المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعلم و المعرفة
التوضيح
ما هو العلم الذي لا يمكن أن يحصل فيه خطأ؟ وهل جميع علومنا الحصولية صحيحة لا تحتمل الخطأ؟ لماذا لا يصح الاعتماد على المكاشفات والمنامات؟ كيف يمكن للعلم الحضوري أن يكون متّحداً مع الواقع؟ وما حقيقة العلاقة الباطنية بين المعشوقين؟ مواضيع تناولها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في هذه المحاضرة من شرح حديث عنوان البصري، بالإضافة إلى مواضيع أخرى مرتبطة بها، وأمثلة على العلم الحضوري، رابطاً الإخبارات الغيبية للنبي بالعلم الحضوري، وأنّه لا بد في الولي والأستاذ الكامل أن يكون لديه علم حضوري.
هو العليم
حقيقة العلم الحصولي والعلم الحضوري
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٦
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
قال يا أبا عبد الله: "لَيسَ العِلمُ بِالتّعلُّمِ، إنّما هو نورٌ يقَعُ في قَلبِ مَن يريدُ اللهُ تَباركَ و تَعالى أن يهديهُ، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك".
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري بأنّ العلم لا يمكن أن يتحقّق من خلال التعلّم والدراسة، بل العلم انكشاف ونور يجعله الله في قلب من يريد أن يهديه.
إمكانية الخطأ في العلم الحصولي
تحدّثنا للرفقاء في الجلسة السابقة عن انقسام العلم إلى حصولي وحضوري، وذكرنا بأنّه يوجد لدينا قسمان من العلم؛ أحدهما العلم الحصولي، وهو عبارة عن المعلومات التي تحصل للإنسان من خلال القراءة أو السماع أو من خلال ارتباطه بالمعلوم الخارجي عبر إحدى الحواس الخمسة، ويطلق على هذا العلم اسم العلم الحصولي. وقد يحصل اختلاف واشتباه في العلم الحصولي، فإذا فرضنا مثلاً بأنّه يوجد عدّة أشخاص هنا، والجميع يسمع كلامي، ولكن هل الجميع مطمئن بأنّه يعي جميع ما أقوله بكيفية واحدة؟ لا يمكننا أن ندّعي ذلك؛ لأنّه يكفي أن يحصل غفلة للإنسان ولو للحظة واحدة فلا يعود يسمع المطلب كما ينبغي، أو يكفي أن تكون القوى السامعة مختلفة من شخص لشخص، فلا يمكنه أن يستمع جيداً ويتلقّى مراد المتكلّم بسبب ذلك الاختلاف الحاصل.
كنت في مجلس في مشهد يتحدّث فيه المرحوم العلامة، وكان أحد الأصدقاء بجانبي يكتب ما يسمعه منه، وفجأة وقع نظري على ما كتبه فرأيته قد كتب المطلب الذي كان المرحوم العلامة يلقيه بشكل مختلف عما ذكره! فنبّهته على ذلك، وقلت له لقد ذكر هذا الأمر..
لماذا حصل هذا الاشتباه؟ إنّما حصل بسبب أمرين: أولاً قد تختلف القوة السامعة من شخص لآخر، وثانياً: أنّ الإنسان لا يمكنه التركيز في أمرين معاً في الاستماع والكتابة بشكل متوازي؛ فإدراكاتنا وقوانا محدودة، لا يمكننا أن نتجاوز الخصوصيات والحدود التي لدينا. فهل يمكنك في نفس الوقت الذي تتوجّه بشكل تام إلى كلام معلم وأستاذ مثلاً ـ خصوصاً إذا كانت مسألة علمية ـ أن تتوجّه والحال هذه إلى الكتابة، بحيث تكتب كل ما تسمعه بشكل كامل؟ إن لم نقل بأنّه غير ممكن، فلا أقل هو غير متعارف بين الناس، يعني من النادر جداً أن تجد فرداً لديه هذه القدرة. طبعاً، هذه المسألة بسبب محدودية القوى والمدركات الإنسانية، أما إذا فرضنا أنّ شخصاً ـ لامتلاكه بعض الخصوصيّات ـ يمكنه أن يستفيد من تمام تلك القوى في آن معاً، ويكون لديه قدرة الإشراف على قوى الظاهر والباطن فيستطيع أن يستفيد من كل قوّة لديه بشكل تام وفي آن معاً، وهذا الأمر بطبيعة الحال مرتبط بأفراد خاصّين.
عدم حجيّة خبر الواحد في الأمور الاعتقادية
بناء على هذا الأمر، لا يمكننا أن نعتمد ونثق بشكل كامل بما ينقله الآخرون من أمور، خصوصاً إذا كانت المطالب المنقولة على أهمية عالية جداً. لهذا السبب، وطبقاً للموازين والمباني الأصولية، لا يعتبر خبر الواحد حجّة في الأمور الاعتقادية، أما في الأحكام الجزئية والشرعية فيمكننا العمل بخبر الواحد على أمل أن يكون صحيحاً، بخلاف المسائل الاعتقادية وخصوصاً في الموارد التي قد يؤثّر زيادة حرف أو نقصانه في قلب معنى الكلام من أساسه وإعطاء معنى آخر، فعندئذٍ يستحيل عقلاً أن يعتمد الإنسان على خبر الواحد، ولو كان المخبر ثقة.
هذه الأمور إنّما كانت كذلك بسبب أنّ علمنا الحصولي يقبل الضعف والشدّة بحسب اختلاف الأسباب الظاهرية والمادية، فتنعكس تلك الأمور على هذه الموارد فتحصل هذه الاختلافات. وهذا الأمر كذلك مرتبط بقوانا ومدركاتنا الباطنية؛ بمعنى أنّ الإنسان لديه قوّة خيال، ولديه القوّة العاقلة والقوّة الحاسّة والقوّة الغاضبة والشهوة، فهذه القوى التي للإنسان تؤثّر على أموره وقضاياه الباطنية، لا الظاهرية. وعلى أساس تلك التأثيرات يحصل لنا صور نراها إما في المنام أو في المكاشفة بمراتبها المختلفة.
السبب في عدم صحة الاعتماد على المنامات والمكاشفات
وبما أنّ معلوماتنا الحصولية تقبل الخطأ والصحة ـ كما ذكرنا ـ ولا يمكننا الاعتماد عليها والوثوق بها، كذلك لا يمكننا الوثوق أيضاً بمدركاتنا الحصولية التي تحصل للإنسان بشكل صُوَر ومعاني؛ لاحتمال وجود اختلال فيها. من هنا يعتبر الاعتماد على المنامات والمكاشفات من أخطر المهالك التي قد يقع فيها سالكو الطريق إلى الله؛ وذلك لأنّ قابلية تشخيص الصحيح من السقيم في هذه الصور التي تحصل للإنسان في غاية الدقّة، ولأنّ نفس الإنسان سريعة التأثّر بتلك العلل والأسباب التي تتحكّم بها. وبناء على ذلك، فكيف يمكن للسالك أن يعتمد على الصورة التي يراها ويحكم عليها بأنّها واقعية، أو يحكم عليها بخلاف ذلك؟! لذا نرى أنّ جميع العظماء من صدر الإسلام وقبل الإسلام إلى زماننا هذا يحذّرون الناس من العمل على أساس المدركات الذهنية وترتيب الأثر عليها. ولهذا السبب نصب الله تعالى ـ بالإضافة إلى جعله العقل المتّصل الموجود مع كل إنسان، والذي من خلاله يمكنه أن يشخّص الطريق الأحسن ضمن سعته الوجودية وظرفيّته ـ لنا عقلاً منفصلاً بعنوان رسول ونبي وإمام عليهم السلام۱، أو وليّ، بحيث يكون كلامهم وأوامرهم حجّة على الناس. نعم، سوف نتحدّث حول هذه المطالب لاحقاً بشكل مفصّل إن شاء الله، وذلك عندما نصل إلى العبارة التي تتحدّث عنها في رواية عنوان البصري.
حقيقة العلم الحضوري هو الواقع الذي لا يقبل الخطأ
العلم الوحيد الذي لدينا الذي لا يمكن أن يكون مخالفاً للواقع هو العلم الذي يكون عين الواقع؛ يعني كما أنّ الواقع لا اشتباه فيه ولا خطأ.. مثل وجود هذا الكتاب الموجود أمامي هو أمر واقعي؛ سواء علمت أنا بهذا الكتاب أم لا، نفس هذا الكتاب أمر واقعي، كذلك وجودكم في هذا المكان أمر واقعي؛ سواء كنت أعرف كم شخص موجود هنا أم لا! فهذا الأمر لا يمكن إنكاره.. لا يمكنكم أن تنكروا نفس وجودكم في هذه الغرفة، فقد ذكرنا بأنّه حتى لو أتى ألف شخص وقالوا بأنّكم لستم موجودين في هذه الغرفة، ستقولون: ما هذا الكلام؟! فالاطلاع على الوجود عبارة عن العلم الحضوري بتلك الواقعة، يعني أنّ العلم قد اتحدّ بالوجود الخارجي المعلوم، أما إذا لم يتّحد به؛ كأن أعلم بالوجود الخارجي للشخص الجالس هنا، الذي وزنه سبعون كلغ، أو ستون كلغ أو خمسون كلغ، نفس هذا الشخص الجالس هنا عبارة عن حقيقة خارجية، فإذا شاهدت أمامي بعض الإخوة والرفقاء، يكون علمي بهم علماً حصولياً. ومن الممكن أن يحصل خطأ فيما تراه عيني؛ مثلاً إذا رفعت النظارات فمن الممكن أن تشاهد عيني السيد كاظمي وأراه شخصاً آخر؛ إذ قد تكون لحيتهما متشابهة وشكلهما متقارب، فأقول عنه بأنّه السيد صادقي بدلاً من السيد كاظمي، فيقال لي سيدنا لقد رفعت النظارات، ضعها ثم انظر جيداً! إذن من الممكن أن يحصل لي هكذا اشتباه عند اطلاعي على أي واقعية خارجية، ولا إشكال في ذلك، لكن نفس تلك الواقعة الخارجية ونفس تلك الحقيقة الخارجية التي يحكيها علمي بها؛ مهما كان ذاك المعلوم الخارجي؛ سواء كان السيد كاظمي أم السيد صادقي، أو كان شخصاً ثالثاً، ففي النهاية هناك واقعية موجودة الآن لا يمكن إنكارها ولا التشكيك بها. فإذا صار علمي متّحداً بتلك الواقعيّة الخارجية عندئذٍ يصير ذاك العلم نفس تلك الحقيقة الخارجية لا يمكن إنكاره أو التشكيك به.
كيف يمكن لهذا العلم أن يتحقّق؟ يتحقّق بإحدى الصورتين المذكورتين، لكن نتحدّث هنا عن علم الشخص بنفسه في الخارج؛ كعلمي الآن بنفسي، فإذا فرضنا بأنّ حيواناً مثلاً دخل إلى هنا، أو عقرباً أتى من تلك الزاوية، فلماذا أفرّ منه؟ ما الذي حصل في ذاتي فجعلني أفرّ عندما أشاهد العقرب أو الحيّة؟ لأنّه لديّ علم بذاتي، ولو كنت غافلاً عن نفسي أو نائماً مثلاً لما تحرّكت أساساً ولم أرتّب أي أثر على ذلك. فالآن إنّما رتّبت أثراً على هذا الأمر لأنّي عالم بنفسي وعالم بوجودي، ورأيت أنّ هذا الأمر [العقرب] ينافي وجودي وخطر عليّ، ففررت منه! هذا العلم علم حضوري، ولا يحصل اشتباه فيه، لأنّه هو عين الواقع؛ يعني العلم في المقام قد اتحدّ بتلك العينية الخارجية وصارا معاً وجوداً واحداً، لذا لا مجال للخطأ في هذه الحالة، وإلا [بأن تحقّق الخطأ في هذا المورد] فسوف يتحقّق الخطأ في جميع المطالب والموارد. وأما بأي نحو يحصل الخطأ، فنتركه للجلسات اللاحقة إن شاء الله.
وأما أنّ الإنسان في أي مرتبة من العلم يمكنه أن يطبّق مدركاته بشكل كامل مع تلك الواقعية الخارجية بنسبة مائة بالمائة؟ فنقول بأنّه يتحقّق ذلك عندما لا يكون أي تباين بين مدركات الإنسان وبين تلك الواقعية الخارجية، وذلك يحصل عندما يصير الإنسان عين تلك الواقعية الخارجية.
من كيم ليلى و ليلى كيست من | *** | ما يكي روحيم اندر دو بدن۱ |
[من أنا ومن تكون ليلى، نحن روح واحدة حلّت في بدنين اثنين]
العلاقة الشديدة بين المعشوق ومعشوقه من العلم الحضوري
يشير مجنون ليلى في هذه العبارة إلى هذه الواقعية، فيقول: بأنّ الحب والعشق قد يصل بالإنسان إلى أن لا يرى لشيئين إلا وجوداً واحداً، يعني كما أنّ الإنسان عندما ينظر إلى نفسه يرى أنّ لديه علوماً ويحفظ مثلاً هذا الشعر وهذا البيت الذي قرأته عليكم، فأنا أشعر بالحقيقة العلمية والصورة العلمية لهذا الشعر في وجودي، وهذا الأمر غير قابل للخطأ. نعم ممكن أن يكون نفس الشعر خطأ، ومن الممكن أن أكون مشتبهاً في حفظي للشعر؛ فبدلاً من كلمة "ما" أقرأ "من"، أو بالعكس، لكن الشعر الذي في ذهني الآن لا يقبل الخطأ أصلاً، فلو لم يكن لديّ ذلك لما استطعت أن أقرأ لكم شيئاً، إذ لا يوجد شيء أمامي لأقرأه لكم، بل أقرأ ما في ذهني. فهذه الحقيقة لها واقعية في نفسي. فأنا الآن أشاهد وجود غرائز في نفسي؛ غريزة الغضب وغريزة الشهوة وغريزة التفكير والإحساس وسائر الغرائز الأخرى التي يجدها أي إنسان في وجوده؛ سواء شعر بها بعد تأمّل أم بدون تأمّل، فهذه الأمور موجودة في نفسه. فإذا استطعت أن تدرك وتشعر بشخص آخر في وجودك كما تشعر بهذه الغرائز والأمور في نفسك ووجودك، تكون قد علمت به علماً حضورياً.
العلم الحضوري هو اتحاد نفس الإنسان بالمعلوم وبتلك الحقيقة الخارجية فيصير معها أمراً واحداً. لذا عندما قال مجنون ليلى: "نحن روح واحدة حلّت في بدنين" لم يكذب في ذلك، بل قال الحقيقة التي يشعر بها. يعني عندما ينظر مجنون ليلى إلى نفسه لا يرى أنّ وجود ليلى مقابل لوجوده، بل يرى ليلى في قلبه وفي سرّه ونفسه، فلا يذهب ليبحث عنها هنا وهناك، بل وجوده صار متّحداً مع تلك الحقيقة الخارجية. هذا هو العلم الحضوري، وهذا العلم الحضوري لا خطأ فيه. لذا ينظر في نفسه ويخبر عمّا يجري على ليلى، ويقول: لقد سقطت على الأرض الآن.. فهو يرى هذا المطلب في وجوده وفي نفسه، لقد شاهد في نفسه أنّ ليلى سقطت على الأرض، وهكذا حينما يقول لقد استيقظت ليلى من نومها، أو أنّها تأكل، أو تصلّي، فجميع هذه الحالات موجودة في نفسه وذاته.
الإخبار الغيبي للنبي بما جرى في حرب مؤتة من العلم الحضوري
في حرب مؤتة ـ حيث وقعت حرب بين المسلمين وبين طائفة من النصارى في منطقة مؤتة واستشهد فيها جعفر الطيّار وعبد الله بن رواحة مع بعض أصحاب النبي من الدرجة الأولى، وهناك مزار لهم اليوم في الأردن ـ عندما كان المسلمون يحاربون كان النبي يحدّث أصحابه بتمام ما يجري في تلك الحرب۱؛ فقال: الآن سقطت الراية من يد زيد بن الحارثة مثلاً، وتناولها عبد الله بن رواحة ـ لست متأكّداً من ترتيب الأسماء ـ ثم قال: لقد جرح الآن جعفر الطيار وسقطت على الأرض، وكان يذكر كل ما يجري على المسلمين وهم في مؤتة.. إلى أن قال: لقد انتصر المسلمون وفتح الله على أيديهم. وبعد مدّة عاد المسلمون فرأوا أنّ جميع أهل المدينة عالمون بتمام ما جرى في الحرب، وقيل لهم لقد أخبرنا النبي بما جرى عليكم تفصيلاً..
بأي شيء كان هذا النحو من إخبار النبي؟ هل أحضر الله له صورة فيها الأحداث؟ أم أنّه أحضر للنبي دفتراً فيه خبر ما جرى، فكان النبي يشاهد ويخبر بتلك الصور؟ هل كان الأمر كذلك؟ لو كان الأمر كذلك لأمكن فيه الاشتباه، حتما ليس الأمر كذلك! بل عندما يخبر النبي بهذا المطلب يكون نفس النبي مشاركاً في الحرب؛ يعني أنّ جميع ما جرى في هذه الحرب.. من جيش النصارى وجيش المسلمين وعبد الله بن رواحة وجعفر الطيّار وزيد بن حارثة.. جميع هذه الأمور كانت في وجود النبي عند نقله أخبار الحرب للمسلمين في المدينة، فكان النبي ينظر إلى نفسه وذاته، ثم يخبر الناس، وهذا الأمر لا اشتباه فيه. هذا هو العلم الحضوري.
أعمال الخضر كانت بالعلم الحضوري
أنقل لكم مثالاً على ذلك، في قصّة الخضر والنبي موسى ـ التي هي قصة عجيبة جداً ـ حصل اختلاف بين النبي موسى والخضر.. فكل منهما كان له شأن كبير، فالنبي موسى لديه معاجز اليد البيضاء والعصا التي تتحوّل إلى أفعى كبيرة، وكان من أنبياء أولي العزم، وقد أنزل الله عليه كتاباً وجعل له شريعة، وهو الذي أغرق فرعون وجنوده في البحر.. مثل هذا الشخص يريد أن يرافق الخضر، والحال أنّ الخضر كان يقوم بأعمال غير عادية وغير متعارفة؛ لو نظرنا إليها لقلنا عنها في الوهلة الأولى بأنّها خلاف الشرع وحرام! أليس خرق سفينة الغير حراماً؟! سنقول له هذا العمل المخرّب هو إضرار بمال الغير وأمثال ذلك! أما هو فلن يعيرنا سمعه أبداً، بل سيقوم بفعله ولو خالفه جميع الناس، سيحطّم السفينة بدم بارد، وسيقطع رأس الغلام دون أن يرف له جفن، وكأنّه لم يفعل شيئاً، وسوف يقوم بأمور يصعب علينا إدراكها ـ إن لم نقل باستحالة إدراكها ـ بسهولة، وذلك في محضر النبي موسى.. وهذا الفعل من الخضر كان فعله اليومي، لا أنّه فعل ذلك فقط أمام النبي موسى، بل كان قد قتل شخصين آخرين في مكان آخر، لكنّه قتل الغلام أمام النبي موسى فلم يتحمّل موسى ذلك واعترض عليه، فقال له أنا هكذا، {إنّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً}٢، وهذا يعني أنّني كذلك دائماً، اليوم رأيت منّي يا موسى هذا الفعل، لكنّك غداً سترى منّي ما هو أصعب؛ إذ من الممكن أن أقتل غداً طفلاً رضيعاً، لا في عمر العشر سنوات، {إنّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً} تدّل على الاستمرار في المستقبل، لن تستطيع يعني لا يمكنك أن تتحمّل ذلك، ولا قابلية لديك في هذا الأمر حتى تكون معي ومصاحبي دائماً، بل ستعترض عليّ وتقول هل هذا الطفل طير حتى تذبحه بهذا الشكل؟! فهذا الطفل معصوم لم يرتكب ذنباً، فكيف يمكنك أن تتصوّر هذا الأمر فضلاً عن فعله؟
العقل الناقص لا يدرك حقيقة فعل الخضر
حسناً، سوف أبيّن لكم هذه القضية المهمّة أولاً، ثم أتنزّل بها قليلاً؛ كل عاقل ـ إلى أي مذهب وملّة انتسب ـ سوف يعترض على عمل الخضر هذا، وسيحكم عليه بالبطلان؛ إذ إتلاف مال الآخر فيه إشكال بنظر أي دين ومنهج، وهو مردود عقلاً. وحينما أقول بأنّ هذا الفعل مردود عقلاً، لا يتصوّر بأنّه بناء على ذلك يمكن للعقل أن يحكم بخلاف قوانين الأنبياء، ويحكم على عملهم بالبطلان وعدم الصحة، كلا، بل العقل طبقاً لميزانه ومحدوديته الفكرية ـ باعتبار أنّ عقلنا ليس كاملاً ـ يحكم بردّ هذا العمل، وإذا تبدّلت محدوديته الفكرية ووصل إلى مرتبة أعلى، عندئذٍ يأتي هذا العقل ويؤيّد عمل الأنبياء. وسأبيّن لكم كيف يحصل ذلك.
نفس قطع رأس طفل في العاشرة من عمره وحرمانه من نعمة الحياة، والحال أنّ الله لم يكلّفه بتكليف، ولا يعاقبه على فعل.. هذا الفعل مردود. واللطيف أنّ هذا الأمر بنفسه يذكره القرآن ويمضيه من أساسه! فالخضر يقول للنبي موسى {إنّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً}، يعني أنّك لا طاقة لك على رؤية ما يصدر منّي من أفعال. هذا من جهة ومن جهة أخرى، نرى أنّ هذا هو عمل الخضر؛ عمله القتل والتخريب و...، طبعاً لم يكن عمله مقتصراً على ذلك، بل كان يصدر منه إصلاح؛ حيث عمل على إصلاح الجدار الذي كان سينهدم، وكان فعله هذا عبثاً بنظر موسى؛ حيث قال له هذا الجدار متلاشٍ وتعمل على إصلاحه، فهو ليس بيتاً أو ذا أهميّة لكي تبذل فيه هذا الجهد..
ـ كلا بل أريد أن أصلحه.. ماذا تنتظر؟ اذهب وهيّئ الطين والحجارة وأحضرها، وكان موسى يفعل ذلك والعرق يتصبّب منه، والخضر يعمل عمله بإتقان، ويُحكم بناء الجدار، فقال له موسى: ماذا ستستفيد من هذا العمل المتقن؟ لقد أرهقتني بالعمل، والحال أنّ هذه القرية لا تستحق ذلك، إذ إنّ أحداً لم يستضفنا فيها، ومع ذلك ترهق نفسك بهذا العمل الذي لا طائل منه.. وبعد ذلك ربما تقول: تعال لنصلح لهم مجرى المياه، ولنزرع لهم حقولهم وبساتينهم وننصب لهم الأشجار!
هكذا كان عمل الخضر وهكذا كان يفعل، يقول لموسى: اذهب وافعل ما تريد، فقد أنزل الله عليك الكتاب الشريعة وأتيت بدين جديد، فاذهب وقم بعملك، ونحن نذهب ونقوم بعملنا، فلا يمكننا أن نوفّق بين هاتين المهمّتين. فهذا يقول للخضر ما هذا العمل؟ وذاك يقول له اذهب وقم بعملك! والحال أنّه لا يمكن لموسى أن يقول للخضر أنت مشتبه ومخطئ، فالله تعالى أمره بالذهاب إليه {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا}۱، دقّقوا في كلمة عبد، فالعبد يعني أنّه قد وصل إلى مقام العبودية، وهذا العبد يقوم بأعمال لا تنسجم مع العقل؛ هو يقتل ويخرّب ويبني دون جدوى، وقد بيّن الله تعالى هذه الأعمال الثلاثة كنموذج على أعمال الخضر؛ إذ قد يصدر منه طلاق بين زوجين غداً، أو يوصل بين اثنين، أو يدفع شخصاً للسقوط عن السطح أو يلقي بآخر في البئر.. فهو يفعل كل شيء يمكن أن تتصوّره، لكن القرآن أعطانا هذه الأمثلة؛ وهي القتل والتخريب والبناء. فالقتل والتخريب أمران سلبيّان، وأما البناء فهو وإن كان أمراً إيجابياً، لكنّه كان بلا طائل ولا فائدة، هذا هو عمل الخضر.
تنزّل المشيئة الإلهية إلى العالم من خلال الملائكة
حسناً، نترك عمل الخضر في المقام على ما هو عليه، ونتحدّث في مسألة التقدير الإلهي والمشيئة الإلهية ضمن سلسلة العلل والأسباب.
مما لا شك فيه أنّ كل ما يقع في هذا العالم من أمور ينبغي أن يمرّ ضمن قنوات ومحطّات ليصل إلى الأرض ويتحقّق في هذا العالم؛ كما إذا كان سيقع زلزال في مكان ما، فينبغي أولاً أن يتم تثبيت هذا الزلزال في التقدير الإلهي وفي عالم اللوح المحفوظ، ثم ينزل إلى لوح المحو والإثبات وبعدها يعطى إلى الملائكة؛ فتعطي الملائكة المقرّبون الأمر إلى الملائكة التي دونهم ويتناقلونه يداً بيد إلى أن يصل إلى الملائكة الموكلّين بهذا العالم {فالمدَبِّرَاتِ أَمْراً}٢، فيقوموا بتحريك بعض أجزاء الأرض ويحصل زلزال وتدفن قرية كاملة تحت التراب.. وهذا الأمر لا شك فيه أيضاً، فاعتقادنا ومبانينا قائمة على هذا الأساس. أو مثلاً تأتي صاعقة فتدمّر مدينة بأكملها، فالإحياء والإماتة وكلّ هذه الأمور تقوم بها الملائمة المقرّبون المأمورون بإجراء المشيئة الإلهية وتنزيلها من عالم التقدير واللوح المحفوظ إلى عالم الملك والشهادة، غاية الأمر كلّ منهم يعمل في مرتبته؛ فعزرائيل لديه ملائكة يعملون تحت يده، وجبرائيل لديه ملائكة، وكذا إسرافيل. وهذا الأمر مما لا شكّ فيه عند أحد. حسناً الآن نسأل: لماذا صار عمل الخضر في قتله لطفل في العاشرة من عمره محلّ إشكال عندنا، بينما لا يعترض أحد على ذاك الملاك الذي يلقي بالطفل من السطح؟! فعندما يصعد طفل إلى السطح وهو في حالة نوم مثلاً ويقترب من الحافّة ويسقط، من الذي يفعل به هذا الفعل؟
هناك بعض الأشخاص يتحرّكون ويمشون أثناء نومهم ويتكلّمون ويفعلون بعض الأمور، وأنا أعرف شخصاً ـ توفي رحمة الله عليه ـ كان ينهض أثناء نومه ويلبس ثيابه جيداً ويخرج من المنزل لمدّة نصف ساعة ثم يعود ويغلق الباب ويضع المفتاح في مكانه ثم يذهب إلى فراشه للنوم، وعندما يسأل في اليوم التالي عن فعله هذا يقول لا لم أفعل شيئاً، وكان يفعل ذلك دائماً، يقوم بدورية ليلية[ضحك].. وكذا العديد من الأشخاص يفعلون ذلك.
كنت مرة في مكان في خدمة المرحوم العلامة، وكان هناك طفل كنت قد علّمته سورة التكاثر في ذلك اليوم، وبعدما نام، نهض وقرأ سورة التكاثر من أولها إلى آخرها ثم عاد إلى النوم مرة أخرى. وقال لي المرحوم العلامة دعه لا تقل له شيئاً. فهذه الأمور عادية وتحصل يومياً، وجميعنا مطلع على مثل هكذا أحداث.
نقلت لي الوالدة هذه القصّة: قال أحد أقاربنا عن بعض أقاربه في كرمانشاه بأنّه خرج فجراً من المنزل ووقف في ساحة المنزل ورفع يديه دون أن يدرك ماذا يفعل، وفي هذه الأثناء سقط طفل رضيع من السطح ووقع على يديه ثم على الأرض وبدأ بالبكاء، والناقل لهذه الحادثة كان يصلّي في الساحة ـ وقد انتقل إلى رحمة الله وكان من أهل العلم ـ قال: عندما رأيت هذا الشخص ينزل من الدرج، قلت فلأنظر ماذا هناك، ولما خرج سقط الطفل من السطح على يديه.. من الذي فعل هذا الفعل؟ هل هذا الفعل صدفة واتفاق؟ واللطيف أنّ هذا الطفل الذي نجّاه الله تعالى بهذه الكيفية وبهذا الشكل عندما صار في سن الرابعة والعشرين من عمره اعوجّت رجله على الدرج ووقع من درجة واحدة ومات.
جميع الأمور التي تحصل في هذا العالم تحصل بواسطة الملائكة الذين يزيدون هنا وينقصون هناك، ويرفعون ويضعون الأمور حتى تأخذ القضايا شكلها المطلوب وتظهر في هذا العالم. حسناً هل رأيتم أحداً اعترض على عملهم؟ وقال لماذا مات هذا الرجل اليوم؟ فحتى لو سبّيت لعزرائيل وطالبته بأن لا يقبض روح فلان، سيقول لك: ما أنا إلا ملك وعبد مأمور بأن أقبض روح فلان، فماذا أفعل؟ في الصباح أفتح دفتر عملي وأرى أسماء الأشخاص الذين ينبغي عليّ أن أقبض أرواحهم اليوم، لكن كيف أفعل ذلك؟ أحدهم مثلاً يذهب إلى الدكتور ويدخل غرفة العمليات، والآخر ينبغي أن تصدمه شاحنة، وذاك يريد أن يقطع شيئاً بالسكين فنلوي يده قليلاً، وذاك نحدث له مشكلة في جهازه التنفسي وهكذا... فهو [عزرائيل] يعرف العمل أكثر منا، نحن لا نعرف شيئاً من هذه الأمور..
قصة رجل
هناك قصّة تُنقل ـ لا علاقة لنا بصحة النقل، إنّما نأخذ المسألة من باب المثال ـ بأنّ نبياً قال لتاجر بأنّك ستموت في البحر ـ وكان يسافر إلى الهند بالسفن ـ فقال لا بأس، سوف أوكل أمر التجارة لغلماني وشركائي وأجلس أنا في المنزل. والحاصل بعد مضي سنة أو سنتين على ذلك، ضاق ذرعاً من الجلوس في البيت، قال في نفسه فلأذهب وأخدع الله، لن أركب مركباً وحدي، بل سأركب في مراكب كبيرة تحمل مائتي رجل أو ثلاثمائة وأسافر بها، وبطبيعة الحال أنّ الله لن يغرق الجميع بسببي أنا. فذهب وركب مركباً جيداً وسافر به، وفي البحر حصلت عواصف وعلت الأمواج ورأى أنّ المسألة جديّة، فقال يا رب المقرّر أن أموت أنا في البحر، فما ذنب هؤلاء الأشخاص الذين معي؟ فقال له: هؤلاء مثلك، لقد جمعناهم كلّهم معك لأجل أن نغرقهم جميعاً، فهم أيضاً أتى وقتهم [ضحك].. أنظروا! عندما حان وقت موته ضاق صدره من الجلوس في البيت! هذه كلها لأجل أن يحصل تنزّل الأمر ضمن أسبابه، لا يمكن للإنسان أن ينهض من النوم ويحصل على أمر هكذا.. فذاك الملاك الذي يريد أن يوجد أمراً في الخارج عليه أن يقوم بملايين الأمور لكي يتم مثلاً رفع كوب من الماء عن الأرض. يذهب إلى هنا وهناك ويزيد من هذا وينقص من ذاك لكي يموت شخص أو يحيا آخر، أو يحصل علم لشخص أو قدرة أو نعمة. وهذه الأمور تحصل يداً بيد من قِبل الملائكة ضمن مجموعة من الأمور دون أن يتغلّب فيها شيء على شيء، إلى أن يتحقّق الأمر في الخارج. وعليه فجميع هذه الأحداث والموت والقتل في الخارج كلّها تتحقق بواسطة الملائكة.
حسناً، نسأل هنا: ما الإشكال في أن يوكل الله تعالى عمل الملائكة هذا في إنجاز الأمور في الخارج إلى فرد من البشر؟ هنا نريد أن نصحّح عمل الخضر ونبيّن أنّه قام بعمل حسن. مثلاً إذا فرضنا أنّ هذه السفينة كانت تجري في البحر وسقط عليها حجر من السماء وحطّمها، والحال أنّ أحداً لم يفعل شيئاً، فيكون قد حصل الغرض في أن تبقى هذه السفينة لأصحابها دون أن يأخذها ذاك الملك غصباً. فمع الالتفات إلى هذه المصلحة سنقول هذا فعل الله، والحمد لله أنّ هذه السفينة قد أصابها حجر وتكسّرت ولم يأخذها ذاك الملك ظلماً. حسناً، إذا كان هذا العمل صحيحاً، فلماذا نعتبر عمل الخضر خطأ، والحال أنّهما شيء واحد.
السبب في عدم القبول بفعل الخضر هو التوغل في الإحساسات
ما أذكره لكم إنّما هو للإشارة إلى الآية التي تبيّن هذه المسألة {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}۱، فهو يقول أنا لم أفعل هذا الأمر من تلقاء نفسي، كما أنّ جبرائيل لا يفعل ما يفعله من تلقاء نفسه، وكذلك عزرائيل. فلو كان لدينا اطلاع على أنّ هذا الطفل ذا العشر سنوات عندما يكبر سوف يصدر منه مفاسد كبيرة؛ سوف يكتشف اكتشافاً يمحي البشرية عن بكرة أبيها وأمثال ذلك، أو أنّه سوف يقتل والديه ويكون سبباً في إفسادهما.. فلو كنا نعلم بهذا الأمر، ونعلم بأنّه سيموت هذا الطفل وسيعوض الله أهله طفلاً أفضل منه، ألم نكن نقول سلمت يدا عزرائيل على قبضه لهذا الطفل؟ فلماذا لا نقول ذلك إذا أقدم الخضر على قتله، بل نعترض عليه ونعتبر عمله غير جيد؟! لماذا؟ لأنّنا مأسورون للظاهر والمظهر في هذه الأعمال، فالظهور أمر واحد ولا فرق فيه بين عزرائيل والخضر، لكن بما أنّنا نتعامل بإحساساتنا وبما أنّنا محكومون لعالم الظاهر، فعندما نرى أنّ المسألة قد تحقّقت من ناحية الغيب نقبل بها، بينما إذا حصلت هذه المسألة بنفسها من قبل شخص ظاهري ننزعج ولا نقبل به! لماذا؟ والحال أنّ أصل المسألة واحد.
قبض عزرائيل للأرواح بالعلم الحضوري
لقد قام الخضر في فعله هذا بنفس الفعل الذي يقوم به عزرائيل عادة في هذه الدنيا؛ يعني أنّ كلا الفعلين لهما منشأ واحد وكلاهما في مسار واحد. ليس تصوير المسألة في أنّ الخضر مثلاً يرى شيئاً ثم يأمره الله تعالى به، لا! بل يرى الخضر هذه المسألة في وجوده، فيرى قتل هذا الطفل في وجوده؛ كما أنّ عزرائيل والملائكة المقرّبين تحته يرون في أنفسهم إماتة هؤلاء الأشخاص وإزهاق أرواحهم، وعندما يرون ذلك في أنفسهم يبدؤون بتنفيذ هذا الأمر في أنفسهم. كما هو الحال فيما إذا أردت أن تستحضر أمراً كنت قد حفظته قبل أسبوعين؛ مثل أن تكون قد التقيت شخصاً قبل أسبوعين وتحدّث معك بأمر، فتجلس وتجول في ذهنك وتغوص في ذهنك إلى أن تصل وتتذكّر الكلام الذي قاله لك.
عزرائيل أيضاً عندما يرى في وجوده أنّه ينبغي قبض روح فلان اليوم، هو ليس بحاجة إلى أن يتنزّل من ذلك العالم ويطرق الباب ويدخل ثم يقبض روح الشخص، لا بل حيث هو، يقوم بهذا الفعل في وجوده. مثلاً يرى أنّ زيداً ينبغي أن يموت بصدم سيارة له، فيجعل ذاك الرجل يفتح باب السيارة ويشغّلها ويركب فيها زوجته وأبناءه ـ وهذه الأمور كلها موجودة في نفسه ـ فتأتي هذه السيارة إلى أن تصل إلى المكان المحدّد.. ومن جهة أخرى يأتي بزيد من منزله ويخرجه لشراء الخبز مثلاً، أو لشراء الفاكهة والخضار ليحضرها بعد أن تلحّ عليه زوجته وتعاتبه، فيخرج مطيعاً لأمرها حاملاً الحقيبة بيده [ضحك]، وعندما يصل إلى ذاك الطرف من الشارع تأتي تلك السيارة وتصدمه. هذا عمل الملائكة المقرّبين الذين يجرون التقدير والمشيئة الإلهية بهذا الشكل في عالم الشهادة، وهذا الأمر سار أيضاً في سائر العوالم، لا أنّه مختصّ فقط بهذا العالم.
فالخضر على نبينا وآله وعليه السلام كان قد وصل إلى هذا العلم الحضوري؛ يعني عندما كان يقوم بهذا العمل؛ كأنّ عزرائيل هو الذي يقوم به دون أن يرى أي فرق بينهما، يعني يمكننا أن نقول: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها}۱، أو أن نقول {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الموْتِ}٢، أو نقول يتوفّاكم الخضر، لا أنّ الخضر كان وسيلة من وسائل عزرائيل، بل نفسه في تلك الحالة كان وسيلة من وسائل الموت، فكان في صف عزرائيل يعمل معه، ويقول له أنا وأنت نقوم بالقتل والإماتة، أنا أعمل في هذه الدائرة وأنت تعمل في تلك.. وكذا الأمر بالنسبة إلى البناء والإصلاح، هذه كلّها عبارة عن مظهرية لظهور التقدير الإلهي في عالم الشهادة، فهو صار مظهراً لها.
وبناء عليه فالخضر لم يرتكب ذنباً أبداً! ما ذنب الخضر؟ فالله تعالى هو الذي خلقه بهذا الشكل ووظّفه بهذه الوظيفة، فهو يقول: الله تعالى هو الذي ربّاني على ذلك، والله هو الذي أوجد هذه الحالة فيّ، وهو الذي جعلني مظهراً لنزول مشيئته، فإن كنت تعترض عليّ يا موسى، فلماذا لا تعترض على عزرائيل أيضاً؟! عزرائيل الذي أغرق جميع أولئك الذي كانوا مع فرعون.
إغراق فرعون ومن معه كان بفعل موسى دون علمه
وببيان أدقّ نفس النبي موسى هو الذي قام بهذا العمل وبإغراق فرعون في النيل دون أن يلتفت إلى ذلك، غاية الأمر بما أنّه لا يعلم بحقيقة المسألة، ينزّل الله المسألة له ويقول أنظر ماذا جرى! فهناك الكثير من الأمور غير التي تدركها أيضاً، أنظر إلى فعلنا وعملنا ليس له طريق واحد بل لدينا العديد من الطرق والخطوط المختلفة، تعال واعرف سائر الموارد، ولا تقتصر بالنظر إلى نفسك وإلى وضعيّتك فقط. هذا هو العلم الحضوري.
بناء على ذلك، العلم الحضوري الذي يكون محفوظاً من الاشتباه، هو العلم الحضوري الموجود عند الخضر، ألا ترون حافظ يذكر هذه المسألة في شعره:
قطع اين مرحله بي همرهي خضر مكن | *** | ظلمات است، بترس از خطر گمراهي |
[لا تقطع الطريق من دون مرافقة الخضر، فالطريق مظلم جداً واحذر على نفسك من الضياع]
وهناك الكثير من الشعراء الذين ذكروا قصّة الخضر في شعرهم، وكذا مولانا حيث يتكلّم عن نوح وطوفان نوح وقصّة الخضر وهذه المطالب العالية والراقية، لماذا؟ لأجل بيان كيفية نزول التقدير الإلهي في العالم، وأنّها ليست عادية، إلى ما شاء الله..
وببيان أدق، فإنّ جميع الأفراد في هذا العالم هم في هذا المجرى من تطبيق المشيئة الإلهية، وهذا بحث آخر، لا نريد الدخول فيه حتى لا نخلط المطالب ببعضها.
المرشد والولي ينبغي أن يكون لديه العلم الحضوري
وعلى أي حال، هنا نلتفت إلى أنّ مسألة الهداية وصحّة الطريق ينبغي أن تكون منحصرة بالطريق الذي يطمئنّ به الإنسان مائة بالمائة ويمكنه الاعتماد عليه بشكل كامل، وهو طريق من يكون قد وصل إلى العلم الحضوري "الخضري". وحينئذٍ لا يبقى هناك اشتباه أو خطأ. وأما إذا لم يصل الإنسان إلى ذاك الشخص بل وصل إلى من لديه مراتب أقل، فهذا نتركه لمجلس آخر إن شاء الله.
اليوم لم يكن وضعي مساعداً، لكن قلت لا أقل عليّ أن لا أُحرم من نعمة الحضور والاستفادة من فيوضات الإخوان.
نأمل من الله تعالى أن يجعل هذه الحقائق فينا حضورية، ويوصلنا إلى هذه المعارف التي وصلتنا من الأئمة عليهم السلام، وينوّر قلوبنا ووجداننا وسرّنا بما نقل عن العظماء، ويعجلنا نعلم بها بهذا النحو من العلم، وإلا فمجرّد القراءة وبيان المطالب لا يمكنها أن توصل الإنسان إلى المرتبة الكافية، ولن تكون مفيدة له في ذلك. نسأل الله أن يأخذ بأيدينا دائماً وينوّر قلوبنا بمرتبة الشهود ومرتبة اليقين التي جعل فيها أولياءه ووفقهم للوصول إليها.. إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد