المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم التاريخ و الاجتماع
التوضيح
كان الإسلام المحمّديّ بحاجة إلى هزّتين: هزّة عمليّة، وأخرى علميّة؛ أمّا الهزّة العمليّة فقد تحقّقت على يد سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عليه السلام، وأمّا الهزّة العلميّة فقد تحقّقت على يد الإمام الصادق عليه السلام
هو العليم
نجدة الإسلام بحركة الإمام الحسين (عليه السلام) العمليّة
وحركة الإمام الصادق (عليه السلام) العلميّة
بحث منتخب من «معرفة الإمام»
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلاّ باللهِ العليّ العظيم
حالة الإسلام في عهد معاوية ويزيد
تحدّث رجل ذات يوم مع معاوية بكلام حادّ ولم يردّه. وعندما آخذوه على ذلك قال: لا شغل لنا بأحد ما لم يتعرّض لحكومتنا. ونفهم من هذا كلّه أنَّ معاوية جعل نبوّة رسول الله حكومةً وإمارة مستلهماً ذلك من توجيهات عمر. كما أنّه كان ينظر إلى المقدّسات الإسلاميّة بعين الازدراء.
وقام بعد ذلك بنصب يزيد حاكماً على الطريقة المَلَكيّة، وأخذ له البيعة من الناس. وقوّض كيان الإسلام الذي قام عوده بجهاد رسول الله وجهاد رجال مثل: حمزة، وعليّ بن أبي طالب عليه السلام. وأطاح بالسنّة المحمّديّة تماماً. وفي ضوء كلامه فإنَّ الصلاة، والصوم، والحجّ، والزكاة، للناس.
ومارس السياسة الكسرويّة والقيصريّة مع العرب وعامّة المسلمين. وبلغ الأمر حدّاً لم يعرفوا فضل عليّ وشرفه وسوابقه في الإسلام، والأنكى من ذلك أنّهم كانوا يرونه إنساناً معتدياً وينظرون إليه بعين المنكر. وطمست حقيقة النبوّة المتجلّية في الولاية، ولم يبق من الإسلام إلّا اسمه ومن القرآن إلّا رسمه. أي: أنَّ الأمور كانت تسير بشكل يُخَال فيه الإسلام ظاهرة تأريخيّة قد طرأت ثمّ عفى أثرها على كرور الأيّام.
نجدة الإمام الحسين عليه السلام للإسلام بحركته العمليّة
وكان الإسلام المحمّديّ بحاجة إلى هزّتين: هزّة عمليّة، وأخرى علميّة.
أمّا الهزّة العمليّة فقد تحقّقت على يد سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عليه السلام. فكانت كالصاعقة على رؤوس الجبابرة إذ هزّت السلطة الأمويّة المتفرعنة، وأحدثت ضجّة كبيرة كالبركان. وكانت صرخة الإمام قد بلغت مبلغها بحيث إنَّها أحيت كلّ ميّت، وأيقظت كلّ راقد، ودلّت عمليّاً على أنَّ النظام المحمّديّ قد بُدّل بحكومة طاغوتيّة. وأنَّ العالم الإسلاميّ الممتدّ بين الصين وأقاصي مصر وإفريقيا يحترق بنار الظالمين المعادين للإسلام والمعاندين له الذين استبدلوا السنن الجاهليّة بالسنن المحمّديّة، وفعلوا تلك الأفاعيل باسم الإسلام. ووقع طائر الصدق والأمانة والإيثار والولاية والمحبّة والطموح، بِيَدِ الصيّاد القاسي مصّاص الدماء.
ولا يعقل لهذه الهزّة طريق أفضل وخطّة أعلى وفكر أصوب ونهج أقوم من نهج سيّد الشهداء. وضرب الإمام ضربته كما ينبغي عبر اختيار هذه الحركة الغاضبة المستعرة، وهذا الحبّ المتّقد الوهّاج، وحدّد أهدافه وخططه من خلال خطبته التي أعلن فيها قائلًا:
«اللَهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ مِنَّا تَنَافُسَاً في سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَاً مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرَى المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإصْلَاحَ في بِلَادِكَ، وَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَيُعْمَلُ بِفَرَائِضِكَ وَسُنَنِكَ وَأحْكَامِكَ.
فَإنْ لَمْ تَنْصُرُونَا وَتَنْصِفُونَا قَوِي الظَّلَمَةُ عَلَيْكُمْ وَعَمِلُوا في إطْفَاءِ نُورِ نَبِيِّكُمْ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْهِ المَصِير».۱
نجدة الإمام الصادق عليه السلام للإسلام بحركته العِلميّة
وأمّا الهزّة العلميّة فقد تحقّقت على يد الإمام الصادق عليه السلام. إذ نقل لنا التأريخ أنَّ ظروف الحكومة والرئاسة كانت مهيّأة للإمام الصادق عليه السلام أكثر من غيره، وأنَّ متطلّباتها ووسائلها كانت ميسّرة له أفضل من الآخرين، وذلك بعد ثورة المسلمين على الحكومة الأمويّة، وحركة أبي مسلم الخراسانيّ ضدّ النظام الأمويّ.
بَيدَ أنَّ الإمام لم يَخْطُ على هذا الطريق خطوة واحدة، لأنّه كان يعلم جيّداً أنّه لو تسلّم مقاليد الأمور، فإنَّه سيكرّس وقته كلّه من أجل الإصلاحات العمليّة والمباشرة في تنظيم البلاد والمدن، واستبدال أهل العدل بأهل الجور، وترتيب شؤون الديوان والقضاء وسائر الشؤون كالحرب وقمع المعارضين، فلا يبقى حينئذٍ مجال للمدرسة العلميّة وتبيان السنّة المحمّديّة، والانشغال بالفقه والتفسير والحديث، واستبدال السنن المحمّديّة بالسنن الجاهليّة، وكشف الحقائق للناس، وعرض الولاية، وحقيقة النبوّة عليهم، وطرح الإسلام الصحيح القويم على الأجيال جيلًا بعد جيل حتّى يوم القيامة، وهذه المدرسة العلميّة تحتاج إلى وقت طويل وجهاد عظيم. فلهذا لم يهدأ الإمام لحظة واحدة على امتداد ثلاثين سنة، إذ كان يمارس نشاطه العلميّ ليل نهار عبر جهاد النفس والجهود التي لم تعرف الكلل والملل. واستطاع أن يعرض الدين الصحيح، ويحيي روح النبيّ وعليّ والولاية.
فلهذا عرفت المدرسة الشيعيّة بالمدرسة الجعفريّة، مع أنَّ الأئمّة عليهم السلام جميعاً كانوا حماة هذا الدين وهذا النظام الصحيح، إلّا أنَّ الظروف العلميّة كانت مؤاتية للإمام أكثر من غيره، بخاصّة في ذلك العصر الذي اهتمّ فيه العلماء من شتّى الأديان والمذاهب بنشر آثارهم وبثّ علومهم وعقائدهم بكلّ حرّيّة، وكذلك اهتمّ الحكماء والمتكلّمون والفلاسفة من كلّ مذهب وفرقة بما اهتمّ به أولئك العلماء. فاقتضت إرادة الله أن يكون الإمام هو فارس الميدان في هذا المجال.
فقام بتشكيل المدارس العلميّة في المدينة والعراق، وانبرى إلى تربية الطلّاب وإعدادهم، وطرح ما أراد طرحه، وكشف الغطاء عمّا ينبغي أن يكشف عنه الغطاء وذلك من خلال دروسه الزاخرة بالبحث والاستدلال والبرهان، التي كان يلقيها على آلاف الطلّاب والمحدّثين والمفسـّرين والخطباء والحكماء حتّى اعترف الصديق والعدوّ والمؤالف والمخالف بوفور علم الإمام وتقواه وإعراضه عن زينة الحياة الدنيا، وعلوّ فكره، وقداسة رأيه، وهمّته العالية، ومدرسته الرفيعة السامية.
يقول الإمام أبو الفتح محمّد الشهر ستانيّ المتوفّى سنة ٥٤۸ هـ، وهو من العامّة لا من الشيعة، بل ويقدح بالشيعة أيضاً، يقول في الإمام الصادق:
أبُو عَبْدِاللهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، ذُو عِلْمٍ غَزِيرٍ في الدِّينِ، وَأدَبٍ كَامِلٍ في الحِكْمَةِ، وَزُهْدٍ بَالِغٍ في الدُّنْيَا، وَوَرَعٍ تَامٍّ عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقَدْ أقَامَ بِالمَدِينَةِ مُدَّةً يُفِيدُ الشِّيعَةَ المُنْتَمِينَ إلَيْهِ، وَيُفِيضُ عَلَى المُوَالين لَهُ أسْرَارَ العُلُومِ، ثُمَّ دَخَلَ العِرَاقَ وَأقَامَ بِهَا مُدَّةً، مَا تَعَرَّضَ لِلإمَامَةِ قَطُّ وَلَا نَازَعَ أحَدَاً في الخِلَافَةِ؛ وَمَنْ غَرِقَ في بَحْرِ المَعْرِفَةِ لَمْ يَطْمِعْ في شَطٍّ، وَمَنْ تَعَلَّى إلَى ذِرْوَةِ الحَقِيقَةِ لَمْ يَخَفْ مِنْ حَطٍّ. وَقِيلَ: مَنْ أنِسَ بِاللهِ تَوَحَّشَ عَنِ النَّاسِ، وَمَنِ اسْتَأنَسَ بِغَيْرِ اللهِ نَهَبَهُ الوَسْوَاسُ.۱
وكان أحمد أمين المصريّ ينظر إلى الشيعة نظرة سيّئة حتّى أنّه يتّهمهم، بَيدَ أنّه يقول في الإمام الصادق بعد عرض ما قاله الشهر ستانيّ: إنَّهُ مِنْ أوْسَعِ النَّاسِ عِلْمَاً وَاطِّلَاعَاً. ولقّب بالصادق لصدقه. عاش بين سنة ۸٣ و۱٤۸ هـ. ولم يرغب في الرئاسة والحكومة، ومع ذلك لم يسلم من إيذاء المنصور الدوانيقيّ. وكان له بستان جميل في المدينة يجتمع إليه فيه جميع العلماء على اختلاف آرائهم ومذاهبهم. وروي أنّه كان من تلامذته أبو حنيفة، ومالك بن أنس الفقيهان المشهوران. وكان واصل بن عطاء المعتزليّ، وجابر بن حيّان الكيمياويّ المعروف من طلّابه. ثمّ ينقل أحمد أمين بعضاً من كلمات الإمام في الإرادة والقضاء والقدر، ويثنى على علم الإمام الكثير.٢
أجل، ينبغي أن تؤلّف الكتب حول حركة سيّد الشهداء العمليّة العسكريّة، وحركة الإمام الصادق العلميّة وترابط الحركتين بعضهما ببعض كي تستبين حقيقة الأمر. وها نحن قد قدّمنا بين يدي أرباب البحث نقاط إثارة كي يتابعوا هذا الموضوع بأنفسهم ويقفوا على عظمته.
[ملاحظة: انتخب هذا البحث من (كتاب «معرفة الإمام» ج۸، ص٢٣٣ إلى ٢٣۷)، تأليف المرحوم العلاّمة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، وقد تمّ توثيقه ومقارنته مع المصدر الفارسي من قبل الهيئة العلميّة في لجنة الترجمة والتحقيق، وتجدر الإشارة إلى أنّ العبارات والهوامش التي وقعت بين معقوفتين هي من الهيئة العلميّة]