المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحقيقة الدنيا والشيطان
التاريخ 1425/01/21
التوضيح
من هو الذي تهون عليه الدنيا والشيطان والخلق؟ وكيف ترتبط عوالم الوجود ـ ومنها الدنيا ـ بالله تعالى؟ ما هو المراد الدقيق من الدنيا المذمومة؟ ما هو الأسلوب الذي يتّبعه الشيطان لإلهاء الإنسان وتفريغه من الحقائق؟ كيف يستفيد الشيطان من نفس الحقّ لأجل إسقاط الحقّ؟ كيف يُمكن للدنيا أن تصير هيّنة عند الإنسان؟ هي أسئلة سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة الشريفة التي عقدها لإكمال حديثه عن فقرة «وَإذَا اشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ، لَا يتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلَى الْمِراءِ وَالْمُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ»؛ علاوةً على تطرّقه لأبحاث وتساؤلات أخرى
هو العليم
حقيقة الدنيا ومعنى هوانها على السالك
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٩٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بالله مِنَ الشَّيطان الرَّجيم
بسم الله الرّحمن الرحيم
وصلّى الله عَلى سيِّدنا و نبيّنا و حَبيب قُلوبنا و طَبيب نُفوسنا
أبي القاسم مُحمّد وَ عَلى آله الطَّيّبين الطّاهرين المَعصومينَ المُكرَّمين
واللَعنة الأبديّة عَلى أعدائهم أجمَعين الى يوم الدّين
من هو الذي تهون عليه الدنيا والشيطان والخلق؟
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: إذا أنعم الله تعالى على عبدٍ وأكرمه بالأمور الثلاثة الآتية: أوّلاً، «أَن لَا يرَى العَبدُ لِنَفسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَهُ مِلكًا»؛ أي ألاّ يشعر بأيّ استقلال في المالكيّة وفي ملكيّة الشيء الذي منحه الله تعالى إيّاه؛ وثانيًا، «وَلَا يدَبِّرَ العَبدُ لِنَفسِهِ تَدبِيرًا»؛ ولا يخفى أنّه مرّ معنا سابقًا بيان هذه الفقرات، وفسّرنا المراد من التدبير والاستقلال في الملكيّة والمالكيّة؛ وثالثًا، «وَجُملَةُ اشتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ تَعَالَى بِهِ وَنَهَاهُ عَنهُ»؛ أي أنّه يصبّ كلّ همّه واهتمامه في طاعة أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه؛ فإذا وهب الله تعالى العبد هذه الأمور الثلاث: الأوّل عدم شعوره بالملكيّة الاستقلاليّة لأمواله، والثاني ألاّ يُدبّر لنفسه أيّ تدبير مخالف لمشيئة الله تعالى وإرادته، والثالث أن يجعل اهتمامه منصبًّا على العمل بالتكاليف التي قدّرها الله تعالى له، سواءً كانت هذه التكاليف أمريّة أم زجريّة؛ فإذا حصلت هذه الأمور الثلاث، ووفّق الله تعالى العبد لها؛ «فَإذَا أَكرَمَ اللَهُ العَبدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ»، وشرّفه بها، ووفّقه إليها، وعظّمه بها: «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيَا وَإبلِيسُ وَالخَلقُ»؛ أي ستصير الدنيا، ويصير إبليس والناس هيّنين عنده، أو أنّهم سيضحون أذلاّء وأدنياء عنده، حيث يصحّ كلا المعنيين؛ أي أنّ الدنيا والشيطان والناس سيُصبحون بلا قيمة أو اعتبار عنده.
تتوفّر هذه الفقرة على مجموعة من النقاط الدقيقة؛ ولا يخفى أنّنا تحدّثنا في الجلسات السابقة عن هذه المسائل مع توضيح أكبر؛ وفي الحقيقة، فإنّ الإمام الصادق يسعى في هذه الفقرة إلى استخلاص النتائج من المسائل السابقة؛ لأنّه عليه السلام عمد بنفسه إلى توضيح هذه المسائل، وإماطة اللثام عنها، وبيان المراد من كلّ تلك العبارات الثلاث؛ كما عملنا بدورنا وبمقدار سعتنا الوجوديّة وإدراكنا القاصر وعقلنا الناقص وبضاعتنا المزجاة على تقديم بعض التوضيحات لكلام الإمام الصادق عليه السلام، ويبقى علينا البحث عن نقطتين أو ثلاث نقاط في هذه العبارة.
النقطة الأولى تتمثّل في قوله عليه السلام: «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيَا وَإبلِيسُ وَالخَلقُ»، حیث نجده هنا يضع الدنيا والشيطان والخلق إلى جنب بعضهم؛ لكن، ما المراد من الخلق؟ من الواضح أنّهم بنو آدم، وإلاّ فإنّه لا يقصد من كلامه غيرهم؛ فالحيوانات لا شُغل لها بنا؛ كما أنّ الجنّ والملائكة لهم حسابهم وبرنامجهم وتكليفهم الخاصّ؛ ولهذا، فإنّ المراد من هذه المسألة هم الناس الذين يتعامل ويتعاقد معهم الإنسان، ويجتمع بهم، ويتردّد عليهم؛ وهنا، علينا أن نرى السبب في ذكر الإمام عليه السلام هذه المسألة بنسق واحد وعلى نفس المنوال.
والنقطة الثانية هي: كيف يُمكن أن تكون هذه الأمور هيّنة ووضيعة وغير قيّمة؟
والنقطة الثالثة تكمن في قوله عليه السلام هنا: «فَإذَا أَكرَمَ اللَهُ العَبدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ»؛ فلماذا نُسب الأمر إلى الله تعالى، في حين أنّ كلام الإمام مع «عنوان» موجّه إليه هو: قم بهذا العمل، وعليك أن تُؤدّي تلك الأفعال، فيتعيّن عليك ألاّ ترى أنّ ممتلكاتك من نفسك، ويجب عليك أن تُفوّض تدبير شؤونك إلى مدبّر الأمور، وينبغي أن يقتصر اهتمامُك على جميع التكاليف الأمريّة والزجريّة؛ فنجد الإمام هنا يُوجّه خطابه إلى «عنوان» وإلينا أنا وأنتم، ثمّ يقول عليه السلام بعد ذلك: إذا أكرم الله تعالى الإنسان، ووفّق العبد وعظّمه بهذه الأمور، فإنّ المسائل التالية ستحصل له: سيصير الشيطان وضيعًا عنده، وستضحى علاقته به هيّنة، ولن يقع في أيّة ورطة حين صراعه معه، بل سيضحى الشيطان طيّعًا بين يديه كالشمع؛ وهكذا الشأن بالنسبة لعلاقته بالناس؛ إذ سيتمكّن من اختيار الطريق الصحيح في هذه العلاقة، ولن يتسنّى لهؤلاء أن يوقعوه في أيّة مشكلة؛ لكن، بأيّ نحو تتمّ هذه الأمور؟ وهكذا أيضًا فيما يخصّ بقيّة المسائل.
بيان كيفيّة ارتباط عوالم الوجود ـ ومنها الدنيا ـ بالله تعالى
وهنا، نشرع في البحث عن النقطة الأولى التي قال فيها الإمام إنّ الدنيا والشيطان والناس سيهونون ويضحون بلا قيمة عند الناس؛ إذ لا ريب أنّ مراده عليه السلام من الدنيا ليس هو عالم المادّة والعالم الفيزيقيّ الذي يقع في مقابل العالم الميتافيزيقيّ؛ أي العالم المادّي الذي يُقابل عالم المجرّدات؛ وذلك لأنّ هذا العالم الذي يُعبّر عنه بعالم الطبع وعالم الأجرام مخلوق لله؛ وكل ما هو مخلوق له تعالى لا يُمكنه أن يكون عرضة لذمّ الإمام عليه السلام. فالله تعالى هو الذي خلق هذا العالم بشمسه وقمره ونجومه ومجرّاته؛ وبالتالي، فهي لا ذنب لها هنا؛ وبمقتضى إحدى القواعد العلميّة والفلسفيّة والحِكميّة الدقيقة، حتّى المجرّد ـ الذي يُعبّر عن وجود الله تعالى وعن الوجود الإلهيّ البحت والبسيط ـ تنزّل بواسطة الحدود والقيود، وتحوّل إلى عالم المادّة، كما تحوّل إلى بقيّة العوالم المجرّدة أو نصف المجرّدة؛ كالبرزخ الذي هو عبارة عن عالم واقع بين عالمي التجرّد والمادّة، ويتوفّر على صورة، وعلى حدود وقيود هذه الصورة.
فلا يصحّ أن نقول إنّ الله تعالى كان موجودًا، وكانت هذه العوالم موجودة أيضًا في مكانها الخاصّ، من دون أن توجد أيّة علاقة بينهما، ولا أن نقول كما تقول الطوائف المعتقدة بالثنويّة: قد كانت هناك حقيقة موجودة في قبال الله تعالى؛ نظير أن تكون لدينا شاحنة، فتُفرّغ حمولة من اللبنات، ثمّ يجيء البنّاء بعد ذلك، ويضع هذه اللبنات بعضها فوق بعض، ليصنع جدارًا؛ فنأتي، ونقول هنا: كانت لدينا حقيقة موجودة غير الله، فأخذ سبحانه وتعالى التراب من هناك، وصنع منها آدم، وكوّن منها حسن وتقيّ وزيد وعمرو، واستحدث منها الشمس والقمر والنجوم؛ هل الأمر بهذ النحو؟! فإذا كان هناك شيء موجود في مقابل الله تعالى، فإنّه سيكون قديمًا، وإذا كان كذلك، فإنّه سيكون واجب الوجود أيضًا؛ ممّا سيلزم منه تعدّد واجب الوجود؛ وهي مسألة باطلة عقلاً ومنطقًا؛ لكن، مشكلتنا أنّنا لا نستطيع الفرار من القبول بهذا المعنى والتهرّب من الاعتراف به في حقّ عالم الملائكة والمجرّدات، فنعُدّ عالم جبرائيل وميكائيل وعزرائيل متعلّقًا بالله؛ بينما تجدنا نعتبر ما يرتبط بعالم المادّة منفصلاً عنه تعالى، ونضع له حسابًا مستقلاًّ عن عالم ما وراء المادّة؛ في حين أنّ حالهما واحد. فبنفس المقدار الذي يكون للحقائق المجرّدة في العوالم العلويّة، والعوالم العقليّة والروحيّة، وعوالم الملائكة والنفس تعلّق بالله تعالى، يكون للعوالم المادّية والفيزيقيّة تعلّق به سبحانه، من دون أدنى فارق بين هذين التعلّقين، بحيث يكون أحدهما أقلّ، والآخر أكثر؛ كأن يكون ما يرتبط بعوالم الملائكة أقرب إلى الله، وما يختصّ بعالم المادّة أبعد منه؛ وكأنّنا نعتقد بوجود فاصلة مكانيّة وكمّية بين حقيقة ذات الباري تعالى، وبين مراتب نزول أسمائه وصفاته! فالمسألة ليست بهذا النحو، بل هذا الأمر باطل. فبنفس المقدار الذي يكون الله تعالى قريبًا من عالم الأجرام ومشرفًا عليه ومرتبطًا به، فإنّه يكون كذلك بالنسبة للعوالم العقليّة والمجرّدة، وعوالم الملائكة؛ من دون أيّ اختلاف في التعلّق بالمبدأ، والقرب والبعد منه.
أجل، هناك اختلاف بين نفس هذه العوالم من حيث المرتبة، بحيث يرجع قربها وبعدها إلى طبيعة هذه المراتب، وليس إلى تلك الذات المشرفة على هذه العوالم؛ فالقرب والبعد من هذه الجهة، وليس من تلك الجهة؛ إذ لا يوجد من جهته تعالى أيّ اختلاف، فليس هناك أيّ اختلاف ولائيّ، وأيّ اختلاف في مرتبة الإشراف الإلهيّ؛ ولا يوجد أيّ فارق بين هذين العالمين من حيث نظر الله تعالى ورؤيته وسمعه وولايته وهيمنته وسيطرته الوجوديّة؛ وحينئذ، كيف يُمكن أن يقع عالم المادّة عُرضة للذمّ على لسان أولياء الدين؟! فالإمام لا يأتي، ويذمّ ما خلقه الله تعالى بذاته؛ وما تحدّثنا عنه سابقًا بخصوص ذمّ الآيات القرآنيّة وكذلك الروايات الشريفة لما يتعلّق بالدنيا راجعٌ إلى طبيعة العلاقات القائمة في هذه الدنيا؛ فهذه العلاقات هي التي تُسمّى بالدنيا؛ وهي علاقات تُبعد الإنسان عن تلك الحقيقة والواقعيّة التي يجب عليه الاعتراف بها، وتنأى به عن تلك الحقيقة، وعن ذلك النوع من التعلّق والارتباط الذي ينبغي أن يكون له بالمبدأ؛ فكلّ ما يُفضي إلى بُعد الإنسان عن ذلك المبدأ وتلك الحقيقة يُسمّى بعالم الدنيا.
افرضوا أنّ لكم ولدين؛ أحدهما مطيع جدًّا، ومهذّب، ومؤدّب، وملتزم بالأخلاق، وله علاقات وأعمال مدروسة، وتصرّفات لائقة، ومحبّ لوالديه، ومتعلّق بهما، ويبرز العطف والحنان تجاهما، ويرعى حقّهما، ويعتني بشؤونهما في الحياة، ويسعى لتحقيق كلّ ما يرضيهما؛ لكن، شاءت الأقدار أن يعيش في تلك الناحية من العالم؛ وأمّا الابن الثاني، فهو على العكس منه تمامًا؛ وأنا هنا أضرب مثالاً فقط، ولا أقصد أنّ ذلك موجود بين هذا الحضور؛ وحتّى لو كان أحدهم له مثل هذا الابن، فكلامي غير موجّه إليه؛ فلنفرض أنّ لكم ابنٌ لا يُراعي تلك الأمور بتاتًا، بل يمشي في طريقه الخاصّ، ويفعل كلّ ما يحلو له، ويقف في وجه والديه، ويستهزأ بتصرّفاتهما، ولا يعمل بنصائحها، ويسعى للاستفادة من مكانتها وشؤونها الخاصّة بنحو سيّء، بحيث يسود إحساس بكونه عبارة عن رقعة لم توضع في مكانها الصحيح؛ ويكون هذا الابن مقيمًا في بيتكم؛ ففي هذه الحالة، هل سيكون ارتباطكم وتعلّقكم بذلك الابن الذي يعيش في تلك المنطقة النائية أكبر، أم تعلّقكم بهذا الابن الذي يعيش في منزلكم بتلك الطريقة؟ بالتأكيد أنّ ذاك الذي يُقيم في بيتكم، ويعيش في غرفة مجاورة لغرفتكم، وتلتقون به وترونه وترتبطون به كلّ يوم، ستشعرون بوجود فاصلة كبيرة بينكم وبينه؛ وذلك بسبب الموقف الذي اتّخذه تجاهكم؛ وأمّا ذاك الذي يعيش في تلك المنطقة النائية من العالم، ولعلّكم لا ترونه إلاّ في السنة بعد السنة، فإنّكم ستشعرون بوجود وحدة باطنيّة وتعلّق قلبيّ بينكم وبينه، ولو من دون أن تلتقون به؛ ولهذا، فإنّ مسألة التعلّق مسألة قلبيّة، وليست مسألة ظاهريّة ومادّية؛ فالمسائل الظاهريّة والمادّية لا علاقة لها بالتعلّق، وما يوجب القرب والبعد يرجع إلى القلب والنفس والروح، ولا يختصّ بالبدن والمادّة.
إنّ الأمور المادّية عبارة عن حيثيّات منفصلة عن بعضها تمامًا. يوجد الآن بجانبي كأس؛ فهل إذا كان هذا الكأس بجانبي، فإنّه سيكون متّحدًا معي؟ لا، فأنا موجود أتميّز بخصائص معيّنة، وهذا موجود آخر يتألّف من حجر وزجاح وغير ذلك من المكوّنات التي قد تختلف باختلاف طبيعته، وهو موجود له خصائصه المحدّدة؛ فتارةً يكون هنا، وتارة يكون هناك، وتارةً يكون في المطبخ، وتارةً يكون في دكّان البائع، وتارةً يكون في المصنع، ولا وجود لأيّ ارتباط بيني وبينه؛ والأمر بهذا النحو أيضًا بين أفراد الإنسان؛ فمع أنّه قد يشعر أحد هؤلاء الأفراد بالقرب من فرد آخر، إلاّ أنّنا نجدهما عبارة عن فردين اثنين من حيث البدن؛ فهذا يسلك طريقه الخاصّ، وذاك أيضًا يسلك طريقه الخاصّ؛ وهذا يأكل طعامه الخاصّ، وذاك يأكل طعامه الخاصّ؛ وهذا يُنجزه أعماله الخاصّة، [وذاك يُنجز أعماله الخاصّة]؛ ومع أنّهما قد يعيشان في منزل واحد وغرفة واحدة، لكنّهما يظلّان فردين اثنين؛ ومن هنا، فإنّ مسألة القرب والبعد ـ بشكل عامّ ـ لا ترجع إلى الجهة المادّية، بل إلى روح الإنسان ونفسه؛ وهذا يعتمد على أسلوب التفاعل والعلاقة القائمة بين كلّ فردين؛ فإذا كانت هذه العلاقة بينهما علاقة جذب، فإنّها ستُقرّبهما من بعضهما؛ وإذا كانت علاقة دفع، فإنّها ستُبعدهما عن بعضهما.
المراد الدقيق من الدنيا المذمومة
ففي عالم الدنيا ـ والدنيا هنا بمعنى المادّة ـ، يُطلق على كيفيّة ارتباطنا اسم الدنيا؛ فالدنيا تعني الوضيعة والسفلى؛ لأنّها مأخوذة من الأدنى، والأدنى يعني الأسفل؛ وهي مؤنّثُه. فالمراد من الدنيا: العالم الذي يكون أوضع وأسفل من كافّة العوالم، وأقلّها قيمةً؛ فما حقيقتها إذن؟ إنّها تُعبّر عن كيفيّة [خاصّة] لتعلّق الإنسان بالأشياء التي تحيط به، وكيفيّة تعاملها معها، وطريقة تفكيرها بها، وكيفيّة نظرها إليها؛ فهذا الذي يُقال له الدنيا؛ وفي هذه الحالة، إذا كان هذا النحو من النظر والطريقة من التعامل يُقرّبان الإنسان من المبدأ والحقيقة والوحدة، فلن تكون لدينا هنا دنيا؛ وأمّا إذا كانا يُبعدانه عن المبدأ، فإنّ هذه هي الدنيا.
ولهذا، فإنّ الذمّ الموجّه إلى الدنيا في الآيات القرآنيّة، وكلمات العظماء، وكلام الأئمّة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ...؛ فكم ذُمّت الدنيا في نهج البلاغة! حيث نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول في عدّة مواضع من هذا الكتاب الشريف: «إليك عنّي يا دنيا، لقد طلّقتك ثلاثًا، فابتعدي عنّي؛ ولقد جاءتني الدنيا بصورة شيطان، وعلى شكل عجوز شمطاء ذات ملامح جميلة»؛ فالدنيا بهذا النحو؛ لكن، ما الذي يُريد الإمام أن يقوله هنا؟ هل مراده هو التملّك وأمثال ذلك؟ فالتملّك وغير ذلك ليست شؤون دنيويّة؛ وهل مراده التمتّع بالمواهب الإلهيّة؟ فالتمتّع بهذه المواهب ليس هو الدنيا.
لقد كان النبيّ الأكرم يُنفق ثلث الأموال التي يحصل عليها في شراء العطر والبخور؛ كما أنّ إحدى النفقات المهمّة التي كان يبذلها سيّد الشهداء في سفره إلى كربلاء تتعلّق بتعطير الخيم وتبخيرها، بحيث كانت رائحة عطر خيمه عليه السلام تصل إلى المشامّ من مسافات بعيدة؛ فهل هذه الأمور دنيا؟ أنّى أن تكون كذلك! فهل إنّ التعطّر وإنفاق الأموال في سبيل التطيّب بالعطر، والخروج من البيت بشكل نظيف، والظهور أمام الناس بمظهر جذّاب هو من الدنيا؟ لقد كان هذه الأمور بأجمعها تُمثّل منهجًا للأولياء والأئمّة.
فالذي يُحسب من الدنيا هو أن ينسى الإنسان ذلك المبدأ حين ارتباطه بالناس، ويتخلّى في هذا الارتباط عن تلك الأبعاد الإلهيّة، ويُرجّح في ارتباطه بالمسائل المصالحَ الظاهريّة على المصالح الواقعيّة؛ فهذا هو الذي يُعدّ دنيا، بحيث كلّما خطا الإنسان خطوة في هذا الاتّجاه يكون قد انغمس خطوة أكثر في الدنيا، وغاص خطوة أكثر في المستنقع؛ كما أنّه بمقدار ما يُصلح فكره هذا ويُصحّحه، فإنّه يكون قد اقترب بنفس ذلك المقدار من المبدأ والتوحيد وتلك العوالم؛ وهذا أمرٌ لا تختصّ به طائفة دون أخرى؛ أي أنّ الدنيا موجودة في كافّة الشؤون؛ فنراها حاضرةً في علاقتنا بالجار، وفي علاقتنا بالأهل والأقارب، وطبيعة الموقف وردّة الفعل التي نبديها تجاههم، حيث تجد الإنسان يُقرّهم على أفعالهم السيّئة بسبب كونهم أقارب؛ وأمّا إذا كان في موضع آخر، فإنّه يلجأ إلى الصراخ وإدانة هذه الأفعال التي تصدر من الآخرين؛ فهذه هي الدنيا. كما أنّك تجد الإنسان يتعامل مع رفيقه بالرفق والمداراة لمجرّد كونه رفيقه؛ لكن، إن حصلت تلك المسائل بعينها مع شخص آخر، فإنّه يلجأ للاستعانة بكلّ قوّته من كافّة الإمكانات والاستعدادات في سبيل القضاء على خصمه. وهكذا أيضًا بالنسبة لبقيّة الأحداث التي تقع له؛ فما دامت هذه الأحداث لها علاقة بمصالحه ومفاسده الشخصيّة، فإنّه يُبرز ردّة فعل؛ لكن، ما إن تخرج عن دائرة هذه المصالح والمفاسد، حتّى ينأى بنفسه عن تلك الأحداث، ويُطبق شفتيه، ويتنحّى عن الأمور؛ فهذه هي الدنيا. فطالما كان الإنسان يُظهر حساسيّة تجاه المسائل التي يراها ضروريّة لمستقبله ومصالحه المستقبليّة، لكن، ما إن يرى بأنّه لم تعُد توجد أيّة فائدة من ذلك، حتّى نجده يتخلّى عن تلك الحساسيّات، فإنّ ذلك سيكون دنيا! فالدنيا عبارة عن نحو ارتباط يكون متعارضًا مع التوحيد، وحقيقة عالم الوحدة، وتحصيل الرضا الحقيقي لله تعالى؛ فهذا الذي يُقال له دنيا.
يقول الإمام عليه السلام: متى ما أنجز الإنسان تلك الأعمال الثلاثة، فإنّ الله تعالى سيجعل الدنيا عنده وضيعةً ورخيصة؛ هذا، وبوسع كلّ واحد أن يختبر نفسه، ويرى كم صارت الدنيا عنده ثمينة أو رخيصة، وما هو مقدار إظهاره للحساسيّة تجاه الأمور.
الأسلوب الذي يتّبعه الشيطان في تفريغ الإنسان من الحقائق
وكما يذكر الإمام عليه السلام في هذه الفقرة، فإنّ للشيطان وإبليس تدخّل مباشر في هذه المسألة، حيث يأتي، ويُزيّن الدنيا للإنسان، ويُحوّل تلك النظرة الواقعيّة إلى نظرة اعتباريّة؛ فتحلّ هذه محلّ تلك. ولا تعتقدوا أنّ هذا الأمر يحصل هكذا منذ البداية، بل إنّ حدوثه يتحقّق في كثير من الحالات وعند العديد من الأفراد بصورة تدريجيّة؛ فالذي يريد أن يُقدم على فعل معيّن، قد يكون هدفه في الأوّل إلهيًّا، ولعلّ نيّته تعلّقت في البداية بالله تعالى حقيقةً؛ لكن، حينما ينخرط في تلك المسألة، ويخوض في تلك الأحداث، ويدخل في تلك الأجواء، ويضطرّ إلى التشمير عن ساعديه، ويُفرض عليه التحدّث، وإبداء ردود أفعال، ويأخذونه إلى هذه الجهة وتلك، ويدعونه إلى هذه الجلسة وتلك، ويأتيه الناس بالأخبار من كلّ حدب وصوب، ويذهب إلى هنا وهناك؛ فإن لم يكن منتبهًا وحذرًا ومتيقّظًا ومراقبًا لنفسه، فإنّ حقيقة تعلّقه بالله تعالى والتي حصلت له في البداية بنحو خالص ومقرِّب ستُسلب منه؛ وبسبب مراعاته للظاهر والقشرة، فإنّ هذه القشرة ستُحافظ عليه؛ لكن، سيكون حالُه حال كرة مليئة بالماء؛ فحينما تُدخلون إبرة في هذه الكرة، فإنّ الماء سيتدفّق منها قطرةً بعد قطرة، وليس دفعة واحدة؛ وإلاّ، لو خرج منها دفعة واحدة، لرجع ذاك إلى نفسه، وقال: «ماذا كنت، وكيف صرت الآن!»؛ لا، فالشيطان يأتي، ويُفرّغ السائل الموجود داخل الكرة قطرةً بعد قطرة؛ فتجد الإنسان يذهب إلى إحدى الجلسات، فتسقط منه قطرة، ثمّ يذهب إلى جلسة ثانية، فتسقط منه قطرة أخرى؛ ثمّ يحضر جلسة ثالثة، ويُقال له فيها: «إنّ فلانًا قال عنك هناك كذا»، فيقول: «يا للعجب!»، ويرى فجأة أنّ عشر قطرات سُكبت منه؛ يا سيّدي، لقد مدحك فلان هناك، وقال في خطبته: إنّ سماحة الأستاذ يقول كذا! فيرى فجأة أنّ نصف ليتر قد سُكب منه؛ يا سيّدي، إنّ فلانًا ذمّك هناك، وقال إنّك لا تفهم شيئًا! يا للعجب، أنا عديم الفهم، هو الذي لا يفقه شيئًا! فيرى فجأة أنّ ليترًا واحدًا سُكب منه؛ فشيئًا فشيئًا، تبدأ تلك الحالة التي كانت لديه، وذلك التعلّق الذي كان يشعر به، وذلك النور الذي كان يحسّ به في البداية ....
لاحظوا، فقد بدأنا نُدقّق في المسألة؛ وهذا ينطبق علينا جميعًا، حيث سأتحدّث عن ذلك إن شاء الله تعالى أثناء الشرح؛ فنحن معرّضون بأجمعنا لهذا الأمر، وقد فُتح هذا الملفّ لنا كافّة، بدءًا منّي أنا المتكلّم، وانتهاءً بكلّ واحد منكم أنتم المستمعون؛ فلا ينبغي عليكم أن تعتقدوا بالعكس، بل إنّنا جميعًا نتوفّر على هذا الملفّ، وعلينا أن نكون يقظين، فلا يأتي على بالكم أنّه يكفيكم المجيء إلى هذه الجلسة، بل إنّ الشيطان يأتي، ويجلس إلى جانب كلّ واحد منّا في نفس جلسة «عنوان البصري» هذه، ويقول له: «لقد جئت للمشاركة في جلسة عنوان البصريّ، أنعم به وأكرم! يا له من توفيق حصلتَ عليه! انظر أين ذهب الآخرون، بينما أتيت أنت إلى هنا الآن لكي تستمع إلى كلام السيّد!»، ثمّ يهمس له في أذنه، ويقول: «لقد جلستُ أيضًا إلى جانب السيّد، فلا تظنّ بأنّني جلست إلى جانبك أنت فقط، لا، بل قعدت أيضًا عند السيّد، وتسلّلت إلى الزوايا الخفيّة من نفسه؛ وهو لا يشعر بما يقوله»؛ ولا يخفى أنّنا نضرب هنا مثالاً فقط، ونرجو من الله تعالى أن يحفظنا من هذه الأمور، فلا يوجد لدينا أيّ طريق غير ذلك؛ وإلاّ، فما الذي بوسعنا أن نفعله؟! ندعو الباري عزّ وجلّ أن يحفظنا، وأن يُخلّصنا بنفسه إن شاء تعالى من هذه المخاطر والمهالك ببركة نفوس أوليائه؛ فانظروا كيف أنّ [الشيطان] يأتي بنحو دقيق ولطيف، ويتسلّل من الطريق الذي يعلم به هو، ولا نعلم به نحن.
فكم كان المرحوم العلاّمة يتحدّث عن هذه المسألة، وكم كان يُبيّنها في مختلف الجلسات وبطرق متعدّدة، وكان يقول: كلّ من لم يكن متّصلاً بمقام الولاية، وينخرط في بعض الأمور، فإنّ الشيطان يأتي بالتدريج، ويسلب منه شيئًا فشيئًا ذلك التعلّق ـ ومرادي منه ذلك النور ـ، ويُجرّده من تلك الحالة والوضعيّة والمكانة التي كان يمتلكها في البداية، فيصنع منه موجودًا آخر مختلفًا عن الموجود الأوّل؛ فتراه يُؤدّي الأعمال ذاتها، فيُصلّي، ويصوم، ويعتلي المنبر، ويفتح غرفته للناس، ويقضي حوائجهم؛ لكن كيف كان في ذلك الوقت، وكيف صار الآن؟ وما هي النظرة التي كان يمتلكها، وما هي النظرة التي أصبح يتوفّر عليها؟ فحينئذ، تأتي هذه الأمور، وتترك للإنسان مجرّد قشرة ظاهريّة تُفرحه وتُسلّيه؛ فتجده ينتقل من هذه الجلسة إلى الأخرى، وينشغل بهذا الكلام وذاك: يا سيّدي، لقد قالوا عنك كذا في الجريدة الفلانيّة؛ يا سيّدي، لقد قاموا بالدعاية لأجلك هنا؛ يا سيّدي، لقد وزّعوا كتابك هناك؛ يا سيّدي، لقد أثنوا عليك في المكان الكذائيّ، ...؛ فتأتي هذه المسائل الواحدة تلو الأخرى، ويستمرّ الإنسان في تتبّع الكلام، ومتابعة الأخبار التي تُتناقل؛ وبواسطة كلمة واحدة، تتخلّى النفس عن مكانتها وثباتها؛ فإلى أين تذهب؟ ولماذا تمشي وراء هذا الكلام الذي يُحكى؟ لماذا تتّبع كلام الآخرين؟ لماذا لا تبقى واقفًا في مكانك؟ لماذا لا تظلّ جالسًا في المكان الذي تتواجد به؟ لماذا لا تُصغي إلى ذلك الكلام بعنوان كونه مجرّد كلام وحسب؟ بل لماذا تُصغي إليه من الأساس؟ وحتّى لو كنت مضطرًّا لسماعه، لماذا تفتح له قلبك، ليسلبك ثباتك ورسوخك؟
نماذج من عمل الشيطان في إلهاء الإنسان وإبراز الحقائق بنحو مزيّف وظاهريّ
حكيت للرفقاء سابقًا أنّني كنت ذات يوم في موضع ما، فجاءني أحدهم من مكان معيّن، وقال: «يا سيّدي، لقد أحضرت معي كُتيّبًا بهذا الحجم جمعت فيه كلّ ما كُتب عنك في الموضع الكذائيّ»؛ فقلت له: «مزّقه في الحين، وألقه في سلّة المهملات»؛ قال: «يا سيّدي، لقد تحمّلت مشقّة كبيرة في جمع هذه المسائل»، فقلت: «لا أريد أن أسمع شيئًا»؛ ثمّ رأيت أنّه حزن كثيرًا، فقلت له: «هل أخبرك عن حقيقة الأمر؟ إنّ كلّ ما قلته موجود فيّ، فما رأيك الآن؟ وإنّني أُصدّق بكلّ تلك المسائل، وأُقرّ بها؛ فما الذي تريد أن تريني إيّاه»، ثمّ قلت: «اذهب، وألق بها في النهر، فلماذا تُريد أن تريني إيّاها من الأساس؟ ولأيّ شيء آتي و[أشغل] فكري بهذه الأمور؟!».
وحقيقة، فإنّ الأمر بهذا النحو، وبحقّ، إنّه لعجيب كيف يأتي الشيطان، ويُغيّر الحقائق، ويُبرزها للإنسان بنحو مزيّف، ويقول: «أيّها السيّد، إنّ الأمور تقع تحت سلطتك، وأنت المسؤول عن القضيّة الكذائيّة، ولديك التزام بها؛ ولهذا، عليك أن تطّلع على الأحداث التي تقع؛ وإلاّ، لن يُمكنك اتّخاذ أيّ قرار؛ وعليك أن تعلم بالمسائل التي تجري، لكي يتسنّى لك الحديث والكتابة، وتتمكّن من اتّخاذ القرارات اللازمة؛ فما دمتَ غير مطّلع على الأحداث، لا يُمكنك أن تتّخذ أيّ قرار صحيح ومناسب تجاه الأمور»؛ انظروا، فكلامه جميل جدًّا، وفي غاية الجاذبيّة؛ فهو كلام خلاّب، وفي الوقت ذاته يتواءم مع النفس. فتجد الإنسان ما إن يقول عنه أحد شيئًا حتّى يقول: «تعال إلى هنا، وأخبرني بما قال عنّي فلان، حتّى أذهب وأفعل له كذا؛ هل قالوا عنّي كذا؟ يا للعجب! سأكتب عنهم الآن شيئًا! بما أنّهم قالوا عنّي ذلك، فإنّني سأقف في وجوههم!»؛ فيقول ذاك، ويقول هذا؛ وتصير الأوضاع بهذا النحو: واحدة لي، وواحدة لك؛ لكن، أين هو الله تعالى؟ فهذه الأمور ليست بشيء لكي نعتني بها؛ ونحن لدينا الكثير من المسائل الأهمّ التي يتوجّب علينا الاهتمام بها؛ فلا ينبغي علينا تضييع أوقاتنا في تلك الأمور.
إنّه الشيطان الذي يأتي، ويُصوّر هذا الموقف، وتلك المسألة، وتلك الحقيقة التي كانت في الذهن بصورة أخرى؛ فيُحافظ على تلك الصورة؛ أي صورة السلوك إلى الله، وتبليغ الدين، والشعور بالتكليف، وغيرها من العبارات الجميلة والجذّابة، في حين أنّ تلك القطرات تتدفّق الواحدة تلو الآخرى من تلك الكرة؛ ليكتشف الإنسان فجأة، ويا للعجب، أنّها كانت تزن كيلوغرامين أو ثلاثة كيلوغرامات، فإذا بها تزن الآن غرامين، أو ثلاثة غرامات، أو خمسة وسبعين غرامًا، أو نصف كيلوغرام؛ فصارت أحواله تتغيّر تدريجيًّا بسبب هذه القضايا؛ فقبل أن يصل إلى المنصب الكذائيّ، كان يُقال له: «أيّها السيّد، قد لا تتمكّن من الوصول إلى هذا المنصب»، فكان يقول: «لا يهمنّي ذلك»؛ لكنّه لا يقول الآن: «لا يهمنّي ذلك»، بل ينهض، ويُجري ألف ومائة اتّصال هاتفيّ بهذا المكان وذاك، لكي يُحافظ على منصبه! فما هو التغيير الذي حصل؟ وما هو التفكير الذي أتى، وأخذ مكان التفكير السابق؟ ماذا وقع؟ الذي وقع أنّ ذلك النور والتعلّق والربط البدويّ منح مكانه لتعلّق دنيويّ يُحافظ لنا على الصورة والقشرة، لكنّه يُفرغنا من تلك الحقيقة، بحيث حينما نتأمّل في أنفسنا، نجد أنّنا لم نعُد نمتلك الأحوال السابقة، وصرنا مفتقرين في أعمالنا لذلك الإخلاص الأوّل، ولم يعُد لدينا ذلك التعلّق والربط السابق، فتغيّرت وتبدّلت أوضاعنا.
وحينئذ، ما الذي يحصل؟ نصير مصداقًا للآية الشريفة التي تقول يا أيّها الرسول اترك هؤلاء الناس {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}۱؛ أي: اترك هؤلاء الناس، ودعهم يذهبون وراء طعامهم وشرابهم، وينساقون وراء متعهم وآمالهم، لكي توقعهم هذه الآمال في أسرها؛ فالمراد من {يُلْهِهِمُ}: يُسقطهم في اللهو؛ فتُلهيهم الآمال في داخلها؛ هذا، مع أنّ اللهو خال من تلك الحقيقة، وفارغ من ذلك الباطن؛ فاتركهم ينشغلون بأنفسهم، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} لاحقًا، وأمّا الآن، فهم مصابون بالدوار؛ فتجد أحدهم يدّعي الآن أنّه يعمل لله تعالى، لكنّه لا يُعطي لنفسه أيّ مجال للتفكير، ولا يذهب للجلوس في زاوية من الغرفة، ويُطفيء الأضواء، ويُغلق الباب، ويطلب من الزوجة والأولاد عدم المجيء عنده لمدّة ساعة واحدة، وألاّ يطرق أيّ واحد الباب؛ فيجلس ويُفكّر، ويكون قاضيًا على نفسه، وبرجع إلى ضميره ووجدانه، ويضع نفسه في مكان الآخرين، والآخرين في مكان نفسه، ويُقارن بين أوضاعه الآن وأوضاعه قبل خمس سنوات؛ فلا نراه يقوم بهذا العمل، بل يُسلّم نفسه ويوكلها للأحداث؛ فيأتي اليوم فلان، ويُمسك بيده، ويأتي غدًا علاّن، ويجرّه، ويأتي بعد غد آخر، ويسحبه؛ ويأتي ذاك، ويقول له: «يا سماحة فلان»، ويأتي الآخر، ويفتح له باب السيّارة، ويأتي ثالث، ويفعل لأجله كذا؛ فما هي حقيقة هذه الأمور؟ إنّها عبارة عن تسليم للنفس؛ فالإنسان الحاذق هو الذي ما إن يرغب أحدهم بأن يفتح له الباب، حتّى يُغلقه! والإنسان الفطِن هو الذي ما إن يُريد رَجلان المشي خلفه، حتّى يقول لهما: «هل تحتاجاني في شيء؟ أنا سأذهب لوحدي».
ذات يوم، دخلت إلى حرم عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فرأيتهم يدفعون الناس، حيث كنت إلى جانب العتبة أقبّل الباب لكي ألج إلى الداخل؛ فدفعني أحدهم، فتقدّمت نصف متر إلى الأمام، وحينما رجعت، رأيت أنّ أحد الأشخاص يُحيط به الناس من وراء ومن أمام، فقلت: «ما الخبر أيّها السيّد؟!»، حيث كان يسمعني بنفسه، وقلت: «لا مكان لهذه الأمور في حرم الإمام الرضا، ولا معنى هنا لإحاطة الناس بالإنسان من وراء ومن أمام!»؛ ففجأة، تعجّب الجميع، ووقفوا في مكانهم، فقلت وأنا أنظر إليه: «لا ينبغي على الإنسان أن يأتي للحرم بهذه الطريقة! فتنحّوا جانبًا، فهذا السيّد لا يرضى بدوره أن تأتوا معه إلى الحرم بهذا النحو!»؛ ومع ذلك، كان يأتي بعض الناس، ويلتقطون له صورة، وهم يُديرون ظهورهم للإمام الرضا داخل الحرم! فما هي حقيقة هذا الأمر؟ يا عزيزي، إن كنت تريد المجيء للزيارة، فضع عباءتك على رأسك، لكيلا يتعرّف عليك أيّ أحد؛ وإن كنت لا تستطيع المجيء في نصف الليل، فتعال في الصباح بين الطلوعين؛ وإذا كنت لا تقدر على المجيء في ذلك الوقت لعدم مساعدة الظروف، فتعال من دون أن تُخبر أحدًا بوقت مجيئك؛ لكنّنا نجده يأتي، ويجلس في الحرم، فيجتمع الناس، ويُحيطون به، ويقعدون وهم يُديرون ظهورهم للإمام الرضا؛ بينما كان عليه أن يقول لهم: «أيّها السادة، قوموا، واذهبوا لحال سبيلكم»؛ إذ لا ينبغي المزاح في هكذا أمور؛ فهل يجوز التعاطي لهذه الأفعال في حرم الإمام الرضا؟! إن كنت لا تستطيع الحؤول دون ذلك، فلا تأت، وتعال في وقت تكون قادرًا عليه.
ثلّة من المواقف التي اتّخذها العظماء في مواجهتهم للتسويلات الشيطانيّة
رحمة الله تعالى على أستاذي في الفقه المرحوم الشيخ مرتضى الحائريّ؛ فقد كان يتشرّف بزيارة مشهد كثيرًا، حيث كان يذهب إلى الزيارة مرّة في كلّ أسبوعين؛ فباعتبار أنّ الحوزة كانت تُعطّل يوم الخميس، فإنّه كان يأتي في عصر الأربعاء، ويمتطي الحافلة، ويُسافر من قمّ بُغية تقبيل عتبة الإمام الرضا عليه السلام، فيكون هناك في ليلة الجمعة؛ وقد كان يقول: «حينما أذهب إلى هناك، فإنّهم يتعرّفون عليّ؛ ولهذا، فإنّني أسعى للذهاب في نصف الليل، وأضع العباءة على رأسي، لكي يظنّوا أنّ الذي أتى هو من المشايخ الذين لا يعرفونهم بتاتًا»؛ فكان يأتي واضعًا عباءته على رأسه، ويجلس في الحرم إلى صباح الجمعة، ويمتطي الحافلة في الصباح، ويقفل عائدًا إلى قمّ، لكي يتمكّن من إدراك درس السبت.
فالإنسان قادر على أن يُؤدّي تلك الأفعال بنحو آخر؛ وحينئذ، ما الذي سيحصل؟ ستصير الأمور أفضل؛ وأمّا إذا قلنا: إنّ الناس يُرحّبون بهذا النحو، ويُفضّلونه، حيث نجدهم يُبرزون اهتمامهم بالشخصيات البارزة؛ وحينئذ، أيّ إشكال في أن يتمّ الأمر بهذه الطريقة؟! فهذا في حدّ نفسه تبليغ! فإذا تحرّك الإنسان بهذا النحو في المجتمع، فإنّ النساء والرجال سينظرون إليه في الشارع، ويقولون: أنعم به وأكرم، يا له من وجه نورانيّ! وسيترك ذلك تأثيره في الناس؛ لكن ما الذي سيحصل في هذه الحالة؟ سيعود هذا الإمام الرضا أدراجه، وعندئذ، تجد الإنسان يُريد المجيء لزيارة الإمام الرضا، فإذا به يأتي لزيارة الشيطان بدلاً عنه؛ أي: من الذي سيكون جالسًا في ذلك الضريح عوضًا عن الإمام الرضا؟ إنّه الشيطان؛ فيأتي ذاك لزيارته.
هل تظنّون أنّ الشيطان لا يمكنه التواجد بحرم الإمام الرضا؟ إذن، فهؤلاء الذين يسرقون جيوب الناس أين يسرقونهم؟ فالشيطان موجود هناك أيضًا، بل ويوجد في كلّ مكان؛ فهو يحضر في المسجد الحرام، وفي حرم الإمام الرضا، وفي كربلاء، وفي النجف، وفي كلّ مكان؛ وها أنتم تُشاهدون بأعينكم ما هي الأمور التي تقع؛ فالشيطان وضع مائدته في كلّ مكان، ويقول: «تعالوا، واجلسوا إلى مائدتي، ولا تجلسوا إلى مائدة الإمام الرضا، ولا تجلسوا إلى مائدة إمام الزمان، بل اجلسوا بدلاً عن ذلك إلى مائدتي أنا؛ فانظروا إليها كم هي جميلة، وكم تحظى باهتمام الناس، وكم يُثنون عليها، ويرفعون أصواتهم لأجلها بالصلوات والتسليمات!».
ذات يوم، ذهبت برفقة المرحوم العلاّمة إلى مكان ما لزيارة أحدهم، حيث قام هذا الأخير بإرسال سيّارة حتّى نأتي بها عنده، وعند الرجوع، ترجّل فجأة ذلك الشخص عن السيّارة لكي يفتح الباب؛ فقال له العلاّمة: «اجلس مكانك، وسنفتح بأنفسنا نحن الباب»؛ ففتح الباب بعد أن قال له وللسائق: «لا تتحرّك من مكانك، وسنترجّل بأنفسنا عن السيّارة»؛ ولا يخفى أنّه لم يكن يسعى للتظاهر، بل إنّ ذاته ظلّت قائمة على تلك الفطرة وتلك الحقيقة، وبقيت قائمة على مسألة التوحيد؛ وهو يُريد أن يقول: إنّ تلك الأمور لا تجلب للإنسان الشرف، ولا تُكسبه الفخر؛ فإن جاؤوا، وفتحوا الباب لي مرّتين، ثمّ لم يقوموا بذلك في المرّة الثالثة، فإنّ شيئًا ما سيخطر على بالي فجأة، وأقول: «انظر، إنّهم لم يفتحوا لي الباب هذه المرّة!»؛ وما إن يخطر على باله هذا الأمر، حتّى ينتابه شعور جديد لم يكن ينتابه من قبل؛ ولهذا، إن كنت يا عزيزي تمتلك يدًا، فافتح الباب بنفسك، كائنًا من كنت!
استفادة الشيطان من نفس الحقّ لأجل مواجهة الحقّ وإسقاطه
ذات يوم في زمان الشاه، كنت أحضر جلسة في طهران، فكان أحد المشايخ الذين توفّاهم الله تعالى يتحدّث عن التكاليف وأمثال ذلك، وقد كان من الشخصيّات المشهورة، فقال: «في أحد الأيّام، كنت جالسًا عند المرحوم آية الله الكلبايكاني ـ حيث كان في ذلك الوقت على قيد الحياة ـ فقلت له: يا سيّدي، إنّ المشكلة التي نُعاني منها حاليًّا تتمثّل في عدم وجود الإمام عليه السلام، وإلاّ، لو كان موجودًا، لسألناه عن التكاليف الملقاة على عاتقنا، فما الذي بوسعنا فعله الآن؟ وأين نذهب؟ وما هو أسلوب التبليغ الذي نتّبعه؟». لقد كان هذا الشخص خطيبًا مفوّهًا، وله القدرة على بيان المسائل بشكل جميل؛ في حين أنّني كنت أعلم أنّ كافّة الأعمال التي يقوم بها، وحتّى إن لم نقل كلّها، فإنّ معظم نشاطاته وخطبه وطريقة تبليغه كانت قائمة على أساس النفس والأمور النفسانيّة. أنت لا تُريد الوصول إلى إمام الزمان؛ وإلاّ، هل إنّ القيام بالعمل الكذائيّ، وطرد أحدهم من موضع معيّن، وأخذ مكانه هو بأمر من إمام الزمان؟! وهل تفويت أداء الصلاة من أوامر إمام الزمان؟! وهل إنّ نقل الناس من مجلس إلى مجلس آخر [هو بأمره عليه السلام]؛ فبأيّة طريقة كان يُبيّن المسائل؟ لقد كان يعتلي المنبر في مكانين، فكان يتحدّث في الجلسة الأولى، ويترك بعض الكلام للجلسة الثانية، ويقول: «سأعرض بقيّة الكلام في الجلسة الأخرى»؛ وفي هذه الحالة، فإنّ الخطيب الذي كان يأتي بعد ذلك، كان يجد المجلس خاليًا. انظروا، فإنّ الشيطان خبير بعمله، ويستطيع أن يتسلّل بنحو جيّد، ويطرح مسائله؛ وحينئذ، هل يُمكنك الادّعاء بأنّك تُعاني من غياب إمام الزمان؟ فمن الذي تُريد خداعه؟ ومن هذا الذي نسعى للاحتيال عليه؟ فلا ينبغي علينا الاعتقاد أنّنا بعيدين عن متناول الشيطان لمجرّد أنّنا أتينا إلى هذه الجلسة، بل إنّ كلّ واحد من الجالسين هنا ـ بدءًا منّي أنا المتحدّث وانتهاءً بالأحبّاء والرفقاء المستمعين ـ سنتعرّض للمساءلة والعقاب بخصوص التكاليف الإلهيّة.
فلماذا تُعقد جلسة «عنوان البصريّ»؟ إنّها تُعقد لكي نعمل أنا وأنتم بتكاليفنا، وإلاّ، إذا كان المفروض أن نأتي إلى هنا، ونُسلّي قلوبنا بأنّنا شاركنا في جلسة السيّد، واستمعنا إلى كلامه، فإنّنا سنبقى خالو الوفاض، ويكون مجيئنا عبثيًّا؛ إذ لا معنى لهذا الأمر؛ وذلك بأن ننهض، ونأتي إلى هنا، لكنّنا لا نلتزم بالكلام الذي قلناه للناس؛ ففي هذه الحالة، عليك ألاّ تأتي إلى هذه الجلسة من الآن إلى مائة سنة! أو أن نجيء إلى هنا، ولا نعمل بموجب العهود التي قطعناها للناس؛ إذ ما هو سبب مجيئنا في هذه الحالة؟ فلن توجد أيّة فائدة في ذلك، بل إنّ الشيطان يأتي، ويتسلّل إلينا عن طريق نفس جلسة «عنوان البصريّ» هذه؛ فتجدنا نذهب لهذه الجلسة؛ وفي الوقت ذاته لا يكون لنا شأن بأيّ أحد، ونفعل كلّ ما يحلو لنا، ونُقيم العلاقة التي نريدها مع رفيقنا، ونتعامل في محيط حياتنا الشخصيّة، ومع زوجتنا وأولادنا بالأخلاق التي تحلو لنا؛ لا يا عزيزي، لا مجال لهذا الكلام هنا! فالمجيء إلى هذا المكان يعني التسليم لمدرسة أولياء الله، ولا يعني اللاأباليّة، وعدم الاهتمام بكافّة القيم، والازدراء بجميع المباديء والأصول التي أفنى أولئك العظماء أعمارهم وضحّوا بحياتهم الشخصيّة في سبيل إحيائها.. هذه هي حقيقة الأمر.
فتجدنا نأتي إلى هنا، لكنّنا في الوقت ذاته نرفض الوعد الذي قطعناه لرفيقنا بأنّنا سنقوم بالعمل الفلانيّ إذا تمّ الأمر الكذائيّ، ونقول: «صحيح أنّني وعدته بذلك الأمر، لكنّني لن أقوم به الآن»؛ إن لم تقم به، فإنّ عملك سيكون غير مبرّر، بل ستكون مخطئًا حينئذ؛ فما معنى هذا الكلام؟ فالشيطان [يتسلّل] إلى كافّة زوايا أنفسنا، وبجميع الطرق والوسائل؛ وعلينا أن نكون يقظين، ونهتمّ بهذا الأمر. لقد حصلت لي هذه المسألة عدّة مرّات، فكنت أقول مع نفسي أنا الذي أتحدّث بهذا الكلام: هل أعمل به أو لا أعمل به؛ ثمّ كنت أقول: «إذا أعمل به الآن، فإنّ هناك ثلّة من الرفقاء والأحبّاء ذوي الاستعداد، والذين حظوا بتوفيق الله تعالى؛ فليستمع هؤلاء كحدّ أقلّ إلى هذه الكلمات، وليعملوا بها»؛ ولهذا، لا ينبغي علينا الاعتقاد بأنّ هذه المسألة غير موجودة في طريق الحقّ، بل إنّها موجودة في نفس هذا الطريق، حيث نجد هناك من يستفيد من نفس المبادئ الحقّة ليتقدّم إلى الأمام.
لقد ذكرت للرفقاء في إحدى المرّات أنّني كنت أعاني في الماضي بسبب بعض الأحداث التي وقعت، فكنت أطرح عددًا من المسائل، وكان طرحي لها صائبًا، كما كانت هذه المسائل صحيحة، وأنا لا زلت لحدّ الآن ثابتًا عليها؛ لأنّها مسائل حقّة؛ فكنت أسعى لبيانها بهذا النحو، إلى أن وصلتُ إلى موضع شعرت فيه بأنّ الجميع استوعب الأمر، وإذا كان من المفروض أن تصل الحقيقة إلى سمع أحد، فقد وصلت إليه، وإذا كان من المقرّر أن يُدرك أحدٌ الحقيقة، فقد أدركها؛ وحتّى أنّني قلت ذات يوم لأحدهم بعد مرور أربع سنوات: «لو أنّني ذكرت هذه المسائل طيلة هذه السنوات الأربع لطويل الأذنين، لصار إنسانًا!»؛ فإلى هذه الدرجة، سعيت إلى بيان المسألة بنحو شفّاف؛ وبعد ذلك، توصّلت إلى نتيجة، ووصلت إلى موضع تساءلت فيه مع نفسي، وقلت: بعد كلّ هذا، ما هي الفائدة المرجوّة من الحديث عن هذه المسائل؟ وما هي ثمرة ذلك؟ فإن كانت هناك مسألة تحتاج إلى بيان، فقد بيّنتها؛ وفي هذه الحالة، إن أراد أحدهم أن يُدير عقله، ويضع القطن في أذنيه، فما الذي بوسعنا أن نفعله معه؟ فهو يقول عن الإثنين زائد الإثنين ثمانية! فما الذي يُمكننه فعله؟ لا، فالمسألة هنا لا فائدة فيها.
وفي تلك الأيّام، رأيت ذات ليلة المرحوم العلاّمة في المنام، حيث كانت قد حصلت مسألة أظنّ أنّني ذكرتها للرفقاء بنحو مقتضب، فقال لي: «أيّها السيّد، ليس كلّ واحد يُطيق سماع الحقّ، فأطبق شفتيك منذ هذه اللحظة»؛ فمن الآن فصاعدًا، صارت المسألة دنيويّة، حيث كنت أعتقد إلى ذلك الحين أنّ هناك أمرًا ما، وأنّ ذلك كان لأجل الله تعالى؛ لكنّني رأيت أنّ المسألة ستُصبح من الآن فصاعدًا دنيويّة، وعبارة عن تصفية حسابات، ومحاولة للقضاء على الخصم، ومشاحنات نفسانيّة؛ فهنا، ينبغي التوقّف؛ لأنّ الحقّ يظلّ حقًّا ما دام يتوفّر على صبغة إلهيّة؛ لكن، إن بدأ هذا الحقّ ينفصل عن حقيقته المتمثّلة في الانتساب إلى الله تعالى، فإنّه لن يكون حقًّا، بل مجرّد كلمات حقّة؛ وعلى حدّ قول أمير المؤمنين لذلك الذي قال: لا حُكم إلاّ لله: «كلِمةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطل»؛ فعبارة «لا حُكم إلاّ لله» كلام حقّ؛ لأنّ الحكم بختصّ بالله تعالى، وهو الذي من شأنه أن يُعيّن للإنسان تكليفه، ويُحدّد له آمرًا وناهيًا، ويضع الحقائق بين يديه، ويكون الإنسان ملزمًا بطاعته. قال الإمام عليه السلام: «كلِمةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطل»؛ أي أنّ هذا المسكين لا يعلم أنّني ـ أنا عليّ ـ أقضي أيّامي ولياليّ بعيدًا عن أهلي في سبيل إحقاق هذا الحقّ، وأنّني أصبر على قطع الصحاري والقفار، وتحمّل المشاقّ وضرب السيوف وتعرّض بدني للجراح، ووقوع السيف في نهاية المطاف على أمّ رأسي لأجل ترسيخ تلك المسألة بعينها؛ فهو لا يعلم بذلك، ويظنّني مثل معاوية وعمرو بن العاص. إنّني أفدي نفسي وحياتي لإحقاق هذه المسألة، ولكي يتقدّم الحقّ دائمًا من خلال الانتساب إلى المبدأ؛ وإلاّ، من دون هذا الانتساب، فإنّه سيكون عبارة عن معاوية.. هذه هي حقيقة الأمر!
لا يوجد أيّ أحد في مأمن من حبائل الشيطان وتسويلاته!
ولا تعتقدوا أنّنا بمنأى عن هذه المسألة؛ وها أنا ذا أعترف هنا، وأقول بكلّ صراحة: بعد رحيل المرحوم العلاّمة، كان هناك البعض ممّن يُنسب إلينا يسعى للاستعانة بالحقّ من أجل إحياء النفس لا الحقّ، حيث عمدوا إلى تطبيق الحقّ من أجل تصفية الحسابات وتحقيق المصالح والمطامع الدنيويّة؛ هذا مع أنّهم كانوا من رفقائنا وممّن يُنسبون إلينا؛ فكانوا يعملون من خلال الكلمات الرنّانة والجذّابة على سحب الناس إلى هنا وهناك اتّباعًا لأهوائهم؛ لكن، ماذا كانت حقيقة المسألة؟ كانت نفسانيّة وتتمحور حول النفس؛ فكانت جميع تلك الأفعال تدور حول النفس!
ففي إحدى القضايا التي وقعت في مشهد، حينما ذهبت إلى هناك، لم أكن على علم بما سيحصل؛ وعندما وصلت إلى المطار، رأيت فجأة أنّ شخصين أتيا إلى هناك لأجل استقبالي، وقالا لي: «يا سيّدي، إنّ الرفقاء مجتمعون في مكان ما، ويرغبون في الالتقاء بك ظهرًا»، فقلت لهم: «أنا لم أزر والدتي بعدُ، ولا يجوز أن أذهب إلى أيّ مكان قبل زيارتها»؛ ثمّ مشينا بعض الخطوات، فقالا لي: «نرجو منك أن تتفضّل علينا، وتُسعد الرفقاء»؛ فنظرت إليهما، وقلت: «أنا لا أريد القيام بهذا التفضّل، وانتهى الأمر!»؛ هل تُريدان خداعي؟! لقد تخلّيت عن كلّ هذه الأمور، وكنت في محضر مَن لو تمكنّت من فهم واحد في الألف من المسائل التي كان يطرحها ـ وأنا هنا لا أريد المبالغة في حقّ المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه، بل أتحدّث عن الواقع ـ، لفهمت منه هذه الأمور كحدّ أقلّ، وأنا هنا لا أدّعي أنّني فهمت منه المسائل الأخرى. وحينما ذهبت إلى هناك، اكتشفت بعد ذلك حقيقة الأمر؛ فباسم الدفاع عنّي وعن الذي يقف في وجه تيّار مخالف، كانوا يقولون: «لنقم بها العمل، لنقم بذلك العمل، لقد جاء السيّد الفلانيّ، فلا يجب علينا الوقوف لأجله، لقد جاء السيّد العلاّني، فلنقم احترامًا لقدومه»؛ ولا يخفى أنّ هذه الخطط باءت جميعها بالفشل؛ لكن، ما هي حقيقة كلّ ذلك؟ إنّها النفس؛ وإلاّ، فمن يكون هذا الذي نريد أن نقوم لأجله، وذاك الذي لا نريد القيام لأجله؟!
في تلك الليلة، رأى أحد الأصدقاء ـ الذين لم يكن لهم اطّلاع على هذه المسألة وكنت ولا زلت أثق فيهم ـ المرحوم العلاّمة في المنام، واقفًا عند الباب وهو غضبان، ويقول: لماذا تُلوّثون هذا المنزل بهذه القاذورات؟ فقد امتلأت ساحة البيت بأجمعها بالأجنّة، وينبغي أن يكون هذا المجلس مجلسًا يسود فيه ذكرُ سيّد الشهداء، ومجلسًا يُقّرب كلّ من يحضره؛ وفي تلك اللحظة، رأيت أنّ هذا التيّار نفسانيّ، فوقفت في وجهه، لكنّهم لم يتراجعوا، فانفصلت عنهم، وانتهى الأمر، من دون مواربة لأيّ أحد؛ لأنّه إذا لم أقف بوجهه، فإنّ الخطوة اللاحقة سيتمّ اتّخاذها في اليوم التالي، وهكذا في اليوم الذي يليه، ليصير الإنسان بعد ذلك ألعوبة؛ فهذا الذي يُقال له الدنيا. فأنت تدّعي الدفاع عن الحقّ، لكن، حينما أحدّثك بهذه المسألة، لماذا لا تُصغي إليّ؟ أ فلا تقبل كلامي؟ لماذا تكذب إذن؟ فالمفروض أنّك تقبل بي، حسن جدًّا، فلنفرض أنّني هو الإمام الخامس عشر، مع أنّه لدينا إثنا عشر إمامًا فقط... نعوذ بالله تعالى، فهذا هو حال الإمام المزيّف، والذي يصير الإمام الخامس عشر؛ فلنفرض جدلاً أنّني هو الإمام الخامس عشر، فحينما أقول لك: قم بهذا العمل، لماذا لا تقوم به؟ فتجده يقول: «لا، إنّ السيّد له باطن، وله ظاهر؛ فظاهره بهذا النحو، وباطنه بذلك النحو»، وهل تمكّنتَ من الاطّلاع على ما يحصل في باطني؟ فأنا بنفسي لم أتمكّن من الاطّلاع عليه، فكيف تسنّى لك ذلك أنت؟! فنحن بأجمعنا نمتلك المعادلة، وبكلّ سهولة، فنأخذ بالمسائل يمينًا ويسارًا، ونسعى لتبريرها بهذا النحو وبذلك النحو؛ فنأتي بكلّ براعة، ونعمد إلى إضلال جماعة، وإفناء جماعة أخرى، ونوجد المتاعب لأنفسنا وللآخرين.
حسنًا، لاحظوا، فهذه المسألة ترجع إليها تلك الأمور حتّى في الزمن السابق؛ لكن، حينما ننظر، فإنّنا نرى أنّ طريق الحقّ لا يحتاج إلى هكذا مسائل وأفعال، ولا يفتقر إلى الحشد والتجييش؛ لأنّ الذي يمتلك الحقّ يكون هذا الحقّ بالنسبة إليه كعرضه، فيحتفظ به لنفسه، لا أنّه يقوم، ويُثير الضجيج هنا وهناك؛ اللهمّ إلاّ أن يقتضي التكليف ذلك؛ لأنّ الحساب سيكون حينئذ مختلفًا.
من اهتمّ بتكاليفه الحقيقيّة هانت عليه الدنيا ولم يعتن بالآخرين
ولهذا، فإنّ موقف الإنسان من هذه المسألة سيكون هو: «هَانَ عَلَيهِ الدُّنيَا»؛ أي أنّه إذا استوعب هذه الحقيقة، فإنّ الأمور ستصير هيّنة بالنسبة إليه؛ فإن قيل له: «سيّدي، لقد قيل في حقّكم كذا»، فإنّه سيضحك، وإن قيل له: «سيّدي، لقد قيل عنكم في المجلس الفلانيّ كذا»، فإنّ الابتسامة ستعلو محيّاه، ويقول [في نفسه]: تفضّلوا، فذلك ممّا يوجب الترويح عن النفس، وهو جيّد لهضم الطعام إن كان الوقت يسمح بذلك! سيّدي، لقد قيل عنك كذا هناك، وقيل عنك كذا هنا.. «هَانَ»... فما هذا الذي تقوله يا عزيزي؟! إنّ هذه الكلمات ترتدّ في أسماعنا من دون تنفذ إلى باطنها؛ شأنها في ذلك شأن الصورة على الجدار؛ فهي لا تتجاوز حتّى طبلة الأذن، لكي تتسلّل إلى الجهاز العصبيّ للدماغ، فتذهب إلى هذه الناحية منه، وتلك الناحية منه، وتذهب يمينًا ويسارًا؛ فهي لا تخترق طبلة الأذن بتاتًا. لكن، إن قام الإنسان بالغوص في هذه المسائل؛ فيلتقي اليوم بفلان وغدًا بعلاّن، ويتّصل بذلك المكان وبهذا المكان، ويستدعي الناس خفيةً إلى هنا، ويستدعيهم إلى هناك، ويقول لذاك هذا الكلام، ولا يقول له ذلك الكلام، فإنّه سيصنع خليطًا غير متجانس، فيضيع عمره في هذه المسائل والأفكار والنزاعات؛ إلى درجة أنّ المنام الذي يراه تسوده المواجهات والنزاعات، فيعيش النزاع في اليقظة والنوم، بل حتّى حينما ينظر إلى صلاته، فإنّه يراها مفتقرة لتلك الحقيقة، وأضحت شيئًا مغايرًا تمامًا.
ففي جلسة أخرى حضرت فيها، نحت الأمور منحى الضدّ؛ إذ حينما كنت متواجدًا هناك، رأيت ـ ويا للعجب ـ أنّ هذا المجلس هو مجلس السيّد الشهداء ومجلس أربعين الإمام الحسين، لكن، لماذا يفتقر إلى النور؟! ولماذا هو ظلمانيّ؟! فهو مجلس كان يحضره المرحوم العلاّمة، ويتحدّث فيه إلى الناس طيلة سنين متمادية، وكانت تُعقد فيه العديد من الجلسات، فما الذي حصل؟ إنّها النية التي تُفسد الأمر يا عزيزي! فحينما لا يكون النية إلهيّة، فإنّها تعمل على تغيير الأجواء، وتسحب النور من هذه الغرفة وهذه الأجواء؛ ومتى ما ذهب النور، فإنّ الظلام سيحلّ مكانه، فتصير جميع الحركات كالحركات التي يُؤدّيها الفنّانون في مسرح العرائس، حيث يصنعون بعض الأشياء كالتماثيل، ويرفعون أيديها إلى الأعلى، ويُحرّكون رؤوسها، ويتكلّمون من خلالها، فيظنّ الأطفال بأنّ هذه العرائس والدمى [هي التي تتحرّك وتتحدّث]؛ فكافّة الحركات والسكنات التي تجري في ذلك المجلس تكون مجرّد مسرحيّة؛ شأنها في ذلك شأن الحركات التي تتمّ في مسرح العرائس؛ لماذا؟ لأنّ روح سيّد الشهداء لا تسري فيه؛ فإمّا أن يوجد الإمام الحسين في المجلس، وإمّا أن يوجد فيه الشيطان، من دون وجود أيّ خيار ثالث؛ فإن غادره الإمام الحسين، أتى الشيطان، وإن غادره الشيطان، جاء الإمام الحسين؛ فهذه هي الدنيا، ونحن مبتلون بها جميعًا، فلا تظنّوا أنّها مقتصرة فقط على...
وبالمناسبة، فإنّ الشيطان يصقل سيفه ويشحذ أسنانه أكثر للذين يسلكون طريق الحقّ؛ وأمّا بقيّة الناس، فقد أراحوا أنفسهم، وتراهم يُسرعون في المشي في طريقه من دون أن يأمرهم بذلك، بل تجد الشيطان يقول لهم: انتظروني حتّى ألحق بكم! فأنتم تُسرعون في المشي كثيرًا، وأنا لا أستطيع مجاراتكم! ولهذا، فإنّه رفع سيفه في وجه الذين يسعون وراء الفهم، ويُريدون استيعاب الحقيقة، وإدراك موضع الداء، ويُحاولون فهم أين تقع المشكلة؛ فلأجل هؤلاء أحدّ سيفه.
وسنسعى في الجلسات اللاحقة إن شاء الله تعالى إلى بيان حلّ هذه المسألة، حتّى لا تعتقدوا بعدم توفّرها على أيّ حلّ؛ لا، بل ستكون لكم القدرة على قطع رقبة هذا المبجّل بكلّ سهولة، وبنحوٍ لا يستطيع معه النهوض أبدًا، غاية الأمر أنّ ذلك كلّه بحول الله تعالى وقوّته؛ فما الذي قاله الإمام الصادق في البداية؟ قال: «إذَا أَكرَمَ اللَه»، وهي المسألة التي ينبغي علينا توضيحها في الجلسات اللاحقة.
نرجو إن شاء الله تعالى ألاّ نكون قد أخذنا وقتًا كثيرًا، وألاّ يكون الرفقاء قد أصيبوا بالملل، كما ندعو الله تعالى أن يُثبّتنا على صراطه، وأن يُجريَ أعمالنا وتصرّفاتنا وفقًا لرضاه، ويحفظنا بأجمعنا من كلّ ما يُفضي لانحرافنا في الطريق، ويُديم ظلّ إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف على رؤوسنا، ويجعلنا من منتظريه الحقيقيّين والذابّين عن حرمه، ولا يحرمنا في الدنيا من زيارته، وفي الآخرة من شفاعته.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.