المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالحلم والعلاقات الاجتماعية
التوضيح
في هذه المحاضرة يبيّن سماحة السيد أن التعلّقات النفسانيّة تظهر عند تهيؤ الأرضية المناسبة.. ومن هذه التعلّقات تعلّق النفس بالمال، و التعلّق بالعلم والاحساس بالفخر والتكبّر، والتعلّق بالمنصب والجاه ..وبيّن أن حقيقة السلوك هو في التخلّص من هذه التعلّقات والتحرك نحو التجرّد كما كان أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا يتغيّر حاله ولا يتبدّل كلامه لا قبل الحكومة ولا بعدها.. وكما هو حال العلماء بالله الأمناء على حلال الله وحرامه الذين تركوا كل التعلّقات وتحقّقوا بحقيقة العبودية لله تعالى.. وأن كل من كان أميناً طاهراً مستقيماً فسيحشر مع علي عليه السلام وإن كان ظاهره في الدنيا خلاف ذلك..
هو العليم
تجرد النفس من التعلقات النفسانية
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٣٦
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
"وأمّا اللَوَاتي في الحِلْمِ، فَمَنْ قالَ لكَ: إنْ قُلتَ واحدةً سَمِعْتَ عَشْرًا، فَقُل: إنْ قُلتَ عَشْرًا لم تَسْمَع واحدةً؛ وَمَن شَتَمَك فَقُل لَهُ: إنْ كُنتَ صادقًا فِيما تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللهَ أن يَغفِرَ لي، وإنْ كُنتَ كاذبًا فيما تَقُول فاللهَ أَسْأَلُ أن يَغْفِرَ لَكَ؛ وَمَن وَعَدَكَ بِالخَنَا فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ والرَّعَاءِ".
ظهور التعلّقات النفسانيّة عند تهيؤ الأرضية المناسبة:
لقد بيّنا للرفقاء بعض المسائل حول هذه الفقرات، وقد وصل بنا الكلام إلى أنّ جميع هذه الأمور التي تفضّل بها الإمام عليه السلام أنّه من قال لك كلامًا فلا تردّ عليه، ومن قال لك: أنا خير منك. فقل له: هنيئًا لك. ـ طبعًا ما أعرضه مصاديق لكلمات الامام ـ وإن قال لك شخص: أنا متقدّم عليك. فقل له: لا معنى للتقدم والتأخر هنا، فمن المتقدّم؟ ومن المتأخر؟ وهكذا لو أن شخصًا قال لك: أنا متفوق عليك وكذا وكذا.. لقد بيّنا بأنّ جميع هذه الأمور ترجع إلى النفس، هذه النفس التي يقول عنها مولانا:
نفست اژدرهاست او کی مرده اس | *** | از غم و بی آلتی افسرده است) ۱ ( |
[أي: إن نفسك ثعبان لم يمت أبدًا، غاية الأمر أنّه حزين مقيّد لنقص الأدوات والآلات]
فإنها لم تجد الأرضية المناسبة لكي تكشف عن حالها، وتبيّن عن حقيقتها.
يُقال بأنّ عبد الملك بن مروان كان ملازمًا للمسجد، وكان يُسمى بـ "حليف البيت" و "حليف القرآن" و "حليف المسجد" فقد كان ملازمًا للمسجد يقرأ فيه القرآن. جاؤوا إليه وقالوا له: لقد توفي الخليفة، وعليك أن تأتي لكي تجلس في مكانه. فكانت أول كلمة قالها، وقد كان صادقًا فيها: هذا فراقٌ بيني وبينك. وكان الأمر واقعًا كذلك. فلم تكن الأرضيّة مهيّئة له؛ لذا ذهب إلى المسجد وانشغل بقراءة القرآن؛ ولكن عندما وصلت الحكومة إليه فإنّه لم يفتح القرآن حتى آخر أيام حكومته، فهذا ما يسمى بـ"عدم تهيؤ الأرضية المناسبة لأجل إظهار النفس" وكلّنا مبتلَون بذلك!
ما هي تلك الأرضية المناسبة التي جعلها الله كوسائط للبشر حتى تُظهر [تعلّقات نفوسهم]؟
يقول مولانا:
بد گهر را علم و فن آموختن | *** | دادن تیغ است دست راهزن |
تیغ دادن در کف زنگى مست | *** | به که آید علم ناكس را به دست |
علم ومال ومنصب وجاه وقران | *** | فتنه آرد در کف بد گوهران) ۱ ( |
چون قلم در دست غداری فتاد | *** | لاجرم منصور بر داری فتاد) ٢ ( |
[أي: إن تعليم العلوم و الفنون للخبيث اللئيم كإعطاء الخنجر لقطاع الطريق.
بل إن إعطاء الخنجر لزنجي سكران أفضل من أن يحصل ذلك الوضيع على العلم.
فالعلم و المال ـ هذه هي الوسائط التي بواسطتها تظهر النفس وتبرز ـ و المنصب و الجاه والحظ الجيّد هي أسباب للفتنة إن وقعت في يد اللئام.
ولمّا صار القلم بيد أهل الغدر و الخيانة، فلا جرم أنّ المنصور [الحلاج] قد صار على المشنقة]
تعلّق النفس بالمال:
إن الناس متعلّقون بهذه الأمور في هذه الدنيا، فالشخص صاحب المال والثروة عندما يريد أن يدخل مجلسًا ما تراه يدخل المجلس بطريقة مختلفة سواء أراد ذلك أم لم يرده.
فلتعلموا يا رفاق بأن الشيطان لا يترك أحدًا مهما كان ذلك الشخص، ولديه وسائل متعدّدة وحبائل مختلفة، ولديه لكلّ شخص حبله ووسيلته الخاصّة به، فلا يسحب شخصين بكيفيّة واحدة، فتراه يغوص في أعماق الزوايا الوجوديّة للشخص بدقّة متناهية حتى يعرف من أين يأتيه.
فعلى سبيل المثال عندما يريدون أن يأخذوا صورة للعظم بواسطة جهاز تصوير العظام، فإنهم يحقنون الجسم بمادة تعطي ردّة فعل، فتملأ جميع الجسد، بجميع ثقوبه وتعرّجاته فتسري في الجسم، وتستوطن فيه بشكل كامل، ثم بعد ساعتين يقولون لك: نعم الآن تعال لأخذ الأشعة. فحينئذ يقوم الجهاز بالتقاط أماكن تواجد هذه المادّة بجميع أماكنها، وقد سرت هذه المادّة في كلّ الزوايا.
أو على سبيل المثال الجهاز الآخر والذي هو أدقّ من الأول المسمى بـ "bet scan" فإنه يسري في طيّات العظم، وفي طيات نخاع العظم، وفي طيات الشعيرات، والخلايا، وعندما يملأ جميع البدن يصير الجهاز قادرًا على إظهار النقاط المصابة والنقاط الضعيفة، فيُعلم بأنّ هذه النقاط فيها مشكلة.
إنّ عمل الشيطان أدقّ من هذه المادة الإشعاعية النشطة"radioactive" ، فانظر ما الذي يقوم به، فإنّه لا يسري في جميع البدن وحسب؛ بل يسري في جميع زوايا الرّوح والنفس، بحيث إنّ الإنسان ليشعر بالحيرة والدهشة من هذا المخلوق وقدرته التي أعطاه الله إياها، ما هذه القدرة التي أعطاه الله إياها؟! إنه يقوم بالغوص بين ألف طبقة ويفتش فيها ويحرّكها يمنة ويسرة فيرى في نهاية المطاف أنّ هناك مشكلة في مكان ما فيقوم بالنّفوذ من هناك.
فشخص مشكلته مع المال، فبمجرّد أن زادت أملاكه قطعة أو قطعتين، أو مترًا أو مترين، فإنّه عندما يدخل إلى مكان ترى سلامه وكيفيّة سؤاله عن أحوال الشخص الآخر قد تغيّرت عن كيفيّة سؤاله في السنة الماضية عندما لم يكن يملك ذلك، فيسأل عن الحال بطريقة مختلفة ويسلّم بطريقة مختلفة، وطريقة الجواب التي يتوقّعها قد اختلفت، فعندما يسلّم يتوقع أنّ الطرف المقابل سيظهر اهتمامه به. لماذا لم تتوقّع ذلك سابقًا؟ إنّ ذلك بسبب بضعة الأمتار تلك التي حزتها، فواقعًا هذه المبادرة بجواب السلام بهذا الشكل ليست لأجل السلام عليه؛ بل لأجل أمواله التي أضيفت له في البنك، فهو يسلّم على تلك الأموال، فتراه يقول للشخص: كيف حالك، إن شاء الله لست مريضًا؟ أبعده الله عنك، إن شاء الله لستم محتاجين إلى شيء؟
هل التفتم كيف أنّه لا يسلّم عليه، بل هو يسلّم على تلك الأمتار التي عنده ويبدي إخلاصه ومحبّتة لها وليس له، ولكن هذا ... لا يفهم!! إنّه يظن أنّ هذا جواباً لسلامه؛ ولكنّه لو تأمل داخل نفسه أكثر، وأعمل عقله متأمّلًا بشكل أحسن لفهم أنّ هذا كلّه خدعة، هل التفتّم؟
فالرجل الذكيّ لا يخدع هنا، فما هي قيمة المال؟! إنهما ليسا إلا مترين أضيفا إلى ملكه! أو أضيف طابق إلى منزله.. فتراه لا يستطيع أن ينظر إلى ما تحت قدميه [تكبّرًا]، أو أنّ صفرًا قد أضيف إلى أمواله. لماذا ؟ لأنه قد أضاع نفسه فصار ينظر إلى نفسه، ولأنّه صار يلاحظ نفسه فعندما يقيسها بالآخرين يرى نفسه أفضل منهم؛ ولكن هذه النّفس ليست هو بل إنّها أشياء زائدة عليه، فهذه الأشياء الزائدة يتوهّم أنها نفسه من خلال عالم التوهّم والتخيّل؛ ولكن إذا كان ينظر إلى نفسه بشكل آخر فلا ينسب هذه الزوائد إلى نفسه، فلو أضيف إلى أمواله ليس مجرّد أربعة أمتار؛ بل أربعمائة ألف متر فلن يتغيّر عنده شيء، ولو أضيف إلى أمواله مكان الصفر عشرة أصفار فلن يتغيّر، لماذا؟ لأنه يرى نفسه على واقعيّتها وعندما ينظر إلى نفسه كما هي وعلى واقعيّتها فسيرى نفسه صفرًا، ليس لديه شيء بل هو فقر محض واحتياج محض، وكلّ شيء هو(أي الله) فهو مالك الملك، وهو رزّاق الخلائق، وهو المعطي، وهو الآخذ.. الإحياء منه والإماتة منه، وكلّ شيء منه، فإذا وصل الحال بالإنسان أن يرى نفسه هكذا فما هو التفاوت عنده سواء أكانت أمواله مليونًا أو مائة مليار؟! لن يكون هناك أي تفاوت لديه، وهنا لن يفرق الحال بالنسبة إليه؛ لهذا نرى أنّ الأولياء لا يفرق الحال لديهم، وهم ليسوا كبقيّة الناس الذين يقاس مقدار قربهم وبعدهم بحسب تعلّقهم بتلك الزوائد والأمور الدنيويّة، فلو كانت هذه الدنيا وهذه الأمور موجبةً لتعلّق الشخص، فلن يكون هذا الشخص عندها وليًّا، بل هو إنسان عاديّ، وإنّما يُقال وليٌّ لذلك الذي قد تجاوز نفسه وعبر عنها. وأمّا أن تكون تعلقاته كتعلقات الآخرين فهذا لم يتجاوز نفسه، ولا فرق حينئذٍ بينه وبين غيره، فما نجعله مقياسًا لقرب الأشخاص وبعدهم من مدى تعلقهم بالدنيا، ومدى بعدهم عنها، ومدى التفاتهم إليها لا معنى له عند الأولياء، وهو كلام باطل؛ نعم، هذا المقياس يصلح لنا نحن، فهل نربط هذه الزوائد بأنفسنا، وبالتالي نترفّع بها، ونتكبّر بواسطتها؟ أو أنّنا لا نراها جزءًا من أنفسنا، بل مغايرة لنا؟ فنكون مثل ذلك الوكيل العامل كموظّف في البنك، فموظّف البنك لا علاقة له بما يجري في البنك، بل يقوم بوظيفته ويذهب! أو مثل أيّ موظّف في أيّ دكّان أو مكتب أو أيّ مكان آخر، إذ لا دخل له بما يجري، بل يعمل ويأخذ راتبه آخر الشهر ويمضي! كلّ ما عليه هو أن يقوم بعمله ويفعل الأمور المطلوبة منه فقط، ولا علاقة له بصاحب العمل الذي يعمل عنده؛ كم أضيف إلى ماله وكم نقص منه! فإن ابتلي صاحب العمل بأمر فلا علاقة له بل يجلس ويضحك..
تذكّرت قصّة حدثت مع أحد الأشخاص، رحمة الله عليه، وربما لا يزال على قيد الحياة لا أدري، وعلى كلّ حال رحمة الله عليه؛ فالإنسان لا ينبغي أن يترحّم فقط على الأموات، بل على الأحياء أيضاً، والحاصل أنّ ذاك الشخص كان من أصدقاء المرحوم الوالد السابقين وكان لديه دكّان في السوق لبيع البلاستيك وأمثال ذلك، فأخبروه بأنّ دكّانه قد التهمته النيران، فما كان منه إلا أن سقط أرضًا في مكانه وبدأ الدم يتدفّق منه بسبب تمزّق في الشرايين، لا أعرف أيّ شريان تمزّق؛ والحاصل أنّهم نقلوه إلى أن تحسّن وضعه.. وكان لديه طفل قد ذهب إلى السوق وبدأ ينظر إلى الحريق حيث بدأوا بإطفائه؛ الرجل كان يلطم رأسه، في حين أنّ ولده كان يضحك وهو ينظر إلى ألسنة اللهب ترتفع.. لماذا؟ لأنّ الطفل لا نفس له! فقط كان يأنس برؤية ألسنة اللهب مرتفعة، وكلّما شاهدها ترتفع أكثر كلّما زاد سروره، دون أن يشعر بما حلّ بوالده، بل كان ينظر ويأنس بذلك المنظر.. فهذا كان يأنس وذاك يلطم رأسه. يا عزيزي! تعال أنت وافعل مثل هذا الطفل واضحك مثله؛ إذ لا يصلح الأمر بالضرب على الرأس واللطم على الوجه! فلو كان هذا يصلح الأمر فاضرب حتى يصلح.. وإذا كان الأمر لا يصلح بالضرب فلماذا تهلك نفسك بذلك! بل اضحك مثل هذا الطفل. لماذا عليك أن تضحك؟! لأنّ الدكّان خارج عن وجودك! والأموال خارجة عن ذاتك! فلماذا قمت بإلصاق أموالك بك حتى كدت أن تصاب بسكتة بسببها! فهل أجبرك أحد على ذلك؟! لكن الطفل بما أنّه خارج عن هذا الفضاء وهذا المجال وخارج عن هذه الأوضاع، وبما أنّه لا نفس له، ولا يرى إلا الله فقط.. فهذا طفل والأطفال بريئون! بما أنّه كذلك، يتساءل لماذا يفعل أبي هكذا بنفسه؟! لماذا تغيّر لونه! ولماذا حصل به ذلك، ولماذا ابتلي بهذا الأمر؟! فما الذي حصل حتى يفعل ذلك؟! إذ ما حصل جميل في الواقع؛ فمنظر اللهب والحريق منظر جميل، فعلينا أن نصوّر المشهد ونأنس به!
هنا يوجد نظرتان؛ إحداهما عدم التعلّق وهي نظرة الطفل، والأخرى هي نظرة التعلّق التي لدى الأب؛ إذ يرى أنّ ماله قد ذهب ورأسماله قد احترق! يا عزيزي، إن كان مالك قد ذهب فليذهب، فهل كان لديك رأسمال قبل ذلك، فأنت لم تأت إلى هذه الدنيا وتخرج من بطن أمّك بهذه الأموال! لا بل لم تكن تمتلك حتى قرشًا واحدًا! لكن شيئًا فشيئًا وبمساعدة هذا وذاك والعمل هنا وهناك حصل لك من ذاك العمل والتحرّك وهذه الأمور هذا التغيّر والتبدّل في نفسك! فأيّ تغيير حصل لك؟! عندما لم تكن تمتلك شيئًا كنت مثل هذا الطفل! فلو كنت تعمل عند شخص واحترق محلّه، فسوف يضرب هو رأسه بدلًا منك، لأنّك موظّف عنده لا شأن لك بذلك، ولكنت تضحك في نفسك وتقول كم هو جميل هذا المنظر! فصاحب الدكّان هو الذي يقوم بهذا التلاطم والأخذ والردّ والاضطراب في قلبه، فهو الذي يلطم. لماذا كان الأمر كذلك؟ لأنّك عامل عنده، فأقصى ما هناك أنّه سيقول لك لن أعطيك راتبك هذا الشهر! لا يوجد شيء آخر بالنسبة إليك.
السلوك هو التخلّص من التعلّقات:
الإنسان ينبغي أن يكون كذلك إلى الآخر؛ ينبغي أن يكون هكذا ويتقدّم إلى الأمام! نعم عدم الاكتراث أصلًا غير صحيح؛ إذ على الإنسان أن يقوم في كلّ ظرف بتكليفه المتناسب مع ذلك الظرف ويقوم بالإجراء المناسب، لكن عليه أن لا يربط الأمور بنفسه، فربط الأمور خطأ، ولصق القضايا بنفسه هو الخطأ. على الإنسان أن لا يلصق متعلّقاته الدنيا بنفسه وإلا فسوف يُبتلى بها، وسيرى أنّها معه دائمًا، ولن تدعه يتحرّك ولن تدعه يخطو خطوة إلى الأمام! لماذا؟ لأنّ السلوك هو التخلّص من التعلّقات، والحركة نحو التجرّد. ولكنّ هذا يأخذ هذه التعلّقات معه، فهو يصلّي صلاة الليل مع هذه التعلّقات، ويذكر الله مع هذه التعلّقات، يشارك بعزاء سيّد الشهداء مع هذه التعلّقات، ويذهب إلى المساجد وغيرها مع هذه التعلّقات، يحضر المجالس مع هذه التعلّقات.. هذه التعلّقات معه دائمًا، وهذا لن يجعله يتحرّك ويتقدّم نحو الأمام! لذا فالذين لديهم أموال، والذين يشعرون بأنّ لهم موقعيّة، عليهم أن يعرفوا بأنّ هذه الأمور زوائد لصقناها بأنفسنا، وجعلناها مميّزًا بيننا وبين أقراننا.
العلم من جملة التعلّقات النفسانيّة:
ومن جملة هذه التعلّقات العلم..
علم ومال ومنصب وجاه وقران | *** | فتنه آرد در كسى بد گوهران |
[أي: فالعلم و المال و المنصب و الجاه هي أسباب للفتنة إن وقعت في أيدي سيئي الجوهر والحقيقة]
فالمراد من قوله: سيء الجوهر هو الشخص الذي تكون ذاته مخالفة لحقيقة الوجود والفطرة التي خلقها الله، والشكل الذي تشكلت عليه.
فمن يكون لديه علم ويستفيد منه بشكل خاطئ، ويرى نفسه أفضل من الآخرين بهذا العلم؛ مهما كان هذا العلم؛ سواء أكان من علوم الشريعة أم علوم غير الشريعة من سائر العلوم.. فجميعها من الأمور الموجبة للفتنة، وتسبب الابتلاء للإنسان. وبحسب قول المرحوم العلامة يوجب نفس العلم نوعًا من التفاخر للإنسان، بحيث يرى نفسه أفضل من الآخرين! يجعل نفسه مغايرًا لهم.
لذا تعتبر هذه المسألة مهمّة جدًا، ففي مسألة العلم ينبغي أن يهتمّ الإنسان حتى لا يُبتلى بهذه المسائل والفتن. فينبغي أن نرى العلم من الله ومن عطائه، ولو لم تكن إرادته لما حصل العلم للإنسان، وإلا فسوف يكون هذا العلم سدًّا في طريقه، ولا يدع الإنسان يتحرّك ويتقدّم نحو التجرّد، ولا يدع حقيقة العلم تلك ـ وهي الجهة الربطيّة بعناية الله تعالى ـ تشتعل في قلبه، بل تذهب تلك الحقيقة جانبًا؛ لأنّ نفسه لا تزال ملوّثة.
هذا كلّه من إرشادات الإمام الصادق عليه السلام، فعندما يعلّمنا الإمام بأنّه: "من قال لك: إن قلتَ واحدةً سمعت عشرًا فقل له: إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة"، ماذا يعني ذلك، يعني أنّك تقول له: جميع ما تقوله نابع من نفسك! جميع هذه الأمور ناشئة من خباثة ذاتك، فأنت لم تعمل على تربية نفسك، بل قمت بقراءة هذه الكتب فقط، لكنّك لم تعمل على إصلاح ذاتك، بل أتيت إلى هذا المجلس وجلست وبدأت بالتعليم انطلاقًا من نفسك السيّئة؛ تعلّم نفسك وتلاميذك المساكين، فعلى هذا الأساس تحرّكت، ولم تعمل على فهم حقيقة تلك المطالب، بل عملت على تعلّم هذه العلوم للترفّع على الآخرين، ولتقول: فهمي هو هذا، وإدراكي كذا، وأنا أدرّس هذا الدرس الآن، ولديّ هؤلاء الطلّاب، وأنا صرت كذا، ولا يمكن لأحدٍ أن يتكلّم معي أو يُشكل عليّ! وعندما يُشكل عليه أحد، فبدلًا من النظر في هذا الإشكال هل هو صحيح أم لا ـ إذ قد يكون الإشكال صحيحًا أو خطأ ـ يقوم بالردّ على هذا الإشكال ونسفه ليُبقي نفسه في موقعيّة الشخص الأحسن والأفضل.
هذا العلم يصير في يد الإنسان سيّء النفس، في يد الشخص السيّء؛ فهو لا يعمل على حلّ الإشكال، بل يعمل على إبطال الإشكال المتوجّه إليه ونسفه، والحال أنّ الإشكال متوجّه إليه! يا عزيزي قل إنّ الإشكال متوجّه إليّ! نعم وإن شاء الله أُصْلحه.. لا بل كلّ همّه هو الذهاب إلى هنا وهناك ويسعى لإخفاء الأخطاء والأمور بالمغالطات، والشِّجار، والأمور التي لا دخل لها بالحديث لكي لا يتوجّه إليه الإشكال! ما هذا؟! هذا أحد الأسباب والأدوات الموجودة لديه والتي يستفاد منها كثيرًا!
وهنا نرى أنّ هناك مهمّة كبيرة على عاتق العلماء، وهم الذين يريدون أن يبلّغوا دين النبيّ وشريعته، فعليهم أن يحذروا من أن يصيروا مبتلين بهذه الآفات وهذه المشاكل لا قدّر الله، ولا مفرّ من ذلك إلا بالالتجاء إلى الله. وهذا الأمر عجيب جدًّا! إذ كيف للإنسان أن يكون كلامه بشكل واحد دائمًا! دائمًا يتكلّم بلحن واحد ونمط واحد! عندما لا يكون له موقعيّة وينصح الناس تراه يتكلّم بلحن، لكنّه عندما يصل إلى موقع معيّن أو يصل إلى جاهٍ ترى لحن كلامه يتغيّر؛ يصير عابسًا، وطريقة كلامه لم يكن فيها كلمات أمثال "يجب ويلزم"، أما الآن فترى كلامه مليئًا بهذه العبارات. لماذا ذلك؟ إذ أنت لم تختلف، بل موقعك الذي اختلف؟ ذلك بسبب أنّ علمك حصلت عليه من الطريق الخطأ!
العلماء بالله هم الأمناء على حلال الله وحرامه:
الإمام الصادق عليه السلام يقول في حديث عجيب جدًّا: "مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه")۱(، يعني أولئك العلماء بذات الله، لم يقل العلماء بأحكام الله، أو العلماء بتكاليف الله، أو العلماء بدين الله، بل قال العلماء بالله؛ يعني العلماء بذات الله ولديهم معرفة بذات الباري وبالربوبيّة، وصلوا إلى المعرفة التوحيديّة. هؤلاء العلماء بالله من هم؟ هم الأمناء على حلاله وحرامه، يعني إن ذلك الحلال والحرام الذي تشرّف بالصدور من الجانب الربوبي وتنزّل منه يتلقونه كما هو، ثم يقومون بإلقاء تلك الأحكام على الناس بدون أيّ تصرّف بها أو تحريف، وبدون إضافة أو إنقاص فيها، وبدون إعمال المصالح الدنيويّة القائمة على أساس الأهواء وعلى أساس السلائق الشخصيّة.
عندما يتعامل الإنسان مع هؤلاء يرى أنّ نفسه ساكنة ومطمئنّة، ويعلم أنّه لا يوجد أمر آخر، وكأنّه ذهب إلى الإمام نفسه! فالإمام عليه السلام لديه نفس معصومة، وهو يعني أنّه لا نفس له، الإمام ليس لديه نفس دنيويّة، بل صارت نفسه نفسًا ربوبيّة، فقد تجاوزت نفسه مرحلة الخطأ، وخرجت من مرحلة العناد، وخرجت من مرحلة التفاخر، وصارت مجرّد نفس مرتبطة بالبدن للحفاظ عليه عدّة أيام فقط ثم تنتقل عنه، لا يوجد غير ذلك. أما نحن فنفسنا عندما تتعلّق ببدننا تتعلّق بالدنيا وبالزوائد وبالحشو، وتتعلّق بالأمور التي لا علاقة لنا بها؛ فتأتي إلى الأمور الخارجة عن وجودنا وتنسبها إلينا، وتعتبرها متوليّة علينا، هذه النفس لا يمكن أن نطلق عليها بأنّها نفس أمينة، لذا نراها تتكلّم بنحوين من الكلام أو أكثر؛ فاليوم تتكلّم بكلام، وغدًا بكلام آخر وبعده بكلام مغاير، كلّ يوم تتكلّم بكلام مختلف طبقًا للمصالح والمقتضيات.
أحد علماء قزوين وهو الشيخ محمّد صالح الورقاني، ويطلق عليه لقب الشهيد الثالث؛ حيث قتله البهائيون، وكان في زمانه من العلماء المعروفين، وكان يصلّي صلاة الجمعة، وكان هناك شخص يخالفه في صلاة الجمعة ويرى أنّها حرام في عصر الغيبة، ويحذّر الناس من المشاركة في صلاة الجمعة، ويقول بأنّها مختصّة بزمن الإمام عليه السلام.. لكن ذاك الشيخ كان يصلّي صلاة الجمعة دون اكتراث. وبعد مدّة عرض له سفر إلى طهران لإنجاز بعض الأعمال، ولم يستطع أن يعود يوم الجمعة ليصلي في قزوين، فاغتنم الشيخ الآخر فرصة غيابه وصلّى مكانه.. فتساءل الناس ماذا جرى؟ فقال لقد غيّرت رأيي في هذه المسألة! وبعد رجوع الشيخ الأول لم يفسح له المجال ليعود للصلاة، بل بقي هو المتولّي لهذا المنصب واستمر على ذلك. وكان الشيخ [الورقاني] يقول: لم أرَ في حياتي أنّه يمكن أن يتغيّر حكم من أحكام الله بمجرّد سفر إلى طهران. لم نقرأ مثل هذا الأمر في الكتب، أن يحصل تغيّر في حكم الله بمجرّد الذهاب إلى طهران! أليس ذلك عجيبًا!
فأين وصف الأمين على حلال الله وحرامه؟! وكيف يمكن للإنسان أن يعتمد على هذا الشخص؟! وكيف يمكنه أن يركن إليه ويسكن؟! كيف يمكن أن يأمن على المطالب والمسائل التي يقولها؟! لا يمكن للإنسان أن يعتمد عليه.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام على شكل واحد، فالنسق الذي كان يتعامل به أمير المؤمنين في زمن رسول الله ـ حيث كان مأنوسًا برسول الله ـ والكلام الذي كان يتكلّم به، هو بعينه التعامل الذي كان يتعامل به عندما فتح خيبر، وكذا عندما قتل عمرو بن عبد ودّ، وكذا عندما كان يقاتل في معركة أحد ومعركة بدر، وكذا في سائر الغزوات، وكذا عندما كان يأتي إلى منزله.. كان كلامه واحدًا وتعامله مع النّاس واحدًا؛ كان يسلّم على الجميع ويكلّم الجميع ويمازح الجميع ـ حيث كان الإمام مزّاحًا ـ كان في جميع هذه الحالات على نسق واحد. لم يختلف حاله بعدما قتل مرحب الخيبري عمّا كان قبل قتله، لماذا؟ لأنّه كان يرى أنّ هذه القضيّة هي من الله لا من نفسه! قتل مرحب وطرحه أرضًا، لكنّه لم ير ذلك منه، بل من الله! لم يتغيّر سلك اتصاله بالله، ولم يتبدّل مقدار هذا الارتباط، بل بقي كما كان! لذا عندما كان يعود كان يمزح مع الناس ويجلس إليهم وكأنّ شيئًا لم يكن. أما الآن فإذا فعل شخص أمرًا لا يمكنك أن تكلّمه، مع أنّ قلع باب خيبر لم يكن ممكنًا! وبعد زمن رسول الله والأحداث التي جرت بعده والفجائع التي حصلت، نرى أنّ كلامه بقي كما كان دون أن يتغيّر! ثم بعد مضيّ خمس وعشرين سنة جاؤوا إليه وقالوا لا بدّ أن تتولّى الخلافة! وهو يعتذر منهم، وهم يقولون لقد فهمنا في هذه الخمس وعشرين سنة ما الذي ينبغي، وما الذي جرى عليك.. ما شاء الله لقد كنتم جميعكم حاضرين في غدير خم وسمعتم كلام النبيّ لي، والآن أتيتم إليّ لتولّي الخلافة؟! أنا لا أصلح لكم! اذهبوا.
لا! بل لا بدّ من التولّي! حيث كانوا قد قتلوا الخليفة الثالث.
وفي النهاية أتوا وبايعوا الإمام عليه السلام، وبعد أن بايعوه نرى أنّه بقي يتحدّث بذاك النمط الذي كان يتحدّث به!
عندما كان في حرب الجمل، وكان الجميع ينتظر القائد، كان الإمام جالسًا يصلح نعله.. دون أن يكترث لشيء، فقال له ابن عباس: يا عليّ هل هذا الوقت هو وقت النعل؟! فقال له متى وقته إذن؟! أتريد أن تُجرح قدمي أو يصيبها الشوك والحصى؟! لقد مُزّق نعلي وعليّ أن أصلحه! وبقي مشغولاً بعمله، وقال له سأصلحه وآتيكم.. لم يكن عليّ في هذا العالم، ولم يكن في هذا العسكر، لا يهمّه هذه الصفوف والجنود والفرسان و.. لم يكن في هذا الوادي أساسًا! لذا قال له دعني أصلح نعلي حتى لا تصاب قدمي أو تُجرح.. كان كلامه على نسق واحد وتصرّفه واحد؛ ففي زمن رسول الله، وفي المدّة التي كان فيها حبيس المنزل، في المدّة التي كان معتزلًا وفي المدّة التي كان فيها متصدّيًا للحكومة كان على نسق واحد! هذا هو الأمين على الحلال والحرام، هذا هو الأمين، نعم هذا هو الذي إذا ذهب إليه الإنسان يشعر بحالة من السكون والاطمئنان والأمان، ويشعر براحة لديه، ويرى بأنّ كل ما يحتاجه هنا، هذا المقام هو مقام العصمة، وجميع ما يحتاج إليه فهو هنا. لذا يقول العظماء أنّه لا فرق لديهم ما هو العمل الذي يقومون به.
عندما كنّا في طهران، وقبل أن تُقام صلاة الجمعة في جامعة طهران، كانت تقام في مسجد "شاه طهران" والذي بدّل اسمه بعد ذلك إلى مسجد "إمام" وكان يقيمها أحد السّادة من طهران، وكان المرحوم العلّامة يشارك في هذه الصلاة، وكنت أذهب معه، ثمّ نُقلت الصلاة إلى الجامعة.. حتّى أنّي أذكر أنّه كان يريد أن يستمرّ فيها، فاتّصل بالمرحوم العلّامة ودخلت أثناء حديثه معه إلى الغرفة لآخذ شيئًا إلى غرفته ـ ماء أو شاي لا أذكر بالدقّة ـ وكان يتحدّث إلى هذا الشخص، وقد انتقل إلى رحمة الله، وقال له: بما أنّ صلاة الجمعة صارت تقام في الجامعة، فلا يليق بكم أن تصلّوا صلاة جمعة أخرى في طهران، فالأفضل أن تتركوا الصلاة في المسجد وتشاركوا في الصلاة في الجامعة.. وكنت أسمعه ينصحه بذلك. والحاصل أنّنا أثناء ذهابنا إلى المسجد [للمشاركة في صلاة الجمعة] ولم نكن قد وصلنا بعد إلى المسجد، ولم يكن يشارك في هذه الصلاة إلا شيخان.. فالتقينا بالشيخ الطالقاني، لا السيد محمود الطالقاني المعروف، بل كان شيخًا من أئمّة المساجد في طهران، فأتى وسلّم وقال: سلام عليكم سيّد محمد حسين، إلى أين ذاهبون؟! فقال له: ذاهبون إلى صلاة الجمعة. قال: أنت تذهب إلى صلاة الجمعة؟! فأجابه: نعم أنا ذاهب! قال: أنت أعلم منه! وأنا أشهد لك بأنّك الأعلم! فضحك العلامة ولم يقل شيئًا، بل قال: على كلّ حال نحن ذاهبون، في أمان الله! وبعد أن مشينا قال لي: سيد محمّد محسن يظنّ هذا الرجل بأنّه إذا كان الرجل أعلم فلا ينبغي أن يصلّي خلف غير الأعلم! فما علاقة هذا بذاك! حتى لو كان أعلم. وذاك سيّد يصلّي صلاة الجمعة، حيث كان يعتقد بوجوب صلاة الجمعة، وصلاة الجمعة تقام في هذا المسجد، فلا حاجة للأعلم وغير الأعلم.. انظروا كم يختلف الفهم والإدراك، بدلًا من ذلك أنت أيضًا تعال وشارك في هذه الهيبة والأبهة والجلال الموجودة في صلاة الجمعة، التي هي إحدى الشعائر الهامّة، حتى يقال فلان أيضًا أتى وشارك! وعندما كنّا نذهب للمشاركة لم نكن نرى أحدًا مشهورًا هناك، بل كان من المعمّمين المرحوم العلامة وأنا، وربما كان هناك معمّمان آخران أيضًا لكن غير معروفين، ولم يكن يحصل ازدحام، فكان الحضور من سائر الناس العاديين. وكان الناس يتعجّبون من أنّ هذا الشخص يأتي ويشارك مع المصلّين في صلاة الجمعة ويعود إلى منزله! من هذا الفعل يُعلم بأنّ هذا الرجل قد تجاوز نفسه، وهذا لا علاقة له بالأعلميّة؛ بأنّ هذا أعلم أو ذاك أعلم! بل المهم هو العمل بالتكليف، وهو يقوم بتكليفه الآن الذي هو صلاة الجمعة، ولا يلتفت إلى سائر الأمور!
هذه المطالب والقضايا [مهمة] إن أردنا أن نفهم كلام الإمام الصادق عليه السلام..
طبعاً كنت أريد أن أذكر أمورًا أخرى للإخوة، لكن تمّ الكلام عن بعضها فقط، ونترك إكمالها لجلسات أخرى .. الإمام عليه السلام يرشدنا إلى هذه النُكتة؛ وهي أنه ينبغي على جميع الأشخاص في كلّ فنّ وفي كلّ أمر؛ على سبيل المثال الأطباء في عملهم، فإذا اشتبه طبيب في مكان ما لا ينبغي أن يتمسك بكلامه ولا يتراجع عنه..
قال لي أحد أصدقائنا ـ الدكتور سجادي حفظه الله ـ يومًا: كنت أتحدّث إلى تلاميذي في المستشفى، فاشتبه أحد الأشخاص في أمر ـ وكان من تلاميذه ـ لكنّه أصرّ على أنّ كلامه هو الصحيح، والحال أنّ كلامه كان خطأ؛ لكنّه كان يقول بأني محقّ! إلى أن قام سائر أصدقائه بمعاتبته: لماذا تصرّ بهذا الشكل على كلامك أمام الدكتور؟! قال: لا بل المسألة هي كذا وكذا. هذا ابتلاء! وعلى الإنسان أن يتخلّص من ذلك ويقول لقد أخطأت! وعلى الإنسان أن يمرّن نفسه على ذلك.
وكذا سائر الموارد؛ فالمهندس ينبغي أن يكون كذلك في مجاله؛ يعني عليه أن يجعل هدفه ومقصده هي جهة العبوديّة ويجعلها نصب عينيه، وإذا أخطأ في أمر فعليه أن يتقبّل ذلك، لا أن يصرّ عليه ويبني على أساس هذا الخطأ، وإلا فأيّ مفاسدٍ سيسبّبها جرّاء عمله هذا.
وكذا العالم الديني، وكذا سائر الأشخاص.. عليهم أن يراعوا هذه المسألة في جميع القضايا، ومن المهم جدًّا أن يكون الإنسان في مقام كشف الحقيقة دائمًا، لا في مقام إثبات نفسه! إذ عندما يتّخذ الإنسان في مسألة معيّنة موقفًا خاصًا، لا يعود ينظر إلى ما قاله هذا الشخص المقابل؛ بل يبحث فقط عن نقاط الضعف في كلامه، ثم يأتي ويبرز هذه النقاط، ويعمل على إسقاط هذا الشخص بأيّ شكل من الأشكال ولو بالاتّهام أو تحريف كلامه، ولو بقلب المعاني والمفاهيم! فهذا يقول شيئًا وهو ينقل كلامه بشكل آخر.
منذ مدّة ذكرت بأنّ شخصًا قال لي: كان أحد الخطباء يشكل على أحد كتبي من على المنبر، وقال: "لقد ورد في الكتاب هذه الكلمة وهي خطأ"؛ والحال أنّ هذه الكلمة وردت في قائمة الكلمات الخطأ التي تمّ تصحيحها في آخر الكتاب، حيث ذكرنا أنّ هذه الكلمة خطأ والصحيح هو كذا؛ ولكن مع أنّه قرأ التصحيح، بقي يقول بأنّه يوجد خطأ! ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّنا نريد أن نشكل عليك بأيّ شكل من الأشكال، فحتى لو لم يكن هناك خطأ، نجعل لك خطأ! ما هذا المنبر؟! وما هذا التبليغ؟! وما هذه الوضعيّة؟! صاحب الكتاب بنفسه يقول لك: ورد التصحيح في آخر الكتاب، لكنّك مع ذلك تقول: ورد في الكتاب هذه الكلمة!
فهل يمكن أن يقال لهذا الشخص بأنّه أمين على الحلال والحرام؟! هل يمكن ذلك؟! فالشخص الذي لديه هذه الوضعيّة، أيّ فرق بينه وبين أولئك الذين أتوا بعد رحلة رسول الله وأنكروا جهارًا وعلنًا ما قاله رسول الله لأمير المؤمنين عليه السلام! ماذا يفرق عنهم؟ الفرق هو أنّ هذا حصل بعد ألف وأربعمائة سنة، الفرق هو في الزمان، لا فرق بينهما أبدًا!
عندما سأله الإمام ألم تسمع النبيّ في تلك الحادثة قال كذا وكذا؟ قال: يا عليّ لقد كبرت ونسيت! لماذا؟! لأنّ السلطة صارت بيد شخص آخر، وأمور الدنيا آلت إليهم! وقد جلسوا جانبًا ينظرون إليه حتى لا يقل شيئًا.. يشيرون عليه أن انتبه جيّدًا إلى كلامك حتى لا تقل شيئًا يؤيّد عليًّا.. لذا قال: لقد كبرت يا علي!
من كان طاهرًا مستقيمًا فهو من شيعة أمير المؤمنين:
لقد سمعت مرارًا من المرحوم العلامة رضوان الله عليه بأنّه في يوم القيامة يأتي الكثير من الأفراد من الملل والأديان المختلفة؛ من اليهود والنصارى؛ بل حتى منكري الله، بحسب الظاهر ولكنّهم من المستضعفين.. يأتون بهم ويجعلونهم من شيعة أمير المؤمنين، لأنّهم عندما كانوا في هذه الدنيا كانوا مستقيمين، ويعملون على طبق فطرتهم! يعملون بما تمليه عليهم فطرتهم، لا يخادعون ولا يكذبون، بل يقومون بأعمالهم ببراءة وإخلاص!
كان الله بعوننا من هذه النفس! إذ ترى أنّ الشخص بحسب الظاهر ليس على شيء، لكنّه في الواقع مستقيم، لا يكذب، طاهر.
الآن تذكّرت هذه المسألة، وإن كنت قد تعبت، لكن سأذكرها: كنت في سفر مع أحد الأصدقاء رحمة الله عليه، وذهبنا إلى مكان ما، وبعد الظهر أثناء رجوعنا التفتُّ إلى أنّي فقدت محفظتي، دون أن أعرف أين فقدتها، وكانت تحتوي على مبلغ معتدّ به من المال.. وكنّا خارج إيران، فقلت له: لقد أضعت محفظتي! فقال: عجيب! كم تحتوي من المال؟ فقلت: كذا! فقال: ألم تلتفت أين يمكن أن تكون وقعت منك؟ قلت: لا! قال: ماذا ستفعل؟ قلت له: لنرجع فقد ضاعت وانتهى الأمر! فقال: هكذا بهذه السهولة؟! قلت: فماذا أفعل إذن؟ فلنعد إلى المنزل! فقال: لا، أقلّها نذهب إلى مكان أو مكانين من الأماكن التي مررنا عليها اليوم. فرجعنا وسأل في المكان الذي تناولنا فيه الغداء، فقالوا له: لا، لم نر محفظة أصلًا! ثم ذهبنا إلى مكان ثانٍ، ثم ذهبنا إلى مكان آخر وكان فيه شابًا وفتاة، وكانا مسيحيين. فسألهما عن المحفظة، فقالا له: ما هي مشخّصاتها؟ قال: كذا!
فقالا: أجل، لقد رأيناها هنا.. اجلسا مكانكما. فاتّصلا بمكان معيّن حيث كان يُحتفظ هناك بالمحفظة، فجاء رجل، فذكرت له مواصفات المحفظة، فأعطاني إيّاها، فرأيت بأنّها لم تنقص، ولو دولارًا واحدًا؛ في حين أنّه كان بوسعهما أن يحتفظا بها لأنفسهما بكلّ سهولة، من دون أن يتمكّن أيّ أحد من متابعتهما، أو محاسبتهما. فشكرناهما كثيرًا، ثمّ إنّي من نفسي سحبت مائة دولار من جيبي، لكي أعطيها لهما، لكنّني مهما حاولت ذلك لم أفلح، حيث قالا لي: يا سيّدي، هذا دأبنا كلّ يوم. فما كان منّي إلاّ أن وضعتها بنفسي في جيب أحدهما، وقلت لهما: اتّفقا فيما بينكما، وتقاسماها فيما بينكما. هل التفتّم؟! فمع أنّهما كانا مسيحيّين، وحالهما بيّن [أنّهما غير ملتزمين]، لكن أيّ عنوان يُمكننا أن نُطلقه على عملهما هذا؟ هل بوسعنا أن نقول عنه إنّه معصية لأنّ ظاهرهما كان بذلك النحو، وأوضاعهما كانت بذلك الشكل؟! وهل يُمكننا القول إنّه لا فائدة من ذلك العمل لأنّه خداع كلّه؟! أين هو الخداع هنا؟! لقد كان بمقدورهما الاحتفاظ بالمحفظة، ولو كانت هذه الحادثة وقعت هنا، لما تركوا لنا عشرة دولارات! فقد كان بوسعهما الاحتفاظ بها بكلّ يسر وسهولة، لكنّهما جاءا وعملا بمقتضى فطرتهما وضميرهما وتكليفهما.. هل التفتّم؟!
هذا، مع أنّه حينما قام بذلك العمل لم يكن متوجّهًا إلى الله تعالى، بل لعلّه [لم يكن له اعتقاد كبير به تعالى]، لكنّه ماذا فعل؟ حينما رجع إلى نفسه، قال: سيرجع صاحب هذه المحفظة إلى هنا، ويبحث عنها، فعليّ أن أحتفظ بها، لكي أسلّمها له. فهنا، من الذي ألقى على عاتقه هذه المسؤوليّة؟ إنّها فطرته وضميره! فهكذا شخص سيأتي يوم القيامة ويقف إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام، لكن ليس بهذه الحال [التي هو عليها هنا في الدنيا]، بل بحال أفضل يتناسب مع تلك الظروف! لماذا؟ لأنّ قلبه طاهر ونقيّ. وأمّا ذاك الذي يدّعي موالاة أمير المؤمنين والتشيّع له، لكنّه يقوم بأمور أنتم أعلم بها منّي، فأين يتوجّب عليه الذهاب؟! أنّى لنا العلم بذلك! سنذهب إن شاء الله تعالى[إلى ذلك العالم] ونطّلع على حقيقة ما تحدّث عنه العظماء.
لقد وضعنا العظماء في هذا الطريق، وقالوا لنا: أيّها السيّد، تعال، واسع لبلوغ هذه الحقيقة، ولا تنظر للظاهر، بل تجاوزه وانظر للباطن، وركّز رؤيتك على الواقع، وانظر كيف كان أمير المؤمنين.. أفهل حقيقة أمير المؤمنين موجودة حاليًّا أم لا؟ إذا قلنا إنّها غير موجودة حاليًّا، فإنّ هذا سينطبق على ذلك العصر أيضًا، حيث سنحصر أمير المؤمنين في أنّه كان صهرًا للرسول وكان شخصًا عاديًّا كبقيّة الأشخاص. وأمّا إذا اعتقدنا بأنّ أمير المؤمنين كان في ذلك العصر مظهرًا للصدق، والصفاء، والحقّ، والعدل، والرأفة، والعطف، والرحمة، فإنّه سيكون كذلك حتّى في هذا العصر، وستكون حقيقته هي هذه، غاية الأمر أنّ الظهور الذي كان له في ذلك الزمان لا يوجد حاليًّا؛ فذلك الظهور وتلك الملامح مدفونة تحت التراب، لكنّ حقيقته لا زالت قائمة، فعليك أن تسعى نحو هذه الحقيقة، وانظر مع نفسك لو كان عليًّا عليه السلام حاضرًا في هذا العصر، ما الذي كان سيقوله لك، وبماذا كان سيأمرك، وبماذا كان سيُكلّفك؛ وعليه، هذا هو المعيار والملاك: أن يسلك الإنسان نفس الطريق الذي رسمه لنا العظماء والأولياء.
نرجو من الله تعالى أن يُوفّقنا بحوله وقوّته لاتّباع أوامرهم والعمل بها، والسير في نفس الطريق الذي سلكوه.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد