المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعلم و المعرفة
التوضيح
هو العليم
كيفية تنزّل الأسماء الكلية لله في عالم الوجود
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٤
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك.
لا يحصل العلم بالتعلّم، بل هو نور يضعه الله في قلب من يريد أن يهديه، فإذا أردت أن تصل إلى العلم، فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية؛ يعني أنّه في الخطوة الأولى يجب أن تتحقّق في نفسك حقيقة العبودية حتى يمكنك الوصول إلى العلم. لكن لماذا لا يمكن تحصيل العلم من دون العبودية؟ ما هي العلاقة بين مسألة العبودية ومسألة العلم؟
جميع الصفات الإلهية تعود إلى الصفات الذاتية: العلم والقدرة والحياة
لقد ذكرنا للأحبّة في الجلسة السابقة أنّ حقيقة العلم عبارة عن نزول معنى من المعاني الواقعيّة من اسم العليم للباري، فالله تعالى لديه ثلاثة أسماء: اسم العليم واسم القدير واسم الحيّ، والصفات الإلهية تنشأ من هذه الأسماء الثلاثة؛ كالخالقية والرحمانية والرحيمية والرازقية، فهي صفات إلهية تتحقّق بواسطة هذه الأسماء الثلاثة، وهذه الأسماء الثلاثة لازمة للذات ولا تنفكّ عن الذات، لا أنّها عين الذات كما يعتقد البعض. وبعبارة أخرى هذه الأسماء الثلاثة هي لازمة لحقيقة ذات الباري تعالى. كما هو الحال في كل وجود، حيث يلزم كل وجود هذه الأسماء الثلاثة: العلم والحياة والقدرة، وإلا لا يتحقّق له وجود خارجي. يعني إذا أراد شيء أن يتحقّق في عالم الوجود ينبغي أن يكون عالماً بنفسه وقادراً على إدامة وجوده وحياته وأن يكون حيّاً. فإذا فقد شيءٌ الحياةَ لا يمكننا أن نطلق عليه أنّه موجود، وهذا الأمر سار في جميع الموجودات؛ في الإنسان والملائكة والحيوانات وأيضاً في النباتات والجمادات. وإن كان وجود الباري تعالى يحوز على المرتبة الأعلى لصفات العلم والقدرة والحياة، إلا أنّه يستحيل انفكاك هذه الأسماء الثلاثة عنه تعالى. وسائر الصفات الإلهية تتشعّب من هذه الأسماء الثلاثة.
كيف ترجع جميع الأمور في العالم إلى الأسماء الكلية
ذكرنا في الجلسة السابقة بأنّ جميع ما يحصل في هذا العالم هو نزول للأسماء الإلهية، يعني يتحقّق عالم الكون بواسطة تأثير الأسماء الإلهية في الصفات، وتأثير الصفات الكليّة في الصفات الجزئية؛ سواء في ذلك العالم المجرّد أو المادي، فجميع هذه العوالم توجد من خلال الأسماء الإلهية. ومعنى وجودها: أنّ الاسم الكليّ للباري تعالى عندما يتنزّل يتحقّق منه في عالم الخارج موجود أضعف بكثير من ذاك الوجود الكلي.
إذا أردنا من باب المثال أن نشبّه الأمر، نفترض أنّنا فتحنا عيننا في صحراء مثلاً.. فإذا فرضنا أنّك فتحت عينيك في الصحراء ونظرت إلى الأفق والسماء والجبال البعيدة والسعة الكبيرة جداً، فسوف ترى جميع هذه الأشياء الواسعة بعينك؛ بحيث إذا طُلب منك تحديد موقع النجوم، تقول: موقع الجدي هنا، وكذا موقع عطارد وموقع القمر وموقع سائر النجوم.. ويمكنك أيضاً تشخيص المجرّة بشكل مفصّل.. أرأيت في بعض الليالي، خصوصاً في الصحراء عند عدم وجود أضواء وغبار يمكنك أن ترى المجرّات بوضوح، بحيث أنّك ترى البعد بين نجمتين من مجرّة مثلاً ـ الذي يبعد بملايين المرات مما بين الأرض والشمس ـ بشكل غبار، والحال أنّها ليست غباراً، بل هي نجوم متراكمة، والفاصلة بين ذرّة منها والذرة الأخرى أكثر بملايين المرات من الفاصلة بين الأرض والشمس. أنا أريد أن أمثّل لكم عظمة هذه المسألة، وكيف أنّ الأسماء الكليّة الإلهية عندما تتنزّل بشكل جزئي كيف تبدو، هذا بالنسبة إلى المجرّات، أما سائر النجوم وذاك الأفق الكبير غير القابل للتصوّر.. كلّها تراها يومياً من خلال بؤبؤ العين وعدسة لا يتجاوز قطرها اثنين أو ثلاثة أو أربعة ملم، ترى كل هذه الأمور بهذه العدسة! يعني أنّ تلك المجرّات البعيدة بهذا البعد يمكن أن تسع في اثنين ملم! بهذه البساطة، لا يمكن أن نضرب مثالاً أبسط من هذا. فتلك الجبال بسعتها وعلوّها تراها بعينك، جميع هذه الجبال صارت بسعة رأس الإبرة، أخذتها شبكية العين ونقلتها بعد تلخيصها وتنقيتها إلى الأعصاب، والأعصاب نقلتها إلى القسم الخاص بالنظر من الدماغ. فهذه السعة الكبيرة التي هي أمامنا الآن قد تحقّقت بتمامها في هذا العصب البصري للعين الذي لا يزيد قطره عن اثنين ملم؛ بحيث إذا سئلت عن خصوصيّات هذه الجبال وماذا يوجد فيها، وعن اختلاف الحجارة التي تحتويها وعن النبات التي عليها وعن عيون المياه فيها.. يمكنك الإجابة عن جميع هذه الأمور وكأنّك تراها الآن. فهل دخلت هذه الجبال في العين؟ وهل صارت تلك المجرّات في رأسك؟ ليس الأمر كذلك! بل حقيقة الأمر أنّ العين أتت إلى هذه الأمور فصغّرتها حتى صارت بمقدار رأس إبرة.. هكذا هي الأسماء الكلية الإلهية في عالم النزول، مثل انعكاس هذه الصورة الكلية للعالم في عين الرائي والمشاهد. فعندما يتنزل الاسم الكلي من الذات ـ كالعلم مثلاً ـ ويكون متّصلاً بالذات يكون هذا الاسم في مرتبة الإطلاق وعدم النهاية، يعني لا يمكن أن نعتبر أنّ العلم الإلهي له حدّ معيّن؛ كما هو الحال بالنسبة إلى نفس وجود الواجب تعالى، فنفس وجود الباري لا حدّ له. فلو فرضنا أنّنا ركبنا وسيلة نقل وأردنا أن نطوي هذا العالم ونصل إلى عالم البرزخ، وبعد ذلك ننتقل منه إلى عالم الملكوت واللاهوت والجبروت.. بحيث نقول: لقد شاهدنا جميع هذه الأسماء الإلهية، وسننتقل الآن إلى نفس الله فنغوص في ذاته، ونقول لقد شاهدنا جميع هذه الصفات وعبرناها، إلى أن وصلنا إلى الله وتعرّفنا على كل شيء فيه ولم يبق شيء بعده، يعني وصلنا إلى حدّ وبعد ذلك الحد هناك عدم.. إنّ هذا الكلام غير صحيح ولا وجود له أساساً.
الجمع بين محدودية المخلوق والإطلاق الحاصل من الفناء بالله
وبناء عليه، فالأسماء الإلهية وبتبعها الصفات الإلهية هي صفات كلية لا حد لها ولا نهاية. وليس الأمر [عدم محدودية الأسماء والصفات] مختصاً بنا، بل حتى نفس النبي الأكرم الذي هو أول مخلوق لله تعالى، والذي وجدت جميع عوالم الوجود بواسطة نفسه المقدّسة؛ تماماً كما أنّ هذا الكوب من الماء يتحرّك بواسطة يدي، وإذا لم تكن يدي موجودة فلن يتحرّك.. فإنّ تمام العالم وجد بواسطة نفس النبي الأكرم، لا فقط هو الذي يحرّكه، فأي مرتبة له؟ أنا يمكنني أن أرفع هذا الكوب فقط، لكن لا يمكنني أن أخلق هذا الكوب، بل هذا الأمر بحاجة إلى مصنع ومواد، ينبغي أن نأتي بالصخور ونستخرج منها الزجاج ونذيبها في المصنع، ثم نبدّلها إلى كوب. الفعل الذي يمكنني أن أفعله هو تحريك الكوب؛ أنقله من هذا المكان إلى مكان آخر.
أما النفس المباركة للنبي الأكرم فليست فقط تقوم بتدبير العالم، بل أصل وجود تمام العالم وهذه التعيّنات في عالم الكثرة ـ سواء عالم الملك والشهادة أو عوالم الملكوت ـ جميعها بواسطة نفس النبي. يعني لو لم يخلق النبي الأكرم لما كان هناك وجود يمكن أن يتحقّق قد تحقّق في العالم فعلاً، أي أنّ أول مخلوق للباري تعالى في سلسلة العلل هو النفس المباركة للنبي الأكرم.
فهذا النبي الذي لديه هذه الخصوصية؛ وهي أنّ منه وُجدت تمام عوالم الملك والملكوت، ليس فقط أنّه لم يحط بعلم الله الآن، بل حتى في القيامة لن يحيط به، بل إلى عدم النهاية لن يحيط به. فما بالك بالنسبة إلى سائر الموجودات الأخرى، لماذا؟ لأنّ علم الباري تعالى غير متناهٍ.
هنا يوجد مسألة ذكرها بعض العظماء في كتبهم، وهي أنّ السالك يصل بواسطة الفناء الذاتي إلى العلم اللا متناهي، ليس المراد بها أنّ العلم اللا متناهي يتحقّق في وجود هذا الشخص المتناهي، أو أن يحيط بالعلم الإلهي اللا متناهي بحيث لا يبقى شيء من العوالم الربوبية مخفية عليه، كلا ليس الأمر كذلك. بل معناه هو أنّنا محدودون في مسألة الإحاطة بالعلم الإلهي؛ لدينا محدودية مكانية، وزمانية ومحدودية في سعتنا الوجودية، وهذه حدود مختلفة، وكل شخص يحصل على العلم الإلهي بمقدار تجرّد نفسه وبمقدار سعته وظرفيته. أما من يصل إلى مرتبة الفناء الذاتي، ويكون قد رفع ذاك الحدّ عنه، وحصل له بقاء بعد الفناء، وعاد مرة أخرى إلى المحدودية ـ لأنّ مرتبة البقاء مرتبة محدودية ـ فهذا الشخص لا حدّ له في استفادته من اسم العليم، هذا معنى [وصول السالك إلى العلم اللا متناهي]، يعني في كل آن يتجلّى له اسم العليم الذي هو اسم إطلاقي وغير متناه، دون أن يكون هناك حدّ للاستفادة منه، بل حدّه هو في ظرفيته الوجودية. يعني أنّ النبي الأكرم يستفيد من اسم العليم بمقدار سعته الوجودية، وكل من الأئمة عليه السلام يستفيد منه بمقدار سعته الوجودية، والأولياء يستفيدون بمقدار سعتهم الوجودية، ولكن بلا نهاية ولا حد. مثلاً إذا فرضنا لدينا أنبوب ماء متّصل بالبحر، سعة الأنبوب إنش واحد أو انشين أو ثلاثة انش، وأنبوب آخر متّصل بالبحر أيضاً بسعة عشرة أو عشرين إنشاً، فكل من هذين الأنبوبين متّصل باللا متناهي ويأخذ من ماء البحر بشكل دائم. لكن كل منهما يأخذ منه بلحاظ سعته الوجودية. هذا بالنسبة إلى اسم العليم.
تنزل الفعل بصفة القدرة وتحديده بصفة العلم
لقد ذكرنا بأنّ الله تعالى عندما يريد أن يحقّق شيئاً ويوجده في هذا العالم يوجده بواسطة أسمائه الكلية، وتنزّل هذه الأسماء الكليّة لها جانبان: أحدهما أنّ الفعل الذي تحقّق في عالم الوجود مستند إلى الباري تعالى؛ مهما كان هذا الفعل. والجانب الآخر: انتساب هذا الفعل إلى فاعله المباشر الذي فعله. هنا تختلف المسألة؛ فمن جهة أنّ هذا الفعل تحقّق في هذا العالم، فالفعل مستند إلى الباري، ولا شك في ذلك! يعني أنّه لو لم تتعلّق المشيئة باسم العليم واسم القدير لم يحصل تنزّل لاسم القدير ولم يوجد في العالم خلق أساساً، يعني يجب أن يأتي اسم القدير للباري تعالى ويجعل هذا الفعل متحقّقاً في الخارج، وبدونه لا تحقّق له أبداً. مثل ما إذا فرضنا أنّك أردت أن ترفع هذا الكوب من مكانه، فمع عدم وجود القدرة لن يرتفع الكوب من مكانه؛ مثل الإنسان الذي ليس لديه يد، فمهما بذل من إرادة لأن يرفع هذا الكوب لن يستطيع رفعه. فكذلك بدون اسم القدير لا يتحقّق شيء في الخارج، وبدون اسم العليم لا يمكن أن يتحقّق فعل في الخارج مع شروطه ولوازمه، اسم القدير يخلق فقط ويوجد الأمور، أما اسم العليم فيأتي ويحدّ هذه الأمور ويضعها في مواقعها المناسبة لها، {اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}۱، ألا يوجد لدينا في سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر}٢، هذه الأسماء والصفات الإلهية لها حكم المحدّد للمخلوقات والموجودات والتي تفعل ذلك من خلال اسم القدير. فإذا أردت أن تصنع طاولة مثلاً، فمن جهة تحمل في يدك مسمار ومطرقة وغيرها من العِدّة، ومن جهة أخرى، يأتي فكرك ويقول ضع المسمار في هذا المكان، لا قبله ولا بعده. من جهة تأتي إرادتك ومشيئتك وتتناول شيئاً، ومن جهة أخرى تضع هذا الشيء في موضعه. هذا من الاستفادة من اسم العليم، فأنت بالعلم الذي لديك تستخدم قدرتك في موضعها، وصفة القدرة التي لديك إنّما تظهر بواسطة علمك، وجميع هذه الصفات تتحقّق في الخارج بواسطة إرادتك ومشيئتك.
جميع هذه الأسماء الكلية للباري التي لكل منها خصوصيات مختلفة عن الأخرى.. ترجع في الواقع إلى ظهور أي شيء في عالم التصادم والتضارب.
تنزل الأسماء الإلهية في عالم الوجود ضمن أسبابها الطبيعية
ليس الأمر عبثاً، بل ينبغي أن يكون لدينا الآنسة فاطمة والشاب زيد ويعقدان عقد الزواج، فيتزوّجا وينجبا ولداً، فليس الأمر هكذا؛ بمعنى إما أن يصير هذا الأمر أو يصير ذاك. كلا، بل ينبغي أن يتحقّق الكثير من الأمور؛ فعند الزواج ينبغي مراعاة هذه الأمور، وعندما يحصل الحمل ينبغي أن تكون الحامل بهذا الشكل؛ فلا تذهب إلى أي مجلس، ولا تستمع إلى الموسيقى، وعليها أن لا تخالط أصحاب النفوس غير الصالحة، وإلا فهذا التعامل مع هذه النفوس يترك أثراً في المرأة، وبالتالي يترك أثراً في نفس الجنين.. فهذه الأمور ليست وهماً، بل هي أمور واقعية، فالأئمّة عليهم السلام لم يطرحوا لنا هذه المطالب بلا أساس، بل هي أمور واقعية. وعليه فالذهاب إلى مكان موجب لحصول التشويش والاضطراب يسبب الكدورة للإنسان، ويسلبه ما لديه من أمور ويجعله خال الوفاض، ويكون حاله كحال من يحمل كيس أرز أو قمح فيخرق ويتساقط جميع الأرز أو القمح الذي فيه. هذه من الأمور الواقعية، وهي من المسائل العجيبة جداً.
المراقبة والنيّة هي التي تجعل الفعل حسناً أو قبيحاً
ومسألة المراقبة هي التي تجعل تلك الأسماء الكليّة الإلهية والتي تتجلّى في الصفات.. تأتي وتجعلها تعمل بنحو آخر؛ فصفة القدير هذه التي ترفع هذا الكوب وتعيده إلى مكانه، تأتي المراقبة وترفعه وتضعه في مكان آخر، هذا عمل المراقبة. وصفة القهّارية للباري التي تريد أن تنزل القهر والعذاب على العالم بسبب عمل قام به الإنسان، عندما يكون لديك مراقبة، تتبدّل تلك القهارية إلى رحيمية وتظهر في العالم بشكل آخر. هذا كلّه بسبب المراقبة. لذا علينا أن لا نجلس هكذا ونقول: هناك عمل يقام به في ذاك المكان، فماذا علينا أن نفعل؟ كلا، بل نحن جزء من أولئك! فنحن جزء من سلسلة العلل تلك التي يتحقّق العمل من خلالها؛ لأنّنا أيضاً وجود جزئي وظهور لتلك الحقيقة الكلية. فتلك النيّة والاختيار والإرادة والمشيئة التي جعلها الله في وجودنا هي عبارة عن تنزّل لتلك الإرادة الكليّة والمشيئة الكليّة والرحيمية والرحمانية الكليّة، وهي عبارة عن ذاك العقل والتدبير الكلي. نحن نعتبر أنفسنا أنّنا مثل لعبة أو مجسّم تأتي يد فتشحنها بالطاقة فتتحرّك، أو كسيارة تتحرّك.. كلا! هذا شرك، وهذا عين الشرك! هذا يجعل الباري تعالى محدوداً، هذا عبارة عن تحديد للوجود الإطلاقي للباري تعالى فيما يرتبط بالمظاهر الجزئية الخارجية. وبناء عليه، كل ما يجري في العالم عبارة عن نزول الأسماء والصفات الإلهية! فهل يمكن أن تكون هذه الصفات شراً؟ أن تكون خلافاً؟ هل يمكن ذلك؟
يقول الإمام الصادق عليه السلام: العلم عبارة عن النور في القلب، يعني أنّ الإنسان إذا لم يشعر بالنور في وجوده فليس لديه علم! لكن كيف يمكن أن يشعر الإنسان في داخله بالنور؟ ما هو النور؟ النور عبارة عن تجرّد يحصل للنفس بواسطة عملٍ ما، فيجعلها مستعدّة لتلقّي المعاني الكلية. هذا هو العلم. ولا شك في أنّ توجّه الإنسان إلى عالم الطبع والمادة سيجعله يعتبر أنّ ما يحصل له في هذا العالم مقتصر على الجانب المادي ومشوب بالأمور النفسانية. حيث تتحقّق بعض الأمور في هذا العالم؛ فهنا يوجد ولادة وعمل واكتساب وتطوّر وترقّي، وأيضاً يوجد في هذا العالم الكثير من الأحداث، وقد ذكرنا أنّ جميع ما يتحقّق في هذا العالم يتحقّق بواسطة الصفات الكلية الإلهية. لذا علينا أن نرى ـ كل منّا بحسب نفسه ـ ما الذي توجبه هذه الأمور التي تجري علينا في الليل والنهار؟ هل توجب لنفوسنا النور أو توجب الظلمة؟! وهذه المسألة مهمة جداً.
قصة أمير المؤمنين والرجل الذي استأمنه على فرسه تبيّن كيف تبدّل النيّة حسن العمل
يوجد لدينا رواية۱ كثيراً ما كان المرحوم العلامة ينقلها لنا وهي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام طلب من أحدهم أن يحرس له بغلته أو فرسه الذي كان يركبه، وقال له أريد أن أدخل المسجد وأصلّي ركعتين وأذهب، فقف أنت واحرسه حتى لا يذهب! فعندما رجع الإمام وجد أنّ الرجل قد سرق له لجام الفرس وذهب، فأعطى الإمام أحد أصحابه دراهم ليشتري له لجاماً من السوق، فذهب فوجد ذاك الرجل يبيع اللجام نفسه فاشتراه منه وأحضره إلى الإمام، وحينما وجد الإمام عليه السلام أنّه هو نفس اللجام، قال: كنت أريد عندما أخرج من المسجد أن أعطي الرجل هذا المقدار من الدراهم، لكنّه لم يرض أن يأخذه من طريق الحلال، فالله أعطاه إياه من طريق الحرام، ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ صفة الرازقية هي التي تتنزّل الآن، فهذا الشخص ينبغي أن ينام شبعاناً، لن يدعه الله ينام جائعاً! فالله قد تكفّل برزق عباده، فاسم الرازقية في حالة تنزّل الآن على هذا الرجل، لكن نيّة الشخص الآن يمكنها أن تغيّر في سلسلة العلل والأسباب، نفس نيّة السوء وقصد السرقة ترتفع إلى الأعلى وتصل إلى عالم القضاء والقدر الكلّي الإلهي، فتغيّر ذاك القدر والقضاء الذي كان سينزل الرزق على هذا الرجل من طريق الحلال، ويجعله يتنزّل من طريق الحرام، هل التفتم؟ الذي خرّب الأمر هنا هو النيّة! يعني أنّ القضاء الإلهي في حالة تنزّل؛ وقد كتب لهذا الرجل أنّه ينبغي أن يرزق اليوم بأربعة دراهم، والملاك الذي يريد أن ينزّل الأمر يرى أنّه قد أمضي القضاء والقدر، وصدر الأمر في أنّه عليك أن توصل أربعة دراهم إلى هذا الرجل! حسناً كيف نوصله له؟ هل نوصله إليه ضمن سلسلة العلل الصحيحة والحلال؟ أم لا؟ ينظر [الملاك] فيرى أنّه لا يوجد شيء من الأسباب، فيبدأ بترتيب الأمور وتهيئة العلل والعوامل؛ فيجعل في بال هذا الرجل أن يفعل هذا الفعل ويحرف ذاك عن مسيره.. فالمسائل ينبغي أن تتحقّق، ولو لم يكن مسير ذاك الرجل بالقرب من مسجد الكوفة لما طلب منه الإمام أن يحفظ له فرسه، بل طلب ذلك من شخص آخر. فيقوم الملاك بتغيير مسيره وتغيير فكره ـ نحن نذكر لكم المسألة بالإجمال ـ والحاصل أنّه يجعله يمر من هذا المكان، ليطلب منه الإمام أن يحرس له الفرس.. هذه الأمور طلبت من الملاك، وقد قام بها فعلاً على أحسن وجه. ومن جهة أخرى، يُلقى في قلب أمير المؤمنين أن يُوكل هذا الرجل بحفظ الفرس، وأن يقرّر أن يعطيه بعد ذلك هذا المقدار من الدراهم. فجأة نرى كل شيء قد تغيّر؛ لقد تبدّلت الملفات، واختلطت الأوراق فذهب هذا إلى هناك وأتى شيء آخر مكانه.. [يقول الملاك] لم يكن التقدير هكذا، لقد شاهدت التقدير بشكل آخر! من الذي فعل ذلك؟ نفس هذا الرجل التعيس هو الذي خرّب ذاك الملف؛ فقد أتى وأخذ تلك الورقة من الملف ووضع مكانها ورقة أخرى مختومة مفادها أنا لا أريد أن يصلني شيء من طريق الحلال، أريده من طريق الحرام. حسناً، إذاً أنت الذي أردت ذلك، فليكن! ونحن لن نزيد أو ننقص من مالك ولو بمقدار فلس واحد، بل سنعطيك ما كان مقدّراً لك، غاية الأمر أنّك أنت الذي لم ترد أن يكون من طريق الحلال، فجعلناه لك من طريق الحرام. هذا الذي تغيّر فقط، وفعلاً رفعنا ذاك بسبب سوء نيتك، ودفعنا بك إلى السوق، إلى أن أرسل عليّ من يشتري ذاك اللجام منك، فقد تحقّق الأمر بالدقة كذلك دون أن يتغيّر شيء، ولو تغيّر شيء فمعناه أنّه حصل تغيير وتبدّل في ذات الله تعالى عن ذلك.
أحياناً، يحصل للإنسان أن يكون في حالة تحدّث مع شخص آخر، فيرى أنّ حال هذا الشخص جيد، وفجأة يتبدّل حاله ويتكدّر دفعة واحدة! فما الذي حصل؟ الذي حصل هو أنّه كان يتكلّم معه بشكل طبيعي، إلى أن خطر في قلبه نيّة أمر خلاف، فتخرّب عليه أموره، فينعكس هذا الأمر السيء ويظهر في المحيط، يعني أنّ هذا الفكر وهذه النية تأتي وتأتي صحيحة؛ مثلاً يقول: أذهب إلى هذا الرفيق وأفعل كذا، وأعطيه هذا المال وأقول له كذا.. وفجأة يقول حسناً بما أنّه لديّ قرض منه، فسوف أضع هذا العمل وهذا الأمر في حساب ذاك القرض دون أن أخبره. وعندئذٍ تخرب الأمور جميعاً، فيتكدّر الجو والفضاء، ويخرب حال المخاطبين، كل ذلك بسبب تلك النيّة السيئة التي حصلت فغيّرت كل شيء.
بناء عليه {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها}۱ يعني أنّ كل وادي من هذه الأودية قد أخذت منه بمقدار سعتها، {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً}، فعندما يأتي السيل يكون على وجه الماء فقاعات وأشواك وأوساخ، وعندما يرسو الماء في مكان، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً}، يأتي ريح مثلاً فيذهب هذه الفقاعات والأوساخ، فجميع هذه الفقاعات عبارة عن لا شيء أبداً، والذي يبقى هو الماء. هذه الآية تبيّن هذه الحقيقة بهذا الشكل.
ثقل الميزان وخفّته يوم القيامة تابع للنيّة لا للعمل
الأسماء والصفات الإلهية تتنزّل وتوجد في هذا العالم، وذاك المال الذي من المقرّر أن يأتي إلى هذا الإنسان ويحمله إلى زوجته وأطفاله عبارة عن {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً}، نفس هذه الدراهم لا إشكال فيها؛ فهذه الدراهم يمكنه أن يشتري بها الخبز واللحم أو الفاكهة ويطعمها أطفاله وزوجته، فهذا ليس فيه أي إشكال، فلا إشكال في أن يكون في جيبي دراهم أو في جيبك دراهم، لكن هذا {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً}. فعندما تريد أن تنفق هذا المال، أحياناً تعطي هذا المال للفقير لتقضي حاجته وتساعده، فتكون قد تحقّقت تلك الحقيقة النورية والنورانية لهذا العمل في هذا العالم؛ لأنّ النية خالصة وأصل المال لا إشكال فيه. وأحياناً أخرى تعطي هذا المال لرفيقك حتى يعلم بأنّك من أهل الإنفاق، فهنا تخرب الأمور، وحينئذٍ تكون من الآية {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً}. المال الذي تعطيه للفقير يأخذه منك وينفقه دون أن يعرف نيّتك في ذلك، فلا يسألك عن نيّتك هل هي جيدة أم سيئة، فمن يقع في البئر لا ينظر إلى اليد التي تمتد لرفعه هل هي بيضاء أم سوداء، بل سيمسك بها كيفما كانت. والفقير سيأخذ المال وينفقه، أما النيّة الموجودة الآن فهي باطلة تريد أن تنسب العمل لنفسه، فهو يريد أن يبرز أنّه هو الذي يفعل! يقول انظر! ألا ترى أنّي أعطي الفقير.. هذه النيّة تأتي وتبدّل الماء إلى زبد وفقاعات. أصل المال موجود، لكن تلك النيّة تبدّله إلى قش وتبن فتخرّب المسألة فتصير زبداً، وبالتالي لا يبقى له شيء؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً}. لذا ما الذي يحصل يوم القيامة؟ {فَأمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}. فلو كانت نيّته صحيحة، فسيبقى هذا الماء على ما هو عليه، فيكون يوم القيامة قد {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، أما الزبد الذي يذهب، فسوف يأتي صاحبه يوم القيامة وينظر إلى الميزان فلا يرى شيئاً!
ـ [يقول] لقد دفعت مالاً وأنفقت!
ـ المال هو من السماء {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً}، فهو ليس منك، بل نحن الذين أعطيناك المال وجعلناه في اختيارك، وليس لديك القدرة على تحصيل المال، وأما ما جعلنا لك القدرة عليه فهو نيّة الخير ونيّة السوء، وأنت خرّبت العمل بنفسك بنيّة السوء.
ـ لقد أنفقت هذا المقدار وساعدت الناس وبنيت لهم البيوت وبنيت المساجد والمستشفيات!
ـ هذا ليس شأنك، فلو لم نعطك المال، فمن أين تأتي بالمال للبناء؟ هذا المال لم يأت من بيت خالتك، بل نحن الذين أرسلناه إليك؛ لقد أرسلنا لك الزبائن إلى دكانك ليشتروا منك.. فلو لم نرسلهم لك فمن أين تأتي بالمال؟ فحتى لو استخرجته من الأرض، فنحن الذين وضعناه لك في الأرض لتستخرجه منها.. من الذي وضع الكنز الذي يكون تحت التراب؟ لقد جاء شخص قبل ألفي سنة ووضع ذهبه في جرّة مثلاً ودفنها، واستخرجها آخر الآن، فلو لم يضعها ذاك الشخص منذ ألفي عام لما وجدها هذا، حتى لو حفر الأرض ووصل إلى الجهة الأخرى، فنحن الذين وضعنا الكنز هنا، فما شأنك أنت بذلك؟
ـ لقد بذلت جهداً في ذلك واستعملت قدرتي ويدي.
ـ من الذي جعل القدرة في بدنك؟ فلو كنت مريضاً لما استطعت أن تحفر الأرض.
لا مجال أبداً لأي كلام، فجميع السبل مغلقة تماماً، والذي طلبه الله منا هو فعل واحد بسيط، وهو النيّة الصالحة لا السيئة، هذا العمل البسيط الذي كنا نريده منك فقط، ولم تقم به! كنا نريد منك أنّه إذا أعطيت الفقير مالاً أن تكون نيّتك حسنة، لا أن تنسب الأمر إلى نفسك! لكن بما أنّك لم تفعل ذلك، فمن جهة لم يبق المال في يدك، ومن جهة أخرى ذاك المال الذي أنفقته نحن الذين أعطيناك إياه! فلماذا تضعه في ميزانك أنت؟ فميزانك خال لا شيء فيه! ونيّتك كانت سيئة {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً} لذا فقد تبخّرت في الهواء! فلم يبق في ميزانك شيء أبداً. وإذا كان الأمر كذلك، فهل الإنسان أحمق [حتى يعمل دون أن يوضع في ميزانه شيء]، فإما أن لا تنفق أساساً، أو عندما تنفق أنفق بنيّة حسنة، أنفق بنيّة أنّ المال هو ماله ليس لك منه شيء.. بل حتى لو لم ينفق ففيه حساب أيضاً، لا يتصوّر أحد بأنّ المسألة عبارة عن تساوي طرفي المعادلة، لقد ذكرنا المسألة من باب المعادلة كمثال [بأنه إما أن لا ينفق أساساً أو ينفق بنية صالحة]، فلماذا لا ينفق؟ بل عليه أن ينفق! فعندما يعطيه الله هذا المال، إنّما يعطيه إياه بحساب، فقد جعل للفقراء فيه سهماً، وللآخرين فيه سهماً، وللرفيق فيه سهماً، جميع هذه الأمور موجودة.
الإنفاق في سبيل الله أحد طرق الكمال، قصة المرحوم العلامة في مكّة
عندما تشرّف المرحوم العلامة بالذهاب إلى مكّة، وبطبيعة الحال كان هناك الكثير من المستوّلين، فأعطاني ورقة نقدية من فئة مائتين أو خمسمائة من العملة السعودية الريال، وطلب منّي أن أفكّها إلى أوراق نقدية من فئة الخمسة ريالات والعشرة ريالات، فأحضرتها له، وعندما كان يذهب إلى الحرم كان يأتيه الأطفال الصغار، فيطلب من أحدهم أن يصلّي على محمد وآل محمد، ثم يناوله خمسة ريالات والآخر عشرة ريالات، ويقول لهم على حب محمد وآله.. فكانوا يقرّون بالولاية أمامه، وفي مكّة صرف جميع الأموال بهذا الشكل! لكنّ الآخرون كانوا يقفون ويتعجّبون منه إذ كيف لرجل مثله أن يأتي إلى هنا ويجعل تمام أمواله من فئة الخمسة والعشرة ريالات ويوزّعها على الأطفال والمتسوّلين، لكنّه لم يكن يكترث فهو الذي ربح! لماذا؟ لأنّ الآخر ذهب واشترى بماله ثياباً لابنه مثلاً، ثم وقع ابنه على الأرض فتمزّقت تلك الثياب ورماها، أو ذهب واشترى ساعة مثلاً، ثم وقعت تلك الساعة وانكسرت، أو أي شيء آخر ثم ذهب.. لكن التفتوا! لا أقول بأنّه لا ينبغي أن يشتري المسافر شيئاً لأبنائه، بل لا بد أن يشتري هدايا، وقد ورد التأكيد على شراء الهدايا من النبي، حتى لو كانت الهدية حجراً۱، فهذه الأمور لا بد أن تكون.. فلا تذهبوا وتنقلوا المسألة بشكل مختلف فتقول لك زوجتك وأبناؤك ما هذه التعاليم التي يعلمونك إياها.. [ضحك] لا تفعلوا هكذا؛ بأن تذهبوا بعد مدة إلى مكّة وتبدّلوا أموالكم وتعطوها كلّها...[ضحك] لا يا عزيزي! بل الهدية أمر مستحب مؤكّد، ولا بد أن يلحظ الإنسان أمر الهدية لأولاده وزوجته، فهذا الأمر لا بد منه، لكن ليست تمام المسألة هنا.. والحاصل يأتي ذاك ويشتري شيئاً لابنه، وبعد مدّة يخرب ويرمى، بينما هذا يعطي المال لهذا الطفل فيزيد من محبته لعلي وأولاد علي عليهم السلام.. فما الذي يبقى؟ يأتي ويعطي عشرة ريالات لطفل ويقول له على حب عليّ، فيزرع بذلك حب عليّ وأبنائه في قلبه.. فما الذي يبقى؟ من الذي خسر ومن ربح؟ لو أراد الإنسان أن يكون ذكياً فعليه أن يربح أكثر ويستفيد أكثر من معاملاته.
يقول الله تعالى لنبيه: {وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ}۱، يعني لا تمسك يدك في الإنفاق ولا تنفق كل ما عندك.. ففي النهاية زوجتك وأبناؤك بشر، وأنت الواسطة في الفيض عليهم، وأنت الواسطة في رزقهم، لذا عليك من جهة أن لا تمسك يدك فلا تعطي أحداً شيئاً، ولا أن تنفق فتحرم زوجتك وأبناءك، لا، بل كل شيء في موضعه صحيح.
لقد أعطيناك هذه النيّة، فأنت يمكنك أن تجعل نيّتك صالحة فتكون نوراً، ويمكنك أن تبدّل نيّتك إلى ظلمة، لكن أصل القضية باق على حاله.
ما جرى على الحسين عليه السلام في كربلاء كان باختياره لنيل تلك الدرجات
كان الحسين عليه السلام أول مظلوم، جميع الأئمة والنبي كانوا مظلومين، عندما تنظر إلى واقعة كربلاء ترى أنّ قضية سيّد الشهداء عجيبة جداً، يقول الله تعالى له: "يا حسين إنّ لك في الجنان لدرجات لا تنالها إلا بالشهادة"٢، وليست أي شهادة، بل هذا النوع من الشهادة، يعني أن ترى بأمّ عينك هذه الأمور والمجريات التي تجري على أبنائك، فعليك أن تشاهد جميع هذه الأمور وتتحمّلها.. ماذا كان يفكّر سيد الشهداء؟ كانت الأمور واضحة أمامه؛ إذا كان المفترض بالإنسان أن يرحل عن هذه الدنيا.. فلا بد أن يرحل الإنسان عن هذه الدنيا؛ إما بسكتة قلبية أو بحادث أو بأن يسقط حجر على رأسه أو بالشنق أو بالقتل أو يموت أثناء النوم.. لا بد أن يرحل عن هذه الدنيا بشكل من الأشكال. لكنّه يفكر فيما بعد ذلك، في ما سيحصل في ذاك العالم، لذا نرى الإمام الحسين عليه السلام يختار هذا الجانب. انظروا! هنا تأتي النيّة وتنقل المسألة من طرف إلى طرف آخر!
لا بد أن تتحقّق شهادة سيّد الشهداء عليه السلام، ويحصل الذهاب من هذه الدنيا باسم الله الجلالي: "القهار"، فهذا ينبغي أن يتحقّق هنا؛ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّار}٣. ينبغي على الجميع أن يذهب باسم القهر والصفة الجلالية؛ "خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة"٤، فكما أنّ عنق الفتاة أو العروس لا يفارق قلادة ذهب، بل تبقى تحافظ عليها وتظهر نفسها بهذه الزينة.. فكذلك الموت يحيط ببني آدم ولا مفرّ منه أبداً. فاسم الجلال لله تعالى ينزل بهذا الشكل فيأخذ سيد الشهداء من هذه الدنيا، بل إنّه أخذ من هو أعلى من سيد الشهداء؛ أخذ النبي، فلا بد أن يأخذه! فينزل اسم الجلال.. ثم يقول كيف نأخذه؟ فهناك طرق متعدّدة للانتقال من هذه الدنيا، عزرائيل ليس له طريق واحد، بل لديه طرق كثير جداً، فلو أغلقت على عزرائيل ألف باب من الموت بالدواء والعلاج والعمليات الجراحية والأشعة وغيرها، فسوف يدخل عليك من باب آخر، لا تقلق! لا يمكنك أن تصل إلى ما لديه من طرق ووسائل أخرى. حسناً، الآن نريد أن نأخذ سيد الشهداء عليه السلام، فهل نأخذه من الطريق العادي؟ فينزل القضاء وينزل.. ثم يرى أنّ الإمام قد اختار شيئاً آخر، لقد خيّره الله.. ينزل القضاء على أنّ هناك تخييراً وأنّ هناك تساوٍ في الخيارات، وفجأة يصل التقدير إلى مرحلة المشيئة المطلقة التي تريد أن تنتقل بعدها إلى منصّة الظهور، فجأة نرى أنّ سيد الشهداء قد اختار شيئاً آخر! لم يختر الموت الطبيعي، بل اختار الشهادة بهذا الوضع وبهذه الكيفية!
لقد جاءت جميع القوى الملكوتية في يوم عاشوراء إلى الإمام؛ كل ما هو موجود في العالم؛ من الريح والعواطف والزلازل.. يعني الملائكة الموكّلة بهذه الأمور.. وكانوا يقولون له لقد وضعنا الله تحت اختيارك، فامرنا بأي أمر نفعله لك! يقول لهم: لقد اخترت هذا الأمر بنفسي۱، فما شأنكم أنتم بذلك، ولو لم أردْ ذلك لما أتيت إلى هنا أساساً. وهنا تكمن المسألة.. يقول لهم بلسان الحال: تريدون أن تخدعوني؟! بأن آمركم بهذا الفعل أو ذاك الفعل؟! نحن نبيّن المسألة بلسان الحال، يقول سيد الشهداء لجبرائيل: هل تريد أن تخدعني؟! اذهب لشأنك! فنحن في مكان بحيث أنّك لو أردت أن تنظر ما فيه لاحترقت! ويقول لعزرائيل: هل تريد أن تخدعني أنت الآخر؟ ويقول لإسرافيل كذلك.. لكنّه يقول: أنا لا أُخدع! فالآن هو وقت الربح ووقت جني المحصول وقطف الثمار. فيوم عاشوراء كان يوم جني الثمار.
هل فهمتم لماذا قال السيد الحداد بأنّ عاشوراء كانت بالنسبة إلى سيّد الشهداء صعوداً؟ فعلى من نبكي نحن؟ نعم، بكاؤنا جيد، بكاؤنا بكاء شوق، بكاء لأنّنا لم نكن هناك معه، مع أنّنا نتمنّى أن نكون في خيمته، هذا صحيح! لكن ماذا بالنسبة إلى نفس الإمام؟ الأمر بالنسبة إليه هو قطف الثمار! هل يجلس ويبكي في هذه الحالة، ويقول يا إلهي ماذا جرى؟! كلا!
لقد جاءه جميع الملائكة والجن والحيوانات والوحوش وعرضوا عليه المساعدة.. جاء الجن وقالوا له أعطنا دقيقتين حتى نبيدهم جميعاً، فقال لهم الإمام: لقد قطعنا مسيراً طويلاً، لقد أتينا من المدينة إلى مكة، وتحمّلنا هذه الصعاب لكي نصل إلى هنا، والآن تريدون أن تأخذوا ذلك منّا؟ كلا!
هذا هو مراد العظماء فيما يرتبط بهذه المسألة.
المطالب في هذه المسألة لا تزال غير تامة، إن شاء الله نبحثها في فرصة أخرى. أرجو أن نوفّق لنكون في خدمة الإخوان بعد أسبوع أو أسبوعين إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد