المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالحلم والعلاقات الاجتماعية
التوضيح
إكمالاً لشرح مقطع "وأما اللواتي في الحلم فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً" تعرض سماحة السيد قدس سره لنكات سلوكية دقيقة مثل: أهمية التعامل مع الآخرين على أساس الحق والواقع لا على أساس الأغراض النفسية والشخصية؟ وما مدى أهمية أن لا يرى السالك نفسه أثناء قيامه بالتكليف؟ ما هو المنشأ الذي ينبغي أن تصدر منه أفعال الإنسان؟ كيف يعرف الإنسان أن أعماله هل هي ناشئة عن الأغراض النفسية أم امتثالاً لأمر الله؟ ما هو السبب في تغيّر نظرة الإنسان للأمور؟ كيف ينبغي التصرّف مع الأشخاص الذين يجرّون الإنسان نحو قضايا نفسانيّة، وكيف نعرفهم؟ كيف يمكن للإنسان الارتباط بإمامه عليه السلام حتى يعرف ما هو تكليفه؟ وكيف أن الإمام عليه السلام إمام لكل الناس؟ وغيرها من التساؤلات الدقيقة
هو العليم
خطر الأغراض النفسانيّة على العمل
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٢۰
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث عنوان البصري:
«وَ أَمَّا اللَوَاتِي في الْحِلْمِ: [فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً]»۱
يبيّن الإمام هنا تلك الأمور التي يجب مراعاتها في مجال الحلم والصبر وتحمّل المشاقّ؛ وهي الأمور المرتبطة بكيفيّة التعامل مع الناس والقضايا الاجتماعيّة، حيث يشعر الإنسان حقًا بأنَّه إذا ما تمّت مراعاة هذه الأمور، فسوف تزول جميع المشاكل من المجتمع الذي سيتحوّل إلى مجتمع خالٍ من التشنّجات، وتختفي منه كلّ تلك المشاكل والمصادمات والاختلافات، ولن يبقى ما يوجب حصول الخلاف والاحتقان في المجتمع.
إنَّها عبارات عجيبة حقًّا تتطلّب أن يتوقّف عندها الإنسان، ويفكّر في مضمونها بما يسمح به أفق تفكيره وسعته الوجوديّة وما يمتلكه من استعداد لفهم الأمور، حيث ينبغي عليه التعمّق بالتفكير بالأمر وعدم التوقّف، والاستمرار في الغور فيه؛ فكلّما تعمّق في الموضوع، كلّما كان نصيبه أكثر.
يقول الإمام في العبارة الأولى من هذه الفقرة: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً؛ أي لن أردَّ عليك ولن أقابلك، ولو بكلمة واحدة!
لا ينبغي للإنسان أن يتأثّر بالمدح الذي يُكال له سواءً كان صادقًا أو كاذبًا
بالنسبة لمسألة السكوت، سنتكلّم عنها في المجالس القادمة إن شاء الله، غير أنَّ ما يقصده الإمام من هذه الفقرة ليس هو هذه المسألة، بل كيفيّة التعامل مع ما يحصل للإنسان والموقف الذي عليه أن يتّخذه من تلك القضايا المريرة التي يواجهها، وكيفيّة تعامله مع القضايا الاجتماعيّة ومع ما يحصل في المنزل ومع صديقه وأقاربه ومعارفه؛ ولا يخفى أنَّ بعض هذه المواقف تكون سارّةً للإنسان كالمدح والثناء الذي يسمعه من الآخرين والذي يبعث على سعادته وظهور آثار التبسّم على سيماء وجهه؛ نظير المدح الذي يسمعه بشأن المساعدات التي يقدّمها وهدايته للآخرين والحديث الذي يطرحه وكيفيّة تعامله مع الآخرين وطيبته؛ على أنَّ هذه الطيبة والتعامل الحسن يكون ممدوحًا ما دام الأمر يصبّ في مصلحة الشخص المادح، وأمّا إن جاء ذلك اليوم الذي تضعف فيه قليلاً العلاقة بين الطرفين، فستجد الشخص يقول: إنَّه ليس بتلك الدرجة من الحُسن، فنحن لم نستفد منه ولم نحصل منه على أيّ شيء؛ فيبدأ بالتشكيك بالموضوع ابتداءً، ثم يتطوّر الأمر ويتحوّل ذلك التشكيك إلى المواجهة فيقول: ومن قال إنَّه رجل صالح؟! يا هذا، لقد كنت تمدحه حتّى الأمس، فما الذي حصل الآن؟! لا شكّ أنَّ ذلك بسبب قلّة اعتنائه بك!
إنَّ هذا يبيّن بوضوح أنَّ جميع ذلك المدح الذي يُسمع من الناس ـ لا نستطيع القول بالعموم، بل يمكن القول بأنَّ الغالب هو كذلك، فما نعلمه هو أنَّ أكثر من تسعين بالمائة يكون على هذا النحو، فذلك يُعدُّ من المسلمات ـ يعود إلى نفس ذلك المادح، لا إلى حقيقة وواقع حال الشخص الممدوح ومنزلته ومكانته في الواقع؛ فما دام باب البذل والعطاء من قبل الإنسان مفتوحًا، تجدونه يوصف بأنّه نبيّ ووليّ وعارف بالله ـ مع أنّ الشخص المادح قد لا يعرف حتّى الكيفيّة التي تُكتب بها كلمة العرفان ـ وأمّا إذا توقّف ذلك البذل والعطاء، وإذا به يتحوّل إلى من هو أسوء من الشمر ويزيد؛ ولا أقول هذا مازحًا، بل هو واقع الحال! حيث يوجد الكثير من هذا القبيل وهو موجود على مرَّ العصور؛ فكلّ ما يتغيّر هو الزمان، لكنّ الأشخاص هم ذات الأشخاص، وطريقة تفكيرهم وأذواقهم وكيفيّة تعاملهم مع ما يحصل هي نفسها، لا فرق في ذلك بين عالمهم وجاهلهم؛ فإلامَ يرجع السبب في كلّ ذلك؟ إنَّ ذلك يعود ـ وكما ذكرت في المجلس السابق ـ إلى ارتباط الموضوع بالنفس؛ أي إنَّ تحديد المعيار والملاك في حُسن (أو عدم حُسن) الأشخاص وأفعالهم وصفاتهم يكون من منظار النفس.
وعليه، ما هو التكليف والواجب الملقى على عاتق الإنسان؟ يجب على الإنسان أن يكون حذرًا في هكذا موقف، فلا ينبغي له الاعتناء بمدح الناس وثنائهم، بل عليه أن يتفحّص عن السبب الكامن وراء هذا المدح والثناء؛ نعم، نحن لا نُعمّم ذلك على جميع الموارد، فقد يحصل في بعض الحالات أن يكون الشخص المادح صادقًا، وتكون نيّته صافية ولا غرض خاصّ له من هذا المدح!
[غير أنَّه غالبًا ما يكون] هذا المدح ناشئًا عن كون الشخص ينتمي إلى نفس الحزب الذي ينتمي إليه الشخص الممدوح، فيقوم بمدحه حتّى وإن كان هذا الشخص من أسوء الناس، فهو يمدحه لكونه ينتمي إلى نفس حزبه أو مجموعته أو فئته۱ أو مجتمعه؛ كما يعمل على إيجاد التبريرات لأخطائه وتجاوزاته عند حصولها، فيقول: ومن منّا لا يخطأ، فنحن لسنا بمعصومين أو أئمة حتّى لا نخطأ! ولكن لا قدَّر الله أن يأتي ذلك اليوم الذي يتنحّى فيه هذا الشخص عن ذلك الحزب، فيقول: يا سيّدي، أنا مسلم وأؤدّي الصلاة والصيام، غير أنَّني لا أريد البقاء في هذ المكان؛ أفهل أنا مجبور على ذلك؟ فالأمر لا يكون بالإجبار يا عزيزي! فلربّما أردت البقاء هنا، ولربّما أردت الذهاب إلى المنزل المقابل، ولربّما أردت الدخول إلى هذا المسجد، ولربّما أردت الدخول إلى مسجد آخر، وقد أرغب في الصلاة هذه الليلة في هذا المكان، وقد أرغب ليلةً أخرى في الصلاة في مكان آخر، أو أن أشارك في مجلس العزاء المقام في هذه الحسينية يومًا وفي غيرها في يوم آخر؛ فلا يستطيع أحد إجباري على أمر معيّن، ولم تنزل آية من القرآن تُلزمني بالمشاركة في هذا المجلس أو الحضور في تلك الحسينيّة بالذات أو أن أكون عضوًا في هذه المجموعة.
وعندما يُفتقد هذا الشخص من ذلك الجمع، يبدأ التساؤل: لماذا لم يحضر فلان الليلة؟! فلعلّه يريد الانفصال عنّا! وعندما يُشاهد بأنَّه قد أخذ بالتردّد على مكان آخر، يُقال له:
ـ هل تذهب إلى ذلك المكان أيضًا؟ ألا تعلم بأنَّهم معارضون لمنهجنا؟!
ـ فليكونوا من المعارضين لكم ولمنهجكم، لكنّ هؤلاء المساكين يقيمون الصلاة، ويصومون، ويؤدّون حج بيت الله، وهم ممّن يقرؤون القرآن!
ـ لماذا انفصلت عنَّا؟!
فهم لا يسألون الإنسان عن محافظته على الصلاة أو توجّهه إلى الله أو مطابقة أعماله لما يُرضي الله أو عن انحرافه الفكري عن الطريق المستقيم بعد انفصاله عنهم.. فكلّ هذا لا يعنيهم بشيء، بل كلّ ما يعنيهم هو: لماذا انفصلت عن هذا الحزب أو المجموعة، وانتميت إلى الجمع الآخر؟ ألم تعلم بأنَّهم من المخالفين لنا في النهج؟
على الإنسان أن يكون حذرًا لئلاّ يكون منشأ أعماله هو أغراض نفسانيّة
تعرّفت في أحد أسفاري إلى طهران على إحدى الهيئات، وكنت برفقة المرحوم العلاّمة في حينها، وعندما كنت أستمع لما كان يدور بينهم من حديث، لم أكن أتمكّن من استساغة كلامهم وتقبّله؛ فقد كانوا يرسلون بعض الأشخاص إلى المدن لغرض جمع المعلومات عن الهيئات الأخرى، حيث كانوا يريدون أن يعرفوا من يكون الخطيب ومن هو النائح وما هي نوع الخدمة التي تُقدّم للمشاركين وكم عدد الحاضرين في مجالسهم وكيف يتمّ استقبالهم؛ فيقوم هذا الشخص بتقديم تقرير عن ذلك، ليعملوا بدورهم على تقديم ما هو أفضل وأكثر تميّزًا من الآخرين، وليكون لهم بذلك قدم السبق في هذا المجال؛ ولقد كنت أسمع منهم ذلك بنفسي!
وبعد تلك السفرة، جاء عدد من المشرفين على تلك الهيئة إلى بيت المرحوم العلاّمة ـ وكان ذلك في عهد الشاه ـ وكنت حاضرًا آنذاك، حيث كنت أدرس في مدينة قمّ وصادف مجيئهم حضوري في طهران؛ فطلبوا منه وبإصرار شديد تقبّل مسؤوليّة الإشراف على تلك الهيئة، فرفض ذلك متعلّلاً بأعذار كثيرة؛ ككثرة المشاغل وتحمّله مسؤولية إدارة المسجد، فلم يقتنعوا بذلك؛ فقال لهم في نهاية المطاف: أتعلمون ما الذي سأفعله عندما سأتولّى مسؤوليّة الإشراف على تلك الهيئة؟ فأوّل شيء سأقوم به هو عزلك عن منصبك أيّها السيّد! فهل ستستجب أم لا؟ فاصفرّ لون وجه ذلك الشخص! ولا بدَّ أنَّه قد قال في نفسه: أحمد الله على عدم إصداره لحكم الإعدام بحقّي واكتفائه بعزلي عن منصبي.. إنَّني ما قمت بإنشاء هذه الهيئة وهذا البناء إلاّ لكي أكون من أعلامها، فيأتي هذا السيّد ويقول لي: تنحّ! ما هو سبب حضورك هنا؟ هل هو لأجل الإمام الحسين؟ اذهب إلى هناك، واجلس في تلك الزاوية، وشارك كبقيّة الأشخاص في البكاء على الإمام الحسين، ثمّ انصرف إلى منزلك، واهتمّ بأمورك الخاصّة!
[ثم أردف المرحوم العلاّمة قائلاً:] أنا من ينبغي عليه اختيار الخطيب الذي سيعتلي المنبر، وسأقوم بالإشراف بشكل مباشر على جميع ما يخصّ الهيئة، بما في ذلك طريقة توزيع الشاي على الحاضرين؛ فهل تجدون في أنفسكم الاستعداد لقبول هذا الأمر؟ فلم يُعجبهم الأمر، فدعوا له بالخير وودّعوه وانصرفوا.
نعم، هذا هو السيِّد الطهراني، فهو لا يرتضي لنفسه أن يتقبّل مسؤولية إدارة هيئة ما ثمّ يقوم الآخرون بإلقاء حبلٍ حول عنقه وجرِّه إلى هنا وهناك، بل إن تقبَّل السيِّد العلاّمة تلك المسؤوليّة، فعليك الطاعة فيما يأمر به أو ينهى؛ فإن كنت لا ترى في نفسك الاستعداد لطاعته، فهنالك الكثير ممّن يستطيعون المجاملة والتبسّم بوجه الآخرين، وممّن يجيد مداراة الناس، وممّن يتماشى معك ولا يقدحك ولا يخدش مشاعرك ولا يقوم بمؤاخذتك، بل على العكس من ذلك سيعملون على مدحك وتمجيدك وتفخيمك؛ فيقومون بالتغاضي عن بعض الأمور، وستعمل أنت ما يحلو لك! لا يا عزيزي، لا تستطيع فعل هذا الشيء مع السيّد العلاّمة، فاذهب وابحث عن شخص آخر من ذوي الأخلاق المهذّبة وممّن يستطيع الإدارة بالشكل الذي يتماشى مع ما ترغب فيه، حيث يوجد الكثير من هذا القبيل!
قال لي المرحوم العلاّمة يومًا: انتبه لنفسك يا سيِّد محسن، وكن حذرًا من المحيطين بك، فهم يقومون بالالتفاف حولك وتسييرك وبشكل تدريجي وفقًا لأهوائهم ومشتهياتهم وبدون أن تكون أنت شاعرًا بذلك حتّى يُلقون بك في جهنّم ولا يعنيهم مصيرك شيئًا، فكن حذرًا بشكل دائم! ولقد واجهتُ العديد من المواقف في فترة ما بعد وفاة المرحوم العلاّمة، فكنت حينها أتذكّر كلامه عندما قال لي: كن حذرًا.. كن حذرًا! ولقد كان هو كذلك، فقد كان يقظًا وحذِرًا، ولقد كنت أشاهد ذلك عن قرب وألمسه في علاقاته مع الآخرين، فكان يزن الأمور ويتعامل معها وفقًا للنتائج التي يتوصلّ إليها، كما كان يتعامل مع الآخرين بجدّية إذا ما استلزم الأمر ذلك؛ فهذا ممّا لا يمكن تجنّبه، سواءً شاء الإنسان ذلك أم أبى.
يقول الإمام هنا: عليك أن تكون يقظًا لئلاّ يكون العمل الذي تقوم به من أجل تحقيق أغراض نفسانيّة؛ فلماذا يسعى الإنسان لأن يكون هو الفائز عندما يواجه قضيّة معينة؟ ولماذا لا يعمل الإنسان على طرح واقع الحال عند التقاضي بشأن خصومةٍ أو نزاعٍ يحصل مع الطرف المقابل؟ هذا بغضّ النظر عن العواقب المترتّبة على هذا الأمر وعن الحساب الأخروي التي يستوجبه، وإن كنَّا لسنا بصدد الحديث عن وجود حساب أخروي من عدمه في هذا المقام، بل السؤال المطروح هنا هو: لماذا يقوم الشخص باعتبار نفسه محقًّا بدلاً من القيام بإرجاع الحقّ إلى صاحبه عندما يعلم أنَّ الحقَّ مع طرف النزاع الآخر؟ إنَّ السبب الكامن وراء كلّ هذا هو مسألة حبّ النفس؛ فهو لا يريد أن يبدو في موقف ضعيف، وذلك بغضّ النظر عن كونه محقًّا أم مبطلاً؛ فموضوع الحقّ وواقع الأمر لا يعنيه بشيء، بل كلّ ما يعنيه هو: هل سيتمّ حفظ مكانته في هذا النزاع أم لا؟ فإن حُفظت له، فسيكون الوسيط الذي حكم له بذلك هو أفضل وسيط في العالم، وإلاّ فسيكون هذا الوسيط هو الأسوأ في العالم وسيكون المجلس الذي يُقيمه هؤلاء الأشخاص هو كمجلس يزيد والشمر؛ هذا في الوقت الذي كان فيه ذلك الشخص يصف هذا المجلس في العام الماضي أو قبل ستّة أشهر على أنَّه مجلس مفعم بالنور، ويعمل على تبديل الحالة الروحيّة للإنسان؛ وإذا به يتبدّل فجأةً إلى مجلسٍ شيطاني ومجلس الشمر ويزيد وعمر بن العاص. حسنًا، فالمجلس هو ذات المجلس، والحاضرون فيه لم يتغيّروا، والحديث الذي يجري فيه هو نفسه من دون أن يتغيّر فيه أيّ شيء؛ إذ الكلام هنا عن منهج واتّجاه، وهذا الاتّجاه لا يتغيّر دفعةً واحدة إلى اتّجاه معاكس؛ فما الذي حصل بحيث تغيّرت نظرته تجاه هذا المجلس؟! إنَّ ما حصل هو أنَّ ذلك الشخص هو الذي تغيّر، لكنّ المسكين لا يعلم السبب الكامن وراء انحرافه.. فأنت الذي تغيّرت يا هذا، ولم يتغيّر المجلس ولا حاضروه!
التغيّر الباطني للإنسان هو السبب الأساسي من وراء تغيّر نظرته للأمور
وعجيبة جدًّا هذه الحكاية! فقد كنَّا نشاهد أمثال ذلك في عهد المرحوم العلاّمة، حيث كان هنالك أشخاص يمدحونه ويُمجّدونه؛ ولعلّه كانت تحصل لهم مشاهدات تؤيّد رأيهم هذا، وكنَّا لا نتصوّر وجود من هو أعلى مقامًا منهم، فكانوا يقولون: لو كان على ظهر الكرة الأرضيّة من شخصٍ له مكانة عالية فهو السيِّد العلاّمة، كما كانوا يقولون: شاهدنا من العوالم العلويّة وجود نقطة واحدة فقط على الأرض ينبعث منها النور... لقد سمعنا منهم الكثير من هذه القضايا! وهكذا مرّت الأيّام، إلى أن ظهرت بعض المسائل الأخرى، وبرزت بعض الرغبات الجديدة التي لم تتمّ الاستجابة لها ـ فلا يمكن تلبية أي طلب، لأنّ كلّ شيء مبني على ميزان وأساس ـ حتّى وصل الأمر بهذا الشخص إلى أن يقول: لا أدري لماذا تبدّل الأمر، فقد اختفت تلك النورانيّة وذلك الحال المعنوي! ثمّ تطوّر الأمر تدريجيًّا، وإذا بالحال النورانيّ يتبدّل إلى ظلمة وكدورة.
يا للعجب! ولماذا لم نشاهد نحن مثل ذلك؟ فنحن لم نلاحظ حصول أيّة تغيّرات، وجميع الأمور تجري وفقًا لمجراها السابق على مستوى الحياة اليوميّة والعلاقات والمسائل؛ فما هو التغيّر الذي حصل؟ وما هي المسألة التي طرأت؟ فتبيّن بعد ذلك بأنَّ المشكلة تكمن في الشخص نفسه، فقد حصل له تغيّر في نفسه؛ ولم يقتصر هذا الأمر على هذا الشخص بالذات، بل كان هنالك الكثير من أمثاله، ولا يزال الكثير منهم على قيد الحياة في الوقت الحاضر.
ولا زالت الكلمات التي كانوا يطلقونها في مجالس عصر الجمعة وليلة [الثلاثاء] ترنّ في أذني لحدّ الآن، كما أنَّ الأمور التي كانوا يطرحونها وحالاتهم تمرّ من أمام عيني في هذه اللحظة، الواحدة تلو الأخرى مثل شريط متحرّك، ثمّ يأتي الامتحان؛ وإذا بوليّ الله يتحوّل إلى ... .
كنَّا قد ذهبنا يومًا إلى منزل أحدهم تلبية لدعوةٍ لتناول طعام الغداء، وكان هذا الشخص يقوم بتهيئة اللحم لغرض الشواء، فالتفت إليَّ قائلاً: «عندما ذهبت الليلة الماضية لشراء اللحم، كنت أقول في نفسي: سأقوم بتقطيع هذا اللحم، وعندما سيستقرّ في معدة أولياء الله، فإنَّه سيتحوّل إلى نور! ولا تدري أيّة حالة قد انتابتني في تلك اللحظة». وبعد ذلك، وعندما تتبدّل الأمور، وتحصل مستجدّات، وإذا بهذا الشخص يقول: ليس من المعلوم بأنَّ هذه التصرّفات التي تصدر من السيِّد العلاّمة هي مطابقة للشريعة المقدسة! يا للعجب! ليس من المعلوم... إنَّ حال المرحوم العلاّمة لم يتغيّر شيئًا، لكن إمّا أن تكون تلك الحالات السابقة التي كنت تتحدّث عنها عبارة عن تخيّلات وأوهام، أو أنَّ حالك أنت قد تغيّر الآن؛ فعليك التفحّص عن سبب هذا التحوّل في أفكارك. ولا علم لي برأيه بالمسألة في الوقت الحاضر وبعد مضيّ فترة من الزمن لعدم وجود علاقة تربطنا ببعضنا الآن. إنَّ السبب الكامن وراء كلّ هذا التغيّر هو ذلك التبدّل الذي حصل في الباطن ولا ربط للموضوع بما يحصل في الخارج؛ فما إن شعر الشخص بقلّة العناية به حتّى ثار بركانه، وسقطت السماء على الأرض، وتبدّل لديه كلّ شيء، فأصبح الرحمن شيطانًا، وجبرائيل إبليسًا، والنبيّ كافرًا.. كلّ هذا بسبب ذلك التغيّر الذي حصل في الباطن.
متى يصير التكليف الشرعي واجبًا في حقّ الإنسان
يقول الإمام الصادق عليه السلام: عليك أن تكون حذرًا، ويجب عليك التحرّي عن السبب الذي جعلك تقول: إن قلت واحدة سمعت عشرًا! وما هو منشأ وأصل هذا السلوك وهذه الأخلاق التي جعلتك تردّ على المقابل بهذا الشكل؟ فما معنى قولك: ستسمع عشرًا! فهل يجب على الإنسان أن يسعى للإجابة عن كلّ ما يسمع من كلام؟ بل ولماذا عليه أن يردّ على ذلك الكلام؟ ومن نكون نحن في البين لكي نقوم بالرّد على ما يُطرح! فترى أحدهم ما إن يحصل شيء، حتّى يُبادر بالردّ محتجًّا بإحساسه بالتكليف الشرعي! مع أنّ هذا الشعور بالتكليف الشرعي هو بحر عظيم ـ كنت أريد أن أقول شيئًا آخر ـ يسع كلّ من يرد فيه ويقول: هل من مزيد!
أتعلمون الظروف التي يجب توفّرها لوجوب ذلك التكليف الشرعي؟ يكون ذلك عندما لا يرى الإنسان في نفسه أيّ تفاوت فيما إن قام بذلك العمل أم لم يقم به؛ أي عندما لا يتدخّل فيما يجري، بل يرى الأمر متعلّقًا بالغير، وهو لا يكون سوى واسطة لنقل ذلك المطلب إلى الآخرين لا أكثر؛ فهو مأمور ليس إلاّ؛ إن قيل له: افعل هذا الأمر، يفعل، وإن قيل له: لا تفعل، لا يفعل؛ فلا يتفاوت لديه الأمر في كلتا الحالتين، وليحصل ما يحصل؛ سواءً أتقبّل الطرف الآخر النصيحة والأمر أم لم يتقبّل.. هذا هو ظرف تحقّق التكليف الشرعي. فعندما يطرح الإنسان أمرًا، فقد أدَّى ما عليه، وعليه أن يعتبر الأمر منتهيًا بالنسبة له؛ فإن قام أشخاص آخرين بطرح الموضوع بصيغة مغايرة، فذلك عائد لهم، ولا يعني الإنسان بشيء؛ ولقد ذكرت هذه المسألة كرارًا، واالأمر هو الآن كذلك: إنّني إذا وجدتُ أنّ ما يُنقل عن المرحوم العلامة ـ بصفته يمثّل منهجه ـ هو باطل، فسأقوم بالإعلان بكلّ صراحة عن بطلانه وكذبه، وأقوم بتقديم الأدلّة على صحّة كلامي؛ فإن قام بعض الأشخاص بحياكة الأدلّة لإثبات ادّعاءهم، فلن يعنيني الأمر عند ذلك بشيء، فقد قمت بواجبي ولن أقوم بتعقّب الموضوع؛ نعم، إن جاء شخص يستفسر عن رأيي تجاه ما قدّموا من أدلّة، فسأوضّح له بطلان استدلالهم، وأمّا إن قمت بمواجهتهم وتهيئة وسائل الحرب لدحض ادّعاءهم، فسأكون مصداقًا لـقول الإمام: «إن قلت واحدة سمعت عشرًا». فعلى الإنسان أن يكون يقظًا، ولا يخدع نفسه بحجّة التكليف الشرعي؛ فترانا نقوم بأيّ عمل ونرتكب أنواع الأخطاء، ثمّ نقوم بتبرير ذلك على أنَّه قيام بالتكليف الشرعي.. ما هذه الخزعبلات! فالواجب الملقى على عاتق الإنسان هو بيان المطالب.
حرمة الاغتيال في الإسلام وقصّة مسلم بن عقيل
ومن الأمثلة على ذلك: تلك الضجّة التي حصلت أخيرًا حول موضوع حرمة الاغتيال؛۱ فالمرحوم العلاّمة كان معارضًا للاغتيال ويعتبره حرامًا٢، وكان سماحته قد بيَّن مرارًا وتكرارًا حرمة هذا الأمر؛ فيأتي جماعة من الناس ويقولون بأنَّه كان قد أعطى أمرًا باغتيال شاه إيران السابق، فقلت: كلاّ، ذلك كذب محض، حيث سمعته بنفسي يقول: لم أكن موافقًا على موضوع الاغتيال، بل كان ذلك القرار قد اتّخذ من قِبل المرحوم الميلاني والمرحوم الفريق القرني، أمّا أنا فقد التزمت الصمت. نعم، لقد سمعت ذلك منه بنفسي، ثمّ قام هو شخصيًّا بطرح هذا الموضوع في المجالس التي تم التحدّث فيها عنه. فليكن الشاه من يكون! فهذا أمر آخر، ونحن لا يعنينا في هذا المقام كون الشاه إنسانًا صالحًا أو طالحًا، بل ما يعنينا هو: هل يقوم شخص عارف بتجويز اغتيال هكذا شخص أم لا؟ لا يمكن للعارف أن يفعل شيء كهذا! حيث نرى أنّ مسلم بن عقيل لم يلجأ إلى اغتيال عبيد الله بن زياد في منزل هانئ بن عروة مع أنّه كان قادرًا على القيام بهذا العمل؛ ولو كان قد فعل ذلك، لانتهى كلّ شيء؛ ولقد رضي مسلمٌ بمقتله ومقتل ابن رسول الله وذريّة رسول الله على أن يفعل ذلك الأمر؛ أي أنَّ عمله هذا هو الذي أدّى إلى حصول ما حصل، وإلى أسرهم والذهاب بهم إلى الكوفة، وبعد ذلك إلى الشام مكبّلين بالسلاسل والأغلال يُطاف بهم من مدينة إلى مدينة في ظروف البرد والحرّ الشديد، ثمّ يُعاد بهم إلى المدينة. فلقد رضي بأنَّ يجري كلّ ما جرى على أن يرتكب عملاً غير لائق.. هكذا يكون ممثّل الإمام الحسين عليه السلام! وأمّا نحن، فماذا كنَّا سنفعل لو كنَّا مكانه؟ كنّا سنقول: لا يمكن وأد هذه الفتنة ودفع هذا الخطر ومنع حصول واقعة كربلاء إلاّ بقتل عبيد الله بن زياد، ولا يمكن النيل من ابن زياد إلاّ في مثل هذا المكان، فلأقتله الآن وأنهي الأمر! فلو كنَّا مكان مسلم بن عقيل، لفعلنا ذلك، إلاّ أنَّ عاشوراء لن تكون بذلك أسوةً، ولأصبحت كغيرها من الوقائع التي تحصل في جميع أنحاء العالم.. فهذا هو حال الدنيا، حيث تجد أنّ أحدهم يضرِب والآخر يُضرب، وهذا يكون غالبًا والآخر مغلوبًا، وقد تنقلب الكرّة ويصبح الغالب مغلوبًا؛ فهذه الأمور موجودة وستبقى موجودة حتّى يوم القيامة:
به جز از علی كه آرد پسری ابو العجايب | *** | كه علم كند به عالم شهداي كربلا را؟۱ |
يقول: مَنْ سوى علي ذلك الذي يستطيع أن يُنجب ولدًا عجيبًا يتمكّن من أن يُري العالم مقام شهداء كربلاء؟
فلولا هذا ما كان الإمام الحسين إمامنا الذي نقتدي به، بل لأصبح بطلاً مقاتلاً كبقيّة الأبطال؛ فعلى الرغم من كونه مسلمًا يصوم ويصلّي، وكونه ابن النبيّ ورجل صالح ـ وكذلك الحال مع مسلم بن عقيل، فهم أناس صالحون يقيمون الصلاة وهم من العلماء و ... ـ إلاّ أنَّه لن يكون بذلك هو الإمام الحسين.. لماذا؟ لأنَّ الإمام الحسين لا يجيز الاغتيال وإن أدَّى ذلك إلى قتله! فهو لا يقول: لا بدّ أن أبقى! لأنّه لا وجود للأنانيّة في البين؛ فالإمام الحسين لا يرى نفسه لكي يصدر أمرًا بالاغتيال أو لا يصدره، بل هو يرى الله، وهو تعالى له قواعد خاصّة، ومنهج قويم ومنطق مستقيم ومسائل خاصّة؛ فإن سار الإمام الحسين وفقًا لرضا الله وتقديره ومشيئته، فسيصل إلى مقام الشفاعة الكبرى، وأمّا إذا ما رأى لنفسه بعض المكانة، وحسب لنفسه حسابًا ـ ولو قليلاً ـ ، ورأى أنَّه لا بدّ من بقائه، فسوف يتوقّف ولن يتحرّك أبدًا! فعلينا اليقظة.. أتدرون ما الذي أريد قوله؟
[حيث يطرح البعض هذا الطرح:] ما دمت أنا باقٍ فالإسلام باق؛ لا يا هذا! من تكون أنت؟ فلو بقي عشرة ملايين من أمثالك أو فنوا، لما غيّر في الأمر شيئًا! فما هذه المقولة: لا بدّ من بقائي لكي يبقى الإسلام ببقائي! يقول الإمام الحسين: بل على العكس، لا بدّ من قتلي لكي يبقى الإسلام ولا بدّ من قتل أبنائي لكي تستمرّ هذه المسيرة، ولكي يبقى هذا الطريق الذي فُتح للناس مُعبّدًا، ولكي يستمرّ ذلك النبع الفوّار في فورانه.. فلا بدّ من قتلي وقتل ابني وقتل علي الأصغر وأخوتي وأبناء أخوتي وخيرة أصحابي، ثمّ لا بدّ أن تأتي حادثة الأسر والتي يُعدُّ كلّ يوم منها كواقعة كربلاء.. لِمَ كلّ هذا؟ لعدم وجود الأنانيّة في البين؛ فهو ينظر إلى الله وحده! هذا هو الدرس الذي يجب علينا تعلّمه من واقعة عاشوراء ومسار حركة الإمام الحسين؛ وهو درس عجيب حقًا؛ أي إنَّ سعادتنا منوطة باتّخاذ هذا الدرس عبرة لنا؛ فعلينا أن ندرك من خلال تلك الحوادث والوقائع التي حصلت...
لا ينبغي الهبوط بواقعة عاشوراء إلى المستوى الظاهري
وأقول بحقّ: إنّ حادثة عاشوراء هي حادثة عجيبة جدًّا... وإن وفّقني الله تعالى، فسأورد في هذا الكتاب الذي هو قيد التأليف والمسمّى بـ «سيماى عاشورا»۱ جميع المطالب التي سمعتها من العظماء في هذا المجال في مجالس وأجواء متفرّقة وبعبارات متعدّدة، من دون أضيف إليها من عندي إلاّ بالحدّ الأدنى؛ وسترون عندها كيف ستتغيّر رؤيتنا لواقعة عاشوراء؛ وبكلمات أخرى: كيف ستكون نظرتنا إلى الواقعة: هل ستكون من منظار عاطفي ومنظار حزن وتألّم فقط، أم أنَّ الأمر سيكون بشكل آخر! فلقد كانت الأجواء في ذلك الوقت مختلفةً عن الأجواء التي كنّا نسمع عنها لحدّ الآن، وسيكون تفسير الوقائع بشكل يتفاوت عمّا سمعناه وقرأنا عنه حتّى هذه اللحظة؛ فلقد كانوا يعيشون في أجواءٍ مختلفةٍ.
أتذكّر تلك الأزمنة التي كنَّا نلتقي فيها بالسيِّد الحدّاد في منزله بكربلاء، وما كان يتحدّث به في الليل أو النهار؛ فقد كان يتحدّث عن موضوعٍ لمدّة خمسة دقائق، أو أنَّه كان يتفوّه بجملة واحدة؛ ولكنَّنا عندما كنَّا نفكّر فيما قال، كانت تتّضح لنا كيفية رؤيته لتلك الوقائع، وكيف كان ينظر إلى تلك القضايا؛ فلم يكن ينظر إلى قضيّة سيِّد الشهداء أو أبي الفضل والأسرى وبقيّة الأمور بنظرة عاطفيّة ونظرة إشفاق وحزن وترحّم، بل كان يعيش في أفق بحيث لو أردنا النزول عن ذلك الأفق، لفقدت القضيّة تلك اللطافة والرقّة والعظمة والكبرياء وذلك السمو والمجد والبهاء، ولتبدّلت إلى قضيّة عادية لا تتجاوز الضرب بالسيف والرمح ورمي السهام والقتل وقطع الرؤوس؛ أي أنَّ القضية سوف لن تختلف عمّا يجري يوميًّا في هذا العالم من الحروب التي نشاهدها بأنفسنا مع ما فيها من تفاوت في الشدّة والضعف.. فما الذي يجري في ساحة الحرب؟ فهم لا يعمدون إلى توزيع الحلوى فيها بكلّ تأكيد! بل ما يجري فيها هو إلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس الناس، وهذا ما نشاهده في الصور والأفلام التي تُنقل عن الحروب التي تجري هنا وهناك؛ فما يجري في هذه الحروب لا يختلف من الناحية الظاهريّة عمّا جرى في كربلاء، حيث ترى المسكين قد شُوي وعانى ما عانى قبل أن يفارق الحياة! وترى الآخر قد فقد كلّ ما لديه وحلّت به أنواع المصائب؛ فلا فرق بين الحالتين سوى أنّ الواقعة الأولى قد تمّت عن طريق السيوف، وهذه عن طريق القنابل الفسفوريّة والكيميائيّة المحرقة والوسائل الأخرى التي نشاهدها تحصل الآن، وقد حصل مثلها في الماضي وعلى طول التاريخ؛ كلّ ما هنالك أنَّ ذلك قد يحصل بواسطة السهم والسيف مرّة، وبواسطة الطلقة النارية والوسائل الأخرى مرّة أخرى!
فلا يجب علينا الهبوط بهذه المسائل إلى المستوى الظاهري؛ فالواقعة التي حصلت هي قضيّة ومسألة يجب الاستفادة من كلّ خطوة منها وكلّ نكتة من نكاتها لغرض العروج، والتحرّر من عالم النفس ومن الدنيا والشهوات، والتخلّص من السعي وراء غشّ الناس ومحاولة التغلّب على الخصم بأيّ شكل كان.
تحليلٌ لسبب امتناع مسلم بن عقيل عن قتل ابن زياد
عندما امتنع مسلم بن عقيل عن قتل عبيد الله بن زياد، فإنّه بذلك يكون قد وقّع على شهادته بنفسه ورأى موتَه بعينه؛ غاية الأمر أنّه قال: الموت أمر محتوم وسيحصل يومًا ما، وأنا بقتلي لهذا الشخص سأحول دون موتي الظاهري، ولكن ماذا سأكون قد فعلت حينئذٍ بتلك الحياة الأبديّة وبذلك العروج إلى العوالم الربوبيّة والتقرّب والتجرّد؟! سأكون قد هدّمت كلّ ذلك! وعليه، فإنّ موتي هو لأجل الحصول على تلك المرتبة الوجوديّة [الرفيعة].. نعم، إن قتلتُه، فسأكون قد حافظتُ على مرتبتي الظاهريّة، وسأعود لتناول الأرز والخبز واللبن، والنوم في الليل، والاستيقاظ في النهار، وأداء الصلوات من دون أن يحدث أيّ شيء! لكن ماذا عن الجانب الآخر للمسألة؟ فيأتي هنا ليقول: سأشتري موتي الظاهري وأقبل به مقابل ضمان تلك الحياة الأبديّة والوصول إلى التجرّد والتوحيد وولاية الإمام! فانظر كيف تتغيّر جميع الحسابات، ويتغيّر مجرى الأمور! وكنت قد بيّنت لكم بأنَّ جيش الحرّ عندما التقى بالإمام الحسين، كان من العطش والضعف والوهن، بحيث فقد البعض منهم القدرة على حمل قربة الماء لأجل الاغتراف منها، فقام الإمام بوضع فوهة القربة في أفواههم لكي يشربوا مع أنّهم هم الذين قطعوا الطريق عليه.. حسنًا، لقد كان الإمام يقدر على إفنائهم في ظرف ساعة من الزمان، حيث كان معه ألف مقاتل، وكان مع الحرّ ألف مقاتل لكنّهم كانوا على ذلك الحال. كان الإمام الحسين قد أمر أصحابه [في المنزل السابق] بالتزوّد بالماء بضعف ما يحتاجون إليه؛ لكن معنى ذلك أنّ هذا المقدار الإضافي هو الذي سيجعل أبداننا تُسحق بحوافر هذه الخيول، وسيعمل على فصل رؤوسنا عن أجسادنا وأسر أهل بيتنا.. أليس هذا هو معناه؟ فما هي النتائج التي ستترتّب على حمل هذا المقدار المضاعف من الماء وسقي القوم؟ إنَّ معنى ذلك هو أنَّهم سيستعيدون نشاطهم ويقفون بوجهنا ليقولوا لنا: لا نسمح لكم بالسير بهذا الاتّجاه.. هذا هو معناه! وعليه، فمن الذي فعل كلّ ذلك؟
ـ إنَّه الإمام الحسين!
ـ ومن الذي يعمل على حصول واقعة كربلاء؟ ومن الذي يُخطّط لها؟
ــ إنَّه ذلك الشخص الذي يُعدّ واسطةً في نزول التقدير والمشيئة الإلهيّة في هذا العالم؛ فهو الذي يعمل على إنجاز هذا الأمر! وهو يقول: املئوا القِرب لكي يتمكّنوا من قطع الطريق علينا! فلو لم نملأ القِرب، لأهلكناهم في ظرف ساعة من الزمان، ولما كان هنالك واقعة باسم واقعة كربلاء؛ لأنّه سيكون بإمكاننا حينئذٍ أن نسلك طريقًا آخر، حيث حصل جدال بين الإمام الحسين والحرّ، فقال الإمام له: ثَكلتك أُمك! فأجابه الحرّ: لو أنّ أحدًا في هذا العالم كلّمني بمثل ما كلّمتني به، لرددت عليه، لكن ماذا أفعل وأمّك فاطمة؟!۱ لقد راعى الحرّ الأدب هنا، وهذا هو الذي أنقذه!
فلو لم يتمّ سقيهم الماء، لماتوا عطشًا، ولما كان هنالك حاجة للسيف والقتال. [فلو أنَّ الإمام قد سألهم:]
ــ ماذا تريدون؟
ــ إنَّنا نموت من شدة العطش!
ــ فلتموتوا، فهذا هو الذي نريد، فنحن نريد موتكم لكي يُفتح لنا الطريق للذهاب إلى المكان الذي نبتغيه.
فالإمام الحسين يأمر بالتزوّد بالماء الإضافي لكي يسقي أعدءه حتّى لا يهلكوا من العطش، ولكي تحصل واقعة عاشوراء؛ فهل يمكننا القول بأنَّ الإمام الحسين لم يكن يعلم ما الذي سيحصل؟ كلاّ، فهذا غير صحيح، ولا يمكن أن يكون؛ وعليه، ما هو السبب في كلّ ذلك؟ السبب في ذلك أنّه وضع الأنانيّة جانبًا، وعندما تنتفي الأنانيّة، يستوي الأمر بالنسبة إليه: فليحصل ما يحصل، وليخسر الحرب؛ لأنّه لا وجود للأنا في البين.
وحينئذٍ، عندما تنتفي الأنانيّة، يصبح الإنسان غير مباليًا إن حصل الهجوم عليه في هذا الكتاب أو كُذِب عليه ألف كذبة في ذلك المقال، بل ليُضف على ذلك المزيد؛ إذ إنَّ الأمر مبنيّ على انتفاء الأنانيّة، فيُصبح التكليف الشرعي هو وجوب إظهار الحقّ لا أكثر، فما زاد على ذلك فسيدخل في مجال النفس! فمادام الإمام الصادق قد أمرك بمناظرة المخالفين، فإنّ ذلك هو تكليفك الشرعي، وأمّا عندما يستشهد الإمام الصادق، وتنتقل الإمامة إلى موسى بن جعفر عليهما السلام، ويأمرك بالتزام الصمت وعدم البحث والجدال وعدم تحريك مشاعر الطرف المقابل، ثمّ تذهب أنت وتفعل ذلك، فما الذي يعنيه هذا التصرّف؟! إنّ ذلك يعني أنَّ ما تقوم به الآن ليس لله، بل هو من أجل نفسك، وعملك هذا يعتبر عملاً مخالفًا ومضادًّا للولاية، وهو خلاف التكليف؛ فإن كنت تعتبره تكليفًا، فهل تعتقد بأنَّك أنت أكثر إدراكًا لوجوب التكليف أم الإمام موسى بن جعفر؟ فهو يقول: لا تفعل! فما دام قد قال لك: لا تفعل، فعليك الجلوس في مكانك، لكن مع ذلك يقول: انظر إلى هذا الشخص يتعرّض للولاية! أنت في واقع الحال في معرض الدفاع عن نفسك لا عن الولاية؛ فأنت تشعر بأنَّك تفقد من وزنك وأنَّ نفسك تتعرّض للتحقير إن التزمت الصمت تجاه ما يطرحه المقابل، وأهميّة ذلك أكثر لديك من الدفاع عن الولاية! فإن كان قيامك بقصد الدفاع عن الولاية، فها هو صاحب الولاية يأمرك بالسكوت؛ فالذي تفعله الآن هو ليس دفاعًا عن الولاية، بل أنت تقول: كيف يجرؤ هذا الشخص على التكلّم حول هذا الموضوع من على المنبر مع وجودي أنا هشام بن الحكم؟! سأسحقه وألقي به جانبًا!! كيف أكون أنا جالسًا هنا، وهو يتكلّم بهذا الكلام؟! سيقولون: انظروا، ها قد أُفحم! فدفاعه هذا إذن هو لإثبات قدرته، لا للعمل بكلام الإمام موسى بن جعفر والإمام الصادق!
وحينئذٍ، سيكون قد انهزم، ويكون عمله مضاهيًا لاغتيال عبيد الله بن زياد في منزل هانئ بن عروة؛ فكلاهما يقع تحت عنوان واحد، والفرق بينهما أنَّ هذا يتم عن طريق اللسان وذلك عن طريق السيف؛ أي أنّهما عبارة عن حركة واحدة، لكنّها تتجلّى في أشكال وأبعاد وظهورات مختلفة؛ فهل ستكون ردّة فعل الإنسان لله، أم دفاعًا عن النفس؟
يقول لنا الإمام الصادق: عليك أن تكون يقظًا، فعند تكلّمك وتعاملك مع بقيّة الأشخاص؛ هل أنت تقوم بذلك بدافع التكليف أم بدوافع نفسيّة؟ انتبه، فقد يقتضي منك التكليف التزام الصمت في بعض الموارد، مما يؤدِّي من الناحية الظاهريّة إلى هزيمة الإنسان وفقدان منزلته ومكانته أو إلى حصول تغيير وتبدّل في أحواله وأوضاعه! فليحصل ما يحصل! فعلى الإنسان أن يلتزم الصمت في الكثير من المواقف، فيجلس ليتفرّج على ما يجري؛ كأن يقوم الشخص المقابل بالتحدّث لمدة ساعة وإيراد الأدلّة على ما يقول.
أسلوب التصرّف مع الأشخاص الذين يجرّون الإنسان نحو قضايا نفسانيّة
وأحيانًا، قد ينتابني الضحك عندما أطالع بعض هذه الأمور، وأقول مع نفسي: كم يُتعب هؤلاء القوم أنفسهم؟ فإلباسُ الكذبِ ثوبَ الحقيقة يحتاج إلى الكثير من الجهد!
ـ ما الداعي لكلّ هذا؟
ـ يجب ألاّ نُهزم ونظهر بمظهر الضعف ونحن نحتلّ تلك المكانة! ولا ينبغي أن يُقال لنا: لقد انهزمتم! فحتّى وإن حصل كذب في موقف ما، فيجب علينا تبرير الموضوع واستعمال أنواع المغالطة والجدل والاستدلال بشتّى أنواع الأدلة لإثبات صحّة الموضوع، وذلك لكي لا يحصل خدش في مكانتنا!
ـ يا أيّها السيّد، بدلاً من أن تُتعب نفسك بهذه الأمور، عليك بقراءة حديث عنوان البصري الذي أوصى المرحوم العلاّمة بقراءته مرّة في الأسبوع، حيث ستوفّر على نفسك عناء الوقوع تحت ذلك الضغط وتتجنّب حصول المشاكل؛ فاقرأه مرة في الأسبوع: مَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا، فَقُلْ له: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً. فعندما تقول له: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً، فسينسحب الشخص ويغادر؛ على أنَّ لدى بعض الأشخاص مرض الرغبة في المجادلة، وذلك مرض حقًّا! فتجد الشخص يترصدّ ويتحيّن الفرص ليحصل على كلمة أو موضوع فيحمله ويغادر؛ فمثل هذا الشخص لا يعرف السكون والهدوء، وهذا مرض من الأمراض! فإن تكلّم المقابل بعشرة عبارات جيّدة، فلا تعنيه تلك العبارات بشي، ولكن ما إن ينطق بكلام، وإن كان ذلك الكلام ليس بكلام سيّء ولكنَّه يستطيع أن يجد له محملاً سيّئًا، إلاّ وتراه قد ركّز على ذلك الموضوع وصبّ عليه جامّ انتقاده! فأسألك ـ بينك وبين الله ـ يا أيّها الشخص الذي تدين بدين الإسلام، لو كان قائلُ هذا الكلام هو أحد أبنائك أو صديقًا لك أو أحد أفراد مجموعتك أو حزبك الذي تنتمي إليه، أكنت ستتهجّم عليه بهذه الطريقة؟ أم أنَّك كنت ستستدلّ بألف آية وحديث على إثبات صحّة كلامه؟ لكن بما أنّ القائل ينتمي إلى الطرف الآخر، فلا بدّ من حمل الموضوع على الوجه السيّء ولا بدّ من مهاجمته! فيكون ذلك معاكسًا تمامًا لمضمون هذه الرواية، حيث أنّها تقول: إن قيل لك عشرًا، قل لهم: لن تسمعوا منّي ولو واحدة، وانصرف عنهم.. {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا}۱ فعباد الرحمن هم أولئك الأشخاص الذين يمشون على الأرض بهدوء ومن دون تبختر٢، وإن قابلهم شخص جاهل وقال لهم: إن قلت واحدة سمعت عشرًا، قالوا له: السلام عليك، كيف حالك؟ أسأل الله لك التوفيق وأستودعك الله! فإن قال الشخص الجاهل: لديّ ما أريد البحث فيه معك، يجيبه: دع ذلك لوقت آخر! فذاك يريد بكلامه هذا الشروع بالبحث، لكنّه يقوم بسدّ الطريق بوجهه والدعاء له وتوديعه وعدم السماح له بإجراء النقاش؛ إذ إنَّ محور حياة هؤلاء الأشخاص يدور حول هكذا أمور، فهو لا يستطيع إدامة حياته، ولا يستطيع النوم ليلاً بدونها، بل لا بدّ له من تناول أقراص منوّمة حتّى يستطيع النوم! فلا يقرّ له قرار ما لم يُحدث شجارًا بين الآخرين.. نعم، يوجد مثل هؤلاء الأشخاص وأنا أعرف الكثير منهم، فتجد أنّ أحدهم لا يستطيع النوم ما لم يُشعل نار الفتنة بين الناس وما لم يتّصل هاتفيًّا، ويُرسل رسائل عن طريق الهاتف المحمول إلى هذا وذاك عشرة مرّات في اليوم، وما لم يقم بأمثال تلك الألاعيب والخزعبلات؛ فهذا هو أحد الأمراض الذي لا أعلم ماذا يمكن أن نُطلق عليه من اسم! فأيّ نوع من الكائنات هذا؟! لأنّنا لا يمكننا أن نُسمّيه إنسانًا! فهو لا يستطيع أن ينام ما لم يفعل ذلك؛ فلا بدَّ من أن يُرسل رسالة قبل النوم لكي يستطيع النوم براحة بال، حيث أنّ لتلك الرسالة مفعول خمسة من الأقراص المنوّمة؛ فتراه يتّصل بأحد الأشخاص ليقول له: ألم تسمع الخبر الكذائي من فلان؟
ــ لا، لم أسمع!
ــ عليك التحقيق في الأمر؛ فكأنّني سمعته قال كذا!
ما هذا التصرّف؟ هل أنت مريض؟ استرح واخلد إلى النوم! واشرب قدحًا من اللبن الرائب أو الحليب؛ فله مفعول القرص المنوّم لكي تنعس وتنام.
فهؤلاء القوم مرضى، ويقف من وراء هذا المرض سبب؛ ألا وهو رسوخ الشيطان في أنفسهم، والشيطان في حالة اضطراب دائم، وهنالك روايات في هذا المجال عن النبيّ صلى الله عليه وآله وعن الإمام الصادق عليه السلام كذلك، حيث جاء فيها أنَّ الملائكة يكونون في حال سكون وهدوء دائمين؛ ولذا ترى الشخص المؤمن يُحبّ أن يرى الأمن قد عمّ المدينة والمجتمع، ولا وجود للصخب والضوضاء، بحيث أنَّ الجميع يخلدون إلى النوم وهم في حال من الاطمئنان والهدوء؛ فلا وجود للقيل والقال، ويعيش الجميع في حبٍّ ووئام. وأمّا الشيطان، فهو لا يعرف معنىً للسكون والهدوء؛ فتراه يعمل على إيجاد الاضطراب والتشنّج بين الناس، ويقوم بنقل الكلام بين هذا وذاك، ويعمل على إيجاد الشجار بين الأشخاص، فيجعل الشخص يُرسل رسالة مشحونة بالكلام البذيء والفاحش بواسطة الهاتف المحمول إلى زيد من الناس، ليقوم عمرو بالردّ عليه بالمثل؛ وهكذا، يعمل على إثارة النزاع والشجار بينهما؛ فهذا الصنف من الناس قد حلَّ به الشيطان، بينما يكون الرحمن قد حلّ بالأشخاص الموصوفين أعلاه؛ فيكونان بذلك على طرفي نقيض.
يقول الإمام الصادق: عليك ألاّ تجعل الشيطان يحلّ في نفسك، ويستولي عليك ويعمل على تغيير حالك؛ فما إن ترى أحدهم يحاول أن يسوقك بذلك الاتّجاه، فاقطع الطريق عليه، ولا تمنحه الفرصة لإدامة الموضوع؛ فما الذي سيفعله إن رأى منك ذلك؟ لا شكّ أنَّه سيتركك وحالك. فإن أرسل إليك أحدهم رسالة عن طريق الهاتف المحمول على سبيل المثال، ورأيت بأنَّه يريد جرّك إلى موضوع معيّن، فاحذف تلك الرسالة، ولا تردّ عليه بشيء، وادعُ له بالخير وبتهيئة شخص آخر له ممّن يستجيب لهكذا أمر، وقم بإنهاء الموضوع. وأمّا إن أردت أن تردّ عليه، فستمضي ليلتك تفكّر في كيفيّة الردّ عليه، وستقول: سأكتب له في الغد رسالة أذكر فيها كذا وكذا ... لقد خسرت بعملك هذا يا عبد الله، ولم تستطع كسب درجة النجاح! فما هو الحلّ الصحيح إذًا؟ هو أن تتركه وشأنه، وتدعُ له بالتوفيق؛ فهذا هو أفضل ما يمكن أن تُجيبه به! فكيف سيتعامل المرء مع هكذا أشخاص من المرضى؟! عليه أن يُجيبهم بهذا الشكل!
من يُسلّم نفسه للإمام عليه السلام يتولّى الإمامُ تدبيره
نسأل الله أن يوفّقنا جميعًا لترتيب الأثر على ما ينبغي لنا أن نُرتّب الأثر عليه؛ فمجرّد الاطّلاع على الحقائق وإدراكها لا يعني شيئًا، بل لا بدّ من العمل بموجبها وترتيب الأثر عليها؛ فقد يكون المرء سمع موضوعًا ما لمرّات عديدة ومن أشخاص متعدّدين، بل من الممكن أن يكون سمع ذلك من النبيّ نفسه، ولكن ما الفائدة من ذلك إن لم يعمل بموجبه؛ فمجرد سماع الموضوع من النبيّ أو من أمير المؤمنين لا يجدي نفعًا؛ ألم يكن هنالك من سمع منهم؟ فمن هم الذين أدمَوْا قلب أمير المؤمنين إذًا؟ هم ذات الأشخاص الذين كانوا يستمعون إلى كلامه؛ فأولئك الأشخاص الذين كانوا يجلسون إلى جنب منبر رسول الله ويبكون وينادون: يا رسول الله، يا رسول الله ... هم الذين ذهبوا وتسبّبوا في وقوع حادثة السقيفة!
فعلى الإنسان أن يطلب من الله التوفيق للعمل بما يعلم، وسيُعرِّض سبحانه وتعالى جميع الناس لأمثال تلك الاختبارات؛ فلا تعتقدوا بعدم تعرّضنا لمثلها، بل كونوا على يقين من أنَّنا سوف لن نخرج من الدنيا ما لم نتعرّض لتلك الاختبارات الواحدة تلو الأخرى؛ فعلينا أن نطلب من الله التوفيق لعبور تلك الامتحانات بنجاح، فإن عبرناها فقد فزنا؛ فلقد فاز مسلم بن عقيل في الوقت الذي خسِر فيه هشام بن الحكم، لعدم التزامه بأمر الإمام، فقد كان يرى لنفسه مكانة، بينما لم يكن مسلم يرى لنفسه وجودًا، بل كان يرى إمامه فقط، وكان لسان حاله يقول: من أكون أنا؟! فانا لست سوى ممثّلاً عن الإمام، فإن قمت بذلك العمل، فسوف يُحسب ذلك على منْ أنوب عنه؛ وهو الإمام، وسيُقال: لا حاجة لنا بإمام يقوم نائبه بدعوة عبيد الله بن زياد إلى منزل هاني بن عروة وبدون علم بن زياد بما تمّ تدبيره له! وإلاّ فلو كنت صادقًا في منهجك، لكنت تخبره بعزمك على قتله لكي يجلب معه سيفه ودرعه فتتقاتلا، فلا ضير في ذلك في مثل هذه الحالة؛ وأمّا أن تدعوه إلى منزل هانئ بن عروة، ثمّ تقتله غفلةً وغيلةً، فلا نريد إمامًا يكون نائبه بهذا الشكل، والأفضل لنا أن نذهب إلى يزيد بدلاً منه!
فلم يكن مسلم يرى نفسه، بل كان يقول: من هو الشخص الذي أنوب عنه؟ أنا نائب عن الإمام الحسين. فلمّا كان يرى نفسه تابعًا للإمام الحسين، فالإمام يقوم بتحريكه وهو في مكانه، فيقول له: افعل هذا ولا تفعل ذلك الشيء، اذهب إلى هذا المكان ولا تذهب إلى ذاك! ولمّا كان لا يرى لنفسه وجودًا، بل يرى نفسه تابعًا للإمام, فالإمام يقول: بما أنَّك قد توجّهت نحوي، ووضعت اختيارك تحت أمري، وسلّمت نفسك لي، فسأتولّى أنا تدبير أمورك بنفسي، وسأجعلك تنطق بهذا الكلام وتمتنع عن ذاك، كما سأجعلك تمتنع عن القيام بذلك العمل؛ فلا تقتل ابن زياد ودع واقعة كربلاء تحصل، فمشيئة الله تقتضي حصول هذه الواقعة، وعندما تكون مشيئة الله بهذا الشكل، فهل نستطيع نحن الوقوف بوجهها ومنع تحقّقها؟ فلو قلنا: نحن يا إلهي نقدِّر الأمور أفضل منك، ونحن نرى أنّه من المستحسن أن يتمّ الأمر على هذه الكيفية! لقال الله تعالى: إن كنت لا تريد القيام بهذا العمل، فلا تفعل ذلك، وسوف آتي بمن يُنجز واقعة كربلاء؛ فلديّ الكثير ممن يستطيع القيام بذلك، وأنا أستطيع أن أخلق إمامًا بطرفة عين، وأجعله يعمل على إيجاد الواقعة.. أفهل يستعصي ذلك على الله؟ فمن الذي جعل محمدًا نبيًّا؟ آالله تعالى جعله كذلك، أم فعل ذلك بنفسه؟ ومن الذي جعل أمير المؤمنين أميرًا للمؤمنين؟ آالله فعل ذلك، أم أصبح أميرًا للمؤمنين بنفسه؟ ذلك الذي نقرأ بأنفسنا ما كان يقول في مناجاته ودعائه كدعاء كميل والمناجاة الشعبانيّة ومناجاته في مسجد الكوفة عندما كان يقول: مَوْلايَ يامَوْلايَ أَنْتَ الغَنِيُّ وَأَنا الفَقِيرُ وَهَلْ يَرْحَمُ الفَقِيرَ إِلاّ الغَنِيُّ؛ فمن الذي كان ينطق بهذه الكلمات؟ إنَّه هو الذي كان يقول ذلك، فقد كان يقول: كلّ هذا العطاء منك وحدك، فأنا صفر، وأنا لست بفقير، بل أنا محض الفقر! ومن الذي جعل الإمام الحسين ما هو عليه؟ إنَّه الله.. يقول الله هنا: إن كنت تريد الحصول على ذلك المقام، فعليك طيّ هذا الطريق، وإلاّ فلا يستعصي هذا الأمر عليَّ، فسيأتي إمام حسين آخر ليقوم بهذا الدور؛ فإذا كان الأمر بهذا الشكل، فإنّه من اللازم علينا التنبّه واليقظة، وعلينا أن نعرف موقفنا ممّا يجري من أمور ومسائل.
الإمام عليه السلام هو إمام الجميع وقصّة المرأة المسيحيّة
إنّ شهر محرّم على الأبواب، وشهر محرم وصفر هما شهرا أحزان وآلام أهل البيت عليهم السلام؛ ففي شهر محرّم، حصلت شهادة الإمام الحسين والإمام السجّاد عليهما السلام، كما تقع في شهر صفر أربعينيّة الإمام الحسين وشهادة الرسول الأكرم والإمام المجتبى، وكذلك شهادة الإمام الرضا في نهايته؛ ونرى بأنّ الإنسان يشعر عند حلول هذين الشهرين ـ من حيث شاء أم أبى ـ بدخوله في جوّ مختلف، فلا يمكن أن تكون هنالك علاقة للإنسان بالأئمّة ولا يحصل له هكذا شعور؛ ولذا، من المستحسن أن يُوجد المرء جوًّا من الحزن في بيئته الظاهرية أيضًا؛ فما الذي يمنع الشخص من قيامه بتعليق لافتات من القماش الأسود في منزله ومحلّ عمله ومكتبه كشعار للعزاء على سيّد الشهداء؟ فهل يوجد مانع يحول دون ذلك؟ هل سيعمل ذلك على التقليل من شأنه؟ ولماذا لا ينبغي إظهار هذا الجوّ الخاص والذي لا نظير له بالنسبة لجميع العالم الإنساني.
في أحد الأيّام، كنت في مكان ما، وكنت أتحدّث مع أحد المستشرقين وكان مسيحيًّا، فقال: أعتقد بأنَّ إمامكم الحسين قدّ علّمنا نحن المسيحيّين مبادئ ديننا المسيحي، ولم يقتصر أمره على تعليمكم مبادئ مذهبكم الشيعي؛ فمعنى ذلك أنَّ على الشخص المسيحي الذي يريد أن يلتزم بمبادئ دينه المسيحي أن ينظر إلى مدرسة الإمام الحسين ومنهجه، وعلى اليهودي الذي يريد الاحتفاظ بدينه والبقاء متّصلاً بمنهج النبي موسى عليه السلام ومبادئه ودينه، ويريد أن يعيش في هذه الدنيا حرًّا ومتخلّصًا من القيود، فعليه أن ينظر إلى تلك التعاليم؛ فرأيت كلامه جميلاً، وقلت: نعم، هكذا يكون الأمر.. لا بدّ له من أن يقتدي به! فالشخص الحرّ، وحتّى إن كان لا يؤمن بيوم القيامة ـ على سبيل المثال ـ ولكنّه يريد أن يعيش في هذه الدنيا كإنسان يراعي الأصول الإنسانيّة والفطريّة، عليه أن يتطّلع إلى مدرسة عاشوراء وكيفيّة تعامل الإمام الحسين مع القضايا التي حصلت والأمور التي أوجدها؛ أي قضيّة عاشوراء.
ولذا، تلاحظون بأنَّ جميع الناس يرون أنفسهم شركاء في هذه القضيّة، ولا يستطيعون عزل أنفسهم عنها؛ فترى المسيحي واليهودي والمجوسي وسائر الأشخاص الآخرين يشاركون في مراسم العزاء وينالون نصيبهم من واقعة عاشوراء، فترى أحدهم يقوم بتقديم النذر ويشارك الآخر في مواكب العزاء...
وفي السابق ـ أعني في عهد الشاه ـ، وعندما كنَّا في مسجد القائم، وكان في المسجد مواكب للعزاء، كان بعض المسيحيّين يشاركون في هذه المواكب، وكنت أرى ذلك بنفسي؛ فكانوا يشاركون في المواكب، ويلطمون صدورهم، ويقومون بتقديم النذور ويلبسون السواد.. لِمَ كلّ هذا؟ إنّه يعود إلى كون ولاية الإمام الحسين قد استقرّت في قلوبهم؛ فتجد أنّ أحدهم يرى اثنين في الظاهر، لكنّه في واقع الأمر يرى المسيح في صورة الإمام الحسين، ويُشاهد موسى في سيماء الإمام؛ ولذا، تراه يأتي ويشارك في هذه المراسم.. هذا فيما يتعلّق بقضيّة عاشوراء، أمّا فيما يتعلّق ببقية القضايا والحوادث الأخرى التي تحصل في جميع أرجاء العالم، فقد ينضمّ أحدهم إلى تلك المجموعة أو الهيئة أو المنظّمة وقد لا ينضمّ.
فالإمام الحسين يرتبط بعلاقة مع الجميع، وهو يرتبط بعلاقة مع كلّ من يريد مدّ جسر تجاهه، فنوع ديانة الشخص ـ سواءً كانت الإسلام أو المسيحيّة ـ لا تعني الإمام بشيء، بل ما يعنيه هو: هل أنت صاحب فطرة سليمة أم لا؟ فإن كنت صاحب فطرة، فتعال وادخل تحت هذه الخيمة! وهل لك عقل أم أن رأسك محشوّ بالجبس؟ إن لم يكن مليئًا بالجبس، فتعال إلى هنا، وتعال وادخل تحت هذه الخيمة! فإن كانت لك فطرة سليمة وكنت حرًّا وكنت تريد أن تصبح إنسانًا وإن كنت لا تصلّي أو تصوم، فلا شأن لنا بذلك، بل السؤال المطروح هو: هل تريد أن تصبح إنسانًا أم لا؟ فإن كنت تريد ذلك، فتعال إلى هنا، وعليك التسليم والسجود في هذه البقعة؛ فظاهر الأمر لا يعني الإمام الحسين بشيء، بل الإمام موجود في تلك القلوب التي فيها نافذة مفتوحة تجاه الله، كائنًا من يكون ذلك الشخص، وولاية الأئمّة شاملة للجميع؛ ويوجد الكثير من أمثال هؤلاء الناس ممن يُدرك هذه الحقائق.
كنت قد تشرّفت قبل سنتين أو ثلاثة سنوات بزيارة مدينة مشهد ـ على الرغم من انتهاء وقت المجلس، إلاّ أنَّني سأذكر هذه الحكاية ـ وكان ذلك بعد الظهر من أحد أيّام شهر رمضان؛ وكان هنالك رجل وامرأة مسنّان يجلسان إلى جنبي في الطائرة، فتمّ توزيع الطعام، وهذا عمل محرّم بالطبع، فلا يفترض توزيع الطعام على المسافرين بعد الظهر من أيّام شهر رمضان؛ لأنَّ المسافرين صائمون، وهذا العمل يُعدّ تجاهر بالإفطار، وهو عمل حرام؛ ولا أدري لماذا لا تتمّ مراعاة هذه المسائل؟ فلعلّهم لم ينتبهوا لهذا الأمر، وكذا يكون الأمر قبل الظهر، فلا فرق في ذلك، غير أنَّ مسألة عدم جواز توزيع الطعام بعد الظهر تعتبر من الأمور المسلّمة.
فلمّا كان هذان الشخصان مسافرين، فقد قاما بفتح وعاء الطعام العائد لهما، إلاّ أنَّني لم أفتح الوعاء وبقي على حاله فوق منضدة الطعام ـ لقد حدستُ بأنَّ المرأة لم تكن إيرانيّةً في الوقت الذي كان فيه الرجل إيرانيًّا ـ فالتفت إليَّ الشخص قائلاً: لماذا لم تتناول طعامك؟ فقلت له: إنَّني صائم، فتأثّر لذلك وقام بغلق وعاء الطعام العائد له ولزوجته.. انظروا كم هو مؤدّب ومهذّب! فهو لم يكن صائمًا وكان باستطاعته تناول الطعام، ولكنّه كان يرى لزوم احترام شهر رمضان. لقد كان هذا الشخص مسلمًا [وكان هذا الأمر متوقعًا منه]، غير أنّني رأيت مواقفًا مشابهة من بعض المسيحيّين، حيث أنّهم عندما كانوا يعلمون بأنَّ الشخص المقابل ينتحل دينًا وثقافةً أخرى، كانوا يحترمون معتقده، وهذا الاحترام ناشئ عن تلك الفطرة السليمة، كما يُلاحظ عكس ذلك لدى البعض من شيعة أمير المؤمنين، فتراه يستخدم شتّى أنواع العناد والتعنّت من أجل تمرير كلامه.. نعم، يوجد هكذا أمر في المقابل.
وعندما تكلّمت المرأة، علمت بأنَّها لا تجيد التكلّم باللغة الفارسية، فقالت لزوجها: هل هذا الرجل من القساوسة؟ وعندما ضحكت لقولها هذا، قالت: هل فهمت كلامي؟ قلت: أنا لست قسًّا، بل ذلك العالم الديني الذي تسمونه أنتم [بالقسّ]؛ وهكذا بدأ الحديث بيننا، وهما الآن من أصدقائي الحميمين جدًّا.
لقد كنت أتكلّم طوال الطريق عن الإمام الرضا عليه السلام وصفاته وكيفيّة عنايته بزوّاره، وكانت الدموع تسيل من عيني الرجل، كما تأثّرت المرأة كثيرًا، ثمّ قال الرجل: دعها تحكي لك بنفسها الحكاية التي حصلت لها العام الماضي، وقد أصبحت الآن بحمد الله من المسلمين الشيعة، ولم تكن كذلك حتّى العام الماضي، فقلت لها: تفضّلي! فأخذت بالحديث قائلة: كان زوجي يعيش في كندا، وكان يأتي في كلّ عام مرّة لزيارة أقاربه في مشهد. قال الرجل: لقد زرنا مدينة مشهد العام الماضي، وكنّا نُقيم لدى والدي ووالدتي، فنهضتُ صباحًا وقلت: إنَّني ذاهب، فقالت: أين تذهب؟ قلت: أريد الذهاب لزيارة حرم الإمام الرضا، فقالت: سأذهب معك! فقلت لها: لا، أنت لا تستطيعين الذهاب لأنَّك مسيحيّة! فانكسر قلبها، وقالت: خذني معك، فسأقف قرب الباب على الأقلّ حتّى تكمل زيارتك وتعود؛ ولهذا السبب تراني أقول بأنَّ ولاية المعصومين ليست خاصّة بنا، بل لعلّ هنالك من هو أقرب للإمام منَّا؛ واعلموا بكلّ تأكيد أنَّ من ضمنهم أولئك المستضعفون الذين لم تصل إليهم تلك الحقائق والذين ليسوا من أهل الادّعاء.
قالت المرأة: جئت معه ووقفت بجانب الباب ـ يبدو أنَّ دخولهم كان عن طريق الصحن الكبير [صحن الجامع الرضوي] من جهة باب الجواد وذلك وفقًا لما وصفوه لي ـ وعندما كان زوجي يهمّ بالدخول، قلت له: توقّف! فقال: ما الأمر؟ قلت: إنَّ صاحب هذا القبر قد خرج ـ وكانت تقصد من الشباك المعدني ـ وهو يقول لي: قولي لزوجك بأنَّك تستطيعين أيضًا المجئ عندنا، فلا مانع من ذلك، فقلت: ها هو يقول لي: تعالي، فلِم تمانع أنت في دخولي؟ فبُهت زوجي من ذلك، ودخلت وأنا على الحال التي كنت عليها، حيث قال لي الإمام: تعالي وادخلي من هذا الجانب، فدخلت، وكان المكان الذي دخلَت منه هو نفس مقام المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، وهو الباب المؤدّي إلى مكان حفظ أحذية الزائرين، حيث كان بابًا لدخول الأشخاص في ذلك الوقت وقد تمّ إغلاقه الآن.
قالت: كنت أرى الإمام جالسًا في الضريح، فقال لي: اجلسي في هذا المكان حتّى ينهي زوجك الصلاة والدعاء ويعود؛ ولقد كنت طوال ذلك الوقت في حال عجيب، فلم أكن أشعر بوجودي ولم أكن أعلم أين أنا، وكلّ ما كنت أشعر به هو أنَّ ذلك الشخص الجالس في الضريح كان ينظر إليّ باستمرار.
وبعد مرور نصف ساعة، التفت إليّ قائلاً: ها قد خرج زوجك، فنظرت، فرأيت زوجي قد أتمّ زيارته وخرج من الحرم، فأسلمت في ذلك اليوم واعتنقت مذهب التشيّع؛ وها هي تعود من كندا مرّة أخرى للزيارة السنويّة، وقد كانت تبكي وهي تقصّ الحكاية، كما كانت عيني زوجها تذرف الدموع.
فإمام مَنْ يكون الإمام الرضا؟ إنَّه إمام الجميع، غير أنَّه يبحث عن ذلك القلب الصافي والخالي من الرياء والنفاق؛ فلا علاقة للإمام الرضا بذلك الذي يذهب لزيارته ويدّعي الانتساب إليه في الوقت الذي يتعامل فيه مع الآخرين بألف أسلوب من المكر والخداع {وَ لا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَسارًا}۱، بل يُقيم الإمام علاقة مع ذلك الشخص المسيحي وذلك المستضعف الذي لم تصل الحقائق إلى مسامعه، غير أنَّه يلمس في نفسه الحاجة لانفتاح باب لهدايته؛ فهي تريد الذهاب لزيارة الإمام الرضا لوجود نور في قلبها، فلولا وجود هذا النور لقالت لزوجها: اذهب أنت وسأبقى في المنزل لأنام حتّى تعود! فهي تذهب لوجود ذلك النور في قلبها؛ وهي تصرّ على الذهاب وتتوّسل بزوجها لكي يأخذها معه، لكي تقف جنب الباب لوجود ذلك النور في قلبها؛ فعندما تذهب، سيكون للإمام شأن معها، وسيكون له معها مُسارّة، غير أنَّنا لا نعلم بذلك.
فهكذا تكون قضية الإمام الحسين يا عزيزي، فللإمام الحسين شأن مع الجميع؛ وعندما يريد الإنسان المشاركة في مجالس الإمام الحسين، عليه أن يأخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار؛ فإن شارك وهو على هذا الحال، فسيستفيد من ذلك المجلس، وسيحلّ في نفسه ذلك النور وتلك الحقيقة والعظمة والعطف والرحمة والرحمانيّة الإلهيّة التي تجلّت بشكلها غير المتناهي في الوجود المقدّس للإمام الحسين، بحيث أنّ الإنسان سيدرك بنفسه ويلمس هذا الأمر، وأمّا إذا ما حضر الإنسان المجلس وهو يحسب لنفسه حسابًا وبكامل الأنانيّة، فسيجلس ويستمع إلى ما يُطرح ولا تتجاوز استفادته من المجلس هذا الأمر، وسوف لن يتغيّر حاله أبدًا.
نسأل الله أن يمنَّ علينا بالاستفادة من جوِّ هذه الأيّام المباركة القادمة علينا ومن تلك المائدة الإلهيّة النازلة فيها؛ وهي الأيّام التي يتمسّك فيها الأولياء والعظماء بعناية سيِّد الشهداء عليه السلام وبقيّة الأئمة؛ ولقد سمعنا من العظماء كيف أنَّ خيرات وبركات الأئمّة تُفاض على الأولياء والمحبّين في أيام شهر محرّم، فنسأل الله أن يجعل لنا نصيبًا من هذه المائد الإلهيّة أيضًا.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد