المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةالسالك البصير
التوضيح
تناول المرحوم العلامة آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في هذه المحاضرة حقيقة كتاب مصباح الشريعة مستعرضاً قول العلماء في انتسابه إلى الفضيل بن عياض، ويشير إلى حقيقة الفضيل وأنه كان في بداية حياته من اللصوص ثم تحول إلى الإمام الصادق عليه السلام بعد أن أخلص توبته والمقامات التي وصل إليها، ثم تعرض لتوبة بشر الحافي على يدي الإمام الكاظم عليه السلام، موضحاً أن بعض العلماء نسب حصول توبته على يدي الإمام زين العابدين عليه السلام. ثم يستعرض ما ذكره صاحب كتاب روضات الجنات من النقد اللاذع الذي وجهه إلى العلماء معتبراً ذلك نقطة ضعف في هذا الكتاب، ومؤكداً على ضرورة احترام العلماء أثناء النقد عليهم
هو العليم
التوبة النصوح
و
احترام العلماء
ألقاها
العلاّمة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني
قدس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كتاب مصباح الشريعة ونسبته الى الامام الصادق عليه السلام
يعتبر الفضيل بن عياض من خواص تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ومن أصحاب سرّه الذين أجمع الكلّ ـ شيعة وسنة ـ على وثاقته وعدالته بحيث لا شكّ في ذلك أو ترديد.
ويعتقد المرحوم الحاج الميرزا حسين النوري في خاتمة "المستدرك" أن كتاب "مصباح الشريعة" هو من تأليف الفضيل بن عياض, والفضيل هذا هو الفضيل بن عياض وليس ابن يسار الذي كان أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام هو أيضاً، وكان من أهل مكة، ومن الرواة الموثّقين والمعروفين. بينما الفضيل بن عياض ـ بكسر العين ـ الذي هو مورد كلامنا هو صاحب كتاب "مصباح الشريعة".
كثيراً ما وردت في كتاب "مصباح الشريعة" عبارة "قال الصادق"، بل كل من يطلع على هذا الكتاب يرى أن جميع ما ينقل فيه هو عن الصادق عليه السلام، وكأنّ صاحبنا ينقل عنه بغير واسطة.
يقول كل من المرحوم " السيد ابن طاووس" و "الشهيد الثاني" و "الكفعمي" بأنّ الكتاب هو للإمام الصادق عليه السلام بلا أيّ شك.
لكن من جهة أخرى، نرى أن بعض المطالب فيه لا تتلاءم مع كلامه وأوامره عليه السلام، مثلاً عند نقله لمطالب عن الإمام عليه السلام يقول:" قال سفيان الثوري أيضاً هنا هذا المطلب"، في حال أن سفيان الثوري كان في زمان الإمام الصادق عليه السلام وكان من كبار المتصوفة ولم يكن له ارتباط به عليه السلام، كما أن الشيعة لا ينقلون عنه أصلاً، ولا يعتبرون كلامه حجّة؛ إذن، عندما يرد كلام سفيان وسط كلمات الإمام الصادق عليه السلام فلا يمكن القول بأن كلامه هو كلام الإمام عليه السلام.
وهكذا فإن هناك شواهد كهذه تمنعنا عن القطع بأن تمام الكتاب هو للإمام الصادق عليه السلام, لكن من ناحية أخرى من المعروف والمشهور أن للفضيل بن عياض كتاباً يروي فيه عن الإمام الصادق عليه السلام، كما أنّ مضامين هذا الكتاب أيضاً رفيعة جداً!
يشتمل كتاب "مصباح الشريعة " على موضوعات قيمة جداً، فهو يحتوي على مائة باب، يتحدث فيها مفصلاً عن التوكّل والتسليم والنية والطهارة والإرادة والسجود والركوع والقرآن وغيرها .. ويبيّن أسرارها؛ فمستوى المطالب رفيع جداً.
لذا يصل المرحوم النوري (الحاج الميرزا حسين النوري) في خاتمة المستدرك ـ وبعد بحث مفصّل ـ إلى أن الكتاب على العموم هو للفضيل بن عياض, استفاده وجمعه من مجالس ومواعظ الإمام الصادق عليه السلام، وإذا واجهتنا فيه أحياناً مطالب تتناقض مع كلامه عليه السلام فإنها تؤول؛ فنقول مثلاً هي من نفس المصنف؛ فإذا وردت عبارة: "قال سفيان الثوري..." فهي توضيح من المصنف أضافه وسط المباحث التي كان ينقلها عن الإمام عليه السلام.
من أحوال الفضيل بن عياض
لكن أن نقول بأن الكتاب هو من عنده، ألّفه ثم نسبه للإمام عليه السلام.. فهو ممّا لا يحتمل أبداً! فالفضيل بن عياض رجل موثوق ومعتمد وهو ولي من أولياء الله، وأن يأتي إنسان ويؤلّف من عنده كتاباً ثم ينسبه للإمام الصادق عليه السلام فإنه افتراء وكذب وحرام، وهذا مما لا يُحتمل في حقّ الفضيل.
على كل حال، فقد كان الرجل من العظماء. وقد جاء في أحواله أنه كان في أوائل أيامه يشتغل بالصلاة والعبادة والصوم داخل خيمة في صحاري خراسان بين "أبيورد" و"سرخس" واضعاً على رأسه برنساً، ومؤتزراً عباءة من صوف، كما كان عنده عدةّ من المريدين، لكنهم كانوا لصوصاً في غاية المهارة، وكانوا بناءً على أوامره يعترضون كل قافلة تمرّ من ناحيتهم، ويقيّدون أيدي وأرجل الرجال والنساء، ويأتون بكل ما حصلوا عليه إلى تلك الخيمة؛ فقد كان يعيل نفسه ومريديه بهذه الطريقة مدةً طويلةً. وقال أحدهم له يوماً: أنا أتعجب منك يا فضيل! أراك دائماً مشغولاً بالصلاة والصيام! ومن ناحية أخرى نرى قتلك الناس وسرقة أموالهم! كيف يتلاءم هذا العمل المشين من القتل والغارات مع الصلاة والصيام؟! إنه اجتماع للضدين! واجتماع الضدين محال أصلاً، ومن بين الأماكن التي نستطيع أن نقول قطعاً بأن اجتماع الضدين فيها محال هو هذا!
توبة الفضيل
حينها قرأ عليه الفضيل هذه الآية:{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيم }.
خلاصة الأمر كان الفضيل يشتغل بالصلاة والعبادة في خيمته، وكلما مرّت قافلة انكبّ عليها أهل الخيمة بالسيوف والرماح والسكاكين... يقيّدون أيدي الناس وأرجلهم بالحبال ويطرحونهم أرضاً بعد سلبهم ما يملكون وسحبهم إياهم إلى خيمتهم... ومرّ زمان وهم يأكلون من هذا "الرزق الحلال"...!
في يوم من الأيام، مرت بهم إحدى القوافل، فرآهم عجوز يمتلك بعض النقود الذهبية، وتيقّن أنهم سينهبون القافلة. انتظر إلى أن توارت آثارهم، فأتى فضيلاً بكيس الذهب الذي بحوزته ـ بطبيعة الحال فإنه لم يكن يعرف بأنه الفضيل، رأى فقط شخصاً عليه لباس الزهد والتقوى ومشتغلاً بالعبادة ـ فقال له: احتفظ بهذا أمانة عندك إلى وقت لاحق. قال: جيد جداً، اتركه جانباً، ضعه على الأرض! فترك العجوز أمواله وغادره.
فلما مضى إلى القافلة رآها مسروقة، ولم يتركوا معها شيئاً، وقد قيدت أيدي النساء والرجال وأُلقوا على الأرض، فكّ الحبال عن أيديهم وأرجلهم وأتى الخيمة ليسترجع أمواله من ذلك الرجل!
فلما وصل الخيمة رأى فيها اللصوص وقد جلبوا معهم كل الأموال، وها هم يقتسمونها عند ذلك الأمين المؤتمن! وها هو السيد العظيم قد أخذ نصيبه وعيّن لكل واحد سهمه؛ عند ذلك فهم كل شيء! وقال: لقد أخطأت!
لكن ما إن وقعت عينه على الفضيل من بعيد، حتى أشار إليه أن مالَكَ ها هنا، تعال وخذه! فأخذ ماله ومضى.
قال اللصوص لرئيسهم الفضيل: لقد بحثنا اليوم كثيراً لكي نجد نقوداً في تلك القافلة فما وجدنا درهماً واحداً, الآن وقد جاءك ذلك الشخص بكيس من الذهب تتركه يضيع منك هكذا؟!
قال: إنه قد أحسن بنا ظناً، ولحسن ظنّه حسبني رجلاً أميناً فلم أرد أن أعامله بخلاف حسن ظنّه.
لقد كان يقول في بعض الأوقات أيضاً: لا بد أن أتوب، عفا الله عن سيئاتي، إننا نرتكب جنايات كثيرة، كل عملنا هو جرم وجناية و...، لكن الله سوف يعفو عنا في النهاية.
ومضت الأيام إلى أن علق الفضيل بعشق إحدى الفتيات، وفي منتصف الليل ـ وبينما كان يتسلق الجدار للقائها ـ سمع من وراء الجُدر قارئاً يقرأ القرآن، فتناهت إلى مسامعه آية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فقال في نفسه: آن، آن! والله قد آن! من ثم رجع ولم يمض في طلب الفتاة.
وذهب إلى خربة، فوجد جماعة من الناس يتخافتون بينهم يقولون: لنشدّ الرحال الليلة. وبعضهم يقول: لكن الفضيل كامن في الطريق وسوف يسلبنا أموالنا، لنبق حتى يطلع الصباح.
ذهب الفضيل إليهم وعرفهم نفسه فقال: أنا الفضيل، وقد تبت إلى الله، قوموا في أمان الله, اذهبوا, من الآن فصاعداً لن تسدّ في وجوهكم طريق، ولن يعترضكم أحد أبداً.
ومنذ ذلك الحين تاب الفضيل، لقد كانت توبته توبة حقيقيةً! توبة نصوحاً، صنعت من الفضيل فضيلاً!
جاء مباشرة من "أبيورد" خراسان ليعرض نفسه على الإمام الصادق عليه السلام، وهذا ما حصل، لكنه أولاً وفي مكانه الذي كان فيه، بدأ بالبكاء والعويل، كان يذهب للجبال يصرخ.. ينتحب.. يشكو.. كما كان يذهب عند أصحاب الأموال المسروقة ليطلب منهم العفو، فكان بعضهم يعفو والبعض الآخر لا يعفو، وآخرون يقولون مثلاً: يا فلان، لقد أخذت مقداراً من أموالنا فكيف لنا أن نسامحك؟!
قيل: أنه أتى يهودياً كان قد أخذ منه مالاً كثيراً (ذهباً كثيراً) لكي يعفو عنه، قال له: أبداً، لن أتجاوز عن درهم واحد، لقد أخذت أموالي، سرقتها، وبدل أن ترجعها لي تقول اعف عني؟!
بكى الفضيل، تذلل، تضرع.. لكن من دون فائدة، قال له: لقد تبت.
فقال اليهودي: جيد جداً, لو تبت حقاً فتعال معي إلى المنزل حتى أريك شيئاً, لقد دفنت تحت هذه الأرض مقداراً من المسكوكات الذهبية، إذا حفرت واستخرجت المسكوكات فإني سأعفو عنك.
ذهب الفضيل إلى منزل اليهودي, حفر الأرض، أخذ المسكوكات ووضعها بين يديه مباشرة. قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله, فأسلم ثم قال: أقسم بالله أنني لم أدفن مالاً هنا, لكنني قرأت في التوراة أن من تاب في شريعة آخر الزمان وكانت توبته حقيقية ونصوحاً، فإنه إذا حفر الأرض يستخرج الذهب؛ ولهذا فإني أتيت بك إلى هذا المكان لأمتحن توبتك في هذا الدين، وهل هو دين صادق أم لا؟ والآن صرتُ مسلماً، وقد تجاوزت عن كل ما أخذته مني، اذهب في أمان الله.
وهكذا جاء الفضيل إلى الإمام الصادق عليه السلام وأصبح من خواص أصحابه؛ يعني من أصحاب السرّ وأولياء الله تعالى، لقد كان شخصاً والهاً نزيهاً إلى آخر عمره.
هارون الرشيد يزور الفضيل
نعم، في ليلة من الليالي قال هارون الرشيد لوزيره الفضل (الفضل البرمكي): لقد تعبت من أصوات الألحان والأغاني والمطربين، اذهب بنا هذه الليلة إلى وليّ من أولياء الله تعالى، إلى شخص ينصحنا.. يبكينا.. يشفي صدورنا.. لقد تعبت من هذه الأصوات ولم أعد أحتملها.
ذهب به الفضل إلى الفضيل، طرقوا الباب، فخاطبهم الفضيل: من أنتم؟ قال: أمير المؤمنين! هارون أمير المؤمنين! قال: ما حاجتي به؟ ما حاجته بي؟ قال: أمير المؤمنين وليّ الأمر وطاعته واجبة، افتح الباب!
قال الفضيل: إذا أتيت رغبة فلا رغبة عندي فيك، وإذا أتيت كرماً فأنت أعلم.
دخل هارون مع الفضل، فنفخ الفضيل على السراج وأطفأه، ثم قال: لا أريد أن تقع عيني على وجهك البائس.
مسح هارون بيده على جسد الفضيل فأمسكها، وقال: ما ألين هذا الكف! لو نجى من النار! قالها وانشغل بالصلاة، الله أكبر.. قام الفضيل وبدأ يصلي.
قال له الفضل البرمكي: هذا هارون أتى إليك حتى تتوجه إليه، وتعتني به، لكنك لم تهتم أصلاً لحاله! لقد قتلته!
قال الفضيل: لقد قتلته أنت يا هامان ولم أقتله أنا! قتلته بهذه الأعمال التي تجترحها وتريد أن تضع ذلك في عنقي.
فشرع هارون بالبكاء، وقال: ما يقوله صحيح، يقول هامان، إذن فقد جعلني مكان فرعون؛ بما أنه ناداك بهامان وقد كان وزيراً لفرعون، فهذا يعني أنني فرعون! وهكذا بدأ يبادل نفسه الحديث، بعد ذلك وضع هارون أمامه كيساً من ألف دينار، فقال له الفضيل: احمله! إني لأعجب من أمرك! فنصائحي لم تؤثر بك شيئاً فأنت قبل انتهاء المجلس تسارع إلى الظلم والعدوان!
قال هارون: أي ظلم فعلت؟
قال: لقد قلت لك أخرجها من قلبك، لكنك ما زلت تصرّ على التعلق بها (يعني أنك تريد أن تصنع لنفسك شخصية بهذه الأموال التي تعطيها لي، أعطيت الألف دينار من أجل حفظ مقامك) خذ هذه الأموال وأخرجها من قلبك، خفّف عن روحك بدلاً من أن تثقل عليها، خذها من عندي فإني لست مصرفها.
قبل ذلك كان الفضل (البرمكي) قد أخذ هارون إلى منزل سفيان بن عيينة الذي كان يُعدّ من الزهاد والعباد؛ عندما طرقوا باب المنزل وقالوا: هارون، رد عليهم من الخلف: لماذا أتى الخليفة بنفسه! كان يجب أن تخبروني لآتي أنا إليه بنفسي. قال هارون: ليس هذا هو المطلوب! هذا لا ينفعني بشيء، لنعجل في الرحيل، قال للفضل: لنذهب، هذا لا يصلح لنا، وبعد ذلك أتى به إلى منزل الفضيل.
لقد كانت حياة الفضيل على هذا المنوال إلى أن أسلم الروح في يوم عاشوراء، فقد استأذن الإمام الصادق عليه السلام في المجاورة بمكة وأقام فيها، وكان يملأ وقته بالطواف والسعي والعبادة إلى أن توفاه الله.
وقد كان له ولد اسمه علي، قيل إن علياً كان أعجب منه، لكنه لم يستوف عمره، حيث أنه ـ وفي ريعان شبابه ـ كان واقفاً يوماً عند ماء زمزم فسمع أحدهم يقرأ هذه الآية من القرآن: {أَمْ حَسِبَ الَّذينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} فصاح صيحة وسقط على الأرض مسلماً الروح.
توبة بشر الحافي
بشر الحافي كان نظير هؤلاء الأفراد من الشيعة الذين قبلت توبتهم مائة في المائة، انقلبت أحواله، فكان انقلابه موجباً لاعتبار جميع أهل زمانه؛ غير أنّ ذلك كان بفضل الإمام الكاظم عليه السلام.
كان بشر الحافي من أهل بغداد, وقيل إنه لم يكن له نظير في العقل والدراية، كما أنه كان مترفاً محباً للهو واللعب ومن أهل الخمر أيضاً. في يوم من الأيام انعقد في منزله مجلس للخمر والأغاني والألحان وأمثال ذلك، وكان هو حاضراً أيضاً في هذا المجلس فخرجت جارية له من المنزل لتضع القمامة عند الباب؛ في نفس الوقت كان الإمام الكاظم عليه السلام ماراً قرب الدار فسأل الجارية: أحرّ صاحب الدار أم عبد؟ أجابته الجارية التي لم تكن تعرفه: هذا الدار دار حرّ لا دار عبد. قال لها الإمام عليه السلام: صدقت، لو كان عبداً لأطاع سيده.
بعد ذلك ذهب عليه السلام وذهبت الجارية لتستسقي الماء للمنزل، عندما رجعت بالماء كانت قد تأخرت قليلاً (بسبب كلامها مع الإمام عليه السلام)، فسألها بشر الذي كان جالساً يشرب الخمر: لماذا تأخرت؟ قالت: عندما خرجت كلمني رجل وسألني: صاحب هذا المنزل حر أم عبد؟ فقلت له: حر، قال: صدقت، لو كان عبداً لأطاع سيده.
فهم بشر أن هذا الكلام هو من الإمام الكاظم عليه السلام لأنه لا يستطيع أي أحد غيره أن يأتي بمثله، ركض حافياً كما هو في أثر الإمام الكاظم عليه السلام إلى أن أدركه، فوقع على يديه ورجليه يقبلهما تائباً منتحباً منيباً، وبقي هكذا إلى آخر عمره حافياً لم يلبس حذاءً قط، ولهذا يقال له: بشر الحافي أي عاري القدمين، جمعه حفاة؛ مثل: ماشي ومشاة، باغي وبغاة، طاغي وطغاة؛ ويستحب أن يمشي الإنسان إلى مكة حافي القدمين.
سألوا بشراً الحافي: لماذا لا تلبس حذاءً؟ قال: في الوقت الذي صالحوني فيه كنت حافياً فلم أرد بعد ذلك ارتداء الحذاء. لم يقل: صالحتهم، بل قال: صالحوني.
وخلاصة الأمر، هذا هو بشر الحافي الذي كان من أولياء الله تعالى من الدرجة الأولى، والذي لم يوجد له نظير لقرون متمادية، وقد كان يسكن بغداد، يشتغل فيها بالعبادة والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك.. وكان معتمد أهلها؛ فقد كانوا يأتونه ليستفيدوا منه وليأخذوا منه الأوامر والتعليمات. لقد كان رجلاً عجيباً، توفي على ما يظهر في سن السادسة والسبعين.
إساءة صاحب الروضات إلى الشهيد الثاني
ينقل المرحوم الشهيد الثاني حول بشر في إحدى عبارات كتاب "المدهش" عن ابن الجوزي ويقول:"إن الذي كان ماراً قرب منزل بشر هو الإمام زين العابدين عليه السلام".
ولم يحسن صاحب "روضات الجنات" هنا إلى الشهيد الثاني فهو يقول: "إن هذا العالم (أي المرحوم الشهيد الثاني) مع كل هذا العلوّ والمقام والجلال والعظمة يرتكب هذا الخطأ الكبير فلا يفرّق بين الإمام الكاظم عليه السلام وعصره وبين الإمام السجاد عليه السلام! فقد تأخر بشر مائة سنة عن عصر الإمام السجاد عليه السلام! لقد كان في زمان أحمد بن حنبل، بل أن أحمد بن حنبل جاء قبل بشر وهكذا.... لقاءاته، تعليماته هي من الإمام الكاظم عليه السلام وليست من الإمام زين العابدين عليه السلام! كل هذا ليس إلا من قلة معرفة هؤلاء العظماء بفنون وعلوم ليست لهم". هذا ما قاله حول الشهيد الثاني.
بالتأكيد لقد أخطأ الشهيد الثاني هنا؛ لأن توبة بشر ـ كما جاء في "تذكرة الأولياء" وسائر كتب التراجم ـ كانت على يد الإمام موسى بن جعفر، وزمانه يبتعد عن زمان الإمام زين العابدين بمائة سنة؛ لكن مقصودنا هو أنه لا يجب على الإنسان أن يتعامل مع العظماء في موارد خطئهم بقسوة. نحن نقول له جيد، لقد أخطأ الشهيد الثاني، ولا توجد هنا مشكلة! لكن أن نقول: إنَّ هذا الشخص بكل هذا الجلال والعظمة يرتكب مثل هذا الخطأ! وأنه كان لقلة معرفته بهذه الأمور! وهكذا... فإنه يعتبر بحد ذاته خطأ وإهانة للعظماء.
وأحد الموارد التي أدّت نوعاً ما لخفوت كتاب المرحوم السيد محمد باقر الخوانساري "روضات الجنات" هي هذه المسألة؛ حيث أنه عندما يريد انتقاد أحد ما فإن نقده يكون حاداً لاذعاً، وهذا غير صحيح!
"روضات الجنات" كتاب جيد جداً، ألّفه المرحوم محمد باقر الخوانساري في أحوال العلماء، وقد كان شخصاً محققاً، إلا أن مشكلته تكمن في أنه في بعض المواضع عندما يبدأ بالاعتراض فإنه يهاجم العلماء. مثلاً في أحد المواضع تهجّم على الشيخ الصدوق وأيضاً على السيد ابن طاووس بسبب بعض الأمور، حيث أنه تأذّى من الفتنة التي أحدثها الشيخ الأحسائي عندما كان يكتب عن أحواله، وهناك حيث كان يرد ويعترض.. بدأ يُصعِّد في كلامه، فوضعهم كلهم في موضع النقض والإقصاء, وهذا غير صحيح!
وكذا تهجّمه على السيد الرضي رحمة الله عليه جامع نهج البلاغة، حيث أورد عليه بعض الانتقادات، وهذا غير صحيح, غير صحيح أبداً! ولذلك فإن المرحوم الشيخ محمد رضا الأصفهاني (إبن المرحوم الحاج الشيخ محمد حسين الإصفهاني إمام مسجد شاهي وصاحب "التفسير المختصر" والذي كان إبناً بدوره للحاج الشيخ محمد تقي أي المرحوم صاحب الفصول) له تعليقه على روضات الجنات ـ هذه التعليقة لم تصل إلى يدي لحد الآن، ولا أدري أصلاً هل طبعت أم لا، لكن من حيث المبدأ يبدو أنها تعليقة مفيدة جداً ـ تعَّرض فيها للأخطاء الواردة في كتاب "روضات الجنات" وذلك في كل موضع يتطلَّب ذلك، ولكن ببيان محكم ومحترم.
لقد كان مقرراً أن تطبع هذا التعليقة مع الروضات يوماً ما، لكنها لم تطبع لحد الآن. والطبعة الجديدة للروضات هي على نفس الشكل الذي توجد عليه الآن من حيث تقسيمها إلى عدة مجلدات، ولا أثر فيها لتلك الحاشية. لكن هذه التعليقة مفيدة جداً.
على كل حال، فإن شاهدنا كان حول الشدة والحدة التي أبداها المرحوم صاحب "الروضات" في حق الشهيد الثاني والتي تعتبر غير لائقة! يمكن أن يكون قد أخطأ والاشتباه وارد، لكن يجب أن يكون التطرق لهذه الأخطاء بحيث لا تذكر خارج ذلك الكتاب؛ وبما أن كتاب روضات الجنات هو "في أحوال العلماء والسادات", فإنه كتاب رجال وترجمة، حيث تحدث فيه عن أحوال بشر الحافي, لذلك يجب عليه حين يناقش أن يقول أنه التقى بالإمام الكاظم عليه السلام واستفاد من محضره الشريف ونسبة الشهيد الثاني ذلك للإمام زين العابدين عليه السلام خطأ؛ أمـا قوله لقد كان اشتباهه عظيماً، وأشياء من هذا القبيل، فإنه غير صحيح! غير صحيح البتة.
قصة شريعت سنكلجي مع الدرويش
المرحوم الشيخ الأنصاري رحمة الله عليه ينقل من شريعت سنكلجي (شريعت سنكلجي هو أحد العلماء، ليس من العلماء بمعنى الكلمة، لكنه شخص كانت له آراؤه الخاصة، وكتب كتاباً يبطل فيه القول بالرجعة, والمتدينون لم يختلط عليهم أمره). يذكر أنه في يوم من الأيام دخل أحد الدراويش إلى مسجده حيث كان يدرّس تلامذته كتاب "شرح اللمعة " بدون أي احترام للشهيد الثاني، فكان يقول: هذا الكلام لا يفيد شيئاً، هذا الكلام لا يتفوه به أي جاهل! وهكذا كان يبدي اعتراضاته! ثم قال ذلك الدرويش الذي كان جالساً في ذلك المكان: سيدي، يمكنكم الاعتراض على الشهيد! لكن هذا ليس جيد بجمل من قبيل: "لا يوجد من يتفوه بهذا الكلام، فلان لا يقول، يجب رمي هذه الكلمات بعيداً!"
بعضهم ينتقد بعبارات بذيئة، لكن بعضاً آخر يعترض، والاعتراض واجب وإلا لا يكون العلم علماً والحقيقة حقيقة؛ جميع الأخطاء محفوظة في مكانها، لكن... الاعتراض واجب .
شريعت سنكلجي لم يعتن بما قاله الدرويش، وتركه هذا الأخير أيضاً ومضى. ثم جاء في الغد وجلس لإلقاء الدرس؛ وكان الدرويش قد أتى أيضاً، لكن ما إن جاء ليفتح الكتاب ويشرع في الشرح حتى توقف لسانه؛ كلما حاول أن يضغط على نفسه لم يفلح، ولو في جملة واحدة! ما السبب؟! الدرويش جالس.. وبقي ساعة كاملة وهو على هذه الحال!
قال له الدرويش: نحن بإشارة واحدة نأخذ منك كل شيء، وأنت تهزأ بالشهيد الثاني؟! تب إلى الله ولا ترجع إلى هذه الأعمال.
على كل حال، فإن الدرويش أرجع له نطقه بعد ذلك، وعندما جلس بين يديه قال له: يلزمنا الكثير حتى نصل إلى مقام الشهيد الثاني!
الرد والاعتراض مطلوب ولكن مع احترام العظماء
لقد كان الشهيد الثاني في الواقع رجلاً عظيماً! كان من العلماء المتقين الأبرار الأخيار المجاهدين الثابتين، ومن الشيعة الحقيقيين المخلصين، وكان رجلاً لطيف النفس أيضاً.. جهوده.. كتبه.. "الشهيد الأول".. "الشهيد الثاني".. يعتبر هؤلاء من نخب الدهر!
يقول ذلك الدرويش: يلزمنا الكثير حتى نصل إلى مقام الشهيد الثاني, ومن هذا الحين.. وبإشارة واحدة أخذت منك كل شيء! وأنت تضعّفه؟! الشهيد الثاني لا يفهم؟! (إنّ فلاناً هكذا وهكذا، وهذه الكلمات لا يتفوّه بها أي أحمق، لا يقول بها عالم) هذا غير صحيح! قل: سيدي، هذا المطلب الذي أورده الشهيد الثاني هنا غير صحيح لهذا الدليل، ولا إشكال في ذلك.
كلام كل إنسان غير الرسول والمعصوم قابل للرد؛ فللشيخ الطوسي والشيخ المفيد والشيخ الصدوق آراء كلها قابلة للرد؛ كل فيلسوف، كل حكيم آراؤه قابلة للرد، وهذا لا يعني أن كل حرف من كلامه مردود، لكن إذا ارتأى الإنسان أن هناك خطأ فيه فإنه يستطيع أن يبين ذلك ولكن بكلام جيد؛ يعني بكلام نزيه وليس بكلمات قاسية وغير مؤدبة.
كان هذا مطلب أردنا أن نقوله.
إذن على الإخوان أن يعلموا دائماً في مباحثاتهم أن: الرد والإيراد والاعتراض وغيرها كلها صحيحة ومحفوظة في مكانها ويجب أن تكون ولكن مع إحترام العظماء. في أي وقت يريد الإنسان أن يذكر اسم الشهيد الأول، العلّامة.. يجب أن يكون ذلك مع كمال الاحترام! اسم الشيخ الطوسي، فلان, مع كمال الاحترام! وإذا كان يوجد هنا اشتباه فإنه لا يعدّ أمراً ذا خطر.
احترام كتب الحديث موجب للموفقية في العمل
كان المرحوم الملا آقاي دربندي ـ الذي سمعتم حتماً عنه ـ من مراجع النجف المشهودين قبل مائة سنة تقريباً، ومن تلامذة الشيخ المعروفين، بل يعتبر مقدّماً على الشيخ ومن نفس طرازه وقد كان رجلاً عجيباً! وله عدة كتب أيضاً منها "الأسرار الحسينية" وكان رجلاً عجيباً، عجيباً جداً!
يقولون: كان من حالاته أنه لا يُقبِّل المصحف فقط، بل ويقبّل جميع كتب الأخبار؛ مثلاً ما إن تقع يده على كتاب "التهذيب" للشيخ الطوسي حتى يقبّله ويضعه على رأسه؛ بعد ذلك يتناول كتاب "المبسوط" مثلاً يقبّله ويضعه على رأسه؛ كان يقول: ما هو الفرق؟ هذه تعاليم الإمام، وتعاليم الإمام مثل تعاليم الله ومثل القرآن.
ويقولون: إنما وصل كثير من العظماء إلى مقامات عالية بواسطة رعاية الاحترام والدرجات والمقامات.
إذا أراد الإنسان أن يرتّب كتبه مثلاً، فلا يجب أن يضع المصحف في الأسفل، بل في الأعلى، والتنظيم يجب أن يكون بالترتيب: كتب الحديث مثلاً لا توضع في الأسفل وفوقها كتب اللغة مثلاً أو ما شابهها لأن حرمتها أكبر ورعايتها لازمة! بالرغم من أن رعاية حرمة الكتاب ليست باحترام المجلد والورق بل بقراءته والعمل بمضمونه، فإن نفس القراءة والعمل تحصل للإنسان من خلال احترام هذا المجلد وهذا الورق. إذا قام الإنسان بهذا فإنه يحصل على ذلك، وإلا فلا.
احترام السيد القاضي لكل ما له صلة بالنبي
وكان دأب المرحوم القاضي رحمة الله عليه أنه كلما نزع عمامته يقبّلها، وكذلك قبل أن يضعها على رأسه، كان يقبّلها، ويقول: هذا التاج ليس لنا بل هو تاج النبي، نفس عمامته! مثلاً إذا أراد أن يضعها على رأسه فإنه يقبلها ويضعها جانباً ثم يقبلها مرتين وبعد ذلك يضعها على رأسه ويقول: هذا التاج ليس لنا بل هو تاج النبي.
عندما كان يريد أن ينادي أولاده كان يقول: يا سيد جعفر! يا سيد علي! يا سيد محمد صادق! ـ هؤلاء هم أولاد نفس المرحوم القاضي ـ يا سيد حسن! يا سيد.... كانوا يقولون له: سيدي هؤلاء هم أولادك، كان يجيبهم: فليكونوا أولادي، بالأخير هم أولاد النبي! ويجب عليّ مناداة أولاد النبي باحترام!
وهذه ليست من الأمور التي يضطر أن يقوم بها تصنعاً! لقد وصل إلى مقام من الشأن والعظمة بحيث يعد كل من له علاقة وصلة بالنبي صلى الله عليه وآله عظيماً ومحترماً.
كان السيد الحداد يقول أنه: في إحدى المرات تشرّف السيد القاضي بزيارة كربلاء وزارنا في منزلنا، فأخرج من جيبه منديلاً من حرير فقبّله وقال: يا سيد هاشم هل تعلم من أعطاني هذا المنديل؟ قلت: من؟ قال: أعطاني إياه السيد مرتضى الكشميري!
وكان السيد مرتضى الكشميري قد توفي قبل ٢۰ أو ٣۰ سنة منذ ذلك الوقت؛ لقد كان شيخاً كبيراً وصاحب مكاشفات ورجلاً طيباً جداً ولطيفاً؛ حتى أنه لم يكن يعلم عن العرفان وغيره شيئاً، لقد كان فقط إنساناً طاهراً نزيهاً بسيطاً وصاحب مكاشفات، لكن السيد القاضي كان يقول: بما أنني كنت في محضر ذلك العظيم وأعطاني ذلك المنديل، فإنني أحتفظ به في جيبي بكل احترام وأقبّله وأتبرّك به.
كان السيد الحداد رحمة الله عليه يقول: متى ما جاء السيد القاضي رضوان الله عليه إلى كربلاء فإنه يذهب للنوم داخل الصحن! لقد نام في الصحن ليال عديدة! وغالباً ما يكون الجوّ هناك حاراً ويمكن النوم داخل الصحن. لقد كان المرحوم القاضي يقول: إنني نمت في كل شبر شبر من الصحن، ولا يوجد شبر لم أنم فيه! (يعني أنه لمدة طويلة وهو يطوف هكذا! حول كل الصحن، قال: لقد نمت داخل هذا الصحن كله).
جيد، فهذا تواضع، لكن تواضع لأي شيء؟ داخل الصحن! كانوا يقولون: يا سيد أنت آية الله! إنك مرجع تقليد وأنت فلان وفلان، عوض أن تذهب إلى الفندق أو غيره تنام في الصحن (قرب الزوار من الرجال والنساء والأطفال الذين لا يبالون بالنظافة) بجانب نساء العرب ورجالهم وأطفالهم وبجانب فلان! وهؤلاء الأعراب لم يكونوا نظيفين بل كانوا وسخين جداً و.... ومن قبيل هذه الكلمات؛ لكن الذي يجب أن نعرفه أن من تكون له نظرة خاصة لسيد الشهداء مع كل الخضوع والخشوع، سوف تكون له بطبيعة الحال نفس النظرة لزوّاره، لتربة كربلاء، للأحجار والأبواب وغيرها.
وهكذا أصبح لدينا رجل كالمرحوم القاضي! وإلا فلا يمكن لأيّ إنسان أن يكون المرحوم القاضي! لماذا جاء قرن من الزمن ومرّ ولم يستطع أحد أن يكون مثل المرحوم القاضي؟ لأنه كان يعمل على مراعاة هذه الأمور والنكات إلى ذلك الحد، ولذلك فإن الله تعالى اعتنى به أيضاً؛ {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيم}.