المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعلم و المعرفة
التوضيح
هل يمكن لمن لديه نور من الله أن ينحرف؟ ما معنى العلم الحصولي والعلم الحضوري؟ وهل يمكن للسالك أن يعتمد على أي خبر يصله دون التثبّت والتفحّص؟ وهل العلم الحضوري هو نفس الرؤيا والمكاشفة؟ أسئلة أجاب عليها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في هذه المحاضرة، بالإضافة إلى مواضيع أخرى مرتبطة من قبيل أنّ الذي يأخذ بيد السالك ينبغي أن يكون لديه علم حضوري، وغيرها من المواضيع
هو العليم
انقسام العلم إلى العلم الحصولي والعلم الحضوري
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٥
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
من يجعل الله في قلبه نوراً لن يضل ولن ينحرف
قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه
النقطة المهمة الموجودة في المقام هي أنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول في هذه العبارة: إنّ من يريد الله أن يهديه يجعل هذا النور في قلبه! أما الذي لا سبيل له للهداية فلا نور له، هذا معنى هذا الكلام، فعكس نقيض هذه القضية: كل من يريد الله أن يهديه يجعل في قلبه هذا النور، تصير هكذا: كل من لا يريد الله أن يهديه ولا سبيل له إلى الهداية فلن يوجد في قلبه هذا النور، هذا مطلب!
والمطلب الآخر الذي يستفاد من هذا الكلام هو أنّه هل يمكن لهذا النور الذي جعله الله في قلب هذا الشخص ليهديه أن يسوقه إلى غير الهداية؟ حتماً غير ممكن! يعني إذا وضع الله نوراً في قلب شخص، أو وضع هذا العلم في قلبه، فلا يمكن أن يسوقه هذا النور وهذا العلم إلى غير الهداية؛ كأن يودي به إلى الضلال والضياع مثلاً. هذا معنى الرواية! فالإمام يريد أن يقول: الذي يريد الله تعالى أن يهديه يجعل هذا النور في قلبه، فإذا فرضنا أنّ هذا النور كان في قلب شخص، فهل يمكن أن يتوجّه إليه غير الهداية؟! كلا لا يمكن! فإذا رأينا شخصاً أتى من غير طريق الهداية واعتمد الطرق الأخرى التي نعرف قطعاً أنّها ليست طرق هداية، فسوف نعلم قطعاً بأنّه ينبغي أن لا يكون في قلبه نور؛ لأنّه يحصل تعارض في هذه الحالة، فهل يمكن لمن لديه هذا النور الذي جعله الله أن يسير منحرفاً؟ أو أن يمشي بهذا الاتجاه وذاك الاتجاه؟ لا يمكن ذلك أبداً! فكيف يمكن ـ من جهة ـ أن يكون في قلبه نور، ومن جهة أخرى يعطي دستورات مخالفة، يعلم الإنسان بأنّها مخالفة قطعاً لا أنّه يشك فيها! هذا كلام الإمام الصادق عليه السلام، لا أتكلّم من تلقاء نفسي.
وبناء على هذه العبارة وهذا البيان، فلو رأيت شخصاً يتحرّك في طريق مخالف، لا تقبل به فطرتك وعقلك ومنطقك، ولا ينسجم مع الأحكام الإسلامية المسلّمة، ولا ينسجم مع أوامر الشريعة.. إذا رأينا أنّه يمشي في مثل هكذا طريق، فلنعلم بأنّ هذه الأوامر لم تصله من ذاك النور؛ إذ لا يمكن أن تصدر منه هذه الأمور!
انقسام العلم إلى علم حصولي وعلم حضوري
ما ذكرناه كان مقدمة، والآن علينا أن نبتعد قليلاً عن هذا المطلب ثم نعود إليه، لكن هل يمكننا أن نفي بوعدنا اليوم، أو أنّه سيكون كسائر الوعود التي نعطيها ونؤجلّها دائماً؟ الأمر بيد الله تعالى، نحن نبدأ الكلام والباقي على الله.
العلوم التي تحصل للإنسان تنقسم إلى قسمين: علم حصولي وعلم حضوري. العلم الحصولي هو العلم الذي يحصل تصوّره في الذهن فقط ويتحقّق بصورة علمية فيه، فمثلاً إذا فرضنا وقوع اصطدام في الشارع، يأتي شخص ويخبرك ويقول: لقد حصل اصطدام بين سيارتين في الشارع، سوف تتحقّق صورة في ذهنك مباشرة! الآن أثناء كلامي ألم تحصل صورة في أذهانكم عن اصطدام؟ لقد حصلت صورة في ذهن الجميع أليس كذلك؟ لكن لم يصل في ذهنك نوع السيارة التي اصطدمت؛ هل هي سيارة بيكان أو أنّها مثلاً سيارة شفروليه؟ بل بقي نوع السيارة، لكن حصلت صورة مبهمة عن الاصطدام في ذهنك، بل في ذهن الجميع. يعني بمجرّد أن تكلّمتُ بهذا الكلام، شئتَ أم أبيتَ فقد حصلت هذه الصورة في ذهنك! هذا هو العلم الحصولي.
حقيقة العلم الحصولي
فالعلم الحصولي عبارة عن الصور الذهنية التي تحصل للإنسان من الخارج، وقد لا تكون منطبقة على الواقع، مثل الصورة الحاصلة من إخبار إنسان يكذب عليك وينقل خلاف الواقع.. لماذا يقال بأنّه لا ينبغي للإنسان أن يرتّب أثراً على كل ما يسمعه؟ لأنّه يمكن أن يكون المخبر مغرضاً، أو أن يكون مشتبهاً في فهمه للمطلب فينقله بشكل خاطئ، وتقوم أنت بترتيب الأثر عليه، وقد يصل الأمر إلى ما تحمد عقباه. لذا يقال بأنّ عدم قبول الخبر من علامات العقل. وفي المقابل نرى البعض يقبل بما يُنقل له مباشرة، حتى لو كان الناقل طفلاً! فهؤلاء لا عقل لهم أساساً، أما الذي يسمع الخبر ولا يصدّق به مباشرة فهذا دليل على عقله.
ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة بأنّ من علامات قوة العقل عدم سرعة تصديق الخبر۱، فإن قيل له: فلان مات، أو حصلت المسألة الفلانية! فلا يصدّق سريعاً، وبطبيعة الحال هذا الأمر مرتبط بالشخص وبالقضية التي ينقلها. ويمكنك أن تختبر الأمر بنفسك، مثلاً انقل قضية معيّنة، وسوف ترى أنّ البعض يصدّقها بسرعة، بينما البعض الآخر يأخذ الخبر على أنّه احتمال، فهؤلاء أكثر عقلانية من أولئك الذي يصدّقون الخبر سريعاً.
ضرورة التحقيق والتفحّص في المسائل الواقعية والاعتقادية
لماذا وردنا جميع هذا التأكيد بالنسبة إلى ضرورة التحقيق والتفحّص؟ لقد رأينا نتائج الأمور وشعرنا بالفرق بأنفسنا. هذا بالنسبة إلى الأمور المتخيّلة والأوهام والمرتبطة بالمسائل غير الواقعية، فما بالك بما إذا كانت المسألة واقعية، وفي كلا الحالين العلم هو علم حصولي، فحتى لو حصل لك يقين بأمر معيّن، فهو قد حصل من خارج هذه الصورة التي حصلت في ذهنك. يعني إذا فرضنا أنّ شخصاً أتى ونقل لك أمراً، ثم أتى شخص آخر ونقل لك الأمر ذاته، ثم أتى ثالث ورابع إلى أن يحصل لك يقين من تواتر نقل هذا الأمر، فيحصل لك اليقين بأنّ هذا الأمر قد تحقّق فعلاً. ونحن في مبانينا الاعتقادية ـ لا الأمور المرتبطة بالأحكام الظاهرية كالطهارة والنجاسة وسائر الأمور الظاهرية، بل الأمور الاعتقادية كمسألة الجبر والاختيار والتوحيد والمعاد وكيفية الحشر والنشر والمسائل المرتبطة بالصفات والأسماء الإلهية والقضاء والقدر وأمثالها ـ بحاجة قطعاً إلى أحد أمرين؛ إما إلى دلالة صريح الآيات القرآنية، أو إلى رواية متواترة لا يبقى معها أيّ شكّ وشبهة في أنّها من قول المعصوم. هكذا نتعامل في الأمور الاعتقادية، أما مسائل الطهارة والنجاسة وغيرها فلا حاجة إلى ذلك. فإذا فرضنا مثلاً أنّه حصلت نجاسة في مكان معيّن، فلا نشدّد في الروايات التي تأتينا في بيان كيفية التطهير بأنّها هل تُغسل مرة واحدة بالماء أو مرتين أو ثلاث مرات. طبعاً لا يعني هذا أن يأخذ الإنسان بأيّ رواية وجدها، بل إذا فرضنا صحة سند الروايات لن يختلف الحال في تطهيرها مثلاً بمرة أو مرتين، فهذا لا يؤثّر في الدين كثيراً.
سؤالنا الآن: إذا كان لدينا رواية مرتبطة بمسألة مهمة وقضية أساسية مثل القصاص والقتل أو مثل المال والمسائل الحقوقية، فهل تعمل بهذه الرواية فقط وترتّب أثراً عليها؟ يعني إذا وردتنا رواية واحدة تقول مثلاً من يفعل هذا الفعل ـ كالإفطار في شهر رمضان مثلاً ـ يقتل، ولا يوجد غير هذه الرواية في جميع الكتب الروائية! حتماً لا يمكننا العمل بها أبداً. وكذا في المسائل الجنائية والحقوقية وأمثالها لا يمكن العمل بخبر الواحد، بل لا بد من الوصول إلى اليقين في القضية؛ لأنّ المسألة مهمة!
وهل يمكننا أن نقبل بأي خبر يأتينا من أي شخص وينسبه إلى الإمام عليه السلام، والحال أنّه قد يكون نقل نصفه، أو قد يكون فهم هذا المقدار من الخبر، ثم نأتي ونرتّب أثراً كبيراً عليه يؤدي لاختلال المجتمع؟ حتماً ليس صحيحاً! لماذا كانت المسألة هكذا؟ لأنّ علومنا علوم حصولية، فجميع هذه الأمور ترجع إلى أنّ علومنا حصولية، نحن في أنفسنا لا نعلم شيئاً، بل يأتي شخص وينقل لنا أمراً، أو نفتح كتاباً فنقرأ فيه ونعرف، أو يأتينا خبر من مكان فنعلم بما جرى. هذا هو العلم الحصولي! هذا هو مقدار وقيمة العلم الحصولي! جميع العالم يبني حياته على أساس العلم الحصولي، جميع برامجه وحركاته وجميع الأحكام القضائية والفتاوى تقوم على أساس العلم الحصولي. يعني أنّه يمكن للشخص الذي لا علم له بأمر معيّن أن يُنقل له ذلك، فيرتّب هو أثراً على هذا النقل.
أهميّة التثبّت للسالك في اتخاذه المواقف
ما أذكره لكم يعتبر من المباني السلوكية الهامة. هذه الأمثلة التي أنقلها لكم مسائل فقهية تخصصيّة، لكن ما هو الأمر المهم للسالك؟ هل أن يستمع لكل ما يقال هنا وهناك؟ وأن يعمل بكل ما يصل إلى سمعه؟ كل من يأتي وينقل له رؤيا مثلاً يقول له صحيح، ويجعل أساس حياته قائماً على ذلك؟ كلا يا عزيزي! ليس الأمر كذلك! السلوك أعظم وأهم بكثير من هذا الكلام، أما تلك الأمور فهي أعمال الأطفال وأفعال البسطاء.
العلم الحصولي هو العلم الذي يوضح أمراً معيناً من خارج دائرة النفس، مع غضّ النظر عمّا إذا كانت هذه المسألة صحيحة أم لا. بأن تحصل في الذهن صورة! فإما أن تحصل هذه الصورة من خلال رؤيا أو مكاشفة أو من خلال خبر شخص؛ سواء كان هذا الشخص عادلاً أو فاسقاً أو مغرضاً أو غير مغرض.. فهذه كلها مراتب ووسائط لحصول العلم الحصولي عندنا. فهذه العلوم التي تحصل لنا هي من هذا القبيل ويقال لها العلم الحصولي.
انقسام العلم الحصولي إلى قسمين
والعلم الحصولي ينقسم بدوره إلى قسمين: فإما أن ينقل للإنسان ما حصل من دون أن يكون هو قد شاهد تلك الحادثة، كما ذكرت لكم مثاله، وإما أن يكون هو قد شاهد الواقعة بنفسه؛ مثل جلوسنا في هذه الغرفة، فحينما أفتح عيني أرى بجانبي الصديق المكرّم السيد أفصحي، والحاج جلال والشيخ حائري، وفلاناً وفلاناً ـ من دون ذكر الأسماء كلها ـ إلى أن نصل إلى السيد سعيد خيمه كبود، فقد حصل العلم من خلال رؤية الحضور، فأنا حاضر هنا وأرى بنفسي الحضور. ومع ذلك يعتبر هذا العلم علماً حصولياً، يعني لو لم أفتح عيني وألتفت إلى الإخوة لما علمت بوجود أحد. لكن هذا النوع من العلم الحصولي أقوى وأكثر قدرة من النوع الأول من العلم الحصولي؛ لأنّنا حاضرون في الغرفة! ونرى الأمر بالحسّ.
أما من الناحية الفلسفية كيف يرجع العلم الحصولي إلى علم حضوري فهذا مطلب آخر، أعتقد بأنّ طرحه هنا يوجب إطالة المطلب، وهو بحث تخصّصي ينبغي أن يبحث في محلّه. أما هنا فنحن نطرح المطلب في مستوى متوسط. والحاصل أنّ هذا القسم من العلم الحصولي أكثر قدرة واستقامة من القسم الأول، ومع ذلك يمكن أن يحصل هنا خطأ أيضاً، إذ من الممكن أن تكون عيني مريضة فلم تر جيداً، أو قد أكون مشتبهاً في التطبيق، أو قد يكون شخصان شبيهان جداً ولا أستطيع التمييز بينهما، أو قد تكون عيني ضعيفة ولم أضع النظارات، أو لم أدقّق جيداً.. ففي هذه الموارد يوجد احتمال خطأ واشتباه، مع أنّ الشخص يكون حاضراً في المكان، لكن يبقى احتمال الاشتباه وارداً. ومع ذلك لا يقال له علم، بل يقال له مدركات، وإذا أطلق عليه العلم فهو من باب التشبيه. فهذا العلم هو العلم الحصولي.
العلم الحضوري
القسم الثالث من العلم هو العلم الحضوري، والعلم الحضوري لا مجال للاشتباه فيه أبداً! فإذا سألت هل أنت الآن موجود في هذه الغرفة أم لا؟
ـ الجميع سيقول: نعم، أنا موجود!
ـ حسناً، لماذا تقول بأنّك موجود في الغرفة؟
ـ تقول: أنا أشعر بنفسي، وأشعر بوجودي في الغرفة!
ـ هل لدينا شك في أنّنا نشعر بوجودنا؟ هل هناك مجال للشك في هذا الأمر؟ حتماً لا مجال للشك. فأنا الآن أشعر بوجود نفسي! فهل أتى شخص وقال لي أنت موجود في هذه الغرفة، حتى أصدّق بأنّي كذلك؟! ولو أتى ألف شخص وشهدوا بأنّي لست موجوداً في هذه الغرفة فلن تؤثّر شهاداتهم في علمي شيئاً! ولو أتى مليون شخص وقالوا لي: يا سيد لست حاضراً في هذه الغرفة، أنت تظن ذلك.. نعم ممكن أن يكون للشخص خلل ما، فيكون لديه خيال..
يقال بأنّ رجلاً قد ذهب إلى مدرسة، ولما رآه الآخرون بأنّ لديه حالاً خاصة، قالوا فلنعمل له عملاً نجعله أضحوكة لنا ونبعده عنا، فحينما كان يأتي كل يوم إلى الدرس يجتمعون إليه؛ هذا يقول له لقد مرضت! والآخر يقول لديك حرارة، والآخر يقول لقد تغيّر لونك، وذاك يقول احمرّ وجهك، والآخر يقول لقد اصفرّ لونك وهكذا.. فأتى خمسة عشر شخصاً منهم وكرّروا عليه ذلك، وشيئاً فشيئاً صار مريضاً [ضحك] هذا نوع من مرض الهستيريا؛ من جملة أسباب هذا المرض هو سرعة التصديق بأمر، بأن يصدّق الإنسان بما يسمعه، إلى أن يتبدّل هذا العلم الحصولي إلى أمر حضوري، فيصير له واقعية في وجوده. مثلاً يأتي شخص ويقول لك: كنا في المجلس الفلاني، وفلان تكلّم عليك بأمر، لا تعلم بماذا تكلّم في غيابك! فلو تعلم ماذا قال عنك لما تحمّلت أبداً! قال عنك كذا وكذا، فحتى لو كان هذا النقل كاذباً من أساسه ولا أصل له، ترى الرجل يتغيّر لونه فجأة ويغضب، وينهض من مكانه قبل أن يكمل الطرف الآخر كلامه..
ـ يا عزيزي اجلس! لماذا تغيّر لونك؟
ـ لقد تكلّم فلان عليّ بهذا الكلام!
ـ اجلس يا عزيزي فالكلام غير صحيح من أساسه، ولم يحصل مثل هذا الشيء
هذا هو العلم الحصولي الذي يُوجد في ذهن الإنسان أمراً، أما الذي يوجب حصول أمر واقعي في النفس هو العلم الحضوري.
حقيقة العلم الحضوري
فالعلم الحضوري عبارة عن أمر واقعي وظهور شيء في النفس ـ لا في الخارج ـ بحيث يشعر به واقعاً. الآن أنت لست جائعاً، أليس كذلك؟ إن كنت جائعاً فقل أنا جائع حتى أنهي كلامي سريعاً [ضحك].. إن شاء الله لستم جائعين، لكن كلامنا سوف يوصلكم شيئاً فشيئاً إلى الجوع، بحيث تقولون سيدنا بدأت الأمعاء تتحرّك والمعدة تصدر أصواتاً وأمثال ذلك.. الآن لا نشعر بحالة الجوع ـ لا أقلّ هذا الأمر بالنسبة لي أنا ـ لذا ترون أنّني أتكلّم براحة وآخذ بأسماعكم، لكن شيئاً فشيئاً سوف تشعرون بالجوع في أنفسكم من دون أن يخبركم أحد بذلك أو يعلن هذا الأمر، ومن دون أن يحصل أي شيء آخر، لا يحتاج إلى شيء أبداً، بل هو شعور في داخلك يحصل في أعصابك وجهازك الهضمي.. فحينما يتحرّك سوف تشعر فجأة بالجوع وبحاجتك للطعام! هل أخبرك أحد بذلك؟ لا لم يخبرك أحد! هذا هو العلم الحضوري.
فالعلم الحضوري هو ذاك الإحساس الذي حصل لديك وحضر في نفسك. وهذا الأمر لا يمكن الإغماض عنه؛ فحينما يجوع الإنسان لا يمكن أن يكون مشتبهاً في هذا الجوع، بل سوف يقول لقد جعت وأنا أشعر بالجوع الآن.. نعم من الممكن أن يكون جوعه أو شبعه كاذباً، لكنّ وجدانه ليس كاذباً، فهو يشعر بالجوع فعلاً، ويجد هذا الأمر في ذاته.
متى يتطابق العلم الحصولي مع العلم الحضوري
أما أنّه هل يمكن أن يتطابق العلم الحصولي مع العلم الحضوري؟! نعم ممكن! مثلاً عندما تذهب إلى طبيب ويفحصك، فيحذّرك ويقول لك: إذا لم تراع هذا الأمر ولم تبتعد عن هذه الأطعمة فسوف تبتلى بهذا المرض بعد أسبوع؛ أو أن يقول له إذا جعْتَ كثيراً أو أكلت من غير جوع، أو أكلت الأطعمة غير المناسبة لك سوف تبتلى بهذا المرض في المعدة، وستصاب بتقرّح في الأمعاء. هذا ما يقوله الطبيب لنا، ونحن نعلم بأنّ هذا الطبيب صادق فيما يقول، وحاذق غير مشتبه في تشخيصه. فالآن نحن لدينا علم بأنّه في الأسبوع القادم سوف نبتلى بهذا المرض، لكن حتى الآن لم نمرض بعد، ثم ننتظر أياماً إلى أن يتحقّق كلام الطبيب، وبعد جمعة نشعر فجأة بألم في المعدة! وعندئذٍ يتّحد ذاك العلم الحصولي الذي كان لديّ مع هذا العلم الحضوري، ونصل إلى ما كان الطبيب يقوله لنا، ويتّحد ذاك الأمر بي. وهنا يتحقّق الاتحاد بين العلم الحصولي والعلم الحضوري. هذا النوع من العلم الحصولي نافع لنا، إذا اتحد العلم الحصولي بالعلم الحضوري عندئذٍ يكون مفيداً، أما إذا لم يتّحد به بل بقيا مختلفين، أو أدّى بالإنسان أن يكون مردّداً بين أمرين، فلن يكون العلم الحصولي مفيداً عندئذٍ.
هل يصح إطلاق النور على العلم التحصيلي
يقول الإمام الصادق عليه السلام: العلم عبارة عن نور يجعله الله في القلب. حسناً، نطرح هنا سؤالاً وهو هل يمكن أن نعتبر الخبر الذي يأتي به أي شخص نوراً؟ بأن يأتي شخص ويقول لقد حصل الأمر الفلاني، ثم يأتي شخص آخر وينقل عكس ما قاله الأول، ويأتي ثالث ويؤيّد القول الأول، والرابع يؤيّد الثاني.. فهل هذا نور؟! كلا! النور عبارة عن حقيقة تقود الإنسان إلى الواقع، هذا هو النور. لماذا يطلق النور على المصباح؟ وعلى الشمس؟ لأنّ الشمس تقودنا إلى الواقع، توضح لنا الحقائق المخفيّة عنّا. ولو لم يكن لدينا شمس سيكون العالم غارقاً في الظلام، فلا يمكن لأحد أن يعرف أحداً، وكذا إذا لم يكن هناك مصباح فلن تعرف ماذا يوجد في هذه الغرفة؛ لا تستطيع أن تميّز بين الصديق والعدو، ولا أن تعرف الخطر من غير الخطر. لذا لا بد من وجود جهة واقع في النور، وبعبارة أخرى هل يمكن لهذا النور الذي جعله الله في القلب والنور الذي جعله الله للهداية والذي لا يمكن أن يكون مشتبهاً.. أن يكون قد حصل من طريق العلم الحصولي، ومن سنخ العلم الحصولي؟ أم أنّه لا بد أن يكون من العلم الحضوري حتماً؟ لأنّ العلم الحصولي قد يكون مخطئاً!
إمكانية التشكيك في العلم الحصولي دون العلم الحضوري
أريد أن أسألكم سؤالاً: يقال بأنّ الصاروخ الفضائي أبولو قد وصل إلى القمر، وبأنّ فِرق تحقيق قد صعدت إلى القمر وأجرت تحقيقات وأبحاث هناك منذ سنوات طويلة، فأنا أذكر منذ طفولتي بأنّهم كانوا يكتبون ذلك في الصحف والمجلات ويقدّمون التقارير حول هذا الموضوع.. الآن أسألكم: هل وصل أبولو واقعاً إلى القمر؟ إذ قد لا يكون وصل إلى القمر حقاً! فقد تكون جميع هذه الأمور من الخدع. من يستطيع أن يثبت بالدليل العلمي والعقلي الآن بأنّ أبولو قد وصل إلى القمر؟ فليأتي ويثبت لنا ذلك! فقد قالوا ذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة، لكن قد يكونوا جعلوا شكل صاروخ فضائي وصوّروه في مكان ما، وقالوا هذه الصور من القمر! فهل أخذوكم إلى هناك؟ وهل صعدتم أنتم إلى القمر؟ أنا أطرح عليكم هذا السؤال لأعطيكم مثالاً فقط في مورد لا يستطيع أحد أن يشكّك فيه، يعني بكلامي هذا أنا الآن أنتزع منكم أمراً مسلماً لا شكّ فيه.. تعال وأثبت لنا بأنّ المكوك الفضائي أبولو ومن كان عليه قد وصلوا إلى القمر فعلاً ويقيناً مثل اليقين بيوم القيامة وبهذه الشمس! هل يمكن أن تصل إلى يقين بذلك كيقينك بهذا المصباح الذي تراه الآن؟ حتماً لا دليل يوصلك إلى ذلك. قد يكونوا أوقعونا بألف حيلة وخداع، ثم قالوا لنا لقد حصل هذا الأمر في الواقع. أنا الآن أطلب منكم: فليأتي أحد ويثبت لي هذا الأمر.. أما هذه الأفلام التي يعرضونها في التلفزيون والصور والخداع وتكبير بعض الصور وتصغير أخرى وهذه الأفلام العلمية والخيالية كلها لا قيمة لها أساساً، وجميعها عبارة عن خداع وتلاعب بالصور والمشاهد التي يتم صنعها في الأفلام! ألا ترون كيف تتم تلك الأمور في الأفلام؟ أليست هي كذلك؟! ترى مثلاً ناطحة سحاب مائة وعشر طبقات تنهار دفعة بزلزال.. لكن أين هي هذه البناية؟ في أي مدينة؟ وكيف حصل ذلك؟ وكيف وقف الناس ينظرون إليها ويصوّرنها؟! هذا كله خداع وحيل. أو ترى مثلاً شخصاً قد قفز من قمّة الجبل! فأي مجنون يفعل ذلك في الحقيقة لأجل تصوير فيلم؟ لذا هذه الأمور كلها خداع ولعب! هم في الواقع يديرون هذه الدنيا على أساس الخداع والحيل. لا أقول لكم بأنّ هذه القضيّة لا واقع لها أساساً، بل بالعكس؛ إذ العاقل هو الذي يضع كل قضية في دائرة الاحتمال، لكن أقول لكم بأنّه كيف يمكن لنا أن نشكّك في أكثر الأمور تسليماً الآن في عصرنا. أقول لكم لا دليل لدينا يثبت بأنّ أبولو قد وصل إلى القمر، لكن مع ذلك نعتبر بأنّ لدينا يقيناً بوصوله إلى القمر، لماذا؟ لأنّ هذا الخبر طرق سمعنا كثيراً، لقد شاهدنا صوراً وتقارير وأخبار تتحدّث عن ذلك، وكثرت هذه الأمور شيئاً فشيئاً لدينا حتى صرنا نعتبرها أمراً مسلّماً لا يقبل التغيير. هذا هو العلم الحصولي! وهو لا فائدة فيه؛ إذ قد نلتفت يوماً إلى أنّ هذه الأمور كلّها كان خداعاً، فلا وجود لأبولو ولا لمكوك فضائي وصل إلى القمر ولا لشيء من هذا الكلام، بل كل ذلك كان خداعاً، فهم يعرفون جيداً كيف يخدعون الناس.
النور الذي يجعله الله في النبي والإمام ينبغي أن يكون واقعياً لا خطأ فيه ولا اشتباه
طريق الله هو الطريق الذي لا يمكن أن يُخدع فيه الإنسان. كما أنّ العلم الحضوري هو العلم الذي لا يمكن لأحد أن يُخدع فيه، لأنّه نور يقع في قلب من يشاء الله، فهل يمكن لذاك النور أن يكون خداعاً؟! أن يكون ذاك النور اشتباهاً؟! وهل يمكن أن يمنح الله نوراً ويكون فيه اشتباه، بأن يسوق الإنسان باتجاه مختلف؟! وهل يمكن لذاك النور الذي جعله الله في قلب النبي لهداية الناس أن يسوقهم إلى جهنّم؟! أو أن يكون ذاك النور الذي جعله الله في قلب الإمام المجتبى عليه السلام لعقد الصلح مع معاوية أن يكون موجباً لذل المؤمنين، ليقال بعد ذلك يا مذلّ المؤمنين؟! إذا كان الأمر كذلك فهذا ليس نوراً، بل هو ظلمة، فهذا الإمام الحسن الذي يوجب الذلّ للمؤمنين هو ظلمة، لا يمكن أن يكون نوراً. وكذا النور الموجود في سيد الشهداء عليه السلام، والذي جعله يثور على يزيد ويقاتله، فهل يمكن لنا أن نتصوّر بأنّ موقف الإمام الحسين عليه السلام لم يكن صحيحاً كما يكتب بعض الكتّاب الفارسيين.
أذكر بأنّ شخصاً باسم عبد الله رياضي، وكان مدة رئيس مجلس الشورى في زمن الشاه، قال: هذا الحسين ـ بعبارة فيها توهين ـ قام بفعل مخالف للعقل والمنطق والسياسة؛ حينما ثار على حاكم زمانه، ومن يفعل ذلك فسيكون جزاؤه القتل، لقد فعل ذلك الفعل وأخذ نتيجة فعله!
هذا الكلام وقح جداً، وقد نال هذا الشخص جزاء كلامه هذا.
الإمام الحسين عليه السلام في قلبه نور، وهذا النور هو الذي دفعه للقيام بوجه يزيد وجيشه. ولو كنّا معه والتحقنا به لشملنا ذلك النور أيضاً، أما لو لم نكن معه ولم نلتحق به فسوف يبقى ذلك النور يعمل عمله ولن يتبدّل نور الإمام، ولكن سنكون نحن التعساء الذين أخرجنا أنفسنا من دائرة النور.
وعليه فالنور المراد في كلام الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري عندما قال: ليس العلم بالتعلّم بل هو نور، ليس هو العلم الحصولي؛ لأنّه يقبل الاشتباه والخطأ. نحن ليس لدينا أعلى من الإمام الصادق عليه السلام، الذي نفسّر كلامه ذا المضامين العالية بعقلنا الناقص والجاهل.. مع ذلك فإذا أتى راوٍ ونقل لنا عن الإمام الصادق خبراً، فمن أين لنا أن نعرف بأنّه صادق؟ إذ لعله اشتبه في نقله، ولعله أضاف أو أنقص من الكلام الذي سمعه من الإمام؛ أضاف واو عطف أو أنقصها، فتغيّر بسببه المعنى؟ صحيح ليس لدينا أعلى من الإمام الصادق عليه السلام، وليس لدينا أفضل من أبي بصير، لكن هل يمكنك أن تقسم بأنّ هذا المطلب الذي نقله لنا أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام صحيح مائة بالمائة وطبق ما قاله الإمام حتماً؟ لا يمكننا أن ندّعي ذلك! متى يمكننا أن نعرف يقيناً بأنّ هذا الكلام هو كلام الإمام الصادق؟ عندما يمكن أن يكون ذاك الكلام الذي يخرج من الفم المبارك للإمام الصادق عليه السلام.. أن يخرج من أفواهنا أيضاً، عندئذٍ يصير هذا الكلام نوراً. وبالتالي فعندما يمكننا أن نتكلّم بتلك الحقيقة التي يبيّنها الإمام الصادق عليه السلام لعنوان، عندئذٍ لا يبقى هناك مجال للاشتباه والخطأ، فيصير هو العلم الحضوري.
أما أن نأتي ونقول لقد سمعنا شيئاً عن الولاية، وسمعنا شيئاً عن المراتب، دون أن نعلم شيئاً، ومشينا هكذا وقلنا هذا وليّ وذاك وكيل وهذا إمام وذاك نبيّ!.
يا عزيزي! هل تعلم من هو الوليّ؟ الولي هو الذي إذا تكلّم بكلام يكون صواباً لا يمكن لأحد أن يخطّئه فيه لصحّته، هذا هو الولي! فمن يكون كذلك؟ وأين هو هذا؟ الولي هو الذي يكون جميع كلامه صواباً، لا أن بعضه صحيح وبعضه خطأ؛ كأن يكون ثلثا كلامه صحيحاً والثلث باطلاً، أو يكون قد خلط بين الحق والباطل. فمن يكون كذلك نطلق عليه اسم الوليّ. وعليه، فالولي ينبغي أن يكون علمه حضورياً!
المعيار في صحّة العلم الذي يحصل لدينا
حسناً، من أين لنا أن نعلم بأنّ هذا الأمر الذي شعرنا به هو صحيح أم خطأ؟ ما هو المعيار الذي لدينا في ذلك؟ لدينا معياران:
المعيار الأول: أن يأتي شخص نقطع تماماً بأنّه لا مجال في كلامه للاشتباه والخطأ ـ وهو الإمام المعصوم عليه السلام فقط ـ ويؤيّد كلامنا، ويقول لنا: المطلب الذي ذكرتَه في هذه المسألة صحيح! فالعلم الذي لدينا وإن كان علماً حصولياً، لكن هذا العلم الحصولي ينبغي أن يكون ممضى بالعلم الحضوري الذي للإمام! التفتوا جيداً، فحتى لو كان لدينا علم حصولي، لكن ينبغي أن يؤيّد صحة واستقامة هذا العلم بإمضاء العلم الحضوري.
المعيار الثاني: أن يتبدّل علمنا الحصولي إلى علم حضوري، وهنا لا حاجة للإمام؛ يعني أنّ نفس هذا العلم الحصولي يقوى شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى علم حضوري! وقد ذكرنا أنّ العلم الحضوري هو أن يرى الإنسان نفس الواقعة في ذاته ويشعر بها في نفسه.
العلم الحضوري ليس مجرّد مكاشفة أو رؤيا
هل التفتم إلى أين نريد أن نصل؟ نريد أن نصل إلى أنّ العلم الحضوري عبارة عن أن يرى الإنسان تلك الحوادث الخارجية في نفسه، يعني إذا وقع زلزال في مكان ما، فالعلم الحضوري لا أن يعلم الإنسان بأنّه وقع زلزال ويرى الزلزال بعينه، بل أن يرى نفس هذا الزلزال في وجوده؛ وكأنّ الزلزال وقع في نفسه، وكأنّ نفسه هي عين الواقعة الخارجية، لا أنّه شاهد فقط حصول هذا الزلزال في الخارج، إذ قد يكون مشتبهاً في مشاهدته فقد يكون أكل كثيراً، أو قد تكون مكاشفته مخالفة للواقع، أو الرؤيا التي رآها مغايرة للحقيقة بسبب الطعام الذي أكله [ضحك].. فنحن لدينا أكثر من ألف معيار مختلف لمعرفة صحّة الرؤيا والمكاشفة وسقمهما، ماذا نعرف عنها؟ لماذا كان الأولياء يقولون لنا: لا تعمل بهما ولا ترتّب أثراً عليهما؟ لأنّه ترى أنّ شخصاً يرى رؤيا، وشخصاً آخر يرى رؤيا مخالفة لها تماماً، فبماذا علينا أن نعمل؟ أو يأتي شخص ويقول لك: لقد شاهدت في المكاشفة أنّ هذا شاي وسكّر نبات، والآخر يقول لك لقد شاهدته في المكاشفة لبناً! فلو كنت أشكو من وجع في القلب وشربت اللبن فسوف يزداد وجعي، بينما لو كنت مريضاً بنزلة برد مثلاً وشربته إذا كان شاي وسكر نبات فسوف أشفى من وجعي، بخلاف اللبن. الحاصل ماذا عليّ أن أفعل؟ هل أشربه أم لا؟ لا يمكن أن تكون كلتا المشاهدتين صحيحة! والحال أنّ ما نراه في الخارج من هذا القبيل، فماذا علينا أن نفعل؟ هنا ينبغي على الإنسان أن يحتاط ولا يرتّب أثراً على هذه الأمور، بل لا بد من الوصول إلى حد اليقين بحسب وسعه والعمل به. وهنا تحصل هذه البلابل وهذه المشاكل؛ فنردّ هذا ونقبل ذاك! هذه الأمور كلّها لا قيمة لها ولا أصل ولا سند لها أساساً. إنما يكون علمنا صحيحاً وواقعياً عندما تتحقّق تلك الواقعة الخارجية في نفسنا، في هذه الحالة يصير هذا العلم علماً حضورياً لا يقبل الخطأ.
معنى الله نور السماوات والأرض
هل فهمنا الآن ما معنى النور في الآية الشريفة {ؤاللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْض}۱؟ هل يعني ذلك أنّ الله يعطي النور للسماوات والأرض؟ هل معناها أنّ الله خلق الشمس لكي ترسل النور إلى الأرض وسائر الكرات التي تدور في حولها؟ هل معناها أنّ الله خلق المجرّات لكي تكون مليارات النجوم التي تحتويها شموساً؟ هل هذا معنى نور السماوات والأرض؟ كلا! وإلا، لماذا عبّر الله بهذه العبارة؟ ألم يكن الله قادراً على التعبير بعبارة أخرى؟ كأن يقول: الله منوّر السماوات والأرض؟! بل قال الله نور، يعني ذات الله نور السماوات والأرض، يعني أنّ تلك الظواهر والأمور التي تشكّل حقيقة السماوات والأرض هي ذات الله تعالى في مظاهر مختلفة. فحقيقة تلك الحقائق الموجودة في عالم الملك وعالم الملكوت في تمام عوالمها ومراتبها هي ذات الباري تعالى. لكنّنا نرى الكثرة! فنرى النجوم ونرى القمر، ونرى زيداً وحسناً وبكراً وخالداً، لكن حقيقة زيد وبكر وخالد والأرض والسماء والنجوم والكواكب والمجرّدات وغير المجرّدات والمادة.. حقيقتها ذات الباري تعالى الذي أظهر نفسه في مظاهر مختلفة! أظهر نفسه بصور وأشكال مختلفة؛ في هذه الوردة بصورة حمراء جميلة، وبتلك الوردة بصورة خضراء فاتنة، بهذه الأرض وبتلك السماء وبالملائكة وبتلك المجرّدات.. جميع هذه الأمور عبارة عن {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْض}، يعني لو تم رفع ذاك النور من السماوات والأرض سيحلّ العدم في العالم أجمع، سيكون العدم المطلق هو الحاكم! سوف ترتفع تمام الفقاعات الموجودة الآن، ذاك النور هو ذاك الشيء الذي ظهر بصور مختلفة وعبّرنا عنه بعبارات وأسماء مختلفة؛ عبّرنا عنه بصحراء وسهل وجبل وشجر و... ذاك هو {نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْض}.
علم الله بالأشياء علم حضوري لا حصولي
حسناً، فهل ذاك النور تحقّق في ذات الله من خلال العلم الحصولي أم العلم الحضوري؟! حتماً بالعلم الحضوري! فالعلم الحضوري لله بالنسبة إلى جميع الخلائق عبارة عن وجود نفس الأشياء في ذاته تعالى. هذه العبارة التي ذكرها الإمام الصادق عليه السلام "العلم نور يقع في قلب من يشاء" مع الالتفات إلى أنّ حقيقة النور هي نفس العلم الحضوري.. تعني أنّ تلك الحقيقة لوجود الإنسان تتّحد مع تلك الواقعة الخارجية التي هي مظهر لظهور الله تعالى في عالم الخارج، وتصير معه واحدة.
وبناء عليه الآن يمكننا أن نفهم كلام أمير المؤمنين عليه السلام حينما يقول:
أتزعم أنّك جرم صغير | *** | وفيك انطوى العالم الأكبر |
لذا عليك أيها الإنسان أن تغوص في عالم نفسك وتتحدّ به، وأن تصاحبه، عليك أن ترى ذاك الوجود في نفسك! من الممكن أن يكون لدى شخص معلومات معيّنة في ذهنه فيغفل، لكن يأتون إليه ويذكّرونه، ويقولون له لقد درست وقرأت، ولديك هذه الاستعدادات والقابليات فيمكنك أن تصل إلى هناك، فقط عليك أن تشدّ الهمة وتعمل لكي تصل إلى ما هو موجود في ذاتك. فمن يعمل بذلك ويتعلّم ويمرّن نفسه ويروّضها تظهر ـ شيئاً فشيئاً ـ جميع تلك القابليات الموجودة في نفسه، ومن لا يعمل ولا يعتني بتلك التوجيهات تغطّى تلك الاستعدادات الموجودة في نفسه وتحجب عنه، فتصير وكأنّها سترت بستارة لا يمكنه الوصول إليها بعد ذلك.
أتزعم أنّك جرم صغير | *** | وفيك انطوى العالم الأكبر |
يعني أنّك تعتقد نفسك بأنّها عبارة عن هذه الأعصاب والدماغ والعظام والجهاز الهضمي والقلب والدم، فقط هذا! كلا يا عزيزي! بل في وجودك عالم كبير لا تعلم عنه شيئاً.
ينقل المرحوم العلامة في كتابه الروح المجرّد بأنّه عندما توفي أحد أحفاد المرحوم السيد الحداد، قال: لقد كنت أظنّ بأنّ هذا طفل صغير، وفجأة رأيت روحه تكبر وتكبر وصارت عظيمة؛ بحيث شملت عظمتها شرق العالم وغربه.. هذا يعني أنّ روحه قد اتحدت بتمام ظواهر عالم الوجود، وصارت جزءاً من وجوده، هذا هو معنى وفيك انطوى العالم الأكبر.
العلم الحضوري هو الإحاطة الوجودية بالمعلوم لا الاطلاع التصوري
يعني أنّ ذاك النور الاسبهدي ـ الذي ذكره المرحوم العلامة في رسالة لب اللباب ـ الذي هو حقيقة النور الذي يشمل جميع عالم الوجود هو عبارة عن هذا العلم الحضوري، وهذا العلم الحضوري عبارة عن الإحاطة والسيطرة الوجودية على الجميع، لا مجرّد الاطلاع والمعرفة التصوّرية والصورية. مثلاً حينما أنظر إلى السيد شيباني الجالس بجانبي، فالذي أعرفه منه هو ما تشاهده عيني منه الآن، وهذا الأمر يمكن أن يحصل من خلال تصوير الكاميرا للوجه والعين والفم والشعر وتمام خصوصيّات الشخص، لكن هل يمكن لهذه الكاميرا أن تدخل في تخيّلاته وصوره الذهنية وتصوّرها لنا؟! لا يمكنها ذلك! أقصى ما يمكنها أن تفعل هو أن ترسل أمواجاً وتبيّن لنا بعض خصوصياته الداخلية وكيفياته.. لكن هل يمكن للكاميرا أن تبيّن لنا غرائز الإنسان وتصوّرها لنا؟ لا يمكن أن تصوّر هذه الأمور وتعرضها على الورق! وكذا حالات الإنسان وخصوصياته النفسانية لا يمكن أن تسطّر على الورق. أما إذا أردتُ أن أعلم به علماً حضورياً فسوف أدخل إلى داخل بدنه وأتجاوزه إلى نفسه وإلى عالم صورته ومثاله، وإلى سرّه وباطنه حتى أصير السيد شيباني نفسه! هذا هو العلم الحضوري. فالأولياء والعظماء الذين لديهم علم حضوري، علمهم الحضوري هذا عبارة عن وجودهم ضمن تلك الوجودات الخارجية، فعندما يصيرون عينها فلن يكون هناك إمكان للخطأ، إذ كيف يمكن أن يخطئ أو يشتبه في هذه الحالة؟
من يكون لديه علم حضوري يكون كلامه ملزماً للإنسان
هذا الذي ذكرناه إنّما هو مقدّمة للوصول إلى هذه النقطة التربوية والسلوكية.. الإمام الصادق عليه السلام قال: العلم نور يقع في قلب من يريد الله، والنور يطلق على العلم الحضوري. وبناء عليه، فمن يريد أن يكون على الطريق القويم والصراط المستقيم؛ فهل يمكن للعلم الحصولي أن يوصله إلى الحقيقة تلك؟ أم لا بد له من العلم الحضوري؟ فإذا قال فلان العالم أو غير العالم بأنّ طريق سعادتك هذا، فهل بقوله هذا يتّضح للإنسان طريق هدايته، أم لا؟ إذ قد لا يكون الأمر كذلك، وقد يكون مشتبهاً في تشخيصه. فإن قال لك شخص بأنّه إذا أردت دخول الجنّة فعليك أن تقوم اليوم بهذا الفعل، وغدا تقوم بذاك الفعل! فهل سيكون كلامه هذا ملزماً لك أم لا؟ حتماً لا؛ لأنّ علمه هذا علم حصولي لا حضوري! فقد يكون مشتبهاً في هذا الفهم أو مخطئاً في ترتيب المقدّمات، أو وصلته المعلومات بشكل خاطئ.. فيقوم هو بإعطاء نتائج غير صحيحة للناس بناء على تلك المعلومات الخاطئة، أو بناء على أمور غير واقعية. لذا لن يكون عمله صحيحاً، ولن يكون علمه "نور يقع في قلب من يريد الله". لذا نسأل من هو الذي يكون كلامه ملزماً؟ الجواب هو الشخص الذي يكون أمره نابعاً من العلم الحضوري لا العلم الحصولي، مثل الإمام عليه السلام.
لماذا كان الإمام عليه السلام خالداً؟ الجواب: لأنّ علمه علم حضوري لا يمكن أن يتبدّل، فالإمام يرى الواقع كما هو، بل إنّ الواقع متحقّق في وجوده. فعندما يشعر الإمام عليه السلام بواقع ما في وجوده كشعوره بوجوده هو، فلا احتمال لوجود خطأ في علمه أبداً. هذا هو الذي يلزم الإنسان.
وهنا نعرف بأنّه لا بد لمعرفة التطابق بين التكوين والتشريع أو التطابق بين المسائل المنطقية والواقعية، أن يكون لدينا معاملة صحيحة ومنطقية ورياضية، حتى يمكننا أن نرتّب الأثر عليها. وعليه، فهل نعتبر أنّ كلام الإمام عليه السلام ملزم لنا لأنّ الله قال لنا ذلك؟ كلا! الإلزام إنّما هو بسبب أنّ علم الإمام علم حضوري، فحتى لو لم يطلب الله منا ذلك، ولم يقل الله تعالى بأنّ كلام النبي صحيح، يكفي أن ترى أنت صحّة كلامه، وتعرف بأنّ علمه علم حضوري فتتّبعه، ولكن مع ذلك فقد أيّد الله تعالى ذلك بكلامه، فهذا خير على خير.
مثل قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ}۱، فالله شهد على هذا الأمر [والحال أنّ الوحدانية لله ثابتة ولو من دون شهادة الله تعالى بذلك] وقال أيضاً: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقينَ لَكاذِبُون}٢، فالله شهد بالرسالة وشهد بأنّ المنافقين كاذبون. وبما أنّ كلام الإمام يتطابق مع الأصول الواقعية والرياضية، كان الإمام عليه السلام كلاماً منطقياً؛ وذلك لأنّ علم الإمام علم حضوري.
التصدي للحكم والفتيا لا تصح إلا ممن لديه علم حضوري
لذلك نرى أنّ الإمام الصادق ـ في تلك الرسالة العجيبة جداً والتي ينقلها الفضيل بن عياض عن الإمام الصادق عليه السلام ـ يقول: "لا يجوز الفتيا لمن لا يستفتي من الله عز وجل بصفاء سرّه وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربّه"٣. الإمام الصادق يقول ـ لا أنا ـ بأنّه لا يجوز لأحد أن يعطي الناس حكماً ملزماً ويفتي من دون أن يكون لديه واسطة، وهي عبارة عن الحقيقة النورية التي تقع في قلب من يشاء الله، وأن يكون قد وصل هو نفسه وصار لديه علم حضوري بتمام حقيقة الشرع وأحكامه؛ بحيث صار يلمسها ويجدها في نفسه، وصار من خلال صفاء سرّه ومن خلال الدليل الذي لا يقبل التبدّل والتغيّر يأخذ الفتوى عن الله مباشرة.. فغير هذا الشخص لا يمكنه أن يتصدّى لمقام الفتيا، أو يدعو الناس للعمل برسالته العملية؛ لأنّ الفتوى قد تؤدّي إلى قتل إنسان بريء، أو هتك عرض، أو إسقاط شأنية بعض الأشخاص والذهاب بشخصيتهم، أو قد تؤدّي إلى إهدار مال محترم.. إذ الفتوى ليست بمجرّد مسائل الطهارة والنجاسة وأمثالها. فمراد الإمام عليه السلام أن لا يجعل الإنسان نفسه في معرض التدخّل والتصرّف في شؤون الناس، هذا هو المراد. فالمجتهد والفقيه الذي لا تكون الأمور واضحة له بالعلم الحضوري لا العلم الحصولي فقط؛ بأن يأتي حسن ويخبره بأمر ويأتي حسين ويقول شيئاً وزيد يخبر بأمر ثم يفتي بأنّ المسألة هي كذا.. كلا، بل ينبغي أن يكون مثل ذاك الشخص الذي كنت أمشي معه من مسجد القائم إلى المنزل ـ قبل انتصار الثورة ـ وحينما شاهد صورة معروضة في صحيفة عند بائع الصحف، سألني صورة من هذه؟ فقلت له: هذه صورة أبو الحسن بني صدر، فقال: عن قريب سوف يحلّ في إيران بسبب هذا الرجل مصيبة لا يمكن تداركها أبداً..٤ هذا هو الذي يمكنه أن يفتي! هذا الرجل علمه علم حضوري، فهو يرى الواقعة في نفسه ويلمسها، لذا لا يخطئ. فمثل هذا الشخص إذا قال للإنسان قف! يجب عليه الوقوف، وإذا قال اذهب يجب الذهاب، وإذا قال اجلس يجب الجلوس.. وقد رأيتم بأنفسكم حقيقة الأمر!
طبعاً هناك الكثير من المطالب التي لم تُذكر بعد، لكن أعتقد بأنّ الجميع قد وصل إلى العلم الحضوري بالجوع أليس كذلك [ضحك]، لقد تأخّرنا، وصار وقت ختم الكلام.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا للوصول إلى هذه المطالب والمضامين التي ذكرها الإمام الصادق.. أحياناً أقول في نفسي بأنّه لو لم يكن لدينا مثل هذا الكلام فأي مصيبة ستحلّ بنا؟! واقعاً كلام الإمام الصادق عليه السلام [باعث للحياة]، لذا ليس عبثاً حينما قال [المرحوم العلامة] عندما كنت في النجف ـ وحتى بعد رجوعي ـ كنت أضع هذه الرواية في جيبي وأقرأها مرتين في الأسبوع! لذا علينا أن نرى ماذا قال لنا الإمام، وكم نحن بعيدون عن حقيقة الأمر! فأي دين يبيّنه الإمام الصادق عليه السلام لنا، في حين أنّنا نسعى وراء أية مسائل، وأين نحن من كلامه عليه السلام!
نسأل الله أن يشملنا بشفاعة الإمام الصادق عليه السلام وهدايته، ويجعلنا من خلّص الشيعة والمطيعين لأمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام، وأن يكتبنا من الشيعة الذابّين عن الحريم المقدّس لإمام زماننا بقية الله أرواحنا له الفداء، وأن لا يحرمنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد.