المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالكثرات والاعتباريات
التوضيح
ماهي الأضرار النفسيّة للتلقّب بالألقاب المُكبّرة للنفس؟ هل يُمكننا التذرّع بمثل عليّ بن يقطين للانخراط في الحكومات الجائرة؟ ما هي الأخطار الناجمة عن مدح الإنسان؟ ما هي الأضرار المترتّبة على تضخيم الشخصيّة؟ هل إنّ حقّ التفكير والاختيار مختصّ بفئة خاصّة؟ ما هو الفارق بين مدرسة العرفان وبقيّة المدارس؟
هي تساؤلات سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لتكملة شرح فقرة «قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعبداللَه» من حديث عنوان البصريّ الشريف؛ وذلك في ضمن بيانه لمجموعة من القصص والنكات الشيّقة الأخرى.
هو العليم
الأضرار النفسيّة والاجتماعيّة لتضخيم الشخصيّة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
«قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعبداللَه». قال عنوان البصريّ للإمام الصادق عليه السلام: يا شريف! فقال له الإمام: قل يا أبا عبد الله.
تحدّثنا عن بعض التبعات التي من شأنها أن تترتّب على مسألة التلقّب بالألقاب والعبارات المُعظِّمة والمُكبِّرة للنفس، وبينّا أنّ لهذه المسألة تأثيرًا سلبيًّا من ناحيتين: الأولى ترتبط بنفس الإنسان، حيث تُؤدّي إلى الإضرار بالعلاقة القائمة بينه وبين ربّه، والتي يتوقّف صدقُها على إدراك حقيقة العبوديّة المكنونة في النفس؛ والثانية ترتبط بالتأثير السلبيّ الذي تُحدثه هذه المسألة في المجتمع، وهو أكثر خطورة وتدميرًا بعدّة مراتب، وله تبعات سيّئة قد تُصيب أيّ مجتمع.
الأضرار النفسيّة للتلقّب بالألقاب المُكبّرة للنفس
ففيما يخصّ المسألة الأولى، ذكرنا أنّ النفس تتّصف ببُعد انفعاليّ وتأثّري؛ ولهذا، كما أنّها تستطيع في ظروف ملائمة التقليلَ تدريجيًّا من تعلّقات المادّة والكثرات، وتُكيّف ذاتها مع جهة الربوبيّة وجهة العبوديّة فيها، فإنّ من شأنها أيضًا ـ باعتبار تأثّرها بالأمور السيّئة ـ أن تفقد بالتدريج ذلك الجانب من العبوديّة، وتُصبح متوجّهة إلى الجوانب المخالفة التي تتمثّل في التعلّق بالمادّة، وتتنزّل إلى هذه المرتبة. فلماذا يُقال للإنسان: عليك ألاّ تتعامل مع الأناس الطالحين؟ لأنّ أنفسنا تتأثّر بهذا التعامل شئنا أم أبينا، فتفقد تلك النورانيّة والروحانيّة التي قد تكون اكتسبتها سابقًا؛ ولماذا يتوجّب على الإنسان عدم مجالسة ومعاشرة الأفراد الذين يُديمون ذكر الدنيا وشؤونها، وينصبّ كلامهم بأجمعه على الحوادث والوقائع الدنيويّة؟ وقد شاهدتم البعض يسأل، ويقول: يا سيّدي! لماذا حينما نستيقظ من النوم، نعاهد الله تعالى ونشارطه على ألاّ نعصيه، ولا نغتاب؛ لكن، فجأة، يذهب كلّ ذلك أدراج الرياح؛ وذلك عندما نلج إلى أحد المجالس، فتجدنا صرنا فجأة نخوض مع الحاضرين ـ بل ربّما أكثر منهم قليلاً ـ في ذلك الحديث وتلك المسائل؟! فما هو سبب ذلك؟ سببه أنّك لم تُصغ للكلام منذ البداية يا عزيزي! لقد قيل لك: لا تُشارك في المجالس التي تُذكر فيها الدنيا، ومسائل اللهو، واللعب، والغيبة، والبهتان، وأمثال ذلك؛ لكنّك لم تستمع للكلام، وذهبت إلى هناك، فصرت أنت أيضًا تلجأ للبهتان والغيبة، وخُضت بدورك في اللهو واللعب.
كان المرحوم السيّد جمال الدين الكلبايكاني يحكي هذه القصّة لوالدنا رحمة الله تعالى عليه، ويقول: كان القائم مقام الرشتيّ (وكان يُسمّى بالقائم مقام رفيع) من المسؤولين في العهد السابق، وكان من أهل الصلاة والصيام، ومتعبّدًا بالأحكام الشرعيّة، فكان يُراعي هذه المسائل تمامًا؛ ولهذا، كان يحظى من هذه الناحية باهتمام جميع الطوائف والناس في البلد على العهد السابق، سواءً في زمن رضا شاه، أو ابنه محمّد رضا شاه؛ وحينما أراد رضا شاه مغادرة إيران، أوصى ابنه بمجموعة من الوصايا؛ فأمره أن يعتمد على فلان، ويستشير علاّن، ويستعين بذاك؛ ومن بين هذه الوصايا، طلب منه ألاّ يغفل أبدًا عن استشارة القائم مقام، والاستفادة من آرائه وتجاربه؛ كما كان القائم مقام رفيع يحظى باهتمام العلماء أيضًا، حيث كان للكثير منهم علاقة به، ويتردّدون عليه؛ لكن، في الوقت ذاته، كان محسوبًا على جهاز الحكم في عهد رضا شاه، ومحمّد رضا شاه بعد ذلك؛ لكن، يُقال إنّه قطع علاقته بمحمّد رضا شاه في أواخر حياته، وغضب منه، ولم يُعد له أيّ ارتباط به، وقضى الأيّام الأخيرة من عمره في البيت، بعيدًا عن التدخّل في الشؤون السياسيّة؛ فهذا ممّا يلزم ذكرُه أيضًا! وعلى أيّ تقدير، فقد كان رجلاً ناضجًا، ويمتلك تجارب كثيرة، ومتعبّدًا بالأحكام الظاهريّة، ولكنّه كان أيضًا محسوبًا على النظام الجائر، ويحظى برعايته؛ وهذه بحدّ ذاتها مسألة ينبغي النظر فيها. ذات يوم، تشرّف القائم مقام رفيع بالسفر للعتبات المقدّسة، فذهب لزيارة السيّد جمال الدين الكلبايكانيّ رضوان الله تعالى عليه؛ وقد كان المرحوم السيّد جمال رجلاً صريحًا وواضحًا جدًّا، فكان يُبيّن المسائل بكلّ صراحة، من دون أن يخاف من تبعات ذلك؛ كأن ينزعج الطرف الآخر مثلاً؛ بل كان صريحًا جدًّا. فجلس، وبدأ يقول له: «ما هو سبب انتمائك لهذا النظام؟ لماذا تعمل في الحكومة الجائرة؟»؛ فقال له: «يا سيّدي! ما هي المشكلة في انتماء الإنسان لهذا النظام، ومساعدته للمحرومين، وقيامه ببعض الأعمال بقدر المستطاع؟»؛ ونفس هذه التبريرات التي نذكرها نحن، ومتداولة بيننا.
وحضرتني الآن مسألة مثيرة للاهتمام كثيرًا؛ فقبل عدّة أيّام، كنت أطالع نهج البلاغة، فوقعت عيني على إحدى كلمات أمير المؤمنين عليه السلام؛ وكانت عجيبة حقًّا! حيث جاءه أحدهم، وأحضر له هديّة، لكنّها كانت في الحقيقة من باب الرشوة، وتحصيل نفع مادّي؛ إذ لم يكن عليه السلام الذي تغيب عنه هذه المسائل؛ فما إن أتاه ذاك [بالهديّة]، حتّى أدرك حكايتها من أوّلها وآخرها ووسطها وكلّ الأمور المتعلّقة بها؛ بل قبل أن يصل عنده، كان ملفّه مسجّلاً عنده! فطرق الباب، وولج إلى الداخل، فقال له الإمام: «ماذا أحضرت معك؟»، فقال له: «هذا الذي أحضرته معي»؛ فقال له: «هل هذه صدقة أم زكاة؟ إن كانت كذلك، فإنّنا لا نأخذها؛ فلماذا أتيتني بها؟ فنحن لا نقبل الصدقة، ولا الزكاة»؛ فقال له: «لا، يا أمير المؤمنين! بل هديّةٌ»؛ فقال له عليه السلام: «اصمت!»، ولم يدعه يتكلّم؛ وهنا، لا تحضرني نفس عبارات نهج البلاغة؛ لكنّها جاءت بهذا المضمون: «أ بدين الله تُريد أن تغترّني؟»۱؛ هل تُريد أن تقول: إنّها هديّة، حتّى تخدعني؟ قم، واذهب بها من هنا! هل تسعى لاستخدام دين الله تعالى من أجل خداعي؟ لقد جئت بهذه الرشوة لكي تتمكّن من تحقيق مطامعك ومصالحك، ثمّ تأتي، وتُسمّيها هديّة؟! وهكذا جاء في نهج البلاغة؛ أي أنّه ادعّى كونها هديّة.
الاحتجاج بعليّ بن يقطين للانخراط في الحكومات الجائرة
فقال [القائم مقام]: «ما هو الإشكال في أنّ نخوض في هذه الأمور، لكي نتمكّن من مساعدة الضعفاء، والقيام بما نقدر عليه من خدمات؟ أ فلم يكن عليّ بن يقطين يعمل في حكومة هارون؟! فقد كان يشتغل في ذلك النظام بأمرٍ من موسى بن جعفر، لكي يصدّ البلاء عن الشيعة، ويرفع الجور في تلك الحكومة»؛ فقال المرحوم السيّد جمال بغضب: «اصمت! هل يجوز لكلّ... ـ وذكر هنا كلمةً لا أستطيع النطق بها الآن ـ هل يجوز لكلّ أحد أن يستأكل بهؤلاء، ثمّ يأتي، ويحتجّ بعليّ بن يقطين. لقد كان عليّ بن يقطين يعمل في حكومة هارون بأمر من الإمام موسى بن جعفر؛ وكان يدعو الله تعالى مرارًا أن يُخرجه من هناك؛ غير أنّ الإمام عليه السلام هو الذي أبقاه؛ لكن، من أمرك أنت بالذهاب إلى هناك؟ فتأتي وتحتجّ المرّة بعد المرّة بعليّ بن يقطين!».
إنّها النفس التي تأتي، وتبدأ بالتبرير شيئًا فشيئًا للإنسان؛ إذ يأتي طعم الرئاسة وشؤونها، ويُخرج النفس من صفائها بالتدريج، فتصطبغ تدريجيًّا بتلك الأمور، ولا يعُد الإنسان بعد ذلك قادرًا على التخلّي عنها؛ وحينما يصل إلى هذه الدرجة، تبدأ نفسه بالتبرير؛ فيأتي بآية من هنا، ورواية من هناك، ويقلب الكتب رأسًا على عقب.. لأجل ماذا؟ لأجل أن يعثر على رواية تحتوي في موضعٍ منها على إشارة أو كناية [تبرّر فعله]؛ وفي مقابل ذلك، يُنحيّ ألفًا من المواضع الصريحة؛ فيتمسّك بتلك الكناية، ويسعى لتضخيمها حتّى يبلغ حجمها مستوى جبل! فقد يكون بوسعك اللجوء إلى هذه الأمور هنا؛ لكن، ما إن تضع رأسك في القبر، فلن يكون بمقدورك فعل أيّ شيء؛ لا بأس! اجعل هنا الحبّة قبّة، والقبّة حبّة؛ فلا إشكال في ذلك! فكلّ ذلك هو لخداع الناس، والنصب عليّ وعلى أمثالي؛ لكن، عندما تضع رأسك [على التراب]، فهناك ستكون القبّة قبّة، والحبّة حبّة، ولن تتمكّن من تبديل إحداهما بالأخرى. فالنفس تتّسم بحالة من التأثّر؛ أي أنّها تقبل التأثّر؛ ولهذا، قد يتّخذ الإنسان في البداية قرارًا بخصوص مسألة ما، ويكون هدفه تنفيذ هذا القرار؛ لكنّه يُلقي بنفسه بعد ذلك وسط تيّار معيّن، ويمشي مع هذا التيّار، من دون أن يُوبّخ نفسه في مثل هذه الظروف الحسّاسة، وينسحب منه؛ فيتقدّم إلى الأمام شيئًا فشيئًا، ويتقدّم؛ إلى أن يرى نفسه فجأة قد صار جزءًا من ذلك التيّار، ومن أنصاره؛ وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه: «إنّ الذين ينضمّون إلى الأنظمة الجائرة والظالمة يكونون في أوّل انضمامهم أعوان الظلمة ـ أي مساعديهم ـ ، ثمّ يُصبحون بعد ذلك أعيان الظلمة۱؛ أي يصيرون بأنفسهم ظلمة»؛ وحينئذ، لا يُمكن فعل أيّ شيء [لهؤلاء]! ففي المرحلة الأولى، يذهبون إلى هناك بعنوان المساعدة؛ وقد يتمكّنون أحيانًا من التبرير، و...؛ لكن، حينما يظلّ هناك، ويظلّ، ويظلّ، لا يعود قادرًا على الرجوع والتراجع؛ وهنا، يُختم عليه {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ}٢؛ فيضع الله تعالى عليه ستارًا، لكنّ هذا الستار ليس من قبيل تلك الستر التي توضع، ثمّ تُطوى بعد ذلك؛ لا! فهو تعالى يختم تلك الغشاوة؛ أي أنّه يضع ختمًا على ذلك الستار، فلا يتسنّى لأيّ أحد فتحه؛ وهذا نظير الرسائل التي يُريدون إرسالها، فيضعون عليها ختمًا؛ حتّى إذا فتحها أحد، يكون بوسعهم اكتشاف الأمر. وهنا، فإنّ الله تعالى يضع ختمًا على الستار، ثمّ يُلقيه على الإنسان، فلا يقدر أيّ أحد على فتحه؛ لماذا؟ لأنّنا لم نُصغ للكلام، ولم نهتمّ بالمسألة؛ وحينما تمرّ فترة من الزمان، نشعر بحالة من التراخي، فنسأل: «يا سيّدي! لماذا أصبحنا نشعر بالتراخي، ولا نتحرّك؟»؛ ثمّ تنقضي مدّة أخرى، فيحصل لنا تحوّل آخر؛ ثمّ تطرأ لنا حادثة ما، وهكذا مرّة أخرى...! فلماذا حصل ذلك؟ إنّها نتيجة طبيعيّة؛ فنحن لا نلتزم بالمراقبة، ولا نهتمّ بالأمور؛ ولهذا، تأتي تلك النفسانيّات وتلك الأجواء، وتترك تأثيرها السيّء في الإنسان.
وأشرنا سابقًا إلى أنّ الألقاب التي يضعها الناس للإنسان، وكيفيّة ارتباط هؤلاء الناس به تُحدث تأثيرًا سلبيًّا في نفسه، وتُخرج هذه النفس من مكانتها، ومن حالة التذلّل والمسكنة والعبوديّة شيئًا فشيئًا؛ ولهذا، حينما تنظر إليه في اليوم اللاحق، تجده قد تغيّر عن اليوم السابق؛ لماذا؟ لأنّهم وقفوا احترامًا له مرّتين؛ فإلى البارحة، لم يكونوا يفعلوا ذلك، لكنّهم صاروا الآن يفعلونه؛ وصارت أحواله اليوم مختلفة عن الأمس.. لماذا؟ لأنّه صار كلّما أراد المجيء إلى المجلس، ترتفع الأصوات بالصلوات لأجله، وتحدث جلبة لحضوره، ولا يسمحون للناس بعبور الشارع عند مروره؛ ومن ناحية أخرى، نحن نعلم أنّه لا يستطيع كلّ واحد أن يضبط نفسه؛ أجل، يا سماحة السيّد كذا! ويا من يُقارن نفسه بعليّ بن يقطين، كُن مثل عليّ بن يقطين، واذهب بعد ذلك إلى أيّ مكان تُريد! وكُن إنسانًا تخطّى نفسه، وتجاوز أهواءه؛ مع أنّ ذلك لا يحصل بكلّ سهولة؛ فلا تقل إنّك تمكّنت من ذلك؛ لا يا عزيزي! فكلامنا كلّه من باب الهزل! فتخطّ نفسك وأهواءك، واخرج من نفسك، ثمّ اذهب بعد ذلك إلى أيّ مكان يحلو لك؛ فلن يُشكل أو يعترض عليك حينئذ أيُّ أحد. لكن، إذا كنت بحدّ ذاتك تعيش المعاناة، ومحتاجًا، وتشتكي في داخلك من آلاف المصائب، فإنّ الشيطان سيأتيك، ويُبرّر لك المسائل، ويُزيّنها لك بنحو جيّد، فتقول مع نفسك: «ماذا سيحلّ بي، إذا لم أقبل [بهذا المنصب]؟ وحتّى إذا رفضته، سيأتي بدلاً عنّي شخص آخر، ويعمل على إفساد الأمور؛ فإذا لم أقبل به، سيحدث كذا، وكذا»؛ فتأتي هذه التبريرات، ليجد الإنسان نفسَه فجأةً: ماذا حصل يا عزيزي؟! لقد ضيّعتَ كلّ شيء! لقد خسرتَ بسبب الأهواء والنزوات والتخيّلات، وفقدت عمرك، في حين أنّه كان بوسعك التأمّل والتفكير، واختيار الطريق الصحيح؛ لكنّك سلّمت نفسك للأحداث والتخيّلات؛ ولهذا السبب، كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يقول مرارًا وتكرارًا: «إذا انضمّ أحد إلى حكومة تهتمّ بهذه المسائل العادية والظاهريّة وباللهو واللعب وأمثال ذلك، وليس تلك الحكومات الصادقة التي تتّبع ـ حقًّا ـ سياسة صحيحة وإسلاميّة وإلهيّة، فلا يُمكنه ألاّ يتلوّث؛ فإمّا أن يكون إمامًا أو وليًّا، واستطاع تخطّي نفسَه، وإمّا أن يكون حصل من الإمام أو الوليّ على إذن؛ وإلاّ، فإنّ الدنيا ستتغلّب وتُسيطر وتُهيمن عليه».
الأخطار الناجمة عن مدح الإنسان وتزكيته
فهذا هو حال النفس، حيث تُفضي بها هذه الأفعال إلى عدم إدراك مكانتها الحقيقيّة، وعدم بلوغ منزلتها الواقعيّة، وإلقاء ستار يحول دائمًا بينها وبين الواقعيّات؛ فتعُدُّ الاعتباريّات حقائق، وتصير الحقائق لديها باهتة. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتّقين: «وَإِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ»۱؛ لا أنّه يفرح، بل يخاف ويرتجف «خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي»؛ لا أنّه يقول ذلك في الظاهر فقط، بينما الباطن يحتوي على أمر آخر؛ فهذا هو حالنا يا عزيزي! حيث تجدنا نقول للناس ومن على المنبر ـ وهذا يصدق عليّ أيضًا أنا الذي أتحدّث الآن، وأذكر هذه المسائل ـ: «أجل، لقد تحدّث أمير المؤمنين بهذا النحو، فنحن لسنا أهلاً [لهذه المدائح]، ونحن لا شيء!»؛ فإذا قام أحدٌ بالثناء علينا، فإنّنا نقول له: «لا تُثني علينا أيّها السيّد! فنحن لا نستحقّ ذلك، ونحن لسنا كذا!». لكن، إن جاء أحد، وفعل أمامنا العكس؛ كأن يقول: «لا يا عزيزي! إنّه إنسان عاديّ، فهو يُخطيء، شأنه شأن بقيّة الناس»، فما الذي سيحصل؟ هل سنظلّ ساكتين؟ ففي المرّة الأولى، سنعضّ على شفتينا، ونقول [في أنفسنا]: «يا له من رجل عجيب! إنّه عديم الحياء! ما دخلك في أن أخطيء أو لا أخطيء؟! قل ما كنتَ تريد قولَه، واسرد خطبتك، وأَنْهِ حديثك!»؛ ثمّ يأتي مرّة أخرى، ويقول: «أيّها السادة! لا تظنّوا أنّه رجل غير عاديّ، لا، إنّه إنسان عاديّ؛ فهو معرّض للخطأ كبقيّة الناس؛ فمن قال إنّه معصوم؟ ومن الذي يدّعي أنّ كلامه وحي؟ ومن قال إنّه غير عاديّ؟»؛ فيقول ثانيةً: «عجيب! كأنّ هذا الرجل يتقصّدني أنا». هذا لا شيء.. لقد تحدّث بكلام عاديّ؛ فما هو سبب انزعاجك؟ ثمّ يحصل ذلك للمرّة الثالثة والرابعة؛ وحينئذ، يقول: «لا تستدعوا هذا الرجل مجدّدًا، ولا تسمحوا له بالمجيء». أ لم تقل أنت بنفسك يا عزيزي: «أنا لا أمتلك الأهليّة»؟! فها هو الآن يقول الشيء ذاته؛ وحينئذ، سيُجيب: «عليّ أنا أقول أنا ذلك الكلام، وليس هو».. هل التفتّم؟! فنحن بأجمعنا نكذب يا عزيزي! فمن يا ترى هذا الذي يصدق في الكلام؟ وحده الذي قال نهج البلاغة يصدق، ووحده الإمام الصادق الذي يصدق، ووحده الرسول الذي يصدق؛ وأمّا نحن، فنكذب بأسرنا، إلاّ ما رحم ربيّ.
«وَإِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ»؛ فلماذا يخاف؟ لأنّه إنسان كيّس وفطِن؛ وأمّا نحن، فلسنا كذلك؛ فقد خُدعنا، بينما هو لا.
فهو يرى المصائب التي يُحلّها الآن هؤلاء الناس بذلك الرجل بواسطة تزكيتهم وتجليلهم وتعظيمهم له، غير أنّ هذا المسكين لا يعلم ولا يشعر؛ لكن، حينما يحلّ يوم القيامة، فإنّنا سنجد أنفسنا نحمل جبلاً على رؤوسنا؛ فمن الذي أوجده؟ إنّهم هؤلاء الجالسون هنا! وليس مرادي من ذلك أنتم، بل مرادي أولئك الذين يحضرون للاستماع؛ فتجد أحدهم يُمجّد، والآخر يُقبّل الأيدي، والثالث يقوم من مكانه احترامًا، والرابع يرفع صوته بالصلوات لسلامة صاحب السعادة. لا أعلم هل حدّثتكم في الجلسة السابقة بقضيّة تتعلّق بالسيّد البروجرديّ رحمة الله تعالى عليه؟ أجل.. انظروا! فالمسألة هي بهذا النحو، حيث يصل الأمر إلى أن يأتي رجل أحمق، ويُقدّم اسم السيّد البروجرديّ على اسم إمام الزمان.. يا عديم الشعور! فالبعض من أمثال السيّد البروجرديّ، ينهرون، ويُوبّخون، ويفتحون الباب، ويقولون: «عليك أن تخجل! اخرج من هنا! ولا تأت مرّة أخرى»؛ لكنّ البعض الآخر يظلّون جالسين، ويكتفون بالقول: «لا، نحن لا نمتلك الأهليّة، فمن نكون نحن؟ نحن لسنا كذا»؛ أ فهكذا يجب التعامل مع الأمر؟! أ فبهذا النحو ينبغي أن يكون؟! فلو فرضنا أنّ أحدًا أتى، واعتدى أمام الناس على عرضك، هل كنت ستُجيبه بهذه الطريقة؟ وهل يكون إمام الزمان أهون من أعراضنا؟ هل تنظرون للمسألة بهذا النحو؟ أي: هل هذه هي حقيقة المسألة: نحن لا نملك الأهليّة، ولا نستحقّ هذه الألقاب، ونحن كذا وكذا؟ هذا غير ممكن؛ إذ عليك أن توقفه عند حدّه في عين المكان، وتقول: «اصمت، اجلس مكانك، لا تتكلّم، عليك أن تخجل!»؛ فبهذا النحو تتقدّم الأمور، وليس بأن ...؛ لأنّ ذلك سيزيد الأمور سوءًا، حيث سيُقال حينئذ: «أجل، إنّ السيّد متواضع جدًّا، انظروا إليه كيف يتواضع، ويفعل كذا»؛ فبهذا النوع من التواضع، سيُفاقم مصائبه، ويزيد من حمله؛ لأنّ كلامنا هنا يقع في أنّنا سنأتي إلى ساحة القيامة محمّلين بجبل من المشاكل والاعتباريّات؛ فيسألنا الله تعالى: «من الذي بنى لكم هذا الجبل؟»؛ فنقول: «هؤلاء الناس»؛ ثمّ نُنادي عليهم، ونحمّلهم المسؤوليّة؛ وحينئذ، سيقولون لنا: «لو شئت، لرفضت؛ فنحن ناديناك [بتلك الألقاب]، لكن، لو شئت، لرفضت؛ فنحن لم نُقيّد يديك، ولم نُجبرك على ذلك»؛ فلو كنت كيّسًا وفطِنًا، لقمت من مكانك، ولجأت إلى صدّهم؛ أ فهل كنت طفلاً صغيرًا، حتّى تفتقر لمن يأخذ بيديك؟! أ فهل كنت سفيهًا، لكي تحتاج لتعيين وليّ عليك؟! لقد كنتَ إنسانًا عاقلاً ومختارًا؛ فلماذا لم تتحرّك بنفسك؟ فجميع هؤلاء الذين صنعوا لنا جبلاً سيذهبون إلى حال سبيلهم، ونبقى نحن، وماذا؟
إنّ الإنسان الكيّس هو الذي يتحدّث عنه أمير المؤمنين عليه السلام هنا في خطبة المتّقين؛ فاذهبوا، وطالعوها؛ وهي نفس خطبة همّام، حيث يقول فيها: «وَإِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ»؛ فتراه يرتجف، ويقول: لماذا تسعون إلى مدحي وتزكيتي؟ إنّكم بهذا تُحلّون بي المصائب! فتعظيمكم هذا، ورفع أصواتكم بالصلوات يُضيف مشكلة إلى مشاكلي؛ ففي هذه الحالة، لو كنتم ستأتون يوم القيامة، وتبقون ثابتين على كلامكم، لكان بوسعي الاعتماد على أمر ما؛ وذلك بأن تقولوا: «إلهي، نحن الذين صنعنا له ذلك»؛ لكنّكم ستتخلّون عنّي، وترحلون؛ إذ سيذهب كلّ واحد إلى حال سبيله، وينشغل بشؤونه، من دون أن ينظر إلى خلفه. فذلك اليوم هو الذي يفرّ فيه الوالد من ابنه، والأمّ من ابنها، والابن من أبيه؛ وحينئذ، هل بوسع الإنسان توقّع أن يأتي الأجانب والغرباء، لكي يشفعوا له؟ هيهات! ولهذا، على الإنسان أن يكون كيّسًا وفطِنًا؛ هل رأيتم في أشعار حافظ عليه الرحمة من هو الكيّس؟ إنّه الذي يكون مطّلعًا على مكانته، ويعرف من هو، وإلى أين يذهب، وماذا يفعل، فلا يستطيع أيّ أحد خداعه، حيث كان والدنا بهذا النحو؛ فلم يكن أيّ واحد قادرًا على خداعه، ولم يتمكّن أيّ أحد من [زعزعته] عن تلك المباديء، ولو بمقدار ذرّة واحدة؛ فقد كنّا على علاقة به، وكنّا برفقته، ومطّلعين على حركاته؛ كما أنّنا شاهدنا الآخرين، فلم يكونوا على نفس المنوال.
حكاية الميزا الثاني مع الشيخ البهاريّ رضوان الله تعالى عليهما
تذكّرت الآن مسألة؛ فقد كان الشيخ محمّد البهاريّ رجلاً عظيمًا جدًّا، ومن الأولياء والعظماء. وكان الميرزا الثاني.. المرحوم الشيخ محمّد تقيّ الشيرازيّ هو الذي يؤمّ الصلاة في سامراء، حيث انتقلت المرجعيّة والزعامة الدينيّة إليه بعد الميرزا الكبير.. المرحوم حسن الشيرازيّ الذي كان من السادة۱، بخلاف الميرزا محمّد تقيّ الذي لم يكن منهم، لكن، تُنقل العديد من الحكايات عن قداسته وتقواه وتنزّهه عن الأهواء، حيث يُحكى أنّ المرحوم الشيخ هادي الطهرانيّ كان من أعاظم علماء النجف، والمفكّرين الكبار، وله اهتمامات دراسيّة خاصّة؛ إذ لم يكن الكثيرون يفهمون كلامه؛ ولهذا، اتّهموه ببعض المسائل؛ فقد كانت شخصيّتُه متميّزة، وكان ينتهج مسارًا ومسلكًا خاصّين. ويُقال إنّه لم يكن يمدح أيّ أحد؛ وحينما يأتي الحديث عن أحد الأشخاص، فإنّه يستعمل في تعريفه له بعض العبارات التي لا يستسيغها الناس كثيرًا؛ ولو كان ذلك الشخص رجلاً عظيمًا؛ فيُقال مثلاً: «ما هو المستوى العلميّ لفلان؟»، فيقول: «إنّه في مستوى طالب من طلبة العلم»؛ هذا، مع أنّه قد يكون من مراجع التقليد مثلاً!! لكن، حينما سألوه عن قداسة الميرزا محمّد تقيّ الشيرازيّ وتقواه، فإنّه قال: «إنّ تقواه أمر فطريّ وليس اكتسابيًا»؛ أي أنّه لم يُرد مدحه؛ لكنّه قال: «بحقّ، إنّ هذا رجل صالح»؛ أي أنّه لم يقم حياله بأيّ شيء؛ فلم يتمكّن من أن يعثر فيه على أيّ عيب، ولم يقدر على أن يُشكل عليه، ونهاية ما قال عنه: «إنّ هذا الحُسن الذي يتّصف به موهبة إلهيّة، ولم يسعَ بنفسه إلى تحصيله»؛ وخلاصة القول أنّ حتّى هذا [أي الشيخ هادي الطهرانيّ] لم يستطع الإشكال عليه، مع أنّه كان يتحدّث عن الجميع، ولا يستثني أحدًا في هذه الأمور. وذات يوم، سألوا الشيخ محمّد البهاريّ رحمة الله تعالى عليه: «هل يُمكننا تقليده، أم لا؟»؛ فانظروا كيف كانت الأمور في تلك الأيّام، وكيف صارت الآن! حيث كانوا يسألون عن هكذا شخصيّة مع كلّ تلك التقوى وذلك المستوى العلميّ، هل يُقلّدونه، أم لا؛ فقال لهم: «سوف أختبره، وأجيبكم». وفي الليل، كان الميرزا الشيرازيّ يؤمّ صلاة الجماعة في صحن الحرم بسامرّاء؛ وما إن أراد البدء في صلاة المغرب، حتّى رأو فجأةً أنّ الشيخ محمّد البهاريّ أخذ سجّادته، وطفق يتقدّم إلى الأمام، ويتقدّم، إلى أن وضع سجّادته إلى جانب سجّادة الميرزا محمّد تقيّ الشيرازيّ؛ أي أنّ الميرزا كان يُصلّي في جانب، فبدأ الشيخ البهاريّ يُصلّي في جانب آخر؛ وكانت مجموعة تقتدي بالميرزا، ومجموعة أخرى بالشيخ محمّد البهاري؛ وحينما تمّت الصلاة، قال الشيخ البهاريّ: «هذا هو الرجل الذي عليكم تقليده! فمنذ أن كبّر في الأوّل تكبيرة الإحرام، إلى أن قرأ التشهّد، وسلّم في الأخير، لم أر أيّة خاطرة حلّت بقلبه أو بنفسه، ولو بمقدار ذرّة»؛ هل لاحظتم؟ إذ يوجد فارق كبير بين أن ندّعي بأنفسنا بعض الأمور، وبين أن نجد أنفسنا في قلب الحدث؛ أجل، فكلّنا يقول: «أنا لا أمتلك الأهليّة، فمن أكون أنا؟»، وإلاّ، فما عسانا أن نقول؟! فهذه الكلمات هي بضاعتنا، وإذا لم نقل ذلك الكلام، سيُقال عنّا: «يا له من مستكبر وكذا!»؛ فهذه الأمور بأجمعها وسائل وأدوات ومسوّغات لتعظيم النفس، وليس للتذلّل والتواضع؛ إذ لا يوجد لدينا ما نقوله غير ذلك.
ذكر أهل الجنّة وذكر أهل النار
«وَإِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسِي»؛ فتجدهم يبتهلون إلى الله في أنفسهم، ويقولون: «اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ»؛ فحينما تأتي أنت وتمدحني، هل تظنّ أنّك عرفتني جيّدًا، حتّى تسمح لنفسك بمدحي ـ ولا أقصد هنا شخصي أنا بل أقصد هؤلاء [الذين يتحدّث عنهم أمير المؤمنين عليه السلام] ـ ؛ وحينما تقول: «إنّه صاحب مقامات»، هل تعلم من الأساس ما معنى المقامات؟ وعندما تقول: «إنّه من أهل الأحوال»، هل تفهم من الأساس ما هو المراد من الأحوال؟ فهل هذا المدح الذي تقوم به هو مدح حقيقيّ، أم أنّه عبارة عن تخيّلات ظننتها حقيقةً؟ فإذا كان الأمر بهذا النحو، فأرجوك يا إلهي أن تمنحني حقيقة هذه المسائل، لا ما يقولونه هم؛ لأنّ ما يقولونه يخصّهم هم؛ وهم لا يعلمون شيئًا عن المقامات، ولا عن الجنّة، ولا عن الدرجات العليا والمسائل المعنويّة.. واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُون «وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا ...»؛ فهؤلاء الذي يتفوّهون بهذا الكلام لا يعلمون بما يقولونه؛ وإلاّ، لما كانوا على هذه الشاكلة؛ فهب لنا حقيقة ذلك، والتي هي «أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ»؛ وأيضًا: «وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ»؛ فاغفر لي تلك الأمور التي لا يعلمون بها، وتعلم بها أنت فقط، وأخفيتها بواسطة ستّاريتك. وحقيقة، لو أنّ أمير المؤمنين لم تكن له أيّة معجزة سوى هذه الكلمات، لَكَفته! فهو عليه السلام يُبيّن أوّلاً مكانة الإنسان بالنسبة إلى الله تعالى؛ وثانيًا، يُوضّح للإنسان مقام عظمة الباري عزّ وجلّ وجوده المطلق، لكيلا يُقصّر في الطلب عندما يقف أمامه، ويطلب منه كلّ ما يحلو له؛ أ فهل نعلم ممّن نطلب؟ فلماذا نبخل في الطلب؟ فهل إذا طلبنا منه تعالى، سيعجز عن الاستجابة؟! كلاّ! ولهذا، علينا أن نطلب أعلى شيء. فتجدهم يقولون عن الإنسان: «لم يأت أيّ عارف مثله!»؛ لكن، تعال وأخبرني: على من يُطلق اسم العارف؟ فيُجيب: «على العارف يا سيّدي»؛ لكن، ما هو معنى العارف؟ فهو لا يملك أيّ اطّلاع؛ وحينئذ، لو أتى، وأطلق علينا اسم العارف ووليّ الله، لكان شأنه في ذلك شأن الجدار؛ وفي هذه الحالة، هل علينا أن ننخدع بهذه الكلمات؟ ونُسرّ بها؟ السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا ... فهو لا يعلم من هو الوليّ، ولا يفهم معنى الولاية، فإذا جاء في هذه الحالة، ونادى الإنسان بها ألف مرّة، بل ومليون مرّة بدل الألف، فماذا سيحصل؟ لا شيء! فهو لا يعدو كونه مجرّد صوت قرع سمع الإنسان؛ وحينئذ، هل يجوز للإنسان الكيّس أن يبيع نفسه في مقابل صوت؟ وهل يحقّ له أن [يبيع نفسه] في مقابل صوت لا يعلم بمضمونه إلاّ الخواصّ فقط، وليس الجميع؟ إنّ هذه بأجمعها أضرار تلحق بالنفس، وتصدّ الإنسان عن الحركة والمسير، وتُغلق الطريق أمامه، وتسلب منه الأرضيّة المناسبة لتلقّي الجذبات والنفحات الإلهيّة القدسيّة، حيث يُراد من تلك الأرضيّة مقام التذلّل والعبوديّة. فالأرضيّة غير المناسبة المتمثّلة في مقام الأنانيّة ومعارضة الباري تعالى ومواجهته تُحدث تأثيرًا سلبيًّا في الإنسان، فينسب إلى نفسه ما يختصّ بالله من كبرياء وسلطان ورئاسة ومالكيّة ومُلكيّة؛ وحينئذ، يقول له تعالى: حسن جدًّا! إذا كنت بهذا النحو، فماذا ستتوقّع منّي؟ [فعلى حدّ زعمك] أنا سلطان، وأنت سلطان؛ حسنًا، اهتمّ بأمورك بنفسك، وأنا سأهتمّ بشؤوني بنفسي؛ بل سأمنحك حتّى سلطاني أنا، فكن أنت هو السلطان، ومالك الرقاب، وكذا وكذا، وكن صاحب الجلالة! فلن يكون لي بك أيّ شأن، وسأصبر عليك قليلاً، وأصبر، وأصبر، وأفسح لك المجال، وأمنحك الفرصة؛ لكن، فجأةً: آخ! ماذا حصل؟ إنّ بطني يُؤلمني! فتذهب عند هذا الطبيب، وعند ذاك، فيقول لك: «لقد أُصبت بمرض السرطان».. يا ويلتاه! ثمّ يُؤلمك رأسك، فتذهب إلى هنا وهناك؛ ماذا حصل؟ لقد أصيب بورم خبيث في الدماغ.. آخ هنا! وآخ هناك! آخ، لقد انتابه ألم في هذه الناحية، وأصابته نوبة قلبيّة! فهل بوسعك الاحتراز حتّى عن هذه الأمور؟ لقد قلت إنّك سلطان؛ حسن جدًّا! وقلت إنّك مالك الرقاب؛ حسن جدًّا! فلم نقل لك أيّ شيء، لكنّ هناك حدّ لهذه الأمور يا عزيزي! كما أنّها تخضع إلى حساب خاصّ؛ فما إن يُصاب بالسرطان، حتّى يضرب على رأسه، ويرفع صوته بالقول: {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}۱؛ وهذا هو ذكر الجهنّميين في يوم القيامة؛ لأنّ لكلّ واحد ذكر في ذلك اليوم، وذكر المؤمنين وأهل الجنّة هو: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}٢؛ وللجهنميّين أيضًا ذكر؛ وهو: ﴿عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾؛ أي: يا ويلنا! لقد قصّرنا في الدنيا، وتهاونّا فيها، و...؛ فيبدوؤون في قراءة ذكر: يا حسرتى! يا حسرتى! ولهذا، علينا أن نحذر من أن يكون ذكرنا يوم القيامة: «يا حسرتى»؛ بخلاف الذكر الأوّل، فإنّه جيّد، وينسجم أكثر مع مزاجنا؛ فنرجو من الله تعالى أن يكون ذكرنا جميعًا: {الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}؛ وذلك بتوفيقه تعالى، وبالاستمداد من الذوات المقدّسة للمعصومين، ولإمام الزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء؛ فلن يتخلّوا عنّا إن شاء الله تعالى، وسيأخذون بأيدينا جميعًا؛ وإلاّ، فَبِيَد مَن يا تُرى سيأخذون؟! فنحن الذين ندّعي أنّنا شيعتهم؛ ولو كذبًا، أو مجازًا، أو بأيّ نحو آخر؛ فمهارتهم عليهم السلام تكمن في أن يُعينونا، وإلاّ ...؛ والمراد من ذلك أنّه على الجميع الالتجاء إليهم، وإلى الإمام عليه السلام؛ وعلى أيّ تقدير، فبالنظر إلى ما سمعناه ورأيناه وجرّبناه من رحمتهم، من المستبعد أن يردّوا أيدينا خائبة وخالية.
الأضرار الاجتماعيّة للتلقّب بالألقاب وتضخيم الشخصيّة
فهذه هي المسائل والمصائب التي تلحق بالإنسان من هذه الناحية؛ وأمّا المصائب والمشاكل الاجتماعيّة التي تترّتب على هذه القضيّة، فينبغي بحثها بحدّ ذاتها في باب مستقلّ، وفصل خاصّ، حيث إنّ أوّل مسألة تترتّب عليها: أن يحظى الإنسان بمكانة مُضلِّلة في المجتمع؛ أي أن تُصبح الطريقة التي يتعامل بها مع الناس مغايرة للطريقة المناسبة التي يتعيّن عليه التعامل معهم بها؛ وهذا بحدّ ذاته يتعارض مع المباديء الفطريّة والعقليّة. فحتّى لو لم يترتّب على ذلك أيّ شيء آخر، فإنّه سيكون في حدّ نفسه أمرًا خاطئًا؛ وذلك كأن يكون للإنسان مستوى فكريّ وعلميّ محدود، لكنّه يجعل أسلوب تعامله في مختلف المسائل والعلاقات، بنحو يظهر لدى الناس مثلاً كمرجع واجد للشرائط، وأهل للإفتاء، وجدير بالتقليد؛ فهذا في حدّ نفسه أمر خاطيء، حيث سيبدو حينذاك في مستوى عالِم يفوق كلامُه كلام الناس العاديّين، وتعلو مبادئه على مبادئهم؛ فهذا بحدّ ذاته أمر مجانب للصواب؛ فلماذا ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو؟ فهذه الطريقة من التعامل، وتضخيم الشخصيّة، وصناعة الأصنام في حدّ نفسها خاطئة؛ لأنّها تتعارض بذاتها مع المعايير الفطريّة التي تقتضي أن يوضع كلّ شيء في مكانه المناسب، وتنسجم مع العدل، وتتعارض مع الظلم.
والمسألة الثانية أنّ لهذا الأمر تأثيرات خارجيّة سلبيّة؛ إذ من الممكن أن يوضع كلام هذا الشخص ـ بصفته كلامًا أعلى ـ، وأفعاله ـ باعتبارها أفعالاً عليا ـ في مقابل بقيّة الكلمات الحقّة والسنن الحقّة والحركات والسكنات الحقّة؛ في حين أنّ صاحبها هو مجرّد إنسان عاديّ؛ فتصير أفعاله واقعةً في مقابل أفعال الأئمّة المعصومين وعرضها، وكلماته في مقابل كلماتهم عليهم السلام؛ مع أنّ الأمر ليس بهذا النحو؛ أي أنّه مثلاً إنسان عاديّ، وعالم عاديّ، ولا يختلف عن الآخرين. فما هي علّة ذلك؟ علّته التأثير السلبيّ الذي يتركه في المجتمع، بحيث تُعظّم كلماته كما تُعظّم كلمات المعصومين، وتصير حركاته وسكناته أسوةً لسنوات متمادية، وللمئات من السنين؛ وهذا نظير ما كنّا نشاهده لدى تلك الطوائف التي جاءت، ورحلت، وكان لها رجال وعظماء؛ كالإسماعيليّة وأمثالها؛ فبعد مرور مئات السنين من وفاة رجالاتهم وعظمائهم، نجد أنّ هناك اهتمامًا بالغًا بحركاتهم وسكناتهم وأفعالهم لدى الطوائف المتتابعة التي تأتي بعدهم؛ فما هو السبب في ذلك؟ سببه هو طريقة تعامل أهل ذلك العصر، وتلك الطائفة والفرقة الخاصّة معهم، وإضفاء شخصيّة كاذبة عليهم؛ ممّا أفضى لإحداث مثل هذا التأثير السلبيّ في ضعاف النفوس الذين يفتقرون إلى القدرة على التحليل، والقدرة على إرجاع الجزئيّات للمباديء العامّة؛ إذ ليس جميع الناس علماء، وليسوا بأجمعهم يتوفّرون على قدرة فكريّة، وليسوا كلّهم يتمتّعون بفهم وإدراك يمنحهم القدرة على التمييز؛ ولهذا، أيّ شيء يحصل؟ يصيرون عُرضةً لهذه المشكلة؛ لكن، من المسؤول عن ذلك؟
فهذه مسألة؛ والمسألة الأخرى أنّه لن تعود لأيّ واحد الجرأةُ على طرح المباديء الصحيحة والمسائل الحقّة في مقابل المباديء التي يتبنّاها هذا النوع من الشخصيّات؛ فما إن يُقدم أحد على الكلام، حتّى يُقال له: «ما هذا أيّها السيّد؟! اصمت! هل تُريد أن تُثير هذا الكلام، في حين أنّ فلانًا يقول [شيئًا آخر]؟!»؛ ثمّ يأتي ثانٍ، ويُريد أن يتحدّث، ويقول: «هذا الكلام خاطيء»، فيُقال له: «ماذا تقول؟ كلام خاطيء! إنّ فلانًا يقول الكلام الكذائيّ، وتأتي أنت، وتقول إنّه خاطيء! لا ينبغي أن يخطر على بالك هذا الأمر بتاتًا! ولا يأتي على ذهنك من الأساس! فلا مجال أبدًا ...»؛ ما هذا التصرّف أيّها السيّد؟! يجوز لنا أن نتأمّل في كلام الله تعالى، وكلام الرسول، وكلام الإمام؛ لكن، حينما يصل الدور إلى أحد الناس العاديّين، تأمروننا ألاّ نتأمّل في كلامه! وتتذرّعون بأنّ ذلك يتعارض مع المصلحة، وكذا وكذا. ففي هذه الحالة، ستنتفي إمكانيّة طرح المباديء الحقّة وسط المجتمع؛ وهي آفة عظيمة تُصيب المجتمع الذي ابُتلي بالانبهار بالشخصيّات.
ذات يوم، في عهد المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، زاره في بيته بمشهد أحد أحبّائه؛ وهو حجّة الإسلام والمسلمين سماحة الحاجّ الشيخ حسن النوريّ رحمة الله تعالى عليه، والذي كان من أصدقائه القديمين، وكان رجلاً فاضلاً جدًّا، وخطيبًا، ويتمتّع بصفاء الباطن وصدق النيّة، حيث كنت حاضرًا بدوري في تلك الجلسة؛ فقال له المرحوم العلاّمة بلهجة شديدة جدًّا: «باعتبارك أيّها السيّد على ارتباط بالسيّد الكلبايكاني، لماذا لا تقول له أن ينشر إعلانًا بخصوص المسألة الفلانيّة والقضيّة الكذائيّة، ويطرح فتواه بكلّ صراحة؟ فلماذا لا تتحدثون معه بشأن هذه المسألة؟ فإن لم يُقدم على هذا العمل، سيأتي جيل جديد بعد مرور خمسين سنة، فيُقال حينئذ: لقد طُرحت هكذا مسألة في الفترة الزمانيّة الفلانيّة، وجرى إصدار هكذا حُكم، لكن لا أحد من العلماء تصدّى له، وهو أمر يتحمّلون مسؤوليّته»؛ حسنًا، قد يكون أحد العلماء له رأي فقهيّ خاصّ، بينما يكون لعالم آخر رأي مُخالف؛ وحينئذ، ما هو الضير [في الإعلان] عن الآراء الخاصّة التي لها طابع حكم فقهيّ، وليست التي لها طابع حكم سياسيّ، حيث تندرج هذه الأخيرة في ضمن اختصاصات الحاكم الشرعيّ؛ فإذا أصدر حاكم الشرع حُكمًا في قالب حكم سياسيّ، فلا يحقّ لبقيّة الناس معارضة هذا الحكم السياسيّ؛ وأمّا إذا قام بإصدار حكم فقهيّ، وقال مثلاً: «حكم السمك الكذائيّ بهذا النحو، حكم المأكولات الكذائيّة بهذا النحو، حكم الملبوسات الفلانيّة بهذا الشكل»، فإنّه على بقيّة العلماء التصريح علنًا بآرائهم في مقابل هذا الحكم الفقهيّ، حتّى يتبيّن أنّ الحديث هنا يدور حول مسألة فقهيّة، وأنّ ذلك الحكم يُمثّل رأيًا فقهيًّا خاصًّا، وأنّ هناك آراء أخرى تقع في مقابله. فقال [المرحوم العلاّمة]: على السيّد الكبايكانيّ أن يضع إعلانًا يُوضّح فيه رأيه الخاصّ بشأن هذه المسائل، ويُوزّعه في أرجاء البلاد، لكي يصير محطًّا للأنظار بصفته حكمًا فقهيًّا يقع في مقابل بقيّة الأحكام الفقهيّة، ولا يكتفي بمجرّد وضعه في كتاب رسالة توضيح المسائل؛ فهذه من الأمور التي ....
ومن المسائل الأخرى التي تترّتب على ذلك الأمر [أي تضخيم الشخصيّات] أنّ المجتمع سيُحرم من النموّ الفكريّ والرقيّ الثقافيّ؛ أي: لن يعود لأفراده القدرة على تطوير تلك الاستعدادات التي كان بوسعهم الحصول عليها في أرضيّة مناسبة تأخذ بعين الاعتبار مختلف الآراء والمباني؛ إذ لن يطرق أسماعهم أيّ رأي مخالف، أو فتوى معارضة، ولن يطّلعوا أبدًا على المباديء العلميّة والمنطقيّة والشرعيّة؛ ولهذا، سيظلّون قابعين في ذلك المستوى من التفكير البسيط، ولن تصل الاستعدادات التي يملكونها بالقوّة إلى مرحلة الفعليّة؛ في حين أنّه على المجتمع أن يكون في نموّ مستمرّ، وعلى الناس أن يتطوّروا بشكل دائم، وعلى كلّ واحد أن يتحرّك بحسب مستواه وفهمه وبمقتضى استعداده الخاصّ.
حقّ التفكير والاختيار مُتاح للجميع
في فترة من الزمان، كنت بمدينة مشهد أبحث في موضوع الخُمس؛ إذ لا ينبغي على الطالب والباحث أن يُقصّر أو يتهاون في أبحاثه الفقهيّة، بل عليه أن يطرح هذه المسائل على بساط البحث؛ وهذا نظير ما يحصل في الجامعة، فحينما يريد أستاذ الجامعة التفصيل في مسألة معيّنة، والخوض في المسائل الفرعيّة والمحيطة بمرض ما مثلاً، فلا معنى لأن يتحفّظ في الكلام خوفًا من أستاذ آخر؛ فأنت الآن [أيّها الأستاذ] تُفصّل في الكلام عن خصائص هذا المرض، وتتحدّث عن المميّزات الفيزيولوجيّة للعضو الكذائيّ، وعن الأمراض التي قد تُصيبه، والحوادث التي من شأنه التعرّض لها؛ فإذا امتنعت عن البوح برأيك للتلميذ بسبب بعض الأمور الأخرى؛ نظير معارضته لرأي الأستاذ الفلانيّ، فإنّ ذلك سيُعدّ خيانة للتلميذ؛ وإذا كان هذا الرأي حقًّا، يتعيّن عليك الكشف له عنه، وإلاّ ستكون خائنًا. ففي الأبحاث العلميّة، لا يجوز للإنسان أن يتقاعس؛ وأقول للأخوة الأعزّاء: أنا لم أكن أقايس أيّ أحد بالوالد؛ فلم أكن أسعى للمقايسة من الأساس، لا أنّني أقايس بينه وبين غيره، ثمّ أقول إنّه أعلى والأخر أدون؛ بمعنى أنّني لم أكن أراه في مرتبة تقبل المقايسة مع الآخرين؛ لكن، مع ذلك، كنت أناقشه في مبانيه الفكريّة والعرفانيّة والعقائديّة؛ كأيّ طالب مع أستاذه؛ فلم يكن الأمر، بحيث كلّ ما قاله ...؛ فوظيفة الطالب هي البحث، والتحقيق، والنقاش؛ ومن الخطأ تمامًا أن يسعى الإنسان للتعبّد المحض في دائرة المباني الفقهيّة والعرفانيّة والعقائديّة؛ فمن الذي قال [خلاف ذلك]؟ صحيح، قد لا يكون للبعض القدرة على هذا الأمر، فهؤلاء لا يُكلّفون أكثر من طاقتهم، ولا يوجد لنا أيّ كلام معهم؛ لكن، ماذا عن الأفراد الذين يتمتّعون بالاستعداد الكافي، ويكون طريق البحث مفتوحًا أمامهم، والأرضيّة ممهّدة بالنسبة إليهم؟ فأنا بنفسي لم أكن بهذا النحو في علاقتي بوالدي؛ أي أنّني كنت أحاوره، وأتعبه في النقاش، بل وكان أحيانًا يصرخ في وجهي؛ والأحبّة يعلمون أنّني لم أكن أتسامح أبدًا في علاقتي الثقافيّة والعلميّة بوالدي؛ فمع أنّني كنت أعتبره رجل حقّ وصدق، وطريقَه عين الحقّ، وأراه من دون أدنى شكّ مصداقًا تامًّا للوليّ، وواصلاً إلى مقام الفناء، والبقاء بعد الفناء؛ ولا زالت أراه كذلك؛ لكنّ إدراك المباني ...؛ وحتّى هو كان يُريد منّا ذلك، ولم يكن يُبد أيّ اعتراض؛ وكان يقول لي أساسًا: «أريدك أن تكون بهذا النحو»؛ فإذا لم أكن على هذه الشاكلة، فمن يا تُرى سيكون كذلك؟ أ فلست ملزمًا بالدفاع عن المباديء؟ أ ولا ينبغي عليّ إيصال هذه الرسالة إلى الآخرين؟ فباعتباري طالبًا، وليس ابنًا له، بل بصفتي ـ أنا النوعيّ وأمثالي ـ تلميذًا لمدرسة أهل البيت، ألا يتعيّن عليّ بيان هذه المباديء الحقّة والمتقنة الصادرة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام؟ وحينئذ، ألا يتوجّب عليّ أوّلاً أن أفهمها؟ ألا يتعيّن عليّ بدايةً التوصّل بنفسي إلى هذه المسائل؟ فهل يُمكن أن تكون هذه المسائل تعبّدية؟ فالأمور التعبّدية تتعلّق بالفرد المتعبّد، وتكون خارجة عن دائرة مسؤوليّته؛ فإذا قال الرسول [مثلاً]: «عدد ركعات صلاة المغرب ثلاثة، والعشاء أربعة»؛ فإنّني سأكون ملزمًا بإيصال ذلك إلى الناس؛ وإذا قالوا: «لماذا؟»، فإنّني سأقول لهم: «اذهبوا عند النبيّ، واسألوه، فلا شأن لي بذلك»؛ فحينما يصل التعبّد إلى ذلك الفرد الذي يتلقّى الوحي بنفسه، فإنّ المسؤوليّة تقع عليه هو؛ لكن، فيما يخصّ الأسس والمباديء، عليّ أن أكون صادقًا، وأمينًا، وقادرًا على إيصال هذه المسائل إلى الناس، ومتمكّنًا من تحمّل مسؤوليّتها والدفاع عنها. ففي كلّ فرع من الفروع العلميّة، ينبغي على الذين طووا مراحل متقدّمة تقديم أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة مثلاً؛ فيُقال لهم: لا فائدة من هذه الأطروحة من دون أن تأتي، وتُدافع عنها، وتُبيّن المصادر والمراجع التي استندت إليها في كلامك، والأدلّة التي أقمتها عليه؛ حتّى نرى هل يُمكن الاعتماد عليها، أم لا، وهل تحترم المعايير الدوليّة، أم لا. فإذا اكتشفوا مثلاً أنّه قرأ تقريرًا في مجلّة ما، ووضعه في أطروحته كمستند، فإنّهم لن يقبلونه منه، ويقولون له: عليك أن تتوفّر على مستند [معتبر]، وهكذا مستند يحتاج إلى المطالعة، والتفحّص، والتأمّل، وبذل الجهد؛ هل التفتّم؟ فالمسألة بهذا النحو! ولهذا، فإنّ المجتمع الذي يتكّيء على التعبّد لا يترقّى ثقافيًّا؛ وأمّا إذا استعان المجتمع بالتعقّل والتفكير في بحثه للمسائل، فلن يُسمح فيه لأيّ واحد كيفما كان أن يُبرز نفسه، ويتعدّى حدوده؛ هل التفتّم؟ لماذا؟ لأنّ أفراده سيسعون إلى الفهم، والتفكير، ويقولون: إنّنا نملك نفس الحقّ الذي تملكونه أنتم من الحياة والفكر والاختيار؛ وإنّ التفكير واختيار الطريق هو حقّ ممنوح، فلماذا تسلبونه؟ ولماذا يكون متاحًا لكم، وممنوعًا علينا؟
لا أعلم، لعليّ حدّثت الرفقاء بالمسألة التالية بصفتها من المسائل التي يذكرها البعض عنّي، ويجعلونها من نقاط الضعف، لكن ...؛ فقد دار بيني وبين المرحوم العلاّمة بحثٌ بشأن مسألة توحيديّة قرابة ثلاث أو أربع سنوات، حيث تحاورنا حولها سبع أو ثمان مرّات في جلسات كانت تمتدّ لثلاث ساعات؛ ففي كلّ مرّة كنت أذهب إلى مشهد، أو في كلّ مرّتين أو ثلاث مرّات، كانت تُثار هذه المسألة؛ فأحيانًا، كان يطرحها هو بنفسه، وأحيانًا أخرى، كنت أطرحها أنا؛ واستمرّ الحال بهذا النحو، من دون أن نصل إلى نتيجة، أو ...؛ وخلاصة القول، إنّ المسألة كانت واضحة بالنسبة إليه، وغير مفهومة بالنسبة إليّ؛ فقلت: عليّ أن أفهمها. وحينما رأيت أنّ المسألة بهذا النحو، قرّرت التوقّف، وعدم الاستمرار [في مناقشته]، وقلت: عليّ أن أفهم؛ فهذا لا يجوز! لكن، في الوقت ذاته، كنت أعلم أنّ المسألة واضحة لديه كوضوح الشمس في رائعة النهار؛ فاستمرّ الأمر بهذا النحو، إلى أن سافرت آخر مرّة إلى مشهد، وتوفّقت لرؤيته، حيث ارتحل إلى جوار ربّه بعد هذا السفر؛ ومرادي منه ذلك السفر قبل سفري الأخير حينما تعرّض لنوبة قلبيّة عصر الجمعة على ما يبدو، وأخذوه إلى المستشفى، وكنّا في طهران، فاتّصلوا بنا من مشهد، فذهبت في تلك اللحظة برفقة أخي الأكبر، وتمكّنت من رؤيته في المستشفى؛ فقبل هذا السفر الأخير، تشرّفت بالذهاب إلى مشهد في أواخر فصل الشتاء؛ فكان [المرحوم الوالد] جالسًا تحت الكُرسيّ۱، حيث كان يستعمله دائمًا؛ فقد كانت غرفته باردة، ولم يكن يُشعل المدفئة إلاّ نادرًا، وذلك لكي يُخفّف قليلاً من شدّة البرودة. فكنّا جالسين تحت الكرسيّ، ونمزح مع بعض بشأن مسألة لا أتذكّرها؛ فقال لي فجأة: «يا فلان! إنّ الحقّ معك في تلك المسألة التي كنّا نتباحث بشأنها طيلة هذه المدّة المديدة»؛ أي أنّه كان يعلم بحقيقة الأمر، لكنّ المسألة هي بهذا النحو، ثمّ ذكر مسألة معيّنة، وقال: «حتّى أنا أذهب إلى هذا الرأي، وأعلم أنّ المسألة يجب أن تكون بذلك الشكل، لكنّنا كنّا نباحثها نظريًّا»؛ والحاصل أنّه كان يُريد القول: «حلواى تنتنانى تا نخورى ندانى!» ٢؛ فيتوجّب على الإنسان الوصول، وإدراك هذه المسألة بالشهود؛ وأمّا من ناحية عقليّة وفلسفيّة، فإنّ المسألة كما جرى طرحها.
الفارق بين مدرسة العرفان وبقيّة المدارس
فهذا هو منهج الأولياء؛ إذ لا يوجد في منهجهم: «اصمت، لا تنبس ببنت شفة، لا تتكلّم!»؛ اذهبوا، وطالعوا كتاب الروح المجرّد، وسترون ماذا كان المرحوم العلاّمة يقوله لأحبّائه وتلامذته بشأن السيّد الحدّاد: اذهب أيّها السيّد وتحدّث مع السيّد الحدّاد، وناقشه! أ لم يقل ذلك لأحدّ أحبّته في طهران؛ أي حضرة آية الله السيّد إبراهيم الكرمانشاهيّ حفظه الله تعالى؛ وهو رجل فاضل وعظيم جدًّا، ومن الناس الطيّبين حقًّا، وذوي النيّات الصافية والسجّية الطاهرة، ومن أهل الله تعالى.. ندعو الله تعالى أن يُكثّر من أمثاله بين المسلمين؛ فحينما سأل المرحوم العلاّمة عن السيّد الحدّاد، لم يقل له: «هذا هو رأيي عنه، وعليك ...»؛ حسنًا، هذا الرأي يخصّك أنت، فما شأني بذلك؟ لكن، ما هو الواجب عليّ أنا فعله؟
فلم يقل له: «لقد أوحي إليّ أنّ السيّد الحدّاد كذا». حسنًا، لقد أوحي إليك أنت، وليس إليّ أنا؛ ولم يقل له: «لقد رأيت في المنام أنّ السيّد الحدّاد مثلاً كذا وكذا»؛ لأنّه سيقول له: «حسنًا، أنت رأيت ذلك في المنام، وأمّا أنا، فلم أره»؛ وانتهى الأمر، أي أنّ الطريق حينئذ سيكون مسدودًا؛ ولم يقل له: «أنا الآن أشعر بذلك»؛ لأنّه سيقول له: «أنا لا أشعر به؛ وعليّ أن أشعر به بنفسي؛ فإذا كنت تشعر أنت بذلك، فاذهب عند السيّد الحدّاد، فأنت أعلم بحالك، والله أعلم بك».
لقد نطق بكلام يتطابق مع كلام الأنبياء، حينما يقولون: «تعالوا، تعالوا وانظروا، تعالوا واسألوا، فإذا ارتضيتم هذا الكلام، فآمنوا، وإذا لم ترتضوه، فلديكم حجّة عند الله تعالى»؛ فقام، وذهب عند السيّد الحدّاد، وتحاور معه، وصار مقتنعًا حينما رأى بأنّه يُخبر عن الباطن والظاهر، ويتحدّث عن المسائل العلميّة المبثوثة في كتابي الفتوحات والفصوص لمحيي الدين، وكتاب الأسفار لصدر المتألّهين؛ وهي مسألة غير هيّنة يا عزيزي! حيث يأتي رجل درس كتاب جامع المقدّمات فقط، ولم يصل حتّى إلى كتاب السيّوطي، ويُثير أعوص المسائل العرفانيّة المطروحة في كتاب الفتوحات وكتب الملاّ صدرا، ويُشكل عليها؛ فهذا ليس أمرًا هيّنًا. لقد كانوا يأتون عنده، ويتحدّثون معه، فينتهي الأمر؛ وهذا هو منهج العرفان؛ وفي هذه الحالة، تعالوا، وانظروا الفارق بين مدرسة العرفان، وبين بقيّة المدارس والتيّارات؛ فطريق العرفان مفتوح، ويحتضن الجميع؛ فهو يُرحّب بالشيعيّ، والسنّي، واليهوديّ، و...، ويقول: تعالوا بأجمعكم، واسمعوا كلّكم، وافهموا جميعًا، وفكّروا بأسركم، ثمّ اتّخذوا قراركم بعد ذلك. فحينما يلتقي باليهوديّ، لا يعبس، ولا يُقطّب في وجهه؛ لأنّه عبد من عبيد الله تعالى أيضًا؛ وحينما يصل إلى المسيحيّ، لا يستقبله بوجه متجهّم، ولا يقول: «ما هذا؟ إنّه مسيحيّ! اذهب من هنا، ارحل من هنا، لا تلمس أيّ شيء، فأنت نجس!»؛ لا يا عزيزي، فأوّلاً، المسيحيّ واليهوديّ غير نجسين؛ وثانيًا، إنّهما من البشر؛ وكما جاء الدين لأجلنا نحن، فقد جاء لأجلهما أيضًا؛ وإلاّ، فلمن أتى الرسول بهذا الدين؟ فنحن لم نكن متواجدين في تلك الفترة، حتّى ندّعي بأنّنا وُلدنا من أبوين مسلمين؛ بل إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى بهذا الدين لأولئك اليهود والنصارى الذين جعلونا مسلمين إلى هذا العصر؛ أي أنّهم أسلموا، وصارت الأجيال من بعدهم مسلمة، إلى أن وصل الدور إلينا؛ ثمّ نأتي نحن، ونفتخر مجّانًا بكوننا مسلمين؛ أي أنّنا وُلدنا مسلمين من تلقاء أنفسنا، وبشكل فطريّ؛ ومن هنا، فإنّ هذا الدين حيّ الآن، وهذا الطريق مفتوحٌ الآن للجميع: للمُلحِد، واليهوديّ، والبوديّ، والشيوعيّ، وأبوابُه مشرعةً أمام كلّ الجنسيّات: أمام الفرنسيّ، والأمريكيّ، والصينيّ، واليابانيّ؛ فكلّ من أتى، فهو مُرحّب به، وأيّ واحد اعتقد بهذه المباديء، وقَبِل بهذه المسائل، فهو في كنف الإسلام؛ وكلّ من لم يأت، فقد أغلق على نفسه طريق الحقّ والحقيقة، وحرمها من هذه النعمة؛ فهذا هو دين الرسول، ودين الأئمّة. فحينما كان يأتي ذلك الشابّ النصرانيّ عند النبيّ، ويُسلم، ويقول: «أبواي نصرانيّان»، ويُريد الرجوع، هل كان الرسول يقول له: «لا تنظر إليهما من الآن فصاعدًا! ولا تمدّ يديك إلى طعامهما! ولا تعتن بهما بتاتًا! والجأ إلى سبّهما، وشتمهما، ومواجهتهما بكلام بذيء!»؟ لا، بل كان يقول: «زد من محبّتك لهما، وابتسم في وجهيهما أكثر»؛ فهذه هي أوامر النبيّ، وليست أوامري أنا.
جاء أحد الرفقاء عند المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، وقال له: «والدي شيوعيّ، فكيف أتعامل معه؟»؛ فقال له: «كما كنت ستتعامل معه لو أنّه كان مسلمًا»؛ فتراجع أبوه! فهل هذه هي تعاليم النبيّ، أم أن يأتي، ويقول: «اضربوه، أخرجوه، افعلوا له كذا وكذا، ولا تفسحوا له المجال أبدًا!»؟ فلو كان الأمر بهذا النحو، لما بقي لهذا الدين أيّ أحد، ولما ظلّ أحدٌ هنا، ولانسدّ الطريق، وحُرم المجتمع من الوصول إلى المراتب العالية. مرّةً أخرى لم نُكمل حديثنا عن هذا الموضوع، وسنكله إلى فرصة قادمة إن شاء الله تعالى.
نرجو من العليّ القدير أن يُنير قلوبنا على الدوام بأنوار هداية أوليائه، والأئمّة المعصومين عليهم السلام، ويُعجّل في فرج إمام الزمان عليه السلام، ويجعلنا من منتظريه وأنصاره وشيعته الحقيقيّين، ومن الذابّين عن حريم قُدسه وطهارته.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد