المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1432
التوضيح
تحدّث سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني قدس سره في هذه المحاضرة عن حقيقة الشيء ، فبيّن المراد من أنّ حقيقة الشيء بصورته لا بمادّته، وبيّن أنّ أولياء الله يرون هذه الحقائق ولا يكتفون بالظاهر كسائر الناس، ومن هنا عرض بعض النماذج التي تميّز بين حقيقة الشيء وبين ظاهره ، و تحدّث عن حقيقة وجه الإنسان بين ما يبرز منه من الظاهر وما ينطوي علي من الخفايا التي لا يراها إلاّ الخبير،ثمّ تحدّث سماحته عن حقيقة الكلام المنمّق متى يكون منشؤه الأدب ومتى يكون منشأه الاحتيال والخداع، والمائز بينهما، ثم بيّن أنّ هناك فرقا بين الخداع والإخلاص، فاعترض على الأشخاص الذين تتغيّر مواقفهم تغيّراً تاماً من اليمين إلى اليسار بسبب تغيّر مصالحهم الشخصيّة، ووضح أنّ ذلك يكشف عن خداعهم للناس منذ البداية، ثمّ تعرّض لمسألة مهمّة جداً تحاكي الواقع الاجتماعي المرير في أيّامنا المعاصرة فطرح حقيقة العلاقة بين المرأة والرجل غير المحرم وبيّن حدودها، وتعرّض للممارسات الخاطئة التي تحصل في هذه الأيام وانتقدها أشدّ انتقاد، فعرّج في لـ حقيقة الاختلاط وأثرها الخطير على العبادات وفي تسافل الإنسان، وفي آخر البحث تحدّث سماحته عن حقيقة الدين وتكاليف الشريعة فبيّن أن حقيقة الدين والتكاليف هي الولاية وأنّها المحور الذي يدور حوله كلّ الدين، ثمّ تعرّض إلى حقيقة كلام وليّ الله الفاني في ذات الله والذي حاز على مقام البقاء بعد الفناء فبيّن أنّ قوله هو عين قول الإمام المعصوم عليه السلام وبيّن العلّة في ذلك، وتعرّض للفرق بين وليّ الله والإمام المعصوم عليه السلام، وفي الختام بيّن أنّ أولياء الله فينظرون إلى حقائق الأمور بعكس الناس فهم ينظرون إلى الظاهر وحسب
هو العليم
الولاية هي محور الدين و حقيقة الشريعة
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٢ هـ ق – المحاضرة السادسة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
"وَقَدْ رَجَوْتُ أَنْ لاَ تُخَيّبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتِي، فَحَقِّقْ رَجَائِي وَاسْمَعْ دُعَائِي، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ"
حقيقة الشيء بصورته لا بمادته
ذكرنا في الليلة الماضية للإخوة والرفقاء أنّ الأمر الواقعيّ والحقيقيّ هو ذلك الجانب الملكوتي والنفسيّ من الحقائق والأعيان الخارجيّة، وبدون ذلك الجانب الحقيقي فلن تترتّب أيّة نتيجة من أفعالنا وتصرّفاتنا وأقوالنا، وكلّما ازداد ذلك الجانب قوّة، فإنّ نصيبنا من الواقعيّة سيكون أكبر بنفس ذلك المقدار، وسيكون العمل أشدّ قبولاً عند الله تعالى، وهذا الجانب يمثّل الجنبة الربوبّية والجنبة الربطيّة من أفعالنا، وبدون هذه الحيثيّة فإنّ أفعالنا وأقوالنا ستصبح مجرّد تظاهر أجوف ليس إلاّ، ولن تنتج عنها أيّة فائدة، وبعبارة أخرى، ومن وجهة نظرٍ فنّية يمكن أن نقول: إنّ حقيقة الشيء بصورته لا بمادته وهيأته، فحقائق الأشياء وواقعيّتها تتقوّم بفصولها لا بأجناسها، وبصورتها لا بمادّتها.
و "صورة كلّ شيء" لا يُقصد منها ذلك المعنى الظاهري للصورة الذي نجده متداولاً بيننا، وهو أنّ صورة كلّ شيء هي وجهه الظاهريّ، فنقول مثلاً: أحضر معك صورة لك، فتذهب إلى المصوّر الفوتوغرافي ليلتقط لك صورة... كلاّ ليس هذا هو المقصود من الصورة هنا، بل هذه ليست إلاّ صورةً ظاهريّة، وهي في حقيقتها ليست إلاّ رسماً، والرسم يختلف عن الصورة بالمعنى الحقيقي والفلسفي والعرفانيّ، فالرسم عبارة عن مجموعة من الخطوط والنقاط والألوان التي يرسمها الرسّام (و أحياناً لا يكون للصورة المرسومة وجود خارجيّ بل محض خيال)، أو تطبعها آلات الطباعة والتصوير، فتتجسّم هذه الصورة بواسطة انعكاس النور على الورقة، وتظهر للعيان بسبب اختلاف قدرة كل نقطة منها على امتصاص النور وعكسه، فتوجد بسبب ذلك الألوان المختلفة للرسمة، ونحن في محاوراتنا اليوميّة نسمّي هذه الألوان "صورة" !
فالنور عندما يسقط على الحاجب، فإنّ الحاجب يمتصّ بسبب سواده ذلك النور بشكل أكبر من النقاط الأخرى، ولا يسمح إلاّ لمقدارٍ قليلٍ من النور أن ينعكس منه، ولهذا السبب تجد أنّ لون الحاجب في الصورة أسودُ غامقٌ، ولكنّ نفس هذا النور عندما يسقط على الخدّ والجبين فإنّه يمتصّ مقداراً أقلّ من النور ويعكس مقداراً أكبر منه، ولهذا السبب تجده يظهر بلون فاتح، ومن هنا فبواسطة الاختلاف في امتصاص النور وانعكاسه بين النقاط المختلفة من الوجه، فإنّ هذه الألوان المختلفة ترتسم على صفحة الفيلم الحسّاس المستخدم في التقاط الصور، ومن مجموع هذه الألوان المختلفة التي تكوّن الصورة يصير بإمكاننا أن نتعرّف على صورة هذا الشخص.
وجه الإنسان يكشف خبايا باطنه
ولكن ينبغي أن نلتفت كذلك إلى هذه المسألة، وهي أنّ خلف كلّ وجه من الوجوه تختبئ حقيقة خفيّة، وليست المسألة في الواقع مسألة مجرّد صورة فوتوغرافيّة، بل يمكن للإنسان من خلال هذه الصورة أن يكتشف سيرة صاحب الصورة، ويستطيع أن يتعرّف على شاكلة الأفراد، ويستطيع الإنسان من خلال النظر إلى وجه الشخص أن يعرف تلك النكات الخفيّة في وجوده... كلّ ذلك بحسب البصيرة التي يمتلكها الشخص الناظر والمشاهد؛ فمن الممكن أن نقدّم لشخص عاديّ صورةً لأحد الأفراد، فلا يرى فيها شيئاً مميّزاً، ولا يدرك منها إلاّ صورة الوجه الظاهريّ، وأمّا لو عُرضت هذه الصورة نفسها على فرد خبير فإنّه يستخرج منها ألف معنىً، ولهذا فإنّ هذه المسألة تُخفي في طيّاتها عالماً كبيراً يُبحث فيه عن كيفية استخراج الخصوصيّات الباطنيّة من صورة وجه الإنسان.
فالإنسان ليس عنده وجهان متطابقان، فوجهكم اليوم يختلف عن وجهكم بالأمس، يعني لو حفظتم صورة وجهكم بالأمس على ورقة، فإنّها ستختلف عن صورة وجهكم في هذا اليوم.. إنّ هاتين الصورتين بينهما اختلاف وتفاوت في الواقع، رغم أنّكم قد لا تلاحظون أيّ فرق بينهما، بل إنّ صورة وجهكم تختلف من دقيقة إلى أخرى، فكلّ دقيقة لها صورة خاصّة، وهي تحكي عن مجموعة من المعاني التي مرّت في ضميركم ونفسكم، فإذا التقط أحدٌ لكم صورة عندما تكون عندكم نيّة سيّئة، فإنّ الاطّلاع على هذه النيّة السيّئة من خلال تلك الصورة أمرٌ ممكن، والحال أنّكم لو عرضتم نفس هذه الصورة على الأفراد العاديّين، فلن يتمكّنوا من إدراك ذلك، لأنّهم غير مطّلعين على هذه الأمور ولا خبرة لهم فيها.
و من ناحية أخرى فعندما تتملّككم نيّة حسنة، فإنّ ذلك سيظهر على وجهكم بشكل واضح، رغم أنّ الآخرين قد لا يشاهدون أيّ فرق بين وجهكم في الدقيقة الأولى والدقيقة الثانية! إنّ هذه حقائق موجودة، ولا يمكن لنا أن ننكرها، ولكن غاية الأمر أنّ الوصول إلى هذه العلوم له طريقٌ خاصٌّ به، وليس الأمر كما يتصوّر الإنسان بأنّه لا يوجد أمر وراء ما يشاهده.. فمثلاً الأفراد الذين عندهم حبّ الزعامة والرئاسة، فإنّهم مهما صنعوا بوجوههم فإنّ ذلك سيظلّ ظاهراً فيها، ومهما حاولوا إخفاء ذلك، فإنّه سيظلّ واضحاً لأنّ ذلك ليس بيدهم، وليس خاضعاً لاختيارهم، والأفراد الذين يتملّكهم حبّ المال والجاه، لا يستطيعون بأيّة طريقة أن يغيّروا شكل وجههم بحيث يمنعون ظهور تلك الحقائق الخفيّة من وجوههم، والأفراد الكذّابون كذلك، شاؤوا أم أبوا فإنّ شكل عيونهم يختلف عن شكل عيون الإنسان الصادق، وحتّى لو كانت عينهم كعيون المها في الجمال، إلاّ أنّ حالة الكذب ستظلّ ظاهرة من خلالها، والفرد الخبير يستطيع أن يدرك هذه المسألة، وهكذا الأمر في باقي الموارد...
آثار جمال تو در ديده ى هر مؤمن | *** | آيات جلال تو در سينه ى هر كافر |
(يقول: إنّ آثار جمالك باديةٌ في عين كلّ مؤمن *** وآيات جلالك ظاهرة في صدر كلّ كافر)
حقيقة الكلام المنمّق بين الأدب والاحتيال
وشئنا أم أبينا، فإنّ الأفراد المطّلعين والخبراء يستطيعون أن يفهموا من خلال طريقة كلامنا مقدار صفاء نفوسنا أو كدورتها، ويكفي أن تتكلّم لمدّة دقيقة واحدة بل إنّ نصف دقيقة تكفي لكي يتمكّن الشخص الخبير من تشخيص حالتنا، وذلك يتحقّق حتّى بقراءة سورة الفاتحة أو سورة التوحيد فلا فرق في ذلك، وليس من الضروري أن نتحدّث عن أمور أخرى ليفهم الأمر، وذلك لأنّ الصوت ينشأ من مكان آخر، وهذا معنى قولنا: إنّ حقيقة الشيء بصورته لا بمادّته.
يعني عندما يخرج الكلام من فم شخصٍ ما، فإنّ صورته الظاهريّة والمتعارفة هي التي تصيب أذننا، وهي التي تُحفظ في شريط التسجيل، وهي التي تمكّننا من التفاهم والتواصل.. هذه هي الصورة الظاهريّة المتعارفة للكلام، وهي نفسها الصورة العامّية الظاهريّة، وأمّا الواقعيّة، فهو موجودة في ذلك الأمر المختفي خلف المسألة، ففي كثير من الأحيان نرى أنّ بعض الأفراد يتحدّثون بشكل جيّد جدّاً، ولكن كلامهم: كلمة حقٍّ يُراد بها الباطل! فالكلام كلامٌ حقّ إلاّ أنّ النيّة نيّةٌ باطلةٌ، فذاك يشكّل صورة الشيء وحقيقة الشيء، فهذه هي حقيقة المطلب.
ألم يحصل معكم أن يأتي إليكم شخص ويحاول أن يخدعكم بكلامه بطريقة أو بأخرى، فتجيبونه قائلين: اذهب يا عزيزي، واحتفظ بهذا الكلام لنفسك، إذ لا يوجد من يشتري هذا الكلام هنا؟! تقولون له: أيّها المخادع، اذهب ودعنا، فأيّ أمرٍ تحاول إثباته بهذا الكلام؟! مع أنّ كلامه جيّد ومقبول في الظاهر، ولكنّ المسألة تكمن في ما هو مخفيّ خلف ذلك الكلام وفي الهدف الواقعي الذي يريد الوصول إليه حقيقةً، وذلك أمرٌ لا يظهره هذا المخادع، بل يبقيه مخفيّاً خلف الستار، ولكنّ الإنسان الفطن الذكيّ يفهم المسألة من أوّل دقيقتين، فلا يعتني بكلامه ويقول له: اغرب عنّي، ولا تتعب نفسك بغير فائدة، ولو تكلّمت ساعتين فإنّ ذلك لن يؤثّر عليّ، فلا تضيّع وقتك ووقتنا، فقم ودعنا نؤدّي أعمالنا ولا تشغلنا:
برو اين دام بر مرغ ديگر نه | *** | كه عنقا را بلند است آشيانه |
(يقول: اذهب وانصب شِباكك لطائر آخر *** لأنّ عشّ العنقاء رفيعٌ صعب المنال)
هل تريد أن أقوم بإظهار الحقيقة التي تحاول إخفاءها؟ هل تحبّ ذلك؟! فما بالك تريق ماء وجه الآخرين إذاً؟! وبالتالي فالأفضل أن تلزم جانب المراعاة في كلامك بشكل أكبر!
إنّ هذه المسائل طالما كانت موجودة، ولقد رأينا الكثير من هذه المسائل عندما كنّا في خدمة الأعاظم، فأولئك الأفراد كانوا موجودين، وكانوا يفعلون هذه الأمور، ونحن أيضاً كنّا موجودين نشاهد الأمور، وكنّا ملتفتين لما يحصل ونفهم ما يجري.
إنّ ذلك الأمر المخفيّ خلف الستار هو ما يمثّل "حقيقة الشيء" وواقعيته، ولذا فإنّ تلك الجهة والحيثيّة هي التي ترتبط بالجهة الربوبيّة، سواء كانت هذه الجهة الواقعيّة نورانيّةً أم ظلمانيّة، ولهذا فإنّ الله ينظر إلى قلب الإنسان، والآيات والروايات التي تؤيّد هذا المطلب كثيرة، فمنها قوله تعالى: {إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}۱، فالله عليم ومطّلع على حقيقة القلوب وتلك والواقعيّة الموجودة فيها، فالله عنده اطّلاع واتّحاد معها، و بالتالي قولوا ما شئتم وصوّروا الأمر كيفما أردتم واقلبوا الحقائق كيفما يحلوا لكم...
إنّني أتضايق كثيراً من هؤلاء الأفراد الذين يهتّمون كثيراً بالألفاظ، ولقد كنت أتضايق منهم منذ البداية، فبعضهم لا يهتّمون إلاّ بتنميق كلماتهم، والإتيان بالمصطلحات، وبجمع الكلمات المؤدّبة وترتيبها: "عفواً... ولو سمحت... ولن نضيّع أوقاتكم الثمينة...(و الواقع أنّه يضيّع الوقت أربعاً وعشرين ساعة)"، فيتعلّم مجموعة من هذه الكلمات والعبارات، ويتعامل مع الناس من خلال الألفاظ فقط.. إنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يعجبونني أبداً.
طبعاً مواجهة الإنسان للناس بالكلام الحسن والمقبول أمرٌ جيّد جدّاً، فمن الذي قال أنّ حسن الخلق أمر سيّء؟! والله تعالى يقول عن نبيّه {وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ}٢، ولكن هناك فرق كبير بين حسن الخلق وبين المخادعة والاحتيال! فالقبيح هو أن يأتي الإنسان ويخفّض صوته وينمّق كلامه ويستخدم أسلوباً معيّناً مع طبقة خاصّة من الناس ليستميل قلوبهم، مع أنّ الموجود في قلبه أمرٌ آخر.. فهو يريد أن يخدعهم ويسيطر عليهم.. ويريدهم أن يقتنعوا به ويتّبعوه.. إنّ هذا مكر وخداع يا عزيزي! إنّ هذا ليس مجرّد تغييرٍ في العبارة وتلطيفٍ للكلام، بل هو احتيالٌ ومخادعة، وهذا الأمر قد ينطلي على الشخص المقابل لمدّة يومين، أو أسبوع أو أسبوعين، ولكن بعد ذلك سيفهم ذاك الشخص الآخر أنّه قد خُدع: إذا كانت أخلاقك حسنةً فعلاً، فلماذا صارت سيّئة بعد أسبوعين أو بعد شهر؟! هل السرّ في ذلك أنّك قد حصلت على مرادك، ونلت مطلوبك؟!
هكذا يكون المكر والخداع... وأنا لا يعجبني أمثال هؤلاء، ولم يكونوا يعجبونني منذ البداية أصلاً، فهذا الشخص يتحدّث معي فعلاً، ولكنّ اهتمامه منصبّ على الألفاظ، فهو لا يريد إلاّ تحسين ألفاظه.. يا عزيزي لا تتعب نفسك كثيراً، وتكلّم بشكل تلقائيّ، وأظهر حقيقة ما أنت عليه، فالإنسان سيفهم الأمر في النهاية، وإن لم نفهم اليوم فسنفهم غداً أو بعد شهر من الزمان.. وسنعلم أنّك مخادع، ولذا كن مستقيماً منذ البداية، وأظهر لنا حقيقتك وما أنت عليه واقعاً، بحيث أنّه على الأقلّ إذا ظهرت حقيقتك بعد مدّة من الزمان، [فلا يكون ذلك سبباً لخجلك وافتضاحك]...
لقد اتّضح للإخوان كيف أنّ "حقيقة الشيء بصورته لا بمادّته".. وليس بالتحايل والتظاهر، ولا بالكلمات المعسولة والألفاظ المنمّقة والتلاعب بالألفاظ، بل "حقيقة الشيء" هي ذلك الأمر المخبوء في الباطن، ولهذا حتّى لا تتعرّض للمهانة لاحقاً، فمنذ البداية تعال وتعامل على طبيعتك، وبدلاً من تلك المجاملات قل بصراحة: مرحباً يا سيّد.. أنا متعب ولست قادراً على استقبالكم، فتفضّلوا واذهبوا! (طبعاً ليس بهذا الشكل الجافّ [يضحك سماحة السيّد]).
تجد بعضهم يسحب معه شخصاً إلى باب المنزل بلسانه المعسول، ومجاملاته الفارغة، وعندما يصل إلى باب المنزل يقول له: أنا آسف فقد ضيّعت وقتك، وكنت أتمنّى أن تتفضّل معنا ولكن هناك بعض الموانع و... ، يا عزيزي! لماذا إذاً سحبت معك هذا الرجل المسكين إلى هنا منذ البداية، وعندما وصل إلى باب البيت تردّه بهذا الشكل؟! قل له منذ البداية: إن شاء الله نراكم في فرصة أخرى وفي وقت آخر...
إنّ هذا ليس جيّداً، فهذا الأسلوب قبيحٌ وسيّءٌ جدّاً، وذلك بأن يأتي الإنسان ويتلاعب من خلال "لسانه" مع الناس، فيدير الناس ويحرّكهم بلسانه، فهذا احتيال وخداع، ثمّ بعد ذلك يسمّون ذلك "لباقة" و"طلاقة لسان" ... إنّ ذلك الفعل غير مناسبٍ أبداً، وهو فعل وقحٌ وسيّءٌ جدّاً، وليس من اللباقة في شيء؛ فالإنسان ينبغي له أن يتكلّم بشكلٍ لطيفٍ، ولا ينبغي أن يكون كلامه منافياً للأدب والتربيّة، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي أن يتكلّم بشكل متملّق أيضاً، فلا داعي للتملّق يا عزيزي!! ولا منافاة بين قول الحقّ وبين أن يكون الكلام موزوناً مؤدّباً، فالإنسان يستطيع أن يبيّن المطلب الحقّ، وفي نفس الوقت يتحدّث بشكل لطيف ومؤدّب، ولكن لا ينبغي أن يصل الأمر إلى أن يقول كلاماً آخر، ويبيّن مطلباً آخر، فالأوضاع والأحوال لا تبقى على نسق واحد، ففي كثير من الأحيان نتفاجأ أنّ الأمور قد سارت خلافاً لما يهوى الإنسان، وحينئذٍ فأولئك المتملّقون والمتلاعبون بالألفاظ والمخادعون لن يستطيعوا أن يخفوا ما في قلوبهم، لأنّ الأمور قد سارت خلاف مرادهم، فتجدهم حينئذٍ يظهرون ما في قلوبهم دون محاباة ولا مجاملة... والله تعالى هو الذي يقدّر هذه الأمور و يهيّؤها.
أمّا ذلك الشخص [الواضح والمستقيم]، فحتّى لو جرت الأمور خلافاً لما يهوى، فإنّ عباراته قد تختلف قليلاً، ولكنّها لا تنقلب فجأة مائة وثمانين درجةً، فاليوم يقول: "إننّا نجلّكم، ونخجل من الكلام في محضركم"، ثمّ يأتي في الغد، فيقول: "لقد أخطأتَ خطأً كبيراً بهذا الفعل"... يا للعجب! ماذا حصل؟! ألستَ أنت الذي كنت تقول بالأمس: "إننّا نجلّكم، ونخجل من الكلام في محضركم" ؟! يا عزيزي لا تقل:"إننا نخجل من الكلام في محضركم "، وفي نفس الوقت لا تقل: "لقد أخطأتَ وانحرفتَ".. لا تقل أيّاً منهما، فالمؤمن حرٌّ، والمؤمن ليس محتالاً ولا مخادعاً، والمؤمن يقابل الأفراد بالأدب واللطف ... والمؤمن "بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ وَ حُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ"۱.. المؤمن يضحك مع الناس ويتبسّم لهم، ويراعي حال الأفراد، وهو لا يراعيهم من أجل تحقيق مصالحه هو، وبحجّة المراعاة يفعل ذلك، فهذا خداع واحتيال، بل المؤمن يراعي كلّ الأفراد والأشخاص، ولكنّه لا يحتال، ولا يلقي الكلام المعسول، ولا يحاول جذب الأفراد من خلال العبارات المنمّقة البرّاقة، بحيث يقولون: إنّ هذا شخصٌ جيّدٌ.. ثمّ بعد يومين تظهر أخلاقه الحقيقيّة، فيتفاجأ الطرف الآخر ويُصدم بما يشاهده، فيا للعجب!! ماذا حصل؟ فكيف يمكن الجمع بين كلام الأمس وما حصل اليوم؟!
المؤمن لا يكون كذلك، بل أسلوب المؤمن وتعامله موزون ومتعادل، وهذا هو ما رأيناه من الأولياء الإلهيّين، ولو رأى شخص آخر غير ذلك، فأنا لا اطّلاع لي على ذلك! وأمّا ما رآه الحقير منهم هو أنّهم كان لهم أسلوبٌ ومنهجٌ واحدٌ، وحركةٌ واحدةٌ، ونسقٌ واحدٌ، وسياقٌ واحدٌ... ولكن طبعاً كان تعاملهم مع كلّ شخص بأسلوب خاصّ يناسبه، وكانوا يعاملون بعض الأفراد بحزم أيضاً، ويقولون لهم: لقد أخطأت وتجاوزت... وما شابه ذلك، فلم يكونوا يمزحون ويتساهلون، ولكن مع ذلك فإنّ حالهم كان واحداً؛ فلم يكونوا من أهل التملّق والكلام المعسول، ولم يكونوا من أهل الاحتيال والمخادعة، لقد كانوا واضحين بحيث أن الناس كانوا يتعرّفون عليهم بمجرّد أن يلاقوهم، فكانوا يعرفون من أي نوع من الناس هم، فهؤلاء هم .. فهذا هو ظاهرهم وهذا هو باطنهم.. هذا هو..
إنّ هذا الأسلوب هو الذي ينبغي أن يتّبعه الإنسان، وإلاّ فإنّه سيسقط من الناحية السلوكية، فتلك الطريقة من الكلام [المخادع] سقوطٌ نفسانيٌّ رغم أنّه قد يكون سبباً لارتياح بعض الأفراد ابتداءً، فهؤلاء مثَلهم كمثل هؤلاء الأفراد الذين ... (فلنضرب مثالاً من أنفسنا وحياتنا) ... إنّ مثلهم كمثل هؤلاء الأفراد الذين يأتون، ويصعدون على المنابر ويعِظون الناس، فيذهبون من مجلس فاتحة إلى آخر، ولا شُغل لهم إلاّ المدح والتمجيد والثناء، واستعطاف قلوب أصحاب العزاء أيّاً كانوا ومهما كانت مواصفاتهم وأخلاقهم الواقعيّة، فهو يأتي ويمدحهم على كلّ حال، ويرفعهم حتّى يصنع منهم صنماً كبيراً غير قابل للكسر.. حتّى يقولوا: ها.. لقد أجاد في خطبته وكلمته!!
و لا يقتصر هذا الأمر على مجالس الفاتحة بالخصوص، بل إنّه موجود حتّى في المجالس الأخرى، حيث نجد الخطيب يكثر من الدعاء والثناء المبالغ فيه: حضرة فلان، وحضرة فلان، فيقولون: لقد أحسن فعلاً بأداء وظيفته.. إنّه خطيب جيّد، وقد أجاد في إلقاء المحاضرة!
ماذا؟! "أجاد في إلقاء المحاضرة"؟! أين الإمام الباقر في هذا المجلس؟! وأين الإمام الصادق وأين الإمام الرضا عليهم السلام؟! أين ذهب هؤلاء؟ تقولون: أجاد في إلقاء الخطبة؟ فما معنى ذلك؟ هل يعني أنّه أجاد في مديح صاحب المجلس، وذكر اسمه عشر مرّات على المنبر: حضرة السيّد فلان.. حضرة السيّد فلان؟! أم أنّه أجاد في الدعاء لرفعته وعزّته وعلوّ شأنه؟!
فما هي هذه المجالس؟ إنّها مصداق بارزٌ لتلك المسألة التي بيّناها، والأعجب من ذلك أنّ هذا الخطيب عندما ينتهي من هذا المجلس، فإنّه يقوم ويذهب إلى مجلس آخر صاحبه من أعداء صاحب هذا المجلس الأوّل ومخالفيه بشكل كامل، فيلقي نفس تلك الخطبة، ويكرّر نفس الكلام والمديح هناك أيضاً حذو القذّة بالقذّة.. ينسخ الكلام ويكرّره بعينه في المجلس الثاني مع أنّ صاحبي المجلسين متخالفان بل متعاديان، ولكن لا إشكال في ذلك! هذان الشخصان بينهما عداوة شديدة، ومع ذلك تجد هذا الخطيب يكرّر ذلك المديح والثناء والدعاء لرفعة الدرجة وعلوّ المقام في كلا المجلسين!! إنّ جميع ذلك كلام في كلام في كلام... وهذا الأمر في غاية القبح والسوء لدرجة أن الإنسان يرغب في التقيّؤ بسببه!! فهل انحدر مقام الإنسانيّة وصار حقيراً إلى هذه الدرجة حتّى صرنا نسمع أمثال ذلك؟!
ما هو حال أمثال هؤلاء؟ لقد صارت حياتهم بأكملها مصداقاً لـ "حقيقة الشيء بمادّته لا بصورته".. يعني بالعكس تماماً، فكلّ عمل يؤدّونه لا يعدو ذلك التظاهر، وجميع حياتهم مؤلّفة من العبارات والكلمات المنمّقة! فتجده يراجع كلمات الآخرين وخطبهم باحثاً عن عبارة لطيفة أو كلمة جذّابة (وهذا واقعاً موجود، فأنا أقول هذا الكلام من وحي الواقع الذي أعرفه وأراه)، فإذا وجد كلمة جميلة قالها فلان من الناس، فإنّه يأخذها ويسجّلها في دفتره، فاستعمال هذه الكلمة مناسب جدّاً لمثل هذه الموارد حتّى تستعطف قلب الطرف المقابل وتجذبه!!
تبّاً لك وترحاً! فقد جعلت كلّ حياتك وشعورك مبذولين من أجل انتخاب كلمة أو أخرى، واستعمال عبارة مكان أخرى! فهذا كلّ ما يشغلك.. بأنّه كيف ينبغي أن نتكلّم مع هذا الشخص، وكيف ينبغي أن نحرّك حواجبنا، وكيف ينبغي أن نشكّل وجهنا، وأمثال ذلك... إنّ ما أقوله موجود واقعاً يا عزيزي! ولا أدري ما الذي حصل الليلة حتّى انساق الحديث إلى هذا الموضوع، فربّما جاء بنفسه!
يُحكى عن أحد الخطباء والمتكلّمين الفرنسيّين المشهورين أنّه عندما كان يتمرّن على إلقاء خطبة أو كلمة فإنّه كان يقف أمام المرآة لمدّة من الزمان، فينظر إلى نفسه ويراقب حركاته، ويدرس طريقة إلقائه وكيفيّة تبسّمه وتوقيت ضحكته، وكيفيّة كلامه وما شابه ذلك... فكان يضع نفسه مكان المخاطبين، ويدرس ردّة فعلهم على أقواله وتصرّفاته، والعديد من الخطباء يفعل ذلك، فهم يشاهدون [فيلم] المحاضرة التي ألقوها لكي يتعرّفوا على نقاط قوتهم وضعفهم، وهذا أمرٌ جيّد، فمن الجيّد أن يتعرّف الإنسان على نقاط ضعفه، ولكنّ المشكلة تكمن في التلاعب، وفي هذه الطريقة من أداء الحركات والتمثيل الذي يقومون به... يا عزيزي، ما هي القضيّة؟ وما الدافع لذلك؟ ما الذي يجعل الإنسان يأتي ويحكّم هذه الأمور في علاقاته مع الأفراد ويجعلها مسيطرة على علاقاته وأحاديثه.
العلاقة بين المرأة والرجل غير المحرم وحدودها
في الزمان السابق، كنّا نشاهد أمثال هذه الأفعال والتصرّفات... طبعاً هذه الأمور مختصّة بذلك الزمان أمّا الآن فلم تعد موجودة!! لقد كنّا نشاهد هذه التصرّفات.. خصوصاً من بعض النساء السافرات اللواتي كنّ يحاولن أن يتحدّثن بطريقة خاصّة، وكان من الواضح أنّها تمثّل وتتصنّع... [و لكنّ الله سبحانه يقول:] {ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولى}۱، والآية التي قبلها: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِن اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}٢.. إذا تكلّمتِ مع رجل أجنبي.. إذا "اضطررتِ" للكلام مع رجل أجنبي، فلا تخفضي صوتكِ، ولا تستخدمي أطواراً خاصّة في الكلام، ولا تهزّي رأسك بدلع، ولا تحرّكي حواجبك إلى الأعلى والأسفل، بل تحدّثي بشكل طبيعيّ.
إذا أردت أن تأخذي طفلكِ إلى الطبيب مثلاً، فأخبريه بما يعاني منه بشكل واضح ومختصر، ولا داعي للمجاملات والملاطفات! فهل هذه المجاملات جزء من وصف حالة المريض؟! وهذا الأمر ينطبق على كلّ الموارد الأخرى؛ فالأمر كذلك في الدكّان، وعند بائع الخضار، وفي محلّ الأقمشة، وفي الإدارات الرسميّة... طبعاً هذه الأمور كانت موجودةً في السابق أمّا الآن فلم تعد موجودة أبداً !!!
{يا نِساءَ النَّبِيِّ...} .. إنّ هذه الآية موجّهة لي ولكم، لأنّها لو كانت متعلّقة بنساء النبيّ فقط، فلماذا نقرؤها الآن بعد ألف وأربعمائة سنة؟! وما علاقتها بي أنا؟! فنساء النبي قد مِتنَ جميعاً، ودُفنّ في البقيع أيضاً، وانتهى الأمر، فقوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ...} تعني يا نسائي أنا وأنتم... إنّها موجّهة لأولئك النساء اللاتي يقعن في ألف فضيحةٍ، ثمّ تأتي وتقول: يا سيّد، ماذا نفعل؟ يا سيّد، ماذا نفعل؟ ...
{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ...} أنتنّ لستنّ مثل باقي الأفراد.. فأنتنّ لستنّ كاليهود والنصارى، ولستنّ كالأفراد المنحلّين، فأنتنّ تُعتبرن أنفسكنّ من شيعة أمير المؤمنين وأتباعه... {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} .. لا تخفضن أصواتكنّ، ولا تجعلن صوتكنّ ناعماً ملحّناً جذّاباً، وعندما يرنّ التلفون في المنزل، فلا تتحدّثن بصوت ناعم ولا يكن في صوتكنّ غنج ودلال... {فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ} فالشيطان يقف مترصّداً، وهو يوسوس بشكل دائم ومستمرّ.
حسناً.. لنفرض أنّنا نضمن أنفسنا... (و قد أشار الحقير إلى هذه المسألة في وصيّة أمير المؤمنين۱ )... لنفرض أنّنا نضمن من أنفسنا أنّنا لن نقع في الغلط، ولن ننحرف عن جادّة الصواب والاستقامة؛ فأيّ ضمان عندنا فيما يخصّ المخاطب بأنّه هو أيضاً لن يتأثّر، فهل قلب المخاطب ونفس خاضعين لاختيارنا نحن، أم أنّه خاضع لاختياره هو؟! فهل تستطيعون أن تضمنوا ذلك أيضاً؟!
"كلاّ يا سيّد نحن لا نتأثّر بهذه المسائل أبداً، فنحن لسنا في هذا العالم، ولسنا في هذا الوادي، فنحن نتكلّم فقط، وهذا لا يؤثّر فينا أبداً..."
جيّد جدّاً... لنفرض أنّكنّ لستنّ في هذا الوادي (و الحال أنّ الواقع خلاف ذلك، بل إنّ وضعكنّ أسوأ ألف مرّة من الآخرين، وإن لم يظهر الخلل والانحراف اليوم، فسيظهر غداً)، ولكن لنفرض أنكنّ لستنّ كذلك فعلاً، وأنّ إيمانكنّ ثابت لا يتزلزل، وأنّكِ تراعين وتنتبهين، وكلّ هذه الأمور... سلّمنا بكلّ ذلك لكم، ولكن ماذا عن الجنس المخالف الذي تتكلّمين معه؟! هل تستطيعين أن تضمني ذلك الطرف الآخر بأنّه لن يتأثّر أيضاً، وأنّ الشيطان لن يأتي إليه ويوسوس له؟! كلاّ.. لا يمكن لكِ ذلك، ولو زعمتِ ذلك فذلك خطأ منكِ، لأنّ الأفراد ليسوا خاضعين لاختيارنا، فلا ذوق الناس، ولا تفكّرهم، ولا كيفيّة تخيّلهم وتوهّماتهم خاضعة لاختيارنا، فهل لكم سيطرة على ما يحصل له عندما يغمض عينيه لينام؟ وهل نضمن أن شيئاً لن يخطر في ذهنه؟!
من أجل هذه المسائل، أُمرنا بعدم الاختلاط بين هذين الجنسين، ففي مكان العمل لا داعي لأنْ يتحدّث الرجل والمرأة معاً، وأن يجلسوا في مقابل بعضهما أو أن يجعلوا طاولاتهم بجانب بعضها... فمن أجل أيّ شيء نفعل ذلك؟! وما الداعي له؟! وكذلك في الصفوف الدراسيّة: ما هو الداعي لجلوس الرجال بجانب النساء؟ فإذا كان الصفّ صفّاً للدرس والفهم، فما علاقة ذلك بالاختلاط؟! فالمعلّم يجب أن يأتي ويلقي الدرس أمام اللوح، والطالب ينبغي أن يسمع الدرس ثمّ يمضي في حال سبيله، وانتهى الأمر!
"لا.. بهذه الطريقة يفهم الطلاب بشكل أفضل! فحتماً يجب أن يكون هناك اختلاط حتّى يفهموا الدرس بشكل أفضل! "
و لكنّنا لم ندرك سرّ هذه الأفضليّة! فقد قضينا عمراً في الذهاب إلى الصفوف وفي الدراسة والبحث، ولم يكن هناك بجانبنا امرأة، ولم يكن الصفّ مختلطاً.. لم يكن شيء من ذلك موجوداً، فنحن قد درسنا دورة دراسية كاملة بهذا الشكل، [يتحدّث سماحة السيّد بشكل ساخر] فربما ينبغي أن نأخذ دورة أخرى مختلطة لنرى في أيّ الطريقتين نفهم بشكل أفضل!! فربّما نحن إلى الآن لم نفهم بشكل جيّد، وهؤلاء السادة يفهمون بشكل أفضل فينبغي أن نجرّب دورة أخرى لعلّنا نفهم بشكل أفضل!!
ما هي حقيقة كلّ تلك الأمور؟ إنّها جميعاً وسوسةٌ من الشيطان.. وسوسة شيطانٍ لا غير، وذلك لأنّه لو كانت المسألة متعلّقة بالدرس والفهم، فما علاقة الاختلاط بين النساء والرجال بذلك؟! فلتدرس النساء لوحدهنّ، والرجال لوحدهم، ثمّ ليذهب كل منهم في حال سبيله، فما هو الداعي الضروريّ الذي يحتّم أن يجلسوا إلى جانب بعضهم البعض؟! فيسمع كلّ منهم صوت الطرف الآخر: >يا أستاذ.. لم نفهم هذه النقطة، هل يمكن لك أن تعيدها؟ يا أستاذ.. هل يمكن أن تكتب هذا وتمسح ذاك؟< هل هذا يجعلهم يفهمون بشكل أفضل؟!
{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ}... فالله تعالى يقول: أنا أعرف منكم بمنْ خلقتُ وبكيفيّة تكوينهم، ولذا لا تخفضن أصواتكنّ، بل تحدّثن بإحكام وحزم، وأغلقن الطريق أمام نفوذ الشيطان، حتّى لا يتمكّن الشيطان من الدخول، ولا يستطيع أن يوجد التوهّم والتخيّل... {ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأولى}.. ولا تتبعن تلك الآداب الجاهليّة، ولا تُظهرن أنفسكنّ على ذلك النحو، فلا داعي لذلك أبداً.
ليس هناك ما يجعل المرأة تتحدّث مع الرجل الأجنبيّ بنفس الطريقة التي تتحدّث فيها مع زوجها، فمن أجل أيّ شيء تفعل ذلك؟ وعلى أيّ أساس؟ فما الذي يجعل المرأة تضحك عندما تتحدّث مع رجل أجنبيّ؟ أو تتبسّم أو تفعل أيّ فعلٍ يشدّ انتباهه إليها؟! إنّ جميع هذه الأمور من الآداب الجاهليّة، ومن حيل الشيطان والنفس الأمّارة من أجل تخريب النفوس، و القضاء على النورانيّة والروحانيّة، واستبدالها بالشهوة والبهيميّة.
إنّ هذا الأمر ينطبق كذلك على الرجل أيضاً، فعندما يتحدّث الرجل مع امرأة أجنبيّة فلا داعي لاستخدام عبارات [جذّابة]، فحينما تكون المرأة أجنبيّة عنه فما هو الداعي للمزاح والضحك والتبسّم؟ ولأيّ شيء تلك العبارات اللطيفة والجذّابة والآسرة للقلوب؟! إنّ ذلك جميعاً حرامٌ ! ولكنّنا نسمّي ذلك "مراعاة ومداراة للناس"، ونقول: إنّ هذا الجوّ يقتضي هذا النوع من التعامل.. هذا الجوّ والمحيط ..
أيّ جوّ وأيّ محيط هذا؟! فهذا رجل أجنبيّ وتلك امرأة أجنبيّة، فأيّ مهزلة هذه ؟! لقد نسينا الإسلام وتعاليم الإسلام بالكلّيّة.. نسيناها تماماً، واعتبرنا أنّ وجودنا في مجال خاصّ أو محيط خاصّ يسمح لنا أن نرتكب كلّ خطأ وأن نفعل ما يحلو لنا...
إنّ جميع هذه الأمور محرّمة! فالرجل عندما يتحدّث مع امرأة أجنبيّة ( وذلك بشرط أن يكون مجبوراً ومضطراً أيضاً)، [فعليه أن يلتزم بالحدود والضوابط،] وعليه ألاّ ينظر إلى عينيها، فأنت مضطر للحديث معها لا إلى التحديق في وسط قرنيّتها! إذا كنت مجبوراً أن تتكلّم معها، فهل أنت مجبورٌ أن تنظر إلى شبكيّة عينيها؟! لقد قالوا لك أنّ بإمكانك أن تتحدّث مع المرأة الأجنبية عند الضرورة، فما هو الإشكال في أن تخفض رأسك وتنظر إلى الأرض عندما تتحدّث معها؟! وما هو الداعي لذلك؟!
"لا.. فذلك عيب، وغير مقبول، والناس سيعيبون عليّ ذلك، وسيقولون أنّني رجعيّ ومتخلّف..."
[يتحدّث سماحة السيّد بشكل ساخر] نعم.. معك حقّ فذلك عيب وسيّء.. ولكنّه بالتدريج سيصبح أفضل وأفضل.. وستحصل أمور أخرى أيضاً، فلا تقلق.. فالأمر سيتحسّن ويصبح أفضل بالتدريج، فهذه الأمور السيّئة والمعيبة بنظرك سوف تتراكم، حتّى يصل الأمر إلى أمور أخرى، وتلك هي الأمور السيّئة والمعيبة واقعاً..
إنّ جميع هذه الانحرافات التي نشاهدها، والأخطاء التي تحصل، والمسائل التي تؤدّي إلى تشتّت الأسر وانقسامها، واستبدال الثقافة الإسلاميّة بثقافة الكفر التي تؤدّي إلى القضاء على كيان الأسر، وتزلزل استقرار العائلات وإحكامها ... إنّ جميع ذلك سببه ترك العمل بدستورات الإسلام..
لقد تُرك العمل بدستورات الإسلام يا عزيزي! إنّ دستور الإسلام هو ما قالته فاطمة الزهراء سلام الله عليها، ودستور الإسلام هو ما بيّنته زينب الكبرى سلام الله عليها، فدستور الإسلام هو قول السيّدة الزهراء: " خَيْرٌ لِلْمَرْأَةِ مِنْ أَنْ لا تَرَى رَجُلاً وَلا يَرَاهَا " ۱... هذا هو ! والسيّدة الزهراء سلام الله عليها لم تقل: إنّ ذلك مختصّ بزماننا، وأما في آخر الزمان فلا بأس أن تنظروا إلى عيون بعضكم، وأن تتفحّصوا لون عين الطرف المقابل!! فهذا الكلام لم تقلْه حضرة الزهراء عليها السلام.
وكيف يبرّرون هذا الفعل في هذه الأيام؟
يقولون: "سيدنا هذه التعاليم مختصّة بذلك الزمان وليس لزماننا هذا، أمّا الآن فينبغي أن يذهبن للتعليم و التعلّم، وهل يمكن أن تبقى الفتاة في منزلها؟! وهل يمكن لكلّ إنسان أن يُحضر معلّمة [خصوصيّة] إلى المنزل؟!" !!
[ولكن أنا أسألكم]: ما هي العلاقة بين "مقام التعليم والتعلّم" وبين أن ينظر الرجل ـ فرضاً ـ إلى وجه زوجة فردٍ آخر أو ابنته؟! ما هي علاقة ذلك بذلك؟! ألا يمكنه أن يجلس في مكان و يقوم بدوره دون أن ينظر في وجوههنّ ...
يعني: أكثر من ذلك؛ في حال لم يكن هناك من حيلة وطريقة أخرى، بحيث لم توجد معلّمة من النساء ولم يكن هناك من سبيل، عندها يأتي المعلّم الرجل، ولكن عليه أن يجلس في زاوية ولا يكون له أي تواصل مع النساء، ويتمّ ترتيب المسائل بحيث تسمع النساء الكلام بشكل واضح، وحينها سيفهمون بشكل أفضل، و سيكون تركيزهم منصبّاً على القلم والورقة والمواضيع التي يسمعونها فحسب.
وعندها لن يصدر من الفتيات [عبارات فيها نوع من الخضوع أمام المعلّم من قبيل]: "جناب الأستاذ ... " ، " حضرة المعلّم... " ، "يا أستاذ حصل كذا.. "، "لو سمحت كذا .. " ، وأمثالها من السمّ الزعاف.. لا.. لن يعود لهذه الأحاديث من وجود، لن يقلنَ له: "أستاذ ..كذا وكذا... ، وأستاذ .. كذا..." بحيث يستمتع هو بأصواتهنّ، ويبتسم لهنَّ، ثمّ يذكر لهنَّ لطيفة ونكتة تُضحكهنَّ من هنا!! ويمازحهنَّ من هناك !! بحيث تحسبه بعد قليل أنّه يسامر عمّته أو خالته !!
أيّها الأحمق إنّك تتكلّم مع امرأةٍ متزوّجة!!! إنّك تتكلّم مع فتاة مخطوبة !! فكيف يحقّ لك أن تتكلّم معها بهذا النحو؟! وأيّ نوعٍ من التعامل هذا ؟! ثمّ بعد ذلك يأتون ليستغيثوا: يا سيّد.. حصل كذا ... !!! وحصل كذا وكذا !!!! نعم، هذه هي حقيقة المسألة.
إن كان المراد هو التعليم، فيمكن للرجل أن يجلس جانباً في زاوية من الزوايا، فإمّا أن يسجّلوا صوته بالمسجّل ثمّ يوزّعونه على الأفراد، أو يجلس في مكان معيّن ويتحدّث بحيث يسمعه الآخرون، و لو دعت الحاجة فرضاً إلى السؤال و الجواب، فعليه أن يجيب على الأسئلة من دون أن ينظر إلى النساء وبدون أن تقع عينه على أيّ منهنّ، ومن دون أن يحصل حوار، فليس هناك أيّ سبب يدعو للطريقة المتّبعة الآن..
إنّ ما أقوله و أدعو له موجود .. نعم موجود في بعض المناطق، وبعض المراكز العلميّة والتعليميّة سواءً في الحوزة أم في غير الحوزة، وحتّى في بعض الجامعات والثانويّات، ولقد ذكرت لكم أنّ هذا الأمر موجودٌ في الكثير من المستشفيات، ففي هذه الأماكن لا يوجد أي علاقة أو ارتباط بين الرجال والنساء [من غير المحارم] ، وهم يدرسون بنحوٍ جيّد، ويتعلّمون بنحوٍ جيّد، ولا يواجهون أيّة مشكلة أبداً.
نعم.. إن كان المطلوب هو أمرٌ آخر غير العلم والتعليم، فحينها لنا شأنٌ آخر مع المسألة !!
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} فليس هناك أيّ داعٍ لكي تتبرّج المرأة للرجل، ومعنى التبرّج هو العرض والإبراز والإظهار، وذلك بأن تعرض المرأة نفسها وأن تبرز نفسها وأن تظهر نفسها!! هذه وظيفتها أمام زوجها ، لا أمام الرجل الأجنبيّ من غير المحارم !!
كذلك يجب على الرجل أن لا يتعامل مع المرأة غير المحرم، بحيث يُحيي الأمل في نفسه !! ففي النهاية نحن رجال ويحصل في أنفسنا أشياء !! ففي النتيجة هناك مرضٌ !
يقولون لك: "لا، هذا هو جوّ العمل ليس إلاّ". نحن نسأل: هل يجوز لك في جوّ العمل أن تقوم بالمعاصي؟! هذه معصية !! ولا يجوز لك أن تقوم بالأعمال المحرّمة بسبب جوّ العمل !! وأنا أسألك: لو أنّ زوجتك أنت جاءت إلى جوّ العمل هذا، وكانت جالسة بجانبك، فجاء إليها رجلٌ أجنبيٌّ ليس بمحرم لها، فصار يحادثها بنفس هذه الطريقة !! فماذا كنت لتفعل ؟!! وماذا كنت لتقول؟!! كنت لتنفجر مثل الصاروخ وتلتصق بالسقف من الغضب !! لكنّك تقول بالنسبة للنسوة الأخريات: لا، جوّ العمل فقط. ها ؟!! أنا أسألكم : هل يجوز أن نعصي الله في محيط العمل؟!! عليك أن تضع زوجتك مكان هذه المرأة هناك، أو ابنتك هناك، [فهل ترضى لهنّ ما ترضاه لهذه المرأة؟!!]
وقالوا في المثل: يك سوزن به خودت بزن | *** | يك جوال دوز به بقيّه. |
(يقول: قبل أن تضرب المسمار بأيدي الآخرين، جرّب أنت أن تدخل إبرة صغيرة بيدك!)
هذه التصرّفات كلّها خطأ، وينبغي أن تتغيّر جميعاً، وينبغي أن تزول من أساسها، وعلينا أن نعلم أمراً وهو: إنّنا إذا قصّرنا بحقّ الآخرين، فسيقصّر أحدٌ بحقّنا نحن !! فهذه الدنيا لها حسابها والأمور ليست على عواهنها، فإذا تسامحنا وتساهلنا بحقّ الآخرين، فلنعلم أنّ ذلك قد سُجّل في ملفّنا وسنذوق طعم ذلك في كأسنا يوماً من الأيام !!
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} .. هذه المسألة من الآداب.. من الآداب الإسلاميّة، ولكنها الآن بدأت تتغيّر، وأنا لا أعني من قولي "الآن" هذا الزمن بخصوصه، بل هذه الآداب الجاهليّة كانت موجودة في الزمن السابق، ومن الأساليب القديمة في علاقاتهم، وهي من الثقافة الغربيّة التي بدأت ترِدُنا منذ عدّة عقود، فدخلت في بلدنا وفي البلاد الإسلاميّة، فنفذت فيها بعنوان الترقيّ والحداثة الفكريّة، فجاءت لتزلزل كيان العائلة والأسرة وتزيلها من الوجود، فأين كانت هذه المسائل تحصل؟! أين كانت هذه المسائل تحصل في تلك الأزمنة بهذا النحو الذي يحصل الآن؟! متى كنّا نسمع عن فعل مشين؟! أوووه .. كانت الأيام والشهور تمضي قبل أن نسمع مرّة من المرّات أنّ فعلاً مشيناً حصل في مكان من الأماكن في المحلّة الفلانية من المنطقة الفلانيّة... ، أمّا عندما تأتي هذه الثقافة فتهبّ علينا وتنمو في المجتمع، وتجعل عنان العلاقات بيد أولئك الأفراد المعرّضين لنفوذ وساوس الشيطان أكثر من غيرهم، حينها يصبح من الواضح مدى خطورة الأمر الذي وقع على رأس هذا المجتمع!!
تأثير الاختلاط على العبادات وعلى تسافل الإنسان
نصلّي، لكنّ صلاتنا لا روح فيها.. نقرأ القرآن، لكنّ قرآننا لا روح فيه!! لماذا ليس فيه روح؟! لأنّ العين التي تنظر الآن إلى القرآن، كانت بعد الظهر تنظر إلى أمور أخرى!! في الصبح وقع نظرها على أمور أخرى!! عندها يصبح هذا القرآن عبارة عن أمرٍ عادي، والذكر يصبح ذكراً عاديّاً، فهو يفقد تلك الروح وذلك التأثير القويّ الذي فيه، فالذكر يمتلك قاطعيّة و تأثيراً قويّاً يجعل الإنسان يعبر [من أفق إلى أفق] ، ويقطع التعلّقات.
أمّا إن كانت العين تنظر إلى امرأة أجنبيّة ليست من المحارم لمدّة ساعة، وصار الإنسان يحادثها ويتكلّم معها سواء أكانت زميلة له في العمل أم ليست زميلته، فليس من المهمّ مكان الداهية التي أتت منها فجلست بجانبه وتحدّثت معه ... ، بعد هذا كيف يمكن لهذه العين أن تنظر إلى القرآن، فتنتقل تلك المعاني إلى قلبه؟! كيف لهذا اللسان الذي أطلق له العنان بالفكاهة والمزاح وسرد النكات التي تحمل ألف كناية وأمثال ذلك معها، فجرّت بعد ذلك إلى مسائل أفضل!! وألطف!! وأحسن!!! بلى، كيف لهذا اللسان أن يذكر الله في سجوده؟! وضّحوا لي؟! فأنا لا أفهم، وعقلي لا يصل إلى فهم ذلك، فأنا لا أعلم كيف يريد الإنسان أن يذكر الله وفي نفس الوقت يريد أن يجمع بين هاتين المسألتين!! فمع انقضاء ما يربو على الخمسين سنة من عمري، إلاّ أنّ عقلي قاصر عن فهم هذا الأمر، ولا أدري لعلّها خاصيّة في سلاّك آخر الزمان [يتبسّم سماحة السيّد] .. فلعلّ لهم قدرة لا نعلمها.. ما شاء الله !! لديهم ما شاء الله من القدرة واستقامة النفس بحيث يستطيعون أن يحملوا بيد واحدة ثلاثين بطيخة معاً، أمّا نحن فلا نستطيع أن نحمل بكلتا اليدين إلاّ واحدة، و أمّا هو فيحمل ثلاثين منها بيدٍ واحدة ولا تقع منها حتّى واحدة!! جلّ الخالق .. [يبتسم سماحة السيّد] .. حتّى جبرئيل لا يستطيع أن يفعل مثلهم !!
كيف لهذا اللسان ولهذه النفس التي ينبغي أن تتوجّه إلى النفس لكي تُخرج منها ما سوى الله، كيف يمكنها أن تتوجّه إلى النفس مع كلّ هذه العلاقات؟!! كيف لها أن تستجلب لنفسها حقيقة العبوديّة تلك من خلال توجّهها نحو الله بدون التعلّق بالكثرات والتخلّص من شوائبها؟! فهل يمكن ذلك أصلاً؟! كلاّ.. بل هو محال .. محالٌ يا عزيزي، وهذه المسائل مع مرور الزمن تُفقد الإنسان "حقيقة الشيء" تلك لتحلّ محلّها المادّة، ولتصبح المادّة سلوكاً نفسانيّاً، نفس هذه المادّة الظاهريّة، و لا يبقى في يده إلاّ هذا الذكر الذي يقوله ، وهذا القرآن الذي يقرؤه، و العلاقة التي يشعر بها، وانتهى الأمر.. انتهى الأمر!! فليس هناك من شيء آخر.
بعدها ماذا؟ بعدها نمنّي أنفسنا بالأماني الفارغة، فنقول في أنفسنا: ليس ذلك مهمّاً فالأستاذ يحبّنا، وله عناية خاصّة بنا، وسيأخذ بأيدينا، وأمثال ذلك من الكلام الفارغ، فنسلّي أنفسنا بهذه الأماني الفارغة ونقضي أيّامنا بالتسويف على هذا النحو!! على أمل المستقبل!! لكن السالك لا ينبغي أن يعتني بالمستقبل أبداً، بل ينبغي أن ينصبّ نظره على الحاضر وحسب، ينبغي على السالك أن ينصبّ نظره على الزمن الحالي، لا على الغد لأنّه يتوقّع أنّه سيحصل كذا وكذا .. ؛ لأنّ الغد ليس بأيدينا، فلا نستطيع القول: إن شاء الله غداً سأفعل كذا ... ، المهم هو الوضع الذي تكون عليه الآن! ألم يقل حافظ:
صوفی ابن الوقت باشد ای رفيق | *** | نيست فردا گفتن از شرط طريق |
(يقول: السالك الحقيقي هو ابن الوقت أيّها الصديق *** فمن شروط الطريق أن لا تقول سأفعل غداً)
ابن الوقت، يعني: الآن، وعندما يقولون: "اغتنم اللحظة" فيعني: الآن.. فالآن ما هو وضعنا؟ والآن ما هو مقامنا؟ والآن ما هي أفكارنا؟ و إلاّ فماذا سيصبح كلّ ذلك؟ يصبح ظاهراً وحسب.
الولاية هي حقيقة الدين وروح الشريعة
لكن إذا أتينا ووضعنا الظاهر جانباً، وقلنا دعنا نصبح أناساً صالحين، ووضعنا الظاهر جانباً، وبدأنا نلتفت إلى حقيقة الأمر وباطنه، صرنا نعتني بباطن الدين وباطن الشريعة وباطن الطريق وباطن الأحكام وباطن التكاليف، فصرنا ننظر إلى ذلك الباطن الذي يمثّل العبوديّة في القيام بالتكاليف، قصرنا نظرنا على ذلك الباطن، حينها ماذا سيصبح لدينا؟ سيصبح لدينا "الولاية"، فالولاية تعني: هذه الحقيقة الربطيّة التي تربط بين الإنسان وبين الله عزّ وجلّ .. تلك الحقيقة الربطيّة للعبوديّة الموجودة بين الإنسان والله عزّ وجلّ، وهذه الحقيقة هي التي ينبغي أن نحافظ عليها، و هذه الحقيقة الربطيّة هي نفس تلك الحقيقة الموجودة بشكلها الأتمّ و الأكمل في النفس المطهّرة لإمام كلّ عصر، فهي تتجلّى في كلّ زمان من خلال إمام ذلك الزمان؛ فالإمام الجواد في زمنه، والإمام السجّاد في زمنه، والإمام الهادي في زمنه، وكلّ إمام في زمانه، و هي الآن متجلّية في ولي العصر أرواحنا لروحه الفداء.. هذه هي حقيقة الولاية.
إنّ حقيقة الولاية هي عبارةٌ عن حقيقة الشيء، فهي حقيقة جميع الأشياء، وحقيقة جميع التكاليف، وحقيقة جميع هذه المظاهر، وحقيقة جميع هذه الحركات والمجاهدات، وهي حقيقة الحجّ وما يحصل فيه من قبيل: رمي الجمرات، وهي حقيقة الاعتكاف والصيام والصلاة والصدقة وأمثال ذلك... ، إنّ حقيقة هذه الأمور جميعاً هي حقيقة الولاية.
وعلينا أن نصبّ أنظارنا نحو ذلك الجانب، ولذا عندما تصلّي ينبغي أن تقوّي هذه الصلاةُ ارتباط ولايتك مع ولاية صاحب الولاية، وعندما تصوم ينبغي أن يكون صيامك كذلك، و عندما تحجّ فينبغي عليك أن تعلم أنّك تطوف حول محور الولاية، وإلاّ فهي أحجار فقط!! ألم يقل الإمام الباقر عليه السلام: "إنّما أمر الناس أن يطوفوا حول هذه الأحجار (تعبير عجيب جداً !! حيث عليهم حين الطواف أن ينظروا إلى قلبهم أين يطوف.. أين يطوف؟) ثمّ يأتوننا فيعرضوا علينا ولايتهم" .
والحمد لله [يقولها بتأسّف واستهزاء] فقد جاؤوا وبنوا مجموعة من العمارات بجانب المسجد الحرام، من تلك العمارات والأبراج الشاهقة جدّاً بحيث نزعوا المقدار المتبقّي من توجّه الناس، فحتّى المقدار القليل المتبقّي لدى الناس أذهبوه... عمارات عجيبة وغريبة، تجد الإنسان يطوف حول الكعبة فإذا بعينه تقع قهراً على هذه الأبراج والعمارات، و بهذا فلن تبقى مكّة و لن يبقى طواف!
والحقير يمكن له أن يقطع، بل إنّني أقسم بأنّ وراء هذه الأعمال بعض الأيادي الغريبة والخفيّة، فهناك أيادي خلف الستار هي التي خطّطت لهذه المسائل، من أجل محو الكعبة ومن أجل محو عظمة الكعبة وجلالها وجبروتها، ومن أجل محو النيّات، ومن أجل محو التوجّه والتمركز والحس وإزالته من النفوس، يريدون أن يأخذوا إحساساتنا، يريدون أن يأخذوا توجّهنا، فتجد نفسك قد شرعت بالطواف.. لكن فجأةً تقع العين على عمارة من تلك العمائر!! تكمل الطواف تقع ثانية على العمارة الأخرى... ، وجميع هذه الأمور محسوبة بالدقّة.
يقول الإمام الباقر عليه السلام: الناس مأمورون أن يأتوا ويطوفوا حول الكعبة، ثمّ يجب أن يأتوا إلينا وأن يقولوا لنا: يا ابن رسول الله في نفس الوقت الذي كان طوافنا حول الأحجار في الظاهر كان قلبنا يطوف حولكم أنتم، بلى.. إنّ الطِين الذي فينا كان يطوف حول تلك الأحجار أمّا قلبنا فكان هنا عندكم؛ إنّ الطواف من دون الولاية ليس إلاّ الطين.. الطين الصلب.. الآجُر، أمّا الطواف الحقيقيّ فهو ذلك الطواف الذي تقبع خلفه الولاية، هذا هو معنى "حقيقة الشيء".
إذاً حقائق جميع التكاليف والأحكام، وجميع تلك التصرّفات، وجميع الأعمال، وجميع ما نتخيّله ونفكّر به بل وكلّ رمشة عينٍ منذ أن نستيقظ إلى أن نضع رأسنا على وسادة النوم.. كلّ ذلك ينبغي أن يدور حول محور الولاية وحسب، و حينئذٍ ستظهر واقعيّة أفعالنا، [فإن قال لنا الإمام]: اجلس.. جلسنا، و عن قال قم.. قمنا، ولا فرق عندنا بينها جميعاً، وحينها ستصبح الصلاة والجهاد شيئاً واحداً [طالما أنّ الأمر من الإمام]، وسيصبح القعود والحركة أمراً واحداً، وسيصبح النوم والضرب بالسيف شيئاً واحداً، لماذا؟ لأنّ نظرها منصبّ على تلك الجنبة، وهي إرادة الإمام.
ما هي رغبة الإمام؟ [مثلاً]: هو لا يريد أن أضرب بالسيف، إن كان لا يريد .. لا يريد، كيف يسوغ لي أن أحمل السيف وأقاتل؟! إن كان صاحب الأمر الأصلي لا يريدني أن أقاتل بالسيف، هل يسوغ لي أن أقول: لا.. أنت قلت ذلك عن غير وعي، لذا ينبغي عليّ أن أشهر سيفي للقتال؟! وأحتجّ عليه وأقول: ألم تقل أنت: ينبغي جهاد الكفّار والظلمة والفسّاق؟! حينها يجيبني ويقول: ألست أنا القائل بذلك، وأنا كذلك أقول لك الآن: لا تفعل. [فهل يسوغ لي الاعتراض عليه بأن أقول:] كيف يمكن أن يكون لك كلامين وحكمين؟! ينبغي أن يكون لك كلام واحد فقط!!
في الزمن السابق كان أولئك الأفراد ... [يقولها سماحة السيّد بتأسّف]، بل سأترك الكلام عن الأمر فلا مهجة عندي للحديث عن هذا الأمر، فكم كانت تلك المسائل مؤسفةً !! ولكن للأسف ذهب من كيسنا وحظّنا الكثير.
عندما يقول وليّ الله: لا تفعل الفعل الفلاني! فعليك أن لا تفعله. إن قال: اذهب إلى المكان الفلاني فاذهب، وإن قال: لا تذهب إلى المكان الفلاني فلا تذهب، وإن قال: افعل كذا فافعله.. لا تفعل كذا فلا تفعله.. حينها تسير جميع المسائل في سبيل واحد، والأمر ليس فيه اختلاف، لأنّ الولاية واحدة، سواءً أمر به الإمام المعصوم عليه السلام أم ذلك الوليّ الذي عَبَر عن النفس، وصارت نفسه متّحدة مع نفس الإمام، فحينئذٍ يكون كلامه عين كلام الإمام بدون حتّى ذرة اختلاف، ولا يوجد أيّ فرق، ونفس الحجيّة الذاتيّة المترتّبة للإمام هي نفس الحجيّة الذاتيّة المترتّبة له، بلى من حيث السعة الوجوديّة هناك فرق!! فالسعة الوجوديّة للإمام عليه السلام كالبحر بينما السعة الوجوديّة لوليّ الله كالنهر، لكن هل الماء الموجود في البحر غير الماء الموجود في النهر، أم هما ماء واحد؟ بل هما واحدٌ، ليس هناك اثنين، بل واحدٌ، فما هي الخصائص المادّية الموجودة في تركيب ماء البحر؟ هي الأكسجين والهيدروجين وهي مركّبة على النحو المذكور في تلك العلوم، وعندما يأتي الماء إلى النهر فهل يختلف من ناحية خصائص المادّية الموجودة في تركيبه الكيميائي؟! هل يختلف؟ كلاّ.. بل هي نفسها، ثمّ ذلك النهر إذا جرت منه ساقية فهل يختلف تركيب مائها أيضاً؟! هل يتبدّل الأكسجين الموجود فيه عندما يسري ماء النهر في ساقية إلى "آزوت" فيصبح "كربونيد" مثلاً، أم لا.. يبقى على ما هو عليه، ثمّ هذا الماء الذي في الساقية لو صار في الأنابيب.. هذه الأنابيب الموجدة في منازلنا التي ينزل منها الماء عندما تفتحون الصنبور، هل هذا الماء مختلف عن ذلك الماء؟ بل هو واحد.
هذا المصباح المضاء هنا، بواسطة ماذا صار يضيء؟ بواسطة الكهرباء، وهذه الكهرباء من أين جاءت؟ جاءت من المولّد، والمولّد إمّا أن يكون مولّداً يعمل على الطاقة المائيّة، أو يعمل على الغاز الطبيعي، وذلك المولد الذي يولّد لنا الكهرباء، أين تذهب كهرباؤه؟ تكون في البداية عدّة آلاف "فولت" ثمّ يتمّ تحويلها إلى "فولتات" أقلّ وأقلّ وأقلّ إلى أن تصل هنا فتصبح تقريباً ٢٢۰ "فولت"، وعندما تصبح ٢٢۰ فولت تبدأ هذه المروحة بالعمل، وهذا الضوء يُضيء، وصوتي يتمّ تكبيره عبر هذا المكبّر إلى طاقة كهربائيّة ثم إلى طاقة صوتيّة، وجميع هذه المسائل كيف تحدث؟ تحدث بواسطة مادّة نسمّيها نحن "الكهرباء"، فهل هذه المادّة الموجودة هنا تختلف عن تلك المادّة الموجودة الآن في ذلك المولّد؟! هل تختلف؟! بل هي واحدة، بلى.. الكهرباء هناك قويّة، وهنا ضعيفة، ولكن لهما نفس الجنس.
نفس الوليّ الإلهي الذي وصل إلى مقام الفناء، كلامه وكلام الإمام واحدٌ، غاية الأمر الإمام المعصوم عليه السلام بحرٌ، أمّا هو فماذا؟ بحيرة، المعصوم يمكن أن يكون بحراً، أمّا هو فنهرٌ، لكنّ الكلام واحدٌ ! الكلام واحد! وهنا لا ينبغي أن تشتبه علينا الأمور!! إنّهما لا يقولان كلامين!! يعني: إنّ العارف بالله (الذي وصل إلى البقاء .. إلى البقاء!! والذي تكون نفسه متحدةً مع نفس الإمام.. لا كلّ مدّعٍ.. لا أبداً، فهم ليسوا كذلك، بل العارف فقط..) هذا العارف لا يمكن أن يقول كلاماً فيقول الإمام المعصوم خلافه، هذا الأمر مستحيلٌ !! لو كان هذا الاحتمال موجوداً، فعليكم أن تحتملوا هذا الاحتمال في كلام المعصوم أيضاً بحيث يقول اليوم كلاماً ثمّ يقول غداً كلاماً مخالفاً له.
يعني: في الموضوع الواحدٍ الذي يكون المخاطب فيه واحداً ومورد الخطاب واحداً يستحيل أن يقول المعصوم كلامين أو أن يتكلّم بخطابين مختلفين!! محالٌ !!
نعم يمكن للمعصوم أن يذكر اليوم تكليفاً معيّناً، ثمّ يغيّره الإمام غداً من باب التقيّة، فهذا لا إشكال فيه، بل حدث هذا الأمر في العديد من المواطن، والإمام الصادق كان يقول: لولا أنّنا كلّفناكم بتكاليف متخالفة فكيف كانت ستحُفظ دمائكم إذاً؟ ۱، ولذا كان نفس الإمام الصادق عليه السلام يذكر بعض التكاليف المتخالفة، وقد ورد لدينا ذلك في الروايات، وهذا الأمر من باب التقيّة ولمصالح أخرى، بل حتّى بعضها من باب بعض الملاكات التي نجهلها نحن؛ فيأتي رجلٌ ويسأل عن حكم مسألةٍ معيّنة فيجيبه ثمّ يأتي رجلٌ آخر فيجيبه جواباً آخر.
لكنّ حديثنا هنا ليس عن هذا الفرض، بل في موطن الحديث عن رجلٍ واحد له موضوعٌ واحدٌ، يعيش في جوٍّ وظرفٍ واحد، هنا هل يمكن للإمام أن يعطي كلامين متخالفين؟ مستحيلٌ، وهذه الاستحالة بعينها تجري مع الوليّ الإلهي، فلا يمكن ذلك أبداً، فكلامه واحد. فما هو هذا؟ هذا هو "حقيقة الشيء".
إذاً حقيقة الشيء وحقائق الأشياء في التكاليف والأحكام والتصرّفات والأعمال والأفكار والأقوال وفي جميع الأمور ينبغي أن تدور حول محور الولاية، وهذا هو الأصل، أي: ولاية المعصوم عليه السلام هي الأصل، أمّا نحن فننظر إلى المسألة بنحوٍ آخر، ذلك أنّنا نريد المعصوم ولكنّنا نريده من منظارٍ معيّن، نحبّ المعصوم ولكن على أن تكون تصرّفاته بنحوٍ معيّن!!
فحالنا كذلك الشخص الذي جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام، وقد رأى أنّ الرجل الفلاني خرج من المكان الفلاني، و في نفس الوقت خرج أبو مسلم [الخراساني] من مكان آخر، وفلان الفلاني قام في المنطقة الفلاني، وقد حصل كذا وكذا بين بني أميّة وبني فلان... ، تجدنا حينها نأتي إلى الإمام الصادق عليه السلام فنرى أنّ الإمام جالسٌ، فنسلّم عليه، فيرحّب بنا، لكنّنا بدلاً من أن نجلس ونتعلّم منه ونرى ما هو رأيه لنعمل به، نبادر نحن: "يا ابن رسول الله ألن تقوم و تعلن الثورة؟!!".
لكن ما دخلك أنت إن قام أو لا؟!! إن كان يريد القيام فهو سيقول ذلك بنفسه، بل اجلس واشرب الشاي .. (لا أدري إن كان هناك شاي أم لا.. في ذلك الزمان كان عندهم عصير!) .. اجلس واشرب عصيرك ولا تهتم لشأن القيام فما لك أنت وهذه الأمور؟!! أليس هذا هو الإمام ؟!! أليس الإمام؟!! فما الذي حصل إذاً؟!! ولماذا لم تقدّم اقتراحك هذا عندما كان الهجوم من كلّ الأطراف؟ ها؟! ألم تكن الأرضيّة مناسبة، لو كانت الأرضيّة مناسبة لفعلت ذلك؟! والآن تريد أن تدفع بالإمام إلى الواجهة؟! فإن كان أبو مسلم قد قام فليقم فما شأني أنا؟ فلان جاء من المكان الفلاني، والآخر من مكان آخر، لكن ما شأني أنا؟! لماذا صرتَ تُصدر دستوراً للإمام الصادق؟! ما دخلك أنت؟! كيف حسبت الأمور بحيث صرت تعيّن تكليف الإمام؟! ما تسمّى هذه؟ هذه هي المادّية الإسلاميّة !! حيث نأتي نحن ونقوم بتعيين تكليف الإمام، فنقول له: سيدي لقد قام فلان، وفعل كذا فلان، وخرج فلان...، ونصبح متحمّسين: دعنا نثور وندفع الظلم ونسقط الحكومة.
حينها يجيبه الإمام ( بالطبع هذه العبارات عباراتي أنا وأنا أذكر لسان حاله فقط، [يتبسّم سماحة السيّد] .. نعم أصبح الحقير هو لسان حال الإمام الصادق!! انظروا من سيصبح لسان حال الإمام الصادق: الحقير سيصبح لسان حاله!! لكن أين نحن منه؟!!) :
- عزيزي أنت الذي تريد أن تضعني في الواجهة ألا تحتمل أن تقتل أنت؟ أم أنّك تحتمل فقط الانتصار وهزيمة العدو؟! ولكن يا عزيزي! إنّ احتمال أن تقتل موجودٌ أيضاً.
- يجيب: بلى.. صحيح، هذا الاحتمال موجود.
- موجود؟ حسنٌ جداً، إذا تفضّل وادخل التنور !!
- يجيب: إيه إيه، يا ابن رسول الله !!
- يقول عندها الإمام: اجلس .. اجلس، ثمّ يدعو الجارية..
أليس في المسألة ثورة؟!! بلى هناك ثورة، وفي الثورة إمّا أن تَقتُل أو تُقتل، أم أنّ المسألة ليس فيها إلاّ احتمال واحدٌ؟!! عندما يكون في الأمر قتل، نحن نجلس تحت الظلّ، نعم هذا هو وضعنا نحن فعلاً، إنّنا نتحمّس و ننادي: اذهب يا ابن رسول الله .. قاتل .. ولكن عندما نجد أنّ الأمر فيه حتفنا؛ فإنّنا نجلس تحت الظلّ، لكنّ الثورة فيها الأمران: إمّا قتل العدو أو أن نقتل نحن.
يدعو الجارية ويأمرها بأن تشعل التنّور، فتبدأ النار تتصاعد إلى الأعلى .. ما شاء الله ، والضيف ينظر ويشاهد، حينها يقول له الإمام:
حسناً ماذا تفضّلت: تريد أن تثور ؟! ذكّرني ماذا حصل؟ أبو مسلم خرج في المكان الفلاني، وفلان قام في المنطقة الفلانيّة، جيّد جداً .. ممتاز .. بارك الله بك، [يضحك سماحة السيّد] الآن سأريحك وأوصلك إلى مبتغاك: افترض أنّك أُصبت في هذه الثورة بسهم وقتلت !! ألست ترغب في أن تقتل في سبيلنا ؟!! أنا سأريحك من الآن، فبدون أن تثور وبدون وجع الرأس ونزف الدماء تفضّل هناك حيث يوجد التنّور، تفضّل هناك [إلى التنور] وإن شاء الله ستنتهي مسألتك سريعاً.. لن يستغرق الأمر أكثر من خمس دقائق، ومهما صرخت فلا تهتمّ، لاّن الصوت لن يصل إلى أحد، ستلتهمك النار سريعاً، و كن مطمئناً بأنّك ستدخل الجنّة، ففي الطرف الآخر توجد الجنّة (فعندما يقول الإمام: ادخل في التنّور، فهو لا يأخذك بذلك إلى جهنّم، بل إلى الجنّة، وهذا أمر واضحٌ ومسلّم...) إذاً هيّا قم وادخل في التنّور!
لكنّنا ليس لدينا الاستعداد لأن تحترق شعرة من لحيتنا في سبيل طاعة الإمام الصادق عليه السلام، ولذا تجدنا نقول له:
- يا بن رسول الله! ماذا تريد منّا؟ هل تريد أن تقتلنا؟!
- ماذا؟ أيّها الخؤون! أنت لا تقبل أن يصيبك قليلٌ من الأذى، ولكنّك تريد أن تقدّمني أنا؟! يعني تريدني أنا أن أقوم وأثور ضدّ الحاكم، فتصيبني أنا السهام، وأمّا أنت فيجب أن تبقى سالماً؟! ألست تزعم أنّك تسأل الله أن يرزقك الشهادة في ركابنا؟ حسناً.. هذه فرصة مناسبة وحاضرة.. فلا داعي أن تتعب نفسك وتقاتل الناس، فافرض الآن أنّ الحرب قد وقعت، وأنّ الامتحان والاختبار قد جاء، وأنا (الإمام الصادق) أضمن لك الجنّة، فأنا مقسّم النار والجنّة، وهذا أمر نعلمه ونتيقّن منه..
(حسنٌ جدّاً.. ولكن ليس لدينا الاستعداد أن تحرق هذه النار ظفراً واحداً من أظفارنا، فلم هذه الادّعاءات إذاً؟!)
- لا يا ابن رسول الله! أستميحك عذراً، فأنا لا أقدر أن أفعل ذلك، فأنا لديّ زوجة وأطفال..
و هنا يبتسم الإمام، ويقول له: لا بأس، تناول فاكهتك الآن حتّى نرى ماذا سيحصل، وفي نفس الوقت تستمرّ النار بالاشتعال، ويزداد لهبها تصاعداً وأواراً.
و بينما هم كذلك فإذا بـ "هارون المكي" يأتي ويدخل عليهم، فيسلّم على الإمام:
- السلام عليكم يا ابن رسول الله.
- فيردّ الإمام السلام عليه.
ثم يأتي ليجلس إلى جانب الإمام فيقول له الإمام:
- لا.. لا.. لا تجلس، بل اذهب واجلس هناك [مشيراً إلى التنّور]، فذاك المكان أفضل، وهو أشدّ دفئاً وأنسب للجلوس!!
وذاك يرى أنّ النار تتصاعد بقوّة من التنّور، ومع ذلك فإنّه يقول للإمام:
- سمعاً وطاعةً.
ثمّ ينزع نعليه، ويدخل بدون تردّد إلى التنّور، وما إن يراه ذلك الشخص الأوّل حتّى يتملّكه الخوف والاضطراب، فيحدّق في التنّور منتظراً أن يسمع استغاثة هارون، ونداءه للإمام أن:
- يا بن رسول الله.. لم نتّفق أن تعاملنا هكذا، لقد مزحنا قليلاً، فلا تأخذ الأمر على محمل الجدّ [يضحك سماحة السيّد].
فيلتفت الإمام عليه السلام إلى هذا الشخص، ويقول له (بأعصاب باردة):
- لقد جئت من مشهد.. أليس كذلك؟! كيف الأوضاع هناك؟ وكيف حال أصحابك؟
ويشرع بالكلام والحديث معه بحيث أنّه نسي أنّ هناك شخصاً في التنّور أصلاً، وبعد مضي قليل من الوقت يقول له الإمام عليه السلام:
- حسناً.. اذهب الآن وانظر إلى صاحبك لترى ما حلّ به؟
فذهب ونظر إليه في التنّور فإذا به جالس بكلّ طمأنينة، بل هو جالس يلعب بالجمر الموجود هناك !! [تبسّم من سماحة السيّد].
فيقول له الإمام عليه السلام: حسناً.. أخبرني الآن:
- كم شخصاً عندك مثل هذا حتّى جئت تدعوني للثورة؟
- فأجابه: لا يوجد حتّى خمسة أشخاص مثله، وأنا أعترف أنّني أنا نفسي لست كذلك.
- يا عزيزي.. جئت تقول: لقد أعلن أبو مسلم ثورته؟ فمن هو أبو مسلم؟ وما هي أهمّيته؟ انظر إلى الولاية أين هي؟ والوليّ أين هو؟ واستمع إلى إلى الوليّ ماذا يقول؟ وما هي أوامره؟ لقد تركتَ الوليّ وانشغلت بالنظر إلى أبي مسلم، فمن هو ذلك يا عزيزي؟ فهذا لا قيمة له أبداً... لقد تركت الإمام الصادق الجالس هنا، وانشغلت بالبحث في الأوضاع والظروف المحيطة، فصرت تقول: إنّ الظروف الآن ملائمة، والأوضاع مساعدة، فقد تحرّك الناس من كلّ حدب وصوب... فتعال يا بن رسول الله.. تعال قم وثُرْ.
أولياء الله ينظرون إلى حقائق الأمور بعكس الناس فهم ينظرون إلى الظاهر فقط
ألم يرسلوا الرسائل للسيّد الوالد؟! ألم يتحدّثوا معه ليحاولوا إقناعه؟ ألم يأتوا إلى منزله في ذلك الزمان ليقولوا: يا سيّد.. ما بالك؟ لماذا أنت قاعد؟ ماذا تنتظر؟ ها؟ ألم يتّهموا السيّد العلاّمة بأنّه قد خالف مبانيه هو نفسه بالنسبة للحكومة؟! ألم يفعلوا ذلك؟! إنّ نفس تلاميذه كانوا يأتون ويقولون هذا الكلام له. ألم يتّهموه بالجبن والخوف؟! ألم يقولوا له: إنّك رعديد جبان؟! لقد سمعت أحدهم بنفسي يقول هذا الكلام..
حسناً.. ماذا يقول لهم السيّد العلاّمة؟ وكيف يمكن له أن يبيّن لهم تلك المطالب الموجودة في باطنه؟ وكيف يوضّح لهم أنّه: هل الأمر الذي كنّا نقوله هو هذا أم هو أمر آخر؟ فكيف يمكن له أنّ يبيّن الأمر لي أنا الذي ليس لديّ اطّلاع على الأمور التي تجري خلف الستار، وأنا الذي لا أفهم حقيقة الأمور؟ كيف يستطيع أن يفعل ذلك؟ لا سبيل أمامه إلاّ أن يقول لي: هناك أمور لا تعرفها، فالأفضل أن تسمع وتطيع، كيف يمكن له أن يبيّن الأمر؟ فلو أنّني كنتُ مطّلعاً ومدركاً، لَمَا كان هناك حاجة للبيان.
ولهذا فهو يغضي ويترك الأمر: اصبر قليلاً، ولا تستعجل يا عزيزي، ودع الأمور تأتي بالتدريج.. فلنصبر وننتظر ثمّ ننتظر ثمّ ننتظر.. فقليلاً قليلاً سوف تتبيّن المسائل لك بنفسها، وأنت بنفسك ستفهم حقيقة الأمر، وستتمكّن من معرفة الطريق بنفسك، فسوف تسمع كلمة من هنا، وتوضيحاً من هنا، وستتضّح المسائل بطريقة أو بأخرى، ثمّ يتفاجأ الإنسان بأنّه: يا للعجب.. أنا كنت أقول هذا الكلام له؟ وكنت آمره بالقيام والتحرّك؟ أنا كنت أفعل ذلك؟ يا للعجب! لقد تبيّن لي الآن أنّه كان من حسن حظّي أنّه لم يطردني ويُبعدني، بل كان يضحك معي ويمازحني ويصبر عليّ. صحيح؟
إنّ المسائل والقضايا هي من هذا القبيل، فنحن لا نرى إلا الظاهر! ولهذا يقال لنا: ينبغي أن تسمعوا وتطيعوا؛ لأنّ الإنسان لا يدرك حقائق الأمور! ولأنّه لا يدرك حقائق الأمور يقولون له: اسمع الكلام، فأنت لا ترى أكثر من متر واحد أمام عينيك!
كان أمير المؤمنين عليه السلام يَنهَى الأفراد الذين جاؤوا لقتل عثمان عن قتله، وكان يقول لهم: لا تقتلوه.. لا تقتلوا الخليفة! فأنتم لا تعلمون ما هي الفتن المترتّبة على هذه المسألة! فيجيبونه: يا علي.. لقد ارتكب هذا الخليفة أموراً قبيحة جدّاً، فقد ظلم الناس، وكسر أسنان فلان، وسلب أموال بيت المسلمين، وأعطاها لأقاربه وأصدقائه وقسّم فيء المسلمين بينهم!!
فيجيبهم عليه السلام: يعني هل تظنّون أنّني لا أعرف هذه الأمور التي تذكرونها حتّى جئتم تعلّمونني؟! إنّني أعرف من الأمور التي تخفى عليكم في هذا الموضوع عشرة أضعاف ما ذكرتموه لي! هل يكفيكم ذلك؟ فأنا أعرف الكلمات التي أسرّ بها إلى رفيقه قبل أن يقولها! هل يكفي ذلك؟ إنّني مطّلع على النيّة التي تخطر في ذهنه! فماذا جئتم لتخبروني؟ جئتم لتقولي لي: إنّه أخذ أموال المسلمين وأعطاها لقريبه؟ إنّ ذلك مذكور في الجرائد والجميع يعلمه، فهل جئتم لتخبروني أنا بذلك؟!
و لكن ومع كلّ هذه الأمور، ورغم معرفتي بجميع ذلك.. أقول لكم: لا تقتلوه! فأنا أعرف كلّ هذه الأمور، بل أعرف ما هو أعظم منها، ومع ذلك أقول لكم: لا تقتلوه!
فيجيبون: لماذا يا عليّ تمنعنا من قتله؟ وما هو الدليل على ما تقوله؟ فالآية القرآنية تقول: {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}۱، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُور}٢، وهذه الآية ... وتلك الآية... فيعدّدون له بعض الآيات القرآنية التي من هذا القبيل...
فيقول له: يا هذا، أنا من أحضر لكم هذه الآيات وبلّغكم إيّاها! فهل جئتم لتقولوها لي أنا وتواجوهوني بها؟ فهل تتخيّلون أنّني لا أعرف هذه الآيات؟!
ما هو سبب تصرّفهم هذا؟ إنّ سببه أنّه في ذلك الزمان لم يكن هؤلاء الناس متّبعين للولاية، ولم يكونوا يدورون حول محور الولاية منذ البداية، بل كانوا يبحثون عن الظاهر فقط.. كانوا يبحثون عن فهمٍ ظاهريٍّ للدين.. عن الفهم الظاهريّ ليس إلاّ.. تماماً مثلنا نحن!
فنحن لا نختلف عنهم في شيء، فوالله العظيم إنّنا لم نختلف عنهم شيئاً! أزيلوا هذه الألف وأربعمائة سنة، فستجدون أنّنا عدنا إلى زمان أمير المؤمنين عليه السلام وزمان عثمان، فما هو حالنا؟ فلا إيماننا أكثر من إيمان أولئك الذين فعلوا ذلك، ولا صلاتنا وصيامنا أكثر من صلاتهم وصيامهم.. كلاّ يا عزيزي.. بل إنّ صلاتهم وصيامهم كانت أكثر منّا، ومع ذلك فإنّهم لم يطيعوا أمر أمير المؤمنين عليه السلام، فذهبوا وقتلوا عثمان، وتسبّبوا بإيجاد تلك الفتنة العجيبة والغريبة.. تلك الفتنة التي آذت أمير المؤمنين عليه السلام، وأصابت المجتمع الإسلاميّ بكلّ تلك الويلات، وهذه الويلات استمرّت وتقدّمت.. حتّى قتلوا أمير المؤمنين في محرابه، ثمّ الإمام الحسن ثمّ الإمام الحسين من بعده...
ما سبب جميع ذلك؟ إنّ سببه عدم الطاعة.. سببه أنّنا أزلنا الوليّ عن مكانه، وجلسنا نحن في مكانه.. هذا هو السبب، فإذا قيل لنا: لا تقتلوه! ينبغي أن نجيب: سمعاً وطاعة. ولا نقتله.
أمّا هؤلاء فتجد أنّهم في الموقع الذي يجب أن يقوموا ويتحرّكوا، يصيبهم الرعب ولا يحرّكون ساكناً، ويقولون لأمير المؤمنين: يا علي.. اصفح وتجاوز ودع هذا الأمر الآن، لقد أخذوا حقّك فعلاً، ولكن أنت من جهتك اصفح وتجاوز عن الأمر!! وأمّا في ذلك الموقع الذي يأمرهم عليه السلام بالجلوس وعدم التحرّك وترك التدخّل، فتجدهم يعترضون قائلين: كيف ذلك يا عليّ؟! ماذا تقول؟ فهذا حاكمٌ جائرٌ، وقد ارتكب الظلم والجنايات!
و بعد هذا كلّه يأتي بعض الأفراد ليوجّهوا ما حصل بأنّ أمير المؤمنين كان ينهاهم ظاهراً عن قتل عثمان ولكنّه كان يشجّعهم على ذلك في الخفاء ويحثّهم عليه!! يا عزيزي، لماذا تتّهم الإمام عليه السلام كذباً؟! ولماذا تلفّقون هذا الأمر بحقّه؟! ولماذا ترتكبون هذه الخيانة بحقّ التاريخ؟! فهل رأيتم أيّ مكان قد ذُكر فيه أنّ عليّاً كان ينهاهم عن قتله في الظاهر، ولكنّه في الخفاء كان يأمرهم بقتله؟! هل وجدت مثل ذلك حتّى تدّعي ما تدّعيه؟ فلماذا تنسب الكذب إلى الإمام المعصوم عليه السلام؟!
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد نهاهم عن قتله ظاهراً وباطناً.. في الخفاء والعلن، ولكنّهم الآن يزعمون أنّه في باطن الأمر كان يشجّعهم على قتله، ولكنّه في الظاهر كان ينهاهم عن ذلك حتّى لا يتّهموه بقتله بعد ذلك!!
إنّنا نختلق هذه الأمور من عندنا ! فلماذا نختلقها؟ ذكرت لكم السبب! السبب في ذلك أنّنا ظاهريّون، وأنّنا من أهل الظاهر.. السبب أننا من أتباع المذهب الماديّ، ولكن غاية الأمر أنّنا لا نسمّي ذلك مذهباً ماديّاً.. إنّ هذا ليس إلاّ مذهباً ماديّاً قد اتّخذ لونا ورائحة من "صبغة الله".. هذا هو الأمر ليس إلاّ.. فالمعيار والملاك الذي نلتزم به واحد ولكنّه اتّخذ في الظاهر لوناً ورائحةً إسلاميّة، ولوناً ورائحة من اتّباع التشيّع.
و من هنا فإنّ الحقّ في المسألة هو هذا: إنّ كلّ ما لدينا وكلّ ما هو موجود هو محوريّة الولاية في جميع الشؤون والأطوار وفي كلّ الموارد، فكلّ شخص التزم بهذا الأمر فقد فاز، وأمّا من توقّف واعترض، وقال: بمَ؟ ولمَ؟، ووقف في وجه هذه المسألة.. فقد خسر.. خسر!! لأنّه قد قدّم سليقته وأنانيّته واستقلاله في مقابل سليقة وإرادة وهويّة الإمام المعصوم عليه السلام.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.