المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1436
التوضيح
هل يمكن أن يثبت الهلال برؤيته بالمناظير الحديثة؟ على ماذا كان يعتمد رسول الله والأئمة في إثبات بدايات الشهور؟ وهل للأيام والليالي خصوصيات أم أنها مجرد أمور اعتبارية؟ أسئلة تطرق للإجابة عليها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في القسم الأول من هذه المحاضرة من شرح دعاء أبي حمزة الثمالي. كما تناول في القسم الثاني منها شرح فقرة "وما أنا يا رب وما خطري..." حيث ذكر بأن العارف ينسب كل شيء إلى الله، وضرب مثال النبي يوسف عليه السلام في مسألة توكّله على الله وإراءته برهانه وصرفه إياه عن الوقوع في الذنب، ثم أشار إلى أن مثل هذه الاختبارات يبتلى بها كل إنسان.
هو العليم
رؤية الهلال وثبوت الشهر
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٦ هـ ق - المحاضرة الرابعة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللـهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ
بِسمِ اللـه ِ الرحمنِ الرحيمِ
وَصلَّى اللـهُ على سيّدِنا ونبيّنا أبي القاسِمِ مُحمّدٍ
وعلى آلِهِ الطيّبينَ الطاهرينَ واللّعنةُ على أعدائِهِم أجمعينَ
«وَمَا أنَا يَا رَبِّ وَمَا خَطَرِي، هَبْنِي بِفَضلِكَ وَتَصَدَّق عَلَيَّ بِعَفْوِكَ»؛ أي: يا إلهي، أين أنا، وأين مكانتي ومنزلتي عندك؟! فإذا كان الأمر كذلك، فاعف عنّي بفضلك، ولا تُعاملني بعدلك وحسابك وتقصّيك، بل عاملني وتصدّق عليّ بعفوك.»
كيفية ثبوت الهلال من الناحية الشرعيّة
قبل الخوض في المسائل التي مرّت معنا آنفًا، أريد التحدّث مع الرفقاء عن مسألة تتعلّق بكون يوم الخميس هو أوّل يوم من شهر رمضان أو لا؛ هذا مع أنّني تحدّثت عنها في السنوات السابقة حينما حصلت بعض القضايا المشابهة! فالمسألة التي أريد الحديث عنها هي: أنّ ثبوت الهلال من الناحية الشرعيّة يتحقّق بالعين الظاهريّة [المجرّدة] من دون تدخّل الآلات والأدوات الأخرى؛ نظير استعمال التلسكوبات والمناظير القويّة جدًّا، وكذلك الصعود إلى الارتفاعات العالية جدًّا التي تتجاوز أفق الهلال؛ كأن يمتطي الرائي الطائرة ويُحلّق في علوّ مرتفع إلى أن يتجاوز سطح الأفق، فيتمكّن بذلك من رؤية هلال الشهر.
فما تمّ اعتباره من قِبل الشارع لثبوت أوّل الشهر هو الرؤية بالعين الظاهريّة [المجرّدة]، حيث قال: «صُومُوا لِرُؤيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ»۱، ومن المقطوع به أنّ العرف كان يرى في ذلك العصر أنّ الملاك في دخول الشهر وخروجه هو العين الظاهريّة؛ إذ لم يكونوا يتوفّروا آنذاك على وسائل الرصد والأدوات الميكانيكيّة، ولم يكن قد اخترع بعدُ التلسكوب وأمثال ذلك، ولم تكن هناك المناظير والطائرات، ولم يكونوا يقدروا على الارتفاع فوق السحاب؛ فالملاك الذي كان معمولاً به في تحديد دخول الشهر هو العين الظاهريّة، وقد سار الشارع والنبيّ على نفس هذا النهج في تحديد الأشهر.
لكلّ عبادة آثارها التكوينيّة الخاصّة التي لا يُمكن تقديمها أو تأخيرها
فمن بين الأمور المستحبّة، هناك الاستهلال، حيث ينبغي على الإنسان أن يستهلّ ويرى الهلال في بداية الشهر؛ والسبب في ذلك هو أنّ دخول الشهر تتعلّق به مجموعةٌ من الأحكام من الناحية العباديّة، وعلى الإنسان أن يعلم كيف ينبغي عليه أن يُؤدّي هذه العبادات وبأيّة طريقة عليه أن يفعل ذلك.
فالعبادات لا تقبل الانحراف يمينًا وشمالاً، ولا يُمكن للإنسان أن يُؤدّيها بيوم واحد قبل أو يوم واحد بعد؛ لأنّ وقتها محدّد. فوقت عيد الأضحى هو العاشر من ذي الحجّة، لا الحادي عشر ولا التاسع منه، وقد جُعل عيد الأضحى في يوم خاصّ، فلا يُؤدّي اعتبارُنا وجعلُنا إلى انحرافه إلى هذه الجهة أو تلك، كما أنّ يوم عرفة هو يوم خاصّ. إنّ هذه المسألة التي أتحدّث عنها مع الرفقاء في هذه الليلة هي مسألة دقيقة وبالغة الأهمّية، وقد تعمّدت الحديث عنها حتّى يتنبّه الجميع إليها، وحتّى أولئك الذين لم يلتفتوا إلى هذه المسألة ويعتقدون بكفاية التلسكوب وأمثال ذلك، عليهم أن يتنبّهوا إليها.
إنّ يوم عرفة مختصّ بالتاسع من ذي الحجّة، والآثار التي تترتّب على هذا اليوم تتحقّق في اليوم التاسع، لا في الثامن ولا في العاشر ولا في الحادي عشر، حيث وردت في الروايات العديدُ من التأكيدات على الآثار التي تتحقّق في هذا اليوم: فالذي يصوم هذا اليوم ويدعو فيه ويفعل كذا وكذا، فإنّ الله تعالى يغفر له جميع ذنوبه، فيصير وكأنّه قد ولدت أمّه؛ فهذه الآثار مختصّة بيوم عرفة الذي هو اليوم التاسع [من ذي الحجّة]. وكذلك الأمر بالنسبة لعيد الغدير ـ مثلاً ـ الذي هو عيد مرتبط بالثامن عشر من ذي الحجّة؛ فإذا كان الرفقاء قد طالعوا رسالة النوروز التي كتبتها، فإنّني بيّنت فيها قليلاً هذه المسائل، وذكرت أنّ الله تعالى قد غمر هذه الأيّام بمجموعة من الآثار التكوينيّة التي ستتلاشى إن نحن انحرفنا بها يمينًا وشمالاً، حيث إنّ هذه الآثار لن تتحقّق بواسطة اعتبارنا وجعلنا؛ لأنّها تكوينيّة.
وهكذا الأمر بالنسبة لعيد الفطر الذي يختصّ بنهاية شهر رمضان، إذ لا يُمكننا الانحراف به إلى هذه الجهة أو تلك؛ أي إنّ الإنسان يشعر بخصائص هذا اليوم والبركات التي تحلّ فيه والفيوضات والعنايات التي تنزل فيه من عند الله تعالى، ويحسّ بأنّ هذا اليوم ليس يوم صيام، وأنّه يوم عيد وسرور واحتفال؛ وقد كان بعض العظماء في السابق حينما يحصل شكّ [في حلول يوم العيد]، لا يرون حاجة في السؤال من هنا وهناك، وكانوا يقولون: رائحة العيد تفوح اليوم! حيث يكون من المعلوم أنّ الأجواء في ذلك اليوم تختلف عن أجواء الصيام؛ بمعنى أنّ هناك تغيّراً في نزول البركات وشكل الفيض الإلهي وتنزّل الملائكة ومجيئها بتلك العنايات الإلهيّة الخاصّة؛ لأنّ بركات يوم العيد تختلف عن نظيراتها في سائر الأيّام.
وذكرى شهادة الإمام عليه السلام تفترق عن ذكرى ولادته؛ إذ لكلّ واحدة مميّزاتها الخاصّة، لا أنّهما مشتركتان في الخصائص. ومن باب المثال أيضًا، فإنّ يوم عاشوراء مستقلّ عن يوم عيد الغدير، ولهما نوعان من العناية وشكلان من الفيض ونوعان من البركة، وكلّ واحد منهما ضروري بالنسبة للإنسان.
وبناءً عليه، ينبغي أن يكون واضحًا بالنسبة للناس أنّ اليوم الأوّل من شهر رمضان هو أيّ يوم، وهل هو اليوم أو غدًا.. لماذا؟ لأنّه لدينا في شهر رمضان مجموعة من الأيّام الخاصّة والليالي المهمّة، والتي من ضمنها الليلة الثالثة والعشرون؛ وهي ليلة القدر، والليلة التي تتنزّل فيها الملائكة، ويتحدّد فيها تقدير السنة اللاحقة؛ ولهذا، لدينا في هذه الليلة: عليك أن تقوم بهذه الأعمال، وتعمد إلى هذه المراقبة! فليست المسألة بسيطة حتّى نقول: يا سيّدي، لنجعل هذه الليلة ليلةَ القدر! لأنّه ليس بأيدينا أن نجعل ليلة القدر في هذه الليلة أو نجعلها في الأسبوع القادم.
أذكر بأنّ أحد نوّاب المجلس في زمان المملكة السابقة ـ ولا يحضرني الآن ما هو اسمه ـ قد اقترح بأن يستفيد موظّفو الدولة من العطلة الصيفيّة لأجل أداء مناسك الحجّ، حيث يكون بوسعهم الذهاب إلى مكّة في فترة التعطيلات! يا عزيزي، إنّ العطلة الصيفيّة لها حسابها الخاصّ بها، وهي مخصّصة للتنزّه والذهاب إلى الأمكنة التي اعتدت على الذهاب إليها! وأمّا الحجّ، فلا علاقة له بالصيف، بل هو مرتبط بذي الحجّة؛ أي إنّ ذلك الشخص لم يكن يُدرك بأنّ العبادات لها وقتها المحدّد الذي تُؤدّى فيه، وإلاّ لا تُحصّل منها أيّة فائدة.
فليلة القدر في شهر رمضان المبارك هي الليلة الثالثة والعشرون، وهي ليلة واحدة، غاية الأمر أنّ الكرة الأرضيّة تدور في امتداد هذه الليلة، حيث إنّ الليل لا يعمّ كلّ الكرة الأرضيّة في وقت واحد، بل في كلّ دقيقة من دقائق الأربعة وعشرين ساعة، يحلّ الغروب في مكان والصبح في مكان آخر من الكرة الأرضيّة؛ لأنّها في حالة دوران؛ فحينما يمرّ يوم وليلة على الكرة الأرضيّة، تتحقّق ليلة القدر؛ وفي هذه الحالة، ما هي هذه الليلة؟ وفي أيّ ليلة تكون؟ فمع الأخذ بعين الاعتبار للقرائن والشواهد الدالّة على هذه المسألة، فإنّها تكون في الليلة الثالثة والعشرين؛ وحينئذٍ، هل بإمكاننا القول: لنجعل يا سيّدي الليلة الخامسة عشر هي ليلة القدر بدلاً عن الليلة الثالثة والعشرين؟! ليس الأمر بأيدينا، وليلة القدر خارجة عن أيدينا، وهي بيد الله تعالى، وهو تعالى قد جعلها في مثل هذه الليلة؛ فبعد مرور إثني وعشرين ليلة من ليالي شهر رمضان، تكون الليلة الثالثة والعشرين هي ليلة القدر بتلك الخصائص والآثار.
اعتماد الرسول الأكرم والأئمّة عليهم السلام على الرؤية بالعين المجرّدة فقط
وهنا يأتي السؤال: متى كان يأتي أوّل الشهر في زمان رسول الله؟ وهل كان أوّل الشهر هو ذاك الذي يتحقّق بالرؤية عن طريق العين المجرّدة، أم عن طريق التلسكوب والطائرة؟ ففي ذلك الزمان، لم تكن هناك طائرة، ولا تلسكوب، ولا منظار طوله متر أو مترين! بل كانوا يتوسّلون بنفس هذه العين الظاهريّة، غاية الأمر أنّه ينبغي أن تكون عاديّة وليست ضعيفة أو مريضة، وكانوا يقولون: «اذهبوا بنفس هذه العين العاديّة فوق مرتفع أو جبل، وإلى مكان لا تكون فيه غيوم ولا موانع، بل يكون الجوّ فيه صافيًا، وانظروا للأفق؛ فحينما يرتفع الهلال عن الأفق بسبعة أو ثمانية درجات، فإنّه يكون قابلاً للرؤية».
ولا يخفى أنّه في بعض الحالات، قد لا يُرى الهلال حتّى مع ارتفاعه، حيث يُقال هنا بأنّه يكفي أن يأتي الناس من النواحي والأطراف ويشهدوا على رؤيتهم للهلال؛ ولهذا، في الأزمنة السابقة، كانوا يُشاهدون الهلال عادةً في الليلة الأولى.
ثمّ إنَّه عندما كان يُشكّ بالأمر، كانوا يقومون بإحياء ليلتين، وأتذكّر أنَّه حينما كان يُشكّ في ذلك الزمان في كون [ليلة القدر] هذه الليلة أو لا، كانوا يلجؤون إلى إحياء ليلتين من أجل إدراك فيوضات ليلة القدر. وأذكر كيف أنَّ المرحوم العلاّمة كان قد حضر المسجد ستّة ليالٍ لإحياء ليالي القدر في إحدى السنوات عندما حصل لنا شكّ؛ فأحيى الليلة التاسعة عشرة مرّتين، وكلاًّ من الليلة الحادية والعشرين والثالثة والعشرين مرّتين حتّى يتمكّن من إدراك ليلة القدر؛ وذلك لكون ليلة القدر إمّا أن تكون هذه الليلة أو الليلة التي بعدها، ولا يمكننا القول: لقد جعلنا هذه الليلة ليلة قدرٍ لكم!
وعليه، فإنّ الشهر الذي كان يتمّ اعتباره في زمان رسول الله والأئمّة عليهم السلام هو ذلك الشهر الذي كانت الرؤية فيه تتحقّق بالعين المجرّدة لا بواسطة التلسكوب؛ فلم يكن هنالك جهاز تلسكوب في ذلك الوقت؛ ولهذا، فقد كانوا يعتمدون في رؤية الهلال على هذه العين، ويُعوّلون عليها في ذلك. فكانوا يُحيون الليلة التاسعة عشرة والليلة الحادية والعشرين والليلة الثالثة والعشرين، ويلجؤون إلى تحديد يوم عيد الفطر عن طريق الرؤية بهذه العين؛ وكذا الأمر بالنسبة ليوم عرفة وعيد الأضحى؛ وبذلك يتمّ ترتيب أيّام الشهر عندهم.. أتلاحظون؟ كلّ ذلك بواسطة نفس هذه العين الظاهريّة.
وحينئذ، يُطرح علينا هذا السؤال: إذا كان رسول الله في ذلك العصر قد اعتمد على الرؤية بالعين المجرّدة لأجل تحديد اليوم الأوّل من الشهر، فبأيّ دليل شرعي نقوم نحن باعتماد الرؤية بواسطة التلسكوب، ونحدّد بداية الشهر على أساسها؟ واستنادًا إلى أيّ شيء نقوم بهذا؟ فلم يكن هنالك تلسكوب في عهد الرسول أو الأئمّة، بل كانوا يخرجون لرؤية الهلال بواسطة هذه العين الظاهريّة؛ وعليه، يجب أن نقول بأنَّه: لو كان هناك تلسكوب في عهد رسول الله، لتزحزح شهر رمضان الذي كان يعتمده صلّى الله عليه وآله وسلّم عن محلّه بمقدار يوم واحد! فهل يكون الأمر بهذا الشكل، أم لا؟ فيقوم رسول الله بصيام اليوم الأوّل من شهر رمضان في اليوم التالي مع كونه يعلم بأنَّ اليوم هو اليوم الأوّل من الشهر! هل يمكننا أن نلتزم بمثل هذا الكلام؟ هل استوعبتم ما أريد أن أقوله؟ فقد اختُرع التلسكوب في هذا الزمان، ولم يكن هنالك تلسكوب ولا طائرة في عهد النبيّ والأئمّة؛ فكيف ستثبت لهم بداية الشهر والحال هذه؟ لقد كانت تثبت لهم عن طريق الرؤية بهذه العين، فكانوا يصومون اليوم الأوّل من الشهر ويُحدّدون الليلة الثالثة والعشرين على أنَّها ليلة القدر اعتمادًا على هذه الرؤية.
فهل كان رسول الله يعلم بأنَّ هذا اليوم هو اليوم الأوّل من الشهر أم لم يكن يعلم؟ فإن قلنا بأنَّه لم يكن يعلم، فسيكون جاهلاً! وإن كان يعلم، فذلك اليوم الذي اعتبره رسول الله اليوم الأوّل من الشهر، هو الذي يجب أن نعتمده نحن أيضًا؛ لأنّ السماء لم تتبدّل عمّا كانت عليه، ولا الأرض! أتلاحظون ما هو الخطأ الذي نقع فيه الآن؟!
فاليوم الأوّل من الشهر هو اليوم الذي اعتمده رسول الله والأئمّة؛ لأنّهم هم السند بالنسبة إلينا؛ فما هي الوسيلة التي كانوا يحدّدون فيها هذا اليوم؟ لقد كانوا يحدّدونه عن طريق الرؤية بهذه العين، لا بالتلسكوب ولا بالصعود فوق الغيوم ولا بالطائرة؛ فذلك شيء آخر. فكان رسول الله يقول: ابدءوا شهركم واختموه عن طريق الرؤية الظاهريّة، وأحيوا عيد الأضحى بواسطة الرؤية بهذه العين! إذ لم يكن هنالك تلسكوب في ذلك الزمان.
فإن قلنا: «لقد كانت بداية الشهر في واقع الأمر قبل يوم، لكنَّ رسول الله أعلن عنها في اليوم التالي؛ ولو كان هنالك تلسكوب في ذلك الزمان، لأعلن النبيّ عن بداية الشهر في ذلك اليوم»، سيكون النبيّ قد أمر الناس باعتبار هذا اليوم هو الأوّل من الشهر مع علمه بأنّه الثاني! فهل من الصحيح التفوّه بكلام كهذا؟! لا، إنّ هذا مجانب للصواب! أو يقول لهم: «يا أيّها، الناس أنتم لا تعلمون ما الأمر، فلم يُخترع التلسكوب بعد، وسيتمّ اختراعه بعد ألف سنة من الآن؛ وفي ذلك الحين، سيتقدّم الشهر بيوم واحد! ».. ألا يعتبر هذا الكلام مضحكًا؟! أعتقد بأنَّه مضحك جدًّا!
عدم إطلاق عنوان الرؤية الشرعيّة على جميع أنواع الرؤية
كنت أقرأ إحدى الفتاوى لأحد السادة ـ وقد توفّي وانتقل إلى رحمة الله ـ حيث كان يقول في استدلاله: «إنَّ المقصود هو [مطلق] الرؤية، سواءً كانت بالعين المجرّدة أو بالتلسكوب، فكلاهما رؤية!».
ولقد كان هذا الكلام عجيبًا بالنسبة لي! فإن كانت الرؤية تتمّ بأيّ نحو كان، فسأقوم بالصعود في طائرة والتحليق على ارتفاع عالٍ جدًّا قبل يومين من بداية الشهر، وأعلن عن كون اليوم الثامن والعشرين [من الشهر الماضي] هو اليوم الأوّل من الشهر! فتلك رؤية أيضًا.. أليست كذلك؟ ألم يحصل لكم حينما كنتم تصلّون صلاة المغرب أن شاهدتم انعكاس أشعّة الشمس على الطائرة المارّة في السماء؟ فهذا يعني بأنَّ الطائرة قد وصلت إلى ارتفاع عالٍ جدًّا إلى درجة أنّها تجاوزت خروج الشمس من تحت الأفق (ودخولها فيه)، وصارت في ضمن زاوية سطوع نور الشمس. وعلى الرغم من أنّكم أنهيتم صلاة المغرب، وربما تكونون قد فرغتم من النافلة أيضًا، ومضى ربع ساعة على مغيب الشمس، فإنّكم لا زلتم ترون انعكاس نور الشمس [على الطائرة]!
وعليه، لا يمكن اعتبار ذلك اليوم هو اليوم الأوّل من الشهر قطعًا؛ وحينئذٍ، إن تمكّنت من رؤية الهلال من خلال التحليق بالطائرة، فماذا سيكون تكليفك؟ فهل ستعتبر ذلك دليلاً على حلول الشهر الجديد، وتبدأ صيامك؟ فلقد تمّت الرؤية هنا أيضًا، وهذا نوع من الرؤية إذًا! كلاّ يا عزيزي، فليس الملاك هو الرؤية بأيّ نحو كانت! بل الرؤية التي تُعدّ ملاكًا هي تلك الرؤية التي يكون فيها الهلال في وضع قابل للرؤية بالعين؛ أي عندما يكون الهلال قد ارتفع عن الأفق بنحو يخرج فيه عن تحت الشعاع، وهو ذلك الارتفاع الذي لا يمنع فيه نور الشمس التي تكون في حالة غروب ــ والمعبّر عنه بنور الشمس القاهر ــ العين المجرّدة من رؤية الهلال؛ ففي مثل هذه الحالة تتحقّق الرؤية.
بناء عليه، إذا ما جئنا واستفدنا من التلسكوب أو المناظير القويّة جدًّا، فذلك لا يصحّ ولا فائدة منه؛ نعم، لو كان المنظار عاديًّا.. منظارًا يساعد الناظر على تجاوز الغبار، فلا إشكال فيه، وأمّا إذا كان تلسكوبًا يستطيع أن يتجاوز نور الشمس ويتغلّب عليه (وهو ما حصل في ما نحن فيه)؛ أي أن يكون قويًّا إلى درجة أن يقرّب صورة الهلال بنسبة كبيرة، بحيث يمكن رؤيته حتّى لو كان تحت شعاع الشمس ـ حيث يكون في هذه الحال نور الشمس مانعًا من رؤية الهلال ـ فإنّ الرؤية بمثل هذا التلسكوب ليست مقبولة أصلاً، ولا فائدة فيها، وينبغي عدُّ هذا اليوم هو اليوم السابق وليس اليوم التالي۱.
ومن هنا يظهر الخطأ فيما يقال من أنّ مشاهدة الهلال بمثل هذه التلسكوبات تصدق عليها "الرؤية"، بأيّ كيفيّة حصلت وبأيّ نحو كان! إنّ هذا الكلام خطأ؛ لأنّ الرؤية بأيّة كيفيّة وبأيّ نحو لا تكفي؛ بدليل أنّ هناك بعض الموارد التي تحصل فيها الرؤية مع أنّنا نقطع بأنّ إثبات الشهر بها خطأ وغلط، بل ينبغي أن تكون الرؤية رؤية عاديّة؛ يعني: ينبغي أن تكون الرؤية بنفس ذلك النحو الذي كانت عليه في زمان زعمائنا (أي النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين)، حيث كانوا يعتمدون عليها ويبنون حساباتهم وأعمالهم على أساسها، فكانوا يصومون اليوم الأول، ويحيون ليلة التاسع عشر وليلة الثالث والعشرين وغيرها على أساس هذا النوع الخاص من الرؤية، وكان الجميع يرون ذلك منهم؛ فكذلك وظيفتنا نحن هي أن نعمل بنفس الطريقة، فلا ينبغي على الإنسان أن يُغيّر [الأحكام] بسبب مجيء هذه الآلات الجديدة؛ لأنّ اليوم الآن كاليوم في زمانهم، والليل نظير الليل، ولم يتغيّر شيء، والملاك هو نفسه.
تأثير الكشوفات والتقنيات العلميّة على بعض الأحكام الشرعيّة (نظير حرمة الاستفادة من الكحول)
نعم، ههنا مطلب ينبغي الالتفات إليه وهو: أجل، نحن نشاهد في بعض الموارد أنّ الحكم في زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وفي زمان الأئمّة عليهم السلام كان بنحوٍ، ثمّ نجده قد تغيّر مع حصول بعض الاكتشافات، واختراع بعض الآلات والتقنيّات الجديدة؛ وذلك حينما لا يكون ذلك الحكم محمولاً على ذلك الموضوع في حدّ نفسه، بل يُحمل عليه حينما يكون واقعًا تحت ظروف وشروط خاصّة، فإذا تغيّرت الشروط، يتغيّر الحكم؛ فالحكم هنا لا يدور مدار الموضوع نفسه، بل مدار الشروط المحتفّة به.
ومن أمثلة ذلك: الاستفادة من الكحول؛ فالكحول في حدّ نفسه نجس، سواءً في زمان رسول الله أو في زمان الأئمّة عليهم السلام أو في زماننا بدون أيّ فرق في ذلك، فهو نجس على كلّ حال، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ الكحول النجس هو الكحول المائع بالأصالة، أي الذي يكون في أصله سائلاً؛ نظير الذي يُصنع من العنب فإنّه نجس، وأمّا الذي يُخمّرونه (كما يفعلون بالخشب)، فليس بنجس.
حسنًا، بعد أن اكتشفنا أنّه نجس، فإنّنا نعلم شرعًا بأنّ النجس لا تجوز الاستفادة منه؛ فلا يجوز بيعه ولا شراؤه ولا إهداؤه، والمعاملة التي تتمّ به باطلة، والمال المأخوذ مقابله حرام وسحت، وقد كانت هذه المسألة صحيحة في الزمان الماضي؛ وذلك أنّه في زمان رسول الله ـ وكذلك الأمر في الأزمنة اللاحقة ـ ما هي الفائدة التي يمكن أن يستفيدوها من الكحول؟!
واستمرّ ذلك حتّى زمان زكريّا الرازي الذي اكتشف بعض خواصّ الكحول، ومنها قدرته على التعقيم وأمثال ذلك. بعد حصول ذلك، يأتي الفقيه هنا ويتساءل: ما هو السبب في الحكم بحرمة الاستفادة من الكحول: هل لأنّه نجس، أم لأنّه لا توجد له أيّة فائدة عقلائيّة؟! حسنًا، في ذلك الزمان لم يكن لديهم اطّلاع [على خصائص الكحول]، ولم يكونوا يستفيدون منه، وكانت وسائل التعقيم التي يستعملونها أمورًا أخرى؛ فمثلاً: كانوا يحرقون الخشب بطريقة خاصّة ثمّ يستفيدون من الرماد بنحو معيّن، أو كانوا يستعملون بعض الأعشاب المضادّة للبكتريا، وهي موجودة حتّى الآن، وبعض أهل القرى يستعملونها، فمثل هذه الأعشاب التي لها خاصّية المضاد الحيوي موجودة في بعض الجبال. وحتّى العسل له مثل هذه الخصوصية، فالعسل الطبيعي من الأمور التي لها تأثير المضادّ الحيويّ، ويمكن الاستفادة منه عند حصول جرح أو ما شابه، ويُقال: إنّ تأثيره قويّ جدًا إلى درجة أنّ معالجته لموضع الجرح أقوى من تأثير الأدوية الكيميائيّة الحديثة، وهو أمرٌ مجرّب. وأمّا بالنسبة للكحول، فلم يكن أحدٌ قد توصّل إلى توفّره على هذه الخاصّية.
فعندما يدقّق الفقيه النظر هنا، يرى أنّ تحريم الاستفادة من الكحول الذي ورد في الشرع إنّما كان لأجل افتقاده لأيّ استعمال مفيد، وأمّا لو صار لهذا الكحول نفسه فائدة معقولة، فلِمَ يكون استعماله مورد إشكال؟! أفهل إنّ استعمال الكحول محصور في تناوله؟! كلاّ، بل يمكن الاستفادة من الكحول في التعقيم مثلاً؛ فهم الآن يستعملونه في تعقيم غرف العمليّات، وهم يصرّون على تعقيمها بالكحول، وبعضهم يصرّ على أن يكون ذلك بكحول العنب خصوصًا، حيث كان صديقنا الدكتور سجّادي ـ مثلاً ـ يقول: «لابدّ أن تعقّم غرفة العمليّات التي أجري فيها عمليّات جراحة العيون بكحول العنب فقط، وأنا لا أقبل بأيّ شيء آخر أصلاً ولا أؤيّده!».
وحينئذٍ، فما الإشكال الذي يمنعنا من استعمال الكحول؟ لا يوجد أيّ مانع، ومع ظهور هذه الفوائد له، يصير التعامل به بيعًا وشراء أمرًا جائزًا، ويصير المال المكتسب منه حلالاً مثله كمثل الخضروات والخبز. نعم، يظلّ تناوله حرامًا، ويظلّ نجسًا؛ فإذا ما لامس يد الإنسان، فإنّ عليه أن يغسلها ويطهّرها، فذلك كلّه ما يزال على حاله، ولكنّه لا يجعلنا نقول بحرمة استعماله في الأمور الأخرى وحرمة بيعه وشرائه؛ فالقول بذلك ليس بأمر منطقي ولا شرعيّة له.
تأثير مقتضيات الحكم على وظيفة المكلّف (مثال تحديد القبلة)
وهناك مطلبٌ دقيق وددت أن أطرحه عليكم يتعلّق بمسألة القبلة؛ وهو أنّ الشارع قد جعل الحكم في بعض الأشياء بناءً على ما تقتضيه أحوال ذلك الزمان، ولكنّنا نرى أنّه حينما تتغيّر تلك المقتضيات، فإنّ ذلك الحكم، ومع أنّه لا يتغيّر، إلاّ أنّه يكتسب صورة جديدة.
فمن باب المثال، ورد عندنا في مسألة القبلة بأنّ الأشخاص المتواجدين في الحرم المكّي وكذلك الأشخاص الموجودين في مكّة والذين يستطيعون أن يشاهدوا الكعبة ويتجّهوا نحوها؛ فإنّ قبلتهم هي نفس الكعبة؛ أي نفس ذلك البناء المربّع؛ ولهذا، فإنّ الأشخاص الذين في مكّة لا يجوز لهم أن ينحرفوا يمينًا أو يسارًا عن الكعبة، اللهمّ إلاّ إن كان هناك مانع، وكان مثل هذا الاتّجاه الدقيق صعبًا بالنسبة لهم. وبالتالي، فمن كان في المسجد الحرام أو في الشوارع التي حوله أو في الفنادق المطلّة عليه، فإنّ قبلته هي نفس الكعبة، وأمّا الأشخاص البعيدون ـ لا سيّما من كان يعيش في مدنٍ بعيدة عن مكّة المكرّمة ـ ، فإنّ قبلتهم ستكون هي جهة الكعبة لا نفس الكعبة؛ لأنّ عين الكعبة لا يمكن رؤيتها! فكيف يمكن لك أن تجعل بناءً طوله أربعة عشر مترًا وعرضه أربعة عشر مترًا قبلةً لإيران مثلاً؟! هذا غير ممكن أصلاً! ولذا، جُعلت جهة الكعبة قبلةً لهؤلاء؛ بمعنى أنّ عليهم أن يتّجهوا نحو الكعبة، فإذا مالوا قليلاً إلى هنا أو هناك، فلا جُناح عليهم.
وللعلاّمة الحلّي رحمه الله رأي في هذه المسألة هو محلّ نظر وتأمّل.. يقول رحمه الله: «إنّ الكعبة لم تجعل في الوهلة الأولى قبلةً لجميع الناس من البداية، بل إنّ لدينا قبلتين من الأوّل: فمن كان في المسجد الحرام والشوارع والمنازل التي حوله، فإنّ قبلته نفس الكعبة وعينها؛ وأمّا من كان بعيدًا، فإنّ الكعبة لم تجعل قبلة له أصلاً، بل قبلته هي جهة الكعبة (يعني ذلك الفضاء وتلك الجهة التي يُمكن للإنسان أن يقف فيها باتّجاه الكعبة)، سواءً صادف اتّجاهُهم عين الكعبة أم لا، حيث يكفي أن تكون الصلاة نحو تلك الجهة فقط، وأما عين الكعبة فليست قبلة لهم؛ وذلك لأنّ الله تعالى لا يُمكنه أن يضع حكمًا عبثيًّا بأن يجعل الكعبة قبلة للجميع منذ البداية، ثمّ يأتي ويقول: وأمّا من لا يستطيع تحديد مكان الكعبة لبعد المسافة، فإنّ قبلته هي جهة الكعبة! ولذا، فإنّه لا يمكن أن يجعل عين الكعبة قبلة للأشخاص البعيدين أصلاً! وعليه، فإنّ الشارع جعل منذ البداية قبلتين: الأولى عينُ الكعبة لمن كان قريبًا، والأخرى جهة الكعبة لمن كان بعيدًا».
ولكنّنا عندما ندقّق في هذا المطلب، نجد أنّ الأمر على غير ما ذكره رحمه الله، فالله تعالى قد جعل الكعبة منذ البداية قبلةً للجميع؛ غاية الأمر أن ذلك الجعل هو بهذا البيان: بالنسبة للأفراد القريبين، من الواضح أنّ عين الكعبة هي قبلتهم، وأمّا بالنسبة للأفراد البعيدين، فلمّا كانوا غير قادرين على اتّخاذ عين الكعبة قبلةً لهم، فإنّ جهة الكعبة تكفي عنه؛ فالأمر بهذا النحو، لا بالنحو الذي ذكره العلّامة الحلّي رحمه الله.
ومن هنا، فلو كنّا في قمّ نتوفّر في هذا العصر على وسيلة أو آلة؛ كأن يوضع جهاز للبثّ على ظهر الكعبة ونضع هنا جهازًا آخر للاستقبال يرسم خطًّا دقيقًا نحو وسط الكعبة ـ وبالطبع هناك بعض الوسائل المتوفّرة الآن ـ ، فإنّ قبلتنا ستكون حسب اتّجاه هذا الخط، ولا يُمكننا أن ننحرف يمينًا أو يسارًا، لماذا؟ لأنّ الآلة التي تحدّد الكعبة بدقّة قد توفّرت.
عدم تغيّر مقتضيات الحكم في مسألة رؤية الهلال
وهذه المسألة تختلف عن مسألة تحديد بداية الشهر وأمثالها، وهما عبارة عن مسألتين مستقلّتين؛ وذلك لأنّ نفس الكعبة [في هذه المسألة] هي موضوع لاتّجاهنا، ولكن حيث يجد الشارع أنّا لا نحرزها بدقّة، فإنّه يخفّف عنّا رفقًا بنا، ويقول: بما أنّك لا تتمكّن من الاتّجاه نحو الكعبة عينها، نكتفي منك بالصلاة إلى جهتها، ولكنّك إذا عثرت على الجهاز الذي يحدّدها لك بدقّة، فوظيفتك هي العمل على أساس ما يقدّمه الجهاز؛ نعم، لو لم يكن لديك جهاز من هذا القبيل، فبمقدورك أن تصلّي إلى جهة الكعبة، ولا إشكال في أن تميل صلاتك إلى هذا الطرف أو ذاك. لقد أردت أن أطرح هذا الموضوع على الرفقاء ليعلموا بأنّ الموارد تختلف، فلا يقعوا في الخطأ يومًا ما.
وفي مسألة رؤية الهلال، اعتمد الشارع على العين المجرّدة، لا على التلسكوب؛ ففي زمان الشارع، لم يكن هناك تلسكوب، ولا طائرة، لا رادارات، ولا أقمار صناعيّة، لكي تلتقط لنا صورة عن الأفق وتُحدّد لنا اليوم الأوّل من الشهر، وتضع لنا تقويمًا لكلّ السّنة! وأمّا الآن، فتقويم ليلة عيد الفطر موجود ـ وقد أعطيت واحدًا منه وهو يبيّن أنّ يوم عيد الفطر هو يوم كذا ـ ، لكن في زمان الشارع، لم يكن لهذه الأمور من أثر، ونحن علينا أن لا نعتمد على هذه الأدوات، بل علينا أن نذهب وننظر بأنفسنا ونستهلّ؛ فهذه الأدوات ليست هي المعيار لنتمسّك بها؛ أي إنّها حتّى الآن لا تُعدّ معيارًا؛ نعم، ربّما تعدّ لاحقًا معيارًا وهذا أمر آخر؛ وذلك إذا وصل الإنسان إلى يقين منها واطمئنان، فهذا أمر آخر.
فعلى كلّ حال، لم تكن هذه الأدوات والأجهزة في ذلك الزمان، وكان الناس ينظرون بأعينهم هذه، وكان النبيّ يعتمد بدوره على هذه العين ويقول: هذا أوّل الشهر وهذا آخره، وهذه ليلة القدر، وهذا يوم عرفة، وعيد الأضحى.. كلّ ذلك بالاعتماد على هذه العين! حسنًا، فما الذي حصل حتّى يتغيّر الأمر فجأةً في زماننا؟ أفهل اختلفت ليلة القدر في زماننا عن ليلة القدر في زمان النبيّ، فهي تتقدّم يومًا عمّا كانت عليه؟ أفلأنّ النبيّ لم يكن يمتلك جهاز التلسكوب، فإنّه كان مجبورًا أن يجعل ليلة القدر هي ليلة الثلاثاء مثلاً، أمّا نحن، فحيث إنّنا نمتلك هذا الجهاز، فإنّنا نجعلها ليلة الاثنين؟! يا للعجب! يعني أنّ ليلة القدر في زماننا اختلفت عن ليلة القدر في زمان النبيّ!
فماذا ستكون النتيجة إذن؟! والحال أنّ ليلة القدر هي ليلة واحدة، فالملائكة لا تغيّر زمان مهامّها بسبب اختراع التلسكوب! فبما أنّه اخترع التلسكوب، فعلى الملائكة أن تؤخّر ليلة القدر يومًا! إذن، على الملائكة أن يظلّوا منتظرين لاختراعاتنا! فما دام لم يتمّ الاختراع، عليهم أن يتنزّلوا في الليلة الكذائيّة، وأمّا إذا تمّ الاختراع، فإنّ عليهم التنزّل في الليلة التي قبلها!! وبالتالي، فإنّ هؤلاء السادة الملائكة وجبرائيل والروح الذين يتنزّلون في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر صاروا ينتظرون اختراعنا! فهم في النهاية ينتظرون اختراع التلسكوب حتّى يعرفوا تكليفهم أمام الله! فيقول الله تعالى: حسن جدًّا، متى ما وُلد مخترع التلسكوب وعمد إلى اختراعه، فإنّ تكليفكم سيختلف أيضًا!
أحببت طرح هذه المسألة الليلة حتّى تبلغ جميع السادة، وليقوم الفضلاء بالتأمّل والتفكّر بشأنها، ولينظروا ماذا يجب أن يُفعل فيها.
وعليه، فبحسب ما وصل إلينا من أخبار، ووفق التحقيقات التي أجريناها، فإنّه من المقطوع به أنّ الهلال لم يُر بالعين المجرّدة في ليلة الخميس، لتكون هي الليلة الأولى من الشهر؛ نعم، ادّعيت الرؤية في مكانين أو ثلاثة بواسطة التلسكوبات القويّة، مع أنّ بعضهم رآه وبعضهم لم يره؛ وعجيب جدًّا بالنسبة لنا أن يراه واحد بالتلسكوب ولا يراه الآخر في نفس المكان! وخلاصة القول أنّ هذه هي حال المعطيات التي اعتُمدت، وعلاوةً على ذلك، فإنّ رؤية الهلال حتّى بواسطة التلسكوب كانت في شعاع أقلّ من خمس درجات فوق الأفق، حيث يكون الهلال قطعًا تحت شعاع الشمس، ولا تُمكن رؤيته.
وعلى هذا، فما لم تصل أخبار أخرى، ولم تتغيّر المعطيات، فإنّ أوّل يوم من أيّام الشهر سيكون هو الجمعة.. هذا ما أردت بيانه للرفقاء.
طريق العبودية الطريق الملازم للسالك أبداً
حسناً، ذكرنا أثناء حديثنا في المجالس السابقة أنّ الإمام عليه السلام قد بيّن في هذه الفقرة طريق السير والسلوك للإنسان. وذكرنا أنّ الإنسان لا يمكن له أن يتحرّك أبداً بدون الالتفات إلى هذه المسألة والاهتمام بها.. أجل لا يمكن له أن يتحرّك أبداً.
ولقد كنت أشاهد في الأيّام السالفة أحوال الأعاظم؛ حيث كنت على علاقة بعدّة منهم؛ كالمرحوم الوالد رضوان الله عليه وأستاذه، وأستاذه الآخر أيضاً رضوان الله عليهما، كنت أشاهد عن كثب وألمس عن قرب أنّ السيّد الوالد رضوان الله عليه كان واقعاً وبتمام معنى الكلمة يهتمّ بهذه الفقرة ويلتزم بها التزاماً تامّاً، وما كانت هذه المسألة لتغيب عن ذهنه أبداً أو يقلّ اهتمامه بها مهما حصل.
ولم أكن أشعر أنّ حاله بالنسبة إلى هذا الموضوع قد تغيّر، أو أنّ هناك فرقاً قد طرأ عليه من أوّل يومٍ له معهم إلى آخر يوم، ولم يكن ليقول: لقد انتهى أمرنا وضمنّا السعادة والفلاح! بل كان يحافظ على هذه الحالة التي وضّحها الإمام في هذه الفقرة، وعندما كان يتحدّث مع أصدقائه، كانت هذه المسألة مشهودة أيضاً؛ يعني كانت هذه حاله بشكل دائم. عندما كان يجلس قرب أستاذه كان له حالة واحدة ووضعٌ ثابت، ورغم أنّ نظره كان يرتقي ويرتقي مع مرور الزمن وطيّ الطريق، إلاّ أنّ ذلك لم يكن ليسبّب تغيّراً عنده في نظرته إلى موقعيّته ومكانه بالنسبة إلى أستاذه، وهذه المسألة مهمّة جدّاً. مع أنّه في المقابل كان هناك أفرادٌ آخرون يتتلمذون على يد نفس الأستاذ، ولكنّنا لم نكن نشاهد منهم هذه الحالة، مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم من السلّاك ويرون لأنفسهم مكانة هناك، ولكنّنا لم نكن نشاهد منهم تلك الحالة، فماذا كانت النتيجة؟ لقد نال كلّ واحدٍ سهمه الذي يستحقّه، وقطف كلّ واحد ثمرة عمله ونتيجة تصرّفاته!
والآن يقول الإمام السجّاد عليه السلام: يا ربّ، بعد أن تبيّن أن حالتي ووضعي هو هذا، "فهبني بفضلك"؛ تعامل معي بفضلك، وتصدّق عليّ بفضلك؛ لأنّه ـ وكما بيّنا في الليلة البارحة ـ كلتا الجنبتين بيد الله وتابعة لإرادته، وكلتاهما تمثّلان نزولاً لآثاره عزّ وجلّ، وهي عبارة عن تجلٍّ لأسمائه وصفاته، فعندما تأتي إرادة الله تعالى وتريد أن تمنح التحقّق والوجود لأمرٍ ما في الخارج، فإنّها يمكن أن تسوقه نحو أيّ طرف من الطرفين؛ يعني بالنسبة له تعالى لا فرق أبداً بين أن تساق هذه الحادثة وهذا الأمر إلى هذا الطرف أم إلى ذاك.
العارف ينسب كل شيء إلى توفيق الله
عجيبة جداً! حقّاً إنّ هذه المناجاة الشعبانية التي كان الرفقاء يقرؤونها في شهر شعبان واقعاً عجيبةٌ جداً؛ والحقيقة أنّ كلمات الأئمّة عليهم السلام كلّها عجيبة، لقد ورد في إحدى فقرات هذه المناجاة قوله عليه السلام: "إلهي لم يكن لي حول فأنتقل به عن معصيتك إلا في وقت أيقظتني لمحبتك". الانتقال يعني الالتفات والتحوّل من حالٍ إلى حال، فأنا يا ربّ لا أملك القدرة على أن أترك معصيتك وأمتنع عنها إلاّ عندما أيقظتني أنت بواسطة محبّتك، أو إلى المحبّة التي ألقيتها في قلبي لك، والمعنى واحد.
يعني عندما أتعرّض لهذا الموقف، وهو أمرٌ يحصل لكلّ إنسان، حيث تعرُض له معصية، كأن تقدّم له فرصة ليحصل على منفعة ماديّة مقابل أن يرتكب معصية، فيقال له مثلاً: اكذب هذه الكذبة لتحصل على الفائدة الفلانية، والفائدة لها طعم حلو، وكلّ ما عليك هو أن تكذب مرّة واحدة الآن، ثمّ تتوب لاحقاً، ولكن دعنا نغتنم هذه الفرصة الآن! أو يقال له: إنّ فلان قريبك، فلا تشهد عليه، ولا تحكم ضدّه، بل اذهب وقل كذا واشهد بكذا في المحكمة، اذهب واشهد شهادة زور! (واقعاً عجيب!) اذهب واشهد زوراً؛ لأنّ هذا أخوك أو أختك أو صديقك. وبسبب شهادتنا هذه يصاب شخص بريء بضرر أو ظلم، والحال أننا نفعل ذلك ونذهب ونشهد، ونتّهم شخصاً بريئاً! لأي شيء نفعل ذلك ومن أجل ماذا؟! من أجل أن يصل هذا الفرد من أقاربنا إلى منفعة دنيوية، منفعة عابرة، منفعة تبقى معه يومين في هذه الدنيا! ما سبب ذلك كلّه؟ سببه الغفلة! فأنت يا من تفعل ذلك: هل فكّرت بغدِك؟ ماذا ستفعل بعد أن ينقضي هذان اليومان، ويأتي اليوم الموعود؟! فكّر قليلاً في أمر الغد! وحينئذٍ انظر إلى نفسك، هل تقدر أن تذهب وترتكب هذه الخطيئة أم لا!
أو عندما يحصل للإنسان فرصة لعمل محرّم، فيأتي الشيطان ويوسوس للإنسان، بل لا حاجة لأن يأتي الشيطان ويوسوس لنا، بل نحن نكفّي ونوفّي، فنقوم بالمهمّة لوحدنا دون مساعدته! قال أحدهم: عفواً يا سيّد فالشيطان قد خدعني! فقلت له: كلاّ يا عزيزي، الشيطان لا يخدع مثلك بل أنت من يخدع الشيطانَ! فلا تحمّل المسؤولية للشيطان، هذا الشيطان المسكين!! فأنت ترتكب العمل ثمّ تلقي باللائمة على الشيطان، فهو يريد ان يتخلّى عن مسؤولية تصرّفاته ويلقي باللائمة على غيره، وهذا نفسه من ألاعيبه! كلاّ يا عزيزي! إنّ الشيطان لا يقصد أمثالك ولا ينشغل بهم، بل هو إنّما يذهب إلى أولئك الذين لا يستسلمون بسهولة، ولا يتّبعون كلّ وسوسة، يذهب إلى أولئك. أمّا نحن، فالشيطان يجب أن يركض وراءنا حتّى يلحق بنا! وهو ينادينا قائلاً: قف قليلاً يا هذا، فأنا قلت لك ارتكب المعصية وخالف، ولكنّني لم أقل لك أن تخالف إلى هذا الحدّ! فنحن نعطي الشيطان دروساً، ولذا فإنّه لا يشغل باله بنا كثيراً. الشيطان يذهب نحو أولياء الله، والأنبياء وأمثالهم، إنّه يذهب نحو أولئك الذين يمّموا وجوههم شطر العوالم العليا، ولا يضيّع وقته مع أمثالنا نحن. يقول: لقد خدعني الشيطان! دعك من هذا الكلام، فأين خدعك الشيطان؟! أنت من فعلت ذلك بنفسك، فلمَ تلقي باللائمة على الشيطان؟!
نعم، عندما يشعر الإنسان بالوسوسة، ويرى أنّ المعصية حلوة، فهناك صحيح! وهو ما تشير إليه الآية الشريفة : {إِنَّ الَّذينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ٢۰۱} (الأعراف، ٢۰۱)، يعني عندما تأتي مجموعة من الشياطين وتطوف بابن آدم وتمسّه بأجنحتها... لاحظوا أنّ هذا الإنسان لم يقع في المعصية بعد، بل ما يزال يفكّر في الأمر، وما يزال يتصوّر المعصية في ذهنه، ولكنه لم يقع في الخطأ بعد، فهو يفكّر في نفسه: هل أذهب وأقول لفلان: لا تشتر من البائع الفلاني لأنّك مغبون في هذه الصفقة في هذا الجانب، ولذا دعك منه وتعالَ واشترِ منّي أنا، ثمّ يضيف على ذلك كذبة من عنده ويتّهم ذلك الشخص بأمر هو بريء منه، أو غير ذلك من الأمثلة... هل اتّضح الأمر؟
العبودية لله هي التي أنقذت يوسف عليه السلام في ابتلائه
وهذه القضية تبرز بوضوح في قضيّة النبي يوسف عليه السلام، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله:{وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} (يوسف، جزء من الآية٢٤) ، فالنبيّ يوسف لم يكن من الحديد والفولاذ والبرونز، بل كان بشراً من بني آدم، كان عنده نفس، ولنفسه رغبات وميول، وكان عنده فكر، كما كان عنده نفس الميول التي عند سائر البشر، فهو لم يكن من الملائكة، بل كان إنساناً، ولكنّ ما يميّز حضرة يوسف عليه السلام هو اعتماده على الله تعالى، إذ كان قد سلّم نفسه لربّه وتوكّل عليه، وقال له: يا ربّ، إنّني أفوّض جميع أموري إليك، فأنا لا حول لي ولا قوّة من نفسي، ولا اختيار لي من تلقاء نفسي، فأنت أعطني الاختيار من عندك، وأعطني القدرة من عندك، وأعطني الهمّة من عندك، وأعطني التوجّه من عندك، وأعطني التذكّر من عندك وأعطني التنبّه من عندك، أنت أعطني. لا أنّه يقول: أنا قادر وأنا أستطيع وأنا وأنا...
ولذا، فعندما وقع في ذلك الموقف الصعب وتلك الظروف الحرجة، وجاء الشيطان ليوسوس له، فإنّ ذلك التوّجه أنقذه، ذلك التسليم والالتجاء والابتهال إلى الله تعالى، فحضرة يوسف عليه السلام كان شاباً منزّهاً طاهراً، ولم يسمح للمعاصي أن تلوّثه فيما سبق، وطوال عمره كان يسعى لمرضاة الله تعالى والعمل بالتكليف، ورغم أنّه لم يكن قد وصل إلى مقام النبوّة بعد، إلاّ أنّ طريقه كان طريق الأنبياء وطريق التوحيد وطريق التقرّب إلى الله تعالى وكسب مرضاته في جميع المراتب وجميع الأعمال.. هكذا كان طريقه.
في مثل هذا الظرف الحرج، يأتي الشيطان إلى النبي يوسف عليه السلام؛ لأنّ مثل هذا الشخص يأتي إليه الشيطان ليحاول إغواءه، أمّا نحن فلا يأتي إلينا.
حسناً، في مثل هذا الموضع يأتي الشيطان ويقول له: يا عزيزي، من الذي يراك الآن؟ فأنت الآن في غرفة مقفلة بألف قفل، ولا أحد يراك أو يعرف عمّا يجري، ولا يمكن لأحد أن يطّلع على ما ستفعله. ثمّ إنّك لست أنت من قصد إليها، بل هي التي جاءتك بنفسها... (كل هذه الأعذار هي أمور نختلقها نحن لنبرّر لأنفسنا الخطأ). إنّك لم تذهب إليها، بل هي التي قصدتك، فلا تكسر قلب هذه المسكينة؛ ألا ترى مقدار إصرارها؛ فلماذا تريد أن تردّها؟! فأقدم على هذا الفعل، ثمّ بإمكانك أن تتوب، والله تعالى غفور رحيم يقبل التوبة من عبده، وإلاّ فلأيّ شيء قد جعل الله التوبة؟! وهكذا يبدأ الشيطان بإلقاء أمثال هذه الأعذار والتوجيهات.
يأتي الشيطان ليحوم حول نفس الإنسان، ويسعى لإزاحة تأثير العقل، فيقول له مثلاً: إنّك لم تأتِ إليها بنفسك، بل هي التي أحضرتك إلى هنا. أليس كذلك؟ حسناً، قل لله تعالى: يا ربّ، لم يكن لي من حيلة!
أو يأتي فيقول له: إن لم تفعل ما تأمرك به، فإنّها سوف تصنع لك المشاكل ها! ومن الممكن أن تسبّب لك إزعاجاً وأذيّة أنت بغنىً عنها، كما أنّها يمكن أن تتّهمك وتجعلك في ورطة! وهكذا يصوّر له المعصية فعلاً موجّهاً ومبرّراً، فهذا دليل وجيه يبرّر هذا التصرّف.
وهكذا تبدأ النفس تلين بالتدريج، وتميل إلى الإقدام على العمل، وهنا يأتي المدد الإلهي من الطرف المقابل، فيقول له: عجباً لك! أتقول: ليس ههنا أحد؟! أليس الله موجوداً وحاضراً؟! أليس الله شاهداً على ما يجري؟! ولو فرضنا أن الله لن يشاهدك، ألن يكون هذا الفعل منك سبباً لضياع تلك الاستعدادات والقابليّات التي عندك للتكامل؟! فذلك الاستعداد للتكامل والترقّي الموجود في نفسك الآن، هل يمكنك أن تستعيده لو ضاع منك؟! كلاّ! لن يمكنك أن تستعيده أبداً.
وهذا معنى «بُرْهانَ رَبِّهِ»، لا أنّه يقول له: إن فعلت ذلك فإنّ الله سوف يعذّبك ويعاقبك وأمثال ذلك. لا، بل المراد من ذلك هو إدراك حضرة يوسف عليه السلام أنّ الإقدام على هذا الفعل سوف يحرمه القابليّات التي عنده للترقّي، وسوف يمنعه من التكامل.
حسناً، من ألقى ذلك في روعه وأفهمه إيّاه؟ الله تعالى هو الذي فعل ذلك. يعني عندما يفوّض الإنسان أموره ونفسه لله تعالى، ويقول له: يا ربّ، أنا لا أعرف، ولا أملك فهماً ولا عقلاً ولا قدرة، فتولّ أنت الأمر وأعطني من عندك؛ ففي مثل هذه الحالة إذا ما جاءه الشيطان، وحاول أن يزيّن له الأمر ويهيئ الأجواء لارتكاب المعصية مبرّراً له فعلها، ومقدماً له الأدلة للإقدام عليها، فإنّ الله تعالى سيأتي هنا ويرسل ملائكته أن اذهبوا وأنقذوا عبدي! فالشيطان يأتيه من هذا الطرف ليقول له: لماذا تهوّل الأمر؟! الأمر بسيط فلماذا أنت متصلّب في موقفك بهذا الشكل؟! هكذا يأتي الشيطان من هذا الطرف، وفي المقابل تأتي الملائكة لتقول له: ماذا؟! ليس مهماً؟! كلاّ يا عزيزي، ماذا تريد أن تفعل؟! إنّ في ذلك هلاكك، فكيف تقول: إنّه ليس بمهمّ. فيأتي الشيطان ويقول: ولكنّها غلّقت الأبواب، فلم يعد لي من حيلة، ولم أعد مقصّراً. فتجيبه الملائكة: فلتغلق الأبواب، لكنّها لم تأخذك من تلابيبك ولم تربط يديك أو تسلبك الاختيار.
وهكذا، فذاك يأتي من ذاك الطرف ويطرح أدلته وتبريراته، والملائكة تأتي مع جبرئيل من هذا الطرف لتبيّن له طريق الصواب، فواحد يأتي ويستدلّ من هذا الطرف، والآخر يأتي ويستدلّ من الطرف الآخر.
الإنسان معرّض للاختبارات دائماً ومحبة الله هي المنقذ له
فيرى الإنسان نفسه متردِّداً بين هذا الأمر وذاك. أليس كذلك؟ قولوا بأجمعكم: نعم. فليس بالضرورة أن يكون الأمر في هذا المجال فقط، بل يحصل ذلك لنا جميعا وفي مختلف المجالات؛ فترانا نكذب في ذلك الموقف الذي كان يجب علينا ألاّ نكذب فيه، ونوجّه التهم للآخرين في الوقت الذي ما كان علينا أن نفعل فيه ذلك، فليس بالضرورة أن يحصل الأمر في ذلك المجال فقط، بل يحصل لنا ذلك في مجالات مختلفة. فالله يختبر الجميع، لذا علينا أن نكون حذرين. وهذه هي المواقف التي يجب على الإنسان أن يقوم بتسليم زمام أموره فيها إلى الله. وعلى قول المرحوم السيِّد الحدّاد: على السالك أن يقف على باب قلبه كالحارس الذي يحمل بيده خنجراً، ولا يسمح لأحد بالاقتراب منه أبداً؛ فيقوم بضرب وتحطيم التبرير الأول الذي يصدر من ذلك الجانب، ويسلّم أمره إلى الله لكي لا تصل النوبة إلى حصول الترديد ثم يقول في نهاية الأمر: لن أفعل ذلك، فلا يمكن لي أن أكذب أو أقوم بتوجيه هذه التهمة أو ارتكاب ذلك الذنب، بل يجب أن يتم ذلك من الوهلة الأولى، وألاّ يسمح بتأخير المسألة ووصولها إلى مراحل متقدّمة.
وعندئذٍ سيأتيه المدد من جانب القوى الملائكية والقوى الرحمانية، فيأتي جنود الرحمن ويحفظوه. وهذا ما حصل لنبي الله يوسف، حيث التزمته الملائكة، وعلم عندها بأنَّه إن أراد أن يرتكب تلك المعصية، فسوف يسقط ولن يتمكّن من الوصول إلى ما كان يجب أن يصل إليه. لذا أصرّ على عدم الاستجابة لها، مهما كانت المشاكل التي ستسببها له. فقال لها: لن أفعل ذلك وإن قطّعتِني قطعة قطعة؛ فحصل عندها ما حصل وشهد له الطفل وأمثال ذلك. أتلاحظون؟!
وهذا هو الموضوع الذي تكلّم عنه أمير المؤمنين في المناجاة الشعبانيّة؛ فهو يقول: إلهي لا حول ولا قوة لي للانتقال من معصيتك إلى رضاك، إلاّ إن قمت أنت بإدخالي في ساحة قربك، فيحلّ بي ذلك الحال ويعمل على تبديل نفسي وإخراجها من جوّ المعصية الذي حلّ بها إلى جوٍّ آخر، حيث سأنطلق عندها. فما هو ذلك الحال؟ إنَّه محبّتك. فبناءً على هذا، ألقِ يا ربِّ محبتك في قلبي دائماً لكي لا تحصل لي الرغبة بارتكاب أي معصية، أو العمل بما لا يرضيك، ولكي لا أتّبع أطماع نفسي الأمّارة بالسوء، فالنفس الأمّارة تدعو الإنسان دائماً للقيام بهذا العمل أو ذاك.
فإن كان بإمكان أحدهم الاستمرار بحياته اليومية بمستوىً معينٍ من المعيشة، ترى نفسه تدعوه للصعود إلى ما هو أعلى، وإن وصل إلى ذلك الحدّ، فستطلب منه ما هو أعلى وهكذا، وبدون التفكير بعاقبة ما يقوم به والتبعات التي من الممكن أن تترتّب عليه؛ فتبدأ تلك الأفكار بالدوران في ذهن الإنسان. فمن الذي جعل تلك الأفكار تدور في ذهنه؟ أهم الملائكة أم الشياطين والأبالسة؟ [بل الشياطين والأبالسة] فهم الذين يقومون بتزيِين الدنيا للفرد، ويدعونه لطلب المزيد، ولتوسيع [الدار أو مشروع العمل] والقيام بكذا وكذا؛ فما هي الإمكانيات المتوفرة لديك للقيام بهذا؟ إنَّه يقوم بذلك بناءً على هذا الأمل أو ذاك؛ ثم يكتشف في نهاية المطاف عدم إمكانية تحقق تلك الآمال.
وهذا الأمر يدخل تحت نفس ذلك الإطار؛ فليس المقصود من الذنب هو نفس ارتكاب المعصية، بل هو ذلك العمل الذي يُبعد الإنسان عن الله، وذلك العمل الذي يزيد من مشاغله ويقيِّد يديه ورجليه. نعم هو كلّ ما يشغل فكر الإنسان ويسلبُ منه راحة البال، إنَّه العمل الذي يعوق الإنسان من تحصيل الهدوء، ويمنعه من العبادة والتفكير في عاقبة أمره، ويحول دون حصول التجرّد له، بل يشغله بالدنيا بدلاً عن ذلك، ويمكن تجميع كافة تلك الأمور تحت إطار واحد؛ وهو الابتعاد عن الله.
فبناءً على هذا، علينا أن نطلب من الله على الدوام أن يرشدنا إلى الصواب بفضله، فعندما نتعرّض لمثل تلك الأمور، فقم بتنبيهنا يا ربِّ لكي لا نُخدع، فهذا هو معنى الفضل! فترى أحدهم يسعى للحصول على قرض من هذا المكان، وقرض آخر من ذاك المكان؛ لكي يقوم بكذا وكذا عمل، فتولَّ يا ربِّ أمرنا في مثل هذه الظروف لتقولَ لنا: ما هذا الذي تفعله؟ دع عنك هذا، وأرح نفسك وعش في هذه الدنيا مرتاحاً، وضع رأسك على الوسادة وأنت مرتاح البال، وعندما تريد أن تنام ليلاً، فنم وبالك فارغ من الأفكار والقلق والاضطراب، فمصلحتك في هذا، لا في أن تنام وبالك مشغول بألف حالة من التشويش وتزاحم الخواطر، وتكون قد عرّضت نفسك لألف لعنة من قبل الآخرين. تقول: إن كنتُ على وشك التعرّض لشيء كهذا يا ربّ، فأنقذني بإلقاء محبتك في قلبي وفكري، ونجني من الوقوع في تلك الدوامة وذلك المستنقع.
فإن حلّت محبتّك في قلبي، فستراني أقول: وما الذي كنت أنوي القيام به؟! وهل تستحق تلك الأمور الدنيوية بأن أقوم بالاقتراض من هذا وذاك والتورّط بهذه الأعمال؟ ما الذي حصل؟ فلماذا لم أكن أستطيع التفكير بمثل هذا الأسلوب قبل هذه اللحظة؟ لقد كان قلبي يميل باتجاه هذا الأمر ويستحسنه في ذلك الوقت، وكنت أقول: لأقوم بهذا العمل، فسأقوم بتهيئة رأس مال المشروع بهذا الأسلوب، وسأخطط للحصول على الربح الكثير.
أمّا عندما تدخل محبّة الله قلب أحدهم، فتراه يضحك ويقول دعنا من هذا!! وإن عُرض عليه مبلغ من المال، فسيقول: أعطه لغيري؛ وإن قيل له: سنضع تحت تصرّفك كذا إمكانيات، فسيقول: بل امنحها لشخص آخر. وإن عُرض عليه منصب ومقام معيّن ومكتب وكرسي، فسيقول: دع ذلك الكرسي لغيري لكي يجلس عليه، فليس لي طاقة لتحمّل هذه المشاكل.
لِمَ يحصل ذلك؟ لأنَّ حبّ الله قد دخل في هذا القلب؛ فإن حلّ ذلك الحبّ في القلب، فلا يمكن أن ينحرف هذا القلب أبداً، بل سيعمل على تقويم تفكيره، ويجعله يفكّر بشكل عقلائي ومنطقي، وسيأخذ بنظر الاعتبار كلّ ما يتعلق براحة باله، وما لا يسبب له المشاكل، وما لا يجلب له تشويش الخاطر، وسوف يزن الأمور جيداً؛ فإن رأى عدم وجود ما يسبب له الإعاقة، فسيقبل به عندئذٍ، وإلاّ فلا. هذا فيما يتعلّق بهذا الأمر، أمّا فيما يخصّ الذنوب العاديّة، فلها تبعاتها الخاصة بها.
لذا، فعندما يقول الإمام السجّاد: إلهيّ هبني بفضلك، فمعنى ذلك: ليشملني فضلك ورعايتك في جميع الأمور يا ربِّ؛ سواءٌ منها ما يتعلّق بالذنوب الظاهرية، كأن يحصل لي ميل نحو ارتكاب الذنوب، فأطلب منك عندئذٍ أن يشملني فضلك بإلقاء محبتك في قلبي، فتصرفني عن تلك الذنوب، أو ما يتعلّق منها بانشداد قلبي نحو الأمور الدنيوية ـ فعلى الرغم من كون ذلك لا يعتبر ذنباً ظاهرياً، غير أنَّه يعتبر بحدّ ذاته من أسوء الذنوب ـ والتي لا تكون في صالحي؛ فقبول المنصب والكرسي وعضويّة مجلس النواب لا يصبّ في مصلحتي، فعندما يحلّ حبّك قلبي، فسوف أرفض جميع تلك المناصب.
أمّا مع عدم وجود ذلك الحبّ، فسوف أقبل جميع تلك المناصب، بل وسأطلب المزيد؛ لماذا؟ لأنَّ حبّ الله لم يحلّ في ذلك القلب. أرأيتم كيف أن البعض يحتّل ألف منصب، وهو لا يستطيع أداء حقّ أيّ منها. نحن لا نعلم بالطبع، فلعلّ الله قد منحهم مثل تلك السعة؛ فعقولنا لا تستطيع استيعاب هذا الأمر، فلعلّ أحدهم يمتلك من السعة بحيث لا يتمكن من تحمّل ألف مسؤولية في وقت واحد فحسب، بل لو كُلِّف بتحمّل جميع المسؤوليات على مستوى الكرة الأرضية، لقال: هل من مزيد.
فإن أردنا الرجوع إلى طريقك في جميع ما يعترضنا من أمور يا ربِّ، فذلك يتطلّب شمولنا بفضلك؛ فما دمنا لا نمتلك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، وها نحن قد فتحنا لك ملفنا وكشفنا حالنا بأنَّنا لا شيء، فنحن ما دون الصفر، بل نحن في درجة السالب ما لا نهاية؛ فما دام الأمر كذلك، فها نحن نُقدّم إليك ملفّنا، لننظر ما الذي ستفعله بنا؟ فأنت الربّ إذاً.
يَرُدّ الإمام السجّاد من الجانب الآخر هنا، ألا وهو تحريك غيرة الله، فيقول: لو قابل الإنسان موجوداً ضعيفاً كالنملة مثلاً، فلن يدوس عليها برجله؛ ولو قابل مخلوقاً ضعيفاً، لمدّ إليه يد العون، فهكذا هو حالنا يا ربِّ؛ فما دمنا نحن على هذا الحال من الضعف، فمن البعيد من مقام ربوبيتك ألاّ ترحمنا. فالإمام يتكلّم مع الله بهكذا لغة: أنت ربٌّ ونحن عبيد، فنحن نمتلك هذا المقدار من الحقّ لنطلب منك أن ترحمنا وتعطف علينا وتتلطّف بنا. فالإمام السجّاد عليه السلام يتكلّم مع الله بلغة عبدٍ يقف أمام الله بخضوع وتسليم، فهو ينفي عن نفسه جميع آثاره الوجودية، ويوكل جميع قدرته وإرادته إلى مولاه، فهو يقول: فما دام الأمر كذلك يا ربّ، فأين هي غيرتك، وأين هي رحمتك وأين صارت ربوبيّتك؟ فالمفروض أن تعفو عنَّا هنا وتشملنا برحمتك ولطفك.
نسأل الله أن يشملنا بلطفه، وكما عرض الإمام السجاد من خلال هذه الفقرات من الدعاء والتي تعكس حالنا بطريق أولى، فما دام الإمام يناجي الله بهذا الأسلوب، فكيف بنا نحن. فلمّا كان هذا هو الحال الذي نحن عليه، فتعامل معنا يا ربِّ، بمثل ما طلب منك أولياؤك.
اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد