المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحقيقة العبودية
التوضيح
من أيّ مقام تصدر كافّة العلوم الإلهيّة وغيرها؟ كيف تتعاطى النفس مع العلم حينما تتلقّاه؟ ما هو معنى العلم غير النافع في كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ ما هي الجرائم التي قد تُرتكب نتيجة للعلم الخالي من التهذيب؟ وما هو دور التهذيب في صيانة العلم من التغيير؟ هي أسئلة سعى سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه الجلسة التاسعة والعشرين التي عقدها لشرح حديث عنوان البصريّ؛ علاوةً على استعراضه لمجموعة من القصص والنماذج الفريدة في هذا المجال.
هو العليم
أهمّية تهذيب النفس قبل طلب العلم
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
يقول الإمام الصادق عليهالسّلام: «فَإنْ أرَدتَ العِلمَ، فَاطْلُبْ أوّلًا فى نَفسِكَ حَقيقه العُبوديَّة».
فقبل العلم، وقبل التعلّم وتحصيل المعلومات، اذهب، وحقّق في نفسك العبوديّة لله تعالى؛ لماذا؟ وما هي العلاقة القائمة بين العبوديّة والعلم؟ أ فهل يوجد إشكال في التعلّم من دون عبوديّة؟ فأيّ إشكال في أن يتعلّم الإنسان الرياضيات من دون أن يكون مسلمًا؟ أ فليس العديد من العلوم الشائعة الآن بين الناس قد جاءتنا من الكفّار؟ أ فلم يصلنا هذا التقدّم والرقيّ الذي نشهده على مستوى العلوم الظاهريّة من البلدان الكافرة؛ مع أنّها تفتقر للإيمان، فضلاً عن أن تكون بلغت مستوى العبوديّة؟
نموذج عن العالم غير المهذّب
ونُشاهد في الكثير من الروايات والأحاديث إضفاء الأهمّية على جانب التزكية قبل جانب العلم، والاهتمام بجانب تهذيب النفس قبل جانب التعلّم؛ فيُقال على سبيل المثال: إذا أراد مريضٌ الذهاب إلى الطبيب لكي يُجري له عمليّة جراحيّة، فإنّ مسألة خدمة هذا المريض ومراقبته ورعايته تفوق أهمّيةً نفس العمليّة؛ أي أنّ مسألة التمريض بعد العمليّة تكون بالنسبة إلى المريض أهمّ من نفس العمليّة التي يُجريها الجرّاح؛ إذ لولا مسألة التمريض، لتعفّن موضع العمليّة مباشرةً؛ ممّا سيُؤدّي إلى وفاة المريض. فصحيح أنّ العمليّة تمّت؛ لكن، إذا لم يُعتن بالمريض، وتُعط له الأدوية اللازمة بعد ذلك، وتوضع له الضمادات، وتُطهّر جروحه، فإنّ تلك العمليّة لن تُثمر، ولن تُجنى منها أيّة فائدة.
كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يحكي عن طبيب بلجيكيّ جاء إلى إيران قبل مدّة طويلة، وكان مسيحيًّا، إلاّ أنّه أسلم هنا وصار شيعيًّا، بسبب المعجزات التي شاهدها بأمّ عينيه من الإمام الرضا عليه السلام، ويوجد قبره في ضريح الربيع بن خثيم (الخواجة ربيع)، حيث زرته بنفسي بصحبة أحد الرفقاء، وقرأت له سورة الفاتحة؛ وأعتقد بأنّ العلاّمة رحمة الله تعالى عليه تحدّث عنه في أحد كتبه، لكنّني لا أتذكّر في أيّ موضع؛ وأظنّه قد أتى على ذكر اسمه؛ لأنّه ـ على ما يبدو ـ أمرني أن أعثر على قبره، وآتيه بتلك العبارة المكتوبة عليه؛ فذهبت إلى ضريح الخواجة ربيع، حيث يتواجد هناك. لقد جاء هذا الطبيب إلى إيران في عهد رضا شاه، وقدّم العديد من الخدمات؛ فكان يُجري العمليّات الجراحيّة بنفس مستشفى الإمام الرضا الموجود حاليًّا بمشهد؛ وكانت هذه العمليّات تُكلّل بالنجاح الفائق. والعجيب أنّ العديد من الأطبّاء في المستشفى كانوا يلجؤون إلى تلويث موضع الجرح بعد العمليّة، حتّى يُفسدوا عمله؛ ممّا يُؤدّي إلى وفاة المريض! ولا بدّ أنّ الرفقاء قد اكتشفوا من هذا الأمر سبب الحكم بضرورة التهذيب قبل العلم، حيث نرى بأنّ مسيحيًّا قد أتى، وأسلم، وتشيّع بسبب مشاهدته لمعاجز الإمام الرضا عليه السلام، بينما نجد المسلم والمتشيّع للإمام الرضا يأتي ويقوم بذلك العمل! ويبدو أنّ ذلك الطبيب كان اسمه «بوش فلكرن»؛ وأنا على يقين بأنّه أتى على ذكر اسمه؛ لأنّني أذكر بأنّه طلب منّي أن آتيه بالعبارة المكتوبة على قبره؛ فذهبت ذلك اليوم. فما هو السرّ في أن نجد في جميع هذه الروايات حديثًا عن ضرورة السعي وراء التهذيب قبل الخوض في طلب العلم؟ ولماذا ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو؟ وبدوره، فإنّ الإمام الصادق يأمر عنوان البصريّ بالتزكية قبل العلم، ويقول له: «قبل أن تطلب العلم، اذهب أوّلاً، وزكّ نفسك»؛ هذا، مع أنّه عليه السلام ليس من طبيعته المزاح أو البخل؛ وبعبارة أخرى أنّه "لا يُرسل أحدًا للبحث عن الحمّص الأسود!"۱ فما هو مراد الإمام عليه السلام إذن من إعطاء كلّ هذه الأهمّية للتهذيب قبل العلم؟
صدور كافّة العلوم من الأسماء الإلهيّة الكلّية واسم الله العليم
لا ريب في أنّه بمقتضى قاعدة تنزّل مراتب الأسماء والصفات الكلّية، فإنّ جميع ما ينكشف للإنسان يصدر من العالم العلويّ والملأ الأعلى؛ ويبدو أنّنا تحدّثنا قليلاً عن هذه المسألة فيما سبق، حيث إنّ كافّة العلوم التي ينالها الإنسان تنشأ من الملأ الأعلى؛ فتأتي من ذلك العالم، وتظهر بصور مختلفة باختلاف القوالب التي تتجلّى فيها؛ سواء كانت هذه العلوم ذات صلة بالهندسة، أو الطبّ، أو العمارة، أو الفلاحة، أو طبقات الأرض، أو الحقائق السماويّة؛ فهي بأجمعها علوم، وهذا ممّا لا شكّ فيه، حيث نُلامس بأنفسنا تطبيقاتها والمناهج التي تسير عليها؛ فحينما تُقلع الطائرة مثلاً من مكان معيّن، فإنّها تكون خاضعة في حركتها للقوانين الطبيعيّة؛ نظير قانون الجاذبيّة؛ ولهذا، لا يُمكنها أن ترتفع في الهواء، إلاّ من خلال الأخذ بمبدأ الثقل، ومبدأ قوّة الدفع، وبقيّة المبادئ والقوانين التي أوجدها الله تعالى في المادّة؛ كما أنّها تُحلّق عاليًا وتظلّ ساكنة في الأجواء في ظلّ مجموعة من المعايير الخاصّة؛ ثمّ تهبط على الأرض اعتمادًا على قوانين معيّنة؛ ولهذا، ينبغي أن تكون هناك مطابقة بين أجنحة هذه الطائرة، وبين حجمها ووزنها؛ كما يجب أيضًا أن يوجد انسجام بين محرّكها وقوّتها الدافعة، وبين وزنها وبقيّة المسائل التي قد تحدث؛ لكن، من أين تعلّم الإنسان كلّ هذه الأمور؟ تعلّمها من مشاهدة الطيور وتحليقها؛ فحينما تُريد أن ترفرف بأجنحتها، فإنّها تفعل ذلك بطريقة خاصّة، وحينما تُريد أن تُحلّق بسلاسة، فإنّها تجعل أجنحتها بشكل خاصّ، حيث أودع الباري عزّ وجلّ القوانين الطبيعيّة في وجود الطيور بنحو أحسن؛ وحينما بدأ الإنسان يتأمّل فيها، راودته شيئًا فشيئًا فكرةُ صناعة أداة تُمكّنه من التحليق مثلها؛ ومع مرور الأيّام، ازداد تطوّره، وتمكّن من الحصول على تقنيات أفضل؛ فاستطاع بذلك أن يتفوّق حتّى على الطيور؛ وهكذا الشأن في بقيّة المجالات.
فما هو مصدر ذلك كلّه؟ إنّ هذه العلوم التي يحصل عليها الإنسان عبارة عن مظاهر للأسماء الإلهيّة الكلّية التي تجلّت في نفسه بهذا الشكل؛ فهذه العلوم هي في أصلها أمور مفيدة لرقيّ الإنسان، وبلوغه نتائج أفضل. في أحد الأيّام، كان السيّد القاضي رضوان الله تعالى عليه متواجدًا في مجلسه، فجاءه أحد تلاميذه، وقال: «يا سيّدي، لقد جاؤوا حديثًا بمادّة ـ حيث لم يكن معروفًا في تلك الأيّام القطران والنفط ـ ، وبدؤوا يستعملونها في تعبيد الشوارع، بحيث إنّه إذا صببنا عليها الماء، فإنّه لا ينفذ إلى داخل أرضيّتها»؛ وكان يقصد من ذلك الأسفلت؛ لأنّ الشوارع في ذلك الحين كانت تُعبّد بالتراب؛ لتسير فوقها بعض الوسائل النقليّة غير الدوابّ وأمثالها؛ لأنّها كانت قد استُبدلت بالسيّارات وغيرها من الوسائل النقليّة. فقال السيّد القاضي رضوان الله تعالى عليه: «إنّه لأمر جيّد بالنسبة للسالك»؛ ما معنى ذلك؟ معناه أنّ السالك لا يمتلك وقتًا كثيرًا لأداء أعماله، وفرصته ضيّقة؛ ولهذا، فإنّ هذه الوسائل ستُمكّنه من الاستفادة من وقته بنحو أفضل، والاهتمام أكثر بالمسائل التي تحظى بأهمّية أكبر؛ وعلى حدّ قول العلاّمة رحمة الله تعالى عليه: في الزمان الماضي، كان على زائر الإمام الرضا عليه السلام أن يستعين في سفره بالجمال والحمير والأحصنة والهوادج وأمثال ذلك؛ فيستغرق سفره ثلاثة أشهر أو شهرًا واحدًا، حيث كانت مدّة السفر من طهران إلى مشهد تبلغ شهرًا واحدًا أو عشرين يومًا، مع كلّ الأخطار التي تُواجهه؛ فما هو الأفضل: أن يقضي الإنسان كلّ هذه المدّة في الطريق، أو أن يقضيها في مشهد عند الإمام الرضا عليه السلام؟ وأيّهما أحسن؟ من الواضح أنّ الخيار الأخير هو الأفيد بالنسبة للسالك.
فهذه العلوم لا تستتبع في حدّ نفسها أيّ ضرر؛ لأنّها عبارة عن حقائق صدرت من الاسم العليم، وتنزّلت على نفوس الناس، والذين يتلقّونها، ويسعون لتطبيقها؛ فلا يوجد أيّ إشكال في هذه المسألة بحدّ ذاتها؛ لكن، لماذا ينبغي أن تقترن هذه المسألة بتهذيب النفس؟ هذا، مع أنّنا نتحدّث هنا عن المعارف الإلهيّة ذات الصلة بالمبدأ والمعاد، ورقيّ الإنسان في مدارج الكمال، والتي ينبغي أن تكون مقترنة بتهذيب النفس؛ لكن، بمقدورنا أن نوسّع من دائرة البحث، لتشمل حتّى بقيّة المعلومات والعلوم الظاهريّة.
تعاطي النفس الرحمانيّ أو الشيطانيّ مع العلم
فكما أسلفنا الذكر، فإنّ نفس هذا العلم وهذه الحقائق تتنزّل من الأعلى إلى الأسفل؛ فتمرّ من المراتب الكلّية، ثمّ المراتب الجزئيّة، إلى أن تصل إلى نفس الإنسان في عالمي النفس والملكوت الأسفل؛ فتستقرّ في هذه النفس؛ وحينما تُريد أن تلج إلى النفس، تكون هذه هي اللحظة الحاسمة؛ إذ ينبغي أن نرى هنا كيفيّة تعاطي النفس مع هذه المسألة؛ فحينما تقع النفس في مواجهة هذا الأمر، فإنّ بارقة تخطر في ذهنها مفادها: إذا قمت بالعمل الكذائيّ، فإنّنا سأتوصّل إلى النتيجة الفلانيّة. فهذا العمل والاختراع هو أمر واقعيّ، وظاهرة خارجيّة، إلاّ أنّ الكلام يدور حول تلك اللحظة التي تصطدم فيها تلك الشرارة بذهن الإنسان، وتستقرّ تلك الفكرة في نفسه؛ والتي مفادها: «إنّني أقوم بهذا العمل لكي أتوصّل إلى تلك النتيجة»؛ فهنا يبرز دور النفس؛ فإذا كانت نفسًا صالحة، فإنّها تضع ذلك العلم في موضعه الخاصّ ومكانته الخاصّة اعتمادًا على القواعد المنطقيّة، ومبدأ العبوديّة؛ بنحوٍ يُساهم في تحقيق مصلحتها، ويُؤدّي إلى رقيّها ورقيّ أفراد الإنسانيّة، والناس المحيطين بها، ومجتمعها، والمجتمع الإنسانيّ بصفة عامّة؛ لكن، إذا كانت هذه النفس ملوّثة، ولها نيات سيّئة، وخاضعة للأهواء النفسانيّة، ولم تصل إلى مرتبة العبوديّة، فما إن تخطر تلك البارقة في ذهنها، حتّى تقول: «إنّني أتوصّل إلى هذا الاكتشاف حتّى أحقّق منافعي الشخصيّة»؛ والمراد من هذا كلّه أنّه: حينما يتنزّل العلم إلى الأسفل؛ ففي تلك اللحظة التي تُريد النفس أن تتلقّى هذا العلم، فإنّ المسألة تتّخذ أحد مسارين اثنين: أحدهما يكون منسجمًا مع العبوديّة، والآخر غير منسجم معها.
فلنفرض مثلاً أنّك جالس في بيتك؛ فطُرق الباب، وجاء أحدهم، وقال لك: «أيّها السيّد! يوجد مبلغ من المال أريد أن أمنحك إيّاه، لكي تُنفقه في الأمور الخيريّة، وفي كلّ ما ترى فيه مصلحة»؛ فلنفرض أنّ التقدير والمشيئة الإلهيّين تعلّقا بصدور هذا الرزق من لدن الاسم الرزّاق، فتنزّل عن طريق عدّة وسائط، إلى أن وقعت القرعة على اسمك؛ فأتى أحدهم، ووضع ذلك المبلغ تحت تصرّفك، وأمرك بتوزيعه؛ فحينئذ، بعدما حصل لك علم واطّلاع على إمكانيّة تحقّق هذه المسألة في الخارج، وجرى وضع ذلك المال تحت تصرّفك، فإنّ نفسك قد تحصل لها إحدى حالتين: الحالة الأولى أنّه حينما يُقترح عليك ذلك المبلغ، فإنّ نفسك تقبله مباشرةً، لكنّها تطرده عن ذاتها، وتُوزّعه على المستحقّين منذ البداية؛ أي من دون أن تتأمّل ولو للحظة واحدة؛ فالاقتراح صدر من شخص آخر، وأنت هنا مجرّد واسطة؛ فيقول لك ذلك الشخص: «أيّها السيّد، لقد وضعت مليونًا تحت تصرّفك، فوزّعه على مجموعة من الناس في سبيل الله تعالى، وأنفقه في الأمور الخيريّة»؛ هذا، مع أنّه لا يقول هنا: «أعطه للفقراء»، بل يقول: «أنفقه في الأمور الخيريّة»؛ فإذا كانت لنا نفسٌ مثل نفس النبيّ، فمن الواضح أنّه إذا اقتُرح عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا المبلغ، فإنّه لن يُبقيه في نفسه ولو للحظة واحدة، بل سيعثر له على موارد للإنفاق، ويُنفقه قبل أن يصل إليه! فهو مجرّد وسيلة ومجرى عَبَر منه ذلك المال، وذهب؛ من دون أن يظلّ، أو يجد له مكانًا، أو يستقرّ فيه؛ أجل، قد يُفكّر قليلاً فيمن يستحقّ أكثر أخذه، ومن تكون له الأولويّة في ذلك؛ كأن يكون مضطرًّا مثلاً، أو يتحلّى بمجموعة من الخصائص المعيّنة؛ لكنّ أصل المال لا يبقى في نفسه؛ وهذا هو محلّ كلامنا! فذلك المال لم يتوقّف هنا؛ لكنّ الأمر يتعلّق في هذا المقام بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإمام عليه السلام، والوليّ الذين لا يمتلكون نفسًا؛ إذ حينما لا يكون الإنسان متوفّرًا على نفس، فأين يُمكن لذلك المال أن يتوقّف؟ لأنّ المفروض أن تكون هناك نفس حتّى تقبله. لكن، تعالوا بنا نتنزّل قليلاً عن هذه المرتبة؛ إذ تجد أحيانًا أحدهم مبتلى، شأنه في ذلك شأن البقيّة؛ فكما أنّ الآخرين يعانون، فإنّه يُعاني بدوره أيضًا؛ ولهذا، حينما يُقترح عليه ذلك المبلغ، فإنّه يُفكّر قليلاً، ويقول مع نفسه: «يوجد لديّ بعض الأصدقاء المحتاجين، وهناك أيضًا في هذا الحيّ بعض المستضعفين الذين يُعانون من الفقر؛ ولهذا، من الأفضل أن أمنح هذا المبلغ لسكّان هذا الحيّ؛ عوضًا أن أهبه لسكّان الحيّ السفليّ؛ إذ يوجد من بين قومي وعشيرتي بعض الأفراد المعوزين؛ وبالتالي، من الأحسن أن أنفقه عليهم هم»؛ فيبدأ يُناور، ويُقلّب هذه المسألة؛ هذا، مع أنّه لا يحتفظ لنفسه بأيّ شيء من ذلك المبلغ؛ لكنّه يهبه لأهله، وعشيرته، وجيرانه، والمقرّبين إليه، والأفراد الذين يلتقي بهم ويُسلّم عليهم كلّ يوم؛ فهذا نوع من الناس!
لكن، تعالوا بنا نتنزّل أكثر قليلاً؛ فتجد أحدهم يقول مع نفسه: «أنا بدوري لا أمتلك شيئًا، وأنا أيضًا واحد من هؤلاء». يُحكى أنّ أحدهم كان يُنفق كلّ ما يقع بين يديه من أموال من دون أن يحتفظ لنفسه بأيّ شيء؛ وفي أحد الأيّام، قالت له زوجته: «يا عزيزي، نحن أيضًا من هؤلاء؛ فكما أنّك تذهب وتُنفق كلّ ما تظفر به على هذا وذاك، اعتبرنا نحن كذلك من هؤلاء الفقراء!». فحينما حصل له هذا العلم والاطّلاع، فإنّ ذلك فسح له المجال لكي يقول: «فلأحتفظ بنصف المبلغ لنفسي، ولأمنح نصفه الآخر مثلاً إلى أهلي وعشيرتي!»؛ فهل لاحظتم إلى ما آل إليه الأمر هنا؟ لقد أصبحنا نبتعد شيئًا فشيئًا عن عبوديّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونتنزّل أكثر فأكثر؛ حتّى نصل في نهاية المطاف إلى أن نضع في جيبنا كلّ ما يُحضروه لنا؛ وهنا الطامّة الكبرى! فلنفرض مثلاً أنّك جالس، فجاء عندك أحد، وقال لك: «أيّها السيّد، توجد فتاة تطلب الزواج؛ وتتحلّى بالصفات الكذائيّة، ولا يوجد من يخطبها؛ وقد بلغت سنّ الزواج؛ أو قد يوجد من يخطبها، لكنّها تبحث عن زوج صالح، ومتديّن، وملتزم، وغيور، وواعٍ، وعاقل»؛ فتسأله: «حسن جدًّا، تعال أوّلاً، وحدّثني عن مميّزاتها؛ إذ ينبغي أن نرى في البداية ما هي قيمة هذا المتاع!!!».
ـ نعم، إنّها تبلغ كذا من العمر، وصفاتها الظاهريّة هي بالشكل الفلانيّ، والباطنيّة بالنحو الكذائيّ، وتتحلّى بالكمالات الفلانيّة، و...
فتقول حينئذ: «يا للعجب! أين كنت أيّها القلب الغافل، حتّى تغيب عنك مثل هذه الفرصة؟»؛ وأمثال هذه الكلمات...
وأنا أسألكم: لو فرضنا أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان جالسًا، وجئت عنده، لكي تُخبره بهذا الأمر، فما هو أوّل شيء سيخطر على باله الشريف؟ هل سيُفكّر في الاحتفاط بالفتاة لنفسه؟ أم في ماذا سيُفكّر؟ بمجرّد أن يُواجه هذه المسألة، فإنّه سيشعر في نفسه بأنّه عبارة عن وسيلة وأداة، فيبحث في ذهنه عن غير المتزوّجين من أهل المدينة وشبابها، ويختار من بينهم أفضل رجل ملائم لهذه الفتاة، ثمّ يقول: «عثرت عليه.. نادوا على فلان لكي يأتي عندي»، وحينما يأتي عنده، يقول له: «ألم تتزوّج لحدّ الآن؟»، فيُجيبه: «لا، يا رسول الله، لم أتزوّج!»؛ فيقول له: «حسن جدًّا، توجد هذه الفتاة، هل تقبل بها؟»؛ فيُجيبه: «لماذا لا أقبل؛ وهل يطلب الأعمى من الله تعالى أكثر من يمنحه عينين؟!۱»؛ فيُجري الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم العقد في تلك اللحظة، ويضع يد الرجل في يد الفتاة، ويُرسلهما إلى البيت، حيث يأمر بتأجير بيت لهما يتوفّر على غرفة، و...؛ فهذا هو الأمر الذي سيفعله النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وأمّا نحن، فما الذي سنقوم به؟ سنقول: «تعال، وأخبرني من هو الرجل الذي تبحث عنه هذه الفتاة؟ وما هي الصفات التي تشترطها فيه؟ فعلينا نحن أيضًا أن نرى، ونطّلع على حقيقة الأمر...»؛ فلا تمرّ ساعتان، حتّى يعقد على الفتاة على نفسه، ويتزوّجها زواجًا مؤقّتًا! لقد أتت الفتاة المسكينة بحثًا عن زواج دائم؛ فإذا بها تجد نفسها زوجة مؤقّتة لذلك السيّد! فما هو السبب في كلّ ذلك؟ إنّها النفس يا عزيزي! ولماذا الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يُقدم على هذا الفعل؟ لأنّه لا يمتلك نفسًا؛ ولماذا لا يقوم الإمام عليه السلام بهذا العمل؟ لأنّه لا يمتلك نفسًا؛ فهو يرى نفسه عبدًا.. أ فهل يقدر العبد على التصرّف في ممتلكات مولاه؟ وهل يُمكنه أن يحتفظ لنفسه بتومان واحد؟ فإذا عثر على ماسة ملقاة على الأرض، توجّب عليه تسليمها لربّ البيت؛ وإذا وجد فلسًا من نحاس، تعيّن عليه أيضًا تقديمها له؛ فلا يُمكنه القيام بأيّ شيء؛ سواءً أخذ من الأرض ماسة، أو فلسًا لا يساوي شيئًا؛ فحينما يكون الإنسان عبدًا، فإنّه لا يقدر على فعل أيّ شيء.
هذا، وبوسعكم تسرية هذه المسألة إلى جميع الموارد، وكافّة ما يحصل عليه الإنسان من معلومات، ومرزوقات، وإمكانيّات، وقيم، وأموال، و... .
جاءني أحدهم، وقال لي: «يا سيّدي! أريدك أن تنصحني، وأنا أحبّ أن أستفيد منك وأنتفع من محضرك»؛ فقلت له: «يا عزيزي! هذا لا يصحّ، أين نحن من ذلك...»؛ والأمر هو حقيقةً كذلك؛ فأنا بنفسي أحتاج لمن ينصحني؛ كما أنّه لا توجد آية تُحتّم عليّ أن أنصح الآخرين!! وحينما رأيت أنّه يُصرّ كثيرًا على طلبه، قلت له: «سوف أطلب منك شيئًا، متى ما تمكّنت من تحقيقه، تعال عندي لكي أنصحك»؛ فقال لي: «ما هو؟»؛ قلت له: «متى ما وجدت حالك حين أداء القرض يستوي مع حالك حين الاقتراض، في ذلك الحين تعال عندي»؛ فحينما يذهب الإنسان عند أحد ليقترض منه، ما هي الحالة التي يكون عليها؟ لو أمكنه أن يمتطي صاروخًا، حتّى يصل مباشرةً إليه، ليقول له: «تعال أيّها السيّد، سوف أقرضك عشرة ملايين، واذهب مثلاً، لكي...»، لفعل ذلك؛ وأمّا عندما يحلّ موعد أداء القرض، ... فقلت له: «متى ما كان حالك حين الوفاء بالدين يستوي مع حالك حين الاستدانة ـ وليس حتّى أكثر؛ لأنّنا لا نريد الحديث عن ذلك الآن، حيث تجد البعض يكون قضاء الدين أسهل عليهم بكثير من الاستدانة ـ ففي ذلك الوقت تعال عندي؛ فإذا كانت هناك بعض المسائل، فإنّني سأضعها تحت تصرّفك»؛ وخلاصة القول، فإنّه ذهب، ولم يرجع بعدُ!! ولعلّه لا زال عاکفًا على هذه المسألة لحدّ الآن، أو يُمكن أنّه شعر باستحالة تحقيقها، فلم يرغب في أن ... فما هو السبب في ذلك؟ السبب في ذلك هو ما ذكرناه؛ فهذا هي حقيقة السلوك يا عزيزي!
فقد يتفضّل الباري عزّ وجلّ بنعمة على الإنسان؛ وحينئذ، ما إن يضعها تحت تصرّفه، حتّى يتبلور نوع علاقته بها، وكيفيّة تعاطيه معها؛ فإذا كان الإنسان متحقّقًا بالعبوديّة، فإنّه لن يرى هذا النعمة من نفسه أبدًا؛ وسيقول: «ما أنا إلاّ عبد! وفي نهاية المطاف، من شأن الله تعالى أن يهب عبده الوسائل والإمكانيّات التي يحتاجها»؛ ولهذا، فإنّه لا يتوجّه إلى هذه الوسائل، بل إلى مبدئها.
القراءة السنّية الخاطئة لزواج الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم من زينب بنت جحش
فالإشكال الذي يذكره أهل السنّة بخصوص الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم مرفوض جملةً وتفصيلاً، وذلك حينما ذكروا في قصّة زينب: إنّ النبيّ دخل في أحد الأيّام إلى منزل زيد، فما إن وقعت عينه على زينب حتّى قال: «سبحان الله!»؛ إذ كانت زينب امرأة جميلة تنتمي إلى أسرة عريقة، بينما كان زيد ابنًا للرسول بالتبنّي؛ فلم يكن هناك انسجام بينهما منذ البداية؛ وأعتقد بأنّ الأصدقاء والرفقاء مطّلعون على هذه القصّة. وعلى أيّ تقدير، فقد كان زيد يأتي عند الرسول، ويقول له: «يا رسول الله! إنّ هذه المرأة لا تفتر عن تعييري: أنت بهذا النحو، وأنا بذلك النحو؛ أنت لا أصل ولا فصل لك؛ أنت ابن بالتبنّي! وذلك أنّ زيد بن حارثة كان أسيرًا، فجاؤوا به، وباعوه، واشتراه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وبعد مدّة من الزمان، جاء أبوه حارثة إلى مكّة؛ فخيّر النبيّ زيدًا بين أن يرجع مع أبيه، أو يبقى عنده، فقال زيد: «أنا لن أعود، وأنا أختار منزلك، ولن أرجع إلى قبيلتي».
وهناك، أعلن حارثة قائلاً: «يا أيّها الناس! اشهدوا أنّ زيدًا ليس ابني»؛ فقال الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أيّها الناس! إنّ زيدًا ابني أنا»؛ فحينما طرده أبوه، تبنّاه النبيّ؛ فكانوا ينادونه بزيد بن محمّد؛ إلى أن نزلت الآية التي تقول إنّ أدعياءكم ليسوا أبناءكم، وعليكم أن تُلحقوهم بآبائهم؛ فأصبحوا يدعونه بزيد بن حارثة؛ لكنّه كان يُدعى قبل ذلك بزيد بن محمّد؛ وهذا نظير ما وصلنا عن محمّد بن أبي بكر أنّه كان يُسمّي نفسه في البداية محمّد بن عليّ، وكان يقول: «أنا لست ابنًا لإنسان بذلك الشكل، بل أنا ابن عليّ!»؛ فكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول أيضًا: «إنّ محمّدًا هذا ابني!»؛ أي أنّه حاز على مكانة رفيعة؛ فهل تعلمون من كان محمّد بن أبي بكر؟ لقد كان من ضمن أولئك الثلاثة الذين اعتبرهم الإمام الرضا عليه السلام من الشيعة حينما جاءته تلك الجماعة إلى بيته تدّعي أنّها من الشيعة، فقال: «شيعتنا ثلاثة: سلمان والمقداد ومحمّد بن أبي بكر»؛ فعدّ عليه السلام محمّد بن أبي بكر من هؤلاء الرجال الثلاثة؛ فلاحظوا معي أيَّ ابن هذا يخرج من صلب ذلك الأب!
لقد جاء الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم يومًا إلى بيت [زيد]، وقال: «سبحان الله! إنّها جميلة جدًّا»؛ ثمّ مرّت مدّة من الزمان على هذه الحادثة، إلى أن ازدادت حدّة الخلافات بين زينب وزيد؛ فنفذ صبر زيد، فأذن له النبيّ بالطلاق إن أراد ذلك، حيث لم يعُد قادرًا على العيش بذلك النحو؛ وحينما طلّقها، جاءه أمرٌ بالزواج من زينب؛ فشقّ ذلك كثيرًا عليه؛ إذ ما عساه أن يقول للناس؟ أ فهل من الممكن لأحد مثلاً أن يتزوّج بكنّته؟ لأنّها كانت كنّته؛ باعتبار أنّ الناس كانوا يتعاملون مع زوجة الابن بالتبنّي معاملة الكنّة (أي زوجة الابن).
وهنا يذكر أهل السنّة مسألة خاطئة، حيث يقولون: «بما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعجبته زينب، فإنّه استخدم بعض الأمور، لكي يوقع الخلاف بينها وبين زيد، ويُفسح له المجال للتزوّج بها»؛ لكنّنا نعلم أنّ الذي يلتذّ بهكذا مسائل، ويُعجب بها ليس من شأنه أن يكون نبيًّا؛ إذ ما الفارق حينئذ بينه وبين بقيّة الناس العاديّين؟ فنحن نجد أنفسنا أيضًا بهذا الشكل؛ فإذا كانت تلك العلاقة الظاهريّة والمادّية القائمة بين جميع الناس متحقّقة في نفسه هو أيضًا، فما هو الفارق ـ والحال هذه ـ بينه وبينهم؟ فالنبيّ لا يكون نبيًّا، إلاّ إذا لم يوجد بالنسبة إليه أيّ فارق في التأثير بين الجمال وغير الجمال؛ إذ إنّ مسألة الجمال في كفّة، ومسألة تأثير هذا الجمال في النفس، وردّة الفعل التي تصدر من النفس تجاه هذه المسألة في كفّة أخرى؛ فصحيح أنّ الجمال جمال؛ والرسول يلتذّ من رؤيته للورود؛ كما أنّه إذا نظرنا نحن أيضًا إلى الورود الحمراء، وأزهار الياسمين، وغيرها من الأزهار بمختلف ألوانها، أفلا نجد فارقًا بينها وبين الحجارة السوداء؟ فإذا كان الإنسان إنسانًا، فإنّه سيُميّز بينها؛ أ فلا يُفرّق الإنسان بين اللوحة البديعة التي خُطّت باليد الخلاّقة لأحد الفنّانين، وبين الجصّ المنحوت على الحائط؟ ففي غير هذه الحالة، سيكون أخرقًا جدًّا! لكن، يبقى أنّ كلامنا ينصبّ على ذلك العلم والاطّلاع الذي يحصل للرسول في تلك اللحظة، وفي تلك المرتبة؛ فما هو التأثير الذي سيتركه هذا الاطّلاع على ذلك الجمال في نفس رسول الله؟ لا شيء! صفر! فإلى هذا الحين، كانت تلك المرأة زوجة زيد؛ وهي بعد ذلك زوجة زيد أيضًا؛ والرسول شاهد مجرّد صورة ورحل، ورأى حجرًا وذهب، وشاهد خشبًا ورحل... . فحينما تمشون في الشارع، وتُصادفون الآلاف المؤلّفة من المسائل والموضوعات، هل يبقى شيء منها في أذهانكم؟ فترون مثلاً المصباح الكهربائيّ، والسيّارات، والأحجار، والجداول، والمياه، والأوراق الملقاة على الرصيف، والآلاف المؤلّفة من الأشياء الأخرى، ثمّ تتخطّونها؛ وما إن تصلون إلى بيوتكم؛ حتّى لا يبقى أيّ واحد منها في بالكم، ولا يظلّ حائزًا على اهتمامكم.. لماذا؟ لأنّ ذلك العلم والاطّلاع لم يكن له أيّ داعٍ لكي يستقرّ في أنفسكم؛ فتلك كانت مجرّد ورقة ملقاة على الأرض، لُفّت، وذهبت، وذلك كان مجرّد عقب سيجارة أُلقي على الرصيف، وذهب؛ فلا يوجد أيّ داع أو مبرّر لكي يشغل بالكم، ويبقى في أنفسكم؛ لكن، افرضوا مثلاً أنّكم تمشون فوق الرصيف؛ فإذا بكم تُشاهدون أسورة سقطت من امرأة على الأرض، وتكتشفون بأنّها من ذهب، وأنّها تحظى بقيمة عالية: خمسمائة ألف، أو مليون، أو مليوني تومان؛ ففي هذه الحالة، حتّى إذا لم تأخذوها، أ لن تبقى عالقة في أذهانكم؟ ولهذا، حينما ترجعون إلى البيت، فإنّكم ستقولون لزوجاتكم: «بالمناسبة، كنت أمشي في الشارع، فرأيت أسورة ملقاة على الرصيف؛ وحينما دقّقت النظر فيها، وجدتها تُساوي مليون تومان!»؛ لكن، لماذا لن تقولوا لهنّ: «عندما كنت أمرّ في الشارع، رأيت عقب سيجارة ملقى على الأرض»؟ وما هو السبب الذي يمنعكم من القول: «حينما كنت أمشي على الرصيف، رأيت ورقة ملفوفة على الأرض، وقليلاً من التراب المستعمل في البناء إلى جانب الرصيف»؟ لماذا؟ لأنّ النفس لم تصل بعدُ إلى مرتبة العبوديّة.
أراد معاوية أن يمدح أمير المؤمنين، فقال: «لو كان لدى عليّ جبلاً من ذهب، وجبلاً من قشّ، لأنفق جبل الذهب في سبيل الله تعالى قبل أن يُنفق جبل القشّ»؛ فهو تحدّث بهذا الكلام بما ينسجم مع مستوى فهمه وإدراكه؛ لكنّ هذا المسكين لم يكن يعلم أنّ الذهب والقشّ يستويان في نظر عليّ عليه السلام، وأنّهما يحظيان في نفسه بالقيمة ذاتها. إنّ كلامي هذا لا مزاح فيه؛ إذ بوسع الإنسان بلوغ هذه المرتبة، بحيث متى ما رأى في الشارع كيسًا من ذهب، فإنّه لن يكون مختلفًا بالنسبة إليه عن كيس من قشّ؛ بل ولن يأتي ذلك حتّى على باله، ولن يحصل لديه أيّ تصوّر زائد عن هذه المسألة.
نماذج عن التعاطي الرحمانيّ أو الشيطانيّ مع العلم
فالعلوم الظاهريّة والعلوم التي يظفر بها الإنسان في مجال الأمور الظاهريّة تُعدّ بحدّ ذاتها مطلوبة؛ وذلك نظير الاختراعات، أو الاكتشافات، أو التوصّل إلى بعض النتائج؛ لكن، ما إن يبدأ هذا العلم بالولوج إلى النفس، حتّى تتعاطى معه النفس بأحد أسلوبين: إمّا نفسانيّ أو رحمانيّ؛ فتجد أحدهم بمجرّد أن يحصل على هذا العلم، فإنّه يقول مع نفسه: «لن أبوح به لأحد، وسأحتفظ به لنفسي، وإذا سألني عنه تلاميذي، فلن أخبرهم عنه.. لماذا؟ لأنّهم يعتبرونني أعلى منهم؛ فإذا بُحت لهم بأسرار المهنة، فإنّهم سيعدّونني أدون منهم». يُحكى أنّ أحد المصارعين الأبطال كان يُدرّب تلميذًا له؛ وخلاصة القول أنّ هذا التلميذ تعلّم جميع فنون المصارعة شيئًا فشيئًا؛ إلى أن جاء أحد الأيّام، فتجرّأ وتجاسر على أستاذه، وقال له: «أنت لا تفوقني في أيّ شيء، فأنا أملك كلّ ما تملكه، وأُتقن كافّة الفنون التي تتقنها!»؛ لكنّ ذلك الأستاذ لم يعتن بقوله، إلى أن تفاقم الأمر كثيرًا، فأجبره على المصارعة والنزال؛ فاشتبكا مع بعضهما، وتمكّن ذلك الأستاذ من التغلّب على التلميذ وطرحه أرضًا؛ فتفاجأ ذلك التلميذ كثيرًا، وسأل أستاذه: «أخبرني عن حقيقة الأمر؟»؛ فأجابه قائلاً: «كنت أشعر بوجود هذه الحالة في نفسك؛ ولهذا، فقد احتفظت بهذه التقنية لمثل هذا اليوم؛ حتّى تعود إلى رشدك!»؛ أجل، لقد جاء هذا العلم، واستقرّ في قلب ذلك المصارع البطل؛ فكيف كان تعاطيه معه؟ أحيانًا، قد يكون هذا التعاطي مثل تعاطي مالك الأشتر الذي كان صاحب قوّة وسلطة، لكنّهما لم يتسرّبا إلى قلبه؛ ولهذا، مع أنّهم ألقوا القمامة على رأسه، إلاّ أنّه لم يعتن بذلك، واستمرّ في طريقه؛۱ فقد كان من الأبطال، وقائد جيوش أمير المؤمنين عليه السلام، إلاّ أنّ هذه المُكنة لم تتسرّب إلى قلبه؛ وذلك بخلاف البعض؛ إذ تجد تلك القوّة والسلطة طريقًا إلى قلبه، ويُفسح لها المجال للوصول إليه، فيحسب لنفسه حسابًا خاصًّا، ويضع فاصلة بينه وبين الآخرين؛ وهذا هو معنى فسح المجال! لقد كان الجانب الأوّل [في التعاطي مع العلم] رحمانيًّا وخاضعًا للعبوديّة، وأمّا الجانب الثاني، فهو نفسانيّ وغير خاضع للعبوديّة؛ فهما يُعبّران عن شيء واحد مشترك، لكنّه ذو وجهين وجانبين؛ فهو عبارة عن ميزان ذي كفّتين: الأولى رحمانيّة، والثانية غير رحمانيّة.
يفتح أحدهم باب متجره، فيأتيه زبون: «السلام عليكم!».. «عليكم السلام!»؛ فيقول له ذلك الزبون: «أيّها السيّد! لديّ هذه البضاعة، فهل تشتريها منّي؟»؛ فيرى صاحب المتجر أنّ هذه البضاعة نادرة، بينما لا يكون الزبون ملتفتًا إلى ذلك؛ ففي هذه الحالة، قد يتعاطى صاحب المتجر مع هذا العلم والانكشاف الحاصلين له بإحدى هاتين الطريقتين: الأولى، أن يقول مع نفسه: «يبدو أنّ هذا المسكين غير مطّلع على حقيقة الأمر، فعليّ أن أقول له: إذا أحببت أن تشتري مرّة أخرى هذه البضاعة، فلن يعطوك إيّاها بضعف المبلغ الذي أعطيك إيّاه الآن؛ ولن تتمكّن من أن تشتري بهذا المبلغ الذي تأخذه منّي الآن نصف مقدار هذه البضاعة؛ فهل أنت ملتفت إلى هذا الأمر حينما تُريد أن تبيعني إيّاها؟»؛ فهذا هو الأسلوب الأوّل للتعاطي، ويُمثّل الجانب الرحمانيّ؛ وأمّا الأسلوب الثاني، فيتمثّل في أن يأتي ذلك التاجر، ويقول: «أجل أيّها السيّد! سوف أشتريها منك!»، ثمّ يذهب، ويجري معه عقدًا يُوثّقه بإحكام، وبطريقة لا يتمكّن معها الطرف المقابل فسخه، ولو انطبقت السماء على الأرض؛ فيأتي بشهود، ويُمضي على العقد، ويمضي لحال سبيله؛ فهذا الأسلوب هو الذي يتجلّى فيه الجانب النفسانيّ؛ ولهذا، حينما يذهب ذلك المسكين؛ فما إن يصل إلى أوّل متجر، حتّى يكتشف أن: وا ويلاه! أيّ خدعة هذه انطلت عليّ! فيرجع عند صاحب المتجر، لكنّ هذا الأخير يقول له: «أيّها السيّد! لقد وضعت على العقد ستّة إمضاءات؛ وها هم الشهود حاضرون هنا!»؛ فما هو السبب في ذلك؟ سببه أنّ ذلك العلم لم يوضع في وعاء توجد فيه العبوديّة؛ فصحيح أنّ ذلك الانكشاف حقيقيّ، وليس انكشافًا كاذبًا، ولا اعتباريًّا؛ لأنّ تلك البضاعة لا توجد فعلاً في السوق؛ وهذا أمر واقعيّ؛ لكنّ المهمّ هو كيفيّة تعاملك مع هذه المسألة؛ فالعلم علم؛ [وهذا أمر لا غبار عليه]؛ غير أنّ مراد الإمام الصادق عليه السلام هو الالتفات إلى طريقة الاستفادة من هذا العلم. فتارةً، حينما يحلّ هذا العلم، ويستقرّ في النفس، فإنّه يجدها نفسًا طاهرةً ونزيهةً؛ ولهذا، فإنّها تتعاطى معه بنزاهةً؛ لكن، تارةً أخرى، عندما يحلّ هذا العلم بالنفس، فإنّه يجدها مضطربة، وملوّثة، وكدرة؛ ولهذا، فإنّها تتعاطى معه بكدورة. إنّ جميع هذه الأوضاع [المفجعة] التي تُشاهدون حدوثها في العالم ترجع لهذا السبب بعينه؛ فالعلم أمر مسلّم به، إلاّ أنّ هذا العلم قد يتحوّل إلى قنبلة، وصاروخ، وأداة فتّاكة، ووسيلة للمكر والخداع والاحتيال، وأداة للاستعمار والاستغلال؛ فإلى ماذا يرجع ذلك؟ فالعلم، والقوانين الطبيعيّة، والموادّ الطبيعيّة، والاستفادة من هذه الموادّ ..كلّ ذلك من الأمور المسلّم بها؛ لكنّ المهمّ هو طريقة تعاطي النفس مع ذلك العلم الذي حلّ فيها؛ وكلّ أنواع الشقاء التي تُصيبنا ترجع إلى هذه المسألة، وليس إلى العلم؛ فهل استوعبنا الآن لماذا يُقال لنا منذ البداية: عليكم أنّ تسعوا أوّلاً إلى تهذيب النفس؟ فإذا لم يكن هناك تهذيب، وكان الإنسان جاهلاً، فإنّه لن يتمكّن من القيام بأيّ شيء؛ وأمّا إذا لم يكن هناك تهذيب، وكان الإنسان يحمل سيفًا۱، فما الذي سيقوم به؟
ما هو معنى العلم غير النافع في كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
يقول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اللَهمّ إنّي أعوذُ بِكَ مِنْ عِلمٍ لايَنفَع»؛ فما هو العلم غير النافع؟ العلم غير النافع ليس هو عبارة عن تلك العلوم التي لا تُجنى منها أيّة فائدة كما قال البعض؛ لأنّ هذه العلوم لا يُستعاذ منها؛ وذلك كأن يحصل لدينا اطّلاع بمن هو موجود في هذه الغرفة المجاورة لنا، وماذا يوجد فيها، وما هو الأثاث الموضوع فيها؛ إذ سواءً علمنا بذلك، أم لم نعلم، فإنّنا لن نحصل على أيّة منفعة منه؛ أو كأن نطّلع مثلاً على عدد الطيور والحيوانات الوحشيّة التي تعيش في الجبل الفلانيّ أو الجزيرة الكذائيّة؛ فما هو شأني بذلك؟ أو نطّلع على الموجودات التي تعيش في الكوكب الفلانيّ، أو الجرم السماويّ العلاّني؛ فما الذي سأفعله بذلك؟ أ فهل نريد الذهاب إلى هناك؟! أجل، فهذه العلوم مضيعة حقيقيّة للوقت؛ غير أنّ كلامنا يدور حول أنّ قول الرسول: «أعوذُ بِكَ» يختصّ بمسألة مغايرة لتلك، وتقع في ما وراءها؛ ويُراد منه ذلك العلم الذي يأتي إلى نفسٍ تعمل على تبديله إلى أمر نفسانيّ يدور حول محور نفسانيّ وشيطانيّ؛ وحينئذ، هل يُمكننا تصوّر أيّة جريمة يُمكنها أن تقع جرّاء ذلك؟ أ فهل بوسعكم أن تعثروا على علم أرقى من علم الإلهيّات، أو علم التوحيد، أو علم المعارف الإلهيّة، أو علم أصول المبدأ والمعاد، أو علم معرفة الوجود والكينونة؟ فحينما يأتي هذا العلم، ويحلّ في نفس طاهرة، فإنّه يُنتج لنا العلاّمة الطباطبائيّ، أو السيّد مهدي بحر العلوم، أو مثلاً حضرة العلاّمة الوالد رصوان الله تعالى عليه؛ لكن، عندما تأتي هذه العلوم بعينها، وتحلّ في نفس غير مهذّبة وملوّثة، فإنّها تتحوّل إلى إنسان يعمل على اقتلاع الدين من جذوره، بالاستعانة بنفس تلك المعلومات والقوانين والقواعد الفقهيّة.
فما أكثرهم الذين جاؤوا بنفس هذه المعادلات والقواعد والأسس والمبادئ، ونهضوا لمحاربة أولياء الله تعالى ومقارعتهم؛ لقد استعان شريح القاضي بالمعادلات ذاتها في إصداره الفتوى بقتل سيّد الشهداء عليه السلام؛ فالعطّار أو البقّال أو المهندس مثلاً ليسوا هم من يدفع المجتمع نحو الانحطاط؛ أ فليس الذي أصدر الفتوى بحلّية الموسيقى، وارتأى بأنّ هذه الموسيقى السائدة في بلادنا لا تكفي، وأنّها صارت متخلّفة، وعلينا الارتقاء بها إلى مراتب أعلى قد تخرّج من النجف، ودرس نفس تلك المعادلات، وطالع تلك العلوم ذاتها؟! فما هو السرّ في ذلك؟ فصحيح أنّ هذا علم وترتيب للمعادلات واستنتاج، لكن، حينما يحلّ في نفس شيطانيّة وغير مهذّبة، فإنّه يُحوّل أولاد المسلمين إلى كفّار، ويسلب من المتديّنين تديّنهم؛ لماذا؟ لأنّه يستعين بتلك المعادلات، لكي يُشكّك في هذه الرواية، ويُشكل على الرواية الأخرى، ويقول: «لا يوجد أيّ دليل في هذه الرواية، وحجّية تلك الرواية هي بهذا النحو، والرواية الأخرى بذلك النحو، و ...»؛ وإذا به يقول فجأةً: «إنّ هذه الموسيقى التي تُنقل في الإذاعة والتلفرة ليست موسيقى من الأساس يا سيّدي! يجب أن تكون الموسيقى صاخبة تبعث على بهجة البلاد والعباد»؛ لكن، كيف ذلك؟ ومتى ذلك؟ واستنادًا إلى أيّ شيء؟
لدينا رواية تقول متى ما دخلت الموسيقى إلى بيت من البيوت، فإنّها تسلب عن أهله الغيرة؛ وهذا كلام الإمام عليه السلام، وليس كلامي أنا وأمثالي؛ فترانا نأتي بتلك المعادلات ذاتها، وندفع المجتمع نحو الانحطاط، ونسلب من أفراده بقيّة الاعتقادات التي يمتلكونها؛ فبما أنّنا لا نقدر على تنمية هذه الاعتقادات، فإنّنا نعمل على تراجعها؛ فما هي حقيقة هذا الأمر؟ هذا هو العلم الذي لا... ؛ وهذا هو مصداق «اللَهمّ إنّي أعوذُ بِكَ ...».
فالعائلة التي لم تكن تُعاني من هذه الأمور [كالموسيقى مثلاً]، ولم تكن تتوفّر على تلك الأدوات، ولم تكن تلجأ للقمار وأمثال ذلك، حينما تطّلع على أحوالها الآن، فإنّك تجد أفرادها يلعبون القمار، ويستمعون إلى الموسيقى، والأغاني الصاخبة، وغير ذلك؛ فهل هذه هي النتيجة التي كنتم تسعون إليها حقيقة؟! فلو فرضنا أن إمام الزمان عليه السلام أتى الآن، وفتح الباب، ودخل على مثل تلك العائلة، هل تعتقد أيّها السيّد المحترم أنّه عليه السلام سيجلس فعلاً داخل تلك الغرفة؟ فإذا قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: «عوضًا أن تسعى في البداية إلى طلب العلم، عليك أوّلاً أن تعمل على تزكية نفسك»، فلأنّه مطّلع على الفاجعة التي يُمكن أن تقع عند عدم تهذيب النفس.
چو دزدى با چراغ آيد | *** | گزيده تر برد كالا |
[يقول: السارق الذي يُحضر معه مصباحًا يستطيع أن يختار بشكل أفضل البضاعة التي يسرقها]
في أحد الأيّام، ذهبت لزيارة المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه بمشهد، وحينما وصلت عنده، كان هناك ضيفان أتيا إليه من طهران، لكنّهما غادرا المكان قبل أن أغادره؛ فجلس العلاّمة رحمة الله تعالى عليه، وقال: «هل تدري من هذان اللذان كانا هنا؟ كان هنا فلان وفلان، قدما من طهران للقائي»؛ وقد دار بينهم حديث؛ فكان السيّد الفلانيّ ـ وأقصى ما يُمكنني قوله أنّه كان من الشخصيّات المهمّة جدًّا ـ يستدلّ بقوّة على ضرورة الحدّ من عمليّة الإنجاب، ووجوب إغلاق الأنابيب، وتحديد النسل، وأمثال ذلك؛ بينما كان المرحوم العلاّمة يسعى من جهته... ؛ وحينما رأيت أسلوب استدلاله، التفتّ إلى العلاّمة رحمة الله تعالى عليه بعدما غادرا المكان، وقلت له: «ما أعجبه من شيطان يا سيّدي! يا له من شيطان!»؛ وهل تعلمون ماذا قال لي؟ قال: يا سيّد محسن!
چو دزدى با چراغ آيد | *** | گزيده تر برد كالا |
[يقول: السارق الذي يُحضر معه مصباحًا يستطيع أن يختار بشكل أفضل البضاعة التي يسرقها]
إنّه سارق، ولو كان يضع عمامة على رأسه! فهذا الذي يضع على رأسه عمامةً الآن هو سارق لأموال الناس وأعراضهم، وسارق للأجيال، وقاطع للطريق أمام الإنجاب، وساعٍ لهلاك النسل والعرض؛ وهو يختلف تمامًا عن ذلك الطالب الذي كان يقرأ في البداية رسالة التصريف للسيّد مير شريف الجرجانيّ؛ فقد صار الآن مسؤولاً قضائيًّا بارزًا.
الجرائم التي قد تُرتكب نتيجة للعلم الخالي من التهذيب
كان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه في المستشفى، حيث نقلوه من قسم العناية المركّزة إلى جناح الرعاية الطبّية؛ وذلك حينما أصيب بسكتة قلبيّة قبل ثلاث سنوات من وفاته؛ ففي اليوم الثاني أو الثالث من إقامته بذلك الجناح، جاءته مجموعة من الأطبّاء؛ ومن ضمنهم الدكتور فتّاحي نائب مدينة مشهد في مجلس الشورى الإسلاميّ (البرلمان الإيرانيّ)؛ وهو رجل متديّن، وكان يُبرز حساسيّة شديدة تجاه تلك الموضوعات في ذلك الحين؛ فكان يتحدّث بحماس شديد يظهر منه وقوع نزاعات شديدة بخصوص هذا الأمر بينه وبين بعض الأفراد هناك؛ وقد وجدته إنسانًا متديّنًا؛ فكان يقول: «يا سيّدي! إنّهم يعملون على وقف الإنجاب، ويدفعون الرجال والنساء لإجراء عمليّة إغلاق الأنابيب؛ فأيّ بلاد هذه؟! إنّ المسؤول الفلانيّ في القوّة القضائيّة ـ وقد ذكر اسمه إلاّ أنّني لن أذكره ـ جاء بنفسه، وأفتى بجواز إسقاط الجنين ما دامت الروح لم تلج إليه»؛ وعندئذ، رأيت العلاّمة رحمة الله تعالى عليه في حالٍ قلّما رأيته فيه طيلة حياته؛ فمع أنّه كان قد تعرّض لسكتة قلبيّة، فإنّه قام، وجلس على السرير، وانتفخت أوداجه، واحمرّ لونه، وقال: «أيّها السيّد! اعلم أنّني سألقي بيديّ هاتين يوم القيامة ذلك الرجل في جهنّم»؛ فكان يقول على نحو الإنشاء وليس الإخبار حتّى: «سألقيه في النار بيديّ هاتين»؛ فقلنا في أنفسنا: «لقد انتهى أمر هذا المسكين! فحتّى لو سعى خازن جهنّم للحيلولة دون ذلك، لنحّاه المرحوم العلاّمة جانبًا، وقال له: اذهب لحال سبيلك!!!»؛ فمن كان ذلك الرجل؟ كان رجلاً لم يُهذّب نفسه؛ أجل، فهو عالم، ويعرف كيف يرتّب المعادلات؛ ولهذا، تراه يقول: «إنّ هذا الجنين لم تلجه الروح، ولم يصر إنسانًا بعدُ؛ وما يوجب تحريم إسقاط الجنين واستحقاق العقاب هو ولوج الروح؛ وأمّا هذا الجنين، فهو مجرّد قطعة لحم؛ فنحن على علم بهذه المسائل!».
لكنّ حديثنا يدور حول هذه المسألة: «أيّها الأخرق! حينما تتفوّه بمثل هذا الكلام، هل تعتقد حقيقةً في قرارة نفسك، وبينك وبين الله تعالى بأنّ جنين المسلم لا يختلف عن جنين الكلب والقطّة؟ أ فهل هكذا يكون الأمر؟ وإلاّ، لماذا لا يُحكم بدفع الدية عند إسقاط جنين الكلب والقطّة، بينما إذا أُسقط جنين المسلم...؛ ثمّ إنّه بعد ذلك يأتي [ذلك العالم] ويقول: «إنّ هذا الحكم يرجع إلى مجموعة من المصالح والمفاسد، ويهدف إلى المحافظة على مصلحة المجتمع، ومراعاة أعصاب فلان، ومرض علاّن، والأخذ بيد المرأة التي تعبت نفسيًّا؛ ولهذا، لا إشكال في ذلك!».
لقد قصمت هذه الطائفة ظهر الرسول: «قَصَمَ ظَهري صنفان، عَالِمٌ مُتُهَتِّكٌ وَجَاهِلٌ مُتُنَسِّكٌ».
أي العالم المتجرّي الذي لا يهتمّ لأيّ شيء، ولا يخطر في باله سوى المنافع الدنيويّة، والجاهل الذي لا يُصغي للكلام، ويعمل طبقًا لجهله»؛ فما هو السبب في ذلك؟ سببه عدم تهذيب النفس؛ وحينئذ، نراه يأتي بنفس هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام، ويقلبها، ويستخرج منها شيئًا آخر؛ ويأتي بعين كلام أمير المؤمنين من نهج البلاغة، ويعكسه، ويعرضه في الخارج بنحو آخر؛ وفي هذه الحالة، يحقّ لنا أن نسأله: «هل كان فعلاً هذا هو مراد أمير المؤمنين؟»؛ إذ لو كان عليه السلام يقصد حقيقةً من تلك الخطب ما تذكره، لجاز لنا أن نعترض عليه، ونقول: «يا علي! أ لم يكن بوسعك بيان هذه المسألة بنحو آخر؟»؛ فأنا بصفتي طالب علم سأعترض الآن، وأحتفظ لنفسي بحقّ الاعتراض والشكوى أمام أمير المؤمنين، وأقول: «كان بمقدروك عرض هذه المسألة بطريقة أخرى، فلماذا ذكرت مثل هذا الكلام؟ فأنت أمير البيان؛ وعلى حدّ قولكم: نَحنُ أُمَرَاءُ البيان؛ أي: نحن نستطيع.. نحن أمراء البيان، فالبيان والكلام تحت تصرّفنا، ونحن سلاطين الكلام؛ وحينئذ، لماذا أوقعتم الناس في الخطأ، وبيّنتم هذه المسألة بنحو مخالف لمرادكم؟ فنحن نعترض!»؛ وفي هذه الحالة، يأتي هؤلاء [العلماء]، ويُحصّلون العلم، ويستخدمونه في مواجهة المؤسّسين لهذه المدرسة، والذين يقوم الدين بهم، وتتّكئ المدرسة على وجودهم، وينشرون هذه المسائل؛ وحينئذ، إلى ماذا يؤول الأمر؟ يؤول إلى:
«اللَهمّ إنّي أعوذُ بِكَ مِنْ عِلمٍ لايَنفَع»
فنفس هذا العلم الذي أتى من عند الله تعالى، والذي يُعدّ أيضًا أرقى العلوم، ومن شأنه أن يُساهم في تهذيب النفس.. نجده يتسبّب في الشقاء والخزي والجرائم والمصائب والانحراف والانحلال وأمثال ذلك.
دور التهذيب في صيانة العلم من التغيير عند التلقّي
ولهذا، يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان منذ البداية: إذا أردت طلب العلم الذي يجلب النور، عليك أوّلاً أن تجعل نفسك عبدًا؛ فإذا صرت كذلك، ستُصبح مثل المرآة؛ وحينئذ، إذا أتى العلم من أعلى، فلن يحصل له أيّ تغيير عندما يعبر من نافذتك.. يُقال إنّ أفضل مرآة هي التي لا يوجد فيها أيّ تموّج؛ فكلّما كان تموّج المرآة أقلّ، عكست الصور بنحو أحسن. في أحد الأيّام، كنت أطالع في موضع ما، فقرأت أنّهم يستخدمون بعض المرايا في صناعة التلسكوبات الفضائيّة؛ فحينما يُريدون صياغة هذه المرايا، فإنّها تكون في الأوّل حارّة، فإذا بردت [بسرعة]، فإنّها تصير ذات تموّجات؛ ولهذا، فإنّهم يتركونها تبرد طيلة ستّة أشهر؛ ولا أعلم هل توجد هنا مبالغة أم لا، لكنّني وجدته مكتوبًا؛ وكلّ ذلك حتّى تتمكّن تلك المرايا من عكس الكواكب والأجرام السماويّة كما ينبغي؛ فهكذا مرآة لا تملك من نفسها أيّ شيء، وحينما يصطدم بها النور، فإنّها تعكسه بنفس الكيفيّة التي أتى بها؛ بينما تجد بعض المرايا ما إن ينظر إليها الإنسان، حتّى يرى وجهه قد صار فجأةً معوجًّا؛ فما هو سبب ذلك؟ سبب ذلك أنّ هذه المرآة غيّرته، حيث يتوقّف هذ التغيير على مقدار ما يوجد في تلك المرآة من تموّج؛ لكن، يبقى في جميع الأحوال أنّ هذه النسخة لا تحكي عن الأصل، خلافًا لمرآة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتي تكون النسخ فيها مطابقة للأصل؛ هذا، مع أنّ تعبيرنا هنا بالنسخة يتضمّن جانبًا تشبيهيًّا، مع قليل من المزاح في الوقت ذاته؛ فقلب الرسول والإمام عليه السلام ونفسيهما يعكسان الأشياء مثلما هي: فكما تأتي، ترجع.
ـ يا رسول الله، لقد أحضروا من اليمن المقدار الفلانيّ من الأموال والخراج! لكنّه، حينما جاء إلى نفس الرسول، فإنّه ذهب بنفس تلك الكيفيّة إلى بيت المال، من دون أن يكون له أيّ شأن بالنبيّ.
ـ يا رسول الله، لقد وصل هؤلاء الأسراء للتوّ، وتوجد من ضمنهم بعض الجواري! لكن، ما إن أتى أولئك إلى نفس النبيّ، حتّى ذهبوا، ليدخلوا في ثروات المسلمين، من دون أن يتوقّفوا في نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ـ يا رسول الله، لقد أمسكنا بفلان المعارض وعدوّ الإسلام؛ فماذا نفعل به؟
وهنا، نرى أنّه حينما اندلعت معركة أحد، فإنّ عمر فرّ مع رفقائه إلى خارج المدينة طيلة ثلاثة أيّام؛ لكن، عندما جاؤوا بأسير، رفع سيفه، وطفق يقول: «يا رسول الله، دعنا نقطع رأسه!»؛ أين كنت إلى هذه اللحظة؟ ولماذا [تُبرز شجاعتك] هنا؟ بينما نجد الرسول جالسًا بكلّ هدوء؛ لأنّه لا يحمل في قلبه أيّ حقد أو ضغينة؛ فصحيح أنّ ذلك الأسير عدوّ، إلاّ أنّ هذه العداوة لم تجد لها طريقًا إلى قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ـ يا رسول الله، أمسكنا ببعض الأسراء من أعداء الإسلام!
ـ أحضروهم!
فيأتون بهم، ويظلّون جالسين بأجمعهم ينتظرون أن يُصدر الرسول أمره بإنهاء أمرهم، الواحد تلو الآخر؛ لكنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يرفع رأسه، ويسألهم: «هل تسلمون، أم لا؟»؛ فيُجيبون: «نُسلم»؛ فيقول لهم: «مرحبًا بكم!»؛ فما حقيقة ذلك؟ لأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم مرآة لا تحتفظ في داخلها بأيّ شيء، ولم يعرضها أيّ تموّج؛ وهكذا الشأن بالنسبة للإمام عليه السلام، ووليّ الله تعالى هو أيضًا على نفس هذه الشاكلة. فلماذا نحن شيعة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشيعة لأمير المؤمنين عليه السلام؟ لأنّ مرآة عليّ خالية من التموّجات؛ ولماذا نحن شيعة لإمام الزمان؟ لأنّ مرآته خالية من التموّجات؛ وإلاّ، إذا كانت فيها تموّجات، ولو بمقدار ذرّة، فإنّنا لن نكون له شيعة، بل ينبغي أن تكون كتلك المرآة [فرضًا] التي ظلّت ستّة أشهر وهي تبرد؛ فلو كانت تلك المرآة تُعاني من التموّجات، ولو بمقدار ذرّة، واحتفظت تلك النفس لذاتها بشيء ما، لما تمّكن حضرة بقيّة الله (أرواحنا له الفداء) من استحقاق مقام الإمامة أبدًا أبدًا؛ وهذه هي المسألة التي ينبغي علينا أن نستوعبها هنا؛ وهي تتعلّق بحقيقة مقام عبوديّة الرسول، ومقام إمامة أئمّة الهدى، ومقام ولاية أولياء الله تعالى؛ وهذا ملاك مهمّ جدًّا نستطيع من خلاله اختبار الناس وتقييمهم.
لقد انقضى الوقت، ولا بدّ أنّ الرفقاء يقولون في أنفسهم: «ما الخبر؟ هذا يكفي! لقد حان وقت الظهر، وانتابنا الجوع، وبدأت الأمعاء الغليظة والدقيقة تُؤدّي وظائفها تدريجيًّا!!»؛ فلم يعد المجال يسمح بالاستمرار في الحديث، وإن شاء الله تعالى نكمله لاحقًا؛ فنحن نستمرّ في تقديم الوعود، وأنتم تستمرّون في الإصغاء؛ لكن، إلى متى؟!
نرجو من العليّ القدير أن يوُفّقنا ببركة أوليائه، والمصطفين للثم أعتابه، والواصلين إلى حرم أمنه وأمانه للخروج ـ بتبعهم ـ من مرحلة النفس والكثرات والكدورات والظلمات، وأن يغمرنا بأنفاسهم القدسيّة.
اللَهمَّ صلِّ عَلى مُحمَّد و آل مُحمَّد