المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحقيقة الدنيا والشيطان
التاريخ 1425/03/04
التوضيح
هل تتحدّد مكانة الإنسان عن طريق حبّ الجماهير وتبعيّة الناس؟ هل يجوز للزوج نقل انشغالاته الخارجيّة إلى محيط المنزل؟ ما هي خطورة الخلفيّات المسبقة على سير الإنسان وسلوكه؟ هل يوجد إسلام وتشيّع وسلوك من دون عقل؟ كيف ينبغي مراعاة شؤون الإمام عليه السلام في مجالس الأعياد والوفيات؟ ما هو الموقف العقلائيّ تجاه مسألة التطبير؟ ما هو منهج المرحوم العلاّمة في استدعاء الخطباء من المعمّمين؟ وأيّة آداب ينبغي مراعاتها عند دعوة هؤلاء للمجالس؟ هي أسئلة سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة الشريفة التي عقدها استطرادًا لبحث موضوع آداب المجالس في ضمن حديثه عن فقرة «فَإذَا أَکْرَمَ اللَه الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، هَانَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَإبْلِيسُ وَالْخَلْقُ».
هو العليم
مجالس الأئمّة عليهم السلام: آدابها وشروطها
شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ۱۰۱
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام الصادق عليه السلام: «فَإذَا أَکْرَمَ اللَه الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، هَانَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَإبْلِيسُ وَالْخَلْقُ».
فإذا وفّق الله تعالى أحدًا لكي يُحقّق تلك الأمور في ذاته؛ أي أن يرى جميع ما وهبه الله تعالى أمانة عنده؛ فهو أعطاه إيّاه في يوم، وسيأخذه منه في يوم آخر؛ وهي حقيقة لا يُمكن لأيّ واحد أن يشكّ فيها؛ فهل بوسعنا المحافظة على ما نملكه فعلاً؟ نحن لا نستطيع المحافظة على أنفسنا، فكيف تتسنّى لنا المحافظة على أموالنا؟! وكلّ ما ملّكنا الله تعالى إيّاه هو عارية بأجمعه، ولا يتوفّر على أيّة جهة استقلاليّة؛ وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة: ينبغي ردّ العارية إلى صاحب العارية؛ فهو أعطى يومًا، وسيأخذ ما أعطاه يومًا آخر؛ وهنيئًا للذي يشعر بهذا الأمر في نفس هذا الحين، لا أن تمرّ الفرصة، إلى أن يأتي الوقت، ويعمدون إلى قلع الإنسان من هذه التعلّقات جبرًا؛ ففي ذلك الحين فقط، يلتفت إلى أنّه: يا للعجب، جميع هذه الانشغالات، وهذه التعلّقات، وهذه الخصائص، وهذه المفاتن التي كان يراها حقيقيّة وينسبها إلى نفسه كانت كلّها عارية!
مكانة الإنسان لا تتحدّد عن طريق حبّ الجماهير وتبعيّة الناس
ذات يوم، عُقد في مشهد مجلس لإجراء عقد زواج، وكنت جالسًا إلى جانب المرحوم العلاّمة؛ غاية الأمر أنّه كان أبعد قليلاً بفاصلة كرسيّ واحد أو كرسيّين؛ وكان هناك أحد الأشخاص الذي يُبرزون حساسيّة كبيرة تجاه المسائل المستحدثة، ويُعظّم بعض الأمور ويُجلّها أكثر ممّا كانت عليه، ويُكبّر المسألة بين الناس، ويُعطيها أكثر من حجمها الواقعيّ؛ وقد ذكرت لكم البارحة ليلاً أنّه كان يُبرز أحيانًا بعض الاعتراضات والإشكالات والكنايات تجاه المرحوم العلاّمة فيما يخصّ مسألة التدخّل في الأمور [الاجتماعيّة]؛ وكان هو أيضًا جالسًا إلى جانب المرحوم العلاّمة، فدار الكلام حول أنّه قد يوجد بعض الأشخاص الذين يتلون الإمام في المرتبة، ويُشبهونه عليه السلام، وتكون أعمالهم وتصرّفاتهم مطابقة تمامًا لما عليه الإمام، بحيث لا تفصلهم عنه عليه السلام، إلاّ مرتبة العصمة؛ والتي تُعدّ ممنوحة من قبل الله تعالى، ولا يُمكن فعل أيّ شيء حيالها، وإلاّ لأخذوها أيضًا من الإمام عليه السلام! فقال: لا، هو مثل البقيّة في هذه المسألة؛ لكن، يُحتمل أن يوجد هكذا أفراد، بل هم موجودون فعليًّا، وها نحن ذا نراهم في عصرنا هذا، حيث نجد الكثير من الأشخاص بهذا النحو.
فكان الكلام يدور بين المرحوم العلاّمة وبين ذلك الشخص، فالتفت إليه، وقال: لأيّ سبب جعلت مكانة هؤلاء الأشخاص مثل مكانة الإمام عليه السلام؟ وما هو الأساس الذي اعتمدت عليه في ذلك؟ أ فهل تمكّنت من بلوغ معرفة الإمام؟ وهل تسنّى لك إدراك درجة علمه عليه السلام، بحيث صرت عالمـًا بالمرتبة من العلم والمعرفة التي يوجد فيها؟ فهل اطّلعت على هذه المسألة؟ قال: «لا يا سيّدي، لكن، لا يحتاج ذلك إلى الاطّلاع [على علم الإمام]؛ إذ يكفي أن ننظر إلى الناس، وكيفيّة تبعيّتهم، وميلهم، وإلى التحوّلات التي حصلت، وإلى كذا وكذا». فالتفت إليه المرحوم العلاّمة، وقال: «هل تعتقد أنّ درجة ميل الناس وحبّهم للإنسان هي الملاك الذي يُحدّد مكانته؟»؛ فمن السخافة بمكان أن يأتي أحد، ويعتبر الملاك والمعيار المحدّد لمكانة الإنسان هو حبّ الجماهير وتبعيّة الناس؛ ثمّ قاله له: «إن كان الأمر بهذا النحو، فسيأتي يوم، وترى أنّ نفس هذه الجماهير التي لها ميل وحبّ ستتراجع [عن ذلك الميل والحبّ]»؛ وما إن انتهى من كلامه هذا، حتّى طأطأ ذلك الشخص برأسه إلى أسفل.
فالملاك ليس في ميل الإنسان، بل ينبغي أن نرى ما هو مقدار الفهم والمعرفة الذي يتّكئ عليه هذا الميل؛ فهذا هو الملاك، وهذا هو المهمّ.
أمسك الآن بحلوى في يدك، أو بسكاكر، فإنّك تجد أنّ أوّل من يهجم على هذه السكاكر هم الأطفال ذوو الثلاث سنوات؛ ويُمكنكم أن تُجرّبوا ذلك بأنفسكم؛ كأن تذهبوا إلى مكان معيّن توجد فيه طبقات مختلفة من الناس: من الذين يبلغ عمرهم سنتان أو ثلاث سنوات، حيث يقتصر ما تعرّفوا عليه هو الطعم الحلو للسكاكر؛ ومن الذين يبلغ عمرهم ثلاث وأربع وخمس وعشر سنوات، وعشرين سنة، وخمسين سنة، وستّين سنة؛ وهكذا؛ ثمّ لتأخذ سكاكر بيدك، وانظر من الذي سيأتي عندك من بين هذا الجمع. سترى أنّ الطفل ذا ثلاث أو أربع أو خمس سنوات هو الذي يأتي، ويقول: «أعطني يا سيّدي أنا الأوّل»، ويقول الآخر: «أعطني يا سيّدي أنا الأوّل»؛ فتعمل على تقسيم تلك السكاكر. ثمّ خذ بيدك قلم حبر، وانظر من الذي سيأتي عندك من بين ذلك الجمع؛ سيأتي ذوو العشر سنوات، والإثني عشرة سنة، والخمسة عشرة سنة؛ ثمّ خذ بيدك مثلاً كتابًا، وسترى بأنّ الذين سيأتون هم ذوو العشرين سنة، والإثني وعشرين سنة، والخمسة وعشرين سنة؛ وفي هذه الحالة، إذا فرضنا أنّ أحدًا مثل المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يأتي، ويعقد جلسة ومحاضرة، فإن أراد الحديث في موضوع معيّن، فإنّ حديثه لن يكون مشابهًا لحديثنا؛ ولا يخفى أنّني لا أريد هنا ـ لا سمح الله تعالى ـ توجيه إهانة لأيّ أحد، وليغضّ الرفقاء والأحبّة الطرف عن عيوبي وتقصيراتي، فأنا أعلم أنّ هدفهم يتعلّق بأمور أخرى، لكنّني أتحدّث هنا عن نفسي، مع أنّنا نبتعد بفراسخ كثيرة [عن تلك الحقائق]؛ فإن أتى المرحوم العلاّمة، وكان هناك حشد كبير يبلغ عشرة آلاف إنسان مثلاً أو خمسين ألف، وبدأ في تفسير آية النور: {اللَهُ نُورُ السَّمَوَتِ}.. أ فلم يكن يُفسّرها في ليالي الثلاثاء؟ {اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ ...}۱، فإن جاء، وبدأ يُفسّر كيفيّة نزول مراتب الفيض الإلهيّ إلى عالم الإمكان كلٌّ بحسب درجته، كم سيأتي من أولئك المائة ألف، ويجلسون للاستماع؟ عشرة أشخاص كحدّ أقصى، عشرة أشخاص بشقّ الأنفس! وسيغفو منهم ثلاثة كما حدّثتكم بذلك سابقًا..
ـ أيّها السيّد، هل أحوالك جيّدة؟
ـ أجل، أجل، يا سيّدي، أجل، أجل.
فكان ذاك يغفو [في مجلس المرحوم العلاّمة]؛ ولا يخفى أنّ هذا الكلام الذي أحدّثكم به لا يوجد فيه أيّ مزاح، بل يُشكّل نقاط حسّاسة في حركتنا في هذا العالم، لكي نعلم حقيقة المسألة؛ أجل، يبقى أنّه لا نستطيع القول أيضًا بعدم وجود مناسبة بين هذا الكلام، وبين المسائل التي نُريد بحثها اليوم، بل توجد بينهما علاقة، حيث رأينا هذه الأمور بأمّ أعيننا، وشعرنا بها، وجرّبناها، ولمسناها، وأدركنا صحّتها، والتفتنا إلى النقاط الإيجابيّة والسلبيّة في المسائل المطروحة.
فمن الذي وهب هذه الجاذبيّة والحفاوة الترحيب؟ إنّه الله تعالى؛ وهو يُعطيها اليوم، ويأخذها في الغد؛ ولا تعتقدوا أنّ هذا الأمر يختصّ بأحد دون الآخر، لا! فالأمر ليس بهذا النحو، بل كان بذلك النحو منذ اليوم الأوّل؛ إذ لا يوجد من هو أعلى من الرسول الأكرم، ومن أمير المؤمنين، ومن سيّد الشهداء؛ فحينما كان الإمام الحسين عليه السلام يمشي في المدينة، كان يتبعه حشد عظيم من الناس، وهم يقولون: يا ابن رسول الله، يا ابن رسول الله! وحينما كان يجلس في مسجد المدينة، كان الناس يركبون فوق بعضهم، لكي يتقدّموا إلى الأمام، ويقتربوا منه، ويسمعوا صوته، حيث لم تكن في ذلك الزمان مكبّرات صوتيّة، كما لم يكن بوسع الإمام الحسين الصراخ، بينما تجدهم في هذه الأيّام يصرخون كثيرًا، ويقولون: بمقدار محبّتك للإمام الحسين عليه السلام، ارفع صوتك! فهذا هو الملاك الذي أصبح موجودًا.
ذات يوم من أيّام شهر محرّم هذا، كنت في مكان ما، فكان أحد الخطباء يتحدّث على التلفاز، ويقول: لا تلطموا صدوركم بالنحو الكذائي، فهذا لا يعدو كونه لعبًا ومرحًا؛ فإذا أردتم إبراز عمق محبّتكم للإمام الحسين عليه السلام، عليكم أن تقفوا، وتُعرّوا صدروكم، وتلطموها بكلّ قوّة! حسنًا، فهناك من يرى عمق المحبّة بهذا النحو!
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام يأتي، ويخطب في الناس، فترتفع أصواتهم من الصفّ الأخير: «يا ابن رسول الله، يا ابن رسول الله، جزاك الله خيرًا على هذه المسائل التي تُحدّثنا بها»، لكن، لم يأت معه ليلة عاشوراء إلاّ ثلاثين فردًا؛ فهذا هو ترحيب الناس! فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّ ذلك كان كلّه فراغ ولعب! فحتّى أقرب الناس إلى الإمام الحسين عليه السلام لم يأتوا، واكتفوا بالقول: «إلى أين تذهب؟ إلى أين تذهب في هكذا ظروف وأجواء؟ أ لا تعلم أنّ الظروف غير مناسبة؟ أ لا تعلم بذلك؟ ما هو سبب ذهابك؟ نحن ننصحك بالهدوء والجلوس في بيتك»؛ إذن، ما حقيقة كلّ تلك الأمور؟ لقد كانت كلّها عارية.
عدم جواز نقل الانشغالات الخارجيّة للزوج إلى محيط المنزل
والمسألة الثانية أنّ الإمام عليه السلام يقول: أوكل تدبير شؤونك لله تعالى، ولا تُلحّ كثيرًا في الوصول إلى الأمور الدنيويّة، بحيث ترغب في ذلك بأيّ نحو وبأيّة طريقة وبأيّة قيمة؛ وحتّى إذا أردت الإلحاح على أمر، فليتعلّق هذا الإلحاح بالأمور الأخرويّة لا الدنيويّة؛ فلا تكن ملحًّا إلى هذه الدرجة، بل فوّض ذلك لله تعالى؛ فإذا تمكّنت اليوم من إبرام الصفقة الكذائيّة، فلا بأس؛ وإن لم تتمكّن من ذلك غدًا، فلا ضير؛ وإن تضرّرت بعد غد في المعاملة الفلانيّة، فلا إشكال، لا أن تحمل غمّ ذلك وهمّه إلى المرأة والأولاد؛ إذ ما هو الذنب الذي ارتكبوه، لكي تواجههم بوجه عبوس، محتجًّا بعدم تحقّق مرادك في مسألة ما؟! فما هو الذنب الذي اقترفوه؟! حينما يدخل الإنسان إلى المنزل، عليه أن يستقبل أهله وعياله بملامح بشوشة، لكيلا يُشاهدوا الألم والاستياء على وجهه.
فنقل الألم والاستياء إلى فضاء البيت يُؤدّي إلى القضاء على الاستعدادات والقابليّات والإمكانيّات وتلك الظرافة واللطافة التي جعلها الله تعالى في وجود المرأة والأولاد؛ فلا ينبغي علينا القضاء على هذه الإمكانيّات بواسطة الوجه المقطّب، بل علينا أن نترك تلك الأمور في محيطها الخاصّ؛ إذ ما علاقة المرأة والأولاد بما قمتَ به في الخارج؟ وما دخلهم بخسارتك في الخارج؟ وما شغلهم بمواجهتك لمعاملة سيّئة في الخارج؟ فالمسؤولية والتكليف الذي ألقاه الله تعالى على عاتق المرأة يتمثّل في إعدادها لأجواء منزليّة تُساهم في تربية أعضاء الأسرة وكمالهم وبلوغهم الهدف المنشود؛ فهذه هي وظيفتها، وعليها القيام بها، وستُحاسب إن قصّرت في أدائها؛ لكن، من الناحية الأخرى، لا يحقّ للرجل أن يتفوّه بأيّ كلام، ولا يجوز له الحديث عن جميع الأعمال التي قام به في الخارج.. لقد التقيت اليوم بفلان، فقال لي كذا.. ما دخل الزوجة بذلك؟
فالمرأة تتوفّر على وجود لطيف وظريف، وعلى الإنسان المحافظة على ظرافتها ولطافتها المرتبطة بمرتبتها الخاصّة، وإلاّ فإنّ الله تعالى سُيلقّننا غدًا درسًا قاسيًا، ولا تعتقدوا بأنّ المسألة فيها مزاح؛ فالله تعالى أناط بنا تكليفًا معيّنًا، وأناط بالمرأة والأولاد تكليفًا آخر، لا سيّما المرأة، لأنّ للأولاد حسابهم الخاصّ، ويتوجّب عليهم التحرّك في ظلّ تربية الأبوين؛ فإذا واجهتنا في الخارج مسألة مريرة، فما علاقة المرأة بذلك؟! فهي تعيش حياتها الخاصّة، وتُؤدّي أعمالها الخاصّة، وتسعى لتهيئة الظروف والأجواء، فتطبخ الطعام، وتعمل على تنظيم شؤون الحياة، وتوفير وسائل الراحة؛ أ فهل لها ذنب في ذلك؟ وهل يتوجّب عليها تحمّل تبعات كلا الأمرين: المحيط المنزليّ والمسائل الخارجيّة للزوج؟ لا، هذا مجانب للصواب!
لقد كان المرحوم العلاّمة يوصي تلامذته مرارًا وتكرارًا، ويقول لهم: «لا تنقلوا عمل الخارج إلى البيت»؛ فما معنى ذلك؟ يعني أنّ الأمور التي تُؤدّى في الخارج تتعلّق بالخارج؛ وحينما يدخل الإنسان إلى المنزل، عليه أن يتركها بأجمعها خلفه، ويدخل إلى البيت كزوج، وليس بصفته تاجرًا أو سمسارًا أو مديرًا أو مسؤولاً؛ لأنّ المدير والتاجر والمسؤول والعسكريّ والشرطيّ مكانهم في الخارج، والمنزل لا يحتاج إلى شرطيّ، ولا إلى عقيد أو عميد، بل يحتاج إلى زوج؛ ولهذا، فإنّ الأجواء المنزليّة تحتاج إلى زوج بشوش، ذي وجه مبتسم، ويمتلك عواطف.
فإذا صار الأمر بهذا النحو، فإنّ الأجواء الحاكمة على البيت ستترك تأثيرها على الخارج؛ أي أنّ تلك النفوس التي تعيش في المنزل بحالة من الهدوء ....
أجل، يبقى أنّ البعض [من النسوة] يحبّون السؤال والتقصيّ عن الأخبار: ماذا فعلتَ في الخارج؟ أين ذهبت؟ من أين أتيت؟ لا، هذا لا يصحّ أيضًا! فما معنى: أين ذهبت؟ لقد ذهبتُ إلى خارج البيت، ثمّ رجعت.. بمن التقيت؟ ما هي علاقتكِ أنت بذلك؟ عليكِ أن تنشغلي بالشؤون المنزليّة، وجزاك الله خيرًا، وسأسعى بدوري أنا وبمقدار وسعي ...؛ فلكلّ شيء مكانه الخاصّ، لكنّنا خلطنا بين الأمرين؛ فجاءت هي، ووضعت قدميها خارج المنزل تقتفي أثرنا، وجئنا نحن، وأحضرنا المسائل الخارجيّة إلى البيت؛ فجلسنا على المائدة، وبدلاً أن نتحدّث ونضحك معًا، ونسألة عن أخبار بعضنا، بدأنا بالقول: لقد حدث في المكان الفلاني كذا، وصار الأمر بالنحو الكذائي، وقيل من ورائي كذا، وفعلت كذا، وقد وقّعت على كمبيالة، وصار في الشيك الفلاني كذا، وأمثال ذلك؛ حسنًا، إنّ الله تعالى لم يُكلّف المرأة ـ بما تمتلكه من ظرافة ولطافة ـ بسماع هذه المسائل، بل كلّفها بالتربية الصحيحة للأطفال؛ وفي هذه الحالة، نأتي، ونقول: لماذا الأجواء متشنّجة؟ لماذا أحوالنا ليست على ما يُرام؟ لماذا نحن بهذا النحو في البيت؟ لماذا نحن بذلك النحو؟
وحتّى بالنسبة للاتّصالات الهاتفيّة، لا يوجد أيّ مسوّغ لأن ترتبط بالمسائل [الخارجيّة]؛ فلماذا على الإنسان ... وإذا حانت الفرصة المناسبة إن شاء الله تعالى، سأذكر للأحبّة بعض المسائل بخصوص موضوع العلاقات والارتباطات، ولأيّ سبب يقوم الإنسان بجعل محيطه المنزليّ محيطًا لارتباطاته الخارجيّة؛ فما هو معنى ذلك؟ وأنا أعرف شخصيًّا أحد الأشخاص ـ وقد مدحته على ذلك كثيرًا ـ لا يسمح لأيّ أحد الاتّصال هاتفيًّا بالمنزل بخصوص أمور المعاملات والأعمال والأشغال الخارجيّة؛ فما إن يتّصل به أحدٌ في هذا الشأن، حتّى يقول: أعتذر منك يا سيّدي، اتّصل بي غدًا في المكتب؛ فكان يسأله عن أحواله وأمثال ذلك؛ وهذه أمور محفوظة في محلّها؛ لكن، إن سأله عمّا ينبغي فعله، فإنّه كان يقول له: اترك ذلك للمكتب؛ فكان الجميع يعلمون أنّه إن اتّصل أحدهم بالبيت، فلن يُفسَح له المجال للحديث عن تلك الأمور؛ وهذا عمل جيّد جدًّا كان يقوم به، وقد حصل على فائدته وثمرته.
ومن هنا، على الإنسان أن يُفوّض تدبير أموره لله، كيفما كان الذي قدّره تعالى له؛ فحينما نكون عالمين أنّ أصل وجودنا في هذه الدنيا عارية، كيف يجوز لنا إظهار الحساسيّة تجاه آثار هذه العارية ولوازمها؟! فأنا غير مطّلع على غدي؛ وصحيح أنّني جالس هنا، ولا أحسّ بالألم في أيّ موضع، معتقدًا أنّني أتمتّع بالصحّة؛ لكن، بحقّ، هل يوجد لديّ علم بما في باطني؟ وهل أنا عالم حقيقةً بما يجري في داخلي؟ لكن، فجأة، يمرّ أسبوعان، وإذا بالألم يظهر! فنحن غير مطّلعين على ذلك.
فوجودنا الظاهريّ هو وجود مستعار؛ ومع ذلك، نأتي، ونبدي الاهتمام بآثاره ولوازمه وأموره الهامشيّة. يقول الإمام عليه السلام: فوّض تدبير شؤونك في هذه الدنيا إلى الله تعالى؛ ففي نفس الوقت الذي تُؤدّي فيه تكليفك، وتمشي وفقًا لهذا الطريق، أوكل التدبير إلى الله تعالى، واعمل بعين ما قدّر عليك الباري عزّ وجلّ، وكن بنفس ذلك النحو؛ فإذا كان هدفنا في هذه الدنيا هو العيش من أجل تحصيل رضاه، فإنّ الأمر بالنسبة إلينا سيصير سهلاً ويسيرًا.
خطورة الخلفيّات المسبقة على سير الإنسان وسلوكه
والمسألة الثالثة: أن يكون شغل الإنسان متعلّقًا بأوامر الله تعالى ونواهيه، فيرى ماذا قال سبحانه هنا، وماذا قال هناك، من دون أن يُضيف من عنده أيّ شيء، أو ينقص، أو يخلط، أو يُبرّر، أو يُؤوّل بقوله: إنّ مراد الرسول كذا وكذا؛ هل التفتّم؟ بل أن يكون جملة اشتغاله بنفس [الأوامر والنواهي] كما هي، بحيث حينما يُقال له: إنّ المسألة بهذا النحو، يقول: إنّها بهذا النحو، وانتهى الأمر؛ وحينما يُقال له: إنّها بذلك النحو، يقول: إنّها بذلك النحو، وانتهى الأمر. فعلينا أن نوكل الأمر والنهي لله تعالى، لا أن نوكلهما لأنفسنا وتبريراتنا وتسويلاتنا النفسيّة وتفسيراتنا الشخصيّة؛ فلا تكون لنا في التكاليف التي قدّرها الله تعالى علينا أيّة خلفيّة مسبقة، بحيث تجدنا نتبنّى أوّلاً هذه الخلفيّات المسبقة، ثمّ نأتي بعد ذلك، لنرى ماذا قال [الله تعالى].
بعد وفاة المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، حصلت بعض الأمور؛ فأراد فجأة بعضهم أن يلتقوا بي، فقلت لهم: تفضّلوا. حينما دخلوا عندي، التفتُّ إليهم، وقلت: هل جئتم لتلتقوا بي بخلفيّات مسبقة، أم من دون خلفيّات؟ قالوا: من دون خلفيّات، قلت: تفضّلوا، قالوا: هل يُمكننا أن نسجّل صوتك؟ قلت: اصبروا قليلاً، أ فلم تدّعوا أنّكم أتيتم من دون خلفيّات مسبقة؟! فلماذا إذن تريدون تسجيل صوتي؟ هل تريدون تسجيل صوتي، لتذهبوا إلى الخارج و...؟ إن كنتم أتيتم إلى هنا لكي تفهموا [الحقيقة]، فلماذا ترغبون في تسجيل صوتي؟ ومع ذلك، سجّلوا، فليست لديّ أيّة مشكلة، ولا يوجد عندي أيّ كلام أخفيه؛ لكن، أ لم تقولوا إنّكم أتيتم من دون خلفيّات مسبقة؟! فهذا واحد مقابل صفر! ابدؤوا الآن! فبدأنا نتجاذب أطراف الحديث، وأثناء الكلام، قلت لهم: ما هو رأيكم بخصوص المسألة الكذائيّة؟ قالوا: نحن نريد أن نعرف رأيك أنت؛ فقلت لهم: صارت إثنان مقابل واحد! أنا أسألكم، وأنتم تخافون إبداء رأيكم، فتكلّموا إذن، فأنتم تقولون: إنّ المسألة بهذا النحو، وأنا أقول لكم: إنّني أنا الذي أطرح عليكم السؤال، وأريد معرفة رأيكم بشأن هذه المسألة، أ فلا تريدون الإفصاح عن رأيكم؟! وهل تسعون لكي تبقى أيديكم مبسوطة؟! وبهذا، انتهى الحوار!
لا ينبغي أن نجعل لأنفسنا خلفيّات مسبقة؛ فإذا ذهبنا إلى مكان معيّن بخلفيّة مسبقة، فلن نحصل على أيّة نتيجة؛ لأنّ ذهننا سيكون ـ والحال هذه ـ مملوًّا، وسيكون قد شيّد لنفسه بناية؛ وحتّى إذا لم يُشيّد مثل هذه البناية، فإنّ تلك المساحة التي هيّأها سترسم له كحدّ أقلّ المخطّط الذي يتعيّن عليه وضعه في هذا المجال.
حينما كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يذهب عند السيّد الحدّاد ـ وما أذكره لكم يُمثّل ما شاهدته شخصيًّا ـ، كان يذهب عنده من دون أيّة خلفيّة مسبقة؛ وقد كان هذا واضحًا من نظره واستماعه وانتباهه إليه؛ فعندما تتنّحى الخلفيّات المسبقة جانبًا، يأتي كلّ ما يقوله خالصًا، ويستقرّ هنا من دون أن يعرضه أيّ تموّج؛ فتأتي تلك الذبذبات، وتستقرّ في القلب، ولا تبقى تدور في تلك الناحية، أو تذهب إلى البهو، أو إلى فناء البيت، لتواجهها في الأثناء الآلاف من البلاءات؛ لا، فما إن ينطق [السيّد الحدّاد] بشيء، حتّى يأتي، ويستقرّ، ويرسخ؛ فهكذا يحصل ترسيخ الكلام وتثبيته، ليصير أصلاً ومبدأً.
لكن، في نفس الوقت الذي كان فيه المرحوم العلاّمة بهذا النحو، كنت أشاهد أنّ آخرين يأتون، ويجلسون هناك، ويظلّون يترقّبونه حينما يتحدّث عن مسألة معيّنة، عسى أن يتّجه الكلام إلى هذه الناحية أو تلك الناحية، لكي يجري التطرّق في الأخير لأحدهم؛ وقد رأيت ذلك بأمّ عيني؛ لكنّ مثل هذا الشخص لا يُمكنه تحصيل الفائدة المرجوّة، كما أنّ [السيّد الحدّاد] يعلم جيّدًا كيف يخدعه خدعة تملأ كلّ كيانه، بحيث لا يشعر أبدًا بالجهة التي تلقّى منها الضربة، ومن أين مرّت القضيّة! وكان المرحوم السيّد الحدّاد يقول مرارًا وتكرارًا: يأتي البعض إلى هنا، وهم يعتقدون أنّنا لا نفهم شيئًا، ثمّ يقرأ أحد الأبيات الشعريّة لمثنوي:
داند و خر را همی راند خموش | *** | بر رخت خندد برای روی پوش |
[يقول: يعلم، ولكنّه يقود حماره بصمت، ويضحك في وجهك لكي يستر علمه].
فهو يضحك أيضًا، ولا يُقطّب وجهه أبدًا؛ لكن، انتبهوا، فإنّ هذه الضحكة هي نفس تلك الخدعة التي تغمر كلّ كيانه؛ وأمّا [المرحوم العلاّمة]، فلم يكن بهذا النحو، بل كان يأتي، ويجلس، فيرى أحيانًا تقطيب الوجه، ويرى أحيانًا الضحك، ويرى تارةً التبسّم، ويرى تارةً أخرى الخصام؛ لكنّه يراها بأجمعها صحيحة وفي محلّها. وحينما يصير الأمر بهذا النحو، تبدأ النفس في الخضوع للتربية، والتبدّل، والتحوّل؛ فكلمّا ذهب إلى هناك، تغيّر؛ ولأنّه صادق ونزيه، فإنّه يتمكّن من التلقّي [والاستفادة]؛ ولو كان هنا، و[السيّد الحدّاد] هناك.
«وجُملَةُ اشتِغالِهِ فِيمَا أمَرَهُ تَعَالى بِهِ وَنَهَاهُ عَنهُ»؛ فينصبّ اشتغاله واهتمامه على أن يتلقّى.. «فِيمَا أمَرَهُ تَعَالى»، ويقول الإمام عليه السلام بعد ذلك: ـ وهي المسألة التي وصلنا إليها لحدّ الآن ـ إذا وفّق الله تعالى عبدًا، ومنحه هذه الأمور الثلاثة «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيَا» ؛ أي أنّ الدنيا ستصير بالنسبة إليه خفيفة وعابرة، ولن تكون ثقيلة عنده؛ كما أنّ إبليس سيضحى لديه هيّنًا ويسيرًا.. أجل، نفس إبليس الذي حينما يُنطق اسمه تبدأ أجسادنا جميعًا بالارتجاف! ونقول: ماذا بوسعنا يا سيّدي فعله تجاه الشيطان؟ لقد خدعنا! لا يا عزيزي، أنت الذي خدعت نفسك، فلا تُلق بالمسؤوليّة في ذلك على عاتق الشيطان المسكين! حيث يبعثون إليّ برسائل يقولون فيها: ماذا نفعل يا سيّدي لكيلا يخدعنا الشيطان؟ فأجيبهم: لأيّ شيء لم يخدعك الشيطان في الموضع الفلاني وفي القضيّة العلاّنية؟! «هَانَ عَلَيْهِ... إبْلِيسُ» سيصير إبليس هيّنًا بالنسبة إليه؛ «وَالْخَلْقُ»، وكذلك الناس؛ فلن يتسنّى لهم بعد ذلك أن يفرضوا عليه آراءهم، ويُسلّطوا عليه مهماز قهر أفكارهم، ويجعلوه تحت سيطرة اعتباريّاتهم وتخيّلاتهم.
في الجلسات السابقة، طرحنا على الأحبّة بعض المسائل بخصوص إبليس، ووصل بنا المقام إلى الحديث عن: من هو إبليس؟ وما هي حقيقته؟ ولماذا خلقه الله تعالى؟ ويبدو أنّنا لم نتحدّث عن المسألة الثالثة، وهي علّة خلق إبليس، حيث يقول الله تعالى في الآية الشريفة: {يٰا بَنِي آدَمَ لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمٰا لِبٰاسَهُمٰا لِيُرِيَهُمٰا سَوْآتِهِمٰا}؛۱ أي: يا بني آدم، لا يُلقينّ بكم الشيطان في الفتنة؛ والفتنة تعني الامتحان الذي يفشل فيه الإنسان؛ فهذا الذي يُقال له فتنة.. {وَاِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}؛٢ احذروا، واحترسوا من تلك الفتنة وذلك الامتحان الذي لا يُصيب الفاسدين والفاسقين والظالمين منكم فقط، بل يعمّكم ويحتويكم في داخله أنتم أيضًا؛ لأنّ بعض الابتلاءات لها طابع عامّ.
العقل أوّلاً ثمّ الإسلام والتشيّع والسلوك!
{لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ} فلا يُلقينّ بكم الشيطان في الامتحان الفاشل {كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ}؛ مثلما ألقى فيه أباكم وأمّكم، حيث ذهب عندهما، وسعى لخداعهما بقوله: تعالا لتأكلا من هذا القمح، فهو يحتوي على العديد من الخصائص، ويحتوي على الفيتامين ب، والفيتامين أ، ويشتمل على النشويات، وعلى سعرات حراريّة، فتعالا لتأكلا منه، وستصير دنياكم عامرة! تعالا وانظرا من هم الأشخاص الذين سيجتمعون حولكما، وسيلتقطون لكما صورًا من هذه الناحية وتلك؛ ولا يخفى أنّنا تحدّثنا سابقًا عن هذه المسائل، مع أنّ الرفقاء لديهم اطّلاع أكثر منّي عليها، وعليّ أن أحصل على معلومات بشأنها منهم؛ فجاء، وألقى بهما في الفتنة والامتحان، وزيّن لهما خصائص القمح وأكله؛ أي التعلّق بهذه الدنيا؛ فجاء، وزيّن لهما ذلك بنحوٍ تمكّن من خلاله وضع قواهما العقلانيّة والإدراكيّة تحت سيطرة التخيّلات والاعتبارات؛ ممّا يعني أنّ العقل تنحّى جانبًا؛ وحينما يتنحّى العقل جانبًا، فإنّ الإسلام يتنحّى جانبًا، والتشيّع يتنحّى جانبًا، والسلوك يتنحّى جانبًا؛ فالعقل أوّلاً، ثمّ الإسلام.
توجد رواية عجيبة جدًّا لا أعلم في أيّ كتاب أوردها المرحوم العلاّمة، وأظنّه أتى بها في كتاب معرفة الله؛ والظاهر أنّ الأمر كذلك؛ وهي رواية عجيبة يقول فيها الإمام عليه السلام [ما مفاده]: حينما خلق الله تعالى نبيّ الله آدم، جاء عنده جبرائيل، وعرض عليه ثلاثة أشياء، وقال له إنّ الباري عزّ وجلّ يأمرك بأن تختار أحدها؛ أي اختر في وجودك بين أمور ثلاثة: الأوّل العقل، والثاني الدين، والثالث الحياء؛ والمراد من الحياء حالة الخجل والشعور بالندم والإحساس بالمبادئ الثقافيّة والإنسانيّة؛ فالمبادئ الإنسانيّة المكنونة في وجود الإنسان هي التي يُقال لها الحياء، فقال له جبرائيل: اختر واحدًا من هذه الأمور الثلاثة، وسأحمل الأمرين الباقيين، وأرفعهما إلى الأعلى؛ لأنّ الله تعالى لم يأمر بأخذها كلّها.
فجلس حضرة آدم يُفكّر؛ هذا، مع أنّه حينما أمره الله تعالى بالاختيار بين العقل والدين والحياء، فما هي القوّة التي استعملها عليه السلام في التفكير؟ إنّه العقل؛ ومن هنا، يتبيّن أنّ الله تعالى هو الذي منحه، فلا ينبغي علينا نسيان ذلك؛ إذ لو لم يكن له عقل، لما جلس للتفكير؛ ومن المحتّم أنّكم رأيتم العديد من الأشخاص وهم ليسوا قلّة ولله الحمد! فأوّلاً، يُقدمون على العمل، ثمّ بعد ذلك يُفكّرون؛ ويبدو أنّ هذا العصر.. أجل... ولعلّهم قلّة من يُفكّرون أوّلاً، ثمّ بعد ذلك يعملون. فخيّره بين ثلاثة: إمّا العقل، وإمّا الدين والتديّن بالمبادئ الإلهيّة والأحكام، والتديّن بالمعارف، وإمّا ثالثًا الحياء والخجل؛ فرأى آدم أنّ العقل أفضل هذه الثلاثة، فاختاره؛ وحينما اختار العقل، توقّع أن يذهب الآخران، فيذهب الدين لحال سبيله، ويذهب الحياء لحال سبيله؛ لكنّه رآى أنّهما ظلاّ واقفين، فقال لهما جبرائيل: «قوما معي لنذهب، فقد اختار الآخر، وعليكما أنتما الإثنان أن ترجع إلى مكانكما»؛ فقالا له: «لا، أنت مخطئ، فقد قال لنا الله تعالى أمرًا لا تعلمه أنت، قال لنا: أينما كان العقل كونا معه؛ ولهذا، سنبقى هنا»؛ هل التفتّم؟ فالمدرسة التي لا عقل فيها لا يوجد فيها دين ولا حياء، والدين الذي لا عقل فيه لا يوجد فيه حياء ولا حتّى دين؛ فالعقل هو الأوّل.
وقد أشرت البارحة في الليل هنا إلى أنّ الإمام الصادق عليه السلام، وقبل أن يأتي ليُكمّل التشيّع والإسلام، فقد جاء ليُكمّل عقولنا، ويُصلحها، ويُقوّمها؛ وحينما يصلح عقلنا، فإنّنا سنتّبع مباشرة الإمام الصادق، ولن نذهب وراء أبو حنيفة بعد ذلك. تعالوا الآن، وانظروا إلى أولئك الذين ذهبوا وراء أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وبقيّة المذاهب الأخرى، واطّلعوا على عقولهم، فإنّكم ستجدونهم ينفجرون من الداخل، ولا يستطيعون التعامل مع الواقعيّات والحقائق.
في نفس هذه السنة التي تشرّفت فيها بالذهاب [للحجّ]، كان هناك في مسجد النبيّ شابّ حدث السنّ وذو وجه وضّاء، وشعرت أنّه قد لا يكون يُعاني من التعصّب، فجاء، و...، وكان وراءنا أحد علماء السنّة يتحدّث، وذلك الشابّ يستمع إليه، وحينما ذكر مسألة معيّنة، قلت لذلك الشابّ: هل تقبل بكلامه؟ قال: ماذا تقصد من ذلك؟ قلت له: لديّ اعتراض على كلامه؛ قال: تعال، وبيّن؛ قلت: إذا كان الأمر بهذا النحو، تعال بنا نتنحّى جانبًا؛ فقمت معه، وذهبنا إلى زاوية حتّى لا يصل صوته؛ فقال لي: ما هو اعتراضك؟ قلت له: دعني أسألك أوّلاً، هل تمتلك الحريّة والاستقلال إلى درجة تُمكّنك أن تمشي معي في البحث مهما بلغ بك المقام؟ فتأمّل قليلاً، ثمّ قال: أجل؛ فقلت له: هل تعدني بذلك؟ فقال: أجل؛ قلت له: فيما يخصّ المسألة التي تحدّث عنها، هذا هو الإشكال الذي يرد عليها، وهو موجود في الكتاب الفلانيّ أيضًا؛ قال: أنا لا أعتقد بذلك؛ فقلت له: تعال بنا نذهب إلى مكتبة المدينة؛ فقال: لا، أنا أقبل بكلامك؛ لأنّك تتحدّث بكلّ ثبات، وليس لديّ أيّ اعتراض؛ ثمّ شرعنا في الكلام، إلى أن وصلنا إلى موضعٍ تّعَيّنَ عليه فيه أن يتخلّى عن جميع المسائل [التي يعتقد بها]؛ أي أن يتخلّى عن التسنّن؛ فقلت له: لقد قدّمت وعدًا.. أ لم تعدني في البداية بألاّ ننغلق [على أنفسنا] مهما كان الموضع الذي وصلنا إليه أنا أو أنت؟ فجلس يُفكّر، ثمّ قال: مع أنّني أعلم أنّ كلامك حقّ وصحيح، وأنّ هذا الطريق ...، لكن، أمهلني قليلاً حتّى أتمكّن من إقناع نفسي، وأكسب رضاها لكي تقبل.
لا وجود لخطّ أحمر في مدرسة الإمام المعصوم
انظروا! يعني إلى أيّة درجة تمكّنت هذه المعتقدات من إغلاق النفس، بحيث مع أنّه كان يعلم [بحقّانية المسألة]، إلاّ أنّه لم يقبل بها، ويطلب إمهاله مدّة معيّنة؛ فما هي علّة ذلك؟ علّته أنّه لم يستخدم عقله بعدُ؛ إذ ما هو الأمر الذي يقوله العقل؟ يقول: «اذهب أيّها السيّد، وتقدّم إلى الأمام ما دمت أجيز لك ذلك، ولا يوجد هنا أيّ حدّ أو حاجز»، لا أنّه يقول: تقدّم إلى أن نصل إلى هنا، فإذا وصلنا إلى هنا، فلا ينبغي عليك الكلام؛ لا، فالإمام الصادق يقول: تعال عندي، واسألني عن كلّ شيء، ومهما بلغ بك السؤال من موضع، فأنا لن أضع لك أيّ خطّ أحمر؛ وبهذا، يصير الإمام الصادق هو الإمام الصادق، ويضحى إمامًا معصومًا؛ إذ لا يوجد في مدرسة الإمام المعصوم أيّ خطّ أحمر؛ وفي هذه الحالة، ستُصبح هكذا مدرسة مدرسةً حيّة، ومدرسة قادرة على الاستجابة لحاجيات كلّ عصر وزمان؛ لماذا؟ لأنّها مدرسة تعتني بفطرة الإنسان ووجدانه، وليس بالاعتبارات والتخيّلات المفروضة مسبقًا.
فإن قلت لكم: تعالوا إلى هنا لكي تستمعوا إلى كلامي، لكنّه لا يحقّ لكم أن تعترضوا على ما أطرحه، فماذا سيكون ذلك؟ عبارة عن خلفيّة مسبقة! وستقولون حينئذ: لماذا لا نسأل؟ ومن تكون حتّى تنهانا عن السؤال؟ فصحيح أنّك ابن العلاّمة، غير أنّ هذا شأنٌ يخصّك أنت، وينبغي علينا أن نُبدي الاحترام تجاهك لأجل المرحوم العلاّمة؛ لكن، لماذا لا يتوجّب علينا الاعتراض عليك؟ لماذا؟ أو أن أسمح لكم بالاعتراض، لكن، حينما يصل الحوار إلى حدّ لا أتمكّن فيه من الجواب، أقول لكم: ينبغي قطع السؤال والجواب هنا؛ فلماذا يجب قطع السؤال هنا؟ وما هو سبب ذلك؟ ومن الذي وضع هذا الحدّ والمانع؟ حسنًا، إن كان من المقرّر أن توجد حدود، فإنّ لكلّ واحد حدوده الخاصّة في ضمن نطاقه الشخصيّ؛ وبالتالي، سنصير عبارة عن مجتمع يعيش فيه كلّ واحد بحدوده الخاصّة؛ وهذا لن يُجدي نفعًا؛ لأنّنا أتينا إلى هنا لأجل رفع الحدود؛ فالمتحدّث مطالب من جهته برفع الحدود، والمستمع مطالب من جهته أيضًا برفع هذه الحدود؛ أي: عليهما أن يغوصا في بعضهما، ويحصل تداخل بينهما، ويطرح كلّ واحد منهما الآراء الأصحّ التي يُتقنها، فلا ينبغي أن يدور في خُلدكم... ؛ فإذا أتيتُ إلى هنا، وطرحت مسألة معيّنة، وبدا للرفقاء رأي معيّن، فليكتبوا ذلك، ويقولوا لي: تعال يا سيّد، وعدّل هذه المسألة في الجلسة اللاحقة، وغيّرها؛ فبحسب ما تراءى لنا، لم يكن الأمر بذلك النحو، بل ينبغي أن يكون بهذا النحو.
أهمّية مراعاة شؤون الإمام عليه السلام في مجالس الأعياد والوفيات
ففي نفس الليلة الفارطة، وقعت مسألة ارتأيت أن أطرحها عليكم، وأبيّن لكم رأيي بشأنها، وليستمع الرفقاء إلى شريط الأمس، حيث قلت في جلسة النساء هنا أنّ رأي المرحوم العلاّمة بخصوص جلسات الأعياد والوفيات سواءً اختصّت بسيّد الشهداء أو غيره يتمثّل في أنّ الخطيب ينبغي أن يكون من المعمّمين وحسب؛ وها أنا ذا أكرّر هذه المسألة: في البداية، على الناعي أن يتحدّث، ويذكر المصاب؛ وإذا كان عيدًا، يذكر أشعار المدح، وأمّا إذا كان مجلس وفاة وشهادة، فليذكر المصاب؛ ثمّ يأتي بعد ذلك خطيب معمّم، ويتحدّث؛ فهذا هو الرأي الذي كان يتبنّاه المرحوم العلاّمة، وأنا أتبنّاه أيضًا؛ كما ينبغي في المجلس مراعاة الشؤون الشخصيّة للإمام عليه السلام؛ لا أن يُقال أيّ شيء، أو أن يُذكر في مجلس العيد أيّ كلام، ويُقرأ أيّ شعر، وتُطرح أيّة مسألة كيفما كانت، بحجّة أنّه يوم عيد؛ فيأتي الإنسان ويطرح الترّهات ...
ذات يوم، ذكرت للرفقاء مسألة حصلت في السابق، حيث كان هناك مجلس لم أحضره لكنّني شاهدته، وقد أقيم في منزل أحد الرفقاء في يوم الثالث عشر من رجب.. يوم ولادة أمير المؤمنين عليه السلام؛ فجاؤوني بشريط مسجّل له لكي أشاهده؛ فقام ذلك الناعي الذي كان مشهورًا ولا أتذكّر اسمه الآن، لكن ما يهمّني هو ذلك العنوان، فبدأ يقول: بمقدار محبّتك لعليّ، قل كذا، وبمقدار محبّتك لعليّ، ...؛ فشرع من باب المثال يُبرز محبّته وولايته لأمير المؤمنين، ويقول:
از بس كه خدا عشق به حیدر دارد | *** | انگار نه انگار که پیمبر دارد |
[يقول: من شدّة الحبّ الذي أولاه الله لحيدر، صار وكأنّه ليس لديه نبيّ بتاتًا]
أيّها الغبيّ وعديم الإحساس، اخجل! لقد كان أقصى ما يفتخر به أمير المؤمنين عليه السلام أنّه يقول: «أنا عَبدٌ مِن عَبِيدِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللَه عَلَیهِ وَآلِهِ»؛ ثمّ تأتي أنت، وتقول: من شدّة الحبّ الذي أولاه الله لحيدر، صار وكأنّه ليس لديه نبيّ بتاتًا! والأنكى من ذلك أنّهم كانوا يُسرّون بذلك، ويقولون: أنعم به وأكرم، يا له من شعر جميل! أجل، فهذه هي درجة الفهم التي كان يمتلكها أولئك الجالسون هناك؛ وهم بأنفسهم الذين أتوا إلى منزل المرحوم العلاّمة بمشهد، وبدؤوا يعترضون عليه، ويقولون: لماذا أنت بهذا النحو؟ ولماذا تتبنّى هذا المنهج؟ هم بذاتهم، فأنا أعرفهم واحدًا واحدًا؛ فتجدهم يجلسون، ويُصفّقون، ويفعلون كذا وكذا، لكي يشعروا بأنّهم أدوّا للمجلس حقّه؛ أجل، انظروا كم هو جميل هذا الشعر، ويتناقلونه بينهم: من شدّة الحبّ الذي أولاه الله لحيدر، صار وكأنه ليس لديه نبيّ بتاتًا!
إنّ للغباء حدود يا عزيزي! فإلى متى يبقى الإنسان حمارًا وغبيًّا إلى هذا الحدّ، بحيث يتلاعب بهذا النحو بالمبادئ الدينيّة المهمّة والأصيلة، ويسخر منها؛ وأنتم تشاهدون الآن الأشعار التي يلقونها في الهيئات، والأسلوب الذي ينتهجه هؤلاء، حيث تجدهم يتمسّكون بكلّ حيلة وطريقة ومنهج مخالف لأجل جذب اهتمام الناس، ويتشبّثون بأيّ شيء وأيّ شعر وأيّ مسألة تافهة لمجرّد... فهذا يقرأ بالطريقة الكذائيّة، والآخر يُغيّر طريقة القراءة، فيقرأ بنحو آخر.. أ فهل نحن في مسرحيّة؟! أ وهل أضحى مصاب الإمام الحسين عليه السلام مسرحًا؟! وهل أصبح ذلك عرضًا للدمى؟! فتجد البعض حينما يتمكّنون من استلام اللاقط الصوتيّ (الميكروفون)، يلجؤون إلى الصراخ، إلى درجة أنّ الغشاء الطبليّ للإنسان ينفلق إلى ثلاثة أجزاء! يا عزيزي، إنّ صوتَك يصل إلى الجميع، وغرفةٌ طولها أربعة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار لا تحتاج إلى الصراخ؛ إذ بوسع الجميع سماعُك؛ فعليك [أن تقرأ] بكلّ هدوء، وتكون مؤدّبًا مثل بقيّة الناس؛ وأمّا إذا لم تقدر على ذلك، فلا تقرأ العزاء؛ ولهذا، عليك أن تكون مثل الناس المهذّبين، فتذهب، وتقرأ بيتين شعريين جميلين لإحدى الشخصيّات الأصيلة؛ نظير المرحوم الكمباني، أو فؤاد، أو نيّر؛ فهذه هي الشخصيّات التي يجب أن تختارها، وعليك أن تكون عالمـًا بمكانة الإمام ومنزلته؛ ومع ذلك، تجدهم يُنزّلونه عليه السلام إلى مستوى طفل شارع مدلّل.
ذات يوم، ذهبنا إلى مكان ما، وأظنّ أنّ ذلك حصل قبل عدّة سنوات، ولعلّه قبل ثمان أو تسع سنوات تقريبًا؛ إذ حينما أردنا الرجوع من جلسة عصر الجمعة إلى قمّ، قال لي بعض الرفقاء حفظهم الله تعالى: يا سيّدي، لو ذهبت الآن في الليل، لوصلت متأخّرًا وجائعًا وكذا، فتعال بنا نذهب لتناول العشاء في مكان ما، ثمّ لترحل بعد ذلك؛ فقلت لهم: تعالوا بنا لنذهب؛ ولا أعلم هل يوجد في المجلس الآن أحد من الذين كانوا معي تلك الليلة أم لا؛ فذهبنا إلى محلّ لا أعرفه ولا أعرف حتّى الشارع الذي يتواجد به، ثمّ دخلنا إلى هناك، فوجدنا أمامنا قاعة و...، وقد كانت تلك الليلة ليلة السبت؛ فكانت تلك القاعة مكوّنة من قسمين: قسم أضواؤه مُطفأة، ومن الواضح أنّه كان يضمّ مجلسًا للترحيم وطلب المغفرة؛ مع أنّهم صاروا في هذه الأيّام يُطلقون عليه اسم مجلس تأبينيّ؛ وهي من العبارات الباطلة؛ فما معنى التأبين يا عزيزي؟ ينبغي أن نقول: مجلس ترحيم؛ أجل، يبقى أنّ المكان الذي ذهبنا إليه يتناسب مع مجلس التأبين!! فيجب أن نقول: مجلس ترحيم وطلب المغفرة؛ وعليكم أن تنظروا إلى ذلك المسكين الذي ارتحل الآن هل يحتاج إلى مجلس تأبين أم مجلس ترحيم، فاذهبوا عنده واسألوه.
وعندئذ، قاموا بإطفاء المصابيح في ذلك القسم، وكان هناك ستار فقط؛ وحينما نظرنا إلى هناك، رأينا بأنّ الأوضاع جيّدة جدًّا! أجل، فقد كانت الأوضاع بنحوٍ ... ونحن لم نر من خلال الستار إلاّ ذلك [الناعي]؛ أجل، فقد كان شابًّا، ويقرأ بالفارسيّة والتركيّة وأمثال ذلك، وكان يُردّد لمدّة نصف ساعة في عزائه هذه العبارة: «وا ويلتاه، لقد كانت ابنتك "فرنكيس" في أمريكا، وارتحلت أنتَ عن هذا العالم من دون أن تطّلع على وفاتك!»؛ فهذا هو العزاء الذي كان يقرأه ذلك السيّد في المجلس؛ فقلت: أجل، فالمجلس الذي يُعقد في مثل ذلك المكان، ويُطلق عليه اسم مجلس التأبين، ويكون منعقدًا لأجل ذلك السيّد، ينبغي أن تكون أشعار العزاء التي تُقرأ فيه هي: «لقد كانت "فرنكيس" في أمريكا، فيا لهفتي عليكِ لأنّك لم تحضري وفاة أبيك، فأنت كنت في ذلك المكان، بينما كان أبوكِ في المستشفى، وا فرنكيساه! وا فرنكيساه!»؛ فأيّ مجلس هذا؟! لقد ظلّ نصف ساعة ...، ثمّ إنّه، ولكيلا يبقى المجلس خالي الوفاض، بدأ يقرأ ذكر «يا علي» لمدّة دقيقتين، وأنهى المجلس، وتمكّن من الحصول على بعض الأموال والهدايا، ورحل؛ فهذا أيضًا أصبح يُقال له مجلس لذكر المصائب وللترحيم والتأبين! حسنًا، فهذا أيضًا موجود، لكن، بأيّ شيء يختلف عن الكنيسة؟! وما هو الفارق بينه وبين الكنيسة؟! ومع أولئك الذين يأتون و ...؛ ففي نهاية المطاف، يتوفّر هؤلاء بدورهم على عادات خاصّة.
ضرورة الالتزام بالهدوء والوقار في مجالس الأئمّة عليهم السلام
ففي مجلس الإمام الحسين عليه السلام، ينبغي أن يسود الاتّزان والهدوء والرزانة والوقار؛ وأنا لا أقول: لا ينبغي أن يكون هناك لطم للصدور، بل يجب القيام بذلك؛ لكن، أن يأتي الإنسان، ويبدأ بالصراخ والعويل بأيّ نحوٍ كان، ويقول: «بمقدار محبّتك للإمام، ارفع صوتك»، ويقرأ أيّ شعر كيفما كان؛ فذلك لا يصحّ يا عزيزي؛ لأنّ الإمام الحسين عليه السلام لا يحتاج إلى هذه الأمور، أو أن يقول: «إذا أردت إبراز عمق ولايتك، عليك أن تنزع لباسك، وتلطم صدرك عاريًا»؛ لا، أيّها السيّد، فهذا حرام! وما معنى هذا الكلام؟ إذ لو كانت هناك امرأة من غير المحارم، لما جاز لها النظر إلى جسد الرجل؛ وها نحن نشاهدهم الآن يبيعون أشرطة لرجال يلطمون صدورهم عرايا؛ في حين أنّ الرجال والنساء يشترون هذه الأشرطة؛ فجميع هذه الأمور محرّمة، والنظر إلى جسد الرجل محرّم على المرأة؛ مثلما أنّ النظر إلى جسد المرأة محرّم على الرجل من دون أيّ فارق؛ وفي هذه الحالة، هل من شأن مجلس الإمام الحسين عليه السلام أن يُحلّل هذه الممارسات؟ لا، هذا الكلام لا يصحّ، والأمر ليس بهذا النحو؛ كما أنّ قيام الإنسان بالصراخ وأمثال ذلك لا يُعدّ علامة على الولاية.
في ذلك الوقت الذي تشرّفنا فيه بزيارة العتبات المقدّسة، كان رفقاؤنا يأتون، ويذهبون بكلّ هدوء وأدب، ويُقبّلون الباب والأرض والعتبة، حيث كنت أقول لهم بنفسي أن يفعلوا ذلك؛ فكانوا يذهبون [للزيارة]، فيقرؤون الأدعية والزيارة، ويُصلّون، ويجلسون في زاوية؛ ممّا أثار تعجّب جميع أفراد الشرطة العراقيّين الذين كانوا يقولون: «من أنتم أيّها السادة؟ ومن أين أتيتم؟ فنحن إلى هذه اللحظة، لم نر مثلكم؛ لأنّ الذين يأتون من إيران يبدؤون بالصياح والصراخ وأمثال ذلك»؛ فكان ذلك الشرطيّ يُخبرني بنفسه بهذا الأمر؛ وقد كان هناك أحدهم قام بإحداث جلبة كبيرة في حرم الإمام الحسين عليه السلام، فقال لي [ذلك الشرطيّ]: «هل ترى هذا السيّد الذي يقوم بهذا النحو من ...؟ إنّه يظلّ نائمًا إلى أن يقترب وقت قضاء صلاة الصبح، فنذهب نحن لإيقاظه من أجل الصلاة»؛ فنجد أنّ هذه السيّد الشرطيّ العراقيّ البعثيّ قد استوعب الأمر؛ وحينئذ، ماذا سيقول لذاك؟ سيقول له: هل أنت عاشق للإمام الحسين؟ وهل تدّعي امتلاك ولاية الإمام الحسين؟ فأنت تترك صلاة الصبح إلى أن تفوتك، ثمّ تأتي إلى هنا لإثارة الجلبة، وتقول: «تعالوا معي إلى المذبح الحسينيّ لأريكم، تعالوا معي إلى كذا، ...»، نحن لا نحتاج أن ترينا شيئًا، اذهب، وأدّ صلاتك قبل أن يفوت وقتها؛ فما هي حقيقة كلّ هذه الأمور؟ إنّها نزعة عامّية!
فالإمام الحسين عليه السلام لا يحتاج إلى إثارة الجلبة، بل يُريد إنسانًا مؤدّبًا وعاقلاً ورزينًا ووقورًا ويتحلّى بالأخلاق والأدب والثقافة؛ فهؤلاء هم الذين يُحبّهم الإمام الحسين عليه السلام. انظروا إلى واقعة عاشوراء، وسترونها من أوّلها إلى آخرها أدب ورزانة و...، والشيء الوحيد الذي لا يوجد فيها هو الإحساسات، وإلاّ، لو سادت فيها الإحساسات، لما كانت عاشوراء؛ فإذا نظرتم إلى كلّ حدث من أحداث عاشوراء من بدايتها إلى نهايتها، سترونها خاضعة للعقل بأجمعها، ولا وجود فيها للإحساسات أبدًا.
فكان الإمام الحسين عليه السلام يُراقب أعمال أولئك الأفراد واحدًا واحدًا، ليرى ماذا يفعل ذاك، وماذا يفعل الآخر، وهل بوسع فلان القيام بهذا العمل الآن أم لا، وهل يملك علاّن الاستعداد للشهادة أم لا، وهل يُمكن لذاك الاضطلاع بهذه المسؤوليّة والمهمّة أم لا، حتّى لا تحيد الأمور إلى هذه الناحية أو تلك، ولو بمقدار دقيقة واحدة من الزمان.
لقد جاء عابس بن شبيب الشاكريّ عند سيّد الشهداء عليه السلام [ليأذن له بالقتال]، فقال له الإمام: اصبر قليلاً، ولا تذهب الآن؛ لكن، حينما جاء الحرّ عنده عليه السلام، هل قال له: اصبر؟ لا، بل أذن له في الذهاب؛ فلماذا أذن له في ذلك؟ لأنّ نفسه لا تستطيع تحمّل الخجل في مقابل أهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام، والنظر في وجوههم، والإمام يعلم ذلك؛ ولهذا، يقول له: اذهب؛ فكان الحرّ أوّل من أتى لميدان المعركة؛ لكن، حينما يأتي الآخر؛ لأنّه رأى أنّ أخاه استشهد، ويقول: هل أذهب أنا أيضًا؟ فإنّ الإمام يقول له: لا، انتظر؛ إذ حينما نظرتَ إلى أخيك تأجّجت عواطفُك، فاصبر قليلاً؛ وحينما تذهب عن قلبه تلك الحالة التي حصلت له جرّاء شهادة أخيه، يقول له الإمام: حسنًا، يُمكنك الذهاب الآن. فإن نظرنا إلى كلّ حدث من أحداث واقعة عاشوراء، سنرى أنّ المنطق الحاكم هو منطق العقل، لا الصراخ، والصياح، وإثارة الجلبة، والتفوّه بالترّهات، والسعي لإبكاء الناس بأيّة طريقة، وإقامة العزاء بأيّ نحو؛ فلا وجود لهذه الأمور بتاتًا.
على ما أتذكرّ، فإنّ مجالس المرحوم العلاّمة كانت تُعقد بهذه الطريقة؛ فكان بدوره يلطم على صدره بهدوء، ولم يكن يلطم بشدّة، أو فجأة، يقوم بكذا، لا، كان يلطم بهدوء، بحيث لا يُخرج ذلك اللطمُ الإنسانَ عن حالة الحزن والنورانيّة، ويدخله في ...، بشدّة! بشدّة بشدّة! ما هذا؟! بهدوء! ويُمكنكم أن تُلاحظوا الفرق بأنفسكم بين أن تُقيموا مجلس سيّد الشهداء بهذه الطريقة، وبين أن تُقيموه بطريقة الضرب على الرأس بشدّة، والتكسير، و ...؛ أ ولا يلجؤون إلى ذلك الآن؟! فتجدهم يقولون: لقد ذهب فلان إلى المجلس الكذائيّ حتّى يحصل على شيء ما، فيضرب على رأسه، ويسيل الدم و ...؛ ما هذا أيّها السيّد؟! إنّه جنون! فما معنى هذه الأمور؟! فهذا مجنون، ولا يملك عقلاً، ولا مزاح في الأمر!
الموقف العقلائيّ تجاه مسألة التطبير
قبل عدّة إلى أيّام، كنت في طهران، فذهبت إلى مكان معيّن، حيث كان هناك بعض الأشخاص، وكنت في مستشفى، فجاءني ثلاثة من المسؤولين هناك، وسألوني: ما هو رأيك يا سيّدي بالتطبير؟ فقلت لهم: لا أشجّع على هذا الأمر، ولا أرفضه؛ مع أنّه لا دخل لي هنا بما يقوله فلان وعلاّن، ولا شغل لي أيضًا بنظرة الغربيّين؛ لأنّ هؤلاء سيشملوننا بـ "رعايتهم" مهما كان الفعل الذي نقوم به!!! فلا ينبغي علينا أن نضع ديننا على أساس نظرتهم ورؤيتهم؛ ولهذا، لا علاقة لي بهذه الأمور، بل ما يهمّنى هو: بالنظر إلى أصل المسألة، ما هو حكم التطبير من منظور الشرع؟ فقلت لهم: أنا لا أشجّع على ذلك، ولا أرفضه؛ وسوف أسعى لبيان أصل مسألة التطبير، فإن كان ما ذكرتموه متطابقًا معها، فلا يوجد فيه أيّ إشكال، وإن كان غير متطابق معها، ففيه إشكال.
قلت: الأمر المطروح في الإسلام هو أنّ الإضرار بالجسد حرام؛ فالذي لدينا في الإسلام أنّه لا يجوز للإنسان الإضرار ببدنه، بحيث لا يُمكنه فعل ذلك، ولو كان بمستوى خدشة؛ لماذا؟ لأنّ هذه الخدشة التي تُحدثها في جسدك ضرر، والميكروب [الذي يتسلّل من خلالها] قد يقتل؛ وبالتالي، فإنّها تُسبّب ضررًا، فتكون محرّمة بهذا المقدار؛ ولا يخفى أنّ الحرام له مراتب؛ وتلك الخدشة لا تكون مثل شرب الخمر، أو الزنا، أو الغيبة، أو البهتان، أو أمثال ذلك؛ لكن، يبقى أنّها محرّمة بحسب مرتبتها الخاصّة؛ بمعنى أنّ نفس هذه الخدشة التي أحدثتموها في جسدكم، ستوضع في ملفّكم، ويتعيّن عليكم يوم القيامة الدفاع عن أنفسكم في مقابلها؛ أي أنّكم ستُسألون: لماذا حملتم السكّين في اليوم الكذائيّ؟ ولماذا جرحتم أنفسكم؟ وعليكم أن تُقدّموا جوابًا؛ فهذا هو المراد. ثمّ قلت لهم: هذه قاعدة كلّية، ومبدأ عقلائيّ مفاده أنّ الإنسان لا يجوز له إلحاق الضرر بنفسه؛ لأنّه أمر محرّم.
وفي هذه الحالة، تعالوا بنا لنرى هل إنّ مسألة التطبير مشمولة بهذا القانون أم لا. قلت لهم: إذا كان المراد منها مجرّد إسالة الدم، فهذا أمر لا يوجد فيه أيّ إشكال؛ أ فلا تقولون أنتم بأنفسكم: على الإنسان أن يتبرّع كلّ ستّة أشهر بأربعمائمة سنتيمتر مكعّب من الدم؟! فكيف يكون هنا التبرّع بالدم جائزًا، بينما لا يجوز إسالة قليل من الدم؟! مع أنّ الدم المسال لا يبلغ مقدار أربعمائة سنتيمتر مكعّب، بل لا يصل حتّى إلى ثلاثمائة سنتيمتر مكعّب؛ وغاية ما قد يبلغه هو مائة وخمسين سنتيمتر مكعّب؛ وأنتم بأنفسكم تعترفون أنّه بوسع الإنسان التبرّع بأربعمائمة سنتيمتر مكعّب من الدم إذا كان جسده يتمتّع بالصحّة، وله وزن معيّن، ولم يكن يُعاني من المرض، أو من ألم في القلب، ولم يكن مستوى الهيموجلوبين متدنيًّا لديه؛ حسنًا، كيف لا يوجد هنا إضرار بالجسد، بينما يكون التطبير مضرًّا به؟!
هذا أوّلاً، وعلاوة على ذلك، إذا أردنا أن ننظر إلى هذه المسألة على ضوء كلام المتقدّمين، بل حتّى المتأخّرون صار لهم نفس الرأي، فإنّ أحد أقسام الحجامة التي كانت موجودة في الطبّ القديم هي الحجامة في الرأس؛ فالحجامة من المسائل التي كانت موجودة في تاريخ الإسلام وفي زمان الأئمّة، كما جرى التأكيد عليها أيضًا؛ مع أنّ البعض يُعارضها في هذا العصر، لكن، يبقى أنّ هذه المعارضات بدأت تخفّ شيئًا فشيئًا؛ إذ توصّل هؤلاء المعارضون إلى فوائد الحجامة، وانتبهوا إلى أنّ لها طابعًا علاجيًّا، بحيث إنّ الدم الذي يُؤخذ من الظهر يختلف من ناحية أجزائه عن الدم الذي يُؤخذ من الشريان؛ وحتّى أنّه أُلّف كتابٌ بخصوص هذا الموضوع أعطاه لي أحد الأحبّة، كان قد كتبه أحد زملائه؛ وهو من المتخصّصين في أمراض الدم، ومن المدافعين بشراسة عن الحجامة، ومن المتّصدين للمبارزة في هذا الميدان، حيث أورد في هذا الكتاب مسائل مفيدة جدًّا. لقد كانت الحجامة مسألة متداولة، وكان العديد من الأطبّاء يعتمدون عليها في علاجهم، إلى درجة أنّ ابن سينا كتب فصلاً مستقلاًّ عنها، مع أنّه لم يكن يلجأ هنا إلى الشعوذة، بل كان يستخدمها بنفسها؛ وهكذا الشأن بالنسبة لمحمّد بن زكريّا الرازي الذي كتب فصلاً كبيرًا عنها، وكان يستخدمها في العلاج؛ فهؤلاء لم يكونوا يلجؤون للطلاسم وعلم الرمل و"الحمّص"، بل كانوا يُعالجون الناس بهذه الطريقة.
قلت لهم: أحد أنواع الحجامة هي الحجامة في الظهر، وعندنا أيضًا الحجامة في الرجل، والتي يُعالج بها العديد من الأمراض؛ كمرض الدوالي؛ كما لدينا الحجامة في الرأس، وهي تنقسم بدورها إلى عدّة أقسام، غاية الأمر أنّ الطبيب المعالج ينبغي أن يكون ماهرًا جدًّا، حيث بالإمكان الاستعانة بحجامة الرأس لعلاج العديد من أمراض الدماغ؛ نظير الصداع النصفيّ، وحتّى إذا لم يحصل شفاء تامّ، فإنّ القسم الأعظم منها سيُعالج؛ ويوجد أحد أصدقائي حيّ وحاضر كان يُعاني من الصداع النصفيّ، فسافر إلى جميع أنحاء العالم من دون أن يُشفى، لكن، حينما استخدم الحجامة، تعافى؛ أجل، لم يتعاف بشكل كامل، لكنّه تحسّن بنسبة ثمانين في المائة؛ وهذا أمر لا توجد فيه أيّة شعوذة!
ومن هنا، فإنّنا لا نستطيع القول من هذه الناحية إنّ ...؛ أجل، قد يكون بوسعنا القول إنّ التطبير يواجه مشكلة من ناحية القواعد الصحّية؛ لكن، إن لجأ الإنسان إلى تعقيم رأسه، ووضع قليلاً من المحلول المطهّر للجروح (البيتادين)، فإنّ هذه المسألة ستنحلّ، مع أنّنا لم نسمع لحدّ الآن أنّ أحدهم أصيب بمرض جرّاء ذلك؛ فقد سافرنا في تلك الأيّام إلى العراق مرارًا وتكرارًا، وكنّا هناك في أيّام عاشوراء، وشاهدنا هذه الأشياء، لكنّنا لم نر حصول أيّ مرض، اللهمّ إلاّ إصابة البعض بالضعف، غير أنّ أحوالهم كانت تتحسّن.
قلت لهم: انظروا، أنا هنا لا علاقة لي بمسألة عشق الإمام الحسين عليه السلام ومحبّته، وأنّ هؤلاء يهدفون من خلال هذه الممارسات إلى وضع أقدامهم في تلك المدرسة والاقتراب أكثر من ذلك النهح؛ فهذا أمر ينبغي بحثه والحديث عنه في موضع آخر؛ لكنّني طرحت هذه المسألة على ضوء القوانين الحديثة، والقواعد العقلائيّة والصحّية والطبّية؛ ومع ذلك، فإنّني لا أقول عنها حلال ولا حرام، ولا أوصي بها؛ فهذه هي حقيقة المسألة، وكلٌّ يعمل وفقًا لتشخيصه؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك الآن العديد من مراكز الحجامة التي تقوم بالحجامة في الرأس؛ فبأيّ شيء يختلف هذا عن التطبير؟ بل لعلّهم يأخذون دمًا أكثر! فشكرني أولئك المسؤولون، واقتنعوا كثيرًا.
انظروا، نحن لدينا مجموعة من القواعد العقلائيّة، والإسلام يُقرّ هذه القواعد؛ وهو كما يقول لك: «إن جرحت نفسك بالسكّين عبثًا، ستُحاسب عن ذلك يوم القيامة»، فإنّه يقول لك: «إن توجّب عليك أن تُعطي ثمانمائة سنتيمتر مكعّب من الدم لكي تنجو وتتعافى، فإنّ ذلك لا يوجد فيه أيّ إشكال»؛ لماذا؟ لأنّ العقل يقتضي هذا الأمر، والعقل يقول: عليك هنا أن تقوم بهذا العمل؛ فهو كما يقول: «إنّ ذلك العمل لا مسوّغ له، وهو يُعاني من الإشكال»، فإنّه يقول: «إنّ هذا العمل له مسوّغ، ولا إشكال فيه بتاتًا، بل قد يُقال إنّه واجب»؛ فأوّلاً العقل، ثمّ الإسلام؛ وأوّلاً العقل، ثمّ التشيّع؛ وأوّلاً العقل، ثمّ بعد ذلك يأتي كلّ شيء: الحياة والدين والتكامل؛ فجميع هذه الأمور قائمة على أيّ شيء؟ على أساس العقل؛ فهذه هي مدرسة العرفان.
منهج المرحوم العلاّمة في استدعاء الخطباء من المعمّمين
لقد أشرنا في الليلة السابقة إلى أنّ منهج المرحوم العلاّمة يستدعي أن يكون الخطيب في المجالس معمّمًا؛ والذين لديهم اطّلاع على مدرسته رضوان الله تعالى عليه يعلمون علّة هذا الأمر وفلسفته؛ ولهذا السبب لجأت إلى طرح هذا الموضوع؛ ولو أنّ هناك عددًا من الأحبّة [غير المعمّمين] يخطبون ويقرؤون العزاء في بعض المجالس؛ إلاّ أنّ ذلك من الموارد الاستثنائيّة التي أمرتهم فيها أنا بنفسي بذلك، لا أنّهم لجؤوا إلى هذا العمل من تلقاء أنفسهم لا سمح الله، مع أنّ لديهم استعدادٌ للقبول بأيّ تغيير أو تحوّل. إنّ هدفي من هذا الكلام هو أنّني أرى بعض الأفراد يرغبون في عقد جلسات، ويطلبون منّي أن أشير عليهم بأحد الأشخاص، وحينما أقول لهم: استدعوا خطيبًا منبريًّا، أجدهم يُصرّون على استدعاء شخص معيّن، وحتّى أنّهم يسعون لاستدعاء أشخاص من الخارج، ويقولون: يوجد في حيّنا شخص يُجيد الكلام، ويجتذب الشباب بطريقة جيّدة، فهل تأذن لنا في استدعائه؟ فأقول لهم: لا، استدعوا شخصًا معمّمًا، ولا إشكال في أن تأتوا به منه الخارج، لكن، ينبغي أن يكون من المعمّمين.
ولهذا السبب، أردت هنا أن أقول بخصوص سوء الفهم الذي حصل تجاه بعض الأحبّة: إنّ هؤلاء يُعدّون وفقًا لمنهج المرحوم العلاّمة من الموارد الاستثنائيّة؛ لكن، ليس بوسع كلّ أحد تحديد هكذا موارد؛ ولهذا، لا ينبغي على أيّ أحد أن يرى نفسه من ضمن موارد الاستثناء؛ لا! لأنّ الموارد الاستثنائيّة لها حسابها الخاصّ، وتخضع لزمان خاصّ، وتكون محدودة بجلساتها الخاصّة؛ وأمّا البناء والأساس الذي يجب الاعتماد عليه في عقد المجالس، فهو الذي ذكرته آنفًا، حيث ينبغي أن يكون بتلك الطريقة. فإذا كنّا بهذا النحو، فإنّنا سنكون ماشين على الطريق، وإلاّ، فلا؛ فنبدأ في تحريك المسائل في هذه الناحية وتلك، وندرسها بطريقة مختلفة، ونشرع في الإلحاح على الأمر؛ لكن، أقصى ما يُمكن أن يحدث هو أن يأتي مثلاً أحدهم، ويُصرّ عليّ قليلاً، فماذا بوسعي أن أقول له حينئذ؟ سأقول له: أنت أعلم بحالك! فغاية الأمر أن أقول له: أنت أعلم بحالك! وبعد ذلك، ماذا سيقولون؟ سيقولون: لقد أذن لنا السيّد! فالمسألة بهذا النحو.
يريد الإمام عليه السلام هنا تسليط الضوء على كيفيّة تسلّل الشيطان إلى منافذ الإنسان، وأسلوب تسلّطه عليه. ففي زمان المرحوم العلاّمة، أذكر أنّهم كانوا يأتون عنده مرارًا وتكرارًا، ويسألونه: هل تأذن لنا يا سيّدي في عقد مجلس عزاء بمنزلنا؟ فكان يقول: «لا»، يا سيّدي، هل تُجيز لنا عقد مجلس عزاء لمدّة خمسة أيّام؟ فكان يقول: «أنتم أعلم بحالكم!»، لكنّه كان يقول بنفسه للبعض: «أيّها السيّد، اعقد مجلس عزاء في منزلك، واستدع فلانًا وفلانًا».
فعلى الذين يعقدون مجالس العزاء أن ينتبهوا إلى الأمر الذي يُريدون الإقدام عليه؛ فعزاء سيّد الشهداء ومجالس الأئمّة عليهم السلام لها مكانتها الخاصّة، لا أن يُخصّص أيّ بيت كيفما كان، ويُقال: هنا يوجد عزاء! فالذي يرغب في عقد مجلس في منزله عليه أن يلتزم بشروط هذا المجلس ومتطلّباته، ويتوجّب عليه أن يُهيّئ أموره الضروريّة؛ فعليه [مثلاً] أن يُوجّه دعوةً للخطيب الذي جرى تعيينه، ويُوفّر له وسائل الذهاب والإياب، لا أن يقول له: لدينا مجلس عزاء أيّها السيّد، فتعال عندنا! أ فهل هنا يوجد بيت الخالة؟! لدينا عزاء أيّها السيّد، فتعال لقراءة مصائب أهل البيت! ما معنى هذا الكلام؟! كان المرحوم العلاّمة يقول: إذا دعوك إلى مجلس [للخطابة]، فعلى الداعي بنفسه أن يأتي بسيّارة، ويحضرونك، ثمّ يُرجعونك، لا أن يقولوا: يوجد لدينا هناك عزاء أيّها السيّد.
لا أعلم هل أخبرت الرفقاء بالقضيّة التالية أم لا؛ وعلى أيّ حال، فقد حصلت في مشهد في إحدى السنوات؛ ولا ضير الآن في [الإفصاح عنها] باعتبار أنّ الحديث بلغ بنا إلى هذا المقام، كما أنّني لا أعتقد أنّنا سنُكمل الحديث عن ذلك الموضوع كما وعدنا في الجلسات السابقة، ونوكل ذلك إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
فقد عُقد في منزل أحد الأحبّاء بمشهد ـ وكان من جيران المرحوم العلاّمة ـ مجلس طيلة العشرة الأولى من محرّم، فقال لي المرحوم العلاّمة: اعتل المنبر أنت يا فلان! فكان حديثي يدور [في تلك الجلسات] عن كلام حضرة سيّد الشهداء عليه السلام: «النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوکِهِم، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ؛ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ»؛ أي أنّ الناس على دين زعمائهم وحكّامهم، فيُطيعونهم في كلّ ما يأمرونهم به؛ فالدين عندهم مثل اللعاب الذي يبقى في فم الإنسان، بحيث إنّ البلل ينتقل مع اللسان إلى هذه الناحية وتلك؛ لكن، إن زاد قليلاً، فإنّ الإنسان ... «يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ؛ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ»؛ فما إن يحلّ قليل من الابتلاء والامتحان والشدّة والضيق، حتّى يتخلّى الناس عن [الدين] مباشرةً، ويذهبون للاهتمام بأشغالهم، وبرامجهم الخاصّة، وأفكارهم الشخصيّة، ويسلكون ذلك الطريق.. «يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ؛ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ»؛ فهذا هو الموضوع الذي تحدّثت عنه في تلك العَشَرة.
المرحوم العلاّمة لم يأت يومين أو ثلاثة أيّام [لحضور ذلك المجلس]؛ وبالمناسبة، فقد أتى عدّة أيّام من ضمنها ذلك اليوم الذي أقصده في كلامي، حيث قلت للرفقاء في ذلك المجلس: بما أنّ السيّد العلاّمة موجود هنا، فإنّني سأذكر هذه المسألة أمامه، حتّى لا تعترضوا عليّ بأنّني لا أذكرها إلاّ في غيابه، وبأنّني حينما أراه غائبًا، أقول كلّ ما يحلو لي؛ لا، فهو حاضر هنا؛ فقلت: تعالوا بنا ننظر إلى أنفسنا، ولا شغل لنا الآن ببقيّة الناس؛ فنحن نعتبر أنفسنا صفوة عالم الإنسانيّة بأجمعه، ونعدّ أنفسنا سلاّكًا، وأتباعًا للإمام، ومن العرفاء؛ هذا، مع أنّ ادّعائي أنا للعرفان ...، ونرى لأنفسنا حسابًا مستقلاًّ عن جميع هذه المخلوقات، فتعالوا بنا [ننظر] لأنفسنا.
ضرورة مراعاة الأدب عند دعوة الخطباء إلى المجالس
فقلت لهم: «قبل سنتين، عُقد مجلس عزاء في منزل أحد الرفقاء ـ وقد كان حاضرًا بنفسه في ذلك المجلس، حيث جاء من طهران إلى مشهد ـ ، وكان هذا المنزل يقع في شارع طهران الجديدة، وهو الشارع الذي يبدأ من ساحة الإمام الحسين، وينتهي في ...؛ وقد كنت لوحدي؛ إذ جئت من مشهد، وكان بيتنا يقع آنذاك في منعطف "شميران"، فقضيت تلك الليلة لوحدي، وكان المطر يهطل في الليل، وبقيت أنتظر حلول الصباح، حيث طُلب منّي المشاركة في ذلك المجلس؛ ففي أيّام تواجدي في طهران، كنت أتحدّث [عادةً] إلى الرفقاء والأحبّة؛ ولهذا، دُعيت للمشاركة في ذلك المجلس أيضًا. حينما حلّ الصباح، خرجت من البيت، لكن، مهما انتظرت، لم يأت أحد ليُرافقني، فطأطأت رأسي إلى الأسفل، وخرجت بنفسي من البيت كطفل وديع! من دون أن تكون لديّ مظلّة أو ...، فأتيت إلى رأس الشارع، أنتظر مجيء سيّارة أجرة؛ لكنّني مهما بقيت واقفًا، لم تأت أيّة سيّارة؛ لأنّ الوقت كان مبكّرًا؛ وحتّى إن جاءت سيّارة، فإنّ صاحبها لم يكن يُبد أيّ اهتمام، وذلك بسبب النظرة التي صار ينظر بها الناس في ذلك العصر إلينا [نحن المشايخ والمعمّمون]! مع أنّ الأوضاع صارت في هذه الأيّام أفضل!!! في حين أنّ الناس كانوا في الزمان السابق يترجّلون؛ فكان الرجل ذو ربطة العنق يترجّل، ويفتح لنا باب السيّارة، ويُلحّ علينا بالركوب، ويوصلنا، وحينما نريد النزول من السيّارة، يفتح بنفسه الباب؛ ويبدو أنّ الوضع الآن هو مثل ذلك الزمان تقريبًا!! على أيّ تقدير، هذه مجرّد أمور شكليّة.
فجئت إلى هناك، وبقيت واقفًا تحت الأمطار لمدّة عشرين دقيقة، بحيث صارت عباءتي التي كان لونها بنّيًا ـ مثل هذه التي أرتديها ـ مبلّلة؛ فرأيت أنّه عليّ المشي قليلاً على ما يبدو، فجئت أمشي بذلك النحو من منعطف "شميران"، إلى أن وصلت إلى مفترق الطرق الذي يوجد فيه جسر، لكنّني لا أعلم اسمه؛ فجئت إلى هناك بذلك النحو، وأنا أمشي تحت الأمطار، إلى درجة أنّ جُبّتي تبلّلت أيضًا؛ أي أنّ البلل تسرّب من العباءة، فتبلّلت جبّتي كذلك، ولم يبق إلاّ القميص! فبقيت أنتظر هناك مجيء سيّارة أجرة لمدّة ربع ساعة، لكنّها لم تأت، فتبلّل باقي ثيابي؛ ولو كان ذلك اليوم هو يوم الجمعة، لكان بوسعي على ما يبدو أداء الغُسل؛ لأنّ ثيابي تبلّلت حقيقة؛ أي أنّ العباءة والجبّة والملابس الداخليّة كلّها تبلّلت، وكان الماء يقطر منها. ولمـّا رأيت أنّني لا أستطيع العثور هناك أيضًا على سيّارة، كما أنّ اهتمام الناس بنا كبير جدًّا، قرّرت أن أمشي في ما بقي من الطريق، فجئت إلى ساحة الإمام الحسين عليه السلام؛ وحينما وقفت هناك، رقّ قلب أحدهم لحالي، وأوصلني إلى هناك؛ لكن، كان عليّ أن أمشي أيضًا في جزء من الطريق العلويّ؛ فوصلت إلى هناك، وكأنّني كنت جالسًا تحت رشّاش الحمّام، أو تحت شلاّل من الماء. وحينما وصلت بتلك الوضعيّة، كان المجلس قد انتهى؛ وما إن جلست هناك، حتّى رأيت أحدهم ينظر إليّ بطريقة معيّنة، وآخر يُحدّق فيّ بطريقة أخرى، وثالث يقول: لقد تركتنا يا سيّد ننتظر من دون جدوى! فلم أنبس ببنت شفة؛ وقال آخر: يا سيّدي، لقد بقينا ساعة كاملة ونحن ننتظرك؛ فلم أنطق كذلك بأيّة كلمة، وقال آخر: حسنًا يا سيّدي، كان عليك أن تخرج من البيت في وقت أبكر (لو أخبرتني لانطلقت منذ الليل!!)، فلم أقل أيّ شيء؛ وحينما أنهى هؤلاء السادة كلامهم، التفتّ إلى الذي كان يجلس بجانبي، وقلت له: متى خرجت من بيتك أيّها السيّد؟ فقال لي: في الساعة الكذائيّة، فقلت له: أنا خرجت من المنزل أبكر منك بنصف ساعة؛ ثمّ التفتّ إلى الآخر، وقلت له: متى خرجت من بيتك أيّها السيّد؟ فقال لي: في الساعة الكذائيّة، فقلت له: أنا خرجت من المنزل أبكر منك بعشرين دقيقة؛ ثمّ التفتّ إلى الآخر، و ...؛ وبعد ذلك، قلت لهم: هل طالبتكم بشيء لكي آتي إلى هنا؟ أنا لم أطالبكم بأيّ شيء؛ فنحن رفقاء، ونحن نأتي إلى هنا، ونذهب، و ...؛ ثمّ قلت: كم واحد منكم يمتلك سيّارة؟ كم واحد منكم تمكّن من العثور على سيّارة أجرة، وأتى إلى هنا؟ وأنت يا صاحب البيت الذي تعترض عليّ، ألا تتوفّر على سيّارة؟ أ لم تُفكّر في أنّني لا أملك أيّة وسيلة نقليّة؟ فكيف سيتسنّى لي المجيء إلى هنا؟ لقد خرجت من البيت في الساعة الكذائيّة، ولم أصل إلاّ في هذه اللحظة، وبهذه الوضعيّة؛ فها هو قميصي، فانظر إليه كيف صار ...؛ فإذا كنت أنا لم أُبد أيّ اعتراض، فلماذا تعترضون أنتم عليّ؟!
قلت لهم ـ وكلامي هنا في مشهد ـ: «حينما أردت المجيء إلى هنا، أردت الحديث عن أنّ لكلّ واحد منّا مكانته ومنزلته الخاصّة، وقد تمّكن الرفقاء بأنفسهم من استيعاب هذه المسألة عمليًّا»؛ وكان المرحوم العلاّمة جالسًا هناك، فقلت: «سأحكي لكم الآن عن قضيّة حصلت معه هو بنفسه الجالس هنا».
قلت: في الزمان السابق، كانت جلسات يوم الجمعة متنقّلة، وكانت تُعقد في المنازل؛ ثمّ صارت تُعقد بعد ذلك في مسجد القائم قبل ثلاث ساعات من وقت الظهر، لتنتهي عند حلول الظهر؛ فكان [السيّد العلاّمة] يُؤدّي الصلاة، ويرجع؛ لكن، قبل ذلك، كانت هذه الجلسات تُعقد في المنازل، حيث كان منزلنا يقع آنذاك في شارع "آهنك" بمنطقة "أحمدية دولاب"، وكانت المسافة الفاصلة بين هذا المنزل، وبين مكان عبور السيّارت تبلغ كيلومترًا واحدًا تقريبًا؛ فكان يلزم قطع هذه المسافة مشيًا للوصول إلى طريق معبّد تعبر منه السيّارات، وكان المرحوم العلاّمة يقطع هذه المسافة إلى مسجد القائم كلّ يوم ذهابًا وإيّابًا.
كان ذلك اليوم هو يوم الجمعة، وأذكر تمامًا أنّه كان يوم الثامن والعشرين من شهر صفر، فالتمس منه أحد أهالي المسجد في ميدان الإمام الحسين عليه السلام أن يجعل جلسة الجمعة قريبةً من فترة الظهر بدلاً عن الصباح، بحيث تُقام الصلاة هناك، ويُقدّم الطعام، فقبل طلبه؛ وقد كنت أبلغ في ذلك الزمان الثامنة أو التاسعة من العمر لا أكثر؛ فانطلقنا من البيت في الساعة التاسعة، إلى أن وصلنا إلى شارع "شهباز"؛ أي أنّنا أتينا من المنزل بهذا النحو إلى أن وصلنا إلى هذا الشارع؛ إذ لم تكن هناك أيّة وسيلة نقليّة؛ فوقفت برفقة أخوتي مع المرحوم العلاّمة في جانب الشارع، وأذكر أنّنا بقينا ننتظر سيّارة أجرة لمدّة نصف ساعة بالضبط من دون أن تمرّ أيّة واحدة، مع أنّ الطريق كان مستويًا.
فنظر إلينا المرحوم العلاّمة؛ إذ كان يهتمّ كثيرًا ببيان المسائل وتوضيح الطريق، بحيث إنّه وفي ذلك الزمان، كان يُبيّن لنا الحقائق بمستوى فهمنا، وكان يسعى لتفسير المسائل وترسيخ الطريق لدينا في كلّ مراحل عمرنا، لكن، بقدر فهمنا وإدراكنا؛ فلم يكن يمتنع عن الحديث معنا أو إطلاعنا على الأحداث، بل كان يضعنا في مسار الحقائق، ويُبيّن لنا الأمور، ويُرشدنا بما يتوافق مع حدودنا الفكريّة؛ فقال لنا: «أيّها الأولاد، أريد أن أخبركم بشيء»؛ وهذه هي نفس عبارته، كما أنّه كان يُصغي إلينا، غاية الأمر أنّه كان يُرخي برأسه إلى الأسفل، فنقول كلّ ما يحلو لنا.
فنظر إلينا، وقال: «أيّها الأولاد، أريد أن أخبركم بشيء: في ذهابنا الآن إلى هذه الجلسة، هل توجد لدينا أيّة غاية دنيويّة، أم لا؟»، قلنا له: «لا، فهذا مجلس، وأنت تريد الذهاب إلى هناك من أجل إلقاء خطبة ومن أجل كذا وكذا»؛ وهل نطالب بشيء في مقابل ذلك؟ لا؛ لأنّه لم يكن من أهل هذه الأمور، ولم يكن مسلكه إلى آخر عمره يتّجه نحو هذه المسائل؛ بينما تجد البعض الآن يعقد مجلس عزاء لسيّد الشهداء، وإلى جانب ذلك، يعرضون على الناس مجموعة من الكتب لأجل الإعلان والإشهار وأمثال ذلك؛ في حين أنّه كان يقول: بعض الكتب التي نقوم بنشرها، أنا الذي أتكفّل بأموال طباعتها؛ هل التفتّم؟ فكان يقول: أنا الذي أتكفّل بطباعتها من مالي الخاصّ؛ وعلى أيّ تقدير، طوبى له؛ فقد كان له طريقًا خاصًّا و ... .
فقلنا له: «لا»؛ فقال: «انظروا الآن إلى مقدار اهتمام الناس بمسألة إقامة المجالس وإحياء الشعائر وعقد المجالس و ...، فتجدهم يستدعون فلانًا لإلقاء خطبة، ولا يُكلّفون أنفسهم عناء إرسال سيّارة كحدّ أقلّ، لتأتي به من بيته؛ فيتوجّب علينا المشي هذه المسافة، ثمّ الانتظار هنا لمدّة نصف ساعة من دون أن نجد سيّارة»؛ ولا يخفى أنّ كلامه هذا ليس بسبب أنّ في قلبه مثلاً ...؛ لا، بل كان يريد فقط أن يُخبرنا بما هو موجود في هذه الدنيا، حتّى إذا وصلت أنتَ يا سيّد محسن غدًا إلى مكانة معيّنة، تعلم ما هي الظروف والأجواء التي تُحيط بك؛ فلا تأتي الدنيا، وتخدعك، ولا تأتي الأوضاع، وتُعرّضك لتلك المهالك التي أوقعَت فيها الآخرين؛ فعليك أن تكون حذرًا.
فقال: «لقد بقينا هنا ننتظر مجيء سيّارة لمدّة نصف ساعة من دون جدوى»؛ ثمّ أخرج ساعته، وقال: «سننتظر خمس دقائق أخرى؛ فإذا عثرنا على سيّارة، فبها ونعمت؛ وإلاّ، سنرجع إلى المنزل»؛ وبالمناسبة، فقد وجدنا سيّارة في تلك الدقائق الخمس، وذهبنا.
قلت: انظروا، هذا هو المعيار في...؛ «والدِّینُ لَعِقٌ عَلَی أَلسِنَتِهِم»؛ فتجدهم يجولون ويلفّون؛ وأمّا تلك المسائل والحقائق التي بيّنها [العظماء]، فهي تنفعنا في يومنا هذا أيّها الرفقاء.. كلٌّ بحسب ظروفه ومكانته الخاصّة؛ فقد بيّنوها لكي نستخدمها اليوم، ونجني منها فائدة الآن؛ فالحالة المعنويّة التي تعرض الإنسان في مجالس الأئمّة هي التي تنفعه؛ فما معنى كثرة الحضور أو قلّتهم هنا؟! فليأت أناس كثيرون، أو تأت قلّة منهم! وهنا، أريد استغلال هذه الظروف والأجواء لكي أذكر للرفقاء المسألة التالية: فالعديد من الرفقاء والأحبّة يُحبّون المجيء إلى قمّ لحضور المجالس المختلفة التي تُعقد في الأعياد والوفيات؛ أجل، لزيارة السيّدة المعصومة سلام الله عليها مكانتها الخاصّة، لكن، أ لا يوجد في كلّ مدينة مجلس في الصباح؟ فما هو الفارق بينهما؟ وبأيّ شيء يختلف هذا المجلس عن المجلس الذي يُعقد في قمّ؟ فإذا كان المهمّ في هذه المجالس هو أن يهيّء الإنسان الظروف للتقرّب من الإمام، ويجني فائدة معيّنة، ويُحصّل مسألة خاصّة، فإنّ الإمام غير محصور بقمّ، أو طهران، أو كرج، أو شيراز، أو إصفهان، أو إيران، أو غيرها، بل هو في كلّ مكان؛ وأمّا إذا كان المهمّ هو شيء آخر؛ ففي هذه الحالة، علينا أن نرى كم جنينا من ذلك، وكم خسرنا. فعلى كلّ واحد ـ طبقًا لظروفه ومقتضياته الخاصّة ـ أن يُشارك في مجلس الصباح الذي يُعقد في مدينته، سواءً كان مجلس عزاء أو مجلس عيد للإمام عليه السلام؛ وحينئذ، سيتمكّن من الحصول على معنويّات ذلك المجلس؛ وأمّا أن نقول: «من الذي أتى يا سيّدي؟ ومن الذي لم يأت؟»، فهنا لا توجد لدينا إدارة حكوميّة! فمن شاء فليذهب؛ وأنا بنفسي أحيانًا لا تكون لديّ رغبة في الذهاب إلى أحد المجالس، فلا أذهب؛ والرفقاء مطّلعون على ذلك، حيث يقوم أحدهم بعقد مجلس عزاء طيلة خمسة أيّام أو عشرة أيّام، فأحضر يومين أو ثلاثة أيّام منها؛ فإذا لم تكن لديّ رغبة، فإنّني لا أذهب؛ وكلّ من تكون عنده رغبة، فليذهب، وكلّ من لا تكون لديه رغبة، فلا يذهب؛ وإذا كانت ظروف الإنسان تستدعي الذهاب، فليذهب؛ وأمّا أن نقول: «أنت لم تأت، وأنت أتيت»، فإنّ جميع هذه الأمور تأتي، وتسلب تلك الحقيقة وتلك المعنويّة، وتضع بدلها أشياء أخرى لا تنفعنا بتاتًا؛ مع أنّ هذه المسائل موجودة في كلّ مكان، وكلّ واحد يجني فائدته الخاصّة.. هل التفتّم؟! قال: «ره چنان رو كه رهروان رفتند»؛۱ فبهذه الطريقة سلكوا، وبهذه الطريقة تمكّنوا من قطف الثمار.
حينما عقد المرحوم العلاّمة في طهران مجالسًا لأيّام الأعياد والوفيات، هل تعلمون كم بلغ عدد المشاركين؟ ففي أوّل مجلس عقده في ذلك المنزل الواقع في منعطف "شميران" بطهران، جاء في اليوم الأوّل أربعة أشخاص سوانا، فصرنا نحن مع المرحوم العلاّمة سبعة أو ثمانية أشخاص، حيث كان من المقرّر أن يعتلي عمُّنا المنبر، فالتفت إلى السيّد العلاّمة، وقال: «هل أعتلي المنبر الآن يا أخي؟»، فقال له: «تفضّل»، فقال: «لأجل من أعتلي المنبر؟»؛ وأنا أذكر ذلك بكلّ وضوح! فقال له: «حسنًا، اعتلِه لأجلنا نحن»؛ هل التفتّم؟! فما معنى: لأجل من أعتلي المنبر؟! حينئذ، يتّضح جيّدًا إلى أيّ شيء ستؤول الأمور! لقد كان سيّان بالنسبة إلى [المرحوم العلاّمة] ذلك المجلس ذي الثلاثة أو الأربعة أشخاص، وذلك المجلس المعقود في مشهد والذي كان يجلس فيه الحضورُ في الزقاق، فيأتون عنده، ويطلبون منه بناء طبقة في الأعلى؛ فلم يوجد بينهما أيّ فارق بالنسبة إليه، بل كان شأنها واحد؛ وأمّا إذا لم يكن الأمر بهذا النحو، فإنّ الإنسان سيخسر من جيبه!
نرجو من الله تعالى أن ينصرنا، ويُثّبتنا على طريقه المتمثّل في طريق العظماء والأولياء، ويُوفّقنا لما يحبّه ويرضاه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد