني، يقرأ البعض القرآن وكأنَّه مطاردٌ من قبل مسلّح.
قراءة الدعاء لمعرفة معانيه لا للانتهاء منه
وهذا ما يحصل في قراءة الأدعية أيضاً. ولقد أشرتُ إلى هذا الموضوع قبل مدّة عند تشرّفي بزيارة مدينة مشهد، وعلى الإخوة الانتباه إلى هذا الأمر؛ فقد قلت حينها: من الأخطاء التي أشاهدها تحصل لدينا، ما يتعلّق منها بقراءة الأدعية، حيث يتمّ قراءتها بسرعة وكأنَّنا نؤدّي واجباً مطلوباً منَّا في دائرة أو مؤسسة ما، فنقوم بتسجيل حضورنا فيها ونغادر، فالمهم لدينا هو أن تتم قراءة الدعاء؛ لكن علينا أن نعرف هنا بأنَّ قراءة كهذه لا تترك أثراً علينا، فلا تُعدُّ قراءة لدعاء الافتتاح تلك التي تتم بشكل متواصل وسريع بحيث يتم الانتهاء منها خلال ربع ساعة أو عشرين دقيقة؛ فنقنع أنفسنا بأنَّنا قد قرأنا الدعاء. وكذا الحال في قراءة دعاء كميل، وإن كانت الأهميّة التي تُعطى لدعاء كميل أكثر من هذا بقليل؛ على أنَّ إدخال بعض المسائل والحديث عنها أثناء قراءة الدعاء غير صحيح؛ فإن كان الأمر يتعلّق بترجمة كلمات الدعاء، فلا بأس به، ولكنَّ الحديث عن واقعة كربلاء وعزاء السيدة زينب والقاسم لا يتناسب مع دعاء كميل، فلكل مقالٍ مقامه الخاص به، فكما أنَّ لمجالس العزاء مقامها الخاص بها، ولا بدّ فيها من ذكر العزاء ولطم الصدور، فكذلك الأمر بالنسبة لدعاء كميل؛ إذ ينبغي مراعاة ظروفه الخاصة به. وكذا الأمر بالنسبة إلى دعاء الصباح أو المناجاة الشعبانية.
عندما نقرأ المناجاة الشعبانية، بأيّ نيّة يجب أن نقرأها؟ علينا أن ننتقل بأنفسنا إلى نفس ذلك الحال الذي كان عليه أمير المؤمنين عندما كان يقرأها. فهل كان الإمام يقرأ تلك المناجاة بنفس الأسلوب الذي نقرأها به نحن؟ هكذا وبسرعة: إِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ إِلَيْكَ، وَأَنِرْ أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ.. كلاّ! لم يكن يقرأها على هذا النحو، فذلك واضح من اسمها، فهي مناجاة؛ أي أنَّه كان يُناجي الله فيها، فكان يقرأها بتأنٍّ، ويمدّ صوته بها بنغمةٍ معينة، وكان يراعي لحن الدعاء ويسير مع تلك الألفاظ في عالم المعنى. فأمير المؤمنين هو الذي يُناجي الله فيها لا العبد، أمّا نحن فترانا نقرأها من أولها إلى آخرها هكذا وبسرعة لنقول بأنَّنا قد قرأنا المناجاة الشعبانية ونلنا ثوابها. إنَّ نصيبنا من الثواب في هذه الحالة سيكون قليلاً، ولا فائدة من هكذا قراءة للدعاء.
لقد قام أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه بتسجيل قراءته للمناجاة الشعبانية في ذلك الوقت ـ سمعت بأنَّه قد مرض هذه الأيام، أسأل الله أن يمنَّ عليه بالشفاء ويقدّر له الخير ـ ولقد استمعت لهذه القراءة بحدود الأربعمائة مرّة لحد الآن في ليالي شهري رجب وشعبان؛ فأدعية رجب وشعبان يمكن قراءتها معاً، حيث كان المرحوم العلاّمة يقرأ المناجاة الشعبانية في شهر رجب أيضاً.. نعم، لقد استمعت لها أكثر من أربعمائة أو خمسمائة مرّة، ولا زلت أستمع لها، أتعلمون لماذا؟ لأنَّ ما يميّز هذه القراءة ـ علاوة على جمال الصوت، وإن لم يكن الصوت بتلك الروعة ـ هو حُسن الأداء، فالقراءة تتم بتأنٍّ وبنغمة جميلة ويُراعى فيها التركيز على معاني الكلمات، وهذا ما يُعطيها طابعها الخاص بها، لذا فهي قراءة شيّقة يستسيغها المرء. فالإنسان لا يستحسن كلمات الدعاء بحدّ ذاتها، بل يستحسن ذلك المعنى الذي يستقرّ في القلب وفي النفس؛ حيث يحفّز استقرار تلك المعاني في النفس على الاستمرار في الاستماع. أمّا إذا قرأ الإنسان الدعاء بسرعة، فلن ينال أي نصيب منه.
لننظر إلى المناجاة الخمسة عشر للإمام السجّاد عليه السلام؛ هل تتلاءم طريقة قراءتنا لتلك المناجاة مع عظمتها؟ فعندما نقرأ مناجاة المحبين أو مناجاة التائبين أو مناجاة المريدين على وجه الخصوص، فهل ينبغي قراءتها هكذا وبسرعة: إِلهِي مَنْ ذا الَّذِي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً؟ أم يفترض قراءتها بنغمةٍ يتم فيها مراعاة مدّ الأحرف، لكي يلتفت إلى معاني الكلمات، ويثبّت ما يريده الإمام في النفس. فإن استقرت تلك المعاني في النفس، فسوف يلمس الإنسان بنفسه عندئذٍ بأنَّه قد قرأ مناجاةً باسم مناجاة المريدين أو المحبين فعلاً، وسوف يشعر كيف أنَّ حاله قد تغيَّر نتيجة لذلك. لقد قرأ نفس المناجاة في حالتين مختلفتين، لكن لماذا كان للقراءة بالأسلوب الثاني ذلك التأثير؟ حتماً لأنَّ القراءة الثانية حصلت مع مراعاة الشروط والخصائص المتعلّقة بها.
لهذا السبب، كنت أرى المرحوم العلاّمة ـ عندما كان يعود من المسجد ليلاً، وكنت صغيراً في حينها، فقد كان عمري بحدود سبع أو ثمان أو عشر سنوات ـ يقوم بإطفاء النور وتشغيل المسجل واستماع المناجاة الشعبانية، وكان يُخفض الصوت كثيراً حتى لا يؤثّر ذلك علينا، فقد كنَّا ننام في باحة البيت. فكيف كان يسير مع تلك المناجاة، وكيف كان يبتهج بها وإلى أيّ جوٍّ كان ينتقل معها؟
لقد قال أمير المؤمنين عن ابن مسعود بأنَّه قرأ القرآن ووقف عنده۱؛ أي أنَّه لم يتجاوز الظاهر لينفذ إلى باطن القرآن، بل اكتفى فقط بنيل ثواب قراءة القرآن، والأنس بقراءته لرسول الله ونيل الاستحسان، ولم يتوغّل بالسير في معاني الآيات من خلال التطبيق العملي لتلك الآيات. فلو التزم المرء بهذه الأمور لحَفِظَه القرآن من الانحراف إلى اليمين واليسار.
فما نشاهده من أنفسنا من القيام بأي عمل وفعل أيّ ذنب، إنّما يحصل نتيجة اكتفائنا فقط بالقراءة الظاهرية للقرآن، وعدم الالتفات إلى المعنى، وكما قال ذلك الخطيب الذي كان يعتلي المنبر: اقرءوا القرآن بسرعة، وستعمل الملائكة على تقليل هذه السرعة.. أرأيتم كيف يقومون بتصوير مشهد معين، ثم يقومون بعرضه ببطء؟ هكذا ستعمل الملائكة، سيقومون بإبطاء سرعة تلك القراءة ورفعها إلى الله! كلاّ، ليس الأمر كذلك، وإلا فلِمَ يقول الله: ﴿أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾٢. ولِمَ أُنزلت هذه الآية؟
يقول العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه: نحن نشترك مع أهل السنّة في أمرٍ، ونختلف معهم في أمرٍ آخر؛ نشترك معهم في قبولنا للقرآن والإسلام، ونختلف عنهم في تركهم لسنّة أهل البيت، بينما قمنا نحن بوضع القرآن جانباً، والالتزام بالسنّة والروايات فقط، على أنَّنا لم نلتزم بجميع الروايات الواردة عن الأئمة، بل بخصوص روايات الأحكام والتكاليف وحسب، وتركنا ما سواها. فليتنا أعطينا تلك المواضيع أهميتها الخاصة بها.. لذا نحن أغفلنا القرآن كلياً، نعم، لقد أغفلناه حقاً.
قال لي المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه بنفسه: عندما كنت في النجف، سمعت اثنين من فضلاء النجف ـ وكانا من المجتهدين المسلّم باجتهادهم ـ يتحدّثان ويقولان: ما فائدة القرآن لكي نضيِّع وقت الطلاّب بقراءته؟ فالقرآن لا يتجاوز كونه مجموعة من المسائل الأخلاقية والقصص، وعدداً من التكاليف والأحكام الشرعية، أمّا ما يتعلّق بالمسائل الأخلاقية، فنحن نعلمها جيداً، ونعمل بموجبها؛ فلا نغتاب أحداً ونحترم الوالدين ونحترم من هو أكبر منّا سنّاً، وأمّا ما يتعلّق بالقصص فقد عرفنا قصة موسى وعيسى وإبراهيم ويوسف وكيف تم إلقاؤه في البئر، وأمّا الأحكام، فآيات الأحكام الخمسمائة بين أيدينا، وأغلبها أحكام مجملة تحتاج إلى السنّة والروايات؛ فما هي فائدة قراءة القرآن والحال هذه؟
هذا هو الفرق الذي تحدثنا عنه بين علماء الظاهر وعلماء الباطن، فقد رأيتم كيف يقول ذلك الفاضل بأنّ هذا القرآن الذي أنزله جبرائيل على قلب النبي يضيّع أوقات الطلبة! فهل رأيتم أين وصل بنا الأمر؟! وبأيّ مصيبة قد ابتلينا؟! نعم، لقد ابتلينا بتلك المصيبة، حتى وصل بنا الأمر إلى أن يأتي من يقول بأنّ القرآن الذي كان يقرأه الأئمة والحسن والحسين والسجّاد والصادق والرضا بصوت حسنٍ وكانوا يؤكِّدون على أصحابهم وعلى بقية المسلمين بقراءته ويقولون: عليكم بالقرآن.. بأنّه لا ينبغي لنا إتلاف وقت الطلبة بقراءة القرآن وتعلّم تفسيره!
فإن كنت لا تريد أن تتلف وقتك بالقرآن، فللجنة درجات، ابتداءً من أدنى الدرجات إلى أعلاها، فلا تتوقّع أن يكون نصيبك منها الدرجات العليا، وبما أنَّ مستواك متدنٍّ، فستُعطى نفس تلك الدرجة هناك! هذا بالطبع إن كان في الجنّة متّسع لأمثال هؤلاء، وإلا فلا ينبغي إتلاف الجنّة من أجل إدخال هؤلاء الناس، فما داموا لا يريدون تلف وقتهم في الدنيا، فلا ينبغي والحال هذه إتلاف جنة الله من أجلهم، بل يتم إدخالهم إلى تلك الأماكن التي تعلمونها جيداً، وسيُقال لهم: هذا جزاء جهلكم وإبقائكم الناس في بيئة الجهل، وسوف تُحرمون من الاستفادة من النِعم الإلهيّة.
اختلاف تعامل أهل الظاهر والباطن مع أساتذتهم
كنت أحضر أحد الدروس، وقد نقل أحدهم ـ ولا يزال على قيد الحياة ـ قضيّة، وكان الأمر عجيباً بالنسبة لي! فقد قال: ذكر الشيخ محمّد علي الكاظمي، الذي كان من تلامذة الشيخ النائيني في الأصول وكان يقرّر دروسه ويدوّنها، وكان زميلاً للمرحوم السيِّد الخوئي، بل يعتبر متقدّماً عليه ـ وكان الناقل يؤيِّد كلام الكاظمي، وإلاّ لردَّه ـ ذكر الشيخ الكاظمي بأنَّ السبب في عدم حاجتنا للبحوث الفلسفية والعرفانية ومعرفة الله وأسمائه وصفاته هو أنَّ العبد يجب أن يكون مطيعاً لمولاه في مقام العبودية، فلا يعنيه أمر من هو هذا المولى وكيف يكون؛ فما عليه إلاّ أن يسمع ويُطيع، فيؤدِّي الصلاة والصيام؛ ولا علاقة له بمن يكون هذا الإله وما هي مواصفاته! أفيكون الأمر بهذا الشكل فعلاً؟!
لذا تحصل هذه الأمور عنده؛ فتراه يصلّي ويصوم، دون أن يكون له شأن بالقرآن! فلماذا يقرأ القرآن والحال هذه؟! لقد أدّى صلاته، فما الذي يريده الله منه أكثر من هذا؟! لقد بحثنا هذا الموضوع الليلية الماضية، قال الله لنا: صلّوا! فصلينا، وقرأنا ﴿ولا الضالين﴾ بصورتها الصحيحة وضبطنا مخارج الحروف، وتلفّظنا بالحروف من مواقعها المختلفة من الفم، وخلاصة الأمر لقد أدّينا صلاتنا كما يجب أن تؤدّى بحسب الظاهر؛ فهذا يكفي إذاً.
هل تكفي هكذا صلاة للوصول إلى درجات المعرفة والكمال واستثمار ذلك الاستعداد الذي وضعه الله لدى الإنسان؟ أيتم ذلك عن طريق تلك الأعمال التي تقومون بها حقاً؟ وعليه، كيف ستكون نتيجة الأمر؟ ستكون النتيجة بأنَّ ذلك الذي كان يقول: لا حاجة لنا بالمعارف الإلهية ـ وهو الشيخ محمّد علي الكاظمي ـ يتأذّى عندما يعرض المرحوم السيِّد الخوئي رحمة الله عليه تقريرات دروس الشيخ النائيني عليه، ويقوم الأخير بتقريظها وتأييدها، ثم تتم طباعتها ونشرها. فيغضب على أستاذه ويقول: كيف تسمح للسيِّد الخوئي بذلك مع وجودي أنا ومع كوني متقدّماً عليه، ما كان ينبغي أن تفعل ذلك! فيغضب لذلك، ويغادر إلى الكوفة ولا يعود يحضر دروس أستاذه النائيني إلى وفاته، وما إن يتوفى الشيخ النائيني بعد ذلك بستة أشهر، حتى يعود إلى النجف ويبدأ بالتدريس، غير أنَّه لا يستمر بذلك لأكثر من ستة أشهر حيث يوافيه الأجل كذلك.
فلو كنت ـ بدلاً من توغّلك في هذه العلوم الظاهرية ـ قد انتهلت من تلك المعارف، وانكشفت لك الحقائق والمعاني الكامنة في هذه الأدعية والروايات والقرآن، أكنت ستتصرّف هكذا مع أستاذك؟! وهل ستنكر المعروف الذي أسداه لك وليّ نعمتك؛ فمنحك البهاء والفضل وجعل منك عالماً؟! من المستبعد جداً أن يحصل مثل ذلك، والحال أنّه ورد عندنا: مَنْ علَّمني حرفاً، فقد صيَّرني عَبداً۱. فالمرحوم النائيني على ما هو عليه من العظمة هو أستاذك، وقد بذل جهداً في تدريسك وإيصالك إلى هذا المقام، فهل يستحقّ منك كلّ ذلك؟ وإن كان قد تصرّف معك بتلك الطريقة، فما الضير في ذلك؟! إذ يمكنك أن تطبع تقريراً آخر لدروس أستاذك، ويمكن ذلك للمرحوم السيِّد الخوئي أيضاً، ورجل ثالث كذلك! ما المشكلة في ذلك؟ فهل سيؤدّي ذلك إلى الانتقاص من مكانتك؟ وهل سيُقلِّل من فضلك؟! لكنّه يقول: ما دمت موجوداً، لا ينبغي لأحد غيري أن يطبع التقرير! نعم، فالخوض في هذه الأمور الظاهرية والابتعاد عن الحقائق الباطنية، هو الذي يُوصِل الإنسان إلى هكذا موقف! هذا مورد واحد فقط، وهناك ـ وبحمد الله ـ الكثير منه وإلى ما شاء الله. أتلاحظون؟!
أمّا أهل المعنى، فلا يمكن أن يتصرّفوا بهذا الشكل؛ وذلك لأنَّهم يقولون: كلّ ما لدينا هو من الله؛ فما دام كلّ شيء من الله، فما طُبع من التقريرات فهو من الله لا منك، فاجلس مكانك! وكذا ما قام به من جاء بعدك، هو من الله أيضاً. فما دام كلّ شيء من الله، فما الداعي لأن أنزعج مما حصل؟! وما معنى قولك: من الذي يريد أن يتفوّق عليّ؟ فهل يريد أحد أن يتفوّق على الله؟ فإن كنت تعلم بأنَّ كلّ ما يحصل إنَّما يحصل بعناية من الله، فما المانع من أن يجري ذلك على يدي غيرك؟ وسيكون الأمر واحداً؛ سواء أنجزه غيري أو كنت أنا الذي أنجزته.
جاءني شخص يقول: هناك من قام بطباعة أحد كتب المرحوم العلاّمة، حيث أعاد طبع تلك المواضيع التي قمتم بتجميعها وطباعتها، ونشرها في أحد البلدان باسمه. فقلت له: ليفعل ذلك، فهذا أفضل لي؛ لأنَّه سيقلّل متاعبي وجهدي، لكن بشرط ألاّ تتضمّن تلك الطبعة أخطاءً أو تحويراتٍ أو تحريفاتٍ، فمع مراعاة هذه الأمور، لا مانع من نشره في كلّ أنحاء العالم، وذلك سيوفّر عليّ الجهد، وسأشتغل أنا بأعمال أخرى. إذ ما الهدف من طباعتها أساساً؟ هدفي من ذلك هو انتشار هذه الكلمات فقط، وهو يتحمّل متاعب نشرها عنّي، لذا يجب أن يكون هذا الأمر باعثاً على سروري، فلماذا أنزعج؟ قال: لكنّه ينشرها باسمه! قلت: فلينشرها باسمه، فما علاقتي أنا بهذا الأمر؟ فإن كان هدفي يتمثّل في نشر مؤلّفات المرحوم الوالد هنا وهناك، ووُجد من ألقى الله ذلك في رأسه وأخذ بتحمّل متاعب إنجازه، فجزاه الله خيراً، ولينشر ذلك باسمه شريطة ألاّ يضمّنه أموراً باطلة وألاّ يقوم بالتحريف والتحوير وتغيِّير المواضيع وتبديل الجمل، أو الإضافة أو الحذف من عنده. فمع تحقق هذه الشروط، فهو مجاز على نشره، وليأخذ الأرباح المترتبة على التأليف والنشر، فهي له. فما دام ذلك من الله، فلا إشكال فيه. أمّا إن كان تفكير الإنسان في أن يتم كلّ ذلك من نافذته هو، وأن يُطبع باسمه، فسوف لن يجني من هكذا تفكير نفعاً أبداً.
عدم اكتراث الأولياء بنسبة ما يفعلونه إليهم
عندما يتم بناء مسجد أو حسينية أو مؤسسة خيرية، أرأيتم كيف يقومون بكتابة اسم المؤسّس على لوحة كبيرة، فلو كان طول البناية خمسة عشر متراً، تراهم يكتبون الاسم على سيراميك وبطول خمسة وثلاثين متراً؛ فيكتبون: لقد تم تشييد هذا البناء في تاريخ كذا وبأمر من فلان. ترى البعض يكتب: لقد تم إنجاز هذا المشروع بأمرٍ من... هذا هو مقام الأمر والنهي [الذي تشير إليه الآية]: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾۱ .. نعم، لقد صدر أمر بناء هذه العمارة بموجب أمر ومشيئة صاحب المقام المنيع فلان. لكن نسأل: أيّ بستان من بساتينه قد باع ليتمكّن من تشيَّيد هذا البناء؟ ومن أين جاء بالمال اللازم لذلك؟ فهل عمل في مجال بيع الخضار حتّى تمكّن من جمع تلك الأموال؟! ولماذا يجب أن يُكتب اسم المؤسّس؟ وهل يأتي اليوم الذي تختفي فيه هذه الظاهرة؟ لا أعتقد ذلك، إلاّ اللهمّ في ذلك اليوم الذي يخرج فيه سيف الإمام عليٍّ؛ ذو الفقار، من غمد إمام الزمان عليه السلام، عندئذٍ لن يبقى لأيٍّ من هذه الأمور اسم ولا رسم، وسنكون مرغمين على الاستجابة لأمره شئنا أم أبينا. فلماذا لا نتقبّل هذا الأمر بأنفسنا وقبل حلول ذلك اليوم الذي نُجبر فيه على قبول الأمر الواقع؟ ولماذا لا نتصرّف مثل أهل المعنى؟ فأيّ الأمرين أفضل؟ وأيّهما يكون أقرب إلى الواقع؟
جُلب للمرحوم القاضي مبلغ من المال من تبريز لصرفه على مسجد الكوفة وبالشكل الذي يراه، ولما كان المسجد يفتقد للمرافق الصحية، لذا قام ببناء مرافق صحية له. وعند اكتمال البناء، جاء المرحوم القاضي لافتتاحه، فوجدهم ـ وبحسب العادة المتعارفة ـ قد كتبوا هذه العبارة على سيراميك واجهة البناء: لقد تم تشيِّيد هذا البناء بأمر آية الله القاضي الطباطبائي.. أنا حينما أقول هذا الكلام، لا أقوله من تلقاء نفسي، بل رأيت بنفسي أنّهم كتبوا اسم أحدهم على المجموعة الصحية في أحد البلدان.. وعندما ألقى المرحوم القاضي نظرة على البناء، استحسن عملهم، ولكنّه ما إن رفع رأسه ورأى تلك الكتابة، إلاّ وتبدّل وجهه المستبشر إلى وجه عبوس، فقد وقع القمر في العقرب؛ فتناول معولاً أو فأساً، ووضع سلّماً وصعد لتحطيم تلك اللوحة؛ حتّى إذا ما انتهى من تحطيمها، عادت الابتسامة إلى وجهه! أتكتبون اسمي على المرافق الصحية؟ أوصل احترامكم لي إلى الدرجة التي تكتبون فيها اسمي على واجهة المرافق الصحيّة؟ فعندما انتهى من تحطيمها، قال: ها قد تم تصحيح الأمر الآن.
تلك هي سيرة أهل المعنى، فهم يقولون: لم أجلب هذه الأموال من عندي، بل أُرسلت إليَّ من مكان ما، وقد خُوّلتُ بصرفها حسب ما تقتضي الحاجة؛ فلم أصرفها من جيبي، بل جاءت من مكان آخر. فكيف وصلت إليّ؟ لقد شاء الله أن يجلب أحدهم تلك الأموال إلى النجف ويُسلّمها إليّ، فلا علاقة لي بما حصل. ثمّ إنَّني لم أتحرك من مكاني، بل قمت باستدعاء بنّاء وطلبت منه تشييد ذلك البناء، فما هو دوري فيما حصل؟ كنت واسطة لا أكثر؛ لقد جاءت هذه الأموال من ذلك المكان ليتم صرفها في هذا المكان، فما هي مناسبة كتابة اسمي؟ ولماذا يفترض كتابة اسمي أساساً؟
هذا ما نقوم به الآن، فنحن نعطي أمراً بتشييد بناء في مكانٍ ما، ثم نأتي بعدها ونكتب اسمنا على لوحة طولها خمسة عشر متراً ونعلّقها على واجهته! ماذا كان دورنا في عملية البناء؟ فهل قمنا ببيع بيتنا، أو بستاننا، أو بيتنا الصيفي أو الشتوي؟! كلّ ما حصل هو أنَّ أحدهم تبرّع بهذه الأموال، وكنت أنت واسطة له ليس إلاّ، ثم أعطيت الأمر بالبناء، ولم تُحمّل نفسك حتّى مشقّة الحضور وإلقاء نظرة على العمل، فلماذا تكتب: لقد تم تشييد هذا البناء بأمر فلان؟ ثم إنَّ هذا الأمر يحصل في الأماكن المقدّسة أيضاً، وفي حرم الأئمة عليهم السلام. فإن أردت أن تفعل ذلك في أماكن أخرى فافعل، ولكن هل من الصواب أن تفعل ذلك في حرم الإمام المعصوم أيضاً، فتكتب اسمك هنا!
إنَّ أهل المعنى لا يفعلون ذلك، هذا هو الفرق بينهم وبين غيرهم. فهو لا يتصرّف كدائن مستحق، بل يتصرّف كمديون مطلوب. إذ كيف يمكن له أن يتصرّف كدائن؟ فلو قام بإنجاز ألفٍ من مثل هذه الأعمال، لرأى بأنَّه لا يزال مديوناً، فالمديون لا يكتب اسمه؛ أمّا ذلك الذي يكتب اسمه، فهو يريد أن يقول لمن يدخل هذه المرافق الصحيّة بأنّي أنا الذي قمت ببنائها، أو لِيَعلَم من يدخل المسجد للصلاة؛ لكي تزداد نيّة تقرّبه إلى الله! فكتابة أنّ هذا المكان قد بُنيَ بأمر فلان سيزيد في قصد التقرّب وسيرفع من خلوص النيّة !![السيد مستهزئاً]
يقول أهل المعنى: يجب أن يتركّز ذهنك على أمر واحد عندما تدخل المسجد، فلا تنظر إلى السيراميك الموجود هناك، بل يجب عليك أن تفكّر به تعالى وحده لا بالسيراميك، ولا بما يُكتب في جوانب المسجد. ماذا أقول؟! لا يمكنني التفوّه بشيء.. فيجب عليك أن تتوجّه إلى الأعلى عند دخولك المسجد ولا ينحرف ذهنك نحو أيّ شيء آخر، ولا يَرِدهُ أمرٌ آخر؛ فلا ينبغي أن يكون في نفسك مكان لغيره؛ بأن تقول: أنا الذي أصلي الآن وفقاً لأمره! لا تدع في النفس مكاناً لغيره، فهو وحيدٌ وفريدٌ وواحدٌ وأحدٌ، وهوَ هوَ، لا يتحمّل غيره، ولا يتقبّل وجوداً آخراً إلى جنبه. فكيف نأتي لنضع أنفسنا إلى جنبه؟ هذا هو مسلك أهل المعنى، وهذا هو هدف أهل الحقيقة، وهذا هو طريقهم وهذا ما يُعلّمونه للآخرين.
أمّا غيرهم فهم يتعاملون بحسب الظاهر، فأفكارهم وتصرّفاتهم هي أفكار وتصرفات ظاهرية، وكذا جميع حركاتهم وسكناتهم مبنيّة على أساس الظاهر، فلا شأن لهم بالحقيقة وبواطن الأمور. لذا عندما تنظر إليهم، تجد بأنَّ أحدهم قد بلغ الستين أو السبعين أو حتّى المائة عاماً، وهو لا يزال في نفس تلك المرحلة التي كان فيها قبل عشرين سنة، فلم يتحرّك من مكانه ولم يترقَّ، ولم يحصل له تكامل باطني.
رحِم الله المرحوم السيِّد الگلبايگاني رحمة الله عليه، فقد كان نقيّاً وذا نيّة طيبة؛ ولقد حضرتُ دروسه لفترة من الزمن واستفدت منها، ولم تكن علاقة المرحوم العلاّمة مقطوعة معه، كما أنّه كان يحترم المرحوم العلاّمة كثيراً. ذهبت إليه مرّة في فصل الصيف ـ وكان يصيّف في إحدى المناطق الجبلية ـ لتسليمه كتاباً من المرحوم العلاّمة، كنّا شخصين أو ثلاثة، حيث كان أخي معنا، وبعد أن جلسنا وتحدّثنا، قال عبارة رائعة، فقال: أبلغوا والدكم سلامي وقولوا له:
مگر صاحبدلي از روي رحمت | *** | كند در حقّ درويشان دعائي |
(لعلّ أحد الصالحين يترحّم على هذا العبد الفقير ويشمله بدعائه).
ثم التفت إلينا وقال: إنَّ والدكم قد أحاط بأمور لا أعرف عنها شيئاً. فالمرحوم السيِّد الگلبايگاني قد علم إلى حدّ ما شيئاً، أمّا ما هي طبيعة ذلك الشيء، فلا علم له به. ولكنّه ولما كان نقيّاً ويحمل نيّة صادقة ـ وكان محباً للمرحوم العلاّمة كثيراً ـ فقد أدرك وجود شيء ما. لقد قال ذلك بحسرة، وكانت آثار الانفعال ظاهرةً على وجهه، حيث احمرّ وجهه، ولعلّه بكى أيضاً ـ هذا ما أعتقده ـ أمّا انفعاله فقد كان واضحاً. أتلاحظون؟!
فيتعجّب الإنسان عندما يمضي عليه ثمانون أو تسعون سنة من عمره؛ بأنَّ هناك أموراً أخرى لم يكن على علم بها. فيعلم عندها بأنَّ ثمّة أشياء أخر وراء ما كان يشتغل به، ووراء تلك الكتب التي كان يشغل نفسه بمطالعتها.
ولقد سمعت نفس هذا الأمر من المرحوم آية الله الخوانساري، فقد ذهبت مرّة لإيصال رسالة إليه من المرحوم العلاّمة، وكان يسكن في سوق طهران. ولقد كان المرحوم السيِّد أحمد الخوانساري رجلاً عالماً وفاضلاً ودارساً للفلسفة، كما علمتُ بأنّ له بعض الحالات والمسائل المعنوية. فتجرّأتُ عليه وفتحتُ معه بحثاً علمياً لمدّة نصف ساعة، حيث زججت بنفسي في هذا الوادي وتباحثت معه بشأن موضوع ما، حتّى سكتَ في نهاية المطاف. ثم قال لي عبارة شبيهة بتلك العبارة، فقال: أبلغ والدك السلام، واعلم بأنَّه من أولئك المعدودين الذين يعدّوا من مفاخر الإسلام. هذه عبارة صدرت من أحد مراجع التقليد؛ حيث كان المرحوم السيِّد أحمد الخوانساري مرجِعاً وعالِماً ورجلاً قديراً، ومن أهل الخبرة والمعرفة بالرجال، فهو يعرف قدر الآخرين. ما الذين يعنيه من قوله: إنَّه من مفاخر الإسلام؟ لا شك أنّه لا يريد المسائل الظاهرية كالعلم وغيره، بل قال هذا الكلام وهو يُظهر الخضوع. على أنَّ إبرازه للوِدّ والمحبة للمرحوم العلاّمة واضح في الرسائل التي كان يُرسلها إليه، وهي موجودة الآن. أتلاحظون؟ هذا على الرغم من كونه من المتميّزين عن سواه من ناحية القداسة والتقوى والصلاح، ومع ذلك هناك أمور أخرى أيضاً، وقد ذكرت قضية عنه في الجزء الثاني من كتاب أسرار الملكوت، فليطالعها الإخوة۱.
الأولياء لا يرون أن ما يقومون به هو منهم بل من الله تعالى
هذا هو الفرق بين علماء الظاهر وعلماء الباطن. فالعالم من أهل المعنى، أيّ الوليّ الإلهيّ والعارف الذي يتناسب طلبه مع إدراكه يطلب من الله: إلهي هب لي هذا الأمر ووفقني وافعل بي كذا وكذا! غير أنَّه لا يرى لنفسه مكانةً عند طلبه هذا، ولا يشعر بوجودٍ مستقلٍ له عند طلبه هذا. أمّا أهل الظاهر فعندما يطلبون من الله الجنّة وحور العين والغلمان وبقيّة النِعم، فهم يقولون في أنفسهم: إلهي لقد صلينا وصمنا وأدّينا الحج، فاجزنا على ذلك! إنّهم يطلبون أجراً مقابل عملهم! ولم يحصل أن يتجاهل أحد منهم وجود نفسه، أو عدم رؤيته لذاته! فهذا مما يتنافى مع طبيعته وشاكلته، حتى وإن قال ذلك حسب الظاهر، فهو إنَّما يقول شيئاً آخر في نفسه. لقد قلت سابقاً بأنَّك إن اختبرته، فسوف تظهر لك حقيقته. أمّا أهل الباطن، فمهما تصرّفت معه، فستجده على ما هو عليه، لا يتزحزح عن موقفه ومسيره.
فالعالم من أهل الظاهر يطلب من الله الجنة، وهو لا يدري بالمرّة بأنَّ للجنّة درجات متفاوتة، هو يدرك هذه الجنّة فقط واللبن والسكّر والإجاص والبطيخ، وما شابه ذلك من نعم الجنّة! يعني هذا هو حدّ فهمنا لا أكثر، إلى درجة أنّك لو قلت له: هل أنت مستعدّ أن تذهب إلى الجنّة، وبدلاً من أن يعطوك هذه النعم الظاهرية والعادية كالحور والغلمان وأمثال ذلك.. ([يعلّق سماحة السيّد ممازحاً:] ومن الواضح أن الغلمان هم للبعض فقط!) .. فهل أنت مستعدّ للتخلّي عن هذه النعم ، لتحصل بالمقابل على التجلّيات والجذبات والنفحات الإلهيّة، وعلى تلك الأنوار القدسيّة؟! بالطبع سوف يجيبك قائلاً: ما هي الأنوار القدسية؟ وما المقصود من النفحات؟! إنّ ما نعرفه هو هذه الأمور والنعم المعروفة، فالجنّة فيها عنب ونخل ورمّان، كما ذكر القرآن الكريم، هذه هي الجنة. بل هو أصلاً لا يفهم المراد الجذبات والنفحات والانوار! ماهي الجذبة وما حقيقتها؟ لا يفهم شيئاً من ذلك، وهو لا يدرك بفكره إلا تلك الأمور العادية والنعم الظاهرية.
ثمّ إنّه بعد ذلك، لأي شيء يعمل هذه الأعمال؟ وعلى أيّ أساس يقوم بها؟ إنّه يقوم بها على أساس المعاملة التجارية والأخذ والعطاء، فلسان حاله يقول: يا ربّ لقد صلّينا لك الصلاة التي تريدها، فينبغي أن تعطينا الشجرة الفلانية في الجنة، فأنت بنفسك قلت: من قال لا إله إلاّ الله، غرست له الملائكة شجرة في الجنّة، وأنت قلت: من قرأ هذا الدعاء، فله النعمة الفلانية في الجنّة، وأنت قلت: من حجّ البيت، فله كذا في الجنّة... أنت قلت كلّ هذا، ونحن قد أدّينا كلّ تلك الأعمال، فأعطنا! لقد أدّينا ذلك العمل فأعطِنا إذاً!
لكنّ الوليّ والعارف يقول: يا ربّ، إنّني لم أفعل أيّ عمل أصلاً حتّى تعطيني أجراً في المقابل؛ فالصلاة التي صلّيتها أنت من صلّاها، وأنا لم أفعل شيئاً! والصيام الذي صمته، أنت الذي صمته لا أنا، والحجّ الذي قمت به أنت في الحقيقة من قام به لا أنا، فأنا لم أكن إلاّ واسطة هنا؛ لأنّ إرادتي من عندك، وقدرتي منك، واختياري من عندك، وهمّتي وعزمي من فضلك، والأموال التي صرفتُها لم أحصل عليها من عمّتي، بل أنت من أعطاني إياها، ولو لم تعطِني إيّاها لما استطعتُ أن أذهب إلى الحجّ، وكذلك الخمس الذي دفعته، هل أخذته من كيس خالتي ودفعته؟! بل أنت الذي رزقتني إيّاه، حيث أرسلت لي المشتري الفلاني ليشتري منّي بضاعتي فأكسب منه ربحاً، فدفعتُ الخمس من هذا الربح، ولو لم يأتِ إليّ، ولم يشتر منّي، فمن أين لي أن أحصل على هذا المال؟! وكذلك الأمر في غير التاجر من الأعمال.
فمثلاً، لو أنّ المريض لم يُصب بوجع البطن، ولم يراجع الطبيب لكي يجري له العملية، فلم تجرِ له أنت أيّها الطبيب تلك العملية، ولما أخذت كلّ ما كان في جيبه وما لم يكن، فمن أين كنت ستحصل على هذا المال؟! صحيح؟ فإذن، لا بدّ لهذا المسكين أن يصاب بوجع البطن، فيذهب إلى الطبيب لكي يحصل الطبيب على رزقه، ولو لم يصب بوجع البطن، فسوف يبقى الطبيب جالساً في عيادته دون عمل! فالطبيب لا يعالج الإنسان السليم المعافى، بل يعالج الإنسان المريض، فإن لم يكن هناك مريض، فماذا سيفعل؟ افرضوا مثلاً لو أنّ صاحب الزمان عليه السلام ظهر، وأحضر لنا معه حبّة دواء أو نوعاً من الأعشاب، وقال: كل من يتناول هذا الدواء، فلن يصاب بأي علّة؛ فلا أسنانه تؤلمه، ولا رأسه يؤلمه، ولا يصاب بوجع البطن، ولا أيّ شيء! فحينئذٍ، سيكون حال كلّ الناس جيّداً. حسناً، فماذا علينا نحن الأطبّاء أن نفعل حينئذٍ؟ علينا أن نذهب ونجد لنا عملاً آخر، فنعمل بالزراعة أو غيرها! أو افرضوا مثلاً أنّه عليه السلام جاء فأعمل إرادته ومسح بيده المباركة على رؤوس الناس، فصار الجميع عالمين بالأحكام الشرعية والمسائل الدينيّة، فحينئذٍ ينبغي على هذا الحقير أن يبحث عن عمل آخر، عليّ أن أحمل المعول وأبدأ بالحراثة والزراعة، أو غيرها من الأعمال؛ فالناس جميعاً صاروا يعرفون كلّ الأحكام.. يعرفون أحكام الصلاة والصوم و... فلمن أبيّن المسائل ومن أجل من أتحدّث؟! فهذا الطرف المقابل سيقول لي: يا سيّد، لا تتعب نفسك، فأنا أعرف هذه المسائل! فصاحب الزمان عليه السلام قد مسح على رؤوسنا جميعاً، فأمسينا نعرف جميع الأحكام، صرنا نعرف أحكام الصلاة والصوم والحج و... فاذهب واشرح هذه المسائل لنفسك! وهذا الاحتمال موجود، وينبغي أن نفكّر من الآن بما سنفعله حينئذٍ! لو جاء صاحب الزمان عليه السلام وفعل أمراً كهذا، فماذا سنفعل؟ علينا أن نفكّر بحلّ ومخلَصِ من هذا الأمر من الآن.
فالعارف أراح نفسه من الأوّل، وأراح الناس أيضاً، فهو يقول: يا عزيزي، إنّ العلم الذي عندك جاء من هناك، فلا تدّعي باطلاً أنّه لك، ولا تنسبه إلى نفسك، وهو يقول لهذا الحقير: هذه الكلمات والمحاضرات التي تلقيها وترحيب الناس بك، في الحقيقة ليست لك، بل هي جاءت من مكان آخر، فأنت قد تعلّمت هذه المطالب من والدك، وجئت تنسبها إلى نفسك؟! وأنا أتحدّث عن نفسي هنا، فهذا الأمر يشملني أيضاً.
وكذلك الأمر بالنسبة لذلك الطبيب الذي يعالج المرضى، فتلك الدقّة والمهارة والخبرة التي عنده من أين جاء بها؟ ومن أين أتى بذلك الاستعداد الذي عنده؟! عندما كان في بطن أمّه لم يكن يمتلك إرادة خاصّة به، وعندما ولد لم يكن يمتلك اختياراً، فمن الذي وضع هذا الاستعداد والقابلية فيه وهو لا يزال في بطن أمّه؟ من الذي زاد إرادته وهو في بطن أمّه، وزاد همّته وقدرته وذاكرته حتّى تمكّن من الوصول إلى ما هو عليه الآن؟ هل هو الذي فعل ذلك أم شخص آخر غيره؟ وبهذا يتبيّن أنّنا لا نمتلك شيئاً من عند أنفسنا؛ فهذه الظروف المؤاتية التي ساعدتني على أن أذهب وأدرس من الذي هيّأها لي؟ هل التفتّم؟ لذا هو يقول: يا عزيزي، إنّ كل شيء ملك له، فانسب كلّ شيءٍ له وأرحْ نفسك. فأنت عندما نسبت كلّ شيء له، معنى ذلك أنّ الصلاة التي صلّيتَها؛ هو الذي صلاّها، والصوم الذي صمته؛ هو الذي صامه في الحقيقة، والحجّ الذي حججته هو الذي أداه في الواقع، وهكذا كلّ عملٍ قمتَ به، فهو منه! فلماذا تنسبه إلى نفسك؟ وحينئذٍ، فإن كانت حقيقة الأمر كذلك، فعندما نقف بين يديّ الله تعالى ونريد أن نطلب منه: يا ربّ أعطني وهبني، فكيف سيكون حالنا؟ حينئذٍ سيكون له طعم واقعاً! فلنقل لله تعالى: يا ربّ، هل تعرف عبداً أكثر جرأة ووقاحة وقلّة حياء منّي! فأنا لم أفعل أي عمل، ومع ذلك أطلب منك أن تعطيني كلّ شيء! هذا ما علّمنا إياه هؤلاء الأعاظم، فهم يقولون لنا: عندما تقف بين يديّ الله تعالى فلا تجعل لنفسك قيمة، ولا تذكر أعمالك أبداً، ولا تقل: يا ربّ، لقد فعلت كذا وكذا.
لقد تعبت! فاسمحوا لي أن أبيّن هذه المسألة ثم نؤجّل بقيّة المطالب إلى ليلة الغد إن شاء الله. فما أجمل ليالي شهر رمضان! نأتي كلّ ليلة ونتحدّث إلى الرفقاء بشكل أخوي وتلقائي، ونحصّل لأنفسنا حالاً جيّدة، ولا نهتمّ بالتنميق والتنسيق في الكلام، فأي شيء جاء وذُكر فنعم المطلب هو.
الأولياء لم يعدّوا شيئاً للقاء الله تعالى سوى رحمته
رحم الله أستاذاً كان لنا (لن أذكر اسمه إلاّ أنّكم جميعاً تعرفونه). لقد درست أكثر دروسي عنده، وكان يدرّسني بشكل خاصّ لوحدي، والحقّ أنّ له رحمه الله حقّاً عظيماً في عنق الحقير، فرحمة الله عليه وعلى جميع المؤمنين. وكان رحمه الله كثيراً ما ينصحني، فكان يقول: اهتمّ دائماً بنفسك، وانشغل بإصلاح نفسك، ولا تلتفت إلى هنا وهناك، ولا تفكّر بتحصيل الشهرة، وبأن تصبح معروفاً، وأمثال ذلك. أجل كان ينصحنا بشأن هذه الأمور. ذات ليلة كنت عند سماحته، فقال لي: يا فلان، إنّني راحل عن هذه الدنيا قريباً، ولكنّني قد عملت عملاً واحداً في عمري، وهذا العمل هو ما يبعث الطمأنينة في نفسي.. عمل واحد.. والحال أنّ سماحته كان من أهل الدرس والبحث، ولديه تلاميذ، وكان من أهل التوسّل بأهل البيت عليهم السلام، فقد كان يقيم مجالس التوسّل في منزله ليالي الجمعة، وكنت أشارك في كثير من الأحيان في تلك المجالس، وكانت مجالس مختصرة لا يحضرها أكثر من خمسة عشر شخصاً تقريباً، وكان قارئ العزاء هو أحد الفضلاء (وهو ما يزال على قيد الحياة حفظه الله)، وكان صوته جميلاً والمجلس الذي يقرؤه مؤثراً، وكنّا واقعاً نستفيد منه.
حسناً، هذا الأستاذ قال لي في تلك الليلة: يا فلان، أنا لم أعمل إلاّ عملاً واحداً في حياتي، وقد خاطبت الله تعالى ذات مرّة قائلاً: يا ربّ، إنّني لم أعمل أيّ عملٍ لأجلك، فأنا لا أعدّ هذه الدراسة والبحث والتحقيق، وإمامة الجماعة، وقراءة المجالس، وتبليغ الدين، أنا لا أعدّ أيّاً من هذه الأعمال، إلاّ أنّ هناك عملاً واحداً عملته من أجلك يا ربّ، وأعتدّ به، ألا وهو أنّني ولمدّة ستّة أشهر متواصلة وبدون أيّ انقطاع بقيت ساهراً في الليل متهجّداً لأجلك، وصمت نهار تلك الليالي لك. هذا هو العمل الوحيد الذي أدّيته لك يا رب!
حينئذٍ قلت في قلبي فوراً: الحمد لله، فأنا لم أعمل حتّى هذا العمل، فبالي مرتاح، وليس لي مع الله أيّ حساب، فعندما أريد أن أرحل عن هذه الدنيا.. يعني لو جاء جناب عزرائيل وأراد أن يأخذني معه هذه الليلة وودّعنا جميع الرفقاء.. أقسم بالله العظيم أنّني حينما أريد أن أرتحل فإنّني أقول لله تعالى بكلّ سعادة: يا ربّ إنّي أفتخر بأنّي لم أعمل أيّ عمل لأجل آخرتي، فقد جئتُ خالي اليدين، وأريد أن أرى كيف ستعاملني بربوبيتك وكرمك، لكن من جهتي أنا، فإنّي أعلن بصراحة أنّني لم أعمل أيّ عمل، أقول ذلك بصراحة ودون مجاملة أو إحراج! أوَلست أنت الله؟! ألست تسألني: ما هي الأعمال التي أحضرتها معك؟ جوابي هو أنّني لم أحضر معي شيئاً، بل جئت صفر اليدين! فماذا ستفعل معي يا رب؟ وكيف ستعامل عبدك هذا؟
أجل لقد قلت في قلبي حينئذٍ: الحمد لله، فأنا ليس عندي حساب لمثل هذه الأشهر الستّة، ولم تبق في نفسي، ولا يوجد في قلبي مثل هذا الأمر؛ فلن أقول: يا ربّ هذا العمل أعتدّ به فتفضّل! إنّ ستّة أشهر ليست مدّة قليلة، فالجميع ذهبوا ليناموا أو ليفعلوا شيئاً آخر!! بينما قضيت الليل كلّه بالتهجّد حتّى طلوع الصبح، وقضيت النهار بالجوع والعطش حتّى حلول الليل، ولهذا فينبغي أن تحسب لنا ذلك يا ربّ، وتأخذه بعين الاعتبار. ولكنّني أقول: كلا يا ربّ! بل نريد أن نأتي إليك وأن نرتحل من هذا العالم صفر اليدين لا نملك شيئاً، جئتك بدون شيء، بل جئتك عارياً ليس عندي شيء!
إنّ العرفاء يقولون لنا: يا عزيزي، هكذا عليك أن تكون، ولو أنّ ذلك الأستاذ ـ رحمه الله ورفع درجاته ـ لم يؤدّ تلك الأعمال في الأشهر الستّة، أو على الأقل لو أنّه لم يحسب لها حساباً لكان خيراً له، وهو الآن قد فهم هذا الأمر جيداً بعد أن انتقل إلى ذلك العالم. إنّ العرفاء يقولون لنا: إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه﴾، أليس كذلك؟! حسناً فلماذا نأتي ونستثني من ذلك شيئاً، ولماذا نجعلها تشمل شيئاً دون الآخر، بل أرجعْ جميع الأمور إليه، وانسبها لصاحبها، أرحْ بالك تماماً يا عبد الله!
لكنّنا نخاف ونقلق، ولسان حالنا يقول: آخ! لو أعطينا كلّ شيء لله تعالى فلن يبقى لنا شيء! ولكن لا داعي للقلق يا عزيزي فهو يحفظها لك جميعاً، إنّه يحفظها أفضل من أي بنك أو صندوق مالي أو خزنة أمانات، وعندما تقول: يا ربّ، أنا لا أملك شيئاً.. حينئذٍ فقط يقول الله: الآن صار هذا العبد لائقاً بالعبوديّة، والآن صار بإمكانه الوفود عليّ والحركة في صراطي. و أمّا لو لم نقبل بذلك، وقلنا بدلاً منه: يا ربّ، رغم أنّ كلّ شيء من عندك، ورغم أنّك أنت من حرّكتنا نحو هذا العمل الصالح، وأنّك أنت من وفّقتنا له، ولكن في النهاية نحن قد أدّينا العمل، وتحملنا المشقّة، وكان لنا دورٌ ما في البين، فلا تلغي دورنا وحسابنا بالكلّية..
كان السيّد الوالد رضوان الله عليه يقول: عندما تذهب إلى مكّة، فقدّم ثواب كلّ طواف تقوم به لرسول الله صلّى الله عليه وآله. وبطبيعة الحال، فإنّ من يذهب إلى مكّة، يحبّ أن يهدي ثواب الطواف لوالده المتوفّى مثلاً، أو لأمّه أو لبعض أرحامه، وبعضهم مّمن يملك فهماً أرقى قليلاً يهدي الثواب للأئمّة عليهم السلام ولصاحب الزمان عليه السلام. فإن جئنا وقلنا لهم: اهدِ الثواب فقط وفقط لرسول الله صلّى الله عليه وآله، فسوف يتردّد قليلاً ويتوقّف، ويقول: هل يمكن أن أجعل لوالدي نصيباً أيضاً؟ هل يمكن أن أجعل لأبي حصّة مع رسول الله وفي ضمنه؟ ألا يمكنني أن أجعل نيتي مقسّمة بين رسول الله ووالدي؟ فقلت له: كلاّ، لا تفعل ذلك أيضاً، بل دع أباك يحصل على نصيب أكبر؛ لأنّك إن لم تفعل ما تقول، كانت حصّة أبيك أكبر! إنّ هذا المسكين لا يفهم ما أقول، بل يتخيّل بأنّه إن لم يدخل أباه في نيّته فلن ينال شيئاً من الثواب، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله سوف يستأثر بكلّ شيء لنفسه، وأنّ شيئاً من طوافه لن يصل لا إلى أبيه ولا إلى أمّه ولا إلى أحدٍ آخر! والحال أنّه كلّما كانت نيّتك أصفى، فإنّ نصيبهم في ذلك الطرف سيكون أكبر وأقوى، وما يصل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، فلن يحتفظ به النبي لنفسه، بل سيوزّعه مبتدئاً بأبيك وأمّك وأقاربك الذين ارتحلوا عن هذه الدنيا.
ولكنّنا لما كنّا بعيدين عن عالم المعنى والحقيقة، فإنّنا نعالج المسائل من منطلق الظاهر، وبنظرة ظاهرية بحسب مستوى فهمنا، ونقيّم الأمور بحسب مستوى شعورنا وإدراكنا المحدود، فنقول: إذا أعطينا كلّ شيء للنبيّ صلى الله عليه وآله، فلن يصل إلى أعزّائنا شيء، ولذا ترانا ندخلهم في نيّتنا ونشركهم مع النبي في ثواب أعمالنا؛ نقول: يا ربّ، أنا أقدّم هذا الطواف لرسول الله صلّى الله عليه وآله، ونسألك أن توصل مقداراً منه لأبينا، فأعطه بعضاً من ثواب هذا العمل، فهو داخل في نيّتي أيضاً، فالطواف الذي قمت به خطوتان منه لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وخطوة لأبي، أو ثلاث خطوات للنبي وخطوة لأبي أو لأميّ أو لأختي الكبرى وأمثال ذلك، فكلّ شخص يهدي أحداً من أعزّائه. ولكن الأفضل غير ذلك، فالأعاظم يوصون أن: رسول الله فقط، فإن ذهبت إلى العمرة، فانوها لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وإن طفت فقدّم ثوابها لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وإن قرأت القرآن كلّ يومٍ حزباً فقدّم ثوابه هديّة لرسول الله صلّى الله عليه وآله، قدّم كلّ شيء له، فرسول الله هو الأصل، وهو الأول والأوسط والآخر، وعلينا أن نفوّض الأمر كلّه إليه. ومن الطبيعي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لن يحتفظ بشيء منه لنفسه، ويعلم أنّك ابن فلان، فهو عندما يرى أنّ هذه الهديّة قد جاءت من هذه النافذة، فلماذا يبخل على أقاربك وأعزّائك الذين يأملون بك، وينتظرون الأعمال الصالحة من طرفك؟! لماذا يبخل عليهم ولا يعطيهم؟! هل يمكن ذلك أصلاً؟! إلاّ أنّ هذا الأمر مستبعد لدينا ولا نفهمه بشكل جيدّ، بل يحتاج أن نتأمّل فيه ونتفكّر قليلاً في حقيقته.
على كل حال، رحم الله هؤلاء الأعاظم الذين بيّنوا لنا هذه الحقائق من خلال مطالبهم ومبانيهم التي قدّموها لنا، وأوضحوها لنا بشكلٍ جذّاب وحلو ومستساغ، وبذلك أزاحوا الثقل عن ظهورنا، وجعلوا حملنا خفيفاً وأراحونا، أجل! لقد جعلوا وظيفتنا سهلة وتكليفنا يسيراً، فالإنسان عندما يتحرّك في هذا المجال الذي بيّنوه لنا فإنّ حاله سيكون رائعاً، بخلاف ما لو حاول التحرّك في سائر المجالات الأخرى، فإنّه سيقع في مصائب ومشاكل عويصة كما شاهدنا ونشاهد بأنفسنا.
نسأل الله المتعال ألا يحرمنا أبداً من توفيقه، وأن يزيد كلّ يومٍ من إدراكنا لحقائق عالم المعنى، وأن يجعل تلك الحقائق جارية وسارية في نفوسنا دائماً، وأن يجعلنا من أتباع طريق أوليائه والواصلين لحرم أنسه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.