11

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد

الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

55
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1424

التاريخ 1424/09/16

جلسات المجموعة(12 جلسة)

التوضيح

لماذا تختلف ردود الأفعال تجاه حقيقة واحدة؟ وهل كلّ ما يأتينا من الله هو فضل أم استحقاق؟ وكيف يشمل قانون الفقر الذاتيّ الأنبياء كما يشملنا؟ وما هو واجبنا الحقيقي كعبيد للّه؟ تكشف هذه المحاضرة عن أسرار التربية الإلهيّة وتضع ميزانًا دقيقًا لمعرفة حقيقة العبوديّة.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد

  • الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٤ هـ - الجلسة الحادية عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم‌ 

  • بِسمِ اللَهِ الرَّحمَنِ الرَّحیم‌ 

  • وصلَّى اللَه عَلَى سیدنا ونبینا أبي ‌القاسم مُحَمّدٍ 

  • وعلى آله الطّیبین الطّاهرین واللعنة عَلَى أعدائِهم أجمَعینَ‌

  • لماذا يرى الناس الحقيقة الواحدة بصورٍ متناقضة؟

  •  

  •  

  • «فيا من ربّاني في الدنيا بإحسانه وتفضّله ونعمه وأشار لي في الآخرة إلى عفوه وكرمه، معرفتي يا مولاي دليلي عليك وحبّي لك شفيعي إليك.»

  • إذن، يا من ربّيتني في الدنيا بإحسانك وتفضلك ونعمك. «وأشار لي في الآخرة إلى عفوه وكرمه»، أي بالإضافة إلى كلّ ذلك، هديتني إلى عفوك وكرمك في العالم الآخر. كلمة «أشار» وإن كانت تعني الإشارة، إلّا أنّها هنا تأتي بمعنى فتح الطريق والهداية؛ فالإشارة تعني تهيئة الظروف واستعدادها.

  • حسنًا، لقد تحدثنا عن هذه المسألة، وهي قولنا: «يا إلهي، لقد ربيتني في نعمك وإحسانك في صغري، وأشْهَرْتَ اسمي بالخير بين الناس في حالة لم أكن أهلًا لها، وكانت الشهرة منك ومن جانبك، وكنتُ أنفق من حسابك.» الأمر أشبه بمن يأخذ دفتر شيكات شخص آخر وينفق منه على الناس، فيأتي الناس ويمدحونه ويثنون عليه قائلين: «يا له من رجل كريم! أطال الله عمره وزاده صحّة.» وكما يقول المثل الفارسي:

  • خرج که از کیسه مهمان بود***حاتم طائی شدن آسان بود 
  • وترجمته: 

  • عندما يكون الإنفاق من جيب الضيف *** فمن السهل أن تكون حاتم الطائي

  • فهو لا يملك درهمًا واحدًا، ولكنّه يواصل العطاء، فيقولون: «يا له من رجل صالح! أطال الله عمره ومنحه السلامة.» فالشهرة التي يكتسبها الإنسان لا يعود درهم واحد منها إليه، بل كلّها من جهة أخرى؛ فالله هو الذي شهره، والله هو الذي وضع محبّته في قلوب البعض، بينما هناك الكثيرون غيره لم يضع محبتهم في قلوب الآخرين، ولم يُطرح لهم أيّ شأن.

  • قصّة ردود الأفعال العجيبة على كتاب العلامة الطهراني

  • لقد ذكرتُ قبل بضع ليالٍ للرفقاء والأصدقاء، أنّ الكتاب الذي ألفه المرحوم العلامة ـ وهو شخصيّة لا يشك الرفقاء ـ على الأقل ـ في أنّ عمله كان للّه، أمّا الآخرون فإمّا يشكّون أو يوقنون بخلاف ذلك، فهذا شأنهم ـ ولكنّنا بناءً على ما رأيناه منه ومن خلال علاقتنا به، فيمكننا القول إنّ أعماله كانت في سبيل الله، ولم يكن للنفس فيها مدخل. لقد ألّف كتابًا حول المسائل السياسيّة في الإسلام والأحداث التي وقعت منذ عام ۱٣٤٢ هـ.ش (۱٩٦٣ م/۱٣۸٢ هـ.ق) فصاعدًا، حتّى أدّت إلى ظهور الثورة والحكومة الإسلاميّة. وبما أنّني كنت مطّلعًا على مجريات هذه القضيّة، فقد اطّلعت بطبيعة الحال على وجهات النظر المختلفة؛ فالبعض قرأ الكتاب وقال: «ما شاء الله! يا لها من مواضيع حقًّا! ويا لها من أحداث ومسائل!» والبعض الآخر قرأه وقال: «إنّ السيّد الطهراني لم يذكر كلّ شيء، بل فرض رقابة على الكثير من الأمور ولم يرغب في كشف القضيّة أكثر من ذلك.» وهناك من قرأه مرور الكرام دون إبداء أيّ رأي. وآخرون قرأوه وبدأوا في شتمه! إذن، هو كتاب واحد ألّفه شخص واحد، ولكن انظروا إلى كمّ التفاعلات المختلفة معه!

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

3
  • فهذه فئة تقرأ فتقول: «كم استفدنا! وكم وجدنا فيه من أمور ومسائل لم نكن نلتفت إليها من قبل!» وفئة أخرى تقرأ، فتقول: «لم يُكتب هنا شيء يُذكر! فالقضايا والمسائل التي لم تُقل أكثر بكثير مما قيل، بل إنه لم يقل شيئًا يُذكر، وبعبارة أخرى، لقد تستّر على الكثير.» وفئة ثالثة تقرأه مرورًا عابرًا وتقول: «حسنًا، لقد كُتبت بعض الأمور وسُوّدت بعض الأوراق، وعلى كل حال، دُوّنت عبارات على هذه الصفحات.» وفئة رابعة تبدأ بالانتقاد من منطلق نفسها، فلا تأتي لتقول إنّ هذا الكلام كذب ـ مع أنهم قالوا إنّه كذب أيضًا ـ بل تأتي لتقول: «لقد أراد أن يطرح نفسه في هذا الكتاب!»

  • بين الزهرة الطبيعية والزهرة الاصطناعية: حقيقة العرفان وزيفه

  • ولماذا يريد أحد أن يطرح نفسه في هذا الكتاب؟ حسنًا، ماذا كان عليه أن يفعل؟ وماذا كان عليه أن يقول؟ إنّه يقول: «أنا قلت كذا، وأنا قلت للسيّد الخميني كذا، وأنا...». من يتجرّأ ويقول "أنا" فسنقطع رأسه! لا مكان لـ "أنا" هنا، فليس هنا إلا الذات الواحدة الأحديّة ومقام عزّة الربوبيّة هو الذي يجب أن يُطرح. من هي "أنا"؟ ومن هو "أنت"؟ ما هذا الكلام؟ وبما أنّه جاء في الكتاب وقال "أنا قلت" فقد سقط الكتاب عن الحجيّة، وخُطّ عليه بقلم البطلان.

  • الآن، لو سألت هذا المنتقد: كم عدد صفحات الكتاب؟ لنقل مائة ونيفًا. كم صفحة في هذا الكتاب وردت فيها كلمة "أنا"؟ دعنا من الأسطر، هل تتجاوز صفحتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا؟ هل تضع جانبًا خمسًا وتسعين صفحة أو مائة صفحة، وتقول إنّ هذه الصفحات الخمس التي وردت فيها كلمة "أنا" قد طغت على كلّ ما في الكتاب من مواضيع، وإنه لا ينبغي الحديث عنه أصلًا لأنّ كلمة "أنا" قد أفسدت كلّ شيء؟

  • كنتُ حاضرًا بنفسي في مكان ما، وكان هناك واعظ يتحدث في طهران في مسجد القائم ـ وهو المسجد الذي كان المرحوم العلامة يصلي فيه، وأسأل الله أن يبقي فينا ذكرى تلك الأيام حيّة. في مثل هذه الليالي، وليت الرفقاء كانوا آنذاك. لا أظن أنّ أحدًا من الرفقاء الجالسين هنا كان يشارك في تلك المجالس. هل تذكر يا سيّد...؟ لا أحد منكم يتذكّر غيره. ربّما كان بعضكم لم يولد بعد في ذلك الوقت، وكان في عالم الذرّ وعالم «ألست؟» ـ في تلك الأيّام، وفي مثل هذه الليالي من شهر رمضان، كان يأتي السيّد العلّامة ويشرح لنا دعاء أبي حمزة هذا. كانت ليالي الصيف، وفي الساعة العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلًا، ولم يكن يحضر الكثير من الرفقاء، ربّما كان المجموع عشرين مشاركًا. أمّا الناس العاديون فكانوا قلّة، ولا يجلسون طويلًا. فقد كان عدد الرفقاء آنذاك قليلًا، فمجموع رفقائه في طهران في ذلك الوقت ربما لم يكن يصل إلى عشرين شخصًا. ولقد كانوا مرتاحين جدًّا، وكان يأتي ويبدأ في شرح هذه الفقرات، ويا لها من أجواء عجيبة! كان واضحًا جدًّا أنّ الأمور تجري على نحو آخر. على كلّ حال، نحن الآن نقلّده ـ أما الرفقاء فالحمد للّه قد وفّقهم الله، لكنّني أتحدّث عن نفسي ـ نحن نقلّده ونلعب أدواره، وبين المجاز والحقيقة مسيرة ألف فرسخ.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

4
  • إنّ الفاكهة الطبيعيّة التي يُسكر عطرها ورائحتها وطعمها الإنسان تختلف كثيرًا عن هذه الفواكه البلاستيكيّة الملوّنة. وهل رأيتم هذه الزهور الطبيعيّة؟ عندما تذهب إلى بستان أو حديقة، أو إلى محلّات بيع الزهور، فإنّ رائحة الزهور وعبقها تفوح في الشارع وتخرج من المحل لتجذب الإنسان نحوها. أحيانًا عندما أمرّ بجانب محل لبيع الزهور، أقف قليلًا أتأمّل هذه الزهور المختلفة. وبجانبه يوجد محل يبيع الزهور الاصطناعيّة، فمهما شممتها لا رائحة لها؛ فالزيف لا رائحة له، والمجاز لا عبق له. نسأل: «يا إلهي، لماذا لهذه رائحة وتلك لا رائحة لها؟» فيُقال: «لأنّ الحقيقة كامنة في الأولى، ولأنّها قريبة من الواقع، فهي تحمل رائحة الحقيقة وعبق الواقع. أمّا الثانية فزائفة ومن صنع البشر، وما هو من صنع البشر فلا رائحة له، وما هو من صنع الله فله رائحة وعطر وبهاء!» وكان المرحوم العلامة يحبّ الزهور كثيرًا، وكان يقول لي: «أتمنّى أن تكون هذه الحديقة كلّها مليئة بالزهور وأنا أجلس بجانبها، ولكنّي لا أملك الصبر للعناية بها، فليأتِ شخص آخر ويزرعها ونحن نجلس بجانبها».

  • "أنا" العارف و"أنا" المنتقد: عندما يُفسد الهوى حُكم العقل

  • وهذا هو حالنا الآن ـ أتحدّث عن نفسي، لا عن الرفقاء، فالرفقاء الحمد للّه ما زالوا على تلك الحالة ـ نحن نمثّل الدور، وعلى كلّ حال، نحن مجرّد ناقلين ننقل المواضيع، ونسأل الله أن يوفّقنا للعمل بها.

  • في مسجد القائم، كنتُ بنفسي أستمع إلى خطيب وهو ينتقد المرحوم العلامة ويعترض عليه في حياته! كان يقول: «نعم، هؤلاء الذين يدّعون العرفان ويدّعون الإرشاد والتربية، من هم؟ كلّهم غارقون في النفس، وما هذا الكلام؟! مازال الطريق بعيدًا، ومع ذلك يؤلّفون كتبًا [في نقد] الثورة.» ولم يبقَ إلّا أن يذكر اسمه، فقد أوضح كلّ شيء للجميع. [يقول:] «إنه يستخدم كلمة "أنا" في الكتاب ـ كان الخطيب يقول الإمام للسيّد الخميني ونحن لا نجوّز ذلك ونعتقد أنّه حرام ـ وكان يستخدم لفظ "أنا" في مقابل السيّد آية الله الخميني، ولقد قلت له، وكتبت له رسالة...» هكذا كانت عبارته! متى كان [العلامة] يقول "أنا" طوال حياته؟ ولم يقل "أنا" إلّا وكان يجب أن يقولها، وكان الموضع يقتضي ذلك.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

5
  • ثمّ دارت الأيام، وأولئك الذين كانوا منتبهين في ذلك الوقت وينظرون إلى الأمور بنظرة أبعد، كانوا يضحكون في قلوبهم على هذا الكلام. فالانتشاء بنشوة النصر والاتكاء على مسند السلطة يسرق عقل الإنسان وفكره وسرّه ونفسه، ويوقعه في وادي الجهل والضلالة.

  • ومضت الأيام، وعندما هدأت الأمور، وسُلبت منهم السلطات، وعُزلوا من مناصبهم، وطُردوا، نكّسوا رؤوسهم الآن! فعلى الإنسان أن يكون ذكيًّا. في كتاب مذكّرات الشيخ مطهّري رحمه الله، رأيت بنفسي أنّه كتب فيه: «أنا كتبت للسيّد الخميني كذا، وأنا قلت له كذا» بل استخدم عبارات حادّة ـ وهذا لا شيء مقارنة بما في ذلك الكتاب ـ فلو يقرأه الرفقاء، سيجدون عبارات مثل: «قلت له إمّا أن يكون الأمر كذا، وإلا فأنا لن أبقى.» ومع ذلك لم يعترض عليه أحد، مع أنّ هذا كان أسوأ!

  • فماذا الآن؟ حسنًا، هل أقوم أنا أيضًا وأؤلّف كتابًا وأقول: «أنا قلت لفلان كذا»؟ هل أقول «نحن قلنا»؟ أليس هذا أسوأ؟ أن تتحول «أنا» إلى «نحن»، أليس هذا أسوأ؟! يجب أن نجعل «نحن» «أنا»، ثم نمحو «أنا» أيضًا. عندما أقول: «أنا قلت لأبي كذا»، فلماذا استخدمت كلمة «أنا»؟ ما معنى هذا؟ ما هذه المهزلة؟ فماذا أقول إذن؟ كيف أقول؟ هل يجب أن أكتب: «إنّ العبد الحقير المقصّر قد ذكر لجنابكم...؟» هل أقول هكذا؟ «لقد ذكرنا، ونحن قلنا، ونحن فعلنا» ولكن لأنّ النفس ملوّثة ولا تنظر إلى الحقيقة بنظرة صافية، تأتي وتقلب القضيّة رأسًا على عقب، وترى الأمر على خلاف حقيقته. وعندما تراه على خلافه، لا تنظر إلى أيّ شيء آخر، بل تغلق الكتاب كلّه وتضعه جانبًا؛ لأنّها رأت الخلاف، فلا تعود لتقرأ ما فيه من نقاط ومواضيع.

  • بعد ظهر اليوم، كنت أستريح، فأحضر الأبناء كتاب «معرفة الإمام» ليقرأوا فيه، فأخذت الكتاب وفتحته أتصفّحه، ورأيت يا لها من مسائل فيه نحن غافلون عنها! إنّ المجلد الأول من كتابه، لمن يريد حقًّا أن يفهم ويصل إلى النقاط المهمّة، لقد حسم القضيّة ولم يترك شيئًا لم يقله. لقد شرح المسائل وأوضحها من منطلق الإخلاص والحرقة والصدق، ثمّ أيّدها. إنّه كتاب نقدٍ مشفق، لا نقد مغرض ومعاند. ثمّ انظروا كيف يصعد ذلك السيد على المنبر وينتقد! لم يبق إلا أن يذكر الاسم، فهذا هو الكتاب الوحيد بتلك الخصوصيّات، إذن هي رؤيا مختلفة تجاه قضيّة واحدة.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

6
  • ما سبب هذه القضيّة؟ كيف يحدث هذا الأمر؟ أولئك الذين قرأوا الكتاب وأثنوا عليه، لم تكن خلايا أدمغتهم تختلف عن خلايا أدمغتكم، ولم يكونوا أغبياء أو بلهاء، بل كانوا جميعًا من المبرّزين، ومن الناحية العقليّة والثقافيّة إن لم يكونوا أسمى منكم، فلم يكونوا أدنى. فكيف يمكن أن يكون هناك تصوّران متعارضان بمقدار ۱۸۰ درجة تجاه قضيّة واحدة؟ هل لهذا سبب غير أنّ الله قد أخذ بأيديهم؟! هل هناك غير هذا؟ لو كنّا على الشاكلة الأخرى، فماذا كنا سنفعل؟ لو كنّا من القسم الآخر وكان هذا هو تصورّنا للمسألة، فماذا كنا سنفعل؟ فهم في النهاية كانوا مثلنا، ونحن مثلهم.

  • ما معنى التربية الإلهيّة؟ كل ما لدينا فضلٌ وإحسان لا عدل واستحقاق

  • «يا من ربّيتني في الدنيا بإحسانك.» الإمام السجاد عليه السلام لا يقول هنا: «لقد جعلتني أكبر بإحسانك» فحسب، فجعلت طولي يزداد ووزني يرتفع من خمس كيلوغرامات إلى مائة وخمسين!» لا يقول هذا، بل يقول: «لقد ربّيتني.» والتربية هنا إن كانت بمعنى التنشئة الظاهريّة فهي خاطئة، أمّا إن كانت بمعنى التربية الروحيّة، ويتخلّلها الجسديّة، فهذا هو المعنى الصحيح.

  • «لقد ربّيتني في الدنيا بإحسانك.» فهل كنتُ أهلًا لذلك؟! وهل كان لي عليك حقّ؟! وهل كنتُ قد عاقدتك على شيء؟! وعندما وُلدْتُ ووُجدتُ، هل كان لي عليك شيء؟! هل كنتَ مدينًا لي بشيء؟! إنّ كلّ ما فعلتَه كان من باب الإحسان والتفضّل والفضل، لا من باب العدالة. فالعدالة تعني وضع الشيء في موضعه. فلو اشتريت سلعة بمائة، فالعدل أن أدفع المائة وآخذ السلعة، فلو دفعت تسعين، فهذا ظلم. فالعدل أن تدفع المائة التي تمّ الاتفاق عليها. حسنًا، أيّ سلعة بعناها نحن للّه؟

  • قصّة العلامة الطهراني وشكواه لأستاذه العارف الشيخ الأنصاري

  • عندما كان المرحوم العلامة في النجف، وفي السنوات الثلاث الأخيرة من إقامته، كان تحت تربية أستاذه الأخلاقي، آية الله الحاج الشيخ محمد جواد الأنصاري رضوان الله عليه، وذلك بإشارة وتوجيه من سماحة الشيخ عباس. وكان يتّبع تعليماته، وهناك رسائل متبادلة بينهما، وهي موجودة الآن، حوالي سبع أو ثماني أو عشر رسائل لا أكثر.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

7
  • جواب العارف الأنصاري الأول: هل بعتَ لله شيئًا لتطالب بالثمن؟

  • وفي إحدى تلك الرسائل، يشكو المرحوم العلامة من حاله إلى الشيخ الأنصاري رحمه الله، فيقول: «شيخنا ليس لديّ حال جيّد، وليس لديّ كذا...» من هذه الشكاوى التي نقولها جميعًا، وتصلنا منها خمسون رسالة يوميًا: «ليس لدينا مشاهدات، لا نشعر بأحوال معنويّة، وهناك من يتقدّم بعض الشيء فإن لم يكن هناك مشكلة فأخبرنا...» 

  • ـ كلاّ ليس هناك مشكلة.

  • ـ فبماذا تأمرون؟ 

  • ـ لا شيء، افعل ما تشاء. 

  • ومن أمثال هذا الكلام. 

  • كان المرحوم العلامة قد كتب شاكيًا: «افعلوا شيئًا، اصنعوا شيئًا...» فأرسل له الشيخ الأنصاري رحمه الله جوابًا ـ وكان يتمتّع بروح الدعابة واللطف ـ وكتب فيه: «أنتم لم تبيعوا للّه سلعة حتى تطالبوا الآن بثمنها!» فماذا أعطيتم الله؟! فقولنا: «يا إلهي، أنت لا تعطينا!» حسنًا، هو لا يريد أن يعطي، فمن له عليه حقّ؟ أيٌّ منّا باع للّه سلعة أو عرض عليه متاعًا وهو الآن لا يدفع لنا ثمنه؟! أو لا يفي بوعده لنا؟! ماذا فعلنا حقًّا؟! بيننا وبين الله، فلنجلس ونفكّر قليلًا، ولنعد إلى رشدنا، ولنخرج من هذه الحالة الطفوليّة ونفكّر مليًّا: ما الّذي نطلبه من الله؟ «لقد مضى عامان ولم نرَ شيئًا» اذهب واسأله هو، ما شأني أنا إن لم ترَ شيئًا؟! «لقد مضت عشر سنوات ولم نشاهد شيئًا» إنّ للدنيا حسابًا دقيقًا، وهل أنا وكيل الله أو وصيّه لأجيب؟ أنا أقول إنّ هذا ما أفهمه، ولا أفهم أكثر من ذلك. وسأوضّح في ختام الحديث أين يكمن الخلل في المسألة.

  • كتب الشيخ الأنصاري رحمه الله في تلك الرسالة: «أنتم لم تبيعوا للّه شيئًا حتى تطالبوا الآن بثمنه!» فهذه واحدة، فلتجب على هذه أوّلًا حتى ننتقل إلى الثانية، ومن الواضح أنّه لا جواب لها!

  • جواب العارف الأنصاري الثاني: هل أنت على علمٍ بحالك لتعترض؟

  • والجواب الثاني: وهل أنت على علم بحالك؟ يا سيّد محمّد حسين، قارن حالك بحال أقرانك الموجودين الآن في النجف. فانظر ماذا يفعلون، وكيف يعيشون، وما هو وضعهم.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

8
  • كان المرحوم العلامة يقول: «قبل أن آتي إلى قم، كانت نظرتي إلى المعمّمين ورجال الدين أنّهم من أقدس الناس وأرفعهم شأنًا، بحيث لا يعترض عليهم، وكنت أراهم مبرّئين من كلّ عيب. ولكن عندما أتيت إلى قم ـ ولم أكن قد ذهبت إلى النجف بعد حيث الأمر أسمى ـ رأيت أنّ بعض الأفراد على درجة من القداسة والتقوى والنقاء والطهارة بحيث إنّ الملائكة لا تذكر أسماءهم إلّا على وضوء، مثل المرحوم العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه. وعلى الجانب الآخر، رأيت أفرادًا على درجة من التفاهة والدناءة بحيث يخجل الإنسان من أن يتلفّظ بأسمائهم ويلوّث لسانه بذكرهم!» فهذا هو حجم التفاوت!

  • اليد الخفيّة: كيف تدير العناية الإلهية حياة السالك وتحميه؟

  • لقد قال الشيخ الأنصاري رحمه الله ـ وأنا أشرح كلامه ـ: «ألا ترى مكانتك؟!» انظر إلى نفسك، في أيّ وضع أنت الآن؟ فيمَ تُقضى ساعاتك الأربع والعشرون؟ هل تُقضى في الرقص والنوادي الليليّة والتجوّل في الحدائق، ومرافقة هذا وذاك في ألف قذارة؟! أم لا؟! إنّك تذهب ليلًا لتدرس وتتسلّح للدفاع عن حياض مدرسة أهل البيت عليهم السلام في وجه الأعداء والمعاندين، ومن جهة أخرى لهداية الناس وإرشادهم، ثمّ هناك حرم أمير المؤمنين عليه السلام وزيارته. ثمّ كان يذهب ليلاً ـ رزقنا الله وإياكم ـ لدرس الفقه في مسجد الشيخ الطوسي ـ وهو خلف حرم أمير المؤمنين ـ وفي النهار كان يدرس الأصول في صحن أمير المؤمنين عليه السلام، ودرس المكاسب عند الشيخ حسين الحلي رحمه الله. هكذا كان وقته بين الدرس والكتابة والذكر والفكر والمراقبة والتهذيب والتزكية. هكذا يمضي وقتك، ثمّ تتحول إلى السيّد الطهراني والعلّامة الطهراني، وتتّصل بأولياء الله، بأفراد لو فتّشت الأفلاك كلّها لما وجدت لهم مثيلًا، فهل تظنّون أنّ الأمر حدث صدفة؟!

  • إنّ ملائكة الكون والمكان كلها تتكاتف لتحقّق هذا الأمر في الخارج. فهل العالم يسير عبثًا؟! تعالوا وانظروا وقارنوا بين أولئك البائسين الذين يدورون في عالم حيوانيّتهم وبهيميّتهم، ويقضون أيّامهم في اللهو واللغو وآلاف الأمور الباطلة والمضيّعة للعمر، وبين ذلك الذي يفتح كتابه ليستمع إلى كلام الإمام الصادق عليه السلام، أو ليحقّق في كلام الإمام السجاد عليه السلام. وانظروا إلى أقرانكم الذين يقضون أوقاتهم في مجالس الغيبة والنميمة والفتنة. ألم يكن ذلك في بيوت السادة؟! ألم يكن؟! أليس هو هكذا الآن أيضًا؟! هذا نرفعه وذاك نضعه... ألم يكن الأمر هكذا؟!

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

9
  • جاءني رجل قبل أيّام وقال: «يا سيّدي، أنا في حيرة وشك بشأن مراجعاتي لهذه البيوت.» قال: «لقد ذهبت هذه المرّة إلى مكان ما لمراجعة أحد السادة، فرأيت في ذلك المكتب أمورًا جعلتني أقول: يا إلهي، إلى أين كانت تتّجه أموري حتّى الآن؟» هل هذا هو الوضع؟ ولم يكونوا يعلمون أنّني أستمع إلى حديثهم. قلت له: «نعم يا سيّدي، هذا هو الوضع.» قال: «فماذا أفعل بما مضى؟» قلت: «لقد كانت نيتك للّه، والله يغفر. ولكن هذه المرّة ما دمت قد فهمت فافتح عينيّك جيّدًا!»

  • حسنًا، ما هي القضيّة؟ هل كان الله قادرًا على أن يجعلك واحدًا منهم أم لا؟ لقد كان يستطيع، أليس كذلك؟! فلماذا فصل طريقك عن طريقهم؟! «يا من ربّاني في الدنيا» لقد ربّاني، جاء بي إلى قم، ومن قم أخذني إلى النجف، وأجلسني بجوار أمير المؤمنين عليه السلام، وفجّر لي الينابيع من نافذة علومه وولايته، وفتح لي أبواب العلم، وعرّفني على حريم الأنس بمولاي أمير المؤمنين عليه السلام، وهو أمر لا يوجد مثقال ذرة منه في الدنيا!

  • كنتُ قد ذهبت مع أحد الرفقاء في رحلة خارجيّة لم تدم أكثر من أسبوعين، وكان يريد أن يأخذني إلى مكان آخر، فقلت له: «يا سيدي، لا وجود للّه هنا، فلنعد فإلى أين نريد أن نذهب؟!» وكان ذلك بلدًا عادّيًّا جدًّا. فكيف إذا أتى الله بالإنسان إلى مكان فيه حرم لأهل البيت عليهم السلام، فيلتفت يمنة فيرى الحرم، ويسرة فيرى موضع الصلاة، ومكان الأذان. فهذه أمور لا تتّضح للإنسان حتّى يصل إلى حقيقتها!

  • ذلك الذي ربّانا كيف فعل ذلك؟ هل حدث الأمر صدفة؟! منذ أن نفتح أعيننا من النوم، يأمر سلسلة العلل والعوامل بأن تهيّئ لنا ما فيه صلاحنا طوال اليوم. فنحن نمشي في الشارع ونظنّ أنّنا نمشي بأنفسنا، ونأتي إلى المجلس ونظن أنّنا نأتي بأنفسنا، ولا نعلم كم من البلايا قد دُفعت عنّا وكم من الأمور...؟ فلو كُشف لنا يومًا عن عالم العلل والأسباب ـ ولنصل إلى مثاله فقط، ودع عنك ملكوته ـ لجُنِنّا من هول ما نرى، وكيف أنّ سلسلة العلل تتحرّك وتفعل ما تفعل.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

10
  • يروي أحد الرفقاء عن أحدهم أنّه رأى المرحوم العلامة رضوان الله عليه وذهب إليه وطلب منه قائلًا: «يا سيّدي، الأمور بعدك خطيرة جدًّا، والأوضاع صعبة، فلتكن منك عناية ولطف ومساعدة لبعض الأفراد.» فقال العلامة: «يا سيدي، أتظنّون أنّنا هنا عاطلون عن العمل؟! لقد وكّلتُ جميع الملائكة بأن يأتوا ويمنعوا هذه القضايا التي تحيط بالأفراد من أن تؤدّي بهم إلى الانحراف!» هل تظنّون أنّ العالم يسير عبثًا، وأنّ الأمور تحدث صدفة؟!

  • وذات يوم ذهب رجل إلى أحد العارفين بالعلوم الغريبة، يسأله عن شخص واجهته مشاكل ومصاعب. وعندما فكّر ذلك العارف في أحوال ذلك الرجل، قال: «إنّي أتعجّب كيف أنّ هذا الشخص ما زال حيًّا؟! فمع كلّ ما فعلوه به من مكائد شيطانيّة، كان يجب أن يموت ألف مرّة حتّى الآن. إّني لأعجب لماذا هو حي؟!» ثمّ قال: بسبب العناية الإلهيّة التي تشمل الناس، لا يستطيع الشيطان بكلّ مكائده أن يقف عائقًا! لا يفعل شيئًا»

  • هل جئنا إلى هنا وجلسنا في هذا المجلس وفتحنا الباب وارتدينا ملابسنا وخرجنا هكذا ببساطة؟! لا يا عزيزي! لقد تكاتف ألف عامل من العوامل والعلل والأسباب الإلهيّة لنجلس هنا الآن. والتربية التي يربّينا بها، لا يتّضح لنا منها إلا جزء من مليون جزء، والباقي خلف الحجاب لا يعلمه أحد. والأحداث التي يخلقها، والعلل والأسباب التي يهيّئها، والمصاعب التي يبتلي بها الإنسان ثمّ هو نفسه يحفظه في هذه المصاعب حتّى لا ينهزم. وأحيانًا تأتي المصاعب وينهزم الإنسان، فهو يبتلي بالصعوبة، ثمّ يحفظك، ثمّ يأتي بالفرج، وينمّيك في هذه الصعوبة ويمنحك السعة ويفتح أفكارك ويوسّع صدرك وظرفك. ما كلّ هذا؟ من الذي يفعل كلّ هذه الأمور؟ نحن؟! هل نفعلها نحن؟! بسم الله! إن كنّا نحن من نفعلها، فلنقم بها إذن!

  • قانون العبوديّة الواحد: النبيّ والمؤمن العادي كلاهما فقير إلى الله

  • الإمام السجّاد عليه السلام يريد أن يقول هذا: «يا إلهي، لو أردتَ ألّا أكون أنا الإمام السجاد، فهل كان ذلك صعبًا عليك؟» الآن أسألكم، ودعونا من الإمام السجاد، لو أراد الله أن يبدّل الإمام السجّاد بيزيد، ويزيد بالإمام السجّاد! هل كان يستطيع أم لا؟! ألم يكن قادرًا على ذلك؟! هل كان عاجزًا؟! من الذي جعل الإمام السجّاد، الإمام السجّاد؟ لطف الله هو الذي فعل، ومن الذي وضع هذه البصيرة وهذه المعرفة التوحيديّة في الإمام السجاد؟ من الذي ربّى الإمام السجاد؟ لقد فقد الإمام السجاد أمّه عند ولادته، فوالدته هي السيّدة شهربانو ابنة يزدجرد، وقصّتها مفصّلة، وقد توفّيت عند ولادته. فإنّه تقدير الله، ولم يقم الإمام الحسين عليه السلام بإحيائها، لا أنّه لأنّه إمام ويستطيع فعل ذلك فيجب عليه فعل ذلك. فمشيئة الله هي أن تصل هذه المهمّة إلى هنا، وأن يولد الإمام السجّاد ثمّ ترحل هي إلى مقامها.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

11
  • كان الإمام السجاد عليه السلام يتيم الأم منذ البداية، ثمّ نشأ وأُحضرت له مرضعة، وتربّى في حجر الإمام عليه السلام وتحت تلك التربية والمعارف التي لقّنه إياها. ومن جملة ما قاله له، وهو موجود في الكُتب الآن، هذه الوصيّة التي تقشعر لها الأبدان: «يا بُنَيَّ، وأعزِزْ نَفسَكَ عَنْ كُلِّ دَنيَّةٍ وإنْ ساقَتكَ إلى الرَّغائِبِ، فإنَّكَ لَنْ تَعتاضَ بِما تَبذُلُ مِنْ نَفسِكَ عِوَضًا.»۱ يا بنيّ! يقول للإمام السجاد عليه السلام: «أعزز نفسك وكبّرها عن كلّ دناءة وعمل وضيع في الدنيا مهما كان. فكلّ تواضع أو انحناء أو تملّق هو ذلّة ودناءة. أعزز نفسك عن كلّ عمل قبيح حتّى لو أوصلك إلى الرغائب والغنائم التي لا نهاية لها. والرغيبة هي المال ذو القيمة الكبيرة، وليلة الرغائب هي الليلة التي تأتي فيها تلك العطايا والهدايا القيّمة من الله». لماذا؟ «فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضًا». أي أنّك مهما تحصل على شيء، فلن يكون عوضًا عمّا بذلته؛ فعزّة النفس التي فقدتها، والمناعة التي أضعتها، والعظمة التي تخلّيت عنها، لن تجد لها بديلًا!

  • انظروا الآن إلى أهل الدنيا، يفكّرون في كلّ شيء إلّا في عزّة أنفسهم، ومتانتهم، ورفعتهم، من أجل حطام الدنيا! حقًّا إنّ كلمات الإمام الحسين عليه السلام عجيبة جدًّا.

  • وهذا الإمام السجّاد عليه السلام الذي ترعرع في حجر الإمام الحسين عليه السلام، وها هو الآن يقول لنا دعاء أبي حمزة الثُمالي: «فيا من ربّاني في الدنيا بإحسانه.» أنت ربّيتني في الدنيا بإحسانك، وأعطيتني أبًا مثله، وأعطيتني أمًّا ثمّ أخذتها منّي، وكبّرتني في طفولتي وربّيتني في حجره، فأصبحت أنا الآن زين العابدين عليّ بن الحسين، الإمام السجّاد. ألم يكن الله قادرًا على أن يغير هذه القطعة في رقعة الشطرنج؟ ألم يكن يستطيع أن يضع إنسانًا آخر مكان الإمام السجّاد، أيّ رجل عاديّ، لا نقول شمرًا أو يزيدَ؟! إذن، من الواضح أنّ الإمام السجّاد عليه السلام يقول الحقيقة، فهو لا يمثّل تمثيلاً، بل رأى الحقيقة، ونحن أيضًا نرى الحقيقة.

  • لو أراد الله أن يبدّل النبيّ صلّى الله عليه وآله بأبي سفيان، فهل يستطيع أم لا؟! قولوا فورًا: نعم، كان يستطيع. ولو أراد أن يبدّل أمير المؤمنين عليه السلام بآخر، بابن ملجم، فيصبح ابن ملجم هو أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين هو ابن ملجم المرادي، لاستطاع.

    1.  نهج البلاغة (عبده) ج ٣، ص ٥١: و أكرم نفسَك عن كل و فية و إن ساقتكَ إلى الرغائب فإنّك لَن تَعتاضَ بما تَبذُلُ من نفسِكَ عَوِضاً.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

12
  • إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عندما يقول: «إلهي أنت الغني وأنا الفقير»۱، فهو يفهم هذا المعنى: «يا إلهي، لقد كنت قادرًا على أن تجعلني ابن ملجم». كان يستطيع، بسهولة شرب هذا الكأس من الماء، بل أسهل من ذلك، فهذا يتطلّب بضع سعرات حراريّة من الطاقة، وأمّا بالنسبة للّه فلا يتطلب الأمر أيّ طاقة. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}٢. فبمجرّد أن يتعلّق أمره، يكون الشيء، وسلسلة العلل والأسباب تُحقِّقه في الخارج تلقائيًّا. إذن، أمير المؤمنين عليه السلام صادق في مناجاته في مسجد الكوفة، وهو لا يمثّل.

  • هل رأيتم الممثّلين؟ عندما يريدون أن يلعبوا دور شخص آخر، يضعون شخصيتهم جانبًا تمامًا ويتقمّصون شخصيّة أخرى، فيحدث لهم ما يشبه تبدّل الشخصيّة. تنظر إليه فتقول: «يا للعجب! إنه يتصرّف كأحد الأوباش، مع أنّه منذ قليل كان يتحدّث بلطف.» لقد تقمّص الشخصيّة الآن وينفذّها بدقّة. وبعضهم بارع جدًا بحيث يندمج في الشخصيّة حتى تظنّ أنّه هو نفسه تلك الشخصيّة في تلك الحادثة.

  • الإمام السجاد عليه السلام وأمير المؤمنين عليه السلام ليسا كذلك، فعندما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إلهي أنت المولى وأنا العبد، وهل يرحم العبدَ إلا المولى؟»٣، فهو لم يغيّر شخصيّته، بل يرى الحقيقة. فإنّه يلمس بكلّ وجوده معنى «يا من ربّاني في الدنيا بإحسانه»، فهو الذي ربّاه وجعل عليًّا عليًّا. وإلّا، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام كان له أخٌ اسمه عقيل، وقد ذهب عقيل إلى معاوية في زمن خلافة أخيه. لقد كان عقيل رجلًا صالحًا، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يحبّه كثيرًا، وكان أكبر منه سنًّا. ولكنّ عقيلاً لا يصبح أمير المؤمنين؛ فعليٌّ هو عليٌّ، وعقيل هو الذي يذهب إلى معاوية. وبالطبع، عندما طلب منه معاوية أن يفعل أمورًا باطلة، رفض وغضب وعاد، ولكنّك في النهاية ذهبت إلى معاوية، وهذا لا يمكنك إنكاره.

  • مَنْ هو الضالّ والجاهل الحقيقيّ؟ فهم أمير المؤمنين لفقره الذاتيّ

  • لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يذهب، ولذلك يذهب هو إلى مسجد الكوفة ويقول بصدق: «إلهي أنت المولى وأنا العبد، إلهي أنت الغنيّ وأنا الفقير...» إنّه يقول حقيقة نفسه التي وصل إليها. ومن الذي فعل ذلك؟ إنّه ذلك الـ «ربّاني» الذي ربّى أمير المؤمنين عليه السلام. نحن من نفصّل بين القضايا، لا أيّها الرفقاء! فلا فرق بين قضايانا وقضايا أمير المؤمنين عليه السلام، كلّها في خطّ واحد. فلا ينبغي أن نفصل حساب الأئمة عليهم السلام عن حسابنا، فنحن والمعصومون الأربعة عشر وبقيّة الخلق كلّنا في خطّ واحد، غاية ما في الأمر أنهم أصبحوا معصومين ونحن لا نصبح، بل نحن في ظلّ الإمام وتحت ولايته، تحت ولاية إمام الزمان عليه السلام. ولكن ليس هناك خطّان أو نوعان من الخلق أو نوعان من التربية.

    1. مناجاة امير المؤمنين بمسجد الكوفة.
    2. سورة يس (٣٦)، الآية ۸٢.
    3. مناجاة امير المؤمنين بمسجد الكوفة.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

13
  • {وَٱلضُّحَىٰ ۱ وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ ٢ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ٣ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ}۱ لمن يقول الله هذا الكلام؟ إنّه يقوله لنا. الخطاب موجّه إلى النبي صلّى الله عليه وآله، لكنّه لنا. {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ}٢{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ}٣. يا للعجب! هل كنت ضالًّا فهداك الله؟ إنّه يقول هذا للنبيّ صلّى الله عليه وآله! نعم، لقد كان النبيّ ضالًّا، وكان أمير المؤمنين ضالًّا، وكان الأئمّة ضالّين. ليس «ضالًّا» بمعنى التائه الذي نقوله، بل بمعنى من لا يملك شيئًا من نفسه. ألا يقول أمير المؤمنين عليه السلام نفسه: «إلهي أنا الضال وأنت الهادي، هل يرحم الضال إلا الهادي؟» أو ما يشبه هذه العبارة؟ ألا يقول: «إلهي أنت العالم وأنا الجاهل، وهل يرحم الجاهل إلا العالم؟» فهل هو يكذب أم يقول الصدق؟ إنّه لا يكذب ولا يمزح. إذن، كان أمير المؤمنين عليه السلام جاهلًا كما أنّنا جهّال، وكان ضالًّا كما أنّنا ضالّون، لا فرق في المسألة. فكلّ ما يلبس ثوب الوجود في قالب ماهيته، يتّصف بصفات الفقر والإمكان. وذاك الذي لبس رداء الكبرياء والعظمة، قد اختصّ نفسه بصفات الجلال والغنى والاستقلال والكمال. خلاصة القول، لم يعطِ الله أحدًا شيئًا بمقدار رأس إبرة، بل أبقى كلّ شيء لنفسه.

  • لماذا كان أمير المؤمنين عالـمًا وجاهلًا في آنٍ واحد؟

  • فلو كان كلّ العلم في الدنيا لأمير المؤمنين عليه السلام ـ وهو كذلك ـ ألم يقل هو نفسه على المنبر: «سلوني قبل أن تفقدوني، فإني أعلم بطرق السماء...؟»٤ فهو لم يكذب، بل كان صادقًا. فماذا يعني هذا؟ يعني: «أنا أملك كل العلوم التي تخطر ببالكم والتي لا تخطر» وقد كان يملكها وأظهرها. ولكنه في الوقت نفسه كان جاهلًا، لماذا؟ لأن العلوم ليست ملكًا له، بل هي ملك لغيره، ملك للّه. فالعلم ليس لأمير المؤمنين، بل هو للّه. وذلك العلم الذي هو للّه، يضعه تارة في أمير المؤمنين، وتارة في الإمام الحسن، وتارة في الإمام الحسين، وتارة في الإمام السجاد، وتارة في شخص آخر ليس إمامًا. وكما يقول الشاعر حافظ الشيرازي:

    1. الضحى (٩٣) الآيات ۱-٤.
    2. الضحى (٩٣) الآية ٦.
    3. الضحى (٩٣) الآية ۷.
    4.  تصنيف غرر الحكم، ص ١١٩: سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماء أخبر منكم بطرق الأرض نهج البلاغة (عبده)، ج ٢، ص۱٣۰ خطبة ۱۸٩؛ كتاب سليم قيس الهلالى، ج ٢، ص ٧١٢ .

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

14
  • فیض روح القدس ار باز مدد فرماید***دگران هم بکنند آن‌چه مسیحا می‌کرد
  • وترجمته: 

  • لو أن فيض روح القدس أسعف مرّة أخرى *** لفعل الآخرون أيضًا ما كان المسيح (عليه السلام) يفعل

  • ألم يكن السيد المسيح عليه السلام يحيي الموتى؟! ألم يفعل ذلك الكثير من أولياء الله؟! وهل أصبحوا بذلك السيّد المسيح؟! كلاّ، فالسيّد المسيح في مقامه وهم في مقامهم. وماذا فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله؟! ألم يشر إلى القمر فشقّه نصفين؟! ألا يستطيع أولياء الله الذين يصلون إلى مقام البقاء أن يفعلوا ذلك؟! بلى، يستطيعون. ولكنّهم ليسوا أنبياء، فلماذا؟ لأنّ لكلّ امرئ وعاءه وحسابه الخاص. فذاك نبيّ في مقامه، وهذا وليّ للّه في مقامه. وكلاهما لا يملك شيئًا من نفسه، فذلك السيّد الحدّاد رحمه الله الذي كان يقول: «ماذا يقول هؤلاء عن المعجزة؟! إن كلمة واحدة منا لا تصل إليها أربعة آلاف معجزة من معجزات الأنبياء.» وقد كان صادقًا. ولكن في الوقت نفسه، كان هذا السيّد الحدّاد نفسه يقول: «عندما أنظر إلى نفسي، أرى أنني أحقر من أحقر أهل الدنيا.» وهو صادق في هذا أيضًا، وكلاهما صحيح. فعندما ينظر إلى نفسه يرى: «إلهي أنا الضّال، أنا الجاهل، أنا المغلوب، أنا العبد.»

  • وهنا يحسن قول الخواجة عبد الله الأنصاري، وكان السيّد الحدّاد رحمه الله يحبّ هذه الجملة كثيرًا ويكرّرها: 

  • چون در تو می‌نگرم از جمله تاج‌دارانم و تاج بر سر***و چون به خود می‌نگرم از زمره خاکسارانم و خاک بر سر۱
  • وترجمتها:

  • «إلهي، حين أنظر إليك، أكون في مصافّ المتوَّجين والتاج على رأسي، وحين أنظر إلى نفسي، أكون من زمرة المتواضعين والتراب على رأسي» 

  • فعندما أنظر إلى نفسي، لا أرى شيئًا، فلا أستطيع الصمود أمام ميكروب واحد! هل تستطيع الصمود؟! جرّب لترى! فما إن يدخل فيروس إلى أجسادنا حتى ندور في الأرض كلّها لنخرجه، وهل يخرج؟! إنّه لا يُرى بالعدسة المكبّرة، بل تحتاج إلى مجهر إلكتروني لترى شكله. لقد دخل ولا يُعلم أين هو! لقد عجزت أمام فيروس لا تراه بالعدسة! فعندما يقول: «إلهي أنا العبد، أنا الذليل...» فإنّه يقول الصدق. ولكن عندما ينظر إليه (إلى الله)، يرى القوّة قد حلّت والعلم قد أتى، فيخبر عن الغيب ويفشي الأسرار.

    1. مناجاة الخواجة عبد الله الأنصاري، مناجاة رقم ۸٣.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

15
  • لقد أنطق الله السيّد المسيح عليه السلام في المهد، فهل وُجد في الخلق طفل رضيع يقول وهو في حجر أمه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ٣٠وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ٣١}۱ ؟ فهل سمعتم في التاريخ بطفل رضيع عمره يومان يقوم في وسط هذا الجمع ويقول: {إنّي عبد الله آتاني الكتاب} طفل رضيع لا يستطيع حتّى أن يبكي ليعبّر عن حاجته، يقوم ويتحدّث هكذا!

  • ولكن ما أريد قوله هو أنّ السيّد المسيح عليه السلام هو مثلنا، لا فرق. فولادته هي ولادتنا، وولادة النبي وولادة غيره واحدة. هناك قانون واحد في عالم الخلق، وهو الولادة والتربية والنموّ. هذا له شكله الخاصّ وذاك له شكله، ولكنّ الكلّ واحد لا استثناء فيه.

  • التربية التي ربّى بها الله نبيّه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ} فهي لنا نحن أيضًا. {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ} ألم تكن ضالًّا يا رسولنا؟! فنحن هديناك، فمن الذي أوصلك إلى مقام قاب قوسين أو أدنى؟ هل وصلت بنفسك؟! هل وصلت إلى هنا بنفسك؟! هل وصلت إلى حيث يقول جبريل عليه السلام: «لو دنوت أنملة لاحترقت»؟!٢ هل وصلت بنفسك أم نحن أخذنا بيدك؟! هو لا يستطيع أن يقول «بنفسي»، فالنبيّ يعلم الحقيقة. سيقول: «أنت يا إلهي» إذن، كنت أنت "الضال" ونحن "العالم"، كنت أنت العبد ونحن المولى، كنت أنت الفقير يا رسول الله ونحن الغنيّ. أنت الآن تشير فينشق القمر نصفين، والجميع يرون ذلك، حتّى القوافل التي كانت في الصحراء رأت ذلك وجاءت ونقلت الخبر. فهؤلاء المشركون كانوا مساكين، ولكن لو كنّا نحن الرفقاء هناك في ذلك الوقت بعناية الله، لما كنّا سنرى إصبع النبي، فماذا كنا سنرى؟ قولوا جميعًا، ماذا كنا سنرى؟ كنا سنراه هو.

  • هو الآن يشقّ القمر نصفين، فنحن نرى هذه الإصبع، والمشركون يرون هذه الإصبع أيضًا ولكنّهم يبدؤون بالتشكيك: «لا، هذا سحر!» ومصيبتك أنت أيها المسكين هي هنا أيضًا، لو أنك لم ترَ هذه الإصبع ورأيته هو، لما قلت إنه سحر، فكلّ شيء ممكن من الله ولا مشكلة في ذلك، ولكنّك أنزلت من مستوى فكرك وقلت: «عجبًا! كيف يمكن هذا؟! القمر هناك وهذه الإصبع هنا! فكم كيلومترًا يبعد القمر؟» يقولون تسعمائة ألف ونيف كيلومتر. فكيف يمكن لهذه الإصبع أن تصل إلى هناك؟ إذن لا بد أنّه خداع بصر. ولكن لو أنّك فتحت عقلك قليلًا واستخدمت فهمك، لرأيت أن النبي نفسه يقول: «لست أنا» ألم تصدّق كلامه هو؟ إنّ المدّعي لا يقول «لست أنا»، والذي لا يملك القدرة يقول «أنا». وأمّا الذي يقدر، فهو ينفي عن نفسه، فالقضيّة معكوسة. أفلا تسمع هذا الذي ينفي عن نفسه وتنظر إلى إصبعه؟ لا يمكن لهذه الإصبع أن تصل إلى هناك وتثقبه. وبما أنه لا يمكن، فهو إذن سحر وشعوذة. وهكذا يغطّي على الحقيقة ويشقي نفسه ويحرمها من السعادة والفيض، ويبقيها في الجهل. فعندما يغطّي الحقّ، ماذا يحدث له؟ الحقّ لا يُغطّى، بل هو الذي يهوي بنفسه إلى الأسفل، فيبقي نفسه في الجهل والضلالة تحت السحاب. يا عزيزي، تعال وقل: «ليس النبيّ، بل الله!» وسيأتي النبي ويقول: «ما شاء الله! تعال إلى حضني، لأعانقك، فقد وجدت أخيرًا من يفهم شيئًا!» فلو ذهبنا إلى هناك وقلنا: «يا رسول الله، هذا الفعل لم يكن فعلك، بل فعله الله» فهل كان سيغضب؟! هل كان سيقول: «ماذا؟! ألا تخجلون؟! لقد تعبتُ كل هذا التعب، وذهبت إلى غار حراء أربعين سنة، ولم تأتِ أنت يومًا واحدًا، والآن تجيبني هكذا؟! أهذا هو شكرك لي؟!» أم كان سيقول: «نعم، نعم، هذا هو، بل وأعلى من ذلك، فأنا لا وجود لي أصلًا!» إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله يبحث عن شخص يفهم بمقدار حبّة قمح، لا عمّن يهلّل له.

    1. مريم (۱٩) الآيتان ٣۰-٣۱
    2. جاء في معرفة الله ج۱ ص ٩٢: في تفسير «علي بن إبراهيم» عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قوله: فَلمّا انتَهى بهِ إلى سِدرةِ المُنتَهى، تَخَلّفَ عَنهُ جَبْرَئِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: في هَذَا المَوْضِعِ تَخذُلُني؟!
      فقال: تقدّم أمامك! فو الله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك!
      و قد ورد في كثير من كتب العرفان أن جبرائيل قال: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
      و ذكر الشيخ نجم الدين الرازيّ هذا الحديث في «مرصاد العباد» في أربعة أماكن [٢]، و في رسالة «عشق و عقل» (الحبّ و العقل) في ثلاثة أماكن [٣]. و قال المعلِّق على هذه الرسالة: «لقد جاء ذِكر هذا الحديث متواصلًا في «مرصاد العباد» و «احاديث مثنوي (أحاديث المثنويّ). و لم نجده في «مجمع البحرين» و «المعجم المفهرس» في حاشية موادّ: دَنا و دَنَوْتُ و أنْمُلَة، و حَرَقَ [٤]. و هذا المضمون ينسب إلى جبرئيل عليه السلام و أنّه قاله للرسول صلى الله عليه و آله ليلة المعراج. و ورد ذكر هذا الكلام و معناه في أشعار الكثير من العرفاء خاصّة.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

16
  • الغاية الأسمى: أداء التكليف لا شقّ القمر!

  • يقول النبيّ في نفس الموضع: «أنت وأنا واحد، لقد أُعطيتُ أنا ففعلت، ولم تُعطَ أنت. ولو أُعطيتَ أنت، لفعلتَ أيضًا.»

  • لذلك، ما ذكرته لكم بخصوص قضيّة الشهرة وغيرها، ينطبق على كلّ شيء. فهنا يجب على الإنسان أن يصل إلى مكانته ويفهم أنّ الله هو الذي أتى به إلى هذا المقام ليفتح فهمه، وانتهى الأمر. فعن أيّ شيء تبحث بعد؟! لقد جاء الله وأعطاك الأمر، والآن عليك أن تأخذه وتذهب لتعمل به. والآن بعد أن اتّضح الأمر، يجب أن تذهب وتعمل. رأيتَ شيئًا، فهو الذي أراد، لم ترَ شيئًا، فهو الذي أراد. انتهى، لقد حُلّت المسألة. وهل قال الله إنه يجب عليكم أن تروا، وإن لم تروا فلن يقبل منكم؟! أيّ كتاب قال هذا؟! أيّ رسالة؟! أيّ آية قرآنيّة؟! أنا لم أرَ، فإذا رأى الرفقاء فليأتوا ويخبروني. هل يجب في الصلاة التي تصلّيها أن ترى حوريّتين أمام عينيك؟! لو رأيناهما لما استطعنا أن نصلّي! وهل في الصوم الذي تصومه يجب أن ترى الملائكة واقفين مكتوفي الأيدي في انتظار أوامرك؟ فلم يعد هذا صومًا!

  • وهنا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إلهي، ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك»۱ لقد رأيتك أهلًا للعبادة ووفّقتني لعبادتك فوقفت هنا. هذه هي القضية!

  • سرّ المسألة هو ألّا يظنّ الإنسان أنّ هناك فئة من الناس خلقوا من طينة مختلفة وحسابهم مختلف! كلاّ! فلو كانوا هم كذلك، فالله هو الذي جعلهم كذلك، ونحن عباده هو الذي جعلنا هكذا. كلاّ بل هم ونحن، كلانا سواءٌ عند الله. إن شاء جعلنا مثلهم، وإن لم يشأ لم يفعل. ما واجبنا إلّا العمل بالتكليف، والسلام، ولا شيء غير هذا. فأن نمتلك هذه الحقيقة، هو أسمى من ألف معجزة للمسيح، أن نفهم هذه المسألة! أن نفهم أنّنا والأنبياء والأولياء كلّنا في صفٍّ واحد، وما علينا إلّا أن نؤدّي التكليف ونؤدّي الوظيفة. إذا أدركنا هذه النقطة، فلا إحياءُ الموتى يصل إليها، ولا شفاء الأعمى، ولا شق القمر! فلو أنّ أحدكم الآن اكتسب قدرة وشقّ القمر نصفين حقًّا، فما تفوّقه علينا؟ فعلت ذلك، فماذا بعد؟! أيّ تفوق لك؟! وأيّ فضيلة؟! فهل هذه فضيلة؟! إن كانت فضيلة، فأنا لا أريدها. ما أريده هو ذلك الإحساس بالقرب منه، أن يقبلنا هو، أن يمضي عملنا، أن يمضي إمام الزمان عليه السلام عملنا! هذا فقط، والسلام. ولا ينبغي أن نريد شيئًا آخر!

    1. بحار الأنوار ، ج ٤١، ص ١٤.

كيفيّة التربية الإلهيّة وقانون العبوديّة الواحد - الفقر الذاتي عند المعصوم عليه السلام

17
  • "لا تكن في عبوديتك كالمتسوّلين": الخاتمة في حقيقة العبوديّة

  • إذا وصلنا إلى أداء التكليف، فهو أعلم بالباقي. وكما يقول الشاعر: 

  • تو بندگی چو گدایان به شرط مزد مکن***که خواجه خود رسم بنده پروری داند
  • وترجمته:

  • «لا تكن في عبوديتك كالمتسوّلين تشترط الأجر *** فإنّ السيّدَ نفسه يعرف أصول رعاية العبيد»

  • فهو أعلم، أيفتح النافذة أم يغلقها؟ أيريك أم لا يريك؟ أيغيّر حالك أم لا؟ فهذا يتعلّق بإمام الزمان عليه السلام، لا بنا. لا يمكننا التدخّل في عمله، فهو أعلم. ما كُلّفنا به هو أن نعمل بالتكليف قدر المستطاع. والإنسان خطّاء... إن شاء الله، فقد مضى الوقت والرفقاء قد تعبوا، وبقيّة الحديث للجلسة القادمة.

  •  

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.