المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحقيقة العبودية
التوضيح
في هذه المحاضرة التي عقدها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمد محسن الحسينيّ الطهرانيّ لإكمال البحث عن مسألة استعمال العلم، سعى رضوان الله تعالى بدايةً للتفريق بين حقيقة العلم وكيفيّة التعاطي معه، ليلج بعد ذلك في البحث عن مسألة استعمال العلم في غير محلّه، وأسباب السقوط فيها، والنتائج الخطيرة المترتّبة عليها؛ مستعرضًا في ضمن ذلك بعض الأبحاث المتفرّعة عن هذه المسألة؛ نظير سبب عدم تعليم الأئمّة عليهم السلام خفايا العلوم لعامّة الناس، وعلّة عدم إرجاع الله تعالى للكفّار والمنافقين إلى الحياة الدنيا.
هو العليم
استعمال العلم في غير محلّه: معناه، أسبابه ونتائجه
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣٣
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث عنوان الشريف؛ مخاطبًا عنوانًا:
«واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه واستَفْهِمِ اللهَ يفْهِمْكَ».
للعلم واقعيّة قد تختلف عن كيفيّة تعاطي الإنسان مع نفس العلم
ففي العبارة الأولى التي يقول فيها: «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه»، تساءلنا عن أنّه: هل يُمكن للإنسان طلب العلم لأمر آخر غير استعماله؟ أ فهل يُمكن للمعلومات أن تكون مفيدة للإنسان في شيء آخر غير استعمالها؟! وقلنا هناك إنّه قد يُستفاد في بعض الأحيان ـ وبعبارة أحسن: في أغلب الأحيان ـ من العلم في غير محلّه المناسب؛ مثلما عليه الحال الآن، بل وحتّى في الماضي؛ لأنّ هذه المسألة لا تختصّ بزمان دون زمان، بل دائمًا ما كانت الاستعمالات السيّئة للعلم هي المقصودة لطالبه؛ مهما كان هذا العلم، وفي أيّ تخصّص كان، أو حرفة؛ إذ كما بيّنا، فإنّ العلم واستعماله هما أمران منفصلان؛ فالعلم يحتلّ مكانته الخاصّة في الواقع ونفس الأمر، بحيث تكون هذه المكانة وهذه الحقيقة أمرًا ثابتًا.
فالميكروب مثلاً عبارة عن واقعيّة خلقها الله تعالى، وأخضعها لمجموعة من القواعد الخاصّة، وجعل لها مكانة محدّدة في عالم الخلق؛ فهذه مسألة؛ لكن، حينما ننظر إلى التأثيرات التي يُحدثها هذا الميكروب في جسم الإنسان، والأفعال والانفعالات التي يوجدها، فإنّ هذه تكون مسألة أخرى. فكيفيّة تعاطي الإنسان مع هذه الظاهرة هي مسألة، وكون نفس هذه الظاهرة لها واقعيّة في الخارج أم لا هي مسألة أخرى. وهذا بالضبط نظير السكّين الذي تترتّب عليه في الخارج مجموعة من الفوائد، حيث يُستعمل في القطع والقصّ؛ ففي هذه الحالة، قد يُستخدم هذا السكّين في المطبخ من قبل ربّة البيت أو الطبّاخ، فيطهوان به الطعام؛ وقد يُستخدم بعينه لقتل إنسان آخر؛ فالكلام هنا عن المستعمِل، لا عن نفس هذه الحادثة الخارجيّة.
فكافّة المعلومات عبارة في الخارح عن واقعيّات؛ فكلّ ما تتصوّرونه من المعلومات والحقائق التي لها ما بإزاء في الخارج (وليس تلك الأمور التي تكون مجرّد خيالات ذهنيّة) له واقعيّة في الخارج؛ وأمّا أنّه كيف نتعامل مع هذه الواقعيّة، فهي مسألة أخرى؛ وعلى سبيل المثال، فإنّ معادلة الانشطار الذرّي عبارة عن واقعيّة خارجيّة، وكذلك الشأن بالنسبة لنفس الذرّة؛ وفي هذه الحالة، قد يأتي الإنسان، ويستخدم هذه المعادلة في إنتاج الطاقة، فتكون هذه الواقعيّة صحيحة؛ وقد يستخدمها في سفك الدماء؛ فالمهمّ هنا هو المستخدِم؛ بينما تكون هذه الحادثة أمرًا خارجيًّا، وواقعيًّا، وصحيحًا؛ وينبغي عليها أن تكون كذلك، وهل يوجد سبب لكيلا تكون بهذا النحو؟
سبب عدم تعليم الأئمّة عليهم السلام خفايا العلوم للناس
في أحد الأيّام، دار الحديث في مكان ما عن أنّه: إذا كان الأئمّة عليهم السلام مطّلعون على هذه المسائل، وعلى خفايا العلوم، وعلى هذه الدقائق والظرائف، لماذا لم يُعلّموها للناس؟ فلماذا لم يكشف الإمام الصادق عليه السلام مثلاً هذه المسائل للناس؟ أجل، كشف عن مقدار قليل منها وحسب؛ فلم نستطع أن نعثر من بين كلّ تلك الشخصيّات، إلاّ على جابر بن حيّان الذي تعلّم من الإمام عليه السلام نزرًا يسيرًا من مسائل علم الكيمياء وأمثال ذلك؛ لكن، لماذا لم يُعلّموا الناس أبدًا هذه المسائل؟ لماذا لم يُوفّروا في ذلك العصر الوقت على الناس؟ لماذا لم يضعوا المسائل بين أيدي الناس حتّى تستفيد منها الإنسانيّة في هذا العصر؟ فهل يُمكننا أن نعثر على من هو أعلم من الإمام؟ فهو عالم بما كان وما يكون؛ وبعبارة أحسن إذا أردنا أن نفسّر هذا الكلام: إنّ وجود تلك الحادثة الخارجيّة بعينها يكون متوقّفًا على وجود الإمام؛ فهو عليه السلام عالم بها، غير أنّ هذا ليس بالشيء المهمّ؛ إذ من الممكن وجود الكثيرين ممّن يعلمون بها؛ غاية الأمر أنّهم في مرتبة أدنى؛ لكن، فضلاً عن ذلك، فإنّ وجود تلك الحقيقة الخارجيّة يكون متوقّفًا على وجوده عليه السلام؛ بمعنى أنّه: كما أنّ حضرة بقيّة الله يُفيض الرزق على الخلايا السليمة، فإنّه يُنميّ أيضًا الخلايا الخبيثة، ويُقوّي تلك الأورام؛ فهو يُفيض عليهما الرزق معًا، ولا يُفرّق بينهما في ذلك. فعالم الوجود متوقّف في تحقّقه على نفس حضرة بقيّة الله أرواحنا له الفداء؛ وحينئذ، هل يُمكن للكافر أن يعيش من دون رعاية إمام الزمان؟! أ فهل يحيى الكافر بواسطة وجوده الشخصيّ، بينما يحيى المؤمن بواسطة وجود إمام الزمان؟! لا، لا يوجد بينهما أيّ فارق؛ فكلاهما على حدّ سواء: {كُلاً نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ}۱؛ أي أنّنا نُفيض الرزق على الجميع، ونعمل على تنمية الكلّ. وأنا لا أريد هنا أن أنحرف بالبحث عن المسار الذي رسمته له، لكن، دعوني أقول لكم: «لو أنّ رعاية الإمام عليه السلام وإحاطته غابت بمقدار ذرّة عن خليّة من خلايا عالم الوجود (وليس عن أفراده)، لاختفى، وليس فقط أنّه سيفقد الحياة»؛ وذلك كمثال شخص يكون جالسًا هنا، فإذا بكم ترونه قد اختفى فجأة؛ فالمسألة هي بهذا النحو.
ففي هذه الحالة، لماذا لم يسعَ الأئمّة لبيان هذه العلوم للناس؟ ولا يخفى أنّ المسائل المطروحة في هذا الباب كثيرة، ومن بينها أنّ الذي دعا الأئمّة عليهم السلام إلى ذلك ليس هو تعزيز الجانب المعنويّ، وعدم تقوية الجانب الماديّ، ومنع الأذهان عن النزوع نحو المادّة، حيث ينبغي دراسة هذه المسائل في موضعها المناسب؛ لكنّ المسألة المهمّة هنا هي أنّ هذه العلوم ستكون في متناول الجميع؛ فإذا فرضا مثلاً أنّ الإمام الصادق كشف للناس في ذلك العصر عن علم الانشطار الذرّي، فمن هم الأفراد الذين كان سيُلقي عليهم هارون الرشيد القنبلة [الذريّة] أوّلاً؟ كان سيُلقيها على معارضيه؛ أو أنّ هذه العلوم كانت ستبقى مخزونة في المكتبات؛ وحينئذ، ما هي فائدة ذكر الإمام لها؟ وما هو السبب الذي سيدفعه لذكر كلام لَغويّ سيبقى مكنونًا في المكتبات؟ اللهمّ إلاّ أن نقول بأنّه سيُستفاد من هذا العلم؛ لكن، من الذي سيستفيد منه في هذه الحالة؟ هل سيستفيد منه موسى بن جعفر؟ أَ وَهل يُمكن لموسى بن جعفر أن يصنع قنبلة هيدروجينيّة؟ أو قنبلة ذريّة؟ وهل من شأنه مثلاً أن يعمل على نشر الميكروبات والفيروسات؟ وأن يُشيع الوباء بين الناس، ويُمرضهم؟ إذن، من الذي يقوم بذلك؟ واحدٌ نظير صدّام، أو أشباهه هم الذين يقومون بهكذا أفعال؛ ففي نهاية المطاف، لا يُمكن صناعة القنابل الكيميائيّة والذريّة على يد الإمام الصادق، أو سلمان، أو أبي ذرّ؛ فمن الذي يصنعها؟ ومن هذا الذي يأتي ويُسيء استخدام هذه المسألة؟ وحينئذ، إلى ماذا سيؤول الأمر؟ أ لم يعترف بذلك إينشتاين؛ ففي عيد ميلاده، حينما عقدوا مؤتمرًا لتكريمه في أمريكا، كانت أوّل كلمة قالها: «عليّ الاعتراف بكلّ أسف بأنّه آل بي الأمر الآن إلى أن أجد نفسي مجبرًا على القول بأنّني صرت نادمًا على الاكتشاف الذي توصّلت إليه»، حيث إنّ أقصى ما وصل إليه علمه أنّه صار سببًا لتحويل ثلاثمة وستّين ألف إنسان إلى فحم في هيروشيما وناكازاكي! فهذا علم، لكن، يا سيّد إنشتاين، هل كان من المفيد أن تقوم بهذا العمل؟ فمن هم الذي يستفيدون حاليًّا منه في العالم؟ ومن هم الذي يستخدمون هذه القنابل؟ فنرى بأنّ كلّ بلد يسعى لامتلاك هذه التقنية من أجل التغلّب على البلدان الأخرى، حيث نجد بأنّ إسرائيل تُهدّد الدول العربيّة بما يُناهز ثلاثمائة قنبلة ذريّة؛ وفي هذه الحالة، هل يُمكن لأمريكا أن تجعل هذه القنبلة في متناول البلدان العربيّة؟ لا يُمكن؛ هذا، مع أنّها تمتلك بنفسها العديد من الصواريخ ذات الرؤوس المتعدّدة، والتي بلغت وفرتها درجة لم تعُد تعلم أين تُخزّنها؛ وفي هذه الحالة، حينما تُريد دولة في الطرف المقابل من العالم أن تصنعها، تقوم الدنيا ولا تقعد، ويرتفع الصراخ، والتهديد، والاتّهام بنشر [الأسلحة النوويّة]، وأمثال ذلك؛ وهذه هي نتيجة وضع العلم في متناول النفس والجهل؛ وهنا تكمن المشكلة! فالعلم أمر واقعيّ، وله حقيقة؛ والذرّة لها حقيقة وواقعيّة؛ كما أنّ للفيزياء واقعيّة، وللكيمياء واقعيّة؛ فجميع هذه العلوم لها واقعيّة، وليست أمورًا كاذبة، بل هي أمور حقيقيّة، وذات حقيقة خارجيّة؛ لكنّ الكلام هو في كيفيّة الاستفادة من هذه الأمور.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إنَّ هَاهُنا لَعِلمًا جَمًّا».۱
فهو عليه السلام يقول: إنّ صدري يُكنّ العديد من العلوم، لكن، لمن أُفصح عنها؟ ومن هو هذا الذي يستطيع تحمّلها، فأذكرها له؟
تذكّرت حكاية؛ ولو أنّ فيها نوع من التفنّن، إلاّ أنّها حقيقيّة.. يُقال إنّ أحدهم ذهب عند آخر له اطّلاع على الاسم الأعظم؛ فكان يُحيي به الموتى، وأمثال ذلك.
ذات يوم، ذهبت عند المرحوم العلاّمة، وكنت أبلغ السادسة أو السابعة عشرة من العمر، فقلت له: «يا سيّدي، ما هي حقيقة الاسم الأعظم التي تحدّث عنه الشيخ البهائيّ رحمة الله تعالى عليه؟»؛ ولا يخفى أنّه بيّنه بواسطة بعض الرموز وأمثال ذلك؛ وقد كان المرحوم العلاّمة جالسًا في مكتبته بطهران، منهمكًا على ما يبدو في تأليف كتاب معرفة الإمام، فقال لي: «اذهب لحال سبيلك أيّها السيّد؛ فأنا لا أملك شيئًا، وتأتي أنت أيّها السيّد، وتسألني عن الاسم الأعظم؛ وما أدراني أنا به؟!». لقد كنت أريد تعلّم الاسم الأعظم، وأنا أبلغ السادسة عشرة من العمر!! وعلى أيّ حال، فقد أوصلنا منهج ذلك المرحوم رضوان الله تعالى عليه، وأسلوب تربيته إلى مستوى أنّنا صرنا نضحك فعلاً من هذا الكلام!
المهمّ، كان هناك شخص عالم بالاسم الأعظم؛ فجاءه أحدهم يطلبه منه، فبدأ يتهرّب منه؛ فقال له: «أنا أعلم بأنّك مطّلع عليه»؛ فأجابه قائلاً: «لا تستطيع تحمّله، ولا طاقة لك على ذلك»؛ فقال له: «لا، أنا أعدك أن أفعل كذا وكذا...»؛ فقال له: «حسن جدًّا»، وأعطاه علبةً، وقال له: «اذهب إلى المكان الفلانيّ ـ وكانت مسافته بعيدة ـ ، وأوصلها إلى فلان»؛ وقد كانت تلك العلبة مغلقة بإحكام. بعد أن مشى لفترة من الزمان، وابتعد عن المدينة، بدأت تُساوره الوساوس للاطّلاع على ما يوجد في العلبة؛ مع أنّها كانت أمانة لا ينبغي عليه أن يخونها، بل يجب عليه إيصالها إلى ذلك الشخص؛ لكن، مع ذلك، بدأت تُخالجه الوساوس مرّةً بعد أخرى؛ وهو يقول مع نفسه: «لا، فهذا أمر قبيح من هذه الناحية، لكنّه من الناحية الأخرى كذا...»؛ وفي نهاية المطاف، قال: «سأفتحها بدقّة، ثمّ أُغلقها بعد ذلك، من دون أن يشعر ذلك الشخص»؛ ففتح الغلاف الأوّل، والغلاف الثاني؛ وحينما فتح العلبة، قفز فأر إلى الخارج! حيث كان ذلك الشخص قد وضع فيها فأرًا؛ وعندما عاد إليه، قال له: «لم تستطع أن تصمد؟ فإذا لم تكن قادرًا على كفّ نفسك عن خيانة أمانة موضوعة في علبة، كيف يُمكنك أن تتعلّم الاسم الأعظم، من دون أن تستخدمه في موارد سيّئة؟!».
فهذا هو حال النفوس!
«إنّ هَاهُنا لَعِلْمًا جَمًّا لَو أصبْتُ لَهُ حَمْلاً».۱
من هم حملة علوم الأئمّة عليهم السلام؟
أي: يا ليتني وجدت من يتحمّل هذا العلم لكي أتمّكن من تعليمه إيّاه، والإفصاح له عنه؛ فيكون بمقدوره الاحتفاظ به، والمحافظة عليه. أنا لا أتذكّر بأنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه قد استفاد طيلة عمره من هذه المسائل؛ اللهمّ إلاّ في مورد واحد بحسب ما يبدو لي، حيث كنّا في مشهد، وكنت أبلغ حينئذ الخامسة عشرة من العمر تقريبًا، وكان أخي الصغير السيّد علي حفظه الله تعالى طفلاً في ذلك الوقت، ولعلّ عمره حينئذ كان خمسة سنوات؛ فكان صغيرًا جدًّا، واعتراه ألم شديد في أسنانه؛ فأردنا أن نشتري له دواء مُسكّنًا، إلاّ أنّ الصيدليّات كانت مغلقة، والأطبّاء لم يكونوا موجودين؛ فانتابه ألم شديد لمدّة يوم كامل، وقد بلغ به الأذى إلى درجة أنّ الجميع تقريبًا احتار؛ ففي هذا المورد فقط رأيت العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يقول: «يوجد دعاء أعطاني إيّاه السيّد الحدّاد لكي أقرأه في بعض الحالات؛ فلنقرأه الآن، ولنر...»؛ فلمّا انتهى من قراءة الدعاء، سكن ألم أخي نهائيًّا؛ وكأنّه لم يكن؛ فهذا هو كلّ ما رأيته منه؛ هذا، مع أنّه قال بأنّ السيّد الحدّاد أذن له [بالاستفادة من ذلك الدعاء]؛ وقد قام بذلك لأجلنا نحن؛ وأمّا بالنسبة إليه، فدعوني أقول لكم: لقد سبق وأن حصل أمامه مرض أو موت، لكنّه لم يقم بأيّ شيء، وأصيب بعض الناس بأمراض أو ضيق أو شدّة، لكنّه لم يُبد أيّ تصرّف؛ فكلّ ما يأتي على بالكم من المسائل أنا مطّلع بأنّها وقعت له في حياته، لكنّه لم يلجأ للاستفادة من تلك الأمور؛ فهذا هو الذي يُقال له «حَمَلة»٢؛ وهذا هو الذي يُمكننا أن نقول عنه بأنّه محلّ ثقة بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام، بحيث إذا علّمه مسألة، فإنّه يستطيع الاحتفاظ بها والمحافظة عليها؛ وهذا هو واقع الأمر، ومقتضى العدل! أي: ما هو الفارق بين هذا الإنسان [الذي يعلم بهذه المسألة]، بين بقيّة الناس الذين لا يعلمون بها، من حيث نسبة ذلك إلى الله تعالى؟ فالفارق الوحيد بينهما أنّ هذا يعلم، والآخر لا يعلم؛ وحينئذ، هل يقتضي العدل الإلهيّ أن يتسنّى للعالم أن يعمل، بينما يبقى الجاهل في الشقاء؟ فأين هو العدل هنا؟ بمعنى أنّ هذه المسألة غير صحيحة حتّى من الناحية المنطقيّة؛ فلا يصحّ منطقيًّا أن يكون بوسع العالم [بتلك الأمور الخارقة] أن يعمل [بها]، فيستفيد من ذلك ويستمتع به؛ بينما لا يكون بمقدور الجاهل [بها] أن يعمل [بها]؛ فيُبتلى بالآلاف من المصائب والمصاعب؛ فهذا لا يجوز؛ ومن هنا، كان نهج هؤلاء العظماء مطابقًا لنهج الأئمّة عليهم السلام في المحافظة على الشؤون الظاهريّة، وتفويض الأمور لله تعالى.
«لو أصبتَ له ... بلى».
يقول عليه السلام:
«أصيبُ لَقِنًا غَيرَ مَأمونٍ عَلَيه».
أجل، يُمكنني الظفر بشخص ذكيّ، وذي ذهن وقّاد، وله استعداد مناسب وفهم جيّد؛ لكنّه:
«غيرَ مَأمونٍ عَلَيه».
فلا يُمكن الثقة به أبدًا.
«مُستعملاً آلةَ الدّينِ لِلدّنيا»۱.
استعمال العلم لأجل الحظوظ الدنيويّة
فتجده يدعو الناس، لكن، لأيّ شيء؟ لكي يصل إلى مقام معيّن؛ فإذا تمكّن من الوصول إليه، لكن، لم يُعره أحد أيّة أهمّية، فإنّه يلجأ مرّة أخرى لإثارة نفس تلك الطائفة من الناس ضدّ طائفة أخرى منهم؛ وحينئذ، إلى ماذا سيؤول إليه الأمر؟
«مُستعملاً آلةَ الدّينِ لِلدّنيا».
لقد حدّثتكم في إحدى المرّات عن مسألة حدثت أثناء الحرب بين إيران والعراق، حيث كان وضع معيّن وسياسة خاصّة يقتضيان ألاّ يتقدّم الجيش الإيرانيّ إلى داخل التراب العراقيّ؛ وقد سمعت بنفسي ومن دون واسطة أحد الأشخاص يتحدّث إمّا في الإذاعة أو التلفزة، ويستدلّ على أنّه لا يجوز لنا طبقًا للدستور والأحكام الشرعيّة القطعيّة الدخول إلى تراب بلد آخر، مهما كانت الظروف؛ وأنّ الحكومة الإسلاميّة لا يجوز لها الاعتداء، بل عليها العمل بما يقتضيه الدين. وبعد مرور عشرة أيّام أو أسبوعين على هذه الحادثة، حيث كان الجيش الإيرانيّ قد ولج إلى داخل التراب العراقيّ على أساس تلك الخطط الحربيّة والمتطلّبات التي يرونها، جاء نفس ذلك الشخص ـ ويا ليتهم أتوا بشخص آخر ـ وبدأ يستدلّ بقوله: لا، «ليس كذلك؛ لأنّ الحكومة الإسلاميّة واسعة، وتشمل كلّ مكان؛ فهنا أمّ القرى، وأمثال ذلك»؛ فالمسألة هي بهذا النحو.
«ومستظهرًا بِنِعَمِ اللَهِ عَلَى عِبَادِه».٢
فيُباهي الناس بهذه النعم التي وهبه الله تعالى إيّاها، ويستظهر بها عليهم، ويُبرز ذاته من خلالها؛ لكن، من الذي أعطاك هذا الذكاء الذي تملكه؟ الله تعالى هو الذي أعطاك إيّاه، وووهبك هذا الاستعداد، والتوفيق؛ فهذه المسائل التي تستوعبها هي نعم إلهيّة منحك إيّاها الباري عزّ وجلّ؛ فلماذا تذهب، وتفتخر بها على الناس؟ أ ليس هؤلاء الناس هم عباد لنفس ذلك الإله؟ أَ وَليس هؤلاء يمتلكون أيضًا مقدارًا من ذلك الاستعداد الذي وهبك الله تعالى إيّاه؟ غاية الأمر أنّه أعطاك أكثر، وأعطاهم أقلّ؛ وحينئذ، ما معنى هذا الاستظهار؟ وما معنى هذا الزهو؟ وما معنى هذه المباهاة؟
«وبِحُجَجَهِ عَلَى أوليائِهِ».۱
فيأتي، ويختلق أدلّة يحتجّ بها على الذين يرغبون في سلوك الطريق ويسعون للعثور على طريق الحقّ، ويلجأ للتبرير والتأويل، ويسدّ سبيل أولياء الله تعالى، ويغلق الطريق أمام الذين يتحرّكون نحوه، ويسعى لإثارة الشكوك والشبهات؛ فمن هو الذي يقوم بكلّ ذلك؟ يقوم به الذي يتوفّر على تلك العلوم.
«أو مُنقادًا لِحَمَلة الحقّ».٢
أو أنّ [هذا الشخص الذي يجده أمير المؤمنين عليه السلام] يكون ذا نفس هادئة، وليست متمرّدة، فيقبل منه [كلامه وعلومه]، لكنّه يُعاني من مشكلة أخرى؛ وهي أنّه يفتقد للقدرة والبصيرة والفهم الذي يُمكّنه من الوقوف على رجليه.
«ينْقَدِحُ الشَّكُّ فِى قَلْبِهِ لِأوَّلِ عارِضٍ مِنْ شبهة».٣
فبسرعة، تُثار الشكوك في قلوبهم؛ فتُحدّثهم بكلام مائة مرّة، لكن، ما إن يذهبوا عند شخص آخر، حتّى ينتابهم الشكّ مجدّدًا؛ فما حقيقة هذا الأمر؟ وتبيّن لهم مسألة مائتي مرّة، وتُقدّم لهم الدليل عليها؛ لكن، ما إن يذهبوا عند شخص آخر، حتّى [يعتريهم الشكّ] مجدّدًا؛ فهؤلاء لا يُمكن للإنسان أن يطمئنّ إليهم؛ وبالتالي، هل سيوجد شيء يدعوه لكي يتحدّث معهم، ويُضيّع وقته معهم، ويُخصّص لهم وقتًا؟ فنأتي مائة مرّة، ونقول [مثلاً]: «إنّ هذا الكلام الذي يتحدّث به البعض مجانب للصواب؛ فلكلّ واحد طريقه الخاصّ، ولكلّ واحد شغله الخاصّ؛ فما دخلك أنت في أن يتعامل [رفيقك] مع أحدهم، أو يُسلّم عليه؟»؛ ومع ذلك، يأتي البعض ويقول: «لقد سلّم عليه؛ إذن، علينا ألاّ نهتمّ به، ونفعل له كذا وكذا!»؛ ففي هذه الحالة، ما هي فائدة كلامي؟ ففي نفس هذه اللحظة، ما زالت تصلني رسائل من العديد من النساء المخدّرات في طهران تقلن فيها: «يا سيّدي، إذا أردنا أن نُسلّم على إحداهنّ، يأتون، ويُكفّروننا، ويفعلون لنا كذا وكذا، ويقولون: ها هنّ قد سلّمن عليهنّ! ها هنّ قد فعلوا كذا!».
يكفي هذا! فما معنى كلّ ذلك؟ إنّ هذه الأفعال لا يلجأ إليها حتّى غير المسلمين؛ فمن هم الأشخاص الذين نعدّ أنفسنا أتباعًا لهم؟ ونحن نعتبر أنفسنا أتباعًا لأيّ أحد؟ فلا معنى لكلّ هذه الأمور؛ فبمجرّد أن يُسلّم الإنسان على أحدهم، تجدهم يقولون: «لقد سلّم على فلان، وسمح له بالمجيء إلى بيته، وذهب إلى منزله»؛ يا عزيزي، إنّك تتردّد على جارك المجوسيّ، وجارك اليهوديّ، والشخص الذي يرتكب الآلاف من المعاصي.. كلّ ذلك لأجل مصلحتك ومنفعتك؛ فجميع هذه التصرّفات مجانبة للصواب، ولا شيء من هذه الأعمال محطّ لرضى الأولياء والعظماء وإمام الزمان؛ وكلّ من يرتكب هكذا أفعال واقعٌ قطعًا تحت سخط الله تعالى، وسخط أوليائه؛ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ حقيقته:
«اطلب العلم لاستعماله»۱.
خطر الانبهار بالعلم
والمراد من ذلك أنّه: متى ما تعلّم الإنسان شيئًا، عليه ألاّ يكتفي بهذا المعلوم من دون أن يستخدمه؛ وقد بينّا في الجلسة السابقة أنّ الإنسان قد يُبتلى أحيانًا بمسألة الانبهار بالعلم؛ ومعنى ذلك أن يكون هدف الإنسان من العلم نفس العلم، وليس محكيه الخارجيّ، وتطبيق ذلك العلم على المعلوم الخارجيّ؛ فيُحبّ تعلّم الفقه بصفته علمًا، ويُحبّ تعلّم الرياضيّات باعتبارها علمًا؛ وهكذا الشأن بالنسبة للطبّ، والفيزياء، و... ؛ فهذا الذي يُحبّه فقط؛ وأمّا العمل؟ لا، فيبقى جالسًا بذلك النحو؛ أي أنّه يُحبّ فقط أن يتعلّم، ويجلس ساكتًا، من دون الاستفادة من علمه، واستخدامه في الوقت المناسب؛ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ هذا أيضًا غير صحيح؛ فتجد أحدهم عالمًا، لكنّه لا يستخدم علمه؛ فيظلّ ساكنًا من ناحية ذلك المعلوم، ويعمل على تجاوزه. فمن الآفات الكبيرة للسلوك، أنّه متى ما توصّل الإنسان إلى مجموعة من المسائل السلوكيّة، وظفر ببعض الحقائق، فإنّه يصل إلى حالة من الاطمئنان والأنس؛ فتُعيقه هذه الحالة عن الحركة، حيث تُصيب هذه الآفة ثمانين أو بالأحرى تسعين بالمائة من الناس؛ فما دام الإنسان يشعر بالعطش، تجده يلتجئ للكتب، وينتقل من هذا الكتاب إلى ذلك الكتاب، ليرى ما الذي كتبه وقاله فلان، ويبحث عن البرامج السلوكيّة، و... ؛ لكن، ما إن يصل إلى عالم وخبير وأستاذ في الطريق، ويذهب عنده، حتّى يظنّ بأنّه وصل إلى الهدف المنشود، ويُنحيّ جانبًا كافّة النتائج التي توصّل إليها، ويقول: «ماذا أريد أكثر من ذلك؟ فقد وصلت، وصرت حائزًا على ما كنت أصبو إليه»؛ في حين أنّ ذلك لا يعدو كونه بداية الطريق؛ فجميع هذه الأمور عبارة عن مقدّمات للبدء في الحركة.
وكنت قد ذكرت لكم سابقًا بأنّ هذا يُشبه أن يكون الإنسان مريضًا، فيبحث عن أفضل طبيب، ثمّ يعثر عليه لكي يُعالجه؛ فيأتي من مكان بعيد؛ وحينما يصل إليه، يضع تلك الوصفة التي كتبها لأجله على الرفّ؛ فأيّة فائدة جناها هنا؟ فالمسألة لا تنحلّ بمجرّد الذهاب عند الطبيب، بل عليه أن يُسلّم له نفسه، ويضع نُصب عينيه المسائل التي يُشير بها عليه؛ فهذه من الآفات التي ـ وللأسف ـ يُحسن الشيطان استغلالها كثيرًا؛ فتجد الإنسان لا يرتكب عملاً مشينًا؛ فلا يكذب مثلاً، أو لا يفتري على أحد، أو لا يُؤذي الناس، أو لا يرتكب معصية؛ لكنّ ذلك الشوق وتلك الرغبة وذلك العطش الذي كان يشتعل في وجوده قبل الوصول إلى الهدف المنشود قد خمد الآن بعدما تمكّن من الظفر بظروف مناسبة؛ فهذه من الآفات الخطيرة جدًّا.
العلّة في عدم استعمال الإنسان لعلمه
فما هو السبب في طروّ هذه المسألة؟ يوجد أمران قد ينضمّان إلى بعضهما، فيُفضيان لوصول الإنسان إلى هذه الحالة: الأوّل سيطرة الأحاسيس على العقل، حيث نرى بأنّ أغلب الناس، وبوسعنا القول: أكثر من تسعين بالمائة منهم تتغلّب أحاسيسهم على عقولهم؛ والأمر الثاني النسيان؛ لأنّ الإنسان يغلب عليه النسيان؛ هذا، مع أنّه بوسعنا القول إنّ ذلك معلول بدوره للأمر الأوّل؛ فالإنسان ينسى النعم بسرعة جدًّا، وكم لدينا من الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن أنّه: حينما يكون الناس في البحر، ويصير الجوّ عاصفًا، وترتفع الأمواج، وأمثال ذلك، ويرون الموت ماثلاً أمام أعينهم... هل حصل لأحدكم أن رأى الموت بأمّ عينيه؟ لعلّه قليلاً ما يحدث، لكنّه حصل معي أنا؛ أي أنّني وُضعت في موقف، بحيث أدركت بأنّ المسألة حتميّة؛ وأنا أقصد هنا أن يوضع الإنسان في موقف جادّ، ويرى الموت بعينيه حقيقةً، وليس هزلاً؛ وحينئذ، سيُدرك كم يفترق حاله هنا، مع حاله العاديّة! فجميع الأشياء ستتنحّى جانبًا، ويبقى الله تعالى لوحده فقط، حيث ستتنحّى كلّ من الزوجة، والأولاد، والملك، والعقار، والرئاسة، وكلّ شيء؛ وهنالك سيُدرك الإنسان {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ}۱؛ ففي تلك الحالة، أين تکون الزوجة؟ يا عزيزي، إنّها في البيت منهمكة في طبخ الأرزّ؛ فأنت تجود بنفسك الآن، بينما هي تطبخ الأرزّ! حسن جدًّا، فهي إذن لم تستطع أن تفعل لك شيئًا؛ وماذا عن الأولاد؟ إنّهم في مكانهم الخاصّ بالمدرسة؛ وكذلك الشأن بالنسبة للدكّان والسوق، فهما في مكانهما الخاصّين؛ فالسوق أحواله جيّدة، ومعاملاته تمشي بشكل طبيعيّ.. حسنًا، فبماذا نفعتك الآن هذه الأشياء؟ أنا لا أتمنّى أن يحصل لكم إن شاء الله تعالى مثل هذا الأمر؛ لكن، لا بأس أن يقع لكم، وتتمكّنوا من تجاوزه؛ لأنّ إدراك هذا الأمر جيّد بالنسبة إليكم؛ وقد حصل معي أنا؛ أي أنّ المسألة لم تكن من باب الهزل، بل كانت حتميّة، بحيث إنّني قلت: «يا علي، فلنذهب على بركة الله!»؛ ففي تلك اللحظة، لا يبقى في نفس الإنسان وخياله أيّ شيء؛ لماذا؟ لأنّه يكون في مواجهة مع الواقع؛ فهذه العلّة في ذلك؛ والعاقل ينبغي عليه دائمًا أن يعيش هذه الحالة؛ فتلك اللحظة التي عشتها أنا كان يعيشها أمير المؤمنين على الدوام؛ وهكذا الشأن بالنسبة لأولياء الله تعالى.
«وَلَولا الآجَالُ الّتى كَتَبَ اللهُ لَهُم لَمْ تَسْتَقِرَّ أروَاحُهُم فِى أجسَادِهِم طَرْفَةَ عَينٍ، شَوقًا الى الثَّوابِ وخَوفًَا مِنَ العِقَابِ».۱
فقد جاء حديث عن هؤلاء في خطبة همّام (خطبة المتّقين)؛ فما هو حالهم؟ إنّ حال هؤلاء ليس هو مجرّد انتظار الموت، بل وكأنّهم يعتبون على الله تعالى، ويقولون له: «لماذا لا تقبض أرواحنا؟ لماذا تركتنا في الدنيا بهذا النحو: البلاء تلو البلاء؟»؛ فهذا هو حال الدنيا.
كان الشيخ [محمّد جواد] الأنصاريّ رحمة الله تعالى عليه يقول: «إنّ سعادتنا الوحيدة في هذه الدنيا هي بهذه الثلّة من الرفقاء؛ وإلاّ، فأيّة دنيا هذه!»؛ فقد كان يُعاني من مشاكل قلبيّة، وارتحل عن هذا العالم بسبب سكتة دماغيّة؛ فكان يقول: «لماذا تدعون لي إلى هذا الحدّ، وتُقدّمون الأضاحي، وتنذرون لأجل أن يشفيني الله تعالى؟ أ فهل يوجد في هذه الدنيا شيء آخر غير هذه الابتلاءات وهذه الأمراض القلبيّة؟ أ فهل الإنسان مجبور على البقاء فيها؟»؛ فليرحل إذن! فما هي فائدة البقاء مع وجود آلام القلب؟ أنا لا أفهم! فإذا بقي أحد حيًّا في هذه الدنيا، وهو يُعاني من الآلام من أعلاه إلى أسفله، فأيّ بقاء هذا؟ أجل، قد يكون في بقائه تحصيل كمال له، ويكون الله تعالى ...، فهذا له حساب آخر؛ لكن، إن قيل لهذا الإنسان حقيقةً: «أيّها السيّد، سوف نُعمّرك لمدّة عشرين سنة، لكنّك ستُعاني فيها دائمًا من آلام القلب، والرأس، والصداع النصفيّ، وستكون رئتك مريضة على الدوام، ومعدتك كذا...»، فلو كان عاقلاً، لقال: «أيّ حياة هذه! فلنرحل»؛ اللهمّ إلاّ أن تترتّب على ذلك بعض الأمور الأخرى؛ فما ذكرناه هو بمعزل عن هذه المسألة. لقد كان الشيخ الأنصاريّ يقول: «لماذا تدعون لي؟ وتنذرون لي؟ وتُقدّمون الأضاحي لأجلي؟ فماذا يوجد في هذه الدنيا غير الابتلاءات وأمثال ذلك؟»؛ فهذا هو حال الأولياء، والأشخاص الذين عثروا على الحقيقة، وفُتحت أعينهم وإدراكاتهم على مسائل أخرى، وفهموا بأنّ هذه الدار ليست دار قرار.
«فَخُذُوا مِن مَمَرِّكُم لِمَقَرِّكم».٢
لأمير المؤمنين عليه السلام خطبة يتحدّث فيها عن لزوم أن ينظر الإنسان للحوادث الحتميّة كأمر واقع، ولو كانت ستتحقّق في المستقبل، حيث يقول:
«رَحِمَ اللَهُ امرًا تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، وَاعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ».۱
رحم الله تعالى الذي جلس يُفكّر في أحواله، ويُحاسب نفسه؛ فلا يوجد أيّ أحد لحقه الضرر من مسألة المحاسبة. «تَفَكَّرَ»؛ أي جلس يُفكّر في أحواله وأوضاع، «فَاعْتَبَرَ»؛ فالاعتبار أصله من عَبَر؛ أي أنّه غرس ذلك الأمر في وجوده، ولم يمرّ عليه بكلّ سهولة، بل استحضره في قلبه، واستدعاه في فهمه وإدراكه؛ وحينما اعتبر، «فَأَبْصَرَ»؛ أي أنّه فتح عينيه، ولم يُطبق جفنيه.
«فَكَأنّ ما هُوَ كائِنٌ مِن الدنيا عَن قَليلٍ لَم يكُن».٢
فلم يبق من عمره إلاّ قليل؛ فهذا الذي يبلغ من العمر أربعين سنة، كم بقيت له في هذه الدنيا من سنة؟ عشرين سنة؟ فهل عشرين سنة كثيرة؟ لا يا عزيزي، مجرّد رمشة عين! هل تتذكّرون الآن العشرين سنة الماضية؟ نفس هذه العشرين سنة التي مرّت؟ ألا تقولون: كأنّها مرّت بالأمس؟ أ فهل يوجد فارق بين العشرين سنة الماضية، والعشرين سنة الآتية؟ فهي مثلها؛ وعليه، فإنّ العشرين سنة الآتية ستُصبح مثل الغد؛ فتلك مثل البارحة، وهذه مثل الغد.
«فَكَأنّ ما هُوَ كائِنٌ مِن الدنيا عَن قَليلٍ لَم يكُن».
فإذا كان من المفترض أن يُعمّر الإنسان قليلاً، وتكون هذه المدّة يسيرة، فكأنّها غير موجودة؛ فإذا كان الأمر كذلك، فإنّه لن يكون موجودًا في الغد.
«كأنّ مَا هُو كائنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمّا قَليلٍ لم يزَلْ».
والواقع هو أنّه: كأنّنا سنصل إلى «عمّا قليل» تلك؛ فهذه «عن قليل» كأنّها غير موجودة، وتلك [سنصل إليها] «عمّا قليل» أي الغد، أو بعد الغد، أو بعد يومين سنصل إلى أمر كائن ومتحقّق؛ فكأنّ تلك لم تكن موجودة أبدًا! فلأي شيء يذكر أمير المؤمنين عليه السلام هذه الأمور؟ لأنّه عليه السلام يُريد أن يُقوّي قدرة الإنسان على الفهم، ويُنمّي قوّته العقليّة فيما يرتبط بالحوادث الخارجيّة، وتكيّف الإنسان مع هذه الحوادث، ويُضعّف الجوانب الإحساسيّة والتخيّلية في وجوده.
معنى المراقبة التي يعتقد بها الأولياء
فتعالوا بنا الآن نجعل هذا الأمر مرتكزًا لنا في يوم واحد، ثمّ نُمدّد هذا اليوم إلى يومين، ثمّ إلى ثلاثة أيّام، إلى أن نصل إلى أسبوع واحد؛ ثمّ نرى كيف ستصير أحوالنا؛ فلنجعل أساس حياتنا يتكّئ على العقل لمدّة يوم واحد؛ مع أنّني لا أقصد هنا العقل الكامل، بل فقط التفكّر العقليّ وغير الإحساسيّ؛ فنجعل بأجمعنا ذلك أساسًا لحياتنا.. كلٌّ بحسب بوسعه وطاقته؛ وحينما يأتي الليل، نُخضع الأعمال التي أدّيناها طيلة النهار للحساب، لنرى الفارق بينها وبين أعمال اليوم السابق؛ فإذا كانت أحسن، نستمرّ على ذلك في اليوم اللاحق؛ وإذا كانت هي أيضًا أحسن، نستمرّ على نفس الوتيرة في اليوم الثالث؛ وحينئذ، بعدما سينقضي شهر واحد، سنُدرك التغيير الذي طرأ على أنفسنا؛ وهذا هو المراد من المراقبة. وعليه، فقد اكتشفنا الآن أنّ المراقبة التي يتحدّث عنها الأولياء وعظماء أهل السلوك هي الخضوع للقوّة العقليّة، وانتهاج مسلك العقلانيّة؛ فلنفرض مثلاً أنّ تريد أن تشتري بضاعة، فمن أيّ واحد تشتريها؟ فمن أين تشتري الخضار أو الفواكه؟ من هذا البائع، أم من ذاك؟ عليك أن ترى أيّهما أكثر حاجة، لا أن تنظر إلى أنّ هذا أقرب، والآخر أبعد؛ هذا، مع أنّه إذا كان ذاك أبعد، فإنّك ستضطرّ للمشي قليلاً؛ وقد أوصى السادة الأطبّاء الإنسانَ بالمشي لأجل صحّته؛ كما أنّهم أوصونني بذلك كثيرًا؛ لكنّني لم أوُفّق إليه للأسف.
قبل عدّة ليالي، كنت أطالع كتاب الشمس الساطعة المؤلَّف في ذكرى العلاّمة الطباطبائيّ رحمة الله تعالى عليه ـ وأنا لا أتعب أبدًا من هذه الكتب مهما طالعتها ـ فنقل المرحوم الوالد حكاية عن السيّد القاضي رحمة الله تعالى عليه جاء فيها أنّ أحدًا رآه يشتري خسًّا من دكّان الخضار، فكان يختار الخسّ الرديء؛ وحينما حمله معه، جاء ذلك الرجل واعترض عليه قائلاً: يا سيّدي، إنّ الجميع ينتخبون الفواكه الجيّدة واللطيفة، بينما تأخذ أنت الخسّ ذا الأوارق الكبيرة والخشنة والرديئة؛ فقال له السيّد القاضي: أوّلاً، أنا أحتاج إلى خسّ، وليس من المعلوم ـ وهذه إضافة منّي أنا ـ أن تكون الخصائص التي تتميّز بها هذه الأوراق أقلّ من حيث مادّة الكلوروفيل واليخضور؛ فهي أيضًا مفيدة، ولا تقلّ فائدة عن تلك؛ وثانيًا، فإنّ ذلك البائع فقير ومحتاج، وأنا أريد مساعدته؛ فبدلاً أن أعطيه شيئًا من دون عوض، وأعينه على الاستجداء، فإنّني أشتري من عنده ذلك الخسّ؛ لأنّه سيفسد عند حلول العصر، فيكون مضطرًّا لرميه؛ وعليه، فإنّني من جهة سأكون قد ساعدته، ومن جهة أخرى، لم أوجد فيه روح الاستجداء، وحافظت على عزّته وأنفته، ولم أُرق ماء وجهه؛ ويكفيني أنّني اشتريت خسًّا لآكله [كيفما كان]، المهمّ أن يكون مفيدًا. وحينئذ، ماذا سيكون هذا الفعل؟ سيكون فعلاً عقلانيًّا؛ وهذا هو الإنسان الذي نُسمّيه بالإنسان العاقل، والذي بلغ عقله مرتبة الكمال؛ فهو يُريد مساعدة الفقير، لكنّه يُساعده بطريقة تُلحظ فيها جميع الجهات؛ لا أن يكون كطائر اللقلق الذي أراد أن يُقبّل ابنه ففقأ عينه۱؛ وقد شاهدت هذه المسألة كثيرًا في حياة المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، حيث كان يُبدي حساسيّة مُفرطة تجاهها؛ كما كان العديد من العظماء يُراعون بدورهم هذا الأمر.
قبل مدّة، ذهبت لرؤية أحد العلماء من ذوي الوجاهة، فكان يتحدّث عن مسألة أعجبتني كثيرًا، حيث قال: «كان جدّي مرجعًا؛ فكانت علاقته بالناس مختلفة، حيث كان يرتبط بكلّ واحد بنحو معيّن؛ وحكى لي والدي بأنّ أحد العلماء النجفيّين أتى عنده في يوم من الأيّام، وقال له: لا يصلني من والدك أيّ شيء، ولا يعتني بي أبدًا، وأمثال ذلك؛ فقال والدي: ذهبت عند أبي، وقلت له: من الجيّد أن تهتمّ به هو أيضًا، وتساعده إذا كان ذلك بالإمكان؛ فقال لي: إذا رأيته هذه المرّة، قل له: هل تعرف فلانًا؟ وذكر اسم أحدهم. قال والدي: التقيت بذلك الرجل في الشارع، وسلّمت عليه، ثمّ قلت له: هل تعرف فلانًا؟ فما إن ذكرت له ذلك الاسم، حتّى أطرق برأسه إلى الأسفل، واحمرّ وجهه، وودّعني، وذهب؛ فكان واضحًا أنّ ذلك الرجل كان واسطة لأبي يأتي عند ذلك الرجل، ويُساعده باستمرار، لكن من دون أن يذكر اسم أبي»؛ فهذا هو منهج العظماء! فهذه كلّها دروس للإنسان لكي يتعلّم كيف يتصرّف في الظروف المختلفة ومع الأفراد المختلفين، وكيف يُداري كلّ واحد بحسب مستواه، وظروفه الشخصيّة، ويلحظ في ذلك كافّة الجوانب.
فحينما يصل الإنسان إلى حقيقة ومسألة ما، فإنّه يكون بوسعه التوقّف عندها، وإدراك قيمتها وواقعيّتها؛ لكن، ما إن ينفصل عن تلك الحقيقة، حتّى ينساها، حيث يرجع ذلك إلى سيطرة الأحاسيس؛ أ لا يوجد لدينا بخصوص فرعون: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ}۱؟ لكن ما إن أتوا، حتّى {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ}؛٢ فجاؤوا إلى نهر النيل العظيم {حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ}؛٣ فلماذا قال: آمنت؟ لأنّ فرعون له قلب كبقيّة الناس، وله وجدان أيضًا، ومطّلع على الحسن والسيّء معًا، ويشعر كذلك بالألم، ويُحدّد بدوره المنفعة؛ لكن ماذا بعد؟ تأتي الأحاسيس وتصدّه! فيا فرعون، ألم يأتك موسى؟ ألم يجمعك أنت والسحرة؟ لو كنت لا تعلم، لما عذّبك الله تعالى؛ لأنّك ستكون جاهلاً حينذاك؛ إذن، فقد علمت، لكنّك كتمت؛ وبدلاً أن تستسلم للحقّ، فإنّك قلت: «سأعلّقكم على أغصان الشجر، وسأصلبكم!»؛ فقد وقعت حادثة واحدة، وكان لديك وجدان، كما كان لدى السحرة الخبراء بهذه المسائل وجدان أيضًا؛ فكلاكما كان له ضمير وعقل وفكر، وله دماغ، ويتمتّع بصحّة فكريّة، لكنّ كلّ واحد منكما تعامل مع هذه الحادثة بطريقة خاصّة؛ فبينما رجّحت أنت مصالحك الشخصيّة، قاموا هم بترجيح مصلحتهم الأخرويّة، فآمنوا؛ والحال أنّكم استوعبتم كلاكما حقيقة المسألة؛ وإلاّ، لو لم تكن قد استوعبتها، لما كان لله تعالى أيّ شغل معك، حيث سيكون حكمك حكم طفل لا يفهم حقيقة الأمور، وحالك حال أحمق قاصر عن الإدراك؛ أ فهل لله تعالى شأن بالأحمق؟ أو بالمجنون؟ لا، لا شأن له بهما؛ لكنّ له شأن بفرعون؛ لماذا؟ لأنّه يستوعب الأمور، ويفهم المنطق، غير أنّه ماذا يفعل؟ يلجأ للتبرير؛ وعوضًا عن أن يُساند السحرة وينتصر لهم، فإنّه يُهدّدهم.. لماذا تلجأ للتهديد أيّها السيّد؟ سأقتلكم، وأصلبكم، وأذيقكم العلقم! لماذا؟ هل يليق هذا بمن رأى الحقّ؟ أن يقول: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}؟ حسنًا، تفضّل أنت يا فرعون! فنحن تنحّينا جانبًا، وأظهرنا عجزنا مقابل موسى؛ وقد أُقيمت علينا الحجّة بمقدار فهمنا وفكرنا؛ حسن جدًّا، لقد استسلمنا؛ فإذا كنتم سماحتكم ترون بأنّكم أعلى، فتقدّموا إلى وسط الميدان، وواجهوا موسى بأنفسكم؛ فإذا كنت لا تُريد مواجهته، لماذا تُهدّد؟ ولماذا تقتل؟ ولماذا تقطع ألسنة الجميع؟ لماذا؟ فهذا لا يصحّ؛ لكن ما هو الذي حمله على ذلك؟ لأنّه لم يُبتل بعدُ بالغرق. ترى اليد البيضاء، لكنّك تُنكر؛ وترى معجزات أخرى، لكنّك تُنكر.. لا بأس، أنكرها بأجمعها، لكنّك لا تستطيع الهرب من ضميرك ووجدانك؛ فهو يُرافقك على الدوام؛ كما أنّ عقلك دائمًا معك؛ ولا يُمكنك أيضًا الفرار من حبّك لذاتك؛ لأنّه أمر فطريّ وذاتيّ، وليس عارضًا؛ فيصل إلى موقف، يُدرك فيه بأنّه وقت الغرق، ولا يوجد أيّ مجال للسباحة، ويرى بكلّ وضوح بأنّ موسى يعبر مع قومه النهر بكلّ سهولة، ليصلوا إلى الجانب الآخر؛ وهنا، إذا كنت صادقًا في قولك، اسبح أنت أيضًا؛ لكنّ السباحة لا تنفع في هذا الموقف، حيث جاء جبرائيل ودسّ له حفنة من الطين في فمه، وقال له: «ماذا كنت تفعل إلى اليوم؟» {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}٤؛ فاليوم نأخذك معنا إلى الجانب الآخر من الخطّ، ونُلقي بدنك على الشاطيء، حيث إنّ المراد من البدن ليس هو حقيقة الإنسان.. {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}نصطحبك معنا؛ لأنّ لنا شغل معك؛ فلقد كانت تلك البداية فقط. فتعال إلى ذلك الجانب؛ فملائكتنا تنتظر قدومك، لتُرحّب بك، وتقوم بواجب الضيافة اللائق بك؛ فما معنى ادّعائك للألوهيّة في هذه الدنيا؟ إنّنا جميعًا بهذا النحو يا عزيزي! فكلّنا فرعون، وكلّ واحد منّا هو في باطنه فرعون، غاية الأمر أنّنا لا ندّعي الألوهيّة؛ لماذا؟ لأنّه لن يقبل منّا ذلك أيّ أحد؛ وإلاّ، لادّعيناها أيضًا! فلو أنّني قلت الآن: أنا إله، لقيل لي: اذهب يا هذا إلى حال سبيلك! أيّ إله أنت! لكن، في حالة ما إذا اقتضت المصلحة ذلك، فإنّك ستجد بأنّه لا فارق أبدًا [بيننا وبين فرعون]؛ غاية الأمر أنّ تلك الألوهيّة كانت تسترقّ الناس، وهذه تعمل بنحو آخر وأسلوب مغاير؛ فترانا نقول: «أنا هو فلان، أنا أمتلك الصفات الكذائيّة، عليكم أن تتّبعوني، لا أحد منكم يتوفّر على العلم»؛ فلو لم يكن هناك إله، لكنّا بنفس ذلك النحو، من دون أيّ فرق. ففي يوم القيامة، لن يُبرزوا للإنسان المظاهر، بل سيُبرزون له الظهور؛ أي سيعرضون له خطًّا مستمرًّا وله صور مختلفة، لكنّه يحكي بأجمعه عن خداع الناس؛ ومن هنا؟ ماذا سيكون حالنا نحن؟ سنكون بأجمعنا شركاء في هذه المسألة لسماحة [فرعون].
{فَالْيَوْمَ...} سنصطحبك معنا؛ لأنّ لدينا شغل معك في ذلك العالم؛ لكن، {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} سنُلقي بدنك في الساحل، حيث يُقال إنّهم اكتشفوا مؤخّرًا بدنًا يُعتقد أنّه له؛ لكن هل صحيح ما يقولونه، أم... فيدّعون أنّ هذا البدن هو بعينه الذي... {نُنَجِّيكَ... لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}؛ أي: فيعلمون هم أيضًا، ويواجهون بدورهم هذه الحادثة، ويعرفون بأنّ المسألة جدّية.
علّة عدم إرجاع الله تعالى الكفّار والمنافقين إلى الدنيا
في بعض الأحيان، كنت أفكّر مع نفسي بخصوص الآيات القرآنيّة التي تقول: «حينما يُحشر المنافقون والكفّار والمشركون في يوم القيامة، فإنّهم يطلبون إعادتهم»، وأتساءل: لماذا لا يستجيب الله تعالى لهم؟ أ فهل لديه سبحانه حقد على أحد؟ فليقبل إذن! فمثل هذا السلوك يليق بالأفراد الغارقين في مستنقع الخيالات والأنانيّات والأهواء النفسانيّة؛ بينما مقام الذات الربوبيّة منزّه عن كلّ شين، وعن الصفات الرذيلة المختصّة بعالم الكثرة؛ فلماذا إذن؟ فلدينا في القرآن الكريم: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}۱؛ أي: يا ليتك أيّها النبيّ تراهم حينما يكونون واقفين بجوار جهنّم؛ {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}: فهم مشرفون على جهنّم، ولم تبق إلاّ عدّة دقائق، ويُقال لهم: تفضّلوا للسقوط الحرّ! فيُقال لكلّ من يذهب إلى هناك في تلك المرتبة الخاصّة التي يُمكنه الوقوف فيها، وذلك بمقتضى شدّة النار أو ضعفها: تفضّل! فما إن يقفوا هناك: {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}، حتّى يقولوا هم أيضًا بالضبط مثل ما قال فرعون حينما {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}٢: {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}٣؛ فماذا سيفعلون في تلك اللحظة؟ سيقولون من أعماق وجودهم: يا ليت الله تعالى يُعيدنا! {يا لَيْتَنا نُرَدُّ}، لكن، ماذا؟ {وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا}؛ فلا نفعل مثل السابق حينما كنّا نكذّب، ولا نهتمّ، ونفعل ما يحلو لنا، بل لن نُكذّب هذه المرّة؛ لأنّنا نرى جهنّم ماثلةً أمامنا {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ لكنّ الله تعالى يُجيبهم هنا بقوله: {بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}٤؛ [بل بدا لهم] جميع ما سعوا لإخفائه في الدنيا؛ فما إن كنّا نأتي ونقدح في أذهانهم شرارة، حتّى يرفضونها قبل أن تصل إلى أذهانهم؛ فتتوقّف تلك الشرارة هناك، ولم يكونوا يسمحون أبدًا بحلولها؛ وحينما كانت تأتيهم آية من الآيات الإلهيّة؛ فعوضًا عن الوقوف عندها، والتأمّل فيها، فإنّهم كانوا يرفضونها، ويقولون: «لا، ليس الأمر بها النحو، و...»؛ فلم يكونوا يُفكّرون فيها بتاتًا، {يُخْفُونَ}، بل كانوا يُخفونها، ويكتمون المسائل، ويحجبون عالم القيامة، ويقولون: «هل يوجد أحد ذهب إلى هناك، واطّلع على ما هو موجود، وأخبرنا؟ ما هذا الكلام؟»؛ {بَدا لَهُمْ}، فاتّضح لهم كلّ شيء.. تفضّلوا {بَدا لَهُمْ... وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ}؛ فالله تعالى لا يكذب؛ فلو أنّهم رجعوا {لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}. فرأيت بأنّ المسألة بهذا النحو حقيقةً؛ أي أنّ فعل الله تعالى هنا غير ناشيء من الحقد والغلّ وأمثال ذلك، بل هو فعل منطقيّ؛ أي: لو فرضنا أنّني كنت في مكان الله تعالى، لقلتُ: «أ فهل أنا عاطل عن العمل؟! لقد أتينا بهم مرّة واحدة، فكم ينبغي علينا أن نأتي بهم من مرّة؟ فهؤلاء هم حقيقةً على هذه الشاكلة، بحيث لو رُدّوا، لأتوا مرّة أخرى، ونسوا أنفسهم، وسيطرت عليهم أحاسيسهم، وعادوا لما نهوا عنه»؛ وإلاّ، لو كان حالهم بذلك النحو، وكانوا سيتراجعون، ويتخلّون [عن أعمالهم السيّئة]، لما أمكن أن يُعذّبهم الله تعالى، ولأوصلهم إلى الكمال في عالم البرزخ؛ فالذين تتمّ تربيتهم من قبل الباري عزّ وجلّ في عالم البرزخ بعد موتهم، فتُسدّ نقائصهم، ويصلون إلى مرتبة من تلك المراتب التي عيّنها الله تعالى لهم، هم أناس غلّبوا جانب العقل على جانب الأحاسيس؛ أي: مع أنّهم ارتكبوا المعاصي في هذه الدنيا، لكنّ ذلك لم يبلغ حدّ أن تأتي أحاسيسهم وتدفعهم لإخفاء كلّ شيء بنحو مطلق؛ فهم كانوا مؤمنين، لكنّهم ارتكبوا بعض الذنوب؛ هذا، مع أنّ المؤمن لا يخلو من نقص؛ ففي هذه الحالة، سيأتون إلى عالم البرزخ، وتتبدّل نقائصهم وعيوبهم بواسطة التربية؛ فهؤلاء لا يندرجون في زمرة {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ}.
فعُمَر هذا، من تظنّونه كان؟ لم توجد أيّة معجزة، إلاّ وقد رآها من أمير المؤمنين عليه السلام! قبل عدّة أيّام، حينما كنت أُحرّر جلسات عنوان البصريّ، جاءت على بالي مسألة، فقمت بتدوينها، وكان من ضمنها أنّه لا توجد أيّة معجزة، إلاّ ورآها ذاك من أمير المؤمنين؛ وتوجد رواية مشهورة لا أعلم هل سمع بها الرفقاء والأحبّة أم لا؛ وكنت قد سمعت من الحاج بيات أنّ المرحوم العلاّمة ذكرها في كتبه؛ لكنّني لم أشاهدها هناك؛ ومفاد هذه الرواية أنّه في أحد الأيّام، جاؤوا ببساط للنبيّ الأكرم، ويبدو أنّه كان سجّادًا منسوجًا أحضروه من أحد الأمكنة؛ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنس بن مالك: قم، وناد على أبي بكر وعمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأمثال هؤلاء، لكي يأتوا عندي؛ فذهب، وناداهم كلّهم؛ وقد كان أمير المؤمنين جالسًا بدوره عند النبيّ؛ فقال لهم صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجلسوا بأجمعكم على هذا البساط؛ فجلسوا؛ ثمّ قال لأنس: اجلس أنت أيضًا، وتعال، لكي تُخبرني بكلّ ما حصل. فقال لأمير المؤمنين: أستودعكم الله تعالى، وإن شاء الله تعالى تُسافرون على خير؛ فالتفت أمير المؤمنين إلى الريح، وقال: «احملينا»؛ فقال أنس: فرأينا أنفسنا فجأةً نسير في الهواء! وكأنّنا نُحلّق على بساط سليمان؛ فقطعنا البلدان، والصحاري، والبحار، وهكذا، إلى أن نزلنا فجأةً في مكان؛ فقال الإمام عليه السلام: هل تعلمون أين نحن؟ وقد كنّا إلى جانب غار؛ فقال: هذا هو غار أصحاب الكهف؛ فرأينا عدّة رجال يغطّون في النوم؛ فالتفت عليه السلام إلى أبي بكر وعمر، وقال لهما: قوما، وسلّما عليهم؛ فقاما، وقالا: السلام عليكم با أصحاب الكهف والرقيم! فقد كانوا عالمين بالقرآن؛ لكنّهم لم يسمعوا أيّ جواب، ولا أيّ صوت، فجلسا في مكانيهما؛ ثمّ أمر عليه السلام البقيّة بالقيام والسلام؛ فقال أنس: قمت مع عبد الرحمن بن عوف والبقيّة، وقلنا: السلام عليكم... ؛ بصوت رفيع جدًّا، ومع مراعاة مخارج الحروف!! فرأينا بأنّ هؤلاء لا تُؤثّر فيهم مراعاة هذه الأمور وهذه الألفاظ؛ فقام أمير المؤمنين، وقال: إنّ هؤلاء أصحاب الرسول، فلماذا لا تُجيبونهم؟ السلام عليكم يا أصحاب أهل الكهف، لماذا لا تردّون على أصحاب النبيّ؟ فقالوا فجأة بأجمعهم: السلام عليكم يا أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وخليفته ...؛ فقال عليه السلام: لماذا لم تردّوا على هؤلاء؟ فهم أصحاب...؛ فقالوا: لم يأذن الله تعالى لنا في ردّ سلام أيّ أحد، اللهمّ إلاّ أن يكون نبيًّا، أو وصيّ نبيّ. فهل رأوا ذلك، أم لم يروه؟ لقد رأوه؛ ولم يكن مكاشفة، ولا سحرًا! فقال عليه السلام: على بركة الله! فلنكمل سفرنا، ونجلس مرّة أخرى على البساط؛ فجلسوا جميعًا عليه، وقال عليه السلام للريح: «احملينا»؛ فقال أنس: فسرنا مرّة أخرى ما شاء الله، إلى أن غربت الشمس؛ فوصلنا إلى أرض لونها كلون الزعفران، ولم يكن فيها ماء، لكنّ فيها نبات يُستعمل في الأمور الطبّية وأمثال ذلك اسمه الشيح، حيث كان موجودًا هناك بوفرة؛ غير أنّ تلك الأرض كانت تخلو من الماء؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد حلّ وقت الصلاة.. نفس أبي بكر و... قالوا: يا عليّ، لقد حان وقت الصلاة، ولا يوجد هنا ماء لكي نتوضّأ؛ فقال عليه السلام: حسن جدًّا، سأعثر لكم على الماء؛ فخطا بعض الخطوات، وضرب برجله على الأرض، فنبعت عين ماء؛ فتوضّأنا بأجمعنا، وصلّينا المغرب والعشاء؛ وقال عليه السلام: لو أنّكم سكتّم، ولم تطلبوا الماء، لأتانا جبرائيل به من الجنّة؛ وقال أنس: صلّينا، وبقينا مقدارًا من الليل، وتجوّلنا هناك؛ فقال عليه السلام: لنجلس الآن في مواضعنا، حتّى نعود إلى المدينة؛ فجلسنا على ذلك البساط، وحملتنا الريح؛ فقال عليه السلام: إمّا أنّنا سنُدرك كلّ صلاة الصبح، وإمّا ركعة منها مع رسول الله، حيث حدّد ذلك بدقّة؛ وذلك لكي...؛ قال أنس: فأتينا إلى جوار مسجد النبيّ، فنزلنا هناك، ورأينا بأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الركعة الثانية من صلاة الصبح؛ فصلّينا معه ركعة واحدة؛ وحينما أتممنا الصلاة، التفت إلينا رسول الله، وقال: أخبركم أم تخبرونني أنتم؟ فقلنا: من الأحسن أن نسمعها من فمك أنت! فحكى لنا القصّة من أوّلها إلى آخرها؛ وكأنّه كان معنا؛ ثمّ قال: يا أنس! هل تشهد بهذه المسألة يوم يطلب منك عليٌّ ذلك؟ قلت: نعم.۱ فمرّت مدّة على هذه الحادثة، وارتحل رسول الله إلى جوار ربّه؛ فغصبوا الخلافة، وفعلوا ما فعلوا؛ فأتوا بأمير المؤمنين إلى المسجد للبيعة، فالتفت عليه السلام إلى الموجودين في المسجد، وقال: من منكم حضر يوم الغدير لكي يشهد لي؟ فلم يقم أيّ أحد منهم؛ وبحقّ، على الإنسان أن يستعيذ بالله تعالى! ثمّ قال عليه السلام: يا أنس، هل تشهد بما رأيت في ذلك السفر من أصحاب الكهف، ونبع الماء، وغير ذلك؟ فقال: يا علي!، لقد كبرت في السنّ، وعرض عليّ النسيان، ولا أتذكّر ما حصل بالضبط!
نتيجة عدم استعمال العلم
هل التفتّم؟ «واطلُب العِلمَ لاستعماله»:
على الإنسان استعمال ما تعلّمه، وتأدية حقّه؛ ونحن مسؤولون بأجمعنا عن ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا}۱؛ فقال عليه السلام: إذا كان إحجامك عن الكلام راجع إلى العناد، فرماك الله تعالى ببرص في وجهك لا تستطيع إخفاءه، وأعمى بصرك، وجعل الماء لا يبقى في جوفك؛ فقال أنس: في نفس تلك اللحظة أصابني البرص في وجهي، وعميت عيناي، وكنت كلّما شربت الماء، لا يرتفع عطشي؛ وقد بقي هكذا إلى آخر عمره، حيث عمّر كثيرًا، وبلغ المائة وزيادة.
لقد شاهد أبو بكر وعمر [تلك الحقائق]، لكن، ماذا بعد؟ مع ذلك، قاما بارتكاب كلّ تلك الأفعال؛ فلو لم يكونا قد اطّلعا على ذلك، لكانت مسألة أخرى؛ لكنّكما رأيتما كلّ شيء بأمّ أعينكما؛ ولنفرض أنّ ذلك كان من باب السحر والشعوذة؛ حسن جدًّا، تعال أنت أيضًا، وقم بمثل ذلك! فما هو السبب في ذلك؟ سبب ذلك بأجمعه هو تلك المسألة؛ فإذا كان الله تعالى لا يُعيدهم [إلى الدنيا]، فلأنّهم بهذا النحو، ولأنّهم سيستمرّون في أفعالهم تلك بالطريقة ذاتها؛ وحينئذ، سيقول الله تعالى: مرّة أخرة... {بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}٢؛ فهم يكذبون، {وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}٣؛ فهؤلاء بعينهم هم الذين كانوا يقولون في الدنيا حينما كانوا يعيشون فيها: «حياتنا هي فقط هذه، ولن نُبعث!»؛ وهنا، نجد الباري عزّ وجلّ يُكرّر نفس كلامه السابق، حيث يقول: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ}٤؛ فهناك قال: {عَلَى النَّارِ}، وهنا قال: {عَلى رَبِّهِمْ}؛ أي أنّهم وقفوا هنا أمام الله {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ}، فيقول لهم تعالى: ألم يكن هذا حقًّا؟ فأنتم كنتم تُنكرون لقائي، ولا تعترفون بدرجات الجنّة هذه، {قالُوا بَلى ورَبِّنا}٣؛ أي: نُقسم بك أنّ ذلك حقٌّ كلّه، {قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}٤؛ والمراد من العذاب ليس نار جهنّم بالخصوص، بل تلك الحسرة الناجمة عن عدم لقاء الله، حيث إنّه تعالى منحهم مجّانًا في هذه الدنيا رأسمالاً، ليستثمروه؛ فيا أيّها السيّد! إنّ تلك الساعة قبل أذان الصبح رأسمال، فلماذا لم تستغلّها؟ وفترة ما بين الطلوعين رأسمال، فلماذا لم تستفد منها؟ ولسانك رأسمال، وفكرك رأسمال، وعقلك رأسمال، وارتباطك رأسمال، ومكانتك رأسمال، و... ؛ فلماذا لا تسعى لاستغلالها؟ فنحن قد وهبناك إيّاها مجّانًا يا عزيزي! فلو فرضنا أنّنا كنّا نغطّ في النوم ليلاً، وإذا بالشمس تطلع فجأةً في نصف الليل؛ أي تحصل طفرة في البين؛ فما الذي كان سيحصل؟ أ لن نكون قد سُلبنا هذه الثروة؟ فإذا تقرّر أن [يسلب] الله تعالى منّا الكثير من النعم...
هر گنج سعادت كه خدا داد به حافظ | *** | از يمن دعاى شب وورد سحرى بود |
[يقول: كلّ كنز سعادة وهبه الله تعالى لحافظ كان ببركة دعاء الليل وورد السحر]
خطأ الإشكال على مسلك العرفاء من دون البحث والتقصّي في كلماتهم
فلو فرضنا هنا أنّ الله تعالى قال: من الآن فصاعدًا، سألجأ إلى هذه الأعمال؛ فعند الساعة الثانية بعد نصف الليل، تطلع الشمس فجأة؛ فما الذي سيحصل حينئذ؟ سيُسلب منّا رأس المال ذاك؛ فنقول لله تعالى في ذلك الحين: لماذا تصرّفت بهذا النحو؟ لماذا لم تمنحنا ذلك رأس المال؟ لماذا حرمتنا؟ ألن نقول ذلك؟ فيقول تعالى: تفضّلوا! لقد كان بوسعك القيام، مثلما كان بمقدورك الاستمرار في النوم؛ ثمّ إنّه تعالى يقول في هذه الآية: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ}؛ فكانوا يقولون: «ما معنى لقاء الله؟ ما معنى رؤية مراتب الأسماء والصفات؟ أيّ كلام هذا؟ إنّ الدروايش والصوفيّين هم الذي يتفوّهون بمثل هذا الحديث، فما معنى هذا الكلام أيّها السيّد؟!»؛ هذا، مع أنّه كان بوسعهم تقصّي الأمر، لكنّهم لم يفعلوا؛ فعوضًا عن تتبّع هذه المسألة، شغلوا أنفسهم بذلك النحو.
كان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يقول: حينما عُدت من النجف، زارني في البيت أحد أقاربي من طهران، وقد كان من العلماء الذين درسوا في سامراء والكاظمين بالعراق؛ وفي ضمن حديثه معي، بدأ بالقدح في مثنوي، والقول: «إنّ صاحبه رجل ملحِد، وكافر، ومن أنصار وحدة الوجود، و...»؛ فلم أنبس ببنت شفة، لكنّه استمرّ في كلامه بذلك النحو، حيث وصف [مولانا] بالعديد من الصفات والعناوين، إلى انتهى من حديثه، فذهبت إلى الغرفة المجاورة، وأحضرت كتاب مثنوي، وفتحته أمامه، وقلت له: «اقرأ يا سيّدي!؛ فقرأه، ثمّ قلت له: «فسّره الآن!»؛ فلم يفعل، فقلت له: «إذا كنت لا تقدر على تفسير عبارة واحدة منه، لماذا تتفوّه بكلّ ذلك الكلام؟»؛ هل التفتّم؟ فهل يصحّ أن نأتي هكذا، ونقول: «لا ينفعنا مثنوي في شيء! إنّه درويش وصوفيّ ومن القائلين بوحدة الوجود!»؟ فإذا كنت لا تفهم [هذه الحقائق]... {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ}؛ فهؤلاء يلجؤون للتكذيب، ولا يتفحّصون، وبدلاً عن الاستفادة من علومهم، فإنّهم يتجاهلونها، ويكتمونها.
ذات يوم، قال [المرحوم العلاّمة]: كان أحد تلامذة السيّد القاضي رحمة الله تعالى عليه اسمه السيّد حسن المسقطيّ جالسًا وسط بعض العلماء؛ وقد كان عالمًا بحّاثة؛ فجاء أحد هؤلاء، وبدأ بالقول من باب التملّق أو من أيّ باب آخر: «هل إنّ المسائل المتعلّقة برؤية الله تعالى والوصال والفناء لها حقيقةً فعلاً؟»؛ وقد كان السيّد حسن المسقطيّ رجلاً صريحًا جدًّا، وله جرأة في الكلام، فردّ عليه قائلاً: «حينما تذهب إلى بيت الخلاء، هل تكون لتلك الأشياء التي تراها هناك حقيقة، بينما لا تكون لله تعالى أيّة حقيقة؟»؛ بمعنى أنّه كان يُريد أن يقول لهم: أنتم تُطلقون على أقبح الأشياء وأدنئها وأرذلها اسم الحقيقة؛ بينما لا يكون ـ بزعمكم ـ من شأن تمام الحقيقة التي أحاطت بكلّ العالم، وصدرت منها كلّ الحقائق أن تكون لها حقيقة! كان السيّد القاضي رحمة الله تعالى عليه يحضر مجلسًا كان يتواجد به السيّد المسقطيّ رحمة الله تعالى عليه أيضًا على ما يبدو؛ فقيل له: يا سيّدي! ما هي حقيقة مسألة الوصال والوحدة وهذه المسائل التي تتحدّثون عنها؟ وكان السائل من العلماء المشهورين؛ وقد كان المرحوم القاضي يُراعي بعض الأمور، فأجابه بقوله: «ماذا تقول أيّها السيّد؟! أنا أعيش في وصال معه لمدّ أربعين سنة، وأنت تسأل هل له حقيقة أم لا!». يا عزيزي! إنّ المرحوم القاضي ليس بالرجل الذي تذهب عنده، وتكتشف وجود نقاط ضعف فيه، لتستند إليها من أجل القول إنّ تلك الأمور لا حقيقة لها؛ كما أنّه لم يغلق باب بيته في وجهك، ولم يحرم أيّ أحد؛ فهل يصحّ ـ والحال هذه ـ الاكتفاء بالجلوس في المنزل، ونسج الكلام؟ كان عليك الذهب عنده، وطرح الإشكالات عليه، ثمّ عرض ذلك في الجرائد؛ فلن يعترض عليك أحد؛ فيحقّ لك القول حينئذ: «لقد ذهبنا عنده، ولم نجد لديه أيّ شيء!»؛ لكن، هل ذهبت عنده؟ هل تحدّثت معه؟ أم لا، اكتفيت بـ ... . لقد كان عليك الذهاب، وعرض إشكالاتك؛ فحينئذ، كنّا سنقبل بكلامك؛ وأمّا الاقتصار على الجلوس بهذا النحو، واتّهام المرحوم القاضي بالكفر، ...؛ ومن كان يتّهمه بذلك؟ العلماء! والمراجع المشهورون هم الذين كان يتّهمونه بالكفر.
أيّها السيّد المرجع! يا سماحة العالم المبجّل! هل تحدّثت معه ولو في جلسة واحدة؟ هل عثرت على نقطة ضعف فيه؟ هل كان تاركًا للصلاة؟ هل كان يشرب الخمر؟ هل كان يرتكب أعمالاً خادشة للحياء حتّى تأتي أنت و...؟ ما هي نقطة الضعف التي وجدتها فيها، واستندت إليها للحكم بتكفيره وارتداده وبقيّة الأمور؟ لماذا ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو؟ ما الذي يدفع الإنسان ليكون في مواجهته للحقّ والحقيقة متقاعسًا إلى هذا الحدّ، فيسكت، ولا يهتمّ، ويكتم؟ لماذا يجب أن تكون الأمور بهذا النحو؟ هل تدرون كيف كان يذهب عنده الناس؟ كانوا يضعون العباءة على رؤوسهم، ويذهبون عنده ليلاً، حتّى ... . كان أحدهم يقول: «عندما كنّا نذهب عنده، منذ أن ندخل الزقاق، ونحن ننظر خلفنا، لنتأكّد هل رآنا أحد المشايخ أم لا في ذلك الحيّ وتلك النواحي»؛ فكأنّهم كانوا يُريدون ارتكاب جريمة! أ فليس هذا سدّ لباب العلم؟ فيأتي الإنسان ويحرم نفسه؛ اذهب يا عزيزي عنده! فلقد مرّت خمسون سنة، وأنت تُلقي الدروس، وكنت مع الناس طيلة هذه المدّة، وأنت بنفسك تدّعي بأنّك كذا وكذا، وبأنّ علوم آل محمّد بأسرها في...، فكيف ـ والحال هذه ـ لا تملك الجرأة على الذهاب عنده في ليلة من الليالي؟ فهل هذا يصحّ؟
أي: هل إنّ ثمرة جميع هذه الدراسة، وكلّ هذه الادّعاءات ألاّ تقدر على سماع كلامه ولو لساعة واحدة؟ فاذهب أيّها السيّد، وانظر إلى ماذا يدعو! هل يدعو إلى الشيطان، أم إلى الله تعالى؟ واطّلع على أحواله، وانظر هل يكذب، وهل يرتكب الذنوب؛ فالمرحوم القاضي لم يكن بالرجل السهل! فحينما كان يرد مجلسًا لعلماء النجف، كان جميع من في المجلس يسكتون؛ وكأنّ على رؤوسهم الطير! فلقد كان بهذا النحو، ولم يكن رجلاً عاديًّا؛ وحينئذ، لماذا ينبغي على الإنسان أن يصل إلى درجة يُسيطر فيها عليه الشيطان، فلا يكون مستعدًّا حتّى للإنصات؟ لقد كان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يقول للسيّد إبراهيم الكرمانشاهيّ: «أيّها السيّد، اذهب، واسمع، وتكلّم، وتحدّث مع السيّد الحدّاد؛ فأنا بنفسي أقول لك اذهب، وتحدّث معه؛ أفلا تقبل؟».
هل يُمكن استعمال لفظ واحد في معنيين أو أكثر؟
ذات يوم، قال المرحوم العلاّمة: كان السيّد الخوئي رحمة الله تعالى عليه يتردّد في السابق على المرحوم القاضي؛ وقد بدأت العلاقة بينهما بسبب حضرة آية الله البهجة سلّمه الله تعالى، والذي لا يزال فعليًّا على قيد الحياة، وقد كان تلميذًا للمرحوم السيّد الخوئي.۱ وفي مجلس الدرس، وصل الكلام للبحث عن مسألة: هل يُمكن للمتكلّم إرادة معنيين من كلام واحد، أم أنّ لكلّ كلام معنى واحد مختصّ به؟ افرضوا مثلاً أنّني قلت لأحدهم: «يا عزيزي، اذهب وائتني بـ "شير"»، فإنّ هذه الكلمة تُطلق على صنبور الماء، وعلى الحليب؛ فإذا كان لدينا قرينة في المقام، فلن يوجد إشكال في البين؛ لكن، إذا كان المتكلّم يُريد المعنيين معًا؛ أي أنّه يُريد القول لذلك الشخص: «يا سيّدي! ائتني بصنبور ماء؛ لأنّ الذي في المغسلة قد انكسر، وأريدك أن تُصلحه؛ وأحضر أيضًا قارورة حليب»؛ فهل يُمكنه إيصال هذين المعنيين بعبارة واحدة، أم لا؟ يُقال عادةً إنّه لا يُمكن، بل ينبغي الإتيان بقرينة للتعيين. وبدوره، استدلّ السيّد الخوئيّ طبقًا لهذا المبنى المتعارف على عدم إمكانيّة ذلك، وأنّه لا يتسنّى للإنسان إرادة هذين المفهومين من لفظ واحد. لقد كان للشيخ البهجة ارتباط بالمرحوم القاضي، فحدّثه في الجلسة الليليّة عن هذه المسألة؛ فقال له السيّد القاضي رحمة الله تعالى عليه: هذه المسألة صادقة بالنسبة للنفوس الضعيفة؛ فالأشخاص الذين لهم نفوس ضعيفة، ولا تتسنّى لهم الإحاطة بالنفس ومدركاتها، ولا يستطيعون السيطرة على هذه المدركات لن يكونوا بطبيعة الحال قادرين ـ في مقام التلفّظ والخطاب والكلام ـ على إيراد معنيين بلفظ واحد في آن واحد وبلحاظ واحد؛ وأمّا الأشخاص الذين لديهم قدرة على الإحاطة بنفوسهم والسيطرة عليها، فإنّهم يستطيعون استخدام هذه النفس في مفهومين في آن واحد، بل في ثلاثة مفاهيم، بل حتّى في أربعة مفاهيم؛ لأنّ لدينا ألفاظ كثيرة يكون لكلّ واحد منها معان متعدّدة؛ وهذا مشهود في اللغة العربيّة، وفي اللغات الأخرى، كما أنّه كثير في اللغة الإنجليزيّة، حيث يتعيّن على الإنسان اكتشاف المعنى المراد من اللفظ عن طريق القرائن؛ ويبقى أنّ الاشتراك اللفظيّ من نقاط الضعف التي تُعاني منها اللغة؛ لكنّ اللغة العربيّة لا تتوفّر على مشتركات لفظيّة كثيرة، اللهمّ إلاّ على مستوى بعض الكلمات الخاصّة؛ فاللغة الأغنى هي التي يكون بوسعها من الناحية الثقافيّة بيان معانٍ متعدّدة عن طريق ألفاظ متعدّدة. وعلى أيّ تقدير، فقد ذهب الشيخ البهجة في اليوم التالي عند السيّد الخوئيّ، وقال له: «إذا كنت تطرح هذه المسألة من حيث كونها أمرًا واقعيًّا وكلّيًا، فإنّها ستكون محلّ إشكال؛ وأمّا إذا كنت تطرحها بالنظر إلى هذه النفوس الضعيفة كما هو الحال بالنسبة لعامّة الناس، فإنّنا سنقبل بها؛ لكن، إذا كنت تقول باستحالة المسألة من حيث الأصل والمبدأ، فإنّنا لا نقبل بذلك؛ إذ لو كانت النفس قويّة، لما كان الأمر بهذا النحو»؛ فقال له السيّد الخوئي: «هذا الكلام ليس لك، فمن أين أتيت به؟ ومن الذي نقلته عنه؟»؛ فقال له: «سمعته من السيّد القاضي»؛ فسُرّ كثيرًا، وأبدى رغبته باللقاء به، وقال له: «هل يُمكن أن نتّفق على وقت محدّد، لكي يأتي إلى البيت، فنلتقي به هناك؟»؛ فذهب الشيخ البهجة حفظه الله تعالى عند المرحوم القاضي، وأخبره برغبة السيّد الخوئيّ بلقائه، وبشوقه لرؤيته؛ هذا، وكان السيّد الخوئيّ قد أخبر الشيخ البهجة في ضمن الكلام بوجود بعض المسائل التي كانت تصدّه عن المجيء إلى السيّد القاضي، ونيل شرف لقائه؛ فقال المرحوم القاضي للشيخ البهجة: «قل له أوّلاً: ليس من دأب العلماء والمحقّقين وديدنهم الحكمُ على المسائل التي لم يروها ولم يسمعوها [أي لم يُحقّقوا فيها]»؛ فلاحظوا معي كم هو رصين هذا الكلام! فأنت تدّعي بأنّك سمعت عنّي بعض الكلام؛ فإذا كنتُ حيًّا وموجودًا، لماذا تتحدّث في غيبتي بمثل تلك الكلمات؟! فقد نتغاضى عن هذا الأمر لو أنّني كنتُ ميّتًا؛ بل حتّى في هذه الحالة، لا يجوز لك قول ذلك؛ إذ عليك أن تأتي عند الأشخاص الذين لديهم اطّلاع وارتباط، وتُحقّق في الأمر؛ وأمّا أن تكتفي بالجلوس، وتقول: «لقد سمعت عنك بعض الكلام الذي صدّني عن المجيء عندك»، فهو عملٌ يُؤدّي إلى سدّ الإنسان لأبواب الحقّ في وجهه؛ فإذا كنتُ موجودًا وجالسًا هنا، تعال، واستمع منّي أنا؛ وقال له: «ليس من دأب كبار المحقّقين وديدنهم أن يحرموا أنفسهم من الحقّ اعتمادًا على مجرّد السماع»؛ فهذه مسألة؛ وأمّا المسألة الثانية، فأنا لحدّ الآن لم أغلق باب منزلي في وجه أيّ أحد، لكي تأتي أنت، وتطلب لقائي، وتحتمل أن تُجابه بالردّ؛ فعلى الإنسان أن يسعى، ويلجأ للتحقيق والتفحّص، مهما كانت النتيجة التي سيتوصّل إليها. وأمّا المسألة الثالثة، إذا كان يحتاجني في شيء، فإنّ باب بيتي مفتوح، وليست لديّ أيّة مشكلة معه؛ فليأت عندي إذا كان يرغب في ذلك، وليطرق الباب، ويدخل. وعلى أيّ تقدير، فقد ذهب السيّد الخوئيّ إلى منزل المرحوم القاضي، واستفاد منه؛ لكنّ هذه الاستفادة والنعمة الإلهيّة لم تستمرّ، فانقطع عنه بعد مرور فترة من الزمان؛ وهي مسألة تحتاج إلى بيان مفصّل.
هل الانشغال بمسائل العرفان والسير والسلوك مضيعة للوقت؟
ذات يوم، تحدّث المرحوم العلاّمة عن نفس القضيّة التالية التي أريد أن أذكرها لكم، حيث كنّا في منزل الشيخ مطهّري رحمة الله تعالى عليه، فكان يذكرها له؛ هذا، مع أنّني كنت قد سمعتها سابقًا؛ لكنّني أريد أن أبيّنها لكم بهذا النحو؛ فقد ذكرها للعديد من الأشخاص؛ وكانت آخر مرّة سمعتها منه حينما جاءه مجموعة من أحبّائه من أصفهان وشيراز، لكي يلتقوا به، فاجتمعوا في إحدى جلسات مشهد بباحة منزله، وكان ذلك في فصل الصيف، وفي جلسة عصر الجمعة؛ فألقى كلمة في ذلك اليوم لوجود مناسبة خاصّة، إلى أن بلغ به الكلام أن قال: «حينما كنت في النجف، كنت طالب علم من أهل البحث والدرس، حيث كنت معروفًا بهذا الأمر بين الأفراد هناك»؛ فقد كان المرحوم العلاّمة إنسانًا متميّزًا من الناحية الدراسيّة والتحقيقيّة ومشهورًا بذلك؛ إلى درجة أنّ أساتذته حينما كانوا يُريدون تشجيع بقيّة تلامذتهم على الدراسة، فإنّهم كانوا يقولون لهم: «تعلّموا من السيّد محمّد حسين»؛ فهكذا كان شأنه! فكم من مرّة قال السيّد الشاهروديّ أثناء انعقاد الدرس: «إذا أردتم أن تطرحوا إشكالاً، فاطرحوه بنفس طريقة السيّد محمّد حسين»؛ كما كان الشيخ حسين الحلّي، وهو من فطاحل علماء النجف، يعتزّ بوجود المرحوم العلاّمة في جلسة الدرس؛ وحتّى أنّ المرحوم السيّد الخوئيّ قال له ذات مرّة: «يا فلان! إذا أتيت أنت وسماحة آية الله السيستانيّ حفظه الله تعالى فقط ـ وهو لا يزال على قيد الحياة حاليًّا، كما كان مباحثًا للمرحوم العلاّمة ـ ، فإنّني سأعقد لكما درسًا في الفقه»، حيث لم يكن إلى ذلك الحين قد عقد درسًا في الفقه؛ فكان يقتصر على تدريس الأصول؛ ومراده من ذلك أنّ وجودهما يكفي لكي يشرع في تدريس الفقه؛ فقال العلاّمة رحمة الله تعالى عليه: «أنا لم أوافق؛ لأنّني كنت أحضر درس الفقه عند كلّ من السيّد الشاهروديّ والشيخ الحلّي، لكنّ السيّد السيستاني ذهب عنده برفقة بعض المشايخ، فوافق السيّد الخوئيّ على تدريسهم الفقه»؛ فلم يحضر المرحوم العلاّمة درس الفقه عند السيّد الخوئيّ إلى آخر المطاف؛ فهكذا كان وضعه؛ أي أنّه لم يكن يُضيّع وقته. فكان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يقول: «ذات ليلة، حينما كنّا عائدين من الدرس، دار الحديث عن بعض المسائل، ثمّ انجرّ البحث إلى المسائل العقليّة، وانتهى الكلام»، حيث كان من دأبه وديدنه أن يُرافق السيّد الخوئي إلى باب منزله حينما ينتهي الدرس وتبقى لديه بعض الإشكالات، فيطرحها عليه أثناء الطريق؛ فقال المرحوم العلاّمة: «لقد أتيت عنده، وتابعنا الإشكالات، واستمررنا في الحديث، إلى أن توصّلنا إلى نتيجة معيّنة؛ وفجأة، التفت إليّ السيّد الخوئيّ، وقال لي: يا سيّد محمّد حسين، لا ينبغي على الطالب أن يشغل وقته في هكذا أمور، ويقضيه في المسائل العرفانيّة، والأذكار، وأمثال ذلك، بل عليه أن يقتصر على الدرس؛ وأمّا تلك المسائل، فإنّها ستحصل للإنسان من تلقاء ذاتها؛ هذا، مع أنّنا لا نقدح في عدالة هؤلاء إذا كانوا من أهل العرفان، ولا نُكفّرهم كما يفعل البقيّة، ولا نعتبر ذلك قادحًا في عدالتهم»؛ ومن الجدير بالذكر أنّ البعض فقط قد يلتفت إلى أنّ هذا الكلام كان فيه قدح كبير، وسوف نُبيّن لاحقًا بأنّه كان يذكره للشيخ مطهّري؛ ولو أنّه ذكره أيضًا في ذلك المجلس العامّ؛ إلاّ أنّ استعراضه للتفاصيل تمّ هناك [أي في بيت الشيخ مطهّري]؛ ثمّ قال السيّد الخوئيّ: «لقد كان فلان ـ وذكر اسم أحدهم غير أنّني سأتحاشى ذكره الآن ـ يهتمّ هو أيضًا بهذه المسائل؛ لكن، حينما نهاه أبوه عن الذهاب إلى منزل السيّد القاضي، وتعاطي هذه الأمور، فإنّه أصغى لكلام أبيه، واعتزله، وعاد إلى حيّه»؛ فقال المرحوم العلاّمة: «قلت له: أوّلاً، بالنسبة لقولك إنّ طالب العلم ينبغي عليه الانهماك في دروسه وأبحاثه، أنتم أعلم من الجميع بمقدار اجتهادي وجدّيتي في الدراسة؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّني مستعدّ للتباحث معكم أمام الجميع في أيّة مسألة؛ فنأتي مثلاً إلى المسألة الفقهيّة الفرعيّة الفلانيّة؛ كمسألة: هل المتنجِّس الأوّل منجِّس، أم لا؟ وهي من المسائل المشهورة جدًّا، ونمنح لأنفسنا فرصة أسبوع من أجل المطالعة، ثمّ نتباحث فيها أمام الجميع؛ لنرى من سيتغلّب على الآخر»؛ فقال له ذلك بكلّ صراحة.
فهذا ما يرتبط بالإشكال الأوّل؛ وأمّا بالنسبة لقولكم إنّ هذه المسائل تحصل من تلقاء ذاتها، فدلّوني على أحد صار معه الأمر بهذا النحو؛ أي من دون أن يُؤدّي صلاة الليل، ومن دون أن يلجأ للمراقبة؛ فيصبح فجأة ومن تلقاء ذاته كسلمان الفارسيّ! دلّوني عليه! فأيّ كلام هذا يا عزيزي! فتجد أحدهم يقضي أربعين سنة في طرق هذا الباب، وذاك؛ وقد يعطونه، وقد لا يعطونه؛ فأيّ كلام هذا؟ ومن هذا الذي حصلت له هذه المسائل [من تلقاء ذاتها]؟ هذا بالنسبة للمسألة الثانية؛ وأمّا فيما يخصّ المسألة الثانية التي أشرتم فيها إلى أنّ فلانًا نهاه أبوه [عن الخوض في هذه المسائل]، فإنّ والدي ولله الحمد ارتحل عن هذا العالم، ولا يوجد من ينهاني عن الذهاب إلى هناك!!! ولهذا، فإنّ بالي مرتاح من هذه الناحية؛ فأنا ليس عندي أب ينهاني عن التعاطي لهذه المسائل.
وبعد ذلك، قال للمرحوم مطهّري: «انظر أيّها السيّد! لقد بلغ الأمر حدًّا صار فيه الخوض في أهمّ شؤون الحياة، وفي البحث عن المسائل الإلهيّة، والذكر، والفكر، والمراقبة، وألطف وأدقّ الحقائق المستورة عن الناس يُعدّ أمرًا قادحًا في العدالة!»؛ بمعنى أنّه أصبح الذي يُريد التوجّه إلى الله تعالى كافرًا ومرتدًّا؛ هل التفتّم إلى أين ينبغي أن يؤول إليه الأمر؟! بحيث يقول المرحوم العلاّمة: «هل تظنّون أنّ صدّامًا ظهر هكذا صدفةً؟ لقد كان ذلك عبارة عن عصا إلهيّة!»؛ فتلك الحوزة هي التي عملت على إخراج السيّد حسن المسقطيّ؛ فما كان ذنبه؟ ذنبه أنّه كان يقول: الله. وتلك الحوزة هي التي شهدت على ذهاب الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ والمرحوم الشيخ محمّد رضا المظفّر عند السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ، فقالا له: «نريد البدء في تدريس الفلسفة»؛ أتدرون بماذا أجابهم؟ قال لهم: «أنا أعتقد بأنّ الأموال التي تدخل في سهم الإمام ملك شرعيّ لي»؛ مع العلم أنّ هذه الأموال لا تُملّك، بل إنّ المجتهد يكون وكيلاً عليها، وليس مالكًا لها؛ غاية الأمر أنّ رأيه كان بذلك النحو، ونحن لا دخل لنا الآن في الآراء الفقهيّة لأيّ واحد؛ فكان يقول: «أنا أعتقد بأنّ الأموال التي تدخل في سهم الإمام ملك شخصيّ لي؛ وأنا لا أرضى بصرف ريال واحد من مالي الشخصيّ على طالب العلم الذي يدرس الفلسفة والعرفان!»؛ فحوزة النجف هذه هي التي ينبغي أن يأتيها صدّام، ولا يُبقي لها أيّ أثر؛ أ فهل يرضى أمير المؤمنين عن حوزة النجف تلك؟ عن هذه الحوزة التي تُكفّر المرحوم القاضي؟ ومن هو المرحوم القاضي؟ لقد شاهدتم ما كتبه العلاّمة رحمة الله تعالى عليه عنه في كتبه، حيث كان أستاذًا للسيّد عبد الكريم الكشميريّ، وللمرحوم الحدّاد، ولنفس سماحة آية الله البهجة، وللشيخ محمّد تقيّ الآمليّ؛ والذي كان كلّ واحد منهم حقيقةً... ؛ فهذا يستحقّ أن يصير كافرًا بسبب مسلكه العرفانيّ؛ لكن، من الذي يستحقّ أن يضحى مقرّبًا؟ أفرادٌ يستحيي الإنسان أن يُطلق عليهم اسم حجّة الإسلام، وآية الله! فالذين يُقرّبون هم الذين يأتون عند المرحوم العلاّمة، ويقولون له: «أحيانًا، قد يكون الإنسان عالمًا بموضع رضا الله تعالى، لكنّه يسلك منهجًا مخالفًا عند اقتضاء المصلحة»؛ فأمثال هؤلاء يصيرون مقرّبين! إنّ هذا الكلام الذي أذكره لكم حقيقيّ، وليس كاذبًا؛ ثمّ قال المرحوم العلاّمة: «عن قريب إن شاء الله تعالى، ستُشيّد حوزة في النجف تكون موافقة لرضى أمير المؤمنين عليه السلام».. إن شاء الله تعالى.
نرجو من العليّ القدير ألاّ يكلنا إن شاء تعالى إلى أنفسنا، وأن يُوفّقنا لاجتياز الاختبار بذلك النحو الذي يحظى برضاه، وللعمل بتلك العلوم والمعارف وبكلّ ما بلغ أسماعنا؛ كما ندعوه سبحانه أن يُعجّل في فرج إمام الزمان عليه السلام، ويجعلنا من أتباعه وأنصاره، ويردّ كيد أعداء الإسلام عليهم، ويُبارك في نصرة المدافعين عن حريم الإسلام والتشيّع، ولا يحرمنا من ولاية أهل البيت عليهم السلام في الدنيا والآخرة.
اللَهمَّ صلِّ عَلى مُحمَّد وآل مُحمَّد