المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالحلم والعلاقات الاجتماعية
التوضيح
في هذه المحاضرة التي ألقاها سماحة آية الله السيّد محمد محسن الطهراني قدس سره تعالى في ليلة السبت الأوّل من ربيع الثاني لعام 1438 هـ ق، تحدّث سماحته في ضمن شرحه لفقرة (فمن قال لك إن قلت واحدة سمعت عشرًا...) الواردة في حديث عنوان البصري إلى النقاط التالية: ـ أهمّية الحلم في السلوك ـ ما كلّ ما يُعلم يُقال ـ ضرورة عدم التأثّر بكلام الآخرين الناشئ من الأوهام ـ السالك لا يرضى لنفسه التنزّل عن العوالم العالية ـ نظرة المربّي والوليّ للأشخاص الذين يقفون في مواجهته
هو العليم
منهج الأولياء في مواجهة كلام الآخرين
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٢٩
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
أهمّية الحلم في سلوك الإنسان
كنّا نتحدّث بشأن هذه الفقرات الموجودة في حديث عنوان الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث يقول الإمام لعنوان بأنّه يوجد ثلاثة مطالب مرتبطة بالحلم؛ والحلم يعني التجاوز عن النفس؛ أي التحمّل والصبر والتوقّف في الموضع الذي يُتوقّع من الإنسان فيه الإقدام؛ ففي الموارد التي تكون عادةُ الناس فيها القيام بردود فعل أو صدور أمور منهم، يقول الإمام عليه السلام بأنّه ينبغي أن يكون للإنسان حالة من الحلم، ولا يتصرّف كسائر الأفراد، ولا يتكلّم مثلهم، ولا يقوم بأيّ عمل غير مناسب.
يقول: «فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا» أي قال لك: «إن تفوّهت بأمر، فسوف أجيبك بعشر إجابات»، «فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَة» أي: إذا صدر منك عشرة أمور، فلن تسمع منّي جوابًا، «وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ فَأسْألُ اللهَ أنْ يَغْفِرَ لِي؛ (ولا تجبه بأنّك إن تكلّمت بأمر، فكلامك يكشف عن صفاتك)، وَإنْ كُنْتَ كَاذِبًا فِيمَا تَقُولُ فَاللهَ أسْألُ أنْ يَغْفِرَ لَكَ». والثالثة: «وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَ الرَّعَاءِ»، أي من تكلّم معك بكلام غير لائق وحديث باطل، فانصحه في جوابك، وارعه بكلامك.
حسنًا، هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الإمام لعنوان يمكنها أن تكون من الأصول المهمّة جدًّا في المسائل الشخصيّة والاجتماعيّة، فضلاً عن المسائل السلوكيّة.
وحقيقةً، لو كنّا نعمل ببعض هذه الأمور التي يُشير إليها الإمام عليه السلام، فهل كان وضعنا سيؤول إلى ما هو عليه الآن؟! وهل كانت علاقاتنا ستكون بهذا الشكل؟ وهل كانت هذه المسائل على هذا المنوال؟! يوجد الكثير من الأمور هنا، وينبغي أن لا نقتصر على سماعها فقط، بل علينا العمل بكلّ واحدة منها، وأن نكون راسخين فيها ومتعهّدين وملتزمين بها.
ما كلُّ ما يُعلم يُقال
هل جميع المسائل التي يسمعها الإنسان صحيحة؟ وهل ينبغي أن يكون أيّ أمر سمعه واقعيًّا؟! أم أنّه قد لا يكون واقعيًّا أساسًا! فإن كان من المفروض أن يكون عملُنا من ناحية الاهتمام بهذه المسائل مطابقًا لعمل الآخرين، فما الفرق بيننا وبينهم.. ؟! بأن يكون الأمر مبنيًّا على أنّ كلّ من يسمع كلامًا، فإنّه يذهب، وينشره في كلّ مكان! فالآخرون كذلك أيضًا، لكنّنا نطلق على أنفسنا اسم سالك! فهل هكذا ينبغي أن تكون الأمور، أم أنّ الإنسان عليه أن يُحقّق، ويصل إلى يقينٍ يُشبه اليقين الذي لديك الآن في أنّك تجلس في هذا المجلس بالقرب من رفيقك وتعرفه جيّدًا؟! فإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة، فلا بدّ أن يتأمّل بكلّ كلام، لا أن يسمع كلامًا، ثم يذهب ويخبر به هذا وذاك؛ فيقول لرفيقه: «هل عرفت ماذا قال فلان، وماذا قال فلان؟!» فهذا الرفيق لا يخطر بباله ذاك القائل حتّى في المنام، ثمّ تأتي أنت وتقول له: «هل عرفت ماذا قال؟» فما معنى أن يأتي الإنسان بهذه السهولة، ويخبر بكلّ أمر يسمعه؟! بل لا بدّ من ملاحظة الاختلاف في المقام. هذا كلّه فيما إذا كان كلامه صحيحًا وواقعيًا ويقينيًّا؛ فهل ينبغي على الإنسان أن يقوله أو يحدّث به؟!
كان المرحوم العلاّمة يقول دائمًا: «ما كلّ ما يُعلم يُقال»، وقد سمعتها منه مرارًا، فلا ينبغي للإنسان أن يُحدّث بكلّ ما يعلمه، لا ما يكون كذبًا وغير صحيح، أمّا نحن، فنحدّث بالأمور الكاذبة أيضًا، وننشر الأمور غير الواقعيّة التي لا أصل لها ولا فرع.
فالمطالب التي يذكرها الإمام عليه السلام لعنوان هي مطالب عجيبة جدًّا؛ يعني أنّه ينبغي علينا جميعًا ـ وبالأخصّ العبد الفقير ـ أن نتوجّه إليها، ونرى ما هو ميزان تكليفنا ومسؤوليتنا أمام الأمور التي نتحدّث بها؛ فهل نحن مكلّفون بأن ننشر أيّ مطلب نسمعه أو نراه؟! من الذي كلّفنا بذلك؟ هل جبرائيل كلّفنا بذلك؟! أتى وقال لنا: حضرة فلان! أنت مكلّف بأن تنشر هذا الأمر الذي سمعته! كلاّ، لم يفعل ذلك! ما الإشكال وما العيب في أن يسمع الإنسان أمرًا ثم يُبقي ذلك في قلبه؟! أيّ عيب في ذلك؟! ما الذي يخرب من الدنيا بذلك!
إذًا، من الليلة علينا أن نصمّم ونقرّر بأنّه لم يكلّفنا أحد بشيء، قد يقال بأن السيّد كلّفنا بذلك! فأنا أقول بأنّي لم أكلّف أحدًا، ولم أحمل أحدًا، وأقل له: «أنت مكلّف بأن تنشر كلّ ما تسمعه الليلة؛ بأن تضعه على الإنترنت حتى يستفد منه جميع الناس في الدنيا!»
هل يمكن لنا أن نصمّم الليلة بأن نمحي من أذهاننا ذاك التكليف المفترض الذي كنّا نعمل به؟! من الليلة فصاعدًا، ليس لدينا أي تكليف، ألا يمكن ذلك؟! حتمًا يمكن! فنحن إلى الآن، كان لدينا ألف تكليف ووظيفة شرعيّة، وجبرائيل أوحى إلينا، وإسرافيل أنزل علينا اللوح بأنّه إذا لم نفعل هذا الأمر، فإنّ نظام الدين والشريعة سوف يذهب سدى وما إلى ذلك من أمور! هكذا نحن فعلاً، أليس كذلك؟! بدون مجاملة! [يقال:] سيّدنا لا يصحّ ذلك، بل هذا تكليف شرعي!
من الذي كلّفك بهذا التكليف؟! قل لي من كلّفك بذلك؟! حتمًا ذهنك المبارك ونفسك الشريفة هي التي خلقت هذا التكليف لذاتها؛ فهي بمثابة المصنع الذي يصنع لنفسه تكاليف، ويضع لنفسه بعض المطالب! وهذا ما نراه في كل مورد، حيث يُقال: «هذه وظيفتنا الشرعيّة! والأمر الفلاني هو وظيفة شرعيّة، وينبغي التصريح به؛ فهذا من التكاليف الشرعيّة!».
[فلو كان الأمر كذلك] لماذا كنّا نرى العظماء (الذين كنّا نتردّد عليهم) في حالة سكوت دائم؟! لماذا كان يصدر ذلك منهم؟! فكنّا نراهم صامتين، والحال أنّه كانت تجول في أذهانهم ألف مسألة وقضيّة دون أن يتحدّثون بأيّة واحدة منها. وكثيرًا ما كان يحصل أن نكتشف أمرًا، ثمّ نجد بأنّه حصل قبل عدّة سنوات دون أن نسمع من الوالد شيئًا عنه، وكنا نتعجّب من ذلك! فهل نحن غرباء حتى يخفيها عنّا؟! طبعًا، الأمور مرهونة بأوقاتها،(۱) فلا ينبغي أن يُقال كلّ شيء، والسبب الذي كان يحجزه عن التصريح بتلك الأمور آنذاك هو اشتمالها على بعض المفاسد، ولأنّها تحتوي على مطالب لا ينبغي لأحد ـ حتى أنا ابنه ـ أن يعلم بها، ثمّ تجدنا نسمع بها بعد مضيّ سنوات، ونتعجّب بأنّه كيف لم نسمع بها من قبل! وتكون قد انتفت هذه المسألة أساسًا، بحيث لا يكون هناك أيّ فارق بين العلم والجهل بها؛ أي أنّ الاستعداد اللازم للعلم بها قد تحقّق الآن، لا في ذلك الوقت، وهذا هو المهمّ! ولذا، بعد أن يتحقّق لدينا ذلك الاستعداد، ونسمع بتلك الحادثة الآن، لا يحصل أيّ شيء، لكن، لو كنت قد سمعت بهذا الأمر منذ عدّة سنوات، فقد تواجه مشكلةً، ولا تتمكّن من هضم المسألة.
أجل، فإنّ الكثير من الأمور والمسائل التي نسمعها هي من هذا القبيل! فإذا سمع الإنسان كلامًا، فلا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون صحيحًا، أو كذبًا! فإن كان كذبًا، فلا داعي لأن ينزعج الإنسان منه؛ فماذا عليك أن تفعل في هذه الحالة؟ لماذا نحن في حالة ـ وهذه مشكلة ينبغي علينا أن نحلّها ـ بحيث إذا سمعنا كلامًا، لا نضعه في كفّة احتمال الكذب، بل نضعه دائمًا في كفّة الصحّة؟ فما هو المنشأ لهذه المسألة وإلى أين ترجع؟ وما هو الأمر الذي تكشفه للإنسان؟ فلو أنّنا سمعنا كلامًا من هذا القبيل يتعلّق بأحد الأشخاص القريبين منّا، فهل كنّا سنضعه في كفّة الكلام الصادق؟ أم أنّنا نضعه سريعًا في كفّة الكلام الكاذب! والحال أنّ الكلام واحد، والمضمون واحد، والمفهوم منه أمر واحد! فتجدنا نسمع كلامًا، فنضعه في كفّة الصدق، ونقوم بترتيب الآثار عليه، ثمّ نخبر به هذا وذاك، فتحصل بسببه فتنة وأمور، لكن، لو أنّ نفس هذا الكلام كان له ارتباط بنا، فإنّك تجدنا نقول: «كلاّ، هذا غير صحيح، ولا ينبغي التفوّه بهذا الكلام أبدًا!» فنغلق الملفّ، ونضعه جانبًا.. لماذا؟ هل هذا الأمر ناشئ من نفس المسألة الموجودة في الخارج، أم أنّه يرجع إلى أمور أخرى؟ فبما أنّ المسألة في كلتا الحالتين واحدة، فإنّها ليست مرتبطة بالخارج؛ أي أنّ المسألة واحدة، غاية الأمر أنّها جرت في ظرفين مختلفين، وقيلت في موردين متفاوتين؛ فترانا نحملها هناك على الصحّة، ونرتّب عليها آثارها الخاصّة، بينما نقول هنا بأنّها غير صحيحة، ونتحرّز عن القيام بها!
ضرورة عدم التأثّر بكلام الآخرين الناشئ من الأوهام
هذه الحالة هي الحالة التي ينبغي أن نتنبّه إليها؛ فهذه الفقرات الثلاث التي ذكرها الإمام عليه السلام تعود جذورها وأصولها بأجمعها إلى هذه المسألة؛ وهي أنّه عليك أن تنظر إلى نفسك؛ سواء في المسألة الأولى، إذا جاء أحد وقال لك: «إن قلت واحدة أجيبك بعشرة»، فلا تنظر إلى ما قاله لك، بل انظر إلى نفسك: فما هو الأمر الذي يدور في نفسك وذهنك؟ وكم هذا الكلام مرتبط بك؟ وكم هو يعود إليك؟ إنّه لا يرتبط بك أبدًا! وإذا كان هناك أثر، فهو مرتبط بهذه العباءة.. نعم، هذه العباءة البنيّة التي ترونها! وأمّا النفس، فلا يعود إليها شيء أصلاً، بل حتّى الثوب الذي أرتديه لا يصله هذا الكلام! بل حتّى العباءة لا يتجاوز الوبر الموجود عليها.. بل حتّى لا يتجاوز لونها فقط، فلا يصل إليها.
فلو كان للأمور التي تقال للإنسان تأثير واختراق، فإنّ أقصى ما يُمكنها أن تصل إليه هو العباءة.. وقد كان يقول المرحوم العلامة: «إنّ الكلام الذي قاله فلان وصل فقط إلى العباءة والقميص»، وأمّا أنا فأقول بأنّه وصل فقط إلى العباءة، ولم يصل حتّى إلى القميص؛ أي أنّه لا قيمة له لكي يتجاوز العباءة وينفذ إلى القميص!
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أضع نفسي تحت هذا الكمّ من التأثير؟ ولماذا أتلف أعصابي؟ ولماذا أتأذّى بذلك؟ فهذه العباءة تتحمّل عنّي كلّ هذا الكلام، ولديها القابليّة لتحمّل ذلك، ولا ينفذ منها شيء.
يقول الإمام عليه السلام: «لا تدع الكلام ينفذ من عباءتك، ويصل إلى قميصك، ثمّ إلى قميصك الداخلي، وبعده إلى جلدك وعظمك، ويصل إلى ذهنك ونفسك».. يا عزيزي امنعه من التقدّم! فأنت الذي تدفعه للدخول إلى نفسك أكثر! فيمكنه أن يتوقّف عند هذا الحدّ فقط، ويمكنه أن يتوقّف في بداية الأمر، لكن عليك أن لا تدفعه إلى الداخل؛ مثل الحقنة (الإبرة) التي تكون بهذا الحجم (۱۰ سم)، فيمكن أن تغرزها في العضل بمقدار سنتمتر واحد، ويمكن أن تغرزها بمقدار عشرة سنتمتر؛ فأنت الذي تغزرها أكثر، مع أنّه بإمكانك أن تكتفي بسنتمتر واحد للوصول إلى النتيجة، فعليك أن لا تدفعها أكثر!
فأنت الذي تحمّل نفسك أثر هذا الكلام، وأنت الذي تجعل هذا الأثر السيّء على نفسك، فذاك قد خرج من فمه هذا الكلام فقط، ودَوّن بقلمه كلمة واحدة فقط، والباقي أنت الذي تقوم به، وهو مرتبط بك أنت؛ ولذا، يقول الإمام: «سواء أخطأ هو أم لا، ما شأنك أنت به؟! فهو أعلم بتكليفه مع الله، وهو أعلم بفكره واستعداده، فما علاقة بقيّة الناس به؟!» فحينما اخترق هذا الكلام أذنك، تأتي أنت، وتبدأ بتحريكه والمناورة فيه، والحال أنّ هذه المناورة تحصل من قبلك أنت لا منه؛ فلا داعي أساسًا للمناورة هنا!
فالأفضل لك أن تجعل الكلام يُصيب عباءتك فقط، واذهب ليلاً واخلد إلى النوم بشكل مريح، وكأنّك لم تسمع شيئًا، ولم يحصل أيّ أمر.. نم ملء جفونك، وتمتّع بما تراه من رؤى، ثمّ انهض بعد ذلك للتهجّد والعبادة. لكن، إذا أدخلت ذلك الكلام إلى ذهنك، وفكّرت فيه قبل نومك: ماذا سيحدث هنا، وماذا سيحدث هناك؟ وماذا سيصير هذا وذاك؟ [وتقول]: «فلينتظر إلى الغد وليرَ ماذا سأفعل به؛ سأخبر فلانًا، وأقول لفلان، وسأقوم بالإعلان عن ذلك، وسأعقد مؤتمرًا»... يا عزيزي! لقد أحبطت كلّ شيء، وأتلفت كلّ الأمور؛ فأين سلوكك وطريقك ونفسك؟ وأين هي مراقبتك؟ وماذا جرى مع جميع ما قيل لك؟ فما أوصى به العظماء من المراقبة إنمّا هو لمثل هذا الموقف، وإلاّ لو كانت الحياة تخلو من كلّ شيء، بحيث لا يسمع الإنسان شيئًا ولا يرى شيئًا، فماذا سيُراقب إذن؟! لأنّه لن يكون للمراقبة هنا أيّ معنى! فحينما كان العظماء يؤكّدون على المراقبة، فإنّما كانوا يقصدون بها هذه الموارد؛ فهنا ينبغي عليك استعمالها واستخدامها، وهنا عليك أن تتجاوز هذا الجسر وتعبر منه، وتدع نفسك جانبًا.
السالك لا يرضى لنفسه التنزّل عن العوالم العالية
ولذا، يقول الإمام عليه السلام: «من قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشرًا، فأوقفها بسرعة عند ثيابك دون أن تنزعج لذلك، وقل له: إن قلت عشرًا..» الإمام قال عشرًا، وإلاّ فحتّى لو قال مائة مرة بل ألف مرّة، ومهما أراد أن يقول.. هذا هو المبنى؛ إذا قال لك ألف مرّة، فقل له: «هذا الكلام أصاب ثوبي وليس لي أيّ عمل معك! فأنت إنّما قلت هذا الكلام انطلاقًا من تخيّلاتك وأوهامك، وأنا لن أنزل نفسي إلى مستوى هذه التخيّلات والأوهام، وإذا تنزّلت إلى مستوى الأوهام، فسأخسر، بل أريد أن أرفع نفسي عن الأوهام والتخيّلات، وأوصلها إلى الكلّية والعقلانيّة».
فما تقوله أنت إنّما ينشأ من الأوهام، وهذا مّما لا شك فيه ولا إشكال، فأنت لم تتحدّث بهذا الكلام من منطلق العقلانيّة، بل من منطلق الخيال والوهم، وعلى أساس ما سمعته من هذا وذاك.. ثمّ أتيت وحمّلته عليّ.. حسنًا، شكرًا لك!
فإذا كان من المفترض أن أجيب أنا على هذا الكلام، فسأكون بالمقابل قد تعاملت بالأوهام والتخيّلات، وتنزّلت إلى الأسفل بنفس الميزان، وسقطت من مرتبة الإنسانيّة إلى مرتبة الحيوانيّة.
وعليه، فأنا لا أريد أن أدع نفسي تسقط وتتنزّل، بل عليّ أن أتحرّك وأعبر، وأتخطّى الجزئيّات وأصل إلى الكلّيات، وعليّ أن أترفّع عن هذا الكلام، وإلاّ فمتى سأترفّع وأتخلّص منه؟
هذا الأمر عجيب جدًّا! فأنا منذ بداية حديث عنوان الشريف أنتظر هذه الفقرة حتى أوضّح للرفقاء نهج العظماء وطريقة تعاملهم مع هذه المسألة، وأبيّن لهم بحسب علمي القاصر وبما شاهدته منهم كيف كانوا، وفي أيّ وضع كانوا.
ففي إحدى ليالي شهر محرّم، كنت جالسًا في محضر المرحوم السيّد الحدّاد، وذلك في السفر الذي تشرّفنا فيه بزيارة العتبات المقدّسة أنا والمرحوم الوالد وأخي المكرّم؛ فكان حديثه يجول في عالم آخر وفضاء مختلف، فإذا بشخص يأتي، ويقول: «لقد قال فلان بأنّ هؤلاء الأشخاص يُضيّعون أعمارهم بالجلوس إلى هذا الرجل، ولا يحصلون منه على شيء، بل يأنسون به فقط، ولن يحصل لهم أيّ شيء!».
فقال له: «لماذا تتحدّث بهذا الكلام؟ أتريد أن تنزلنا إلى هذا المستوى؟ دعنا نكمل حديثنا وكلامنا! لماذا تأتي وتطرح هذا الأمر؟»؛ يعني: أليس من المؤسف حقيقةً أن نخرج أنفسنا من مثل هذا الفضاء الجميل، وفضاء الرفقاء الذين يجلسون معنا ونرتبط بهم فعليًّا في هذا المجلس، حيث إنّ ذهنهم وفكرهم متوجّه نحو ذاك العالم.. عالم المعنى وعالم البهجة؛ وفجأة، تأتي، وتطرح شيئًا مختلفًا يُسقطنا نحو الأسفل مباشرة، ويشغلنا بالأمور الجزئيّة! فحتّى على فرض أنّها كانت صحيحة، فهل ينبغي أن تقال؟! يعني أنّ السالك لا ينبغي أن يشغل نفسه بهذه الأجواء، ويتوقّف عندها، بل عليه أن يتجاوزها، ويعبر هذه الأمور، ولا يدع الكلام يصل إلى سمعه أبدًا.
في الكثير من الأوقات، يأتي بعض الأصدقاء [لينقلوا بعض المسائل] فأقول: «هل أنت بخير؟ متى نمت البارحة؟ وماذا تعشيت؟!!»، فلا أدعه يتحدّث أبدًا، وأقول له: «اذهب يا عزيزي، فما الذي تريد أن تقوله؟! فهل على الإنسان أن يأتي، ويشغل ذهنه وفكره بهذه الأمور؟!».
هذه المسألة مهمّة جدًّا، وإن كانت المطالب هنا كثيرة، ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا في الجلسات القادمة للحديث عنها، إلاّ أنّ هذه النكتة الأولى مهمّة جدًّا؛ وهي أنّه على الإنسان أن يعلم ويستحضر في ذهنه دائمًا ـ كأصل عامّ ـ وأن يشعر بأنّ بينه وبين الأمور التي يسمعها أو يراها جدارًا وحاجزًا.. طبعًا، هذا إذا كان الكلام مرتبطًا به شخصيًّا، وسوف نصل إلى المسائل المرتبطة بالأمور العامّة والمسائل العقائديّة وغيرها، والتي سنتحدّث عنها لاحقًا إذا وُفّقنا لذلك، لكنّ حديثنا الآن فيما يرتبط بالإنسان نفسه ويتعلّق به؛ سواء كان من الأمور التي قيلت في حقّه من الناحية العلميّة أو الأخلاقيّة، أو أراد أحد أن يشكل عليه من هذه الجهات، فهي من هذا القبيل؛ إذ لدينا صنوف من الإشكالات: فصنف منها إشكالات فارغة وتافهة، وصنف آخر إشكالات علميّة، وعلى الإنسان أن يقبل بها ويرتّب عليها أثرًا. لكن، أحيانًا عندما ينظر الإنسان إلى السطر الأوّل من الإشكال، يعرف بأنّه إشكال تافه لا قيمة له، فيكتشف بأنّ غرض المستشكل هو شيء آخر! ولذا، عليه أن يدعه في خانة ما يصيب العباءة فقط.. لا أن يتأثّر به أو ينزعج لأجله، بل يتركه يقول ويضحك!
فما يذكره الإمام الصادق هنا يرجع إلى هذا الصنف من المسائل التي يكون الحديث فيها بيّن، والكلام ظاهر، والأعمال واضحة، حيث إنّ الإنسان يعرف بسرعة منشأ هذا النوع من الاعتراض، وهذا الصنف من الكتابة، وهذا النحو من الأفعال، ومن أيّة خلفيّة أتت، وما هو الداعي لها؛ فإن اكتشف الإنسان ذلك، عليه أن يأتي بما علّمنا إيّاه الإمام عليه السلام ويضعه نصب عينه: إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة.. اذهب وقل مائة مرّة، اذهب وأتلف وقتك، وابحث هنا وهناك.. اذهب وتحدّث إلى من شئت، وتكلّم مع من تريد، وانظر إلى أيّ كتاب وأيّة مقالة تريد، فنحن قد اطّلعنا على حقيقة المسألة.
لكن، أليس من المؤسف أن تذهب هنا وهناك وتسأل هذا وذاك حتّى تحصل على تأييد ودعم، وتبدأ بالكلام، فتجعل من الحبّة قبّة ومن الشعرة جبلاً؟! يا عزيزي، بدلاً من ذلك، تعال واقرأ حديث عنوان، فهو أسهل عليك.. وهو يوصلك إلى مقصدك بشكل أسرع، ويقرّبك من الحقيقة أكثر.. تعال وتعرّف على نهج العظماء.
نظرة المربّي والوليّ للأشخاص الذين يقفون في مواجهته
عندما كنّا مع الوالد، أتى إليه أخي المكرّم والمحترم السيّد محمد صادق، وقال له: «فلان الموجود في قمّ قد تكلّم عنك بكلام سيّء!»، وكان في حالة من الانزعاج، باعتبار أنّه تكلّم بكلام باطل وغير ملائم.. فضحك [المرحوم العلاّمة] بصوت مرتفع، وقال له: «لماذا أنت منزعج؟! فهذا الكلام قد اصطدم بهذا القميص، ولم يصل إليّ أبدًا!» وكان ثوبه معلّقًا، حيث كان قد عاد لتوّه من جلسة عصر الثلاثاء.
ولقد كنّا نرى هذا الأمر في تصرّفاته حقيقةً، فلماذا ينزعج من ذلك؟ نعم، قد ينزعج الإنسان لأنّه يرى أنّ ذاك المستشكل قد ابتلي بهذا الأمر، فلأجل ذلك ينزعج، ويقول: «لماذا وقع ذلك الرجل الآن في الأوهام، والحال أنّه بشر أيضًا وإنسان، ويمكنه أن يتحرّك ويتكامل، فلماذا سقط؟ ولماذا وقع في ذلك؟» فالمربّي الإلهي إنّما ينزعج لأجل ذلك، لا لأجل نفسه.
ولذا، فقد كان الإمام الحسين عليه السلام منزعجًا لأجل أولئك! أيّها المساكين، وأيّها المتعلّقين بالدنيا، أنا ابن بنت النبيّ! ويمكنني أن أوصلكم إلى العرش، فما هو سبب مجيئكم إلى هنا؟ وما الذي تريدون فعله؟ هل أتيتم لتأخذوا لباسي؟ خذوه واذهبوا.. هل أتيتم لتأخذوا خيمتي وأثاثي؟ أتيتم لأجل بعض حبّات من القمح؟ أو كيس من القمح؟ أتيتم إلى هنا لتقتلوني لأجل مائة أو ألف درهم؟ يا عزيزي، لو كان قتل النفس جائزًا، لكنت قتلتُ نفسي قبل ذلك وارتحت منكم، ولما انتظرتكم أبدًا! إذا أردتم قتلي، فتعالوا، وعجّلوا بقتلي!
لقد جئت إليكم لكي أنجيكم ممّا أنتم فيه، وأوصلكم إلى الله، وأنا أريد أن أجعل من كلّ واحد منكم سلمانًا، ومقدادًا، فأنا الإمام الحسين ابن النبيّ يمكنني ذلك! ويمكنني أن أجعلك يا عمر بن سعد سلمان الفارسي، فلماذا علقت في هذا المكان، وتوقفّت هنا؟! أيها المسكين! يمكنك أن تتكامل وتصل إلى الأوج، [تقول] لا تستطيع! [أقول] إذًا، أنا أيضًا لا أستطيع؛ هذا، مع أنّك لو قلتَ بأنّه لا يمكنك ذلك، فأنت مخطئ؛ لأنّه يمكنك ذلك! كلّ ما عليك هو أن تعطيني يدك، وعندها سترى هل يُمكنني أنا ابن النبيّ فعل ذلك أم لا؟ فإن وجدت بأنّني لم أتمكّن من ذلك، فاذهب يوم القيامة وخذ بحجزة رسول الله!
فالكلام الذي قاله الإمام الحسين لعمر بن سعد حول ماذا كان يدور؟ لقد كان يدور حول هذا الأمر بعينه، حيث كان يقول له: «أيها التعيس! جئت بالجيش لتقتلني؟ لقد رحلتُ عن الدينا قبل ذلك، فأنا أعيش في هذه الدنيا بعذاب، وكلّ يوم منها هو عذاب بالنسبة إليّ، فما الذي تريده أنت؟ ولماذا جئت؟ وما الذي تريد فعله؟ أتظنّ أنّني مثلك أحبّ نفسي، وأريد الدنيا، وأرغب بالبقاء فيها؟ فكلّ يوم من هذه الدنيا هو عذاب بالنسبة إليّ، ونحن نعيش في هذه الدنيا في الوقت الإضافي، وإذا كنّا لازلنا نعيش هنا، فلأجلكم أنتم! فهذان اليومان اللذان نعيشهما لأجلكم أنتم.. لأجل التكلّم معكم، وبيان الطريق لكم، ولأجل الأخذ بأيديكم، والعمل بما ينفعكم، ومع ذلك فقد جئتم بجيش من ثلاثين ألفًا لتقتلوني؟!».. أليس هذا مضحكًا!
هذا هو الإمام الحسين، فبإمكانه أن يجعل من كافّة أفراد ذاك الجيش (ذي الثلاثين ألفًا) مقدادًا، أو يجعلهم أويسًا بأجمعهم؛ لأنّ الإمام يعني الشخص الذي يأخذ بيد الإنسان، ويوصله إلى أعلى نقطة! غاية الأمر، عليك أن تعطيه يدك.. سلّم نفسك وتقدّم، فإن لم تصل حينئذ، فقل للنبيّ يوم القيامة: «عملنا ولكنّنا لم نصل!».
حسنًا، المطالب كثيرة، وإن شاء الله يُتاح لنا المجال في فرص أخرى [للكلام عنها].. نطلب من الله أن يوصلنا إلى هذه المسائل والمفاهيم والمعاني التي أفاضها علينا العظماء والأئمّة عليهم السلام، وأن نحقّقها، وأن نشعر بأنّنا كنّا موفّقين في هذه القضيّة، لا أن نذهب يمينًا ويسارًا، ثمّ نقول بأنّه لم يحصل شيء، بل عليك أن تدقّق من أوّل الأمر، وأن تكون متحقّقًا من المسائل. والعظماء إنّما حدّثونا عن هذه الأمور لأجل ذلك، ولذلك وضعوا هذه الأمور بين أيدينا، ولأجل ذلك ألّفوا الروح المجرّد، أي حتّى نأتي الليلة.. ليلة السبت أوّل ربيع الثاني سنة ۱٤٣۸ ونجلس مع الإخوة ونتحدّث عنها، فهم إنّما ذكروا هذه الأمور لأجلنا نحن، والأمر كذلك حقًّا.. لأجلي أنا! قد لا تصدّقوا، فأنا حينما أطالع المطالب التي ألقاها المرحوم العلامة، أشعر ـ والله ـ بأنّها لأجلي أنا الآن وفي هذا الوقت؛ ولذا، عليّ أن أعمل بها.
فحينما كان الوالد يكتب تلك المطالب مع ما كان يعانيه من كبده وقلبه وعينه، لمن كتبها؟ فعندما أصيب بمرض في عينه، قلت له: «يا سيّدي، عليك أن تقلّل من أعمالك»، فقال لي: «يا سيّد محمد محسن! لن أتخلّى عن أيّ سطر ممّا أكتبه ـ وقال ذلك بشكل إنشاء جادّ ـ وإن قطّعوا جسدي بالساطور!»
فعندما يقول هذا الكلام مع هذه الحالة وهذه الوضعيّة، نعلم أهميّة المسألة؛ فهو قد قال ما عليه، ووضع الأمور بين أيدينا.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا إن شاء سبحانه للعمل والاستقامة والسير في طريق الأولياء الإلهيّين.
اللهم صل على محمد وآل محمد