المؤلّفمدرسة الوحي
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
المجموعةمقالات الورد والذكر
العدد التسلسلي4
التوضيح
تتحدث هذه المقالة عن مراتب الذكر المختلفة وعلاقة ذلك بمراتب عالم الوجود ومراحل السير والسلوك. وهي المقالة الرابعة من سلسلة مقالات حول الذكر والورد في السير والسلوك.
جدير بالذكر أن هذه المقالات قد استفادتها الهيئة العلمية لموقع مدرسة الوحي من محاضرات شرح رواية عنوان البصري لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه
هو العليم
اختلاف الأذكار باختلاف الأحوال والأوقات والمراتب
المقالة الرابعة من سلسلة مقالات حول
الذكر والورد في السير والسلوك
بالإفادة من محاضرات شرح رواية عنوان البصري
لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه
تمهيد الهيئة العلمية
بين يديك أخي القارئ بحث حول الذكر والورد في السير والسلوك، مستفاد من محاضرات سماحة آية الله الراحل السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه حول الذكر في شرح فقرة: «مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تشغلني عَن وِردي وخُذ عَن مالكٍ واختَلِف إليهِ كَما كُنتَ تَختَلِفُ إليه» من رواية عنوان البصريّ، والتي شملت المحاضرات من الثامنة إلى الثامنة عشرة من سلسلة شرح تلك الرواية.۱
ويقع البحث ضمن فصول يصلح كلّ منها مقالة مستقلّة صغيرة:
المقالة الأولى: حقيقة الذكر والورد
المقالة الثانية: تأثير الذكر وكيفيّة هذا التأثير
المقالة الثالثة: ضرورة الذكر ومشروعيّته
المقالة الرابعة: اختلاف الأذكار باختلاف الأحوال والأوقات والمراتب (وهي هذه المقالة التي بين يديك)
المقالة الخامسة: الظروف المحيطة بالذكر النافع
المقالة السادسة: أسئلة وملاحظات ترتبط ببعض جوانب الذكر
أعوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيم
بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم
الحمدُ لِلّه ربِّ العالمينَ و الصّلاةُ و السّلامُ على أشرفِ المرسلينَ
وخاتمِ النّبيّينَ أبي القاسمِ محمّدٍ و على آلِهِ الطّيّبينَ الطّاهرينَ
واللعنةُ على أعدائِهم أجمعين
لعالم الوجود مراتب مختلفة وظهورات متفاوتة
إنّ لعالم الوجود مراتب ومراحل مختلفة: فهناك عالم المادّة وعالم البرزخ والمثال، وعالم الملكوت وعالم الجبروت وعالم اللاهوت. وهذه المراتب تبدأ من مرتبة المادّة وتنتهي إلى مراتب الأسماء الكليّة ومرتبة ذات الحقّ.
انطباق عبادات الإنسان وأذكاره مع ظهورات العوالم العليا
وحتمًا لا بدّ للسالك لكي يصل إلى هذه المراتب أن يقوم في كلّ مرحلة بأعمال متناسبة مع دقّة ولطافة ظهورات العوالم العليا. وهذه الأعمال لا بدّ أن تلاحظ في كلّ مرتبة من المراتب، ولا يمكن أن تكون على نسق واحد. لأنّ الإنسان خاضع لقانون يقتضي في كلّ مرتبة ظهورًا وبروزًا، تمامًا كما تتكلّمون مع الأطفال بطريقة، ومع الكبار بطريقة أخرى.
لماذا يجب أن تكون صلاة الصبح ركعتين وصلاة الظهر والعصر أربع ركعات وصلاة المغرب ثلاث ركعات؟ هل جعل الله هذه العبادات للناس على أساس ميوله ورغباته كالميول والرغبات التي عندنا نحن؟!
إنّ طبيعة وجود الإنسان في طيّه لمدارج الكمال وفي علاقته مع الأحداث التي حوله تقتضي أن تكون له عبادات مختلفة على مرّ الليل والنهار فتكون صلاة الصبح ركعتين وصلاة الظهر ركعة واحدة. إنّ طلوع الفجر يترك على القوى الروحيّة والجسديّة للإنسان تأثيرًا معيّنًا يقتضي القيام بالعبادة بهذه الطريقة الخاصّة، وذلك التأثير ليس موجودًا في صلاة الظهر، بل لها تأثيرها الخاصّ.
ومن المشهود بشكل واضح أنّ حال الإنسان في وقت ما بين الطلوعين يختلف عن حاله وقت الغروب، فبين الطلوعين عندما تطلع الشمس يصيبه حال انبساط، وعند غروب الشمس حيث تلملم الشمس أشعّتها يصيبه حال غمّ وانقباض. في حين أنّ حقيقة الوقتين واحدة وكلّ منهما مظهر من مظاهر الله ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ﴾.۱ والإرادة التي يمكن أن تتحقّق عند الإنسان في أحد هذين الحالين مختلفة تمامًا عن الأخرى.
وعند الظهر تظهر لدى الإنسان حالة خاصّة لا وجود لها عند الصباح والغروب، لذلك فإنّ الدعاء أقرب إلى الإجابة عند الظهر منه في سائر الأوقات، وقد كان الأعاظم أيضًا يهتمّون لصلاة الظهر أكثر من سائر الصلوات. .٢ و٣ وكافّة هذه الاختلافات هي بسبب كيفيّة العلاقة بين النظام الوجوديّ للإنسان والنظام الحاكم على ما حوله، وإلا كان ينبغي أن لا تختلف تلك الحالات.
إنّ كافّة موجودات هذا العالم متفاعلة فيما بينها، فالكواكب والأجرام السماويّة لها تأثيرات عجيبة جدًّا على خصوصيّات عالم المادّة، وأصحاب الطلاسم والعلوم الغريبة لهم كلام في ذلك، وترتكز علومهم إلى العلاقات بين الأجرام السماويّة. فأن يكون لذِكر معيّن عند الاقتران أو التقابل بين كوكبين آثار مختلفة، فذلك بسبب كيفيّة العلاقة بين النفوس الملكوتيّة لهذه الكواكب وبين القضايا التي تقع في هذه الكرة الأرضيّة، وهذا التفاعل يسبّب كيفيّة خاصّة من أعمال الإنسان، ولذلك فإنّ التأثير الذي للعبادة والذكر بين الطلوعين هو خاصّ بذلك الوقت.
والأدعية التي وصلت عن الأئمة المعصومين عليهم السلام قد بيّنت على أساس الحالات والمراتب المختلفة للإنسان في الظروف المختلفة، ولا يمكن لأحد أن يقوم بقراءة كتاب للأدعية من أوله لآخره. فلكلٍّ من أدعية الافتتاح وأبي حمزة وكميل والصباح أثره الخاصّ الذي لا يمتلكه الدعاء الآخر.۱ والأثر الذي في المناجاة الشعبانيّة ليس موجودًا في أدعية شهر رجب، فهذا الدعاء لشهر رجب وذاك لشهر شعبان، وربّما كانت قراءة بعض الأدعية في بعض الحالات غير جيّدة للإنسان.
كان أحد العلماء يمثّل للعمل الصالح والعمل الحسن وأنّه يمكن أن يكون بينهما اختلاف بهذا المثال:
"في يوم من الأيّام دُعينا إلى مجلس عزاء لأحد العظماء في أعلى المدينة، وبدلاً من أن يتحدّث الخطيب عن الآخرة وعدم التعلّق بالدنيا ومسائل القبر والحساب والكتاب وهذا النوع من المطالب ممّا له أثر في التنبيه والتذكّر، كان يتحدّث عن أنواع الكلاب ويقول: لدينا أنواع من الكلام: كلب الماشية والكلب البرّي وكلب الحراسة وكلب الصيد، وذبيحة كلب الصيد حلال في الإسلام."
وعندما نزل عن المنبر قلت له: سيدي العزيز! إنّ كلامك حسن وجيّد ولكنّه ليس كلامًا صالحًا ولا صلاحيّة له. فصحيح أنّ لدينا أنواعًا عديدة من الكلاب، ولكنّ هذا الكلام لا ينفع لمجلس الفاتحة؛ فالذين افتقدوا واحدًا من أسرتهم لم يأتوا إلى هذا المجلس ليسمعوا كلامًا عن الكلاب.
إنّ كلّ واحد من الأدعية التي وردت عن الأئمة عليهم السلام لأجل تكامل الإنسان، يحتاج إلى مرتبة خاصّة، فلو قرأتم عند غروب الشمس دعاء الصباح المختصّ بالصباح فإنّه لا ينسجم أصلاً. ولو قرأتم دعاء السمات الذي ورد لعصر يوم الجمعة يوم صبح الجمعة فلن يكون له ذلك الأثر. ودعاء الافتتاح وارد لليالي شهر رمضان المبارك، لا للصبح إلى الظهر، فهذا الدعاء هو لوقت يكون فيه الإنسان لم يقم بمبطل من السَّحر إلى الغروب، وقد ترك الصوم فيه أثره، وتكون بعد الافطار قد ظهرت للصائم آثار خاصة.
فلو كان المطلوب أن يقرأ الإنسان الأدعية من أول مفاتيح الجنان إلى آخره فإنّه كمن يجعل في قِدر واحد الأرزّ والخلّ والسكّر والحمّص ولم يتمكّن أحد بعد ذلك أن يتناول منها شيئًا.
فإن قيل: إنّ كافّة هذه الأدعية واردة عن المعصوم، فلا بدّ أن يقال: المعصوم أيضًا لم يكن يقرأ الدعاء بهذا النحو، فالإمام عليه السلام كان يقرأ كلّ دعاء في وقت بما يتناسب وحالَه.
يمكن لذكرٍ أن يكون مفيدًا للإنسان في حال معيّن، ولكنّه بعينه ليس له تلك الفائدة في حال آخر، بل يمحو أثر الحال السابق. وذلك لأنّه كما أنّ النظام المزاجيّ للإنسان محكوم بقوانين لا بدّ من مراعاتها لتحقيق الصحّة و السلامة، فكذلك نظام التكامل الروحيّ والترقّي النفسيّ للإنسان محكوم بقوانين لا بدّ من اتّباعها في تحقيق فعليّة تلك القوى، وإلاّ فلن يحصل تكامل للنفس.۱
على الإنسان أن يصل إلى الأسماء والصفات الكليّة للحق الله تعالى من خلال نفس تلك الأسماء والصفات الكليّة التي يتصرّف الله في الكون بواسطتها.
وستكون الأسماء والصفات الكليّة مختلفة بحسب المراتب، فبالنسبة إلى المبتدئ هناك معنى، وبالنسبة إلى السالك الذي قطع شوطًا هناك معنى آخر، وبالنسبة للإنسان الذي بلغ مرتبة أعلى هناك معنى مختلف. والعبور من كلّ مرتبة يوصل الإنسان إلى مرتبة أعلى من الأسماء الكليّة ولهذه الأسماء والصفات في كافّة المراتب حكم القوّة الرافعة التي تعدّ لوصول الإنسان إلى الدرجات الأعلى من التجرّد.٢
الذكر في البداية يؤدّي إلى رفع الصدأ من القلب، وفي العوالم الأخرى يؤدّي إلى التجليّات٣
تلخيص واستنتاج
[تختلف الأذكار من حيثيّات عدّة: الكمّ والكيف، المعنى، الأثر.
يتحكّم باختلاف كمّ الأذكار وكيفها أمران:
اختلاف المراتب الوجوديّة التي يطويها الإنسان من عالم المادّة إلى المثال إلى الصفات والأسماء.
اختلاف حالات الإنسان في الأوقات المختلفة في عالم المادّة فوقت الصبح يختلف في حالاته عن الظهر والليل ولذلك وردت الأدعية مختصّة بأوقات معيّنة.
يتحكّم في اختلاف معنى الذكر الواحد وأثره المرتبة الوجوديّة التي يكون فيها الإنسان فذكر لا إله إلا الله مثلاً يدرك منه الإمام ما لا يدركه أحد، وأثره بالنسبة إليه هو حصول التجليّات وأمّا غير الإمام فأثره هو جلاء صدأ القلب.
يترتّب على اختلاف الذكر باختلاف المراتب والأحوال عدم جواز القيام به بشكل عشوائي وربّما أدّى ذلك إلى إفساد الأذكار أثر بعض الأذكار الأخرى.
المستند في اختلاف الأذكار باختلاف المراتب والأحوال هو سيرة الأئمّة عليهم السلام حيث كانوا يراعون ذلك في قيامهم بها وفي تعليمها الناس. ]