المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالحلم والعلاقات الاجتماعية
التوضيح
تناول فيها سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني قدس سره شرح فقرة " وأما اللواتي في الحلم فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً..." مبيّنًا أنّها من مفاتيح السير والسلوك وذلك من خلال التواضع والصفح عن المسيئين، مع ضرورة أن يكون ذلك عن عبوديّة ونيّة صادقة لا أداةً لتحصيل مكانة في القلوب، محذّراً من الوقوع في شراك المدّعين المتظاهرين بذلك، مبيّناً علامات الصدق في هذا التواضع والذي هو من خصائص أولياء الله، خاتمًا بأنّ هذه القاعدة هي التي ينبغي أن تحكم علاقاتنا الخارجيّة أيضًا، كما ستكون أساس دعوة الإمام المهديّ عجل الله فرجه.
هو العليم
أسلوب التعامل مع الناس عند الأئمة عليهم السلام
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۱٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
جرى الحديث في المجالس السابقة عن كيفية التغذية بالمقدار الذي يتطلّبه الموضوع، وقد تمّ استعراض المسائل المتعلّقة به إلى الحدّ الذي لوحظ فيه بأنَّ الاستمرار في الحديث حوله قد يبعث على الملل، وإلاّ فهناك المزيد مما يمكن طرحه في هذا المجال. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنَّ للإخوة إلماماً ما بالموضوع قلّ أو كثر. لذا فقد قرّرت الانتقال إلى الفقرة التالية، حيث يقول الإمام الصادق عليه السلام:
«وَأَمَّا اللَوَاتِي في الْحِلْمِ: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً...»
قيمة ومعنى قوله عليه السلام: "وأما اللواتي في الحلم..."
تختصر المبادئ الثلاثة التي بيّنها الإمام عليه السلام كلّ ما يتعلّق بالحلم والصبر وقدرة النفس على تحمّل الأعباء والمتاعب التي تواجه الإنسان طوال حياته في تعامله مع مختلف القضايا، وما يحصل له من جرّاء تقلّبات الحياة اليوميّة، وأحد هذه المبادئ أنّه إن قيل لك: إن تعدّيت عليّ بكلام أو تعاملت معي بأسلوب فظٍّ وخشنٍ، فسأردّ عليك الواحدة بعشر... وهذه هي طبيعة البشر فهم يقولون: عليك أن تعلم مع من تتكلّم؟ وما هذا الذي تقوله؟ ومع من تتعامل بخشونة يا هذا؟ فإن قلت واحدة، فسأجيبك بعَشر أمثالها، وستدفع الثمن عشرةَ أضعاف.
غير أنّ الإمام يعلّمنا أسلوباً آخراً للتعامل مع الآخرين، فيقول تعامل أنت بالأسلوب المعاكس لهذا الأسلوب، بل وبأسلوب أسمى منه. فإن قلت له: إن قلت عشراً فستسمع واحدة، فستكون قد أجبته على النقيض مما قال لك. ولكنّ الإمام يقول: لا، بل عليك أن تترقّى درجة فلا تقل حتّى تلك الواحدة أيضاً، وقل له: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً.
إنَّ هذه العبارة تبعث على التعجَّب، ويمكننا القول بأنَّها من المفاتيح الرئيسيَّة للسلوك وتربية النَّفس. وعلى الرغم من أنَّ العبارتين التاليتين تنطويان تحتها، إلا أنّ الإمام عليه السلام يوضّح فيهما كيفية تعامل الإنسان مع الآخرين ببيانٍ مختلفٍ وقالبٍ آخر.
يريد الإمام أن يقول لنا بكلامه هذا: كم سنة من العمر يمكن لك أن تعيش في هذه الدنيا؟ ألا تريد أن تستفيد من سنوات عمرك هذه؟! فإن كنت تريد الاستفادة منها، فتوكّل على الله، فهذا هو الطريق إلى ذلك، وإن كنت تريد أن تبقى على ما كنت عليه عندما كنت في العشرين، أو في الخامسة والعشرين مع أنَّك الآن في الثمانين من عمرك، فتصرّف معه وفق قاعدة: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا. أرأيتم؟! ولو بقيت تصرّفات الإنسان على هذه الكيفيّة لمدة مائة سنة أو مائتي سنة، فسيبقى على هذه الحال، سيبقى غارقاً في تلك الكثرة التي كان غارقاً فيها. نعم، سيبقى على هذه الحال مهما كان مسلكه أو مهنته أو المحيط الذي يعيش فيه أو مكانته الاجتماعيّة، فالجميع في ذلك سواء؛ فإن كان هذا الإنسان من الكسبة أو كان مهندساً أو طبيباً أو طالباً للعلوم الدينيّة أو مجتهداً أو فيلسوفاً أو له مكانة خاصة أو يتمتّع بمرتبة من الكمال، فسيكون هذا هو حاله مهما كان؛ وذلك لارتباط هذا الموضوع بالنفس.
ضرورة الاهتمام بنوايا الأعمال بما فيها التواضع والصفح
إنّ المسألة التي كثيراً ما يُغفل عنها سواء في مجال التطبيق أو تأسيس القواعد والمباني، هي أنّنا عندما نريد أن نتكلّم عن أهميّة موضوع ما، فنحن ننظر إليه من بعده الظاهريّ، فنقول على سبيل المثال: انظر إلى ذاك كم هو كريم! كم هو عطوف وكم ينفق! ولكن هل تمّ التساؤل عن العامل أو العوامل الكامنة وراء هذا الإنفاق؟ فهل تمّ التساؤل: لماذا تراه ينفق الأموال؟ ولماذا يُساعد الفقراء؟ ولماذا يقوم بدعم المؤسّسات الخيريّة؟
أو أن يُقال بأنَّ أحداً من الناس ذو علم وثقافة عالية؛ فانظر ها هو يقوم بتدريس المادّة كذا والمادة كذا؛ غير أنَّه هل تمّ التساؤل عن الهدف الكامن وراء ذلك؟ فنحن ننظر للأمر من جهته الظاهريّة، ونقول كم هو رجل عالم! وهو عالم بالفعل، فنحن لا نشكّ في ذلك، ولكنَّنا لا نمتلك أيّة معلومات عن الأهداف والأغراض الكامنة وراء الموضوع، فنحن نرى ظاهر الأمر فقط.
أو أن نقول: انظر إلى فلان من الناس كم هو زاهد! فانظر إلى طعامه الذي يتناوله، فهو يتناول الخبز واللبن فقط في عشائه، أو أنَّ فطوره على أيّة حالة، وغداءه النوع المعيّن من الطعام، في الوقت الذي يتناول فيه الآخرون أنواع الأطعمة. أمّا ما هو هدفه ونيّته من هذا التصرّف أو ما هو الغرض الكامن وراء ذلك؟! فهذا مما لا علم لنا به.
وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى التواضع، فيُقال: ذاك رجل متواضع جداً، فانظر إليه كيف يُصغي إلى الذي يتكلّم معه!
وقد كنت في مكان ما ، فقال لي أحدهم: ذهبت للتباحث مع رجل بشأن قضيّة معيّنة، فأجابني بتواضع شديد، وعندما لم يكن الجواب مقنعاً لي ناقشته في الموضوع، وعند مغادرته قال لي: ليس لديّ جواب لسؤالك؛ فكم هو رجل متواضع حين أجابني بهذا الجواب! فهل كان هذا التواضع الذي تصوّره هذا الرجل تواضعاً حقيقيّاً؟ أو أنَّه رأى بأنَّ إجابة هكذا سائل بهذا النحو ربما سترفع من مكانته لدى الآخرين، فقام بالإجابة بها! فإن كان الإنسان متواضعاً، فلا بدّ من أن يكون ذلك التواضع مع الجميع لا في مورد واحد؛ وإن كان الشخص متواضعاً حقاً، فلماذا لا يُشاهد منه هذا التواضع في الأمور الأكثر أهمية والأرقى والأدق والتي يتطلّب الأمر فيها أن يُظهر الإنسان فيها التواضع وكسر النفس، وعدم افتراض مكانة له عند مناقشة آراء الآخرين، وعدم الاستعلاء عليهم؟ فمن يكن متواضعاً، يجب أن يكون متواضعاً في جميع الأحوال. فهذا أمر مهم [يجب الالتفات إليه].
لذا نرى أنَّ العظماء كانوا دائماً يُذكّرون بضرورة الاهتمام والتركيز على تلك النيّة وذلك الباطن والهدف، وعلى كيفيّة العلاقة بين الإنسان وبين عالم الحقائق؛ فهذه الأمور هي التي تعكس حقيقة وواقع حال الإنسان؛ وهي التي يمكن البناء عليها.
أما من حيث الظاهر فنحن نرى أنّ الأحوال تتغيّر، فنرى رجلاً على حال اليوم، وبالأمس كان على حال آخر، وغدًا على حال ثالث، فيتعجّب الإنسان ويقول: لقد كنت أظنّ [به خيراً]، فلقد كان يتظاهر بتلك الكيفيّة، فلماذا أصبح هكذا؟
أتعلم لمَ أصبح هكذا؟ لَم يتغيَّر في الأمر شيء، بل وبسبب عدم اطلاعك على باطنه، وكونك كنت ترى ظاهره فقط،لم تكن تتوقّع ما سيصدر عنه في الغد، وقد غرّتك تلك العلاقة التي كانت تربطك به، غافلاً عن أنَّ الأمور سوف لن تبقى على وتيرة واحدة، وأنّها لا تجري دائمًا وفقاً لما نتمنّاه ونرغب به.
أمّا إن كان الإنسان واقفاً على حقيقة الآخر ونيّته وغرضه، فسوف لن يغترّ بظواهر الأمور، ولن ينخدع بلون الحناء الذي تزيّن به، بل سينظر إلى تلك الحقيقة، فيرى واقع الأمر ولا يلتفت عندها إلى ظواهر الأمور بأي نحوٍ تكون.
الإمام يريد منّا الانطلاق من نقطة العبوديّة في كافة الأفعال
يريد الإمام عليه السلام في هذه الفقرة من الحديث أن يشير بدقّة عجيبة إلى ذلك الموقف العام الذي يفترض بنا أن نتّخذه عند مواجهتنا للأمور والحوادث في الأحوال المختلفة، وكلّ إنسان حسب الموقع الذي يحتله. فعندما نتمعّن في هذا الحديث الشريف من بدايته، نرى الإمام يُبيّن لنا حقيقة العبوديّة، وأنّ على الإنسان أن يتحقّق بمقام العبوديّة في هذه الدنيا، فإن كان يريد الترقّي فعليه أن يكون عبداً، وإن كان يريد أن يصبح سيِّداً، فعليه ألاّ يتسامح في موضوع كونه عبداً. فعليه أن يكون جادّاً في هذا الموضوع فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربّه ولا يكون هازلاً.
افتادگی آموز اگر طالب فیضی | *** | هرگز نخورد آب زمینی که بلند است |
يقول: إن كنت طالباً لنزول الفيض، فعليك أن تتعلّم التواضع، فالأرض المرتفعة لا ترتوي من الماء أبداً.
ولكنّ الإنسان يريد الاحتفاظ بتلك المكانة التي حصل عليها في هذه الدنيا بصورة دائمة، فإن أراد أن يحلّ ضيفاً في مكان ما، فهو يريد أن يكون محطّاً لأنظار الجميع، فيُقال: ها قد تغيّر وضع المجلس بمجيء السيّد الفلاني، فهو لا يذهب إلى المجلس مبكراً، بل يدع الآخرين يحضرون ثم يرد المجلس، فهذا مما يجب أن يتعلّمه الإنسان!! فالذي يصل أولاً فارغ الوقت، ومن لديه متّسع من الوقت يستطيع أن يصرفه في المجلس، ثمّ يتوالى الآخرون في الورود من أولئك الذين ليس لديهم الوقت الكافي للحضور ومن أصحاب المشاغل الكثيرة بحيث لا يجدون الفرصة حتّى لحكّ الرأس؛ فلا يمتلك أمثال أولئك الوقت الإضافيّ لكي يحضروا المجلس مبكّراً. وإن كان يريد الحضور في مجلس ذكر مصيبة سيّد الشهداء، فهو يحضر منه العشرة دقائق الأخيرة فقط وعندما يكون الواعظ قد وصل [إلى محل ذكر المصيبة]. فليس لدى هؤلاء الناس المزيد من الوقت، فالمشاغل والمراجعات كثيرة بالحدّ الذي لا يسمح له لحضور كامل المجلس من أوله بما في ذلك قراءة المراثي والعزاء، بل يحضر العشرة دقائق الأخيرة ليلقي السلام ويُري نفسه للآخرين، ليعود بعدها فيركب السيارة ويُغادر، ولا بدّ من أن تقف السيّارة مقابل الباب ويكون بابها مفتوحاً ليُغادر السيّد بسرعة، فليس لديه الوقت اللازم لإضاعته في مثل هذه الأمور. فما هي تلك المكانة التي افترضها هذا لنفسه؟
أو أنَّه إذا ما نهض السيِّد الفلاني من مجلس معين، فهذا علامة اختتام المجلس، ولا يمكن لذلك المجلس الاستمرار بالانعقاد بعد مغادرته؛ فمع مغادرته، لم يبق محلٌّ للإعراب لأحد ليبقى ويستمرّ في برنامج المجلس؛ فلا بدّ للمجلس أن يختتم بعد مغادرته!!
هذا هو واقع حالنا في هذه الدنيا؛ فعند ورود أحدنا إلى مجلس ما، فهو يريد أن يكون محطّ أنظار الآخرين؛ فإن حصل وشعرنا بعدم الاعتناء بقدومنا وعدم سماعنا لكلمات التبجيل والاحترام عند وصولنا؛ بل نُظر إلينا كما يُنظر إلى الآخرين، فسنشعر بالأسى. فلمَ آسى؟! ألأنَّهم يعاملونني كبقيّة الناس، ولا يعتنون بقدومي؟! ولا يقولون جاء فلان جاء فلان أهلاً وسهلاً زينتم المجلس، ما شاء الله حلّت البركة بحضوركم ماذا صنعتم بالمجلس إذ حضرتم؟! أو عندما نطرح بحثاً علمياً على سبيل المثال، فلا ينبغي لأحد أن يناقش أو يوجّه نقداً؛ فإن حاول أحدهم توجيه نقد، فسنقوم بالردّ عليه قبل أن نسمع ما يريد أن يقول. فأين تكمن المشكلة؟ أرأيتم جواب البعض لمن يناقشه، فهو يقول: ما هذا الذي تطرحه، وهل يمكن لشخص أن يعترض على بحثي؟
ـ ولماذا لا يمكن ذلك؟ بل للآخرين الحق في الاعتراض والمناقشة، فهل كلامنا الذي نطرحه مأخوذ من اللوح المحفوظ؟ بل كلّنا من بني البشر، ولا فرق بيننا في ذلك. والجميع معرّض للخطأ، وقد نخطئ نحن كذلك، غير أنَّ على الإنسان ألاّ يصرّ على خطئه، بل يسعى إلى تصحيح الخطأ الذي وقع فيه؛ ويقول: لقد كانت المسألة الفلانية التي ذكرتُها غير صحيحة وها أنا أصحّحها. فما هو السبب الكامن وراء الإصرار على الخطأ، وعدم السعي إلى تصحيحه؟!
هذا هو مضمون عبارة الإمام الصادق عليه السلام، فجميع تلك الأمور تعود إليها. فالسبب الرئيسي الكامن وراء حصول جميع هذه الأمور، ووراء تهيئة الأرضيّة اللازمة لإيجادها هو أنَّنا قد قمنا بفتح حساب داخلي خاص بنا، وهذا الحساب يكون خارج تلك العلاقة التي تربط فيما بيننا وبين الحق والله وعالم الحقيقة والواقع. وليس لهذا الأمر علاقة بطبيعة عمل الإنسان، ككونه عالماً دينياً أو طبيباً أو مهندساً أو متخصّصاً في العلوم الإنسانيّة أو صاحب أيّة حرفة أو فنٍّ آخر. فكلّ من الناس سواء منهم من يرتدي عمامة أو قبّعة، والكاسب أو غيره، كل واحد منهم قد فتح لنفسه مثل هذا الحساب...
عدم الانخداع بالتواضع الزائف والتسليمِ لصاحبه
وجميعنا في غفلة عن هذا الأمر؛ فنقوم بتسليم أمورنا لرجل دون أن يكون لدينا علم بأنَّه قد فتح لنفسه حساباً خاصّاً في مصرف قلبه، ونحن غافلون عن ذلك، فكلّ ما نعرفه عنه هو هذا الظاهر الذي نشاهده أمامنا، وتلك الابتسامة العريضة، وذلك التواضع المصطنع، فترى الشخص يقول: أنا لست مؤهلاّ لكل هذا المدح والثناء، وأين أنا من هذا المدح! وما شاكل ذلك...
ـ كلاّ، يا أيّها السيِّد! عليك أن تعلم مقدار المال الذي أودعته في هذا الحساب المصرفي! فالبعض يضع مبلغ عشرة آلاف توماناً في حسابه لا أكثر؛ فمثل هذا يتمتع براحة بال كبيرة؛ ولكن كيف يمكن التعامل مع ذلك الذي وضع المليارات والمليارات في حسابه القلبي؟ فكيف يمكن تصفير ذلك الحساب؟ ذلك الحساب السرّي والذي لم يطلع عليه أحد! إن نظرت لظاهره تقول: ما شاء الله على هذه الأخلاق وهذه التصرّفات!! فتراه مبتسماً ومطأطئ الرأس، وفي حالة تفكّر دائم، ويتعامل مع الآخرين بحسن الخلق والمزاح. ولكن ما إن تحصل قضيّة معيّنة ويدخل المجلس منافسٌ أو نظيرٌ أو مثيلٌ أو زميلٌ له، حتّى تضطرب جميع أموره.
ـ ما الذي حصل؟
ـ إنَّ جميع ما كنت تراه من ذلك التبسّم وتلك الأخلاق، هو لعدم وجود الأرضيّة اللازمة لكي تظهر النفس على حقيقتها. فمع قدوم المنافس، ترى توازنه قد اختلّ بكلّه، وترى أسلوب الكلام بدأ يتغيّر بحيث يبدو واضحًا أنَّ الرجل قد فقد السيطرة على نفسه، واختلّ معه ما كان يُظهره من الطمأنينة في أفعاله.
إنَّ جميع تلك الأمور تعود إلى ذلك الحساب المصرفيّ الموجود في القلب، لا ذلك الموجود في المصرف؛ فالأخير لا يُعدُّ شيئاً [مقارنة بهذا]، بل المهم هو ذلك الحساب الذي فتحه لنفسه في قلبه. والجميع يمتلك مثل هذا الحساب.
المعيار في معرفة وليّ الله هو تواضعه الصادق
فما دام الجميع يمتلكون مثل هذا الحساب، فلا يمكننا والحال هذه أن نتعامل مع جميع الناس وفقاً لذلك الملاك الذي كنَّا نسير عليه، والذي كنَّا نقوم بموجبه بالإقبال والمتابعة والتسليم لصنف من الناس بدون أن يكون لدينا دليل على وجوب الرجوع إليهم. وهذه هي النكتة التي يغفل عنها الجميع. فلماذا لا يجوز لنا ذلك؟
ـ لأنَّ الموضوع قد تبدّل هنا. فنحن نطيع النبيّ، لعدم امتلاك النبيّ مثل ذلك الحساب في قلبه. فلو كان له مثل ذلك الحساب، فهو ليس بنبيّ، بل سيكون من أمثالي وأمثال الآخرين. ولو أنَّ الإمام الصادق عليه السلام يمتلك مثل ذلك الحساب، فهو ليس بإمام، بل سيكون شأنه شأني وغيري من الناس، على أنَّه قد يمتلك من العلم ما هو أكثر أو أقل من الآخرين، فذلك مما لا يعني لنا شيئاً. بل ما يعنينا هو ذلك الباطن، وأنّه هل فتح له حساباً خاصّاً به في قلبه أم لا!
فإن كان هناك رجل معروف بأنه وليّ لله، فقد يذهب أحد للتعرّف على علومه واتّباعه، فإن وجده قد فتح لنفسه حساباً كما هو الحال عنده هو، ووجد لديه مشاكل باطنيّة، فسيعلم بأنَّه ليس وليّاً، بل هو واحد من الناس، وكلّ ما في الأمر أنَّ علمه قد يكون أكثر من غيره، ويمتلك بعض الخصوصيّات الأخرى.
وقد حضرت مجلساً لرجل لديه شيء من الكرامات [وخوارق العادات] ـ وقد توفي فلا أذكر اسمه رحمه الله ـ ويُقال بأنَّ حاله هذا قد تبدّل بعض الشيء في أواخر عمره، لقد سمعت هذا أيضاً.
كنت أحضر المجلس، فالتفت مخاطباً الآخرين: إن أغمضت عينيّ، ينكشف لي، وبإرادة المولى جميع ما في العالم. فقلت: وأنا ـ بإرادة المولى ـ وبدون أن أغمض عيني، ينكشف لي ليس عالم الدنيا فقط، بل عالم الدنيا والآخرة. فكان هذا الأمر عجيباً بالنسبة إليه، فقال: أنت تقول بأنَّك كذلك؟ قلت: إن شاء المولى أكون كذلك. قال: فهل حصل ذلك بالفعل؟ قلت: لا، لم يحصل ذلك، ولكنَّه لو شاء لكان الأمر كذلك، غير أنَّه لم يفعل ذلك.
ـ أفي هذا تفاخر ومباهاة؟! أتتفاخر بمشيئة المولى؟! لذا قلت: ويحصل لي ذلك بدون أن أغمض عيني، وليس بالنسبة للدنيا فقط، بل [وللآخرة أيضاً].
أتريد أن تجعل هذا في حساب المولى أم في حسابك الشخصي؟ أردت أن أفهِمه بأنّ الإنسان ليس بحاجة إلى مشاهدة هذه المسائل ليأتي ويقول: إنَّني أستطيع فعل ذلك بإرادة المولى؟ فما هي فائدة ذلك؟ فلو أنَّني أغمضت عيني الآن وعرفت ما الذي يجري خلف هذا الجدار، فما هي الفائدة؟ فإن علمت بمرور سيارة فيها راكبان، أو أنَّ حيواناً قد عبر من هناك، فما الذي سيُضاف إليّ أنا؟ أيّ مرتبة من الكمال سأحوز؟ فهذه المسألة ليست بحاجة إلى إرادة المولى يا عزيزي! بل هذه من المسائل التي يشغل ويُلهي بها الإنسان نفسه، وهي مما جعلتك وأمثالك تضلّون ولا تتمكنون من الوصول إلى الحقيقة والمعرفة. نعم قد يحصل للإنسان بين الحين والآخر مثل هذه القضايا، فذلك ليس بالأمر ذي القيمة، بل المهم هو أن يعرف الإنسان ما هو الأمر الحيوي الذي يجب عليه التمسّك به!
قال أحد الأصدقاء: حضرت يوماً لدى المرحوم العلاّمة، فقال لي: كيف حالك؟ قلت: منذ مدة وأنا أرى ما سيحصل في الغد وفي الأسبوع المقبل ـ بالطبع فإنَّ بعض هذه المسائل المنكشفة تسبب للإنسان الأذى ـ فقال لي: لا، هذا حال غير جيّد. فما إن قال: ذلك غير جيد، إلاّ وانتفت تلك المسألة في الحال، واسترحت منها. [فمن ضمنِ ما كان يراه] هو إنَّ هذا سيموت وذلك سيحيا وسيحصل حادث لهذا ، أو سيتزوّج ذاك وهكذا.
[فذلك الرجل يقول] إن أغمضت عينيّ، ينكشف لي بإرادة المولى جميع ما في العالم.
ـ فلا تغمض عينيك، وليتّضح أو لا يتضح لك ذلك! انظروا هذا هو فتح الحساب، فنحن نفتح حساباً لأنفسنا ثم نضعه باسم المولى. فإن كان ذلك في حساب المولى، فلماذا تتظاهر به أمام الآخرين؟ فلقد كان ذلك عطاءً من قبل المولى. فهل ترى ذلك منك أو من المولى؟ فإن كنت تراه منك، فلماذا تُشرك به المولى؟! بل أنت تريد أن تُري الآخرين بأنَّك متواضع.
وإن كنت تراه من المولى، فهذا لا يستوجب الإعلان عنه.
فیض روح القدس ار باز مدد فرماید | *** | دیگران هم بکنند آن چه مسیحا میکرد(۱) |
يقول: إذا ما حصل المدد من فيض روح القدس مرّة أخرى، فسيتمكن الآخرون من الإتيان بذات العمل الذي كان يقوم به السيد المسيح.
فما الفضل لك في هذا العمل؟! لقد شملتك عناية المولى في هذه الحالة، وستشمل عنايته غيرك في الغد وبعد الغد. هذا هو الأمر المخفيّ في داخل القلب. فهو يريد إظهاره ليقول: أنا الذي فعلت ذلك، وفي نفس الوقت تراه ينسب ذلك إلى المولى لغرض إظهار التواضع، فهو يريد أن يقول: كم أنا متواضع، فلم أقم بنسبة هذا الأمر إلى نفسي. ففي واقع الأمر هو يريد أن يُبرز نفسه.
ذلك سلمان هو الذي كان يفعل كلّ شيء وينسبه إلى المولى. نعم كان سلمان كذلك؛ وكذلك هم أولياء الله والعرفاء، فهم قادرون على فعل كلّ شيء يمكن تصوّره، ولكنَّه لم يكن يرَ ذلك منه ولو بمقدار رأس الإبرة. وهو لا يرى ذلك واقعاً. لقد ذكر الإمام السجّاد عليه السلام تلك الفقرات من دعاء أبي حمزة الثمالي والتي كنَّا نقرأها ونستأنس بها ولقد أمضينا معها ليالي لا تُنسى، لكي نفتح أعيننا، ولكي نفتح آذاننا للاستماع إليها ونفهمها ولكي نستثمر عقولنا. نعم لقد قال الإمام تلك العبارات، فما الذي تُفصح عنه؟! إنَّها تفصح عن هذا المعنى: لا ترَ ما يصدر منك على أنَّه من فعلك، بل إنَّ مصدره هو ذلك المبدأ، ونحن مرآة ليس إلاّ؛ ولقد حصل التجلّي في هذه المرآة، وكان الظهور الخارجي له بهذه الكيفيّة. فلماذا تنظر في المرآة؟ لماذا لا تنظر إلى ذلك المبدأ؟ لماذا لا تنظر إلى تلك الشمس؟
السبب في العجز عن الصفح والإحسان هو الاعتداد بالنفس
يريد الإمام الصادق عليه السلام أن يقول هنا بأنَّ ذلك الحساب الذي فتحته في قلبك هو الذي يأتي هنا ليقول: إن قلت واحدة سمعت عشراً. فاترك ذلك الحساب جانباً.
ـ من هو الذي يقول إن قلت واحدة سمعت عشراً؟
ـ إنَّه الذي فتح لنفسه حساباً في قلبه. أمّا الذي لم يفتح له حساباً خاصاً، فلا يرى مبرراً للردّ على القائل. ولماذا يقوم بالرد؟ لماذا يقوم بالرّد ذلك الذي لم يفتح حساباً؟ فلو كنت جالساً هنا في هذا المنزل، ثمّ يأتي رجلان ليجلسا جانباً دون أن تکون لهما بك أية صلة، فأحدهما من أهل هذه البلدة والآخر من تلك البلدة؛ وبينهما خصومة، فتحصل بينهما مشادّة كلامية، فهذا يقول: الحق معي، وذاك يقول: بل أنا صاحب الحق. فما هو موقفك منهما؟
ـ لا شك أنَّك ستنظر إليهما كما تنظر إلى الجدار، وستنتظر لترى ما سيحدث، لأنَّ الموضوع لا يعنيك بشيء.
ـ فهل ستحزن لما يحصل؟
ـ لا.
ـ هل ستفرح؟
ـ لا.
ـ وهل ستحزن إن حُكِم على هذا أو حكِم للآخر؟
ـ لا، لأنَّ الأمر لا يعنيك.
ـ لماذا؟
ـ لأنَّه لا علاقة لك بهذه القضية، فأنت غريب وخارج عن محيط هذا الموضوع.
أمّا إن كان أحدهما ابنك، أو أخوك أو أنت بالذات، فسترى حالك يتغيّر دفعة واحدة، فهذا هو الحساب، فقد تم فتح حساب هنا. فستقول سأتكلم بالشكل الذي أستميل به هذا السيد، أو القاضي أو الحاكم الذي سيقضي بيننا في موضوع الخلاف.
هل رأيتم مرة أن يكون هناك نزاع بين اثنين فيذهبان للاحتكام إلى ثالث ويقوم أحدهما بطرح المشكلة بما يجعله يحكم لصالح خصمه؟ هل حصل ذلك في طول عمركم ولو لمرة واحدة؟ وذلك بأن يطرح أحدهم ما هو موجود في قلبه كما هو، لا ذلك الكلام الذي يريد تغييره وتزويره واصطناعه، بل يقوم بطرح عين الواقع، هل حصل شيء كهذا أم لا؟
عندما كنت أسكن مع أخي الأكبر في غرفة واحدة، كان يحصل بيننا خلاف بشأن غسل الصحون، فهذا يقول عليك غسل الصحون هذا اليوم، ويقول الآخر: إنّه ليس دوري، بل دورك في الغسل؛ وتبقى بذلك الصحون مرميّة فوق بعضها بدون غسل لارتفاع متر، ثمّ يتمّ غسلها بعد ذلك على أيّة حال. لقد كان عمرنا في ذلك الوقت ثمانية عشر وتسعة عشر عاماً، فتحصل مثل هذه الحالات بمقتضى ذلك العمر. وعندما كان المرحوم العلاّمة يزورنا في مدينة قم، كنت أبدأ بالشكوى من تصرّفات أخي، وأخي يبدأ بدوره بالشكوى منّي. فكان هذا هو برنامجنا المعتاد، ولقد كان المرحوم العلاّمة يزورنا مرّة في الشهر. فجاء إحدى المرّات وبدأنا طبق عادتنا الجارية بالشكاية من أحدنا الآخر. كنَّا جالسين على مائدة الطعام، فقال لنا: أريد أن أقول لكما شيئاً، فاستمعوا جيّداً لما أقول؛ فقلنا: تفضّل؛ فقال: إن جئتكم في المرّة القادمة، فقال أحدكما أنا المقصّر في هذا الأمر، وقال الآخر: بل أنا المقصّر، فعندها سيكون عملكم صحيحاً، وإلاّ... فقبلت الأمر تعبّداً.
وعندما يفكّر الإنسان بالأمر يجد بأنَّ هذا هو الموضوع الذي تشير إليه عبارة الإمام الصادق، فلماذا يقوم الإنسان بإلقاء العيوب على الآخرين؟ لماذا؟ بالطبع فإنَّه عندما يكون هناك إشكال في قضيّة ما، فعلى الإنسان أن يقوم بالدفاع ورفع الحيف عن نفسه. أمّا إن كان الشخص يتحمّل جزءًا مما حصل، أيّ إنَّ العمل الذي قام به هو الذي أدَّى إلى بروز تلك المشكلة؛ فعلى الرغم من أنَّ العمل الذي قام به الاخر هو عمل غير صحيح، وهو غير صحيح واقعاً، غير أنَّ الأول يتحمّل جزء من المشكلة، فطريقة تكلّمه وسلوكه هو الذي أدَّى إلى ما حصل، فلماذا يتنصّل عن هذا الجزء من المسؤوليّة ولا يأخذه بالحسبان؟ فلو كان تصرّفك بشكل مغاير، فهل كان الآخر سيرتكب ذلك الخطأ الذي ارتكبه؟ أم أنَّه كان لطبيعة تصرّفك دور في إيجاد المشكلة؟ كأن يكون لهذا الدور أربعين بالمائة أو ثلاثين، أو عشرين، أو عشرة من المشكلة، فأنت مُتسبب في المشكلة بهذه النسبة. فلا يكون الأمر بالشكل الذي يكون فيه شخصك المحترم مبرءًا من كل عيبٍ وإيرادٍ، ويتحمّل الطرف الآخر جميع ما حصل. نعم من الممكن أن يحصل بأنَّ أحد الأطراف هو الذي يتحمّل كامل المسؤوليّة في المشكلة التي تحصل، غير أنَّ ذلك نادر، فلا أقول بعدم حصول أمر ٍكهذا، بل يحصل مثل هذا الشيء، غير أنَّه قليلاً ما يحصل.
فالسبب المؤدِّي إلى حصول جميع تلك المشاكل يتمثّل في أنَّني أقوم أولاً وقبل كل شيء برسم مكانة خاصة لي فيما يخص علاقتي بالخارج وبالأحداث والقضايا التي تجري من حولي، ثمّ أقوم بتحكيم تلك المكانة. فإن استقرّت لي تلك المكانة، أقوم عندها باختيار الأسلوب والكيفيّة التي سأتعامل بها مع ما يجري من حولي! ولکن لا فائدة في هكذا أسلوب، وسوف لن يُعطي أيّة ثمرة.
لقد تذكرت الآن هذه الحكاية، فقد كان المرحوم العلاّمة يقوم ببعض النشاطات والفعاليات المتعلقة بموضوع ما في ذلك الماضي البعيد، في العهد السابق. وكان يترتب على هذا الأمر إتخاذ بعض القرارات، فلم تكن الأمور بتلك السهولة والبساطة، بل كان يتعامل مع قضايا مهمة.
يقول المرحوم العلاّمة: حصل امر ما في ذلك الوقت ـ لا أدخل بتفاصيل الموضوع، ولا أعطي توضيحات أكثر، فالهدف من ذكر القضية هو إيصال الفكرة والوصول إلى الملاك الصحيح، لا بيان المسائل الشخصية والجزئية، فليس هذا هو موضوع الحديث ـ فذهبت إلى أحدهم وقلت له: عليك القيام بالعمل الفلاني والذهاب لزيارة ذلك الرجل الذي حصل له الحادث، فهو قد ابتلي بمحنة وأصيب بصدمة. وكلّما تكلّمت معه بشأن الموضوع، لم يقبل منِّي وقال: يحصل ذلك للجميع، فلا حاجة لأن أقوم أنا بعمل معيّن، يحصل للناس الكثير من المشاكل، فلماذا يجب عليَّ أن أفعل ذلك؟ فقلت له: لقد حصل لذلك الرجل ما حصل بينما كان يقوم بنشاط يصب في نفس ذلك المسير والهدف الذي نسعى لتحقيقه، فهذا يُرتّب علينا التزاماً تجاهه، ولا ينبغي علينا عدم الاكتراث بما حصل، فعلينا شكره وتقدير عمله على الأقل، بل وعلينا عيادته، فالعيادة هي بحد ذاتها بمثابة الشكر له. قال المرحوم العلاّمة: لم يقتنع ذلك الرجل ولم يقبل مني ذلك المقترح. فلماذا؟ لماذا لم يقبل؟ لماذا؟ ولا بدّ وأنَّ الإخوة قد أدركوا حقيقة الموضوع. لأنّ ذلك سيؤدِّي إلى نقطة ضعف!!
يقول المرحوم العلاّمة: عندما وجدت ذلك الرجل غير مستعدّ للذهاب، قلت: ولماذا لا أفعل ذلك أنا. فذهبت وحدي، وكم كانت تلك الزيارة مفيدة ومثمرة وباعثة على سعادة ذلك المصاب. فقد جاء أحد لعيادته أو [شكره].
ـ لماذا قام المرحوم العلاّمة بذلك؟
ـ لأنَّه لم يفتح لنفسه حساباً في قلبه، فهو يذهب لعيادة الرجل وبدون تكلّف، فيذهب وبكلّ بساطة ويقوم بعيادته ومداراته، ويكون ذهابه هذا باعثاً على سعادته وانشراح قلبه. أليس من الدين الإسلامي ومبادئه الحنيفة ضرورة عيادة المريض وزيارة المبتلى والسعي لحل الخلاف بين المتخاصمين.
فهذه التعاليم هي التي تبعث على التقليل من ذلك الحساب، فكل ذهاب سيعمل على إسقاط جزء من ذلك الحساب، وهكذا يعمل الذهاب الثاني والثالث حتّى يتم تصفير الحساب. غير أنَّ ذلك الشخص لم يذهب، ولم يستطع أن يمسح ذلك الحساب. لماذا؟ لأنَّه قام بإيداع مبالغ طائلة فيه. فكيف يمكنه والحال هذه رفع اليد عن جميع تلك الدنانير والدراهم الهائلة والمدفونة في القلب؟! أمّا الآخر فتراه يتقدّم ويتقدّم إلى الأمام، فيُصبح بذلك العلاّمة الطهراني. وهكذا يطوي الآخرون طريقهم، كلّ بحسب ذلك الحساب الذي فتحه لنفسه.
ما يقوله الإمام عليه السلام هنا هو: إن كنت تتكلّم مع أحد، وكان أسلوبه على قاعدة: لتعرف من أنت ومع من تتكلّم، أنا الذي لو قلت لي واحدة سمعت عشراً، أي إنَّني قد فتحت حساباً خاصاً بي، وإنَّ لي شخصيتي المستقلة في قبال الله؛ ولا يمكن أن أسمح بأن يُمسَّ استقلالي هذا، ولا يجب أن يزول، بل لا بدَّ من أن يبقى إلى الأبد، وأن يكون دائم التجلِّي. يقول الإمام إن كنت في قبال هكذا إنسان فقم بهجومٍ مضادٍ وقل له: كلّ ذلك الاستقلال لك وحدك يا عزيزي، أمّا أنا فلا أمتلك لنفسي شيئاً.
قيل للشيخ أبي الحسن الخرقاني: يقول فلان من الناس ممن له مريدون وأتباع في المدينة الفلانية: أبلغوا كلامي هذا للشيخ وقولوا له: إن كنت قطرة، فأنا البحر، وإن كنت حبة حنطة، فأنا القنطار (أو أن كنت حبة دخن، فأنا القنطار). فقال الشيخ: أبلغوه، بأنَّني لست حتّى بتلك القطرة التي ذكرتها، وقد أضفت تلك القطرة إلى ذلك البحر الذي هو أنت، وأنا لست بشيء. كما أنَّني لست بحبّة الحنطة التي وصفتني بها، وقد أضفت تلك الحبة إلى قنطارك ليكون أثقل. فلقد كان لديك قنطار من الحنطة ينقص حبةً واحدة، فخذ هذه الحبة وأضفها إلى قنطارك ليصبح بذلك أثقل.
لقد كان واقعيّاً في كلامه لأنَّه عارف، فهو يعلم وقد تحقّق بمقام العبوديّة، وفهم حقيقة العبوديّة؛ فهو يدرك معنى عبارة الإمام الصادق هذه بأنَّك إن كنت لم تفتح لنفسك حساباً خاصاً، فسوف لن يكون هناك مكان حتّى لقطرة واحدة، فأنت الذي فرضت نفسك بحراً ولست أنا. هنا يتبدّل كلّ شيء، وينقلب رأساً على عقب.
وقد كنت في طهران قبل مدة ـ ولعل ذلك كان العام الماضي ـ وكنت أريد الذهاب بسيارة أجرة إلى مكان آخر، فتوقفت سيارة أجرة، فقلت للسائق: أريد الذهاب إلى المكان الفلاني؛ فقال: سوف لن تكون الأجرة أقل من عشرة أو إثني عشر توماناً، فقلت له: هل ستوافق إن أعطيتك خمسة عشر توماناً؟ فقال: ما الذي تقوله؟! قلت: نعم، أتقبل بالخمسة عشر توماناً. فقال: تفضل أيها الحاج سأكون خادماً وفيّاً لك. فقلت له: دعني أركب السيارة أولاً، فهجومك بهذا النحو يجعل الشخص يخاف [فأنت تقول]: لا أقبل بأقل من عشرة تومانات، فسأعطيك خمسة عشر توماناً، ولقد أصبحنا أصدقاء إلى حدّ ما، وكان يريد تعميق العلاقة، ولكنّه أحسّ بأنَّ ذلك ليس مناسباً الآن. فسُعد كثيراً، ولقد كان شاباً جيداً ولكن...
ماذا لو اعتمدنا حديث الإمام الصادق عليه السلام منهجًا في علاقاتنا مع العالم؟!
يقول الإمام عليه السلام قل له: إن قلت عشراً، فسوف لن تسمع واحدة. فسيتحيّر المقابل، ويقول: ما الأمر؟ ها هو يقول: إن قلت عشراً، لم تسمع واحدة! فأيّة حكاية وأيّة ثقافة هذه؟ وأية مبادئ؟ فما الذي سيحصل لو أنَّنا قمنا بعرض هذه الثقافة على العالم على أنَّها ثقافة مذهب التشيّع؟ أتنتبهون لما أريد أن أقوله؟ ما الذي سيحصل لو عرضنا على العالم ثقافة الإمام الصادق؟ وأيّ تغيّرات ستحصل في أذهان العالم؟ أيّة تغيّرات في أفكار العالم ستجري تجاهنا وتجاه مذهبنا والإسلام والوجود؟ وأية تغيِّرات ستحصل عندما يبرز شيء مغاير لما يجري في مخيلة وأوهام الناس والذي بعث على إيجاد المشاكل والمصاعب والصدمات؟ سيتغيّر كلّ ذلك بواسطة عبارة واحدة ورؤية أخرى للأمور. نعم تلك الرؤية التي وصلت إلينا عن هؤلاء العظماء. فالأمر في غاية الأهميّة، نعم في غاية الأهميّة.
كنت أفكر قبل عدة أيام ببعض المسائل، فقلت: إنَّ قيام الإمام المهدي صلوات الله عليه يهدف لإعلاء كلمة التوحيد في جميع العالم، فظهوره سيكون لتحقيق هذا الأمر. ونحن نريد أن نتحرك في نفس هذا المسير وهذا الاتجاه، وهو إعلاء كلمة التوحيد في جميع بقاع الأرض وجميع البلدان والمدن وفي جميع الحضارات ولجميع الناس. فما هو الفرق بين ما يريد الإمام تطبيقه، وما نسعى إليه؟ أين يكمن التفاوت؟
هناك شكلان لطرح هذا الموضوع، فقد يتمّ طرحه تارة بأنَّنا نريد رفع لواء لا إله إلاّ الله في جميع بقاع العالم، وسنعمل على إسقاط المستكبرين والذين يريدون الوقوف بوجوهنا أرضاً، ونمرّغ أنوف أولئك الذين يريدون الوقوف بوجه إعلاء كلمة التوحيد بالتراب ونذلّهم.
كما يمكن أن يُطرح تارةً أخرى بأنَّنا نريد أن نعرض مباني التوحيد والإنسانية وحبّ النوع البشري والوحدة والفطرة ونقدّمها لجميع العالم وندعوهم إليها. فكم هناك تفاوت بين الطرحين؟! لا شكّ بأنَّ الهدف واحد، غير أنَّ هذا يأتي ليقول: سنضرب رؤوس الجبابرة ونقتلهم ونفعل كذا وكذا ونرفع لواء لا إله إلاّ الله، والآخر يقول: سنقوم بدعوة الجميع إلى الانضمام تحت راية التوحيد.
فكيف ستكون ردّة فعل المخاطب عندما يسمع منَّا ذلك؟ سيقول في الحالة الأولى: لا يختلف هؤلاء عن بقية الأفراد شيئاً، فسنعمل على مقاومتهم والتصدّي لهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. أمّا في الحالة الثانية، ألن يشعر المخاطَب بالتعاطف والأنس ووحدة الهدف والمسير وأنَّ هذا الطرح يتناسب مع الفطرة والإنسانية؟
فدعوة الإمام المهدي ستكون من النوع الثاني لا الأول، دعوة إمام الزمان عليه السلام هي: يا أيها الناس تعالوا إلى التوحيد، والوحدة والفطرة والإنسانيّة والكمال والرقيّ والسموّ وإلى عالم النور وعالم التوحيد. هذا هو الفرق بين منهج الأنبياء وبين سائر المدارس الأخرى، وإن كانت تلك المدارس تصطبغ بالصبغة الإلهيّة؛ غير أن الفرق بينهما فرق شاسع وذلك بسبب أخذه بنظر الاعتبار واهتمامه بالمسائل الباطنيّة وبجميع تلك القضايا التي تدور حول هذا المحور. هذه النقطة هي نقطة أساسية [يجب الالتفات إليها].
يقول الإمام الصادق عليه السلام: عندما تواجه الناس، فاعرض عليهم هذا المنهج واعرض عليهم هذا الأمر. فعندما تتكلّم مع آخر، فلا ترَ نفسك، بل لتكن مدرستك نصب عينيك؛ فإن رأيت نفسك، فستكون في معرض الدفاع عن نفسك، فتقول [في نفسك] يجب ألاّ تُمسّ شخصيّتي، فالموضوع يدور حول النفس. فعندما تكون الشخصيّة هي المطروحة هنا، فسيتشبث الإنسان بأيّة وسيلة يراها مساعدة في هذا المجال، فسيتشبّث بالكذب والاتهام من أجل ألاّ يحصل مساس بشخصيّته. فالأساس هنا هو حفظ الشخصيّة، فأيّ نقصان يحصل هنا سيؤدِّي إلى الإهانة والافتضاح؛ فلا يبالي عندها بقول الكذب أو إلصاق التهمة بالآخرين أو التجنّي على الغير أو الإنكار، فيقوم بإنكار الحقائق التي تكون واضحة كوضوح النهار. كلّ هذا من أجل حفظ مكانته، وهو يسمي نفسه بالمدافع عن المذهب؛ لأنَّ الأساس الذي يتصرّف بموجبه هو حفظ شخصيته ومكانته وليس الدفاع عن مذهبه ومدرسته، فهذا الأخير ليس مطروحاً هنا، بل المطروح هو الدفاع عن النفس. فعندما تصل المسألة إلى هذا الحدّ، فسوف لن يكون هنالك فرق بين زيد وعمر من الناس [وإن ادّعى أحدهما الانتساب إلى المدرسة الإلهية].
سيتم مواصلة الحديث عن هذا الموضوع في المجلس القادم إن شاء الله. نسال الله أن يفتح أعيننا، وأن يجعلنا ندرك حقيقة العبودية، وأن تكون أفعالنا وأقوالنا وتصرفاتنا متماشية مع مسير العبودية، لا مسير تثبيت النفس والأنانية والفرعونيّة والذي يأخذ قالب أمور المعرفة والمسائل الاعتقاديّة والتي سوف لن تزيد الإنسان إلاّ وزراً ووبالاً ومزيداً من أعباء الذنوب والابتعاد عن الله.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد