المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحقيقة العبودية
التوضيح
تحدّث سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله تعالى نفسه الزكيّة في هذه المحاضرة عن المراد من العلم الحقيقيّ الذي يقي الإنسان من الانحراف؛ ليتوصّل إلى أنّ العبوديّة هي أوّل خطوة للظفر بهذا العلم؛ ثمّ يتناول بعد ذلك معنى حقيقة العبوديّة الواردة في حديث عنوان البصريّ، ويستعرض أقسام هذه العبوديّة، وكيفيّة الوصول إليها.
هو العليم
معنى حقيقة العبوديّة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۸
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
فقال: يا أبا عَبداللَه! لَيسَ العِلمُ بِالتَّعلُّمِ، إنَّما هُوَ نورٌ يقَعُ في قَلبِ مَن يريدُ اللَه تَباركَ وتَعالى أنْ يهْديَهُ؛ فَإنْ أرَدتَ العِلمَ، فَاطْلُبْ أوّلًا في نَفسِكَ حَقيقةَ العُبوديَّةِ.
ما هو العلم الذي يقي الإنسان من الانحراف
يدور الكلام ـ إلى حدّ ما ـ حول الفقرة الأولى من حديث عنوان البصريّ الشريف، ووصايا الإمام الصادق عليه السلام إلى عنوان بخصوص كيفيّة حصول العلم، وحقيقته، وأنّ العلم عبارة عن انكشاف يُتيح للإنسان تمييز طريق الغواية عن طريق السعادة، ويقيه من طروّ الشكّ والانحراف عليه في طريقه؛ فهذا الذي يُقال له العلم؛ وهو عبارة عن نور يجعله الله في قلب المؤمن الذي يُريد تعالى أن يهديه؛ فلا يستطيع أيّ أحد ـ بسبب هذا النور ـ أن يخدعه، ولا تتمكّن الآراء المختلفة بعد ذلك من أن تُحدث فيه آثارًا سيّئة؛ فلو وقف كلّ العالم في جانب واحد [مخالف]، فإنّ ذلك المؤمن يبقى متشبّثًا بعقائده ومبادئه بشكل راسخ وصلب، بل كلّما ازداد عدد المعارضين، زاد تشبّته بمبادئه؛ فهذا هو العلم، والذي أشرنا إلى أنّه لا يتحقّق بالمطالعة والحفظ. فما أكثر الذين بلغوا مراتب عالية في الدرس والتعليم، لكنّهم سقطوا في وادي الانحراف والغواية والضلال.. لماذا؟ لأنّ ذلك العلم والنور، وتلك الحقيقة ظلّت كلّها مجهولة لديهم؛ فمع أنّهم لم يكونوا من المُغرضين، بل كانوا يهدفون من خلال حركتهم إلى إصلاح أمور المسلمين والمجتمع والناس المحيطين بهم؛ لكن، بما أنّهم كانوا يفتقرون إلى ذلك العلم، فإنّهم عانوا من تلك المشاكل، وظلّت الحقائق مستورة عن أعينهم، ولم يتمكّنوا من بلوغ الهدف المنشود كما ينبغي؛ فكل ذلك يرجع إلى غياب ذلك العلم.
وبوسعكم العثور على هذه الحقيقة بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام؛ والذين كانوا ينقسمون إلى خواصّ وعوامّ؛ ففي بعض الأحداث، كنّا نرى العوامّ من أصحابهم عليهم السلام ينساقون وراء بعض التيّارات؛ في حين أنّ الخواصّ منهم كانوا يتميّزون بالهدوء؛ فيلزمون أمكنتهم، ويتّخذون موقفًا مغايرًا تجاه تلك التيّارات وتلك الأحداث؛ والسبب في ذلك أنّهم حازوا على بعض المراتب [العالية]؛ فصارت لهم على أساس ذلك رؤية خاصّة، وتوجّه معيّن. لقد تحدّثنا للأصدقاء عن هذه المسألة إلى حدّ معيّن، واستقرّ عزمنا على عدم الاستمرار فيها بعد ذلك، وأن ننتقل إلى الفقرة اللاحقة؛ وحتّى إذا بقيت بعض الأمور، فسوف نتحدّث عنها مستقبلاً إن شاء الله تعالى.
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: فَإنْ أرَدتَ العِلمَ فَاطْلُبْ أوّلًا فى نَفسِكَ حَقيقةَ العُبوديَّةِ.
فهذا العلم الذي بيّناه لكم لا يحصل بالدرس والمطالعة، ولا بواسطة الحفظ؛ فهو ليس عبارة عن عمليّة تجميع للمسائل؛ كما نراه عند الكثير من الناس، حيث كان يأتي البعض منهم عند العظماء.. عند المرحوم الوالد، والسيّد الحدّاد رحمة الله تعالى عليه، ثمّ يذهبون إلى أماكن أخرى، ويسترقون السمع في مواضع أخرى، ويقولون: «تعالوا بنا لنرى ما الذي يحدث هنا وهناك، ولنتعلّم مسألة هنا، ومسألة هناك»؛ فينتقلون من مكان إلى آخر؛ لكي يتسنّى لهم جمع بعض المسائل لفائدتهم الشخصيّة.
حكاية السيّد أحمد الكربلائيّ في مراسلاته مع الشيخ محمد حسين الكمبانيّ الأصفهانيّ
توجد رسالة بعثها السيّد أحمد الكربلائيّ إلى أحد أصدقائه، وسنتطرّق إليها في الجلسات اللاحقة إن شاء الله تعالى، حيث كان ذلك الصديق قد طلب منه في رسائل سابقة بعض التعاليم والدساتير؛ وقد أجابه عنها السيّد أحمد الكربلائيّ رحمة الله تعالى عليه في رسائل من ضمنها هذه الرسالة؛ وقد كان السيّد أحمد الكربلائيّ إنسانًا واضحًا وصريحًا جدًّا، ومتحلّيًا بالحرّية والنزاهة عن كافّة التعلّقات؛ وخلاصة القول أنّه لم يكن في بيانه للمسائل يغضّ النظر أبدًا أو يتهاون؛ ولا أعلم هل طالع الأصدقاء إلى حدّ الآن مراسلاته مع الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ الكمبانيّ رحمة الله تعالى عليه، والتي أوردها المرحوم الوالد في كتاب "توحيد علمى وعينى"؛ ولو أنّه كتاب تخصّصي ومعقّد جدًّا؛ وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة: لا يُمكن أن يفهم هذا الكتاب، إلاّ من درس الفلسفة والعرفان النظريّ، وتلقّى فيهما دورة كاملة؛ لكن، على أيّ تقدير، قد تكون بعض مسائله قابلة للفهم بالنسبة للكثيرين. وخلاصة القول، كلّ من يطالع هذا الكتاب سيُلاحظ بأنّه كان بذلك النحو مع الشيخ محمّد حسين الكمباني؛ مع كلّ ما كان يمتلكه الشيخ من مقامات عالية ومكانة رفيعة؛ فقد كان على درجة كبيرة من الصلاح، ومن أهل العبادة والمراقبة والتهجّد، وصاحب مكاشفات عرفانيّة وحالات خاصّة.. لقد كان على درجة من الرفعة، بحيث لو مسكنا بأيدينا مصباحًا ـ على سبيل المثال ـ، وفتّشنا بين الناس، لما وجدنا مثل مثل مثله، فضلاً عن أن نجد مثل مثله؛ أجل، لقد كان بهذا النحو؛ لكن، مع ذلك، فإنّ بلوغ أعلى مراتب التوحيد هو أمر مختلف تمامًا؛ فإذا لاحظتم، سوف ترون أنّ السيّد أحمد رحمة الله تعالى عليه كان في كلامه مع الشيخ محمّد حسين رحمة الله تعالى عليه واضحًا وصريحًا جدًّا، ولم يلجأ إلى المجاملة أو المواربة أبدًا، إلى أن يصل المقام به بعد الرسالتين السادسة والسابعة۱ لكي يُصاب بالتعب والإرهاق بسبب الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ أعلى الله مقامه؛ فيرى بأنّه مهما تحدّث معه، فإنّه يظلّ متشبّثًا بنفس يقينيّاته، وقضاياه العينيّة؛ وحينئذ، فإنّه يُطلق رصاصة الرحمة، ويقول له:
گوشِ خَر بفروش وديگرْ گوشْ خَر | *** | كين سخن را در نيابد گوشِ خَر |
[يقول: بع أذن الحمار واشتر أذنًا أخرى؛ فهذا الكلام لا يليق بأذن الحمار]۱
ولا يخفى أنّ الشيخ محمد حسين رحمة الله تعالى عليه كان يُراعي الأدب مع السيّد كثيرًا، ويحفظ له جلاله وعظمته؛ فيُجيبه بكلّ أدب بهذه العبارة المختصرة: «هر گردويى گِرد است ولى هر گِردى گردو نيست»٢؛ ومراده منها: صحيح أنّك رجل عظيم، ويلزمني احترامك؛ لكنّ مُحاورَك ليس بالذي يقبل بهذه المسائل وهو مغمض العينين. لقد كان الشيخ محمّد حسين رجلاً عظيمًا جدًّا، ومملوًّا علمًا؛ لكن، مع ذلك، فإنّ تلك المسائل [التوحيديّة] لا تحصل بالتجميع، وبالذهاب إلى هنا وهناك؛ وبحسب القول المشهور: بأن يقطف الإنسان من كلّ بستان زهرة.
الله تعالى موجود في منزلك؛ فلماذا تبحث عنه هنا وهناك؟!
في أحد الأيّام، كنّا في محضر العلاّمة رحمة الله تعالى عليه، فجاء أحدهم، كان قد أتى به شخص معيّن، حيث ترجع هذه القصّة إلى عدّة سنوات قبل الآن؛ وذلك قبل ثلاثين سنة؛ فكان يقول عنه [ذلك الشخص]: «إنّ هذا الرجل يا سيّدي قام بالعديد من الأسفار بحثًا عنه [أي الله تعالى]! لقد ذهب إلى الهند وأمريكا وإفريقيا وكلّ هذه الأماكن»؛ فكان يُردّد القول: «يا سيّدي! لقد ذهب إلى تلك الأماكن بحثًا عنه»؛ فتبسّم العلاّمة، وقال له: «أفلم يكن الله تعالى موجودًا في بيته، حتّى يضطرّ للذهاب إلى الهند وأمريكا وإفريقيا؛ أفلم يكن موجودًا في بيته؟!»؛ فهذه هي حقيقة المسألة؛ أي أنّ هؤلاء ضيّعوا الحقّ، وصاروا غافلين عن وجودهم.
سالها دل طلب جام جم از ما مي كرد | *** | آنچه خود داشت زبيگانه تمنّا مي كرد |
[يقول: منذ سنوات والقلب يطلب منّا كأس جمشيد،٣ ويتمنّى من الغرباء ما يمتلكه بنفسه]
ففي الرسالة التي بعثها السيّد أحمد رحمة الله تعالى عليه إلى ذلك المريد (على حدّ قولهم)، وأمره فيها ببعض التعاليم السلوكيّة، كان ذلك المريد قد سأله عن أمر آخر، وقال له: «حبّذا لو تتطرّقون إلى المراقبة، حتّى يكتمل الكلام، وتكونوا بذلك قد تحدّثتم عن جميع المسائل»؛ وبعبارة أخرى، يكتمل الطقم؛ وقد ذكرت لكم أنّ السيّد أحمد كان رجلاً حرًّا وذا لهجة صريحة جدًّا حين الجواب؛ وخلاصة القول أنّه ردّ عليه بقوله: إنّ هذه المسائل لا تنحلّ بمجرّد المراسلة؛ أجل، عليّ أن أهنّئ سماحتك على ما تتحلّى به من ذكاء؛ لأنّك حسبتني ـ ولا أريد هنا أن أستعمل هذه العبارة ـ حمارًا، وظننت أنّك تستطيع خداعي بكلماتك؛ وخلاصة القول، أنّك اعتقدت بأنّك تعرفني جيّدًا، وأنّني أنساق وراء جميع الاتّجاهات، بحيث كلُّ مَن جاءني، واستعمل معي أسلوب المداهنة، وطلب منّي الدستور الفلانيّ، فإنّني سأقبل.. لا يا عزيزي! هذا غير صحيح، ولا يوجد شيء من ذلك كلّه؛ فإذا عملت بما قلته لك [سابقًا]، فبها ونِعمَت؛ وإن لم تعمل به، فإنّك لن تصل إلى أيّ شيء، ولو زيد على ذلك عشرة أضعاف.
فهذه هي المسألة التي كان يهدف إليها الإمام الصادق عليه السلام؛ فالتردّد على هذا المكان وذاك المكان، واستراق السمع هنا وهناك لا يحلّ للإنسان أيّة مشكلة، ولا يوصله إلى أيّ مكان؛ وقد ذكرت للأخوة سابقًا أنّ السيّد القاضي رحمة الله تعالى قال للبعض: «هل عملتم بكلّ ما علمتم به لحدّ الآن، حتّى تُريدون منّي أن أُطلعكم على ما تجهلون به؟!»؛ وهذه مسألة مهمّة جدًّا إذا تمكّنا من فهمها، فإنّنا سننتبه إلى أنّنا متأخّرون جدًّا عن الالتحاق بالقافلة، حيث إنّ هذه المسألة تختلف كثيرًا عن الأفكار التي نُنميّها في أذهاننا.
العلم الحقيقيّ ليس هو العلم الحفظيّ
«إنَّما هُوَ نورٌ يقَعُ فى قَلبِ مَن يريدُ اللهُ تَباركَ وتَعالى أنْ يهْديَهُ. فَإنْ أرَدتَ العِلمَ فَاطْلُبْ أوّلًا...».
ففي الفقرة الأولى، يُريد الإمام عليه السلام أن يُبيّن [لعنوان] ما هو العلم أساسًا؛ فإلى هذا الحين، كنتَ غارقًا في الظنون، وتعيش وسط الخيالات، وكنتَ تعتقد بأنّ العلم عبارة عن تجميع للمسائل؛ شأنه في ذلك شأن شريط التسجيل؛ فالآن، كم لدينا هنا من آلة للتسجيل؟ سبعة أو ثمانية تقوم بتسجيل ما أقوله؛ فحينما أنتهي من الكلام، هل سينضاف شيء إلى شرف هذه الآلات وقيمتها؟ لا! لأنّها مجرّد أجهزة تُدير أشرطة، وتُحوّل الأصوات عن طريق تلك الأمواج الإلكترونيّة إلى طاقة إلكترونيّة تُحفظ هنا؛ وهذا لا يزيد شيئًا من قيمة هذه الأشرطة. إنّ صدر الإنسان ليس كالشريط، بحيث يقتصر على أخذ المسائل من الكتاب الفلانيّ، وحفظها في داخله؛ ولنفرض أنّه حفظها، لكن، ماذا بعد ذلك؟ وما هي قيمة أن يسعى الإنسان لقراءة هذا الكتاب وذاك الكتاب؟ صحيح، أحيانًا، يقرأ الإنسان كتابًا، حتّى يستفيد منه مسألةً، ويعمل على تطبيقها، وتحصيل منفعة منها؛ فهذا أمر جيّد؛ أمّا أن يتعاطى لقراءة هذا الكتاب وذاك، لكي يزيد ـ مثلاً ـ من طاقته الاستيعابيّة، [فهذا أمر غير حسن]؛ هذا، وسنسعى في الفقرات القادمة للحديث عن كيفيّة بيان الإمام عليه السلام لهذه المسألة، وما الذي قاله لعنوان البصريّ بشأنها. كان العلاّمة رحمة الله تعالى عليه يقول: «إنّ بعض الأفراد يأتون إلى مجالسنا من أجل يتعلّموا بعض المسائل وحسب! ثمّ، يرحلون بعد ذلك، وينشرون هذه المسائل، وينسبونها إلى أنفسهم؛ فهؤلاء سرّاق الطريق، يأتون للاطّلاع على ما يوجد هنا وهناك، ويتعلّمون بعض المسائل، ثمّ يذهبون، وينسبونها إلى أنفسهم». إنّ العلاّمة رحمة الله تعالى عليه لا يرفض أن تُنسب إليه المسائل أو تُنسب إلى غيره؛ غير أنّ الكلام ينصبّ على ذلك المسكين الذي سنحت له فرصة استثنائيّة، وتمكّن من الالتقاء بهكذا شخصيّة عظيمة مجّانًا ومن دون مقابل؛ وعوضًا أن يستغلّ ذلك في إصلاح نفسه، فإنّه يتعلّم بعض المسائل، وينقلها للآخرين، لكي يُتاجر بها؛ وهذا هو الخسران العظيم! حيث يتّضح بعد ذلك إلى ما يؤول إليه الأمر. وعلى أيّ تقدير، فقد كان هناك أفراد يأتون عند السيّد الحدّاد رحمة الله تعالى عليه، فيقول لهم: «أيّها السيّد، إنّ المسألة لا تنحلّ بمجرّد الذهاب والإيّاب، والتردّد [على هذا المكان]!».
في أحد الأيّام، جاء عنده أحد أفاضل النجف، وسأله عن قضيّة معيّنة، فأجابه عنها؛ فسُرّ السائل بذلك، وذهب، حيث كان من الواضح أنّه جرى بينه وبين أحدهم حوار ومباحثة في مجلس معيّن، وأنّه كان عالقًا في تلك القضيّة؛ فأتى عند السيّد الحدّاد، حتّى يستعين به في حلّ ذلك الإشكال، ويذهب. حينما رحل، قال السيّد الحدّاد: «أيّها السيّد! يعتقد هؤلاء أنّنا عاطلون عن العمل، وأنّنا اقتصرنا على الجلوس في مكاننا؛ وبما أنّ منزلنا مفتوح، فإنّهم يأتون، ويأخذون من أوقاتنا»؛ ثمّ التفت إليّ، وقال: «يا عزيزي! إنّ لدينا العديد من الأشغال في هذه الدنيا، ولدينا الآن الكثير من المسائل؛ ووضعُنا لا يتحمّل كلّ هذه الأمور، وأن يأتي هذا، ويذهب ذاك، ويأتي آخر، وهكذا...» في حين أنّه: هل تعلمون من كان قد جاء إلى منزله؟ إن أخبرتكم، ستعرفونه بأجمعكم؛ أي أنّه كان معروفًا لدى الجميع كبيرهم وصغيرهم؛ غاية الأمر أنّه ارتحل سابقًا إلى جوار ربّه. فهؤلاء العظماء لا يتوفّرون على الوقت بتاتًا، لكي يتردّد عليهم أيّ أحد، ولا مجال لهم أبدًا لكي يقضون أعمارهم في هكذا مسائل؛ أجل، إذا جاءهم أحد، وكان يُريد العثور على الطريق، فإنّهم يُرحبّون به بكلّ إخلاص؛ وأمّا أن يقصدون من هذه الأمور عقد المجالس لكي يتردّد عليهم الناس، ويقولون: «لقد التقينا بفلان!»، أو «إنّ الشخصيّة الفلانيّة تحضر عندنا!»، فإنّ ذلك لا سبيل له إلى هذه المدرسة بتاتًا.
العبوديّة أوّل خطوة للحصول على العلم الحقيقيّ
فبعد أن بيّن الإمام الصادق عليه السلام لعنوان معنى العلم، بدأ في الحديث عن كيفيّة حصوله؛ وهي مسألة مهمّة، حيث نجده عليه السلام يدخل هنا في صلب الموضوع، ويقول: «إنّ النجاة والفلاح لا يحصلان بالذهاب إلى هنا وهناك، ولا بتجميع المسائل، ولا بالتردّد على هذا وذاك، ولا بحفظ المسائل والاحتفاظ بها في الصدر كالشريط.. لا ليس بهذا النحو!»؛ ففي عهد الإمام الصادق عليه السلام، كان هناك الأئمّة الأربعة، وكانوا أيضًا علماء، فكان أبو حنيفة بدوره عالمًا، وكذلك الشأن بالنسبة لمالك، وابن حنبل، والشافعيّ، فكان هؤلاء علماء؛ لكنّهم كانوا يفتقرون إلى النور، ولم يحوزوا على نور الولاية؛ وهو النور الذي يُميّز بين الهداية والضلال؛ فحينما تتشرّفون بزيارة مكّة، ستكتشفون بأنّ جميع أولئك السنّة الذين يأتون، ويطوفون حول الكعبة، ويُصلّون تختلف أحوالُهم وأوضاعهم عن الشيعة الذين يتبعون الولاية، ويتّضح لكم ذلك جليًّا؛ فمع أنّهم يُؤدّون الطواف ذاته، والصلاة عينها، والسعي نفسه؛ لكنّها أعمال جافّة، وعبارة عن صورة فقط من دون روح.
في أحد الأيّام، ذهبت برفقة العلاّمة رحمة الله تعالى عليه لزيارة أحد الأقارب الذين كانت لهم بنا علاقة رحميّة ماسّة جدًّا، حيث كان قد رجع من مكّة؛ فقال لنا: «يا سيّدي، حينما عُدت من هذا السفر، اصطحبت معي أذان المدينة (أو مكّة، والظاهر أنّه كان أذان المدينة)؛ فتعال لتستمع إليه؛ لأنّه جميل جدًّا!». لكنّ العلاّمة رحمة الله تعالى عليه لم ينبس ببنة شفة؛ فاعتبر عل ما يبدو أنّ سكوته دالّ على رضاه؛ ولهذا، ذهب، وأحضر آلة تسجيل، ووضع فيها أذان المدينة؛ حينما انتهى الأذان، قال العلاّمة: «أيّها السيّد، إنّه من دون روح؛ فأين هو جماله؟ أين؟ إنّه يفتقر للروح تمامًا»؛ ثمّ قال بعد ذلك: «ألم تستمع إلى الأذان الذي يُرفع هنا؟»، فقال له: «بلى، استمعت إليه»؛ قال: «إذا قارنت بين الأذانين، ستكتشف بأنّ الأذان الذي رفعه الشيعيّ له روح، والذي رفعه السنّي يفتقر إلى الروح والنور؛ وكأنّه شريط يجري على لسان إنسان»؛ أي أنّه مجرّد شريط، وصوت؛ لكن، من الذي يفهم هكذا أمور؟ صحيح أنّ هناك من يُدرك هذه المسائل؛ وهذا محفوظ في محلّه؛ إذ تجد حتّى الناس العاديّين يقولون: «يا سيّدي، إنّ هذا أحسن وأجمل وأروع من ذاك!». إنّ سرّ هذه المسألة وحقيقتها يرجعان إلى نفس المؤذّن التي أُضيئت بروح الولاية ونورها؛ ولهذا، وكما أشرت آنفًا، فإنّنا نرى العديد من العظماء والعلماء يقعون في الخطأ بسبب قصورهم عن إدراك المسائل الغيبيّة، على مستوى القضايا التي يتحتّم على الإنسان فيها أن يكون مطّلعًا على تلك المسائل، لكي يتمّكن في التعرّف على الطريق؛ فنجدهم يسقطون في الأخطاء، بل وأحيانًا يقودون المجتمع إلى سبيل الانحراف؛ وهنا، تزداد أهمّية المسألة، وترتفع درجة المسؤوليّة كثيرًا.
وفي هذه الحالة، يُريد الإمام الصادق عليه السلام أن يقول: «ما الذي تُريد فعله الآن؟ فحينما عرفت ما هو معنى العلم، وتعرّفت على طريقي الهداية والضلال، يأتي السؤال عن كيفيّة الحصول عليه؛ فماذا علينا أن نفعل حتّى نظفر بهذا النور؟ وما الذي نقوم به حتّى نتوصّل إلى ذلك العلم؟ فهو غير متوفّر في كلّ متجر؛ وهو ليس كالخضروات، حتّى يتسنّى لك أن تسأل عنه في كلّ مكان، وتقول: أعطني يا سيّدي كيلوغرامًا واحدًا منه! فهذا ليس هو شأنه، حيث نجد الإمام عليه السلام يضع بين أيدينا هنا المعادلة التي ينبغي علينا العمل وفقها، ويُبيّن لنا طريق الوصول إلى هذا العلم؛ فأوّل مرحلة هي:
«فَاطْلُبْ أوّلًا فى نَفسِكَ حَقيقةَ العُبوديَّةِ».
«إذا أردت أن تظفر بهذا العلم، عليك أوّلاً أن تُحقّق في نفسك مسألة العبوديّة، وتصل إلى حقيقة العبوديّة؛ وإلاّ، فلن تجني أيّة فائدة»؛ مهما كان المكان الذي ذهبت إليه؛ وهذا هو مقتضى كلام الإمام الصادق، وليس كلامي أنا! أي أنّه عليه السلام يقول: «[هذه هي شروط] الظفر بهذا العلم؛ وأمّا إذا أردت التشبّه بشريط التسجيل، والوصول إلى تلك المحفوظات، فلا يهمّ أبدًا المكان الذي تذهب إليه». وتُلاحظون الآن أنّهم يضعون مكتبة كبيرة جدًّا في قرص مدمج واحد ذي حجم صغير جدًّا؛ مع أنّ هذه المكتبة قد تضمّ أربعة آلاف كتاب؛ فلا يوجد إشكال في أن تذهب لأيّ مكان ترغب إليه من أجل تحصيل العلم "الحفظيّ"، حيث لدينا في هذا المجال ماهرٌ وأمهر، وخبيرٌ وأخبر؛ بخلاف العلم الآخر الذي لا يُمكن العثور عليه في أيّ مكان، ولا يتسنّى لنا أن نجده عند أبي حنيفة أو الشافعيّ؛ وهو علمٌ لا يوجد عند أيّ متلبّس بهذا اللباس، أو أيّ مدّع للتصدّي للهداية كيفما كان؛ فهو علم... لأنّ المسألة واضحة جدًّا؛ فالعلم يعني النور والضياء والهداية؛ وأمّا الشريط، فحينما يُسجّل صوتي، فإنّه نوره لا يزداد، كما أنّ لونه يبقى على حاله؛ فإذا فرضنا أنه كان بنّيًا أو أحمر، أو أصفر، أو غير ذلك، فإنّ لونه سيظلّ كما هو، ولن يُضاء، أو يشعّ بالنور، ولن ينضاف إليه أيّ شيء؛ فشأن ذلك العلم شأن هذا الشريط؛ ولهذا، عندما يظفر الإنسان ببعض المحفوظات، فإنّ ذلك لا يكون سببًا في توهّج قلبه بالنور، او إضاءته؛ ومن هنا، عليه في المرحلة الأولى أن يتحقّق في نفسه بحقيقة العبوديّة.
ما هي حقيقة العبوديّة
لكن، ما هي حقيقة العبوديّة؟ إنّها عبارة عن عدم رؤية الإنسان نفسه صاحب التصرّف، أو له الاستقلال في التأثير وفي اتّخاذ القرار والقيام بالأعمال.. هذا هو معنى حقيقة العبوديّة. فالعبد يرى نفسه من النواحي الشرعيّة والعقليّة والعرفيّة واقعًا تحت تصرّف مالكه ومولاه؛ فلا يُمكنه مغادرة الدكّان من دون إذنه، ولا يتسنّى له الذهاب إلى أيّ عمل من نفسه ومن دون إجازة مالكه، ولا يستطيع حتّى الكلام إلاّ بإذن مولاه، ولا ينبغي له إجراء أيّة معاملة من دون إجازة المولى؛ فتجده دائمًا يشعر في نفسه أنّه أمام علاقة تُسيطر عليه؛ فيقول مع نفسه: إذا أدّيت هذا العمل، سأتعرّض للمحاسبة؛ وإذا قمت بذاك العمل، سيُعاقبني مولاي؛ وإذا تحدّثت بهذا الكلام، وإذا أجريت هذه المعاملة، وإذا ذهبت إلى ذلك المكان، وإذا، إذا، إذا، ...؛ فتفرض عليه هذه الاشتراطات وضعيّة خاصّة، بحيث تجده يسعى ـ مهما أمكنه ـ إلى الاطمئنان بأنّ فعله وكلامه وعمله لم يكن مخالفًا لرأي مولاه؛ فهذا هو العبد! فالإمام عليه السلام يُريد أن يقول: «إنّ طريق الوصول إلى هذا العلم يتمثّل في أن تكون في البداية عبدًا»؛ لماذا؟ لماذا ينبغي أن تكون عبدًا؟ إذا تذكّر الإخوان، فقد أشرت في إحدى الجلسات السابقة إلى أنّ النور هو الحقّ: {ذلِك بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ}۱؛ ويقول الباري عزّ وجلّ في آية أخرى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي أنّه تعالى النور والحقيقة التي ينشأ منها عالما الملك والملكوت، والغيب والشهادة، والباطن والظاهر؛ }ما يقول في موضع آخر: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ}؛ ومن هنا، فإنّ النور عبارة عن الحقّ؛ والحقّ هو الأمر الذي يُميّز بين الباطل وغيره؛ وبالتالي، فإنّ هناك صراع دائم وحرب مستمرّة وخصومة لا تفتر بين النور والكثرة، وبين الحقّ والباطل، وبين الربّ واستقلاليّة الإنسان؛ ودائمًا سيكون الأمر بهذا النحو؛ فالله تعالى يقول: «إمّا أن أكون أنا هنا، أو تكون أنت؛ فواحد منّا ينبغي أن يكون؛ فإذا كنت أنا حقًّا، وكان كلامي حقًّا؛ فلا يجب عليك أن تتكلّم؛ وأمّا إن كنت ترى نفسك أنت هو الحقّ، فإنّني سأتنحّى جانبًا، وسوف يتبيّن غدًا من هو الحقّ؛ فأنا سأتنحّى جانبًا، ولتفعل كلّ ما يحلو لك!».
لدينا رواية تقول أنّه إذا صلّى الإنسان، وبدأ يسبح حين الصلاة في خيالات أخرى؛ فيتجوّل في أنحاء العالم، وبجمع الشيكات والكمبالات و ...، ويضعها بأجمعها في البنك، وينهمك في الإمضاءات؛ وهكذا، إلى أن ينتهي من قوله: «ولا الضالّين»، فإنّ الله تعالى يقول له: «حسن جدًّا، لقد قمت بجولة رائعة، وسافرت إلى كلّ مكان، ووحدي أنا الذي لم تأت عنده! لا مشكلة في ذلك؛ فقد خصصتني بواحد في المائة فقط من صلاتك، واقتصرت على قراءة هذه الكلمات؛ فأنا أشكرك، وجعلت الآخرين شركاء لي بتسعة وتسعين مائة من تلك الصلاة! اعلم أنّني شريك جيّد؛ إذ ينبغي على الشريك أن يكون جيّدًا يا سيّدي، هل تعلم ذلك؟ وعليه أن يكون متساهلاً عند وقوع الخلافات؛ فأنا شريك جيّد؛ ولهذا، فإنّني أهب حصّتي لبقيّة الشركاء؛ فيا ملائكتي! اذهبوا، واضربوا على رأس هذا العبد بتلك الصلاة، وقولوا له: خذ الجميع لك!» فإذا أردنا أن نُصبح شركاء، فلنتشبّه في ذلك بالباري عزّ وجلّ، ولنكن مثله متساهلين يا سيّدي! ولا نُصعّب الأمر على أنفسنا.. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}؛۱ فالله تعالى يقول: أنا شريك جيّد؛ ولهذا، فإنّني وهبت حصّتي لبقيّة الشركاء. حسنًا، لا توجد أيّة مشكلة، اذهب واركض في هذين اليومين اللذين بقيا لك في هذه الدنيا! ونحن لن يكون لنا معك الآن أيّ شغل؛ ففي نهاية المطاف، سوف تنقضي هذه الأيّام، وسيتوقّف هذا الحصان السريع عن الركض؛ وعندئذ، ستتبيّن النتيجة حينما نجتمع مع بعضنا: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ}٢؛ ففي ذلك الوقت، حينما يُكشف لنا النقاب عن ذلك اليوم، فإنّنا سنكتشف ما هي الأمور التي ضيّعناها، وما هي الأشياء التي انخدعنا بها في الدنيا، وما هي النعم التي فرّطنا فيها؛ وهناك، سيسخر الله تعالى منّا،٣ ويقول: «لم يكن لنا بك شأن في هذه الدنيا، فأمهلناك، وصبرنا عليك، وكان صبرنا عليك كبيرًا جدًّا!»؛ فما أكثرهم الذين جاؤوا، واستعرضوا قواهم، وتقلّبوا في البلاد، وصكّوا الأسماع بقولهم: نحن كذا وكذا، نحن سنفعل كذا وكذا، يجب أن يصير هنا بهذا النحو، وهناك بذلك النحو؛ والعجيب هنا أنّه: حينما يُريد الله تعالى أن يمكر بأحد، فإنّه يقوم بشيء يمنعه من الاهتمام بمسائله الشخصيّة؛ وفي هذه الحالة، لا يعُد بالوسع القيام بأيّ شيء.
فيوجد تعالى بعض الأمور التي تفضي بالإنسان لأن ينسى قضاياه الخاصّة.. هل تعلمون ماذا تُشبه هذه المسألة؟ تُشبه تمامًا أن ينتاب الإنسان ألم، فينتبه إليه مباشرةً؛ وإذا ازداد هذا الألم، فإنّه يذهب عند الطبيب؛ لكن، لو أنّ أحدهم حقنه بمادّة مخدّرة حين ازدياد الألم، لذهب عنه الألم في الحين؛ ثمّ تمضي بعض الساعات بهذا النحو؛ إلى أن يبدأ الألم بالظهور تدريجيًّا؛ فما إن ينتبه الإنسان إلى أنّه ظهر مجدّدًا، حتّى يحقنوه مرّة أخرى؛ وهكذا، الحقنة تلو الحقنة؛ حتّى يتفاجأ بأنّ ذلك العضو قد فسد.. ذلك العظم مثلاً؛ وهذا هو معنى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}؛ فلا ينبغي علينا أن نغفل عن هذه الآية أبدًا أيّها السادة! {وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}؛۱ هل تعلمون ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه يُصيب الإنسان بالخدر؛ فما إن يبدأ بالإحساس بالألم قليلاً، حتّى يُرسل له مالاً؛ وما إن يتألّم قليلاً، حتّى يُنزل عليه نعمةً، أو يتسبّب في حصول أمرٍ ما، وهكذا، يُرسل، ويُرسل، إلى أن يأتي عزرائيل، ويقول له: «تفضّل معنا الآن!»؛ ومن هنا، لا ينبغي علينا أن ننخدع ببعض المسائل والأحداث؛ فهي بأجمعها عبارة عن حقن إلهيّة مخدّرة؛ إذ ما الذي يُريده الله تعالى من هكذا أمور؟ فهذا الذي يعنيه {خَيْرُ الْماكِرِينَ}؛ أي أنّه تعالى يبتلي الإنسان، بحيث يغفل تمامًا عن الألم والدواء في الوقت ذاته؛ فنبقى مُلتَهين بأنفسنا. يقول الله تعالى: إمّا أن يكون هذا مكاني أنا، أو مكانك أنت! إذا رغبت بأن يكون مكاني أنا، فلا ينبغي عليك أن تستعرض نفسك؛ وإذا أحببت أن يكون المدار على نوري أنا، فلا يجب أن يبقى لك أيّ وجود، أو أيّ استقلال؛ ولا يتعيّن أن يبقى لك أيّ رأي في مقابل رأيي أنا؛ فنحن لا نجتمع مع بعضنا.. يقول الله تعالى: لا نجتمع معًا؛ لماذا؟ لأنّ حقيقته الواحدة هي المتحقّقة فقط في عالم الوجود؛ أجل، يبقى أنّه تعالى يتحلّى بالإنصاف إلى درجة أنّه لو كانت هناك حقيقتان في عالم الوجود، لقال تعالى: علينا أن نُقسّم الأمور بيننا، بل سأهب لك ذلك النصف أيضًا! فلو كان هناك إلهان، أو ثلاثة أو عشرة آلهة، لما أشكل علينا الأمر؛ لكن، بما أنّ حقيقته الواحدة هي التي ملأت دار الوجود، فإنّه لا يبقى لغيره أيّ مجال؛ ومن هنا، إذا أتينا، وافترضنا لأنفسنا غيريّة في مقابله، فإنّ هذه الغيريّة لا تجتمع معه؛ ولهذا، ففي كلّ موضع يكون هو، فإنّ العبوديّة هي التي ينبغي أن تكون معه؛ والعبوديّة تعني تسليم كافّة الأمور والقضايا إليه.. إلهي، نحن لا نفهم ولا نعلم شيئًا، ولا نمتلك أيّ شعور أو إحساس، ولا نتوفّر على أيّ وجود أبدًا؛ فنحن لا شيء، ونحن متمحّضون في الفقر والفاقة والبؤس والشقاء؛ فهذا هو شأننا. فإذا رآنا الله تعالى بهذا النحو، وبأنّنا نشعر في وجودنا بأنّنا لا نمتلك شيئًا، ولا استقلال لنا أبدًا، وأنّنا لا نقول: «إلهي أنا في هذا المقام أفهم أحسن منك؛ فتشخيصي للأمور هنا هو بهذا النحو، وعملي هو بهذا الشكل»؛ ففي هذه الحالة، سيتقدّم هو؛ لأنّ المفروض أنّ المسألة منحصرة فينا نحن الإثنين: إمّا أنا أو هو؛ فالقضيّة مانعة الخلوّ، بل هي مانعة الخلوّ ومانعة الجمع في الوقت ذاته، أي أنّها منفصلة حقيقيّة؛٢ فهل يُمكن أن يكون لدينا عدد زوج وفرد في نفس الآن؟ من الواضح أنّه لا يُمكن؛ لأنّ العدد إمّا زوج أو فرد؛ فالصفر ليس بعدد، والواحد فرد، والإثنين زوج، والثلاثة فرد، والأربعة زوج؛ وهلُمَّ جرًّا. ففي هذه الحالة، هل يُمكنكم أن تعثروا على عدد يكون زوجًا وفردًا في نفس الوقت؟ محال! كما أنّه من المستحيل أيضًا أن تجدوا عددًا لا يكون زوجًا ولا فردًا في الوقت ذاته. إنّ حالنا مع الله تعالى هو بنفس هذا النحو؛ ففي كلّ موضع، إمّا أن يكون هو أو نكون نحن؛ فإذا لم نكن نحن، يكون هو، وإذا كنّا نحن، لا يكون هو؛ وبنفس المقدار الذي نكون فيه نحن، لا يكون فيه هو، وبنفس المقدار الذي يكون فيه هو، لا نكون نحن؛ وهذا هو معنى العبوديّة.
العبوديّة نوعان: عبوديّة في بداية الطريق، وعبوديّة في نهايته
وعليه، فإنّ أوّل مسألة يذكرها الإمام الصادق عليه السلام لعنوان تتمثّل في قوله: أيّها السيّد! ألا تبحث عن الهداية؟ ألا تبحث عن النور؟ إنّ هذا النور يتنافى مع وجودك واستقلالك واستكبارك ومعارضتك؛ فاذهب وكن عبدًا أوّلاً؛ وهذا المقدار يدخل تحت قدرتك واستطاعتك؛ وحتّى إذا قلت: إلهي، لا حيلة لي، وليس بيدي أيّ سبيل؛ فإنّ الله تعالى سيقول: لا يهمّ ذلك، وأنا لا شأن لي بك، كما أنّني لن أحاسبك على هذا الأمر؛ فأنا أتعامل مع عبادي بحسب قدرتهم وطاقتهم ومقدار تحمّلهم؛ وأنا أعلم بأنّه لا سبيل لديك، وهذا أمر صحيح؛ لكن، بوسعك أن تكون عبدًا كحدّ أقلّ؛ فهل يدخل هذا المقدار تحت قدرتك، أم ستقول بأنّه خارج أيضًا عن استطاعتك؟ فأنت تقدر على تجنّب الكذب، والتحرّز عن البهتان واغتياب الناس، ويُمكنك ألاّ تخوض في الكلام اللغويّ، وتستطيع أن تُرجّح كفّتي حينما يقع تعارض بيني وبين غيري؛ فهل تقدر على ذلك أم لا؟ يُمكنك أن تكون عبدًا؛ هذا، مع أنّ العبوديّة التي يتحدّث عنها الإمام الصادق هنا في البداية لا يُراد منها نفس العبوديّة التي تفوق مقام الرسالة؛ لأنّ تلك العبوديّة تُمثّل آخر الطريق.
أَشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُهُ ورَسولُه: فمسألة العبوديّة تأتي قبل مسألة الرسالة، والرسالة لا تُساوي شروى نقير من دون العبوديّة؛ ففي ذلك الكتاب المنسوب إلى الفضيل بن عياض، يقول الإمام الصادق عليه السلام: العُبوديَّة جَوهَرَةٌ كُنهُه الرُّبوبيَّة۱؛ أي أنّ العبوديّة جوهرة نادرة إذا فتقناها، وفتحنا تلك الصدفة، فإنّنا سنرى في داخلها وباطنها الربوبيّة؛ لماذا؟ لأنّ العبوديّة تعني الفقر المحض؛ والعبد يُساوي اللاشيء، ويُعادل الاحتياج المطلق؛ فالعبد هو الإنسان الذي لا يملك من نفسه أيّة إرادة أو اختيار، وتكون شراشر وجوده وشوائبه الوجوديّة مندكّة بأجمعها في ظهور الحقّ وذاته تعالى؛ فهذا هو الذي يُقال له عبد؛ ولا يصل الإنسان إلى هذه المرتبة، إلاّ حينما يحلّ الله تعالى محلّ نفسه وفعله وكلامه وسلوكه.. «عَبدي أطِعني حتَّى أجعَلَكَ مِثلي»٢؛ أو ما جاء في ذلك الحديث القدسيّ الذي يقول الباري تعالى فيه: «لايزال عَبدي يتَقرَّبُ إلَىَّ بالنّوافِل حتَّى أكونُ سَمعَهُ الَّذى يسمَعُ به ولسانَهُ الَّذى ينطِقُ به وبَصَرَهُ الَّذى يبصِرُ به»٣؛ فهذه العبوديّة تأتي في نهاية الطريق، وليس في بدايته؛ وهي لا تكون مطلوبة في البداية؛ لأنّها تكون في ذلك الحين متعذّرة.
تزكية النفس وسيلة لتحقيق العبوديّة
يقول الإمام الصادق عليه السلام: عليك أوّلاً أن تكون عبدًا، فتسعى للتزكية؛ والتي من دونها، لا يُمكن للإنسان أن يحصل على ذلك النور؛ ولا فائدة من ذلك بتاتًا؛ إذ من المستحيل أن يرتكب الإنسان المعاصي، ثمّ يتوقّع من الله تعالى أن يهبه ذلك العلم؛ ومن المحال أن يرغب الإنسان في الدنيا وزخارفها، ثمّ يتوقّع أن يُضاء قلبُه؛ فهذا أمر مستحيل، ولا ينبغي أن نُفكّر فيه بتاتًا؛ لأنّ التفكير فيه هو بحدّ ذاته أمر زائد؛ ولهذا، فإنّه أمر محال جملةً وتفصيلاً؛ أي أنّه لا يحتاج إلى التفكير؛ فلا يُمكن أن يلهث الإنسان وراء المال والشهرة وتكديس الثروات وأمثال ذلك طلبًا للدنيا، ثمّ يتوقّع أن يستنير قلبُه، ويتمكّن من إدراك الحقائق؛ فهذا أمر مستحيل ومستعصٍ.
منزل دل نيست جاى صحبت اغيار | *** | ديو چو بيرون رود فرشته درآيد |
[يقول: ليس القلبُ مكانًا لاجتماع الأغيار؛ فإذا خرج الشيطان، دخلته الملائكة].
فلا يجتمع الشيطان والملك في قلب واحد، ولا يُمكن حلول حقيقتين متضادّتين في موضع واحد، ويستحيل وجود الظلمة والنور معًا في محلّ مشترك.
يقول العلاّمة رحمة الله تعالى عليه: في أحد الأيّام، كان أحد العظماء من أهالي مازندران يُقدّم وصايا لأحد أصدقائه كان يُريد التشرّف بزيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام؛ وحينما أراد السفر بقصد الزيارة، قال له: «بلّغ سلامي للإمام الرضا عليه السلام، وقل له إنّ لفلان حاجة عندك، فما هو جوابها؟»؛ هكذا، على نحو الإشارة! فقال العلاّمة رضوان الله تعالى عليه: فسافر ذلك الصديق، وذهب لزيارة عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فبقي هناك بضعة أيّام؛ وبالمناسبة، فقد نسي الرسالة التي أمره ذلك العظيم بإيصالها إلى الإمام عليه السلام؛ إلى أن حلّ آخر يوم ذهب فيه للحرم المطهّر من أجل التوديع وقراءة زيارة الوداع؛ ففي تلك اللحظة، رأى بأنّ حاله تغيّر فجأةً، وأنّ الخدّام قد أتوا، وبدؤوا يقودون الناس إلى خارج الحرم؛ فلم يبق أيّ أحد منهم في الفضاء الدائريّ المحيط بالضريح وتحت قبّته؛ وظلّ هو واقفًا بذلك النحو. وحينما غادر الجميع، رأى فجأة بأنّ باب الضريح قد فُتح، وخرج منه الإمام الرضا عليه السلام، والتفت إليه قائلاً: «يا فلان! اذهب إلى رفيقك، وقل له:
آينه شو وجمال پرى طلعتان طلب | *** | جاروب زن خانه وپس ميهمان طلب |
[يقول: كن مرآةً، ثمّ ابحث عن جمال الوجوه الملائكيّة؛ واكنس بيتك، ثمّ ابحث عن الضيف]
فقال الإمام عليه السلام هذا الكلام، ثمّ رجع إلى داخل الضريح؛ فعاد ذلك الشخص إلى حالته الطبيعيّة، فرأى بأنّ جميع الناس موجودون في أمكنتهم، وهم منهمكون في أداء الزيارة؛ ممّا يدلّ على أنّها كانت عبارة عن مكاشفة حصلت له. ثمّ إنّه قفل راجعًا إلى مدينته، وحينما ذهب لزيارة ذلك العالم، حكى له تلك القصّة؛ فتبيّن فحوى الرسالة التي كان بعثها للإمام، وكذلك الأسلوب الذي أجاب به عليه السلام، حيث كان يُريد أن يقول له: مع كلّ هذا الصدأ الذي يعلو قلبك، وهذه التعلّقات الدنيويّة التي تمتلكها، لا ينبغي أن يخطر على بالك أبدًا وصالنا، ولا يجب عليك أبدًا أن تتمنّى لقاء المحبوب؛ لأنّه في مقام طاهر وصاف ونقيّ وخال من الكدورة؛ فلا يُمكنك الوصول إليه بالنظر إلى هذه الحالة التي تعيشها؛ فعليك أن تلجأ للتزكية؛ ومن هنا، نجد بأنّ أوّل مسألة تحدّث عنها جميع العظماء ـ منذ سالف الأيّام ـ هي التزكية، والتي اعتبروا فيها ثلاث مراحل: الأولى التخلية، والثانية التجلية، والثالثة التحلية. ويُراد من التخلية أن يعمل الإنسان على تنقية قلبه من جميع أنواع الصدأ والكدورة والظلمة وتلك المسائل التي استحوذت عليه، ووقفت حاجزًا بين الإنسان وبين النور والانبساط، واحدة واحدة. وأمّا المرحلة الثانية، فهي مرحلة التجلية، حيث تُلامس جلوات الحقّ تعالى ذات الإنسان وقلبه؛ إلى أن يصل إلى مرحلة التحلية، فتصير هذه الجلوات ملكة بالنسبة إليه؛ فهذه هي أوّل مسألة؛ إذ ما دامت الكدورات النفسانيّة مستقرّة في القلب، لا يُمكن لذلك العلم وتلك الحقيقة النوريّة أن تنكشف للإنسان.
يقول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَن اقتَرَفَ ذَنبًا فارَقَه عَقلٌ لَم يعُد أبدًا»۱؛ أي أنّ هذا الذنب يتسبّب في انتفاء حصّة من حصص الإنسان الوجوديّة، وانعدامها؛ فلا تعود تلك الحصّة أبدًا؛ فقد يتوب الإنسان في اليوم اللاحق، وهذا أمر محفوظ في مكانه؛ غير أنّ تلك الحصّة التي انعدمت الآن لا ترجع بتاتًا؛ لأنّ اليوم اللاحق له حسابه الخاصّ، ويمتلك حصّته المختصّة به؛ وذلك لأنّ الوجود الذي وهبه الله تعالى للإنسان يقع في مقابل مجموعة من المسائل والنتائج التي تتوزّع عليه؛ فبمقدار ما ينتفع الإنسان من هذه الثروة [الوجودية]، فإنّه يُحصّل [أكثر] من تلك الحصّة؛ وأمّا إذا لم يتمكّن من الانتفاع منها، فإنّه لا يحصل على أيّ شيء من تلك الحصّة؛ ومن هنا، فإنّ ذلك الذنب يتسبّب في ضياع هذه الحصّة وسلبها.. لَم يعُد أبدًا! فالذنب كدورة، والكدورة لا تجتمع مع النور. فمنذ البداية، كانت جميع وصايا العظماء للسلاّك تنصبّ على الدقّة في المراقبة، والحرص على العمر، والتحفّظ عليه، والمحافظة على الأفعال والتصرّفات التي تصدر من الإنسان في هذا العمر؛ فكانت المسألة بهذا النحو منذ البداية، حيث نُلاحظ التأكيد على ذلك في الوصايا التي وردتنا عن الآخونذ الملاّ حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله تعالى عليه؛ بل أحيانًا، قد تكون غفلة واحدة سببًا في حرمان الإنسان من إحدى النعم.. غفلة واحدة!
في أحد الأيّام، كان السيّد القاضي رحمة الله تعالى عليه جالسًا برفقة تلامذته؛ فدار الكلام حول ضرورة محافظة السالك على نفسه من التفرقة والتشتّت، ولزوم انشغاله بنفسه، بحيث لا ينبغي عليه أن يشغل قلبه بما يحصل هنا وهناك؛ إذ من الطبيعيّ أن تقع مجموعة من المسائل والأحداث، من دون أن تكون لنا أيّة دخالة في ذلك؛ كأن يصير هنا شجار، وهناك عراك، وفي ذلك الشارع حادثة سير، وتلك المدينة سقوط للأمطار، وفي المدينة الأخرى هطول للثلوج مثلاً؛ لكن، ما هو شأننا نحن بسقوط الثلج والأمطار هنا وهناك، وبوقوع حادثة في الشارع؟ وهل إنّ اطّلاعنا على هذه المسائل يزيد فينا شيئًا؟ أو يجلب لنا نفعًا؟ وإلاّ، فلا إشكال في ذلك؛ إذ من الجيّد أن يسعى الإنسان العاقل إلى تحصيل كلّ ما فيه نفعه، لكن، إذا كان هذا الشيء لا توجد فيه أيّة منفعة، أليس من الأفضل ألاّ نشغل به أذهاننا؟ وبعد ذلك تحدّث السيّد القاضي عن السكوت؛ ففي بعض الموارد، يحصل الإنسان بواسطة هذا السكوت على حالات لا يُمكنه أن يُحصّلها من غيره؛ ثمّ توقّف رحمة الله تعالى عليه عن الكلام قليلاً؛ فسمعوا صوت طقطقة تأتي من الخارج؛ فقال لهم: حتّى هذه تلحق ضررًا بالسالك؛ أي مجرّد تلك الطقطقة؛ إذ من الممكن أحيانًا أن يكون السالك في حالة يتوجّب عليه فيها أن يكون مستغرقًا في نفسه، بحيث إنّ أدنى التفات يُؤدّي إلى حرمان هذا النفس من ذلك النور وتلك الجذبة؛ فلاحظوا هنا مقدار دقّة هذه المسائل؛ هذا، مع أنّ تلك الحالات لا تعود مرّة أخرى؛ وحتّى إذا عادت، فليس بتلك السرعة المطلوبة.
هذا، ناهيك عن أن يأتي الإنسان، ويرتكب معصية، حيث إنّ الأمر هنا يتعدّى مجرّد الطقطقة؛ وذلك كأن يغتاب أحدًا، أو يرميه ببهتان، أو يقضي ساعة من وقته في الكلام الذي لا طائل منه.. نرجو من الباري عزّ وجلّ أن يمنحنا جميعًا توفيق الشعور بآلامنا، لكي نعلم حينئذ ما الذي نقوله؛ وعلينا بأجمعنا أن نطلب هذا التوفيق منه سبحانه، وأن يهبنا الشعور ببؤسنا وآلامنا؛ فنحن الآن لا نحسّ بذلك، ونقول مع أنفسنا: لا يوجد لدينا أيّ نقص ولله الحمد! وجميع أمورنا جيّدة ومنتظمة، والجنّة في قبضتنا، والملائكة خاضعة لأوامرنا؛ ولهذا، فإنّ تلك المسائل لا تخصّنا نحن، بل ترتبط بأناس آخرين. وأمّا إذا أراد الباري عزّ وجلّ ـ لا قدّر الله تعالى! ـ أن يمنحنا ذلك الشعور والإدراك، وتعلّقت مشيئته بهذا الأمر، فإنّ الملامح سوف تتبدّل، والكلام سوف يتغيّر؛ وفي ذلك الحين، لن يكون بمقدورنا التفوّه بأيّ كلام، أو القيام بأيّ فعل كيفما كان.
وهذا هو الهدف من المسائل التي ذكرها الإمام الصادق؛ أي أنّه عليه السلام يُريد من ذلك أن يفتح الباب، وأن يقول: يا أيّها الإنسان! ليس باستطاعتك أن تُعمّر أكثر من ثلاثين أو أربعين أو ستّين سنة؛ فإذا كان من المفروض أن تقضيها بهذه الكلمات [الفارغة]، فإنّها ستنتهي، لكن، ماذا بعد ذلك؟! انظروا الآن إلى السنة التي مرّت عليكم، ولاحظوا ما هي المسائل التي استمعتم إليها في هذه السنة؛ وأنا أتحدّث بجدّ! كأن نفرض مثلاً أنّ هناك جهازًا يُسجّل كلّ ما سمعتموه على ورقة؛ وذلك عن طريق بعض الأسلاك والصمّامات الثنائيّة التي توصَل بالدماغ، حيث يُقال إنّ الدماغ يُسجّل كلّ المسائل التي يسمعها الإنسان من دون أن يُضيّع منها شيئًا؛ وأعتقد بأنّ هذه الأوراق والدفاتر ستخترق السقف طولاً! ففي هذه الحالة، إذا طالعتم هذه العشرة آلاف أو المائة ألف أو الخمسين ألف صفحة، هل ستجدون فيها عشر صفحات مفيدة؟ إن وجدتموها، دلّوني عليها! وإن اكتشفتم أنّكم استمعتم إلى عشرة صفحات ذات فائدة، أخبروني بذلك! فقط عشر صفحات! وابدؤوا الحساب من هذه الليلة مثلاً إلى ليلة الثالث عشر من رجب في السنة القادمة؛ أي ليلة ولادة أمير المؤمنين عليه السلام، والتي نرجو منه ببركتها أن يلتفت إلينا، ويمنحنا الشعور بهذا الألم.. بنفس ذلك الألم الذي كان يحسّ به، بل هذا غير ممكن بتاتًا؛ فليمحنا الشعور بواحد من الألف منه، أو بواحد من المليون من ذلك الألم الذي كان يدفعه لمغادرة منزله، والتوجّه نحو بساتين النخيل، والتعرّض لحالات الإغماء المتكرّرة؛ هذا، مع أنّنا لا نحتاج في ذلك إلى مغادرة منازلنا، بل يكفي أن نبقى فيها، ونستيقظ ساعة واحدة قبل الأذان؛ فلا نحتاج للذهاب إلى بساتين النخيل، ولا الجبال، ولا الصحاري والقفار.. لا يا عزيزي! بل ابق في بيتك جالسًا على السجّادة الناعمة، حيث النسيم العليل؛ فهم يقبلون منّا حتّى هذا المقدار؛ لأنّهم على درجة كبيرة من العظمة؛ فإذا منحونا ببركتهم واحدًا بالمليون من ذلك الألم وتلك الفاقة، فستلاحظون كم هو الفارق بين سنتنا السابقة، وسنتنا اللاحقة؛ وسترون كيف سنقضي هذه السنة! فإذا طالعنا تعاليم الأولياء، أفلا نجد من ضمنها المراقبة؟ وتندرج تحت المراقبة مسألة المحاسبة؛ بمعنى أنّه على الإنسان أن يُراجع حينما يُريد الذهاب إلى النوم جميع أعماله اليوميّة؛ فإذا كانت موافقة لرضى الله، يشكره؛ وإذا كانت مخالفة لرضاه تعالى، يستغفره؛ ثمّ بعد ذلك، يذهب لينام؛ فهذا أمرٌ! وحينئذ، علينا أن نرى ما هي الأعمال التي قمنا بها في السنة الفارطة؛ فحينما شاركنا في المجلس الفلاني، ما هو الكلام الذي سمعناه فيه؟ وما الذي قلناه هناك؟ وبماذا تحدّثنا إلى فلان؟ وما هو الكلام الذي ذكرناه في غيبة علاّن؟ فلنراجع تلك الأحداث، واحدًا واحدًا؛ لكي نتأكّد هل كانت أعمالنا صحيحة، أم لا؟ وهل جنينا منها فائدة، أم أنّنا لم نحصل منها على أيّة منفعة؛ فذهبت سنة من عمرنا هباءً منثورًا! ولنعقد العزم على ألاّ يستوي حالنا في السنتين السابقة واللاحقة؛ فماذا سيعني هذا؟ هذا هو معنى العبوديّة!
فإذا أردنا طلب العلم، فإنّ لذلك شرطٌ؛ أي علينا أن نمتلك العبوديّة، ونسعى نحو التزكية؛ فإذا قمنا بذلك، فإنّ تلك الحقائق ستأتي بالتدريج، الواحدة تلو الأخرى، وستمتدّ، وتتأيّد، إلى أن تصل إلى تلك المقامات العالية والرفيعة جدًّا؛ والتي نرجو من الله تعالى أن يُمسك بأيدينا حتّى نصل إليها.. تلك المقامات التي فيها ما لا عَينٌ رَأتْ ولا أذنٌ سَمِعَت ولا يخْطر عَلى قَلبِ بَشَرٍ.
رزقنا الله تعالى ذلك في هذه الليلة المباركة والميمونة بحقّ هؤلاء الطاهرين الذين جاؤوا إلى هذه الدنيا، وقضوا فيها أيّامًا قلائل، ووصلوا إلى مبتغاهم، وجعلوا كلّ همّهم وغمّهم منصبًّا على الأخذ بأيدي الآخرين، وإيصالهم إلى الهدف المنشود؛ ومع ذلك، لم يُصغ إليهم أيّ أحد، وتركوهم لوحدهم، ولم يتمكّنوا من استيعاب كلماتهم، بل اتّخذوها هزؤًا ولعبًا وسخريّةً؛ فنرجو من الباري عزّ وجلّ أن يُوفّقنا، لكيلا نقضي هذين اليومين المتبقّيين من عمرنا في الأمور الفارغة والعبثيّة، وأن يشملنا بعناية عظماء الولاية الإلهيّة لأمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة المعصومين، لا سيّما حضرة بقيّة الله أرواحُنا له الفداء.
أللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحمَّدٍ وَآلِ مُحمَّد