المؤلّف آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم التاريخ و الاجتماع
التوضيح
هذه الرسالة دراسة علمية ثقافية أثبت المؤلف من خلالها أن زيارة الأربعين خاصة بالإمام الحسين عليه السلام فقط، و أنّ إقامة الأربعين لغيره من الناس بدعة وحرام.
وقد درس المؤلف قدس سره مسألة الأربعين في الثقافة الشيعية من عدة جوانب، كما أنه أوضح باختصار بعض أسرار ثورة الإمام الحسين عليه السلام وكيفية اختلافها عن سائر الثورات مبينا خطأ البعض في فهم فلسفة الثورة وهدفها.
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
و الصلاة على أشرف رسله و خاتم سفرائه محمّد و آله الغرّ الميامين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين
كلّ مذهب من حيث محتواه و هويّته الذاتيّة عبارة عن مزيج من الأصول و الأسس العلميّة و العمليّة، و مجموعة من الرموز التي يعبّر عنها بالشعائر و العلائم المميّزة و المشخّصة لهذا المذهب.
معنى «الشعار» في «لسان العرب»
ففي لسان العرب يورد فيما يتعلّق بكلمة «الشعار» ما يلي:
و الشّعار: ما ولي شعر جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب ...، و الدثار: الثوب الذي فوق
الشعار ... و في حديث الأنصار: أنتم الشعار و الناس الدثار؛ أي أنتم الخاصّة و البطانة۱.
و المعنى أنّه: تطلق كلمة الشّعار -بكسر الشين- على اللباس الداخليّ الملاصق و المماسّ للبدن، بخلاف الدثار الذي يطلق على اللباس الخارجيّ، و بذلك ورد في الحديث:
أنتم جماعة الأنصار الشعار، و سائر الناس هم الدثار؛ يعني:
أنتم معشر الأنصار من زمرة الخواصّ و السرّ ...
... و الشعار: العلامة في الحرب و غيرها.
و شعار العساكر: أن يسموا لها علامة ينصبونها ليعرف الرجل بها رفقته.
... و شعار القوم: علامتهم في السفر ...
و الشعار: العلامة.
... و شعار الحجّ: مناسكه و علاماته و آثاره و أعماله، جمع شعيرة، و كلّ ما يجعل علما لطاعة الله عزّ و جلّ كالوقوف و الطواف و السعي و الرمي و الذبح و غير ذلك؛ و منه الحديث: أنّ جبرائيل أتى
النبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] و سلّم فقال: مر أمّتك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنّها من شعائر الحجّ!
... و قال الزجّاج في شعائر الله، يعني بها جميع متعبّدات الله التي أشعرها الله أي جعلها أعلاما لنا، و هي كلّ ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح۱ ...
و المعنى: أنّ الشعار يطلق على العلامة التي توضع للحرب و غيرها، و شعار العساكر هو العلامة التي يضعها الجند كي يميّز العسكر أنفسهم عن الأعداء، و شعار القوم إنّما يطلق على العلامة التي يحملونها أثناء السفر (مثل العلم و ما شابهه)، و بشكل عامّ الشعار يعني: المؤشّر و العلامة.
و شعار الحجّ عبارة عن المناسك و العلامات و الآثار و المواقف و الأعمال الخاصّة التي تميّزه عن سائر العبادات، و جمعه شعيرة؛ يعني: كلّ عمل جعل بعنوانه مشيرا إلى إطاعة الأمر الإلهيّ، الأعمّ من الوقوف بعرفات أو المشعر أو الطواف و السعي و الرمي و الذبح و نظائرها.
و من هذا الباب الرواية التي تحكي أنّ جبرائيل أتى إلى حضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بيّن له أنّه عليه أن يأمر أمّته برفع أصواتهم أثناء التلبية، لأنّ التلبية من شعائر الحجّ.
و الزجّاج كذلك قد أراد هذا المعنى حينما تعرّض لمناسك الحجّ و شعائره.
شرح كلمة «الشعار» من كتاب «لغتنامه دهخدا»
و في قاموس دهخدا يقول:
شعار: نشان و علامت. نشانه گروهى از مردم كه بوسيله آن يكديگر را شناسند. نشان و علامت سلطان يا امير، يا خرقهاى چون علم سياه يا سفيد و يا كلمهها كه طريقه و آئين او را نمودار سازد.
عربهاى زمان جاهليت در ميدان كارزار شعارهائى مىدادند كه مناسب با اوضاع روز بود؛ مثلا در جنگ احد سپاهيان مخالف اسلام به نام دو بت خود عزّى و هبل فرياد مىزدند و قبيله تنوخ در حيره (يا آل عباد الله) مىگفتند.
پيغمبر اكرم شعار مهاجرين را (يا بني عبد الله) و شعار اوس و خزرج (انصار) را (يا بني عبد الله و يا بني عبيد الله) قرار داد؛ و سپاهيان اسلام را (خليل الله) مىخواندند
و بعدا نيز به مقتضيات روز شعارهائى ساخته بكار مىبردند ...
شعار افكندن: رسم و آئين طرح كردن؛ و شعار ساختن:
راه و رسم و علامت خود قرار دادن، سنّت كردن ..۱.
و المعنى: أنّ الشعار هو الوسام و العلامة. و هو عبارة عن علامة تضعها جماعة من الناس، بواسطتها يتعرّف بعضهم على بعض. و وسام السلطان أو الأمير أو علامتهما، أو الخرقة، مثل العلم الأسود أو الأبيض، أو الكلمات التي توضّح طريقته و منهجه.
و كان العرب زمن الجاهليّة يضعون أثناء الحرب شعارات تتناسب مع أوضاع ذلك اليوم؛ مثلا في معركة أحد كان الجنود المخالفون للإسلام ينادون و يستغيثون بصنمين لهم: العزّى و هبل، و قبيلة تنوخ في الحيرة كانت تقول: يا آل عباد الله.
و قد جعل النبيّ الأكرم شعار المهاجرين يا بني عبد الله، و شعار الأوس و الخزرج (الأنصار) يا بني عبد الله و يا بني عبيد الله؛ و جيش المسلمين كانوا يقولون: خليل
الله۱، و بعد ذلك أيضا كانوا يستعملون شعارات تتناسب مع مقتضيات الحال ..
و طرح الشعار: هو جعل الرسم و العادة، و الإعلان عن السنّة.
و وضع الشعار و جعله: يعني جعله علامة و عادة لأنفسهم، و جعله الطريقة و السنّة ..
كيان الأمم و الشعوب قائم على المحافظة على سننها و شعائرها
قد اتّضح من خلال بيانات اللغويّين و تتبّع موارد استعمال كلمة الشعار أنّها تطلق على الخصوصيّات الثقافيّة و الآداب الخاصّة للأمّة التي تبرزها و تميّزها عن سائر الأمم.
فشعار الإسلام عبارة عن الأحكام و القوانين المدوّنة في هذا الدين الحنيف، و التي لا نظير لها في سائر الأديان، لأنّ شعار مذهب التشيّع هو الاقتداء بالإمام المعصوم عليه السلام و التسليم إليه و تفويض الاختيار و الإرادة الذاتيّة إليه، و إحكام إرادته و مشيئته في جميع زوايا الوجود، الأعمّ من التكوين و التشريع.
و من البديهيّ أنّه ما دامت الأقوام و الملل تحافظ على سننها و شعائرها و تتمسّك بها فإنّ هويّتها الثقافيّة سوف تظلّ
محفوظة، و سوف يبقى الطريق مسدودا أمام تدخّل ثقافات سائر الأقوام الأخرى و غلبة سننها و أساليبها، و نفوذها إلى حريم دائرة اعتقاداتها و سلوكها؛ و أمّا إذا ما عمدوا إلى الإهمال و التسامح، و الافتتان بتقاليد الآخرين و الوله بها المؤدّي إلى التساهل، فسرعان ما يبلى أثر تلك الأمّة، و تضمحلّ هويتها و يتلاشى كيانها، و بالتالي سوف تذوب و تنحلّ و تنصهر في عادات تلك الأقوام الأخرى و رسومها.
نعم، من الواضح جدا أنّه ليس كلّ أدب أو سلوك مرضيّا و محمودا، و عليه فإن لم يستطع الإنسان إخضاع آداب مجتمع ما و سننه، ضمن الموازين العقليّة و الشرعيّة، فعليه أن يتركها و يقلع عنها، و يتّبع السنّة العقلانيّة و السلوك الممضى من الشرع.
يقول رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم:
بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق۱.
يعني: إنّما بعثت لأتمّم الفضائل و المكارم و القيم الإنسانيّة الرفيعة، و أبلغ بها أوجها، و أمحو التقاليد و السنن الجاهليّة، و أستبدلها بالنهج الإلهي و الطريق القويم.
الولاية و الإمامة هي المحور الأصلي للمذهب الشيعيّ و شعاره
فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها في مدرسة التشيّع هي محوريّة الولاية و إمامة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، فهي القاعدة و الأساس، و بعبارة أوضح: هي الفصل المنوّع و الصورة المحصّلة للدين الإسلاميّ المبين.
ففي هذه المدرسة، مع كون الإطاعة الحصريّة للإمام المعصوم عليه السلام أمرا ممضى و مقبولا و صحيحا، و كون أخذ الأحكام من غير الإمام المعصوم عليه السلام باطلا و مرفوضا، إلّا أنّ ذلك غير مقيّد بخصوص دائرة الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فقط، فأخذ الأحكام الشرعيّة عن الإمام المعصوم عليه السلام له مكانته، و لكنّ المسألة أعلى من ذلك، فالإمام في مدرسة التشيّع هو كلّ شيء بالنسبة للإنسان الشيعيّ، و بدون الإمام ليس هناك هويّة للمذهب أصلا.
إنّ اختلاف الشيعة مع الإخوان السنّة، ليس لأجل تحديد المرجعيّة الفقهيّة و مركزيّة الحكم و تحديد منشئه، بحيث يأخذ أحدهم عن الإمام عليه السلام و الآخر يرجع إلى أبي حنيفة -علما أنّ أخذ الحكم من أبي حنيفة أمر باطل، و العامل على أساسه سوف يعاقب و يؤاخذ- بداهة أنّ الاختلاف في الأحكام أمر واقع و موجود بين أهل السنّة
و كذلك بين فقهاء الشيعة و علمائهم، و قد يبلغ هذا الاختلاف ذروة التقابل و التنافر، و قد يؤدّي إلى وجود فتوايين متناقضين كما هو واضح جدا بأدنى تأمّل في تاريخ الفقه و كيفيّة اختلاف الفقهاء. و كذلك الأمر بالنسبة إلى أهل السنّة، فالاختلاف في الفتوى بينهم حاصل بشكل وفير، و ليس ذلك مدعاة لملامة أو توبيخ أحدهم للآخر.
إنّ حقيقة الاختلاف بين الشيعة و السنّة ترجع إلى أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم قد نصّب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و أولاده الإحدى عشر، بعنوان أنّ كلّا منهم وليّ، و أنّه صاحب الاختيار و التصرّف و الإرادة -بحيث تكون إرادته و اختياره و مشيئته و رغبته حاكمة و غالبة و مقدّمة على إرادتنا و رغبتنا- و قد بيّن حقيقة هذا التنصيب و سرّه بشكل واضح و جليّ بقوله:
من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه۱.
رجوع الشيعة إلى الإمام المعصوم و تبعيتهم له ليست بعنوان أنّه
فرجوع الشيعة إلى الإمام المعصوم عليه السلام ليس
بعنوان أنّه مرجع في الأحكام و عالم بها، و ضليع بالفقه و التشريع -كما هو الأمر في رجوع المقلّد إلى مرجعه و أخذه عن رسالته العمليّة- و إنّما ذلك لأجل أنّ الإمام عليه السلام صاحب سرّ عالم الخلقة، و حقيقة الفيض الإلهيّ المتنزّل، و الواسطة بين الحقّ و الخلق في جميع المراتب الوجوديّة، و المتولّي لنظام عالم الكون، و مربّي النفوس نحو الكمال، و هو نقطة الاتّصال بيننا و بين الله. و لا بدّ من الفناء و الانمحاء و التسليم بشكل كامل مقابل حقيقة كهذه، تماما كالعبد الذي ليس له أيّ اختيار من نفسه أمام المولى، و حقيقة الأمر كذلك.
و إذا نظر الإنسان إلى المعصوم على أنّه مجرّد مبيّن للأحكام التكليفيّة، و التي بدوره ينقلها عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، حينئذ يكون قد نزّله منزلة الراوي للحديث، مع فارق هو أنّ الراوي للحديث قد يصدر منه الخطأ و السهو أثناء نقله للرواية، أمّا الإمام عليه السلام فإنّه لا يقع في السهو و النسيان في ذلك! و في الواقع، لا يمكننا تسمية صاحب هذه النظرة بأنّه شيعيّ.
و على هذا الأساس، فحتّى لو افترضنا أنّ أبا حنيفة يأتي
و يبيّن المسائل و الأحكام دون الوقوع في الاشتباه، و بالتالي يجعل المسائل و المطالب العلميّة في اختيار الناس بشكل صحيح، و لكن من ناحية أنّه يأتي و يفتتح مجلس التدريس مقابل الإمام الصّادق عليه السلام، و يطرح نفسه في الطرف المقابل أمام وجود و حضور الإمام، فإنّه خارج عن زمرة الشيعة، و هو في صفّ المخالفين و المعاندين؛ لأنّه لم يعتقد بولاية الإمام الصّادق عليه السلام و التي هي أصل العبوديّة و أساس الدين.
و من ذلك نعلم أنّ ما نشاهده من الكثير من العبّاد و الزهّاد و أهل الصلاح، مع ما هم عليه من الزهد و التقوى الظاهريّين، و وجود آثار الصلاح في مسيرهم و نهجهم، كما هو في جناب السيّدة نفيسة خاتون، حيث أنّها قرأت ستّين ختم للقرآن على قبرها، و لكن بما أنّها لم تقبل ولاية الإمام الصّادق عليه السلام و رفضت إمامته، فلا نعدّها من زمرة أهل التشيّع، بل نكل أمرها إلى الله سبحانه.
هويّة المذهب الشيعيّ متقوّمة بالانقياد المطلق للإمام المعصوم
لأجل ذلك، فإنّ هويّة مذهب التشيّع و كيانه، متقوّمان بالتسليم و الانقياد المطلق للإمام المعصوم عليه السلام؛ بحيث لا يلحظ الإنسان أيّ وجود أو أثر مقابل وجود الإمام
و آثاره، و يرجّح الإنسان ولايته و مشيئته على سليقته و اختياره الخاصّ في جميع زوايا وجوده، و يجعل نفسه فانية و مندكّة في ولاية الإمام و سلطته؛ فلا يرى وجودا سوى وجوده، و لا يكون لديه إرادة سوى إرادته و اختياره، و عليه أن يستفيد من كلّ فرصة سانحة كي يحكم العلاقة و يوثق الصلة بين نفسه و إمامه، ليكون الإمام عليه السلام هو المحور في صميم وجوده، فيطرد الأغيار و لا يدع لهم محلّا في قلبه. و حينئذ سوف تتجلّى حقيقة التشيّع في قلب هذا الشخص، و بذلك سوف يعدّ من زمرة شيعة الإمام عليه السلام، و يدخل في الحريم القدسيّ و الملكوتيّ للإمام، و سيرتوي من زلاله و عينه المعين؛ و إلّا فلو لم تتحقّق في النفس مثل هذه الحالة، بأن كان متّبعا لأهوائه و معتمدا على سليقته و آرائه الشخصيّة -حتّى و إن كانت موجّهة و موافقة للشرع بحسب الظاهر- فسيمضي عمره بالبطلان و الهلاك و الضياع، و ستقصر يده عن بلوغ أذيال عناية حضرة الحقّ و ألطافه، ﴿وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾۱.
بناء على هذا، فإنّ من الواجب و اللازم على كلّ شخص شيعيّ أن يظهر شعار التشيّع و يوضّح المميّزات النفيسة و الحيويّة لهذا المذهب بالشكل الأتمّ و الأكمل.
مثلا، عليه أن يقوم بتعظيم و تجليل واقعة الغدير، التي تمثّل يوم تتويج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بتاج الولاية و الإمامة، و لا يقصّر في الإعلان عنها و إبرازها و الدعوة إليها، و تشكيل المحافل و إقامة مجالس السرور و الوعظ و الإرشاد، و تقديم الهدايا و التحف للأقارب و الأصدقاء، و لا يكتفي بيوم واحد أو ليلة واحدة، بل عدّة أيّام يخصّصها لهذا الموضوع الهامّ. و كذلك بالنسبة إلى إقامة مجالس مواليد الأئمّة المعصومين عليهم السلام و استشهادهم، فيبذل في ذلك الجهد الجهيد، و يستفيد من أيّة فرصة لإحياء ذكر أولئك العظام، و تبليغ مرامهم و تجديد ذكرهم و ذكراهم.
إقامة «الأسابيع» و «الأربعين» و «الذكرى السنويّة» للمتوفّى من الرسوم
و من المؤسف أنّه في الوقت الحاضر، قد استقرّت العادة على إقامة «ذكرى الأربعين» و «الأسبوع» و «الذكرى السنويّة» للأموات، و ليس الداعي لذلك إلا رعاية الشئون و الشخصيّة و المصالح الخاصّة، و ملاحظة المنافع الدنيويّة
لأولياء الميّت أو الأفراد المستفيدين من هذه المناسبات.
و الحال أنّ ما خلّفه لنا رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم و أوصياؤه المبجّلون كسنّة لنا، هو تشكيل مجالس الفاتحة إلى ثلاثة أيّام، لا أكثر!
و الذي يبدو و يظهر، هو أنّ تجديد انعقاد الذكرى السنويّة للميّت كلّ سنة من خلال المجالس المملوءة بالمظاهر البرّاقة و البهرجة، و الإعلانات المضحكة، و إيجاد الضجيج الصاخب، فهو -زائدا على كونه وسيلة لاستجلاب الترحّم و الغفران لذاك الشخص- وسيلة و سبب لإبراز الحياة الشخصيّة لأقرباء الميّت و المنتسبين إليه و المتعلّقين به و استمرارها، و إظهار شئونهم الدنيويّة. فذاك المتوفّى المسكين منهوك في ذلك العالم بالحساب على أعماله و تصرّفاته، و هؤلاء المساكين مشغولون في هذه الدنيا باكتساب الجاه، و تثبيت شأنيّتهم بواسطة وجاهة الميّت الخاوية و الاعتباريّة! و توضيح المطلب بهذا المقدار كاف ..
و العاقل تكفيه الإشارة.
ذكرى «الأربعين» من مختصّات سيّد الشهداء
إنّ إحدى الشعائر الخاصّة بالمذهب الشيعيّ -و التي لا نظير لها عند أهل السنّة- ثورة سيّد الشهداء و استشهاده
عليه السلام، فشهادة ابن رسول اللّه إنّما افتعلت على يد أسفل و أرذل خليفة في الأمّة الإسلاميّة، الذي كان قد نصّب نفسه خليفة مكان رسول اللّه، و كان يفتخر و يتباهى بهذه الجناية بكلّ وقاحة و دون أيّ خجل .. و هو الخليفة الذي كان موضع قبول و وثوق من قبل طبقة كبيرة من الأمّة الإسلاميّة، يعني أهل السنّة، حيث يعتبرونه من زمرة الخلفاء الإلهيّين و الأمراء الواجبة طاعتهم و أنّه أحد أولي الأمر!
هذه الفاجعة التي يعترف بها جميع المؤرّخين، الموافقون و المخالفون، بل و سائر الأديان و الملل، يقرّون بأنّها أبشع صفحة و أظلم فجيعة في تاريخ الحياة البشريّة، قد بلغت من الفظاعة و الشناعة أنّ الكثير من علماء أهل السنّة قد أنكروا وقوع هذه الفاجعة بشكل تامّ، أو ناقشوا و شكّكوا في انتسابها إلى خليفة المسلمين۱!
و «أربعين» سيّد الشهداء عليه السلام سند و مدرك يثبت حقّانيّة الإمام و مظلوميّته، في دائرة الصراع بين الحقّ و الباطل. فتشكيل المجالس و إقامة المحافل السنويّة لأولياء الدين، مع كونه من أهمّ الأمور و أوجب الوظائف، إلّا أنّ مسألة «الأربعين» لا تشمل أيّا منهم؛ فهذا الشعار و هذا الرمز إنّما جعل و شرّع في مدرسة التشيّع فقط و فقط لسيّد الشهداء عليه السلام.
و اليوم قد جرت العادة على انعقاد مجالس الترحم، التي تقام عن أرواح الأموات، و هو ما يطلق عليه -حسب التعبير الشائع و هو خطأ جدّا جدا- ذكرى تخليد الميّت أو ذكرى تكريمه، حيث يخال لهم أنّ روح ذاك المرحوم الميّت ستسبح في رحمة الله و تغرق بعناية الله من خلال هذا المجلس!
و في هذه المقالة التي بين يديك كلام يتعلّق بإثبات عدم إمضاء ذكرى الأربعين، و كونها باطلا بنظر الشارع المقدّس، و قد سعي فيها مضافا إلى الاستفادة من المصادر التاريخيّة و الروائيّة، و التمسّك بسنّة و سيرة أولياء الدين الأئمّة المعصومين عليهم السلام، إلى دراسة جوانب المسألة و تحقيقها على حسب الطاقة و اللياقة.
و أطلب من الله العليّ الأعلى التوفيق و الهداية في النهج القويم للشرع المبين، و الصراط المستقيم للأئمّة المعصومين عليهم السلام، لي و لجميع مريدي مدرستهم و عشّاق منهجهم المقدّس؛ ﴿إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلّا بالله﴾ العليّ العظيم.
و السلام علينا و على جميع عباد الله الصالحين و رحمة الله و بركاته.
قم - في الثامن من شهر رمضان المبارك ۱٤٢٤ هجريّة قمريّة
السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
الفصل الأوّل: مصطلح الأربعين في الثقافة الشيعيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
وقع معنى «الأربعين» و مفهومه -في جميع هويّاته المتفاوتة و مصاديقه الخارجيّة- محطّا للبحث و النظر، بين سائر الأقوام و الملل المختلفة و الأديان منذ قديم الزمان؛ و لكلّ قوم و أمّة من حيث ثقافتها أنس خاصّ بهذا المصطلح -تقريبا- و ألفة معيّنة معه. و بعبارة أخرى: تمثّل هذه العبارة رفيقا حميما لآداب أيّة مدرسة و أدبيات أيّ منهج، و حسب قول الخواجة الشيرازيّ:
سحرگه رهروى در سرزمينى | *** | همى گفت اين معمّا با قرينى |
كه اى صوفى شراب آنگه شود صاف | *** | كه در شيشه برآرد اربعينى۱ |
فهذا المصطلح قد ترك بصماته على مساحة واسعة جدّا؛ فقد وجد و تداول ضمن دائرة العقائد الساذجة و مناهج العوام، وصولا إلى أعلى اللطائف و أدقّ الإشارات و أحذقها، و ذلك ضمن عبارات أصحاب المقام الرفيع من ذوي الكشف و أهل المعنى و العرفان.
هناك آثار تكوينيّة و تشريعيّة لعدد الأربعين في الثقافة الإسلاميّة
و في الثقافة الإسلاميّة أيضا، كان لهذه الكلمة مكانة خاصّة في موارد متعدّدة -سواء في المسائل و الأحكام الفقهيّة، أم المباحث الأخلاقيّة و المطالب العرفانيّة أو المباني الاعتقاديّة- بنحو يمكن أن يدّعى وجود نوع ارتباط تكوينيّ و تشريعيّ لهذا المفهوم في الثقافة الإسلاميّة، و هذه العلاقة و الارتباط يمكن أن يقعا مورد بحث في كلّ من الميدانين: التكوينيّ و التشريعيّ؛ و بعبارة أخرى: إنّ حقيقة هذا المفهوم و عينيّته الخارجيّة تحاكي عمليّة الإفاضة
و النزول إلى عالم الكثرة و التربية، قد أبرزها الشارع المقدّس بصورة سلسلة من الأحكام و القوانين التكليفيّة أو السلوكيّة و التربويّة النفسانيّة.
فبالنسبة لخلقة آدم أبي البشر، جاءت هذه الحقيقة كمبيّن للحيثيّات الاستكماليّة و الفعليّة لمقام خلافته الإلهيّة، كما في كتاب إحياء العلوم حيث يروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:
إنّ الله خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحا۱.
و كذلك ما جاء برواية مرصاد العباد:
خمّرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا٢.
و في كتاب عوارف المعارف يقول كذلك:
فمن التراب كوّنه و أربعين صباحا خمّر طينته
ليبعد بالتخمير أربعين صباحا بأربعين حجابا من الحضرة الإلهيّة، كلّ حجاب هو معنى مودع فيه، يصلح به لعمارة الدنيا و يتعوّق به عن الحضرة الإلهيّة و مواطن القرب۱.
إذا، خلق الله تعالى الإنسان من التراب، و شرّف طينته بأن عمل على إعدادها مدّة أربعين يوما، حتّى أوجد فيه -بواسطة ذلك- أربعين حجابا من مراتب أسمائه و صفاته، و بذلك صار حائزا على مراتب الوحدة في عين الكثرة، و صار جامعا بين نقطتي الأحديّة و الواحديّة. و مع عين القرب و الانمحاء و الفناء في الذات البحتة و الصرفة للحضرة الأحديّة، صار متّصفا باجتماع الآثار المتكثرة و مجمعا لصفات حضرة ربّ الأرباب. و بذلك، صار هبوطه مبرّرا، و أصبح لائقا للورود في عالم المادّة و التوطّن فيه، و مع حفظ الربط و الانتساب إلى الحضرة الإلهيّة فإنّ مراتب الكثرة و الفعليّة تتحقّق فيه.
الإنسان يصل إلي مرحلة البلوغ العقلاني في سنّ الأربعين
و تلاحظ هذه النكتة في مسألة تكامل العقلانيّة لدى الإنسان، و ذلك بعد بلوغه سنّ الأربعين من العمر في عالم الدنيا، و القرآن الكريم يشير إلى هذه المسألة فيقول:
﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾۱.
تعتبر هذه الآية الشريفة أنّ بلوغ الإنسان مرتبة الرشد العقليّ و الاستقامة النفسيّة في جادّة التدبير، و رعاية المصالح و المفاسد، إنّما يتحقّق في سنّ الأربعين من العمر.
و بعد ذلك يأخذ الإنسان من تجاربه و ذخائره السابقة، فيستفيد منها لاستكمال روحه و طيّ طريق السعادة و الصلاح، دون أن يضاف إليه سعة و ظرفيّة و عقلانيّة جديدة.
و لهذا يروي في الخصال عن الإمام الصّادق عليه السلام فيقول:
إنّ العبد لفي فسحة من أمره ما بينه و بين أربعين سنة؛ فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عزّ و جلّ إلى ملائكته: إنّي قد عمّرت عبدي عمرا فغلّظا و شدّدا و تحفّظا، و اكتبا عليه قليل عمله و كثيره و صغيره و كبيره٢.
أي إنّ العبد يقع محلّا لعفو مولاه و مغفرته حتّى سنّ
الأربعين؛ و حينما يبلغ هذا السنّ يوحي الله إلى الملكين «رقيب» و «عتيد» الموكّلين بأعماله و أفعاله. و يخاطبهما: إنّي قد عمّرت عبدي عمرا كافيا لكسب المعرفة، و وصوله إلى مرحلة بلوغه العقلي، فمن الآن ليس هناك تهاون بالنسبة لضبط أعماله و أفعاله، شدّدا و غلّظا عليه و اضبطا كلّ شيء يصدر منه كثيره و قليله.
و ورد نظير هذه الرواية أيضا في كتاب الخصال عن الإمام الصّادق عليه السلام:
إذا بلغ العبد ثلاثا و ثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه۱.
و حيث أنّه لم يحصّل على استعداد الصلاح و الهداية إلى سنّ الأربعين، فسوف يصعب عليه بلوغ مرحلة الفوز و السعادة؛ كما قد صرّح بذلك في كتب الشيعة، و كذلك في كتاب إحياء العلوم أنّه:
إذا بلغ الرجل أربعين سنة و لم يتب مسح الشيطان وجهه بيده و قال: بأبي وجه من لا يفلح!٢
لا تقبل صلاة شارب الخمر حتّى أربعين يوما
كذلك هناك رواية عن الإمام الرضا عليه السلام قد أوردها المرحوم الصدوق في كتاب علل الشرائع:
عن الحسين بن خالد قال: قلت للرّضا عليه السلام: إنّا روينا عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنّ من شرب الخمر لم تحسب صلاته أربعين صباحا. فقال: صدقوا، فقلت: و كيف لا تحسب صلاته أربعين صباحا لا أقلّ من ذلك و لا أكثر؟ قال: لأنّ الله تبارك و تعالى قدّر خلق الإنسان فصيّر النطفة أربعين يوما، ثمّ نقلها فصيّرها علقة أربعين يوما، ثمّ نقلها فصيّرها مضغة أربعين يوما، و هكذا إذا شرب الخمر بقيت في مثانته على قدر ما خلق منه، و كذلك يجتمع غذاؤه و أكله و شربه تبقى في مثانته أربعين يوما۱.
و نستفيد من هذا البيان: أنّ عمليّة هضم المأكولات و جذبها في بدن الإنسان، و استفادة الأعضاء و الجوارح منها، ثمّ مرحلة دفعها، كلّ ذلك يستغرق أربعين يوما، و حيث أنّ وظيفة الكلية دفع الموادّ الزائدة عن حدّ الاستفادة و كذلك بعد الاستفادة، فإنّ هذه المواد بواسطة عمل الكلى
تتجمّع في المثانة، لذلك يمكن أن يقال: إنّ الغذاء الذي يستفيد منه الإنسان، يتجمّع لمدّة أربعين يوما في مكان واحد، ثمّ تتمّ عمليّة الجمع و الدفع بشكل تدريجيّ؛ و على هذا الأساس، فإنّ الشخص الذي ما زالت آثار الخمر في بدنه سوف لا يقبل الله صلاته.
من يغتب مسلما لا تقبل صلاته و لا صومه إلى أربعين يوما
و كذلك نقل نظير هذه الرواية في جامع الأخبار عن رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال:
من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته و لا صيامه أربعين يوما و ليلة إلّا أن يغفر له صاحبه۱.
و في مقابل ذلك، فإنّ لهذا العدد تأثيرا معنويا و ملكوتيّا في العديد من الحالات، و سوف تتمّ الإشارة إلى بعضها، فقد جاء في كثير من الروايات أنّه:
قراءة الحمد أربعين مرّة على الماء تشفي من الحمّى
من قرأ الحمد أربعين مرّة في الماء ثمّ يصبّ على المحموم، شفاه الله٢.
شهادة أربعين مؤمن على جنازة المسلم توجب المغفرة له
و كذلك في الخصال بإسناده المتّصل عن عبد الله بن مسكان عن الإمام الصّادق عليه السلام يروي أنّه قال:
إذا مات المؤمن فحضر جنازته أربعون رجلا من المؤمنين فقالوا: اللهمّ إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا و أنت أعلم به منّا! قال الله تبارك و تعالى: إنّي قد أجزت شهادتكم و غفرت له ما علمت ممّا لا تعلمون۱.
و كذلك يروي في كتاب عدّة الداعي عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:
كان في بني إسرائيل عابد فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أنّه مراء، قال: ثمّ إنّه مات، فلم يشهد جنازته داود عليه السلام، قال: فقام أربعون من بني إسرائيل فقالوا: اللهمّ إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا و أنت أعلم به منّا فاغفر له! قال: فلمّا غسّل أتى أربعون غير الأربعين الأول و قالوا: اللهمّ إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا و أنت أعلم به منّا فاغفر له! فلمّا وضع في قبره قام أربعون غيرهم فقالوا:
اللهم إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا و أنت أعلم به منّا فاغفر له! قال: فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: ما منعك أن تصلّي عليه؟ فقال داود: بالذي أخبرتني من أنّه مراء، قال:
فأوحى الله إليه أنّه شهد له قوم فأجزت لهم شهادتهم
و غفرت له ما علمت ممّا لا يعلمون۱.
و كذلك يمكن أن نشاهد خصوصيّة آثار هذا العدد في المسائل الأخلاقيّة و الآداب الشرعيّة و الحقوق الإسلاميّة، كما يروي المرحوم الكلينيّ بإسناده إلى الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:
حدّ الجار إلى أربعين منزل من كلّ جهة
حدّ الجوار أربعون دارا من كلّ جانب: من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله٢.
و في رواية أخرى يروي عقبة بن خالد عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:
قال أمير المؤمنين: حريم المسجد أربعون ذراعا و الجوار أربعون دار من أربعة جوانبها٣.
و أمّا على صعيد الأمور العباديّة و المسائل السلوكيّة
و الروحانيّة، و كيفيّة تأثير العدد في الارتقاء المعنويّ و كسب الفضائل الروحيّة، و العبور عن مقامات النفس، فهناك مطالب لا تسعها طاقة هذا الكتاب المختصر، و لكلّ من الفريقين آراء و أحاديث و إشارات تتعلّق بذلك، و سوف نشير إلى بعضها فيما يأتي.
ينقل في البحار عن تفسير عليّ بن إبراهيم، ... إلى المحلّ الذي يقول فيه:
انقطاع الوحي عن رسول اللّه مدّة أربعين يوما
أتى جماعة من اليهود إلى أبي طالب و قالوا: يا أبا طالب! إنّ ابن أخيك يزعم أنّ خبر السماء يأتيه، و نحن نسأله عن مسائل، فإن أجابنا عنها علمنا أنّه صادق، و إن لم يخبرنا علمنا أنّه كاذب، فقال أبو طالب: سلوه عمّا بدا لكم، فسألوه عن الثلاث مسائل، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم: غدا أخبركم، و لم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما حتّى اغتمّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و شكّ أصحابه الذين كانوا آمنوا به ..۱.
و المراد بقوله «و لم يستثن»: أنّه لم يقل: إن شاء الله، لذلك فإنّ الله تعالى قطع الوحي عن رسول اللّه أربعين يوما،
حتّى أصيب النبيّ بالغمّ و انكسار القلب، و أثّر ذلك على أصحابه فشكّوا فيه و برسالته ...
و هذه الرواية تفيد أنّه حتّى مع كون النفس المباركة لرسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم قد وصلت إلى مرحلة الوحي، و تلقّي المعاني و الحقائق الربوبيّة من قبل الله، إلّا أنّ حقيقة التوحيد و ظهورها بتمام معنى الكلمة -بحيث يكون لها في عين انحفاظ هويّتها في مقام الجامعيّة و الكثرة، انسجام و ائتلاف كامل- لم تتحقّق بعد. فانقطاع الوحي مدّة أربعين يوما، كان في الواقع تنبيها و إيقاظا للنبيّ، كي لا يغفل عن الارتباط بالمقام الربوبيّ، و لا يسهو عن أنّ تلقّي الوحي بشكل مستمرّ إنّما يتنزّل من مبدئه و أصل منشئه، و أنّ إرادة الله سارية و جارية في جميع الظروف و كلّ العوالم الربوبيّة، و كي لا يصبح هذا الأصل -لا قدّر الله- كحالة عاديّة، و يكون هناك توقّع زائد على أصل العبوديّة، أو يشعر بالوساطة و الشراكة مع الله، فمقام كبريائيّة حضرة الحقّ و غيرته و عزّته لا تجيز ذلك لأيّ كان من مخلوقاته، حتّى خاتم الرسل صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و بعد تحقّق هذا التنبيه و هذه التربية لحضرة النبيّ، و ذلك بشكل انقطاع للوحي، أصبحت هذه الحقيقة الرفيعة
و الظريفة -التي لا توصف و لا تتصوّر- مشهودة و محسوسة و ملموسة لحضرة النبيّ بشكل كامل و واضح و جليّ، و ذلك بواسطة التكامل الحاصل في نفسه المباركة طيلة هذه الأربعين يوما؛ و من هنا عاد الوحي يتدفّق ثانية من سرّه المبارك، و برز مجدّدا فيضان مطر الرحمة الإلهيّة على قلبه المنوّر، و تجدّد نزول المعارف الربوبيّة و لطائف أسرار عالم الغيب على روحه و سرّه، و هذا من خواصّ عدد الأربعين.
بقي حضرة النبيّ يونس عليه السّلام في بطن الحوت أربعين يوما
و نظير هذه المسألة ما نشاهده في قصّة النبيّ يونس عليه السلام، ففي سورة الأنبياء الآية ۸۷ و ۸۸ يقول:
﴿وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.
و المعنى: أنّ الله يأمر أن نعتبر من قصّة حضرة النبيّ يونس عليه السلام مع الحوت، و ذلك حينما كان في حالة الغيظ و الغضب من قومه، ثمّ تنحّيه عنهم، و زعمه بأنّ إرادتنا القاهرة و مشيئتنا المتقنة لا تناله و لا تصل إليه -و أنّ خصومتنا و غضبنا لا ينزل إلّا على أهل تلك المدينة و قومه-
لذلك وضعناه في بطن الحوت .. فذكر في تلك الظلمات الإلهيّة: أنّه لا معبود و لا مؤثّر في عالم الوجود غير ذاتك المقدّسة! فأنت منزّه عن كلّ حمدنا و ثنائنا و شكرنا، و أرفع من كلّ أفكارنا و خيالنا و وهمنا و إدراكنا لحقيقة الذات المجلّلة، فنحن ندعوك و نطلب منك بأفكارنا و نيّاتنا الناقصة، و عقلنا الضعيف و حسب سعتنا الوجوديّة المحدودة، و الحال أنّك أنت أشرف و أعلى ممّا تناله أوهامنا، و يدركه خيالنا، لذلك فنحن من الخاسرين، و نحن ظالمون لأنفسنا بنفس هذه التوهّمات.
فرحمناه و استجبنا له، و أخرجناه من غمّ عالم الاعتبار و كدورته و آلامه، و أدخلناه في عالم الحقائق و واقعيّة التوحيد، و أريناه سرّ هذه الحقيقة، و كذلك نفعل و نجازي كلّ المؤمنين و الصالحين ...
في هذه الحادثة، يكشف الله تعالى النقاب عن شيء من الأسرار التوحيديّة، و كيفيّة نفوذ مشيئته الذاتيّة، و تنزّلها في عالم الكثرات، و يبدي غيرته بالنسبة إلى إرادته المطلقة، و المستوية بين جميع مخلوقاته، من حيثيّة الارتباط و الانتساب بالذات الربوبيّة؛ و يفصح عن عدم انحصار
الإرادة الذاتيّة و مشيئته، بقالب خاصّ أو أسلوب مخصوص أو عادة محدّدة، و إنّما ذات الحقّ الأقدس فعّال لما يشاء و حاكم بما يريد، و ليس لأحد بل و لا لموجود متشخّص أن يحدّده في قالب خاصّ، أو أن يتوقّع منه أسلوبا و طريقة خاصّة. و لم يكن حضرة النبيّ يونس عليه السلام قد بلغ هذه النكتة، بل كان يتوهّم طبقا لحدسه و ظنّه الخاصّ، أنّ المسألة -فيما يرتبط بقومه و أهالي بلدته- قد انتهت و تمّت ..
و أنّه قد طبع عليهم ختم الزوال و الهلاك، و كان يخال أنّ حالهم بلغ حدّا جعلهم يتمرّدون على أوامر رسول اللّه تعالى المبعوث إليهم و ينالون من دستوراته، و أصبح هو موردا للطعن و عدم الاحترام و الاستخفاف، و بالتالي فهم مستحقّون للعقاب و العذاب، و ليس أمام الله إلا أن يلبّي طلبه، و يستجيب دعاءه بإنزال العذاب عليهم! و أنّه من الواجب الحتميّ أن يحلّ بالقوم أشدّ العذاب الذي يستحقّوه، و ليس هناك سبيل آخر لله، و لا خيار لهؤلاء القوم و هؤلاء العباد.
لأجل ذلك، وضعه الله في بطن الحوت، و طبقا لبعض الروايات، قد مكث النبيّ يونس عليه السلام أربعين يوما في بطن الحوت، و كان مشغولا بهذا الذكر المبارك: ﴿لا إِلهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾۱، و ببركة هذه الأربعينيّة، أزاح الله تعالى الستار عن ناظري النبيّ يونس، و أطلعه على واحد من أسرار توحيده و تقديراته و إرادته.
علّة تنبيه الله النبيّ لأجل ترقّيه و هو لا ينافي العصمة
و من الممكن أن يطرأ السؤال لدى بعضهم من أنّه كيف يمكن لنبيّ مع كونه معصوما لا يحتمل منه صدور المعصية و الخطأ أن ينبّهه الله و يذكّره بمثل ذلك؟
و لأجل توضيح هذه المسألة، يجب الالتفات إلى أنّ ما ذكر عن عصمة الأنبياء عليهم السلام، و عدم وقوعهم في المعصية و اجتنابهم عن الخطأ، مرتبط بمقام الظاهر و عالم الكثرات و علاقتهم مع الناس، و هو يعني: أنّه ينبغي أن لا يصدر من الرسول أيّ خلاف من ناحية عمله و فعله و معاشرته مع الناس، و ينبغي أن لا يرتكب أيّ معصية أو خطيئة، و كذلك ينبغي أن لا يخالف قوله الواقع المتحقّق خارجا؛ و بعبارة أخرى: لا بدّ و أن يكون النبيّ محفوظا من الخطأ في ثلاث مراحل: تلقّي الوحي، و حفظه، و إبلاغه، فيكون مصونا عن الخطأ و الزلل في كلّ ذلك.
و أمّا في ما هو أعلى من عالم الظاهر و المثال -أي عوالم الملكوت و السرّ و النفس و الروح- فليس من اللازم أن يكون خاليا من أيّ نوع من القلق و التردّد أو إدراك الخلاف، فهذا غير ثابت، بل الثابت من خلال الشواهد و الآثار العقلية و النقلية و الشهودية هو خلاف ذلك، إذ من الممكن أن يكون لنبيّ من الأنبياء مراتب عديدة، و مراحل متفاوتة تنتظره -بينه و بين حضرة ربّ العزّة- كي يصل إلى سرّ ديار المعبود؛ فبلوغ شخص مرتبة النبوّة و الرسالة ليس دليلا على كماله و تماميّة جوانبه الوجوديّة، و هذه المسألة ملموسة و محسوسة بوضوح، من خلال الآيات الشريفة و الروايات الشيعيّة، و هذا المختصر لا يتحمّل التحقيق و البحث في ذلك.
الروايات تصرّح بتأثير عدد «الأربعين» على بزوغ الاستعدادات
هناك رواية ينقلها المرحوم الكلينيّ عن الإمام الباقر عليه السلام، بالنسبة لعدد الأربعين و مدخليّته في كيفيّة ارتقاء النفس و رشدها، و حصول فعليّة استعدادها، حيث يقول الإمام الباقر عليه السلام:
ما أخلص العبد الإيمان بالله عزّ و جلّ أربعين يوما (أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله عزّ و جلّ أربعين يوما) إلّا زهّده
الله عزّ و جلّ في الدنيا، و بصّره داءها و دواءها، فأثبت الحكمة في قلبه، و أنطق بها لسانه۱.
و كذلك في إحياء العلوم ينقل عن كتب العامّة فيقول:
قال رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم: ما من عبد يخلص لله العمل أربعين يوما، إلّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه٢.
و قد ورد مثل هذه الرواية في كتب العامّة مع تغيير مختصر في كيفيّة تعبيرها. و على هذا الأساس فإنّ علماء الأخلاق و مربّي النفوس يرون أنّ «الأذكار الأربعينيّة» أحد الشروط المهمّة و الأساسيّة للتكامل و السير إلى الله أثناء طيّ مدارج السلوك، و لا مناص للسالك عن ذلك و لا مفرّ له.
كلام المرحوم السيّد بحر العلوم فيما يتعلّق بعدد «الأربعين»
يقول المرحوم السيّد مهدي بحر العلوم رضوان الله عليه في رسالة السير و السلوك المنسوبة إليه:
و قد شاهدنا عيانا و علمنا بشكل بيّن أنّ هذه المرحلة الشريفة من مراحل العدد لها خاصية و تأثير
متفردين، في ظهور القابليات و تتميم الملكات و في طيّ المنازل و قطع المراحل. و مع كثرة منازل الطريق، إلا أن في كل منزل منها مقصدا؛ و مع زيادة المراحل، فإنّك إذا دخلت في هذه المرحلة فقد أتممت عالما۱.
كما أنّ زمن طيّ عالم الدنيا و ظهور القابلية و نهاية التكميل في هذا العالم إنّما يتمّ في أربعين سنة، حيث ورد أنّ عقل الإنسان يكمل في سنّ الأربعين حسب قابلية ذلك الإنسان. و الإنسان في نموّ منذ بدء دخوله في هذا العالم حتى يبلغ سنّ الثلاثين، ثم إن بدنه يقف في هذا العالم عشر سنين، فإن هو أتمّ الأربعين انتهى سفره في عالم الطبيعة، و بدأ سفره في عالم الآخرة، و في كلّ يوم و في كلّ سنة يطوي مسافة من ذاك السفر، و يحزم مقدارا من حمولته و يرحل عن هذا العالم. و تضمحلّ قوّته سنة بعد سنة، و يتناقص نور سمعه و بصره، و القوى المادّية في انحطاط، و البدن يسير نحو الذبول؛ حيث
إنّ مدّة سفره و إقامته في هذا العالم قد انتهت في أربعين سنة۱ ...
و كذلك ورد في حديث أنّ حدّ الجوار أربعون بيتا من الجهات الأربع، و حين يتمّ هذا العدد كأنها انفصلت عن العالم. و تأويل ذلك في المناسبة و الجوار من جهات القوى الأربعة: العقليّة، و الوهميّة، و الشهويّة، و الغضبيّة. و ما لم تبتعد هذه المراحل عن بعضها بأربعين مرحلة، فإنها لن تكون قد تخطّت عالمها خارجا، و ستكون مجاورة لبعضها البعض٢.
تذييل المرحوم العلامة الطهراني علي كلام السيد بحر العلوم
و المرحوم والدنا، سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه، له تذييل على هذه الفقرات في رسالة السير و السلوك المنسوبة إلى بحر العلوم حيث يقول:
إنّ مراد المصنّف أنّ الإنسان أسير لقوى أربع تحيط به من جوانبه الأربعة: القوّة العقليّة و الوهميّة و الغضبيّة و الشهويّة، و ما لم يبتعد عن كلّ منها أربعين
منزلا، فإنّه لن يصل إلى مقام الفناء في الله. ذلك أنّ مجرّد الخروج من مرحلة الشهوة مثلا، لا يخرج الإنسان من تلك المرحلة بتمام معنى الكلمة، لأنّ حقيقة مرحلة الشهوة تلك لا زالت كامنة في وجود الإنسان، و ما لم يبتعد أربعين مرحلة عن المرحلة الأولى فإنّ آثارها لن تزول بشكل كلّي، فالخروج من إحدى تلك المراحل بشكل كلّي إنّما يتحقّق بالخروج عن تمام المراحل الأربعين اللاحقة، و بغير ذلك فإنّ الإنسان لن يكون قد خرج من تلك المرحلة بتمام المعنى، و قد يتعرّض بمجرّد طروء طارئ عليه للعودة إلى المرحلة الأولى. و الأمر كذلك بالنسبة إلى عوالم العقل و الغضب و الوهم؛ فالمرء سيكون قد خرج حقّا من مرحلة الغضب الأولى حين يخرج من مرحلة الأربعين و سيكون قد خرج حقا من مرحلة العقل الخامسة حين يخرج من مرحلة الأربعين أيضا، و هكذا عليه في كلّ مرحلة مفترضة أن يتخطاها بأربعين مرحلة ليتخلّص منها تماما۱ ...
انتهى كلام المرحوم الوالد قدّس سرّه.
ثمّ بعد ذلك يتابع المرحوم السيّد كلامه فيقول:
و على أية حال فإنّ خاصّية الأربعين في ظهور الفعليّة و بروز القابلية و القوّة و حصول الملكة أمر مصرّح به في الآيات و الأخبار، و مجرّب لدى أهل الباطن و الأسرار، و هو ما أخبر عنه في الحديث الشريف بأنّ حصول آثار الخلوص أي بنوع عين المعرفة و الحكمة في هذه المرحلة. و لا ريب أنّ أيّ مخطوط طوى هذه المنازل الأربعين بأقدام الهمّة، و بلغ بقابليّات الأرض إلى فعليتها، فإنّ نبع المعرفة ستبدأ بالتدفق و الفوران من أرض قلبه.
و تقع المنازل الأربعين في عالم الخلوص و الإخلاص، أما منتهاها فعالم فوق عالم المخلصين، و هو عالم: «أبيت عند ربّي يطعمني و يسقيني»، حيث إنّ الطعام و الشراب الربّانيّين عبارة عن المعارف و العلوم الحقيقيّة غير المتناهية۱.
انتهى كلام المرحوم السيّد بحر العلوم رضوان الله عليه.
لأجل ذلك، سوف لا يخفى على أحد أنّ لهذا العدد تأثير عجيب، و فعّالية لا تقبل الإنكار، في مسائل مختلفة و موضوعات متفاوتة -سواء في عالم الخلق و التكوين أم في موطن التربية و التشريع- و إن أردنا أن نتوسّع أكثر من هذا المقدار الذي بيّنا، و ننقل و نشرح كلمات العلماء فيما يتعلّق بهذا الباب، و نسلّط الضوء على نتائجها، نكون قد ابتعدنا عن هدفنا و غرضنا.
الفصل الثاني: فلسفة ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظ حريم مقام الولاية و الإمامة و حراسة حدّها و حدودها هو أحد اصول التشيع
إنّ إحدى الشعائر البارزة و الواضحة لدى الشيعة، بل و بعبارة أصحّ ينبغي أن يقال: إنّ أصل جميع الأصول و المباني الشيعيّة و ركيزتها هو محبّة أولياء الدين الحنيف و تولّيهم، أي الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، كما جاء في الرواية المعروفة:
بني الإسلام على خمس: على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و الولاية؛ و لم يناد بشيء كما نودي بالولاية۱.
أي: بني الإسلام على خمسة أركان ثابتة محكمة:
الصلاة، الصوم، الزكاة، الحجّ، و ولاية أهل بيت رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم، و الحال أنّ الله المتعال لم يوص
بشيء كما أوصى بالولاية و أكّد عليها. و في مضمون هذه الرواية ما يفوق التواتر.
إنّ حقيقة مدرسة التشيّع منحصرة في ولاية الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة و السلام دون سؤال و جواب، و الانقياد و الإطاعة المطلقة لهم، و تجلّي هذه المدرسة و تبلور مبانيها إنّما يتحقّق بواسطة إحياء ذكرهم، و إبراز ألوان المودّة و مراتب المحبّة لأهل بيت الرسالة.
ففي مدرسة التشيّع يجب أن يكون حريم مقام الولاية و حدود منصب الإمامة مورد توجّه و اهتمام بشكل كامل، و ليس لأحد آخر -من أيّة طبقة كان و مهما كانت رتبته- أن يدخل في هذا الحريم و يرد فيه. فالتعاريف و التعابير التي تستعمل في بيان و شرح أحوال العلماء و زعماء الدين يجب أن تتغاير و تتمايز عن الكلمات و التعاريف التي نستعملها في مورد أئمّة الهدى عليهم السلام، تمايزا و تغايرا ماهويّا و بشكل كلّي، و التساهل و التسامح في هذه المسألة -لا قدّر الله- سوف يوجب سخط وليّ نعمتنا و غضبه، و يحلل علينا نقمة الله المتعال.
إنّ تبيين مسألة إمامة المعصوم عليه السلام، و تميّزه عن
سائر الأفراد يجب أن يكون العنوان الرئيسيّ لشعائر التشيّع و أسسه، و يجب أن يبرهن على هذه المسألة بشكل واضح للجميع -سواء المسلمين أم غيرهم- بحيث يكون مقام الإمام المعصوم عليه السلام و مكانته أرقى من التفكّرات، و أعمق من سائر التصوّرات و التوهّمات البشريّة، و ليس لأحد أن يقاس به، فالوصول إلى مرتبة الإمام عليه السلام و درجته خارج عن طاقة البشر و قدرتهم، اللهمّ إلّا العدّة القليلة الذين أزاحوا الحجب الأنفسيّة الظلمانيّة و النورانيّة، و اجتازوها بقدم راسخة و همّة عالية، و عزم متين و مجاهدات مضنية، فسلكوا الطريق إلى الله، و وصلوا إلى مرتبة الولاية و التجرّد و الفناء، و الاندكاك في نفس الإمام عليه السلام، و هؤلاء هم الذين يطلق عليهم اسم العرفاء بالله و أصحاب الولاية و المهيمنين عليها، و الحائزين على رتبة التجرّد المطلق و الفناء في الله، و أمّا باقي الأفراد فإنّهم ماكثون في المراتب الأدون، و ذلك حسب سعتهم الوجوديّة و الإدراكيّة.
ففي مدرسة التشيّع كلّ شيء هو الإمام المعصوم، و فقط لا غير! و الحديث الشريف النبويّ: إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله و عترتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، ناظر إلى هذه الإشارة اللطيفة.
فكتاب الله الناطق -و الذي يمثل تلك النفس المقدّسة و الملكوتيّة للإمام المعصوم- مشير إلى بعدي القرآن الكريم، التعليميّ و التربويّ، و بدونهما سوف لا ينتج التمسّك بالقرآن إلا الضياع و الضلالة. و المشكلة التي يواجهها إخواننا من أهل السنّة هي الغفلة عن هذا الركن الحياتيّ، و إرخاء زمام أمور دينهم و دنياهم و إهماله، و إيداع مركبهم المتعثّر وسط العواصف و تحت نير أمواج الفتن العاتية، وسط دوّامة الدهر المرعبة. فتسليم زمام الدين و إيكاله إلى أمثال أبي حنيفة و غيره، و بالتالي إقصاء أئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، الذين جعلهم الله الهداة و الأدلّاء للخلق دون غيرهم، سوف لن يثمر إلا العمة و الحيرة في أمور الدين و الدنيا، و هذه القاعدة منطبقة على الشيعة أيضا، فإذا انحرفنا عن هذا المسار ذرّة واحدة، و تكلّفنا وضع دستور من تلقاء أنفسنا، و تبرّعنا بجعله تاركين مسير أهل بيت العصمة و الطهارة و معرضين عنهم، و نقضنا دستوراتهم و أوامرهم، و هجرنا تعاليمهم النورانيّة، و استبدلناها بالرغبات الشخصيّة و السليقة الذاتيّة، و رعاية المصالح الدنيويّة، حينئذ نتورّط و نسقط في الهلكة و الخسران الذي ابتليت به سائر الفرق الإسلاميّة.
ثورة سيّد الشهداء عليه السلام أكثر الأمور حيويّة لتمييز الحقّ عن الباطل
فقضية ثورة سيّد الشهداء عليه السلام، و شهادة هذا الرجل العظيم، قد أقيمت في الثقافة الشيعيّة بعنوانها الشعار الأبرز و الأكثر حيويّة لفرز الحقّ عن الباطل و تمييزهما، و ذلك في جميع المراتب و المراحل التكامليّة للإنسان، و لا مناص لأيّ شخص من الانقياد لهذا الإمام و اتّباع حركته في جميع مستوياتها و أنحائها، سواء قبل عاشوراء أم بعدها، لأنّ هذه الواقعة مع خصوصيّاتها و ظروفها المحيطة بها، لهي حدث استثنائيّ على امتداد تاريخ البشريّة، حيث صدرت و تحقّقت بواسطة أحد الأئمّة المعصومين عليه السلام، لا على يد أحد الأفراد العاديّين أو العلماء العاديّين.
فوجهة نظر الثقافة الشيعيّة بالنسبة إلى عاشوراء، تختلف عن جميع الرؤى الأخرى اختلافا ماهويّا و أساسيّا، و على حدّ قول مولانا:
هر كسى از ظنّ خود شد يار من | *** | وز درون من نجست اسرار من۱ |
فمن منطلق الثقافة الشيعيّة، ليست مظلوميّة سيّد الشهداء عليه السلام كامنة في أنّ جماعة ممّن لا يمتّون إلى الله بصلة، أغاروا على عدّة من ذراري النبيّ و أولاده، و قضوا عليهم بحدّ السيف؛ كبارهم و صغارهم، و حتّى الطفل الرضيع لم يتركوه، ثمّ بعد استشهادهم أخذوا أهل بيت رسول اللّه و هم في حالة مفجعة، و طافوا بهم البلاد و الشوارع أمام الملأ العام، و هم أسارى مكبّلون بالأغلال و السلاسل، و فعلوا ما أخجل صفحات التاريخ من ذكره!
بل إنّ مظلوميّة سيّد الشهداء في أنّه لم يطّلع أحد على حقيقة هذه الحادثة و روحها و قلبها، فالجاهل العامّي أو العالم الخبير -جميعهم و دون استثناء- إنّما درسوا هذه الحادثة من خلال نفس معكّرة و روح غير صافية، و بيّنوها بواسطة أفكارهم الطفوليّة؛ فالعاميّ ينظر إلى هذه الحادثة على أنّها تقرح القلب و تفتّته، فيلطم على رأسه و صدره، و يقيم مأتم الأسى و يذرف الدمع لأجل هذه المصيبة.
و بشكل عامّ، تراه يثير النكات العاطفيّة و الإحساسيّة لهذه الحادثة، و يستجلب عينه و أذنه و حواسّه نحوها، إلى الحدّ الذي لا يعود هناك مجال آخر للتأمّل و التفكّر في الجهة
الحيويّة و الأساسيّة لهذه الواقعة، و على هذا الأساس لا يبقى أيّ مجال لتبلور هويّة واقعة كربلاء، و بروز أهدافها التي كانت من أجلها.
إنّ تحليل تاريخ عاشوراء و دراسته بعنوان أنّه حقبة تاريخية تحاكي واقعة عاطفيّة محزنة، و مؤلمة ألما ظاهريّا، بحيث يكون في هذا الجانب ابن رسول اللّه مع أهله و عياله الغرباء، و قليل من أصحابه و أنصاره المخلصين، و من الجانب الآخر هناك يزيد الخبيث و جيشه المتكاثرون .. عبيد الدنيا، الغادرون الآثمون، و لم يكتفوا بمحو دين رسول اللّه و إطفاء مدرسة الولاية فحسب، و إنّما جاءوا لقتل شخص الإمام و أهل بيته و سلبهم ظلما و عدوانا، دون أيّة مسامحة و لا صفح اتجاه ذاك المعتدى عليه البريء و المنزّه عن اقتراف أيّ ذنب في كلّ وجوده.
فمهما كانت واقعة عاشوراء فظيعة، و مهما بلغت جنايتها و وقاحتها؛ فقد مضت و انصرمت على كلّ حال، و أيّة فائدة و أيّ نفع في إقامة المآتم و البكاء على أمر قد مضى على زمن وقوعه مئات السنين، و أيّ حاجة تبتغى جرّاء هذه المآتم؟ و هل كانت جميع هذه التأكيدات المتواترة
و الأوامر الكثيرة، الصادرة من الأئمّة المعصومين عليهم السلام في إقامة مجالس العزاء و ذكر مصيبة سيّد الشهداء و أميرهم، و البكاء عليه و على أهل بيته المظلومين، هل كان كلّ ذلك لمجرّد البكاء على أمر مضى؟! أو أنّ المقصود هو شيء آخر؟
مجالس عزاء سيّد الشهداء قد انحرفت عن مسارها الأصيل
و لذا و مع كامل الأسف، نشاهد كيف جرت عليه العادة في هذه الأيّام من الرثاء و العزاء، و ذكر مصيبة أبي عبد الله الحسين أرواحنا له الفداء، حيث أنّها خرجت عن صورتها المنطقيّة و العباديّة، و انحرفت صوب الأغراض الاعتباريّة و الوهميّة الدنيويّة. فهدف القرّاء و النادبين و غايتهم متمركزة حول إيجاد المؤثّرات و الإثارة، و إحداث البريق و جلب التوجّه الظاهريّين لهذه المصائب، و تهييج عواطف الناس و خاصّة طبقة الشباب، بأيّة وسيلة و بأيّ تعبير و بأيّ نحو من أنحاء لفت النظر و استجلاب الطرف الآخر، و كلّما كان القارئ موفّقا في ذلك بشكل أكبر كان مرغوبا به أكثر! و لو تجرّأنا قليلا على أنفسنا، و قارنّا بين هذه المجالس و سائر المجالس العاديّة، فينبغي أن نقول: إنّها أشبه بالأعمال المسرحيّة و الفنونيّة! و لا تليق بمجالس معقودة لبيان منزلة
إمام معصوم عليه السلام، و لا تتناسب مع شأنه، فالهدف من هذه الأمور مجرّد البكاء بشكل أكثر و اللّطم على الرأس و الصراخ و العويل بشكل أزيد .. لا غير!
أبعاد ثورة سيّد الشهداء عليه السلام لا تنحصر بخصوص مقارعة الظلم
و كأنّ صاحب العزاء و المصيبة محتاج إلى بكائنا و عويلنا بهذا الشكل و بهذه الكيفيّة! و كأنّنا بذلك نخرجه من غربته، و نضفي على قامته لباس العزّ و الاقتدار! و نمحو مظلوميّته و نجلوها، و نعلن له أن: يا حسين! إن كنت وحيدا في كربلاء دون ناصر و لا معين يدافع عنك و عن حرمك أمام ذئاب الفلوات، فتعال و انظر إلى هذا الجمع من العشّاق و الوالهين كيف يصرخون في عزائك و يلطمون على رءوسهم و يذرفون الدموع و قلوبهم تحترق عزاء لك!
فسيّد الشهداء عليه السلام بناء على هذه الرؤية، هو شخص مظلوم و مغلوب عليه، لأنّ جيش يزيد واجهه بقسوة و شدّة، و لو قابله جيش يزيد بنحو آخر مثلا: (كأن لم يمنعوه من شرب الماء العذب، و لم يرموا طفله الرضيع بالسهم ظلما و لم يقتلوه، أو أنّه بعد شهادته لم يغيروا على حريمه و خيامه و لم يحرقوها بالنار، أو أنّهم لم يكبّلوا أهل بيته بالأغلال و السلاسل، و لم يسوقوهم في الصحاري بتلك
الصورة الفجيعة و ...) فلم يكن هناك أيّ مسوّغ أو سبب لهكذا نحو من العزاء و الرزيّة؛ تماما كما أنّه لا يقام هكذا عزاء لأجل بقية أئمّة الهدى عليهم السلام كالإمام الحسن المجتبى و حضرة السجّاد و غيرهما، حيث ينتهي المجلس في مناسباتهم بشكل عاديّ و لا يتعدّى التعزية العاديّة. لأجل ذلك يتّضح جليّا أن كلّ هذه الحماسة و العواطف، و إبراز الغمّ و الحداد على سيّد الشهداء عليه السلام إنّما هو لأجل ملاحظة كيفيّة استثنائيّة ترجع إلى طبيعة شهادته، دون ملاحظة أصل مراتب الإمامة، و الظلم الواقع على الإمام عليه السلام من حيثيّة نفس إمامته و ولايته، كسائر أئمّتنا عليهم السلام.
نعم بالطّبع، لا يمكننا تحميل هذه الحقيقة على العوامّ و مواجهتهم بها، لأنّهم غير محصّنين بالمعارف و الأصول الاعتقاديّة للإسلام بشكل عميق، و من الطبيعي أنّهم يواجهون هذه المسائل و هذه الحوادث التاريخيّة من خلال أحاسيسهم و عواطفهم المنسجمة مع رؤيتهم.
و في مقابل النظرة العامّية، هناك الرؤية التنويريّة -حسب الاصطلاح الشائع و الخاطئ- بالنسبة لأبي عبد الله
عليه السلام، و هي وجهة النظر التي تحصر جميع استعداد الإمام عليه السلام و قابليّته و شخصيّته، و حالاته و مراتبه الكماليّة، و فعليّاته في خصوص المبارزة مع الظلم و مقارعة الجور لدى البلاط الملكيّ و الإمبراطوريّ لبني أميّة، و بالخصوص يزيد الآثم؛ و على هذه الرؤية تتوجّه الأنظار إلى خصوص شخصيّة الإمام عليه السلام و حاله فحسب. و لو أردنا أن نقيّم هذه النظرة من جهة ملاحظة سائر جوانب الإمام عليه السلام و كمالاته، فيجب أن نعطي لجميع أبعاده الوجوديّة عشرة بالمائة فقط، و نترك لحيثية مبارزة الإمام و مواجهته للحكومة الأمويّة الجائرة التسعين بالمائة، و علينا أن نتعامل مع شخصيّة هذا الإمام على أنّه شخص مناضل و مكافح، و معارض للظلم و الفساد، تماما كسائر الأفراد الذين جاءوا و جاهدوا طوال التاريخ، مثل: كاوه آهنگر و يعقوب ليث و جاندارك و إقبال و غاندي و غيرهم .. ممّن غلب عليهم صفة الكفاح ضدّ الفساد، و النضال لقلع ظلم الحكّام و اقتلاع جبابرة زمانهم.
و من وجهة نظر هؤلاء، سوف يكون الإمام عليه السلام -سواء سيّد الشهداء أم أيّ إمام آخر- مجرّد مجاهد ضدّ النظم الجائرة لا أكثر، و عليهم أن يستقرءوا و يتتبّعوا مواقفه الجهاديّة
و النضاليّة، لمعرفة مواقف الإمام المشرقة، و إذا ما قصّرت صفحات التاريخ في سردها لهذا الجانب أثناء تأريخ حياة الإمام، أو أنّه لم يصر إلى إبرازها بشكل جليّ و واضح، فسيتمحّلون لصقلها و صياغتها، و يتعبون أنفسهم ليثبتوا للعوامّ أنّ شخصيّة الإمام شخصيّة ثوروية، و ذلك كي لا يتأتّى الإشكال و لا يتوجّه الإيراد -لا قدّر الله- على أصل إمامته و ولايته و زعامته فيما لو خلت من حيثيّة المبارزة!
بناء على هذه النظرة، سوف يكون هناك فارق شاسع بين الأئمّة عليهم السلام من هذه الجهة شدّة و ضعفا، و ستختلف شخصيّة سيّد الشهداء عليه السلام مع أخيه الأكبر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام اختلافا ملحوظا، و نعوذ بالله، بناء على هذا سوف يتوجّه النقص إلى سبط رسول اللّه الأكبر، بل من الممكن أن تقع إمامته تحت السؤال و الاستفهام!!
الاعتراض على الإمام المجتبى عليه السلام بسبب عدم قيامه ناشئ من الجهل
و هذه النظرة كانت موجودة حتّى في زمان نفس الإمام المجتبى عليه السلام، و قد تعرّض إلى سهام الاعتراض و التعابير القبيحة و المدهشة بعد صلحه مع معاوية، و ذلك من أقرب أصحابه.
لاحظوا مظلوميّة هذا الإمام! كيف أنّه كان مضطرّا للدفاع عن هدفه و منهجه إلى الاستعانة بالحديث النبويّ القائل: الحسن و الحسين إمامان، قاما أو قعدا! ليردّ عن نفسه، و يخلّصها من رميهم بسهام التهمة، و ليبعد نفسه عن دائرة السبّ و التشنيع، و هو ما قد صدر من أصحابه و أتباعه القريبين۱.
و لو تجاوزنا عن كلّ ذلك، فحيث أنّ هذه المسألة جارية و منطبقه على آخر قائد و إمام لنا، بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه، و مندرجة عليه طوال ما يزيد على الألف سنة من عدم المواجهة و المبارزة، فيجب أن يدّعى بأنّ الإشكال و الاعتراض متوجّه عليه أكثر من باقي الأئمّة؛ و ينبغي أن يقال: إنّه لم يقم -نعوذ بالله- بمهام الإمامة و القيادة طوال هذه القرون المتمادية و العصور المترامية!
هذه الرؤية نظير الرؤية الأولى ناشئة من الجهل و عدم
معرفة حقيقة الإمامة، فهم ينظرون إلى أمر هامّ بهذه الخطورة بالعين الحولاء و العليلة، و كأنّ الإمام شخص عاديّ، فهم يقيسون الإمام على أنفسهم، و ينزّلون مشاعر الإمام و مدركاته على حدّ مدركاتهم الشخصيّة و مشاعرهم ... نعوذ بالله من الجهل و الضلالة و البعد و الغواية.
قيمة تاريخ عاشوراء تنشأ من وجود الإمام المعصوم فيها
هؤلاء الجماعة، لا يعلمون أنّ سيّد الشهداء عليه السلام كان إماما .. إماما معصوما قبل إيجاد حادثة كربلاء، و أنّ قيمة تاريخ عاشوراء إنّما تتحقّق بحضور إمام معصوم فيها، دون أيّ شخص عاديّ، مهما كان بالغا من مراتب العلم و التقوى و التقرّب، و بعبارة أخرى: هذا الإمام المعصوم هو الذي يعطي لحادثة عاشوراء عزّتها و شرفها و اعتبارها و هويّتها الخاصّة بها، لا أنّ عاشوراء هي التي قد شرّفت الإمام عليه السلام، و أضافت عليه العزّة و الكرامة. و لو كان في هذه الواقعة العظيمة شخص آخر، مهما كانت هويّته و مهما رفعت شخصيّته، بحيث يكون زمام أمور هذه الواقعة بيده، و تكون إدارتها على عهدته، فسوف لن تكون عاشوراء عاشوراء، بل هي حادثة كسائر الحوادث، و واقعة كسائر أخواتها ممّا لا يحصى في التاريخ، و التي حصل فيها ظلم
من جماعة ظالمة جانية، فتغلّبوا على فئة أخرى مظلومة و مهزومة و منكوبة.
من هنا، حيث نستكشف أنّه ينبغي عدم قياس حادثة عاشوراء على غيرها من الوقائع، و لا نستعمل -لا قدّر الله- التعابير التي توحي بوجود نوع من الاتحاد أو المشابهة بين واقعة عاشوراء و غيرها، و لا نتخطّى الحدود التي وضعها لنا الأئمّة المعصومون عليهم السلام.
فمع هذا التصوّر غير المناسب و المخطئ بالنسبة للساحة المقدّسة لحضرة مولى الكونين أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فإنّ حقيقة الإمامة و شئونها قد انمحقت و نسيت بشكل كامل و بتمام معنى الكلمة، و لم يعد هناك أيّ معنى لكيفيّة رابطيّة الإمام مع المبدأ الأعلى، و وساطته بين ذات الحقّ المتعالي و سائر مخلوقاته، (من المبدعات و المجرّدات حتّى عالم الطبع و المادّة)، و تدبيره التكوينيّ في نفوس جميع الأشياء، و لكون قوام حياة الأشياء الملكيّة و الملكوتيّة متقوّم بنفس هذا الإمام القدسيّة، و أنّه به يتمّ إيصال كلّ مراتب التعيّنات إلى أصلها و حقيقتها تكوينا و تشريعا و واقعا، فمع هذا التصوّر الخاطئ سوف يطرح كلّ ذلك في دائرة النسيان.
جهاد الإمام المعصوم أو صلحه تابعان لإرادة الحقّ
فالإمام عليه السلام قلب عالم الإمكان، و سرّ حقيقة تنزّل الفيض الإلهيّ في عوالم ما دون ذات الحقّ، فالمشيئة و التقدير الإلهيّين ساريان و جاريان في جميع العوالم، بواسطة نفس الإمام عليه السلام، فهو يقوم و يثور حيث تتعلّق إرادة الحقّ بالقيام و الثورة، حتّى و إن لم يكن معه ناصر و معين، و حيثما تتعلّق إرادة الحقّ بالسكوت و السكون فإنّه لا يبدي أيّ نظر آخر أو رأي معاكس، حتّى و إن كانت جميع الخلائق سائرة خلفه و منقادة و مطيعة له؛ فهو قد تجاوز عن نفسه و ذاته، و اتّحد مع الحقّ، و لم يبق لديه أيّ رأي من نفسه، و لا أيّ فكر خاصّ، و ليس هناك أيّ خطور يساوره في مخيّلته غير إرادة الحقّ و مشيئته، ففعله فعل الحقّ، و لا مجال للاعتراض أو الاستشكال على فعل الحقّ.
إنّ سكوت الإمام المجتبى عليه السلام هو محلّ لرضى الحقّ و إرادته بنفس درجة ثورة سيّد الشهداء عليه السلام، دون أيّ اختلاف أو تفاوت و لو بمقدار رأس إبرة، و لو كان الأمر غير ذلك فسوف يكون فعل الله قبيحا و شنيعا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. و ما لم يصل الإنسان إلى هذه الحقيقة، سوف يبقى في حال الشكّ و الترديد و الاضطراب
و الاعتراض، و يظلّ يبرز الإشكالات الواهية و التافهة اتّجاه الإمام المعصوم عليه السلام. و سيصدر منه في كلّ مناسبة أو ظرف حكم خاصّ (و ذلك حسب الحوادث و الظروف المختلفة سواء كان ذلك مناسبا أم غير مناسب)، كلّ ذلك حسب مقتضى فهمه الناقص، و طبقا لتوهّماته و تخيّلاته بالنسبة لفعل الإمام عليه السلام، و سيظلّ متورّطا بالشعور بالتناقض و التضادّ كلّما واجه موقفا مشابها لتلك المواقف المختلفة و الحيثيّات المختلفة.
و من هنا نصل إلى هذا الحديث الشريف النبويّ القائل:
الحسن و الحسين إمامان، قاما أو قعدا.
فالثقافة الشيعيّة الأصيلة تقتضي أن يعرف الإنسان إمامه أوّلا، ثمّ بعد ذلك يتأمّل في أفعاله و سلوكه، و لذلك نرى أنّ الكثير من كبار المعاصرين لزمن الإمام عليه السلام، كأخيه المكرّم محمّد بن الحنفيّة أو عبد الله بن جعفر الطيّار و أمّ سلمة زوجة رسول اللّه، و التي كان راضيا عنها صلّى الله عليه و آله و سلّم و غيرهم، كانوا يحذّرون الإمام من الخروج و القيام! إلّا أنّ الإمام لم يكن ليلتفت إليهم و لم يعتن بنصائحهم و توصياتهم، و كذلك الحال بالنسبة لولد الإمام
السجّاد عليه السلام حضرة زيد بن عليّ بن الحسين، حيث صدر منه ما يشابه ذلك، حيث كان الإمام الباقر عليه السلام قد نهاه عن الثورة ضدّ بني مروان، إلّا أنّه لم يقبل، ثمّ اتّهم الإمام بالخوف، و رماه بعدم الجرأة على مواجهة ظلم الخلفاء و جورهم، و في النتيجة، و بعد صراع مرير بينه و بين جنود بني مروان في ضواحي الكوفة، استشهد و بقي جسده معلّقا أربع سنوات فوق المشنقة۱.
فلو كان من المقرّر أن تكون وظيفة الإمام هي الحثّ بشكل دائم على الجهاد و معارضة الظلم، فلما ذا لم يقم الإمام الباقر عليه السلام بذلك! و لو كان المفترض أن يكون شعار سيّد الشهداء و برنامجه التربويّ و الدينيّ و الاجتماعيّ هو الثورة و المواجهة مع الظلم، فلما ذا رضخ لمدّة عشر سنوات في وقت حكومة معاوية الخبيث لعنة الله عليه و لم يعلن الحرب عليه؟!
و إن قيل: لم تكن الأحوال و الشروط الاجتماعية مهيّئة للقيام و الثورة آنذاك، فيجب أن يستنتج أنّ: إرجاع الفرق بين الإمامين إلى طبيعتهما و وضعيّتهما الذاتيّة لهو اشتباه
كبير، و ذلك بأن يدّعى أنّ أحدهما طالب للصلح و السكون و السكوت ذاتا و فطرة، ثمّ ننظر إلى الآخر على أنّه ثائر و مجاهد و معارض، هذا النوع من التفريق خطأ فادح و اشتباه كبير و مرفوض، و هو ناشئ من الجهل و عدم العلم بحقيقة الإمامة و الولاية؛ و حسبما يقول مولانا جلال الدين البلخيّ:
كار پاكان را قياس از خود مگير | *** | گرچه باشد در نوشتن شير شير |
جمله عالم زين سبب گمراه شد | *** | كم كسى ز ابدال حقّ آگاه شد |
همسرى با انبياء برداشتند | *** | اولياء را همچو خود پنداشتند |
اين ندانستند ايشان از عِمى | *** | هست فرقى در ميان بىمنتها |
هر دو گون زنبور خوردند از محلّ | *** | ليك شد زان نيش و زين ديگر عسل |
هر دو گون آهو گيا خوردند و آب | *** | زين يكى سرگين شد و زان مشك ناب |
هر دو نِى خوردند از يك آبخور | *** | اينيكى خالى و آن ديگر شكر |
صدهزاران اينچنين اشباه بين | *** | فرقشان هفتادساله راه بين۱ |
يكمن اشتباهنا في أنّنا نأتي و نقايس فعل الإمام المعصوم على عملنا العاديّ المملوء بالغلط و الخطأ، و نتصوّر أنّه ما دام الإمام قد ثار في مرحلة معيّنة و ضمن شرائط خاصّة، فإنّ فعل ذلك سائغ لنا أنّى شئنا! و كذلك لو سكت أو هادن في ظرف معيّن فإنّه يجب علينا أن نسكت بشكل دائم! أو أنّه لو صرّح بمطلب أو قضيّة معيّنة في مرحلة من المراحل فنستنتج جواز إرسال ألسنتنا بها، أو التصرّف كما تصرّف هو حسب رغبتنا و ذوقنا، و قد نسينا كلام المعصوم حينما قال: لا يقاس بنا أحد۱.
واقعة كربلاء هي إحدى ظهورات الإمام الحسين عليه السلام
فسيّد الشهداء لا يحدّد و لا يعرّف بخصوص حادثة كربلاء، فحادثة كربلاء واحدة من آلاف الآلاف من ظهوراته و انعكاساته، و واقعة كربلاء مع جميع أبعادها الواسعة و عظمتها و مستوياتها الكامنة فيها و التي لا يرقى إليها الخيال و لا التصوّر، إلّا أنّها بالنسبة لمنصب الإمامة و الولاية،
و بالقياس إلى شئون واحد من الأئمّة المعصومين عليه السلام و مهامه لهي يمّ من محيط، و قطرة من بحار رحمة الإمام عليه السلام و فيوضاته.
فلو كان لدى الإمام الحسين عليه السلام أفكار تشابه أفكارنا، و أسلوب نظير أساليبنا و ممشانا، لعمد إلى البقاء في مكّة المعظّمة حينما سمع أنّ يزيد قد بعث إليه بعدّة أفراد ليغتالوه و يقتلوه۱، و لظلّ في مكّة، و لحوّل استشهاده إلى ملحمة يهدر فيها دمه في الحرم الإلهيّ، و داخل بيت الله الحرام، حتّى يكون ذلك مدعاة لإبراز قباحة شخصيّة يزيد الآثم و وقاحته، بشكل أوضح و صوت أعلى، و لكي تدوّي صرخته و تملأ كلّ العالم معلنا للملإ: أنّ هذا السفّاك و المجرم المحترف! قد بلغ من الوقاحة و السفالة أن أقدم على سفك دم ابن رسول اللّه حتّى و إن كلّف ذلك هتك الحرم الإلهيّ الآمن و تدنيس مهبط الوحي، دون أن يتورّع عن شيء من العدوان و الجور.
و لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ سيّد الشهداء -قبل كلّ
شيء- هو إمام، فهو أحد الأئمّة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فحفظ بيت الله الحرام و احترامه، و قداسة حريم الكعبة المعظّمة و حرمها أهمّ من هذه الغاية و أثمن، فهو في كلّ موقف أو ردّة فعل يرى الله أوّلا و يرى الله آخرا، على عكسنا نحن حيث إنّنا نتوجّه إلى أنفسنا أوّلا، و نراعي مآربنا و شخصيّتنا، ثمّ بعد ذلك نلبس أفعالنا و أعمالنا و رغباتنا بثوب إلهيّ، و نجعل الله عنوانا و ملاذا لنيل أغراضنا و شئوننا الشخصيّة. فانظر و تأمّل كم يتفاوت هذا الممشى مع ذاك!
و كذلك حضرة الإمام المجتبى عليه السلام، الذي أوصى أخاه سيّد الشهداء عليه السلام: أن لا يريق قطرة دم في تشييعه۱، و هنا يتجلّى الفرق بين الإمام عليه السلام و غيره من سائر الأفراد.
و على هذا الأساس، سوف ترتدي حادثة كربلاء ثوبا آخر و تبدو من خلال بعدها الأعمق، لتمتاز بذلك عن سائر
الوقائع المشابهة و تتفاضل عليها، فهي حادثة لها خصوصيّاتها المقترنة بها دون غيرها، فالذي قادها و تزعمها هو أحد الأئمّة المعصومين عليه السلام؛ إمام يمثّل الظهور التامّ للأسماء الإلهيّة الكلّية، سواء في أنفاسه أم كلامه أم سلوكه أم أيّة خطوة يخطوها، و هو في جميع مظاهره مجلى لظهور الذات السرمديّة للحقّ تعالى، و يجب أن يتّخذ قدوة و أسوة إلى أبد الآبدين، لأنّه تجسيم للربوبيّة، و تجسيد لها، و على العبد أن يطيع الله و ينقاد إليه، و لذا فحادثة عاشوراء أسوة و قدوة و لكن لا في خصوص المواجهة و الثورة و الحرب فقط، بل في كلّ شيء و كل لحظاتها و كلّ دقائقها، و في جميع أطوارها و أحداثها.
يجب أن نشاهد و نتأمّل حياة سيّد الشهداء في كلّ أطوارها؛ من زمن طفولته، و في مرحلة الشباب و الفتوّة، و المرحلة التي كان فيها مع أخيه الأكبر حضرة الإمام الحسن عليه السلام في المدينة، و في عهد حكومة معاوية الجائرة، و بعد ذلك حتّى لحظة استشهاده، فيجب دراسة كلّ ذلك، و لا بد من التأمّل فيه و التدقيق به على نسق واحد و أنّه سياق واحد تماما.
و لذا نرى أنّ جميع المعصومين عليهم السلام قد تكلّموا
عن واقعة عاشوراء، و أوصوا الشيعة و أكّدوا عليهم و بشكل بليغ أن يحيوا هذه الواقعة العظيمة، و التي لا ثاني لها تاريخيّا و لا مثيل، و الحال أنّه منذ الصدر الأوّل للإسلام حتّى ذاك الزمان و ما بعده، قد اتّفق وقوع العديد من الحوادث المشابهة لها من ناحية مقارعة الكفّار و المشركين، أو معارضة الحكّام و مواجهة خلفاء الجور، قام بها العديد من الأفراد، حتّى نالوا الشهادة في هذا الطريق، إلّا أنّه لا يزال هناك تفاوت و تمايز بين ما ورد في حقّ أنصار هذه الواقعة و غيرهم.
إنّ مواجهة سيّد الشهداء ليزيد مقدّمة لإحياء السنن و معرفة الله
فالذي ينبغي أن يلتفت إليه في هذه الثورة -و حسبما يبدو من تلك الرؤيتين السابقتين أنّهما قامتا بإهماله و بالغفلة عنه- هو السبب الكامن وراء هذه الثورة و علّة هذه النهضة؛ فالرؤية الثانية قد سلّطت الأضواء -أكثر من كلّ شيء بحيث أدرجت جميع المسائل الأخرى و المباني الفكريّة و الاعتقاديّة تحت هذا المنطلق- على جانب المبارزة و المواجهة مع الظلم و الجور الناشئين من الحكومة الجائرة لبني أميّة، و بالتالي رفض خلافة يزيد؛ و جعلت ذلك أصلا لهذه الثورة و هدفا و ملاكا لها. و أمّا بناء على وجهة النظر
المحقّة و التفسير الصحيح لهذه الثورة، فإنّ مسألة المعارضة مع خلافة بني أميّة الجائرة و مواجهتها، لهي مقدّمة و معبر للوصول إلى إقامة شعائر الدين و إحياء السنن، و إعلاء راية التوحيد و المعرفة.
فغرض الإمام عليه السلام الأصليّ و هدفه، هو إحياء الأحكام المنسيّة و القوانين المهملة من سنّة جدّه و أبيه، دون أيّ شيء آخر! و ليس لأيّ سبب آخر.
إن غرض الحكومات الجائرة و الغاصبة و المتلبّسة بظاهر الإسلام -مثل الخلفاء الثلاثة و بني أميّة و بني مروان و بني العبّاس- و همّها و أقصى هدفها التوسعة و إحكام النفوذ في البلاد، و الفتوحات و الاستيلاء على أموال الرعايا و أرواحهم و أعراضهم و استلاب أموالهم و غنائمهم.
ففي جميع الحكومات الإسلاميّة، حتّى و إن كان الشعار هو شعار تبليغ الإسلام و نشره، إلّا أنّ الخلفيّة الكامنة في دائرة وعي الزعماء، و ما يجول في داخل الراعين لها هو ما ذكر، و لم يكن هناك هدف و غاية من باطنهم و سرّهم غير ذلك. و ما نلهج به و نصرّح به هو من هذا القبيل أيضا، حيث
إنّنا نقول: يجب على الشيعة أن ينظروا إلى عاشوراء دون غيرها، و لا بدّ من نصب عاشوراء كنموذج حياتيّ في جميع حركاتنا و سكناتنا، و صلحنا و مواجهاتنا، و تهوّرنا أو خمولنا، و مبادراتنا و حذرنا. و كذلك الذين يفرّقون بين الإمامين المجتبى و سيّد الشهداء عليهما السلام، و ينظرون إلى حضرتيهما بمنظارين مختلفين و بعين الأحول، هؤلاء قد وقعوا في اشتباه فاحش، و سقطوا في الضلالة، و ساروا في طريق التعدّي و الظلم في حقّ هذين العظيمين.
شعار ثورة سيّد الشهداء إحياء السنّة و إماتة البدع
فالإمام نفسه يصرّح ضمن وصيّته لمحمّد بن الحنفيّة، حين خروجه من المدينة فيقول:
إنّي لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد صلّى الله عليه و آله؛ أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر، و أسير بسيرة جدّي و سيرة أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام۱.
أي: لم أخرج لأجل التنزّه، و لا لأجل التكبّر و إبراز الذّات و التميّز، و لا لأجل الفساد و التخريب، و لا للظلم و الجور و التعدّي، و إنّما خرجت للإصلاح في أمّة جدّي
محمّد صلّى الله عليه و آله؛ أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر و أعمل بسيرة جدّي، و أسير على نهج و ممشى أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و من البديهي أنّه في ظلّ هذه الشرائط التي ذكرها الإمام كخلفيّة و هدف لخروجه، سوف تكون الغاية القصوى
الهدف من الخلقة معرفة الله و معرفة الإمام
و الهدف الأعلى من الخلقة و كذا التربية، هي الوصول إلى معرفة حضرة الحقّ تعالى، و بزوغ شمس الولاية على نفوس و قلوب العباد، و هذا هو السبب في حركة سيّد الشهداء في واقعة كربلاء؛ كما أنّه قد صرّح بنفسه بذلك و قال:
أيّها الناس! إنّ الله ما خلق خلق الله إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، و استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه.
فقال رجل: يا ابن رسول اللّه! ما معرفة الله عزّ و جلّ؟
فقال: معرفة أهل كلّ زمان إمامه الذي يجب عليهم طاعته۱.
و هذه السمة الخاصّة هي التي أوجبت أن يحفظ الشيعة شعيرة العزاء و إحياء مجالس ذكر أبي عبد الله عليه السلام
بشكل دائم، و هو الذي جعل المعصومين يؤكّدون عليهم إحياء ذلك.
فمع كون إحياء مجالس ذكر أهل البيت عليهم السلام ذا مكانة بالغة -سواء ذكرى تولّدهم أم شهاداتهم- و ذلك بعنوانه أحد السنن و المعالم الثابتة في التراث الشيعيّ، إلّا أنّ إقامة مجالس العزاء لأمير الشهداء و سيّدهم حضرة أبي عبد الله عليه السلام، قد حظيت بمكانة خاصّة و مميّزة من قبل أهل البيت، و كلّ المعصومين عليهم السلام بدون استثناء، قد أمروا الشيعة و كلّفوهم بإقامة مجالس العزاء لحضرة أبي عبد الله عليه السلام.
يروي أبو محمّد هارون بن موسى التعلكبري، بسنده المتّصل إلى صفوان بن مهران، أنّ الإمام الصّادق عليه السلام قال له في زيارة الأربعين:
تزور عند ارتفاع النهار فتقول: السلام على وليّ الله و حبيبه ..۱.
السماء بكت دما على الإمام الحسين عليه السلام أربعين يوما
و كذلك في كتاب كامل الزيارات يروي جعفر بن محمّد
ابن قولويه بسنده المتّصل إلى زرارة، عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:
يا زرارة إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحا بالدم، و إنّ الأرض بكت أربعين صباحا بالسواد، و إنّ الشمس بكت أربعين صباحا بالكسوف و الحمرة، و إنّ الجبال تقطّعت و انتثرت، و إنّ البحار تفجّرت، و إنّ الملائكة بكت أربعين صباحا على الحسين عليه السلام، و ما اختضبت منّا امرأة و لا ادّهنت و لا اكتحلت و لا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد ..۱.
و كذلك يروي بسنده عن جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:
ما بكت السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلا على الحسين بن عليّ عليهما السلام فإنّها بكت عليه أربعين يوما٢.
و كذلك يروي في كامل الزيارات بسند متّصل عن عبد الخالق، عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّه قال في تفسير الآية الشريفة الحاكية قصّة يحيى عليه السلام من
قوله تعالى ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾۱ أي: لم نسمّي أحدا بهذا الاسم قبله، فيقول:
سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ الحسين بن عليّ، لم يكن له من قبل سميا، و يحيى بن زكريا عليه السلام لم يكن له من قبل سميّا، و لم تبك السماء إلا عليهما أربعين صباحا٢ ...
و هناك روايات أكثر من ذلك، و قد صرفنا النظر عن ذكرها لعدم الرغبة في التطويل.
الفصل الثالث: اختصاص الأربعين بسيّد الشهداء عليه السلام من شعار التشيّع
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام يبيّن أنّ زيارة الأربعين إحدى شعائر الشيعة
إنّ إحدى الشعائر المختصّة بالتشيّع، و التي لا يمكن العثور على مثيل أو شبيه لها في سائر الأمم و المذاهب، ظاهرة أربعين الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام؛ فهي من مختصّات التراث الشيعيّ، و زيارته عليه السلام يوم الأربعين من الشعائر الخاصّة بالشيعة، و لم يثبت ذلك لأيّ إمام آخر من المعصومين عليهم السلام، حتّى الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، فزيارة حضرة سيّد الشهداء عليه السلام في يوم الأربعين، و إقامة مجلس العزاء لأجله مختصّة به فقط دون غيره!
ففي كتاب الإقبال للسيّد ابن طاوس، يروي بإسناده عن أبي جعفر الطوسيّ، و هو بإسناده عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أنّه قال:
علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى و خمسين (و هي مجموع الصلوات الواجبة و المستحبة طوال اليوم و الليلة)، و زيارة الأربعين (أي أربعين حضرة سيد الشهداء عليه السلام)، و التختّم باليمين، و تعفير الجبين (بالتراب)، و الجهر (في الصلاة) ببسم الله الرحمن الرحيم۱.
فزيارة حضرة سيّد الشهداء في يوم الأربعين من مختصّات الشيعة، و قد طرحها الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام بعنوان أنّها شعار و علامة للإنسان الشيعيّ، تماما كما أنّ تعفير الجبين بالتراب هو من علامات الشيعيّ، و كذلك الجهر بالبسملة، و القيام بالنوافل طبقا لتعاليم الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
مع كامل الأسف، في هذه الأيّام خرجت مسألة الأربعين عن كونها شعارا للتشيّع و أحد مميّزاته، فانحدرت و سرت إلى سائر الأفراد، من جميع الطبقات
و المستويات، حتّى بدت هذه العادة المتخلّفة و المرفوضة و كأنها سنّة مفروضة في الأوساط الشيعيّة، و بدت شيئا غريبا حتّى بالنسبة لسائر المذاهب الإسلاميّة، و بالطّبع، فقد زالت العلاقة بينها و بين سيّد الشهداء عليه السلام و لم تعد منتسبة إليه، و هذا المشهد الذي آلت إليه مخالف قطعا لمباني مدرسة التشيّع و أصولها الاعتقاديّة، و بعيد عن رضى أهل البيت عليهم السلام.
تتجلى ميزة التشيع في تبعيّة الإمام المعصوم و طاعته و الانقياد له دون بحث و كلام؛ فهم ليسوا كسائر الفرق الإسلاميّة، الذين تخلّوا عن أحد ركنيّ الثقلين الأساسيّ، و ابتعدوا عن عترة رسول اللّه، و تبعوا أشخاصا و أفرادا آخرين، و من الطبيعيّ أنّهم حرفوا أنفسهم عن الطريق الرحب للسعادة و الفلاح، و قبعوا في وادي الضلال و الغواية و المهالك الموبقة، و شيّدوا دينهم على أساس التوهّمات و التخيّلات و الخرافات و بنوا حياتهم عليها بشكل تامّ، و ذلك بواسطة تدخّل القياسات و الاستحسانات و السلائق الشخصيّة، و أوكلوا زمام أمور دينهم و دنياهم بيد الجهّال و المعاندين أمثال أبي حنيفة و غيره، فاختاروا خسران الدنيا و الآخرة.
لأجل ذلك، فإنّ رمز فلاح الشيعيّ و نجاحه، تبعيته لسنن الأئمّة و أوامرهم، فقط لا غير! و ليس له حقّ التدخّل و التصرّف في الأوامر الملقاة من الزعماء المعصومين عليهم السلام مطلقا، و ليس من حقّه أن يخطو خطوة واحدة، أو يتعدّى الحدود المرسومة له في سائر القضايا و الموضوعات، سواء العباديّة منها أم الاجتماعيّة؛ و إن يمض و يتخطّ فسوف يبتلى بذاك الخسران، و يتورّط بتلك المهلكة التي سقط فيها الآخرون.
ينبغي على الشيعيّ أن لا يعمل من تلقاء نفسه، و لا يشرّع أحكاما من عنده و لا يزيد و لا ينقص، بل لا بدّ و أن يحوّل توجّهه و عيناه و أذناه و حواسّه نحو ممشى الأئمّة و مبانيهم، دون أن يعير أيّ سمع لتلقينات العوامّ و إيحاءاتهم، و لا أن يرفع يده عن أصوله و يتنازل عن أسسه، استجلابا للعوامّ و استرضاء لهم، بل يرجّح رضا الله و إمام الزمان أرواحنا فداه، و يقدّمهما على المصالح الدنيويّة و الأوهام و الشائعات و إرضاء بعض الجهلة الذين لا علم لهم بمباني التشيّع.
لم تعد ذكرى الأربعين في هذه الأيّام شعارا خاصّا بالتشيّع
في هذا الزمان، لم تعد قضيّة أربعين سيّد الشهداء
عليه السلام ذات اهتمام و امتياز خاصّ، فقد خسرت حيثيّة كونها شعارا و علامة مائزة، و صارت في أوساط العوامّ و كأنّها أحد الشئون العاديّة مثل سائر الأربعينيّات التي تقام على الأموات، و لم تعد محلّا لتوجّه المذاهب الأخرى و لفت نظرهم.
أقام أهل البيت العزاء على سيّد الشهداء في المدينة ثلاثة أيّام فقط
و الملفت هو أنّه بناء على بعض الروايات المأثورة، فإنّ أهل بيت رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم، بعد دخولهم المدينة، لم يقيموا العزاء على سيّد الشهداء أكثر من ثلاثة أيام، مكتفين بذلك على العمل بسنّة رسول اللّه المتداولة في ذلك الزمان. و هذا المطلب موجود في كتاب أخبار الزينبيّات ليحيى عبيدلي، المتوفّى سنة ٢۷۷ هجري. و الجدير بالذكر أنّ مؤلّف هذا الكتاب من السادات الحسينيّين، و يصل نسبه إلى الإمام السجّاد بفاصلة أربع وسائط، و العلماء أمثال العلّامة الحاجّ الشيخ آغابزرگ الطهراني يمتدحونه و يجلّون منزلته بسبب كتابه النفيس.
حيث يذكر في كتابه أنّه بعد وصول أهل البيت إلى
المدينة، قد أقاموا العزاء ثلاثة أيّام و ثلاث ليال، و شارك في ذلك نساء بني هاشم و سائر أصناف الناس۱.
نرى أنّه من المناسب أن نذكر هنا كلام المرحوم المغفور له، آية الله الشهيد الحاجّ السيّد محمّد علي القاضي الطباطبائيّ التبريزيّ، حيث ينقل في كتابه القيّم الأربعين فيما يتعلّق بهذا المطلب:
... يجب أن نشير هناك إلى هذه النكتة، من أنّ أهل بيت الرسالة بعد دخولهم المدينة، لم يتخطّوا آداب الشريعة في إقامتهم العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام و لم يعقدوا المجالس لأكثر من ثلاثة
أيّام، و الحال أنّ تعزية سيّد الشهداء عليه السلام متحقّقة على الدوام و دون أيّ تراجع أو قلّة، بل هي سنة بعد سنة. و أمّا بالنسبة لسائر الأشخاص، فقد ذكر الشيخ الطوسيّ (ر ه) في المبسوط: و يكره الجلوس للتعزية يومين و ثلاثة أيّام إجماعا۱. و من المحتّم أنّ العمل بالمشهور -أي الثلاثة أيّام- غير مكروه، و الإجماع المنقول عن الشيخ (ر ه) ليس بحجّة، كما قد حقّق ذلك في أصول الفقه بشكل تامّ، و لا شكّ أنّه في زماننا هذا، أصبحت الناس في تعزيتها و إقامة مجالس الترحّم على أمواتهم -و خصوصا طبقة العلماء و الفقهاء- تتخطى حدود الشرع و آدابه، و أصبحوا يوما بعد يوم، يهيلون التشريفات التي لا طائل منها، إرهاقا لأنفسهم و تضييعا للأوقات٢.
انتهى.
يقول كاتب هذه السطور: حتّى مع توجّه الإشكال على
إجماع المرحوم الشيخ فيما ذكره من كراهة العزاء إلى ثلاثة أيّام، و ذلك كما ذكره المرحوم المغفور له صاحب كتاب «الأربعين»، و لكن نفس ادّعاء الشيخ لهذا المطلب يثبت و يؤيّد أنّ السنّة الجارية في زمانه، أو السابقة على زمانه -على الأقل- قائمة على ما دون الثلاثة أيّام لا أكثر.
فمن الممكن أن يقال: إنّ انعقاد مجالس الأربعين للأموات بغية طلب المغفرة و الرحمة لهم، هو في حدّ نفسه سنّة حسنة و مرضيّة، و أنّه لا يراد منها -لا قدّر الله- مواجهة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام أو مقابلته؛ و عليه فما هو الإشكال في أن يقدم أولياء الميّت و يبادروا إلى إقامة هكذا مجلس، يتوخّى منه المغفرة و يهدى ثوابه إلى روح المتوفّى؟!
عدم المنع لا يدلّ على الحلّية و الجواز
و حيث أنّه لم يردنا المنع عن هكذا مجالس من طرف الشرع المقدّس، فسوف تكون النتيجة هي أنّ الحكم الأوّليّ قائم على الجواز و عدم الممنوعيّة، تماما كما في سائر الموارد التي لم يرد فيها منع أو ردع بعينه من ناحية الشرع، و ذلك في ما لا يتنافى مع الأصول الكلّية و القواعد العامّة للمذهب، و مقتضى القاعدة حينئذ هو عدم الحذر و الإباحة الظاهريّة.
و لكن جواب هذه الشبهة هو أن يقال: إنّ مقتضى الاحتياط في خصوص هذه المسألة و ما يشابهها من الموارد و المسائل، هو عكس الحكم بالإباحة و عدم الجواز، و هذه المسألة تختلف مع ما بيّن في تقرير الشبهة.
و توضيح المطلب في ما يلي:
قد دوّنت الأحكام الشرعيّة على أساس المصالح و المفاسد -النفس الأمريّة و الواقعيّة- و ارتكزت على أساس التربية، و إبراز فعليّة الاستعدادات البشريّة، فالملاك الذي يراعيه الشارع المقدّس في تشريعه للقوانين، هو توافق التكاليف الشرعيّة و انطباقها على الجهات التكوينيّة و الفطريّة للإنسان، و حتّى مع كون فعل الحقّ تعالى خارجا عن دائرة الموازنة و المقايسة مع المصالح و المفاسد -كما هو حاصل في أفعالنا و سلوكنا- إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ مشيئته و إرادته يمكن أن تتعلّق بأمر لغوي و عبثي، لأنّ حكمته البالغة تقتضي أن يكون فعل الله تعالى عين الصلاح، و يكون الصلاح عين فعله، و ذلك في مرتبة متأخّرة عن إرادته و مشيئته، لا في رتبة متقدّمة بعنوانها علّة غائيّة.
و على ذلك، و حسب مفاد الآية الشريفة: ﴿قالَ رَبُّنَا الَّذِي
أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾۱ فحيث أنّ خلقة الإنسان ناشئة عن الحكمة الإلهيّة البالغة، فلا بدّ و أن تكون الهداية و التربية أيضا مرتكزة على نفس ذاك الأساس، بوزان واحد و معيار و نسق واحد، كي لا يقع أيّ تضادّ أثناء الوصول إلى النتيجة و حصول الغاية المرجوّة.
و حيث أنّ خلقة الإنسان متنزّلة من أعلى رتبة من مراتب عالم الخلق و أحسنها و أسماها، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾٢، لأجل ذلك، ينبغي أن تكون أحكامه و تكاليفه الشرعيّة مبنيّة على أرقى ما يتصوّر من درجات التكليف و أحسنها، غاية الأمر أنّه هناك فارق بين الأمرين؛ فأصل تكوّنه و نشأته في أحسن تقويم يمكن تصوره، إنّما كان بدون إرادة الإنسان و دون اختياره، و أمّا الأحكام و القوانين المنزلة من عند الله، فإنّها مجعولة لتكون موضع اختيار البشر و إرادتهم، و لتنسج في عملهم، و لتكون سببا في تحقّق تكاملهم و إخراجهم من مرحلة الاستعداد إلى رتبة التحقّق بالفعليّة التامّة. و لهذا، سوف لا يكون هناك فرق
بين هذين الجانبين و هاتين الحيثيّتين بشكل مطلق، إلّا من نفس حيثيّة التكوين و حيثيّة التشريع؛ بحيث لو جوّز الشارع المقدّس أن يختار البشر العمل المرجوح و المفضول و لو بمقدار ذرّة واحدة، فسوف تكون هذه الرخصة منافية لحكمة الخلقة و التكوين و متعارضة معها!
و على هذا الأساس، سوف يكون الحكم الممضى من ناحية الشرع و المرضيّ له، هو خصوص الحكم المنسجم مع إرادة الشارع و مشيئته مائة بالمائة، دون أدنى اختلاف و دون إدخال المصالح الدنيويّة و الأذواق الشخصيّة و الأهواء النفسانيّة. و من هناك و حيث أنّ مشيئة الشارع هي تلك الملاكات و المصالح و المفاسد النفس الأمريّة، فإنّ تكليف الإنسان ينحصر في أن يطبّق أعماله و سلوكه بشكل تامّ على تلك الملاكات الكلّية، المبيّنة من ناحية الشارع و الموضّحة من قبله. و من الطبيعيّ أن يكون للفعل الواحد -من جهة أبعاده المختلفة- أغراض و حيثيّات متفاوتة، و يمكن إدراجه تحت ملاكات و قواعد مختلفة، لذلك ففي مقام الترجيح و تطبيق الملاكات الكلّية على ذاك العمل الخارجيّ، لا بدّ و أن تلاحظ الوجوه المرجّحة، و لا بدّ
و أن تراعى قوّتها و ضعفها بشكل دقيق، إذ من الممكن أن يكون أحد الأفعال مستحسنا ضمن ظروف و شرائط خاصّة، و يكون بعينه قبيحا ضمن ظروف مغايرة و شرائط أخرى.
مع التوجّه إلى المطالب السابقة، يجب أن نلاحظ رأي الإسلام بالنسبة لمسألة «الأربعين» و نعرف أيّة سنّة طرحها الشارع المقدّس لإقامة مجالس العزاء و الترحّم، و بالخصوص رأيه و نظره بالنسبة إلى الأربعين؟
لا يجوز ترك التزيّن للنساء في العزاء على الميّت لأكثر من ثلاثة أيّام
يروي المرحوم الشهيد رواية في كتاب اللمعة في بحث الحداد (ترك الزينة للنساء)، عن رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال:
لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ليال إلّا على الزوج أربعة أشهر و عشرا۱.
أي: إنّه لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله و تعتقد به و بالآخرة أن تترك التزيّن حدادا على ميّت أكثر من ثلاث ليال، إلّا
على زوجها، فيجب أن تستمرّ في حدادها عليه أربعة أشهر و عشرة أيّام.
ثمّ يتابع الشهيد فيقول:
و لا حداد على غير الزوج مطلقا، و في الحديث دلالة عليه، بل مقتضاه أنّه محرّم، و الأولى حمله على المبالغة في النفي و الكراهة۱.
أي: ترك الزينة حدادا على غير الزوج لا وجود له في دائرة التشريع مطلقا، و قد ورد في الحديث ما يشير إلى ذلك، بل إنّ مقتضى الحديث حرمة الحداد، و لكن الأولى أنّه ليس المراد منه الحرمة و إنّما الكراهة الشديدة فقط.
في هذه الرواية كما هو واضح، قد جعل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم العزاء على الميّت ثلاثة أيّام، و بعد الثلاثة ليس هناك عزاء.
و نظير هذه الرواية أيضا، ما ورد في المدوّنة الكبرى
المجلّد ٢ صفحة ٤٣٢ عن عائشة زوجة رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال:
لا يحلّ لمؤمنة تحدّ على ميّت فوق ثلاثة أيّام۱.
و كذلك وردت هذه الرواية في كتاب المبسوط للشيخ الطوسيّ٢.
و يروي المرحوم الصدوق أيضا عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال:
يصنع للميّت مأتم ثلاثة أيّام من يوم مات٣.
يستحبّ جلب الطعام إلى منزل صاحب المصيبة لمدّة ثلاثة أيّام
كذلك ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، حينما استشهد جعفر بن أبي طالب، أمر ابنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها أن تذهب إلى منزل بنت عميس و جميع نساءها و أقاربها، و تصنع لهم الطعام مدّة ثلاثة أيّام؛ و من ذلك اليوم انعقدت سنّة العزاء بين المسلمين على ثلاثة أيّام۱.
و قال الإمام الصّادق عليه السلام:
ليس لأحد أن يحدّ أكثر من ثلاثة أيّام إلّا المرأة على زوجها حتّى تنقضي عدّتها۱.
و قد أورد العلّامة المجلسيّ رحمة الله عليه في البحار:
و أمّا استحباب بعث الطعام ثلاثة أيّام إلى صاحب المصيبة فلا خلاف بين الأصحاب في ذلك، و فيه إيماء إلى استحباب اتّخاذ المأتم ثلاثة، بل على استحباب تعاهدهم و تعزيتهم ثلاثة أيضا، فإنّ الإطعام عنه يدلّ على اجتماع الناس للمصيبة٢.
ثمّ نقل بعد ذلك كلام الشهيد الأوّل عن الذكرى، و كذلك رواية الرسول الأكرم و الإمام الصّادق عليهما السلام حيث ورد فيهما أنّ العزاء على المتوفّى ثلاثة أيّام فقط.
و كذلك الشيخ أبو الصلاح الحلبيّ يقول حين تعرّضه لهذه المسألة:
من السنّة تعزية أهله ثلاثة أيّام و حمل الطعام إليهم۱.
روايات أهل السنّة تدلّ على أنّ أمد مجلس الترحّم ثلاثة أيّام
و كذلك أيضا ما في كتب أهل السنّة، ففي كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاريّ:
باب حدّ المرأة على غير زوجها:
قال: حدّثنا مسدد، حدّثنا بشر بن المفضل، حدّثنا سلمة بن علقمة عن محمّد بن سيرين قال: توفّي ابن لأمّ عطيّة رضي الله عنها، فما كان اليوم الثالث دعت بصفرة (نوع من الأدوية التي تتزيّن بها النساء و تدهن بها يديها) فتمسّحت به و قالت: نهينا (من قبل رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم) أن نحدّ أكثر من ثلاث إلّا بزوج (أي إلّا لأجل الزوج)٢.
و كذلك ينقل عن زينب بنت أبي سلمة أنّها قالت:
لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أمّ حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها و ذراعيها و قالت إني كنت عن هذا لغنيّة لو لا أنّي سمعت
النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلم يقول: لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر و عشرا۱.
و كذلك تقول زينب بنت أبي سلمة التي روت الحديث السابق:
دخلت على زينب بنت جحش حين توفّي أخوها فدعت بطيب، فمسّت، ثمّ قالت: ما لي بالطيب من حاجة غير أنّي سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يقول على المنبر: لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر و عشرا٢.
يستفاد من مجموع هذه الروايات، و كذلك السيرة المستمرّة من زمن رسول اللّه إلى ما بعده و المعمول عليها بين المسلمين، أنّه من المسلّم به دون ريب هو أنّ سنّة نبيّ الإسلام و الشرع المقدّس في موضوع التعزية و إقامة مجالس الترحّم على الميّت ثلاثة أيّام فقط لا أزيد! و قد هدّد رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم المرأة التي تقيم العزاء
على ميّت لأكثر من ثلاثة أيّام. و هذه السنّة شائعة و رائجة، و لم يطرأ عليها شيء من التغيير و التحوّل في زمان الأئمّة عليهم السلام.
الإيراد على كلام المرحوم النراقيّ من عدم انحصار العزاء في ثلاثة ايام
يقول المرحوم النراقيّ في كتابه الشريف مستند الشيعة، في بحث التعزية ما يلي:
... و عن الكافي و الحلبي و الشهيد و أكثر المتأخّرين التحديد بثلاثة أيّام، لما من أنّ المأتم أو الحداد أو صنع الطعام لأهل الميّت ثلاثة أيّام، و لا دلالة فيها، و إن كان المأتم بمعنى الاجتماع في الموت؛ نعم يدلّ على جواز الاجتماع و الجلوس لهم في الثلاثة۱.
و من خلال التأمّل في المطالب السابقة، نجد أنّ هناك إشكال في كلام المرحوم النراقيّ، لأنّه:
أولا: إنّ حمل الطعام لأصحاب العزاء، و ترك التزيّن، و إقامة مجلس الفاتحة و الترحّم لمدّة ثلاثة أيّام -كما قد أشار إلى ذلك- لهو أفضل دليل و أوضح برهان على أنّ مراد
الشارع المقدّس و نظره متعلّقان بخصوص الثلاثة أيّام دون زيادة، و إلّا لكان بإمكانه أن يقول: ما دامت مجالس العزاء منعقدة يستحبّ إحضار الطعام لصاحب العزاء، أو يستحبّ ترك الزينة. بل من الواضح أنّ صاحب العزاء -أثناء انعقاد مجلس الفاتحة على الميّت و إبرازه الحزن على المصيبة- لا يتزيّن، و سوف لا يبرز نفسه بما يخالف وضع المصيبة و حالة العزاء، إلّا أن يتعدّى عن عرف المجتمع و عاداته المتداولة، و حينئذ ليس أمامه إلّا أن يلتزم بممشى العقلاء و سيرتهم في ذلك. و عليه، فحينما يقول الشارع: لا يجوز للمرأة أن تترك الزينة أكثر من ثلاثة أيّام، سوف يكون المراد من كلامه -حسب دلالته الالتزاميّة العرفيّة- تحديد مدّة العزاء و تعيين وقت الحداد على المصيبة؛ و العجيب أنّه مع وضوح المطلب و جلائه إلى هذا الحدّ كيف خفي عليه!
ثانيا: إنّ مناسبات الحكم و الموضوع تقتضي أنّ يكون مجلس العزاء حين انعقاده مكتسيا و متلبّسا بحالة التعزية و الحزن و الألم، و لا يكون مدعاة للسرور و الابتهاج و المرح و الانشراح! و مقتضى الحزن و الألم و المصيبة هو عدم التزيّن و التزيين أو استعمال العطور و الرياحين. و عليه، فسواء قيل
أنّه ليس من الجائز إقامة العزاء على المتوفّى لأكثر من ثلاثة أيّام، أم قيل أنه: لا يجوز ترك الزينة و التعطّر لما يزيد على الثلاثة أيّام، فإنّ مؤدّاهما واحد دون أيّ تفاوت؛ لأنّ مجلس العزاء يختلف اختلافا ماهويّا عن حفلة العرس أو العيد و السرور؛ تماما كما لو أراد أحد أن يرتدي لباس الحداد في حفلة العرس، دون مراعاة لعادات العرف و كيفيّة التزيّن، فكم هو قبيح ذلك!
ثالثا: إنّ ما ذكره من أنّه يستفاد من الرواية جواز الاجتماع و المشاركة في العزاء طوال مدّة الأيّام الثلاثة هو محلّ تأمّل و إشكال أيضا، لأنّ جواز الاجتماع و المشاركة في المجلس للتعزية و طلب المغفرة، و تسلية أهل الفقيد، في حدّ نفسه أمر ممدوح و مستحسن، و لا يحتاج جوازه إلى دليل شرعيّ خاصّ؛ بداهة أنّ ذلك ثابت بحكم العقل و عموم النقل المستفاد من قوله تعالى ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ﴾۱، و كذلك ما تقتضيه نفس التعزية و تسلية المصاب و مواساته، و عموم زيارة الإخوان و التحبّب إليهم، فمع كلّ ذلك لا يبقى مجال للشكّ في جواز انعقاد
مجالس كهذه، و سوف يكون حكم الشرع بالجواز لغو و عبث.
حصر الحداد في الثلاثة أيّام يدلّ على المنع من الزائد
و على ذلك، فإنّ إخراج كلام الشارع و حكمه عن دائرة اللغويّة و العبثيّة يقتضي أن نقول: إنّ مراد الشارع من تلك الروايات هو تحديد مدّة العزاء و تعيين وقت الحداد، و لو كان مراد الشارع ما هو أكثر من هذه المدّة فسوف يكون هذا التحديد لغوا و خاليا عن أيّ معنى، و كأنّه يقول: كلّ من يريد إقامة هذه المجالس فليقمها إلى ما يشاء، و ليمدّدها ما دام ذلك ممكنا و ميسورا له، و كلّما زاد فهو أفضل؛ و في هذه الصورة تكون يد الناس مبسوطة في إقامة هذه المجالس، و سوف يكون حظّ المتوفّى أكثر وفرة من ناحية الثواب.
لأجل ذلك، إنّ تعيين الشارع و تحديده لمثل هكذا مورد، بحيث أنّه فضلا عن أنّ إقامة هذه المجالس غير منهيّ عنها شرعا أو عقلا أو عرفا، فإنّها مطلوبة و مستحسنة، ففي هذه الحالة سوف يكون تحديد الشارع و تعيينه دالّا على عدم رضاه، و مفهما مبغوضيّته تشكيل هذه المجالس و انعقادها لأكثر من ثلاثة أيّام، و يجب أن لا يتخطّى سنّة الشارع و دستوره، و العمل على ما أمر به دون نقيصة و لا زيادة.
مع الأسف مراسم العزاء في مجتمعاتنا لا توجب العبرة و الاتّعاظ
من المؤسف أنّه في هذا الزمان، و في كثير من المسائل و التي من جملتها أحكام الموت، و ما يترتّب عليه من الأحكام العرفيّة، لا نراعي أحكام الشرع التي ينبغي أن نلتزم بها، بل نمشي بشكل معوّج و منحرف، فندمج مقتضيات عالم الآخرة مع اعتباريّات عالم الهوى و النفس الأمّارة، و ننزّلهما نفس المنزلة، و نضع الحقائق مع الأوهام في كفّة واحدة.
فيجب أن يكون التشييع و الدفن عبرة للإنسان، ليدفعه إلى تذكّر الموت و الحساب و الكتاب و سائر العقبات التي يواجهها بعد الموت، فيجب أن يكون توجّه المشيّعين أثناء تشييعهم إلى مسألة الموت. و كلّ ما يوجب انصراف المشيّعين إلى الأمور الجانبيّة الاعتباريّة، كتهيئة إكليل من الورد أو استعراض الفرقة الموسيقيّة الناعية و الطبل و العلم، و قراءة الأشعار و المدح و الثناء على المتوفّى و أمثال ذلك، جميع ذلك يقع في الطرف المقابل من رغبة الشارع و نظره.
و لذا ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:
إذا أنت حملت جنازة فكن كأنّك أنت المحمول،
و كأنّك سألت ربّك الرجوع إلى الدنيا ففعل، فانظر ما ذا تستأنف۱!
و في أمالي الشيخ الصدوق يروي عن حضرة الإمام الصّادق عليه السلام عن رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال:
أكيس الناس من كان أشدّ ذكرا للموت٢.
فتشييع الجنازة يجب أن يولّد للإنسان التفكير بالموت و التفكّر بالآخرة، و ينبغي أن يخرجه من دائرة الاعتباريّات و يقطعه عن سائر الارتباطات، و يحيي في نفس الإنسان الشعور بأنّ حقيقة الدنيا ممرّ و معبر، و أنّ العالم الأبديّ هو الآخرة. يجب أن يلهج أثناء التشييع بـ لا إله إلّا الله و يترك الأناشيد و إطلاق الشعارات و التعابير المبعّدة عن الغاية و الهدف من مسير الإنسان و حركته. و لكن حيث أنّنا غارقون في عالم الوجاهة و الاعتبارات، إلى الحدّ الذي امتلأ فكرنا و قلبنا و حواسّنا من هذه الأوهام و الخيالات بشكل تامّ، فلم يعد هناك منفذ و لا مجال للورود في عالم الأبديّة و عالم
الحقائق، لذلك نتصوّر أنّنا بعد الموت، سوف يستمرّ معنا ذاك الذهب و تلك الحليّ، و نبقى نتمتّع بذاك الوميض البرّاق و تلك التجهيزات و الغرور و الكبرياء، الذي كنّا عليه حينما مضينا من الدنيا و تركناها، و لم نلتفت إلى أنّنا قد هجرنا عالم الاعتبارات من حين لحظة الموت، و أنّ المسافة التي تفصلنا عن هذه الوجاهات و الاعتبارات ما بين الأرض و السماء.
بعض الانحرافات الواضحة فيما يتعلّق بدفن الميّت
و للمرحوم الوالد العلّامة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، كلام يرتبط بهذا الموضوع، قد ذكره في المجلّد الأوّل من كتابه النفيس معرفة المعاد حيث يقول:
لقد خيّل لكم في الدنيا أنّ الآخرة تقتفي أثر الدنيا و تتمحور على شأن من شئونها، فأوصيتم أن:
ليقم الشخص الفلانيّ بتزيين مقبرتي بالمرايا، و ببناء قبري بالرخام، و بإعداد أثاث المقبرة و فراشها بشكل لائق، و بأن يضع على الدوام مزهريتي ورد على القبر، و ينضد حوله الأرائك الفخمة، و لينثر على قبري كلّ ليلة جمعة باقة من الورود اليانعة.
إنّ هذه أمور لا تنفع و لا تجدي شيئا، هذه زينة عالم الغرور لا عالم الملكوت، الميّت يذهب إلى الملكوت، و ينبغي أن يهدى له شيء ينفعه و يجديه.
إنّ ما سينفع الميّت آنذاك الأولاد الصالحون، و الصدقة الجارية، و العلم الذي خلّفه للناس لينتفعوا به، و الإنفاق على الفقراء و الضعفاء، و مساعدة البؤساء، و تربية الأيتام و تفقّد أحوالهم، و نشر العلم و التقوى في المجتمع، و إقامة الصلاة و تلاوة القرآن و التدبّر فيه، كما سينفعه طلب المغفرة له.
أمّا هذه الزينات التي سبق ذكرها، فعلاوة على أنّها لن تجديه نفعا فهي ضارّة له، لأنّ أخذ باقات الورد إلى الميّت و إهداءها إلى قبره بدعة و حرام، كما أنّ تزيين القبور بهذه الأشكال المذكورة حرام أو مكروه كراهة شديدة على أقلّ تقدير و هي أمور تؤذي الميّت. كما أنّ تجميل المقابر بمثل هذه الكيفيّة مخالف لتعاليم الإسلام.
إنّنا نتخيّل -و نحن نعيش في هذه الدنيا- أنّ شئون الآخرة تماثل شئون الدنيا، و هو تفكير سقيم
خاطئ، فنجد الميّت يوصي: ادفنوني في هذه المقبرة فأنا أخاف من الأرض التي لا سقف لها. ذلك لأنّه يتخيّل أنّ الأمر هناك كما هو هنا، فإذا دفنوه في غرفة ذات سقف فإنّه سيكون مصانا محفوظا، أمّا لو أودعوه التراب في أرض مستوية فانّ الثلوج و الأمطار ستؤذيه، كما إنّ حركة الناس فوق قبره و مزاره ستزعجه، و كفى بذلك جهلا!
لقد اصطحبت الملائكة الروح إلى عالم البرزخ، و صار البدن المطروح في القبر طعاما للديدان و الأفاعي، و لقد أهلكت هذه الجهالة جميع أفراد البشر، و قد ضجّ القرآن الكريم بالنداء:
﴿وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.﴾
لقد فنيت خيالاتكم و أوهامكم و تبدّدت في رمال العدم و في تيه الضلالة۱.
انتهى كلام المرحوم الوالد قدّس سرّه.
و على هذا الأساس يتّضح وجه هذا التأكيد على
الذهاب إلى المقابر، و زيارة أهل القبور! فيجب أن تكون المقبرة بسيطة، دون أن يزرع فيها الورود و النباتات و الأشجار، و دون أن تحدث فيها الأبنية، و ذلك لتبعث في النفس العبرة و الاتّعاظ، و لو كانت المقابر مشجّرة و مزيّنة بالورود، فسوف لا يعود الإنسان يفكّر بالموت أثناء زيارتها، بل سينعطف إلى هذه المظاهر، و هو خلاف هدف الشارع، و أمر مرفوض.
فالنّاس يتصوّرون أنّه لو كانت المقبرة خالية من هذه التزيينات، فستوجب الذعر و الخوف للأموات، و سيشعرون بالاضطراب و القلق؛ لذلك فهم يريدون أن يشغلوهم بهذه الأمور ليزيلوا عنهم وحشة العزلة -تماما كما كان ذلك زمن حياتهم في الدنيا- فيعمدون إلى إنشاء هذه الطبيعة الخضراء، ليلهوهم بها و يدخلون عليهم الشعور بالبهجة و السرور، و يبعدوا عنهم شبح الإحساس بالغربة. و لكنّهم غافلون عن أنّ الذي ارتحل إلى الدار الأبديّة قد انفتحت عينه على حقائق عالم الملكوت و خصوصيّاتها، و لا وجود لهذه اللذّة و السرور و الفرح و الانشراح الذي كان في الدنيا. فاللذّة و السرور في ذلك العالم يحصلان بواسطة شيء آخر؛ يأتي السرور من قراءة سورة الفاتحة لا من تشجير القبور و غرس
الورود فيها، يأتي من الإنفاق و الصدقات لا من العمران و تزيين المقابر. تماما كالمريض المصاب بمرض خطير، فبدلا من أن يأخذه أقرباؤه ليعاينه الطبيب و يعطيه و صفة الدواء و يشفى بواسطة العمل بها، يطوفون به في المنتزهات و الحدائق و مراكز اللهو و المباريات. فالذهاب إلى هذه المراكز مع هذه الحالة المبتلى بها لا يشفيه و لا يداويه، بل يوقعه في الهم و الغمّ و الألم، و يودي بحياته و يميته.
و نحن نريد أن نسري أفكارنا الخاطئة و تصوراتنا المغلوطة، و نطبّقها على شئون الأموات و أمورهم، فحيث أنّنا نستوحش من المقبرة، نعمد إلى تزيينها بالورود و الزرع، كي نرفع الخوف و نزيل الرعب الذي نحسّ به.
من المؤسف أنّه في هذه الأيّام، أصبحت مقابرنا تشبه أيّ شيء غير محلّ الأموات و مكان دفنهم، و هو ما يبعث الأسف و الألم الشديد، فمقبرة كهذه لا توجب العبرة للإنسان، و لا تنقله إلى تذكّر العالم الآخر، فصفوف بائعي الورد بجوار المقابر، تحرّك ذاكرة الإنسان نحو مجالس الفرح و البهجة أكثر منها إلى زيارة القبور، و هذا العمل خلاف نظر الشارع قطعا، و لا بدّ من الإقلاع عنه بشكل كامل.
و من الأمور الباعثة على التأسّف أيضا، ممّا قد رسخت و امتزجت بثقافتنا، كيفيّة إقامة العزاء و طريقة مجلس الفاتحة.
فقد تغيّرت مجالس الفاتحة في أيّامنا، فبدلا من كونها مجلسا لطلب المغفرة حسب السنّة المتعارفة و المتطابقة مع منهج أولياء الدين و طريقتهم، فقد تحوّلت حقيقتها إلى نوع من العمل المسرحيّ، و مهارة في فنّ التمثيل. و أصبح مديروها و هم: المشرفون و الخطيب الواعظ و المحاضر، كلّهم متّجهون صوب تحقيق هذه الأغراض. فبدلا من أن يسلّط الضوء في هذه المجالس على الآخرة و قراءة العزاء، يعمد إلى المظاهر و ذكر مفاخر المتوفّى. فيتمادون بمدح أصله و نسبه و عشيرته، و رفعهم إلى مستوى الأفراد الشامخين الأفذاذ، فمثلا: فلان كان ابنه طبيبا معروفا، أو صاحب منصب كذا و كذا .. و فلان ابنه الآخر مدير و وزير و غيره، و قد حصل زمن حياته على الشهادات الفلانيّة، و حيثيّته و شأنه بين أقرانه كانت كذا و كذا. و لو قصّر -لا سمح الله- الخطيب أو المعزّي في حقّ المتوفّى و أقربائه دون أن يتعرّض لهذه الخصوصيّات، فسيقوم أصحاب العزاء بما يلزم من العتاب و المحاسبة و التشديد عليهم، و سوف يقصونهم عن أيّة دعوة في المجالس اللاحقة؛ ليهيّئوا
الشخص الكفء و اللائق، القادر على أداء المطلب حقّه! و المتمكّن من إبراز شخصيّة الأقرباء مشرّفين و مرفوعي الرأس أمام سائر الناس.
البدع الوافدة من الغرب بالنسبة لمجالس العزاء
كذلك وضع الكئوس و صفّ الأكواب، و استقبال المعزّين بأصناف الفواكه و الحلويات، فإنّها تخرج هذه المجالس عن هدفها الأصليّ، و توجب صرف النظر إلى المظاهر المخالفة لمراد الشارع و رغبته؛ لذلك فهي خلاف نظر الشارع. كذلك السكوت و الوقوف تعظيما لمقام المتوفّى فهو من السنن الوافدة من الغرب، و هي محرّمة شرعا. و لم يأت في الإسلام الأمر بالسكوت أو تلاوة الفاتحة بحالة الوقوف، بل لو كان الإنسان جالسا فعليه أن يقرأ الفاتحة كما هو على هذا الحال، و لو كان واقفا فعليه أن يقرأها و هو كذلك.
و كذلك تغيير عنوانيّ «الترحّم» و «المغفرة» و استبدالهما ب «ذكرى تعظيم أو تخليد الميّت» فإنّه من الأمور المذمومة و غير المشروعة. فما وردنا من الإسلام و وصلنا من بيانات أولياء الدين هو طلب المغفرة و الترحّم و تعزية أهل الفقيد و تسلية خاطرهم، و تسكين نفوس أصحاب العزاء و المصيبة، و ليس التخليد و التعظيم و أمثال هذه الألفاظ و العبارات. ما ذا
تعني كلمة «التخليد»؟ فذاك المسكين قد ارتحل عن الدنيا، و هو الآن مبتلى بألف داء و ألف مشكلة، و يعاني من المصائب و واقع فيها، حينئذ نأتي و نقيم له مجلس التعظيم و نبجّله و نكرّمه! ينبغي أن يكون التعظيم و التكريم زمان حياته -و الحال أنّ كلّ ذلك هو اعتبار و توهّم و تخيّل- لا زمن وفاته و بعد مماته، حيث فات الأوان و انقضت الفرصة لذلك! حيث لم يبق عظمة و لا تعظيم و لا اعتبار و لا معتبر! الآن وقت الحساب لا العمل، و وقت كشف الحقائق لا الأمور التخيليّة و التوهميّة! الآن يسألون عن الصلاة و الصيام و الحجّ و الإنفاق و الأمر بالمعروف و الصدق و الأمانة و الإخلاص في العمل، و لا يسألون عن العناوين المصطنعة التي يخصّص بها نفسه، و يميّزها عن سائر بني نوعه، و لا عن الوزارة و الوكالة و المديريّة و المال و الكسب! يسألونه الآن عن الالتزام بالتكاليف في الدنيا، و أنّه إلى أيّ حدّ كانت أموره الحياتيّة و الاجتماعيّة جارية على رضا الله، و ليس عن رتبته و و ساماته و لباسه و غيره!
و من هنا، فإنّ مقتضى الالتزام بالقاعدة الكليّة، و لزوم اندراج الأفعال تحت ملاكاتها الشرعيّة، هو أن تندرج جميع
هذه الأمور تحت رضا الشرع، و أن تنحّى عن مبتدعات النفس الأمّارة، و تبتعد عن الأذواق الجاهليّة.
ورود النهي عن مشاركة النساء في مراسم التشييع و الدفن
و من جملة الأمور المذمومة أيضا، مشاركة النساء في مراسم التشييع و الدفن، حيث ورد فيه النهي من أولياء الدين بشدّة، و كانت السنّة في الإسلام على خلاف ذلك، لكن و مع الأسف، ما نشاهده اليوم هو رواج ذلك في الأوساط الشيعيّة، حيث يعدّ بنظر العوام أمرا مبرّأ من البدعة و الخطأ، بل يعتبرونه من أصول المعاشرة المتسالم عليها، و نوعا من الارتباطات الاجتماعيّة.
و الروايات الصادرة من أولياء الدين في هذا الباب، مورد اتّفاق كلّ من الشيعة و أهل التسنّن۱، و مع الأسف،
قد عملوا هم بهذه السنّة و التزموا بها، و لكن تخلّفنا نحن عن القافلة؛ و مع ذلك ندّعي أنّنا تابعون و مطيعون و أنّنا شيعة لمدرسة رسول اللّه و منهجه و سنّته! و الحال أنّه ينبغي أن نكون في طليعة كلّ الملل و الأقوام، فنبادر إلى العمل بأوامر رسول اللّه و مبانيه، و لا ندع المخالفين و المنحرفين لمذهب أهل البيت عليهم السلام يسبقوننا، و لنصبح عرضة للتّهمة، بأنّنا نعمل آراءنا الشخصيّة و ندخل في الدين ما ليس فيه.
إنّ إبعاد منهج رسول اللّه و إقصاءه، و عدم العمل به و الالتزام بأوامره و إحكام مبانيه، و بالتالي إعمال الذوق و النظريات الشخصيّة بما يتماشى مع المصالح الدنيويّة و النفس الأمّارة بغية إعجاب العوام، كلّ ذلك يرجع في الحقيقة إلى بيع الدنيا بالآخرة، و هو ترجيح الخسران على السعادة و الفلاح، فبذاك المقدار الذي يعمد فيه المخالفون إلى العمل على خلاف أوامر الله و رسوله، طبقا للميل الدنيويّ و رغبات النفس الأمّارة، بهذا المقدار سوف يقصون أهل البيت و العترة، ليقعوا في تبعيّة أفراد آخرين، و يكونون بذلك قد خرجوا عن طريق الحقّ، و تخطّوا الصراط المستقيم، و هو ما يجعلهم قابعين تحت نير السخط الإلهيّ و غضب رسوله. فلا قدّر الله أن نوهم أنفسنا بأنّنا ملتزمون بأمر
رسول اللّه و ولاية أئمّة الهدى، فنظنّ أنّنا تابعون لإمامتهم صلوات الله عليهم أجمعين، ثمّ نعمد إلى مخالفة سنّة رسول اللّه، و نقع في تجاوز منهجهم بشكل عمليّ، و إذا قال لنا المخالفون: قد أدرتم رحى تبعيّة أوامر رسول اللّه و طاعته على ولاية أهل بيته و إمامتهم، فأنتم تنوحون على ذلك و تلطمون صدوركم لأجله، ثمّ بعد ذلك لا تلتزمون بأوامرهم و لا تقتدون بسنّتهم، فأيّ جواب ينبغي أن نتفوّه به؟!
و من هنا، حيث اتّضحت كيفيّة و حقيقة سنّة رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم بالنسبة لانعقاد مجالس العزاء، نعلم أنّه ليس لدينا في الإسلام شيء يسمّى بـ الأسبوع أو الأربعين أو الذكرى السنويّة؛ لذلك يتّضح جليّا أنّ هذه المناسبات مخالفة لسيرة الإسلام و سنّته.
لم يرد في الإسلام ذكر «الأسبوع» و «الأربعين» و «الذكرى السنويّة» للاموات
فأمّا «الأسبوع» و «الذكرى السنويّة»، فلم نلمح لهما أيّ اسم و لا ذكر في الإسلام قطعا. و مع الأسف، فقد أصبحت في الأوساط الشيعيّة -و بالخصوص لدى الإيرانيّين- سنّة خاطئة و جارية و شائعة، و كأنّها أمر لا غنى عنه و لا يترك و لا يقبل الخلاف و النقاش!!
فـ الذكرى السنويّة حسب التراث الشيعيّ الأصيل مختصّة فقط بالمعصومين عليهم الصلاة و السلام؛ و ليس
لدينا أيّ مدرك تاريخيّ و لا روائيّ يثبت أنّ الأئمّة عليهم السلام أمروا بتشكيل مجالس «الذكرى السنويّة» لأحد من صحابتهم؛ فالذي ورد الحثّ و التأكيد عليه من تشكيل مجالس الذكرى، مختصّ بإحياء ذكرى أهل البيت فقط.
و من باب المثال: نجد أنّ الإمام الباقر عليه السلام قد أوصى بعد شهادته، أن يقام له في منى المآتم و يندب لمدّة عشر سنوات، و يتعرّض فيها إلى ما كان الخلفاء يوردونه على الإمام، و يتمّ توضيح ذلك للنّاس۱.
و كذلك فيما يتعلّق بحضرة سيّد الشهداء عليه السلام، فقد وردنا روايات كثيرة إلى حدّ التواتر۱. بل حتّى لو لم يتمّ التأكيد في الروايات على إقامة مجالس أهل البيت، فيجب علينا أن نحكم بوجوب إقامة هذه المجالس تمسّكا بعموم إحياء ذكر أهل البيت عليهم السلام، سواء مجالس المواليد أم الشهادات، و لا مجال لتطرّق الشكّ في ذلك من ناحية الثقافة الشيعية.
أمّا اليوم، فإنّنا نراهم يحيون «الذكرى السنوية» لسائر الأفراد، فيكرّرون ذلك كلّ سنة، حتّى و لو نخلت عظامه و استحالت ترابا، فإنّهم لا ينسون الميّت و لا يتركونه. نعم، من الواضح أنّ قلوب أصحاب هذه المجالس غير محترقة و لا مقروحة على الميّت، فهم يلاحظون استمرار منافعهم في هذه المجالس، و يرون أنّ حياتهم و بقاءهم مرهونين بانعقاد هذه المجالس، و يتصوّرون أنّهم بواسطة تعطيل هذه المجالس سيصبح الميت نسيا منسيا، و بالتّبع فإنّ الأفراد المرتبطين بهذا المتوفّى، سوف يكتسبون بهذه المجالس المنافع و المصالح
الدنيويّة، و بدونها سوف ينسون أيضا، فيسعون جاهدين و بأيّة وسيلة أو حيلة، و بتحمّل العذاب و المشقّات أن يحفظوا اسم الميّت و يحيوا ذكره، بسائر الحجج و الحيل الواهية، و من خلال كلّ الظروف المتاحة لهم!
إنّ سورة التكاثر الشريفة التي ورد فيها: ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ﴾۱ ناظرة إلى هذه الطائفة من الناس. فعلى الشيعيّ أن يحكم ثقافته على أساس سنّة رسول اللّه، كي يستفيد من بركات هذه التبعيّة و الاستنان به أولا، و ثانيا كي لا يكون ألعوبة أو وسيلة بيد المخالفين و المواجهين للتشيّع، و لا يمكّنهم من الطعن و الاعتراض على التشيّع، و لا يكون مدعاة لتسليط أقلامهم و تصريحاتهم على التشيّع.
و أمّا مسألة «الأربعين»، فإنّها أشنع و أقبح من مسألة «الأسبوع» و «الذكرى السنويّة» قطعا؛ و ذلك لأنّه فضلا عن عدم وجود أيّ خبر أو أثر عن الأئمّة عليهم السلام يفيد إقامة ذكرى الأربعين عن روح الأموات، فإنّ مسألة الأربعين من شعائر التشيّع و خصوصيّاته، و هي مختصّة
فقط و فقط بحضرة أبي عبد الله الحسين أرواحنا فداه، لا غير!
إحياء الأربعين لجميع الأموات يخرجها عن كونها شعارا خاصّا لسيد الشهداء
و لو انجرّ الأمر إلى صيرورة إقامة مجالس الأربعين على الأموات بعنوانها سنّة و رسما ثابتا، فكيف يمكن حينئذ أن تكون شعارا و علامة و امتيازا لسيّد الشهداء! و لو كان هناك رجحان من قبل الشارع لإقامة ذكرى الأربعين لسائر الأفراد، فلما ذا لم نجد هذه المرغوبيّة بالنسبة لسائر الأئمّة عليهم السلام، بل و رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم؟! و مع كون ذلك بالنسبة لهؤلاء العظماء أولى بهم و أجدر، بل و حتّى مع وجود كلّ هذا التأكيد على إقامة مناسبات أهل البيت عليهم السلام، و التشديد على الاستفاضة منها، فإنّنا مع كلّ ذلك لم نلحظ أيّ أثر من الأئمّة بالنسبة لإقامة الأربعين على غير سيّد الشهداء عليه السلام.
و هذه المسألة تكشف عن أنّ إقامة الأربعين لغير سيّد الشهداء عليه السلام غير مرضيّ لهم قطعا؛ بداهة أنّهم أمروا بإحياء ذكرهم، و حثّوا على تشكيل المجالس، إلّا أنّهم لم يتعرّضوا لمسألة الأربعين إلّا في خصوص سيّد الشهداء.
و لو قيل: ما هو الإشكال في أن تقام مجالس الأربعين
عن روح الأموات، بغية لطلب المغفرة و الرحمة، دون أيّ داع أو غرض آخر، و بعبارة أخرى: يكون الداعي لعقد الأربعين عن روح المتوفّى الجهة المعنويّة و العباديّة دون الاعتبارات و المنافع الدنيويّة -التي مرّ ذكرها- فأيّ إشكال في ذلك، و أيّ منع سوف يتوجّه من قبل الشارع في هذه الحالة؟
فإنّ جوابه:
أولا: ما هو الفرق بين الأربعين أو الثلاثين أو الخمسين و غيرها حينئذ؟ و لأيّ سبب يجب عقد مجلس الترحّم عن روح الميّت في رأس الأربعين؟! و لو كان من المقرّر أن ينعقد مجلس لذكرى الميّت، فلما لا يقيمونه بعد ثلاثين يوما أو خمسين؟!
ثانيا: إنّ العبادة الصادرة من العبد، إنّما تقع مقبولة و مرضيّة فيما لو كانت متطابقة مع الأمر الإلهيّ، دون أن تصدر من تلقاء نفسه أو متأثّرة بمزاجه. فالشرط الأساسيّ في صحّة العبادة هو التقرّب و الانقياد؛ و هاتان المسألتان متفرّعتان على حيثيّة توقيفيّة العبادة و جهة تعبّديتها. و ما لم يصدر الأمر بالعبادة من الشارع، فسوف يكون الإتيان بها
بدعة و ضلالا و حراما؛ حتّى و إن قصدنا القربة و الرجاء ألف مرّة، فسوف لا يكون لهذا العمل أيّة قيمة و لا وزن من وجهة نظر الشارع.
نعم، لو كانت المسألة بحيث يكون رجحان الفعل محررا -من جهة معيّنة- بالنسبة للمكلّف، أو على الأقلّ محتملا، و لم يكن هناك دليل قطعيّ على الرجحان الشرعيّ، ففي هذه الحالة لا مانع من الإتيان بالفعل بداعي الثواب و رجاء التقرّب. و لكن ما نحن فيه فضلا عن عدم كونه واجدا للرجحان الاحتماليّ العقليّ، فإنّه و من خلال القرائن و الشواهد العقليّة و النقليّة مرجوح و مفضول، و في هذه الحالة لا مجال لداعي التقرّب و الإتيان به رجاء للثواب، و سوف يكون الإتيان به منافيا لنظر الشارع و مخالفا لرضاه، أو سيكون باطلا و مكروها كراهة شديدة قطعا.
و حسب الاتّفاق، فإنّ مسألة «الأربعين» من هذا القبيل، حيث لو كان الإتيان بها ممضى و مرضيّا من ناحية الشارع، لكان من المحتّم أن يصدر شيء يتعلّق بهذه المسألة طوال مدّة إمامة و ولاية المعصومين عليهم الصلاة و السلام،
و لصدر منهم شيء من التوصيات و الأوامر فيما يتعلّق بها، و الحال أنّه لم يتّفق شيء من ذلك، بل لم يشر إلى مورد واحد لا تصريحا و لا كناية! و الحال أنّه لم يكن هذا الموضوع من الموضوعات المنحصرة بخصوص زمان تواجد المعصومين عليهم السلام فقط، بل هو على العكس من ذلك، فهو موضوع حيويّ و عامّ البلوى، و متجدّد في كلّ سنة و كلّ شهر و كلّ أسبوع بالنسبة لهم و أصحابهم و أقربائهم، و مع كلّ ذلك لم يصدر أيّ تشويق منهم أو حثّ أو ترغيب لأصحابهم، أو على الأقل صدور الإجازة بعقد هذه الذكرى، لأجل ذلك، يمكننا أن ندّعي -بضرس قاطع- أنّه لم يكن انعقاد مجلس «الأربعين» على الأموات مورد رضى للأئمّة المعصومين عليهم السلام، و أنّ نظرهم قائم على اختصاص «الأربعين» بحضرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
إلى هنا ننهي هذه الرسالة، و حتّى مع كون المسألة تحتاج إلى بسط أكثر، بلحاظ جهاتها المختلفة، إلّا أنّه مع ملاحظة الرغبة في عدم التطويل، نكتفي بما تمّ ذكره، آملين من أتباع مدرسة الولاية و مذهب التشيّع، أن يقلعوا
عن هذا الرسم و هذه العادة الجارية المبغوضة لله، من قبل أولياء الدين، و يتأسّوا بالسنّة السنيّة لرسول اللّه و أئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، و يكون هدفهم و غايتهم من كلّ أفعالهم و سلوكهم هو الانقياد و الإطاعة للممشى القويم و الصراط المستقيم لأئمّة الهدى عليهم السلام، الذين تنحصر الهداية و الفلاح في إطاعتهم و انتخاب دستوراتهم و أوامرهم فقط لا غير۱.
ربّنا و اجعلنا من شيعة أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين عليهم السلام و الذابّين عنهم، و لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت التوّاب الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.
و السلام علينا و على جميع عباد الله الصالحين و رحمة الله و بركاته.
ليلة الجمعة، في الرابع عشر من صفر سنة ۱٤٢٦ هجريّة قمريّة
المشهد الرضويّ المقدّس على ثاويه آلاف التحيّة و السلام
السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني