التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

851
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسممباني الإسلام

التاريخ 1435/10/03


التوضيح

إلى ماذا يُؤدّي الاستهتار بمباني الأولياء أو العمل بها؟ ما هي حقيقة كلّ من النور والظلمات؟ أيّة علاقة للنور بالصفات الإلهيّة؟ كيف يُفضي الإصرار على الظلمات إلى تصلّب القلب؟ ما هي نظرة أولياء الله تعالى للمسابقات الرياضيّة؟ هل يشترك جميع أفراد الإنسان في المبادئ الفطريّة؟ ما هي أقسام الناس من حيث موقفهم من الظلمات والنور؟ كيف تُؤثّر ولاية الله تعالى في مسألة الهداية إلى النور أو الظلمات؟ ما هو الأمر الذي كان المرحوم العلاّمة يُركّز عليه كثيرًا عند النظر إلى أحوال السالك؟
هي تساؤلات سعى سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي طرحها بين يدي مجموعة من الأحبّة والرفقاء في مدينة كرمان

/۲۰
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

  • مباني الإسلام، المحاضرات الفرديّة، محاضرات كرمان

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ

  • بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ

  • وصلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا ونبيِّنا أبي القاسِمِ مُحَمَّدٍ

  • وعلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ واللَّعنةُ عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ

  •  

  •  

  • عاقبة الاستهتار بمباني الأولياء وثمرة العمل بها

  • كنتُ اليومَ أُفكّر في المسائل التي سأعرضُها على الرفقاءِ هذه الليلةِ؟ فالجميعُ ولله الحمد مُطَّلعون على هذه المسائل والمباني، وواعون بها، ولم يَبْقَ شيءٌ يُقالُ؛ وقد كُنَّا طوالَ هذهِ السنواتِ مُنهمكين ـ بمقدار فهمنا وبضاعتنا المُزجاةِ ورأسمالنا القليلِ ـ في بيان المسائل التي طرحها العظماء، ونقلِ تجاربِهم ومبانيهم إلى الرفقاءِ. فكانت ـ وللهِ الحمدُ ـ طائفة استوعبت هذه المسائل، ورتّبت الأثر عليها، والتزمت بها، وتابعتها، فجَنَت، وتجني الآن نتيجة عملها هذا، وسيعمّهم الله تعالى بتوفيقه على الدوام. وأما أولئكَ الذينَ واجهوا هذه المسائل باستخفافٍ، أو تعاملوا معها على أنها مُجرَّدُ وسيلةٍ لقضاءِ الوقتِ، واعتبروا الوجودَ في مثلِ هذهِ الأجواءِ ذريعةً كباقي الذرائعِ لتبريرِ منهجهم في الحياة، فإنّهم لم ينالوا ـ تبعًا لذلكَ ـ نصيبهم وفائدتهم المرجوّة. 

  • ولقد كانَ ـ بحقّ ـ هذا الأمرُ واضحًا ومكشوفًا لي طوالَ هذهِ المدّةِ والسنواتِ، حيث كنتُ أرى رأيَ العينِ أفرادًا يُتابعونَ الأمورَ بجدٍّ، ويُلاحقونَ المسائل ويعملونَ بها، ولا يتعاملونَ معها بمُجرَّدِ الحضورِ والاستماعِ وبشكلٍ عابرٍ، فيحصدونَ نتائجَها عمليًّا، وكانوا هُم بأنفسُهم مُعتقدينَ ومُذعنينَ بأنّهم قد أحسّوا بوجود تغيير كبير ومحسوس وملموس على مستوى التفكيرِ والمبادئ وتطبيقِ المنهجِ والتعامل مع الحياةِ. حسنًا، كانت هذهِ مسائل سعينا قدرَ استطاعتِنا إلى عدمِ التدخّلِ والتصرّفِ فيها عندَ نقلِها، وإلى عرضها كما سمعناها وجرَّبناها طيلة السنين التي عايشنا فيها العظماء، وإنْ كُنَّا قد واجهنا في ذلك بعضَ المسائل والعقباتِ والانتقاداتِ والاعتراضاتِ وأنواع الهمز واللمز.

  • ولكن على كلّ حال، فقد كان هذا الأمر موجودًا دائمًا، ولم يختصّ بهذا العصر والزمن، وإذا قُدِّر للإنسان أن يتخلّى عن المبادئ بسبب هكذا أمور، فإنّه حقًّا سيخسر الرهان، وهذا واضح جدًّا. وقد كان دأبي دائمًا أنّه: إذا نقل البعضُ مسائلَ عن العظماء، وفسَّروها وفقًا لفهمهم الشخصيّ، فإنّني أطرح في مقابل ذلك وجهة نظري الخاصّة، والأمر هو على هذا النحو. وحتّى أنّني سمعتُ مؤخّرًا أنّ البعض نسبوا إلى المرحوم العلاّمة إحدى المسائل خطأً، مفادُها أنّه كان يعتقد في الزمان السابق بجواز الاغتيال، أو كما يُصطلح عليه في اللغة العربيّة بالفتك! ولا بدّ أنّ الرفقاء رأوا وسمعوا أنّني ذكرت في إحدى محاضرات شرح حديث عنوان البصريّ أنّ هذه المسألة غير صحيحة،۱ وأنّه لم يكن معتقدًا بجواز الاغتيال، حيث يُعدّ هذا الأمر مجانبًا للصواب. ففي سياق اتّخاذ القرار بشأن اغتيال الشاه، وحينما جرى الحديث عن ذلك بينه وبين اثنين أو ثلاثة آخرين في سنة ۱٣٤٢ هـ ش تقريبًا، فإنّ رأيه كان ـ بالمناسبة ـ معارضًا؛ في حين، عزم كلّ من المرحوم آية الله الميلاني واللواء قرني رحمة الله عليه ـ والذي كان رجلاً ورعًا ومن العسكريّين والمؤمنين الصالحين جدًّا في ذلك العصر ـ على المضيّ في هذا الأمر، وقد كتب المرحوم الميلاني هذه القضيّة ووقَّعها، لكنّ المرحوم العلاّمة كان معارضًا لها، ولم يوقِّع عليها. 

    1.  وظيفة الفرد المسلم في حكومة الإسلام، ص ۱۰٣: الإسلام لا يقرّ الاغتيال، والإسْلَامُ قَيَّدَ الفَتْكَ. فالذي يريد أن يقتل أحدًا، فعليه قتله بعد محاكمته علنيًّا، أو أن يقتله علنًا في حال الحرب أو الغلبة.
      وفي ص ۱۰٦: على من يريد العمل حقًّا الانطلاق في حدود الضوابط الشرعيّة، والإسلام لا يقرّ الفتك والاغتيال، والمسلمون يحملون السيف ويأتون إلى عدوّهم وجهًا لوجه لمقاتلته، أو ينفّذوا حكم القتل بعد إصدار حكم الحاكم عن طريق المحاكمة، أمّا القتل بالخفاء أو غفلة وغيلة فليس له في الإسلام أصل.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

3
  • فهذا ما أردتُ التنبيه إليه، وأنّنا مسؤولون تجاه منهج العظماء، ولا يُمكننا أن نتعامل معه باستخفاف، حيث نرى الآن أنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يُطرح بوصفه مُنظِّرًا للمبادئ العرفانيّة في القرون الأخيرة، وذلك بالنظر إلى المباني التي طرحها، وآمن بها، وعمل على تطويرها ونشرها، وعلى حدّ قوله: «لقد وضعنا العرفان على مائدة الجميع، وأخرجناه من زوايا الخزائن والرفوف والدواليب والمكتبات، ووضعنا الله في متناول الجميع وأجلسناه بجوارهم».

  • بناءً عليه، ليس سهلاً ويسيرًا أن يطرح الإنسان أيّ شيء يأتي على باله، فقد مرّت بي في طوال حياتي وتجربتي مع المرحوم العلاّمة العديد من الحالات ـ يعني أستطيع أن أقول: عشرات الحالات ـ التي أقطع فيها بأنّ رأيه قد فُهم خطأً، وأجزم فيها بذلك؛ هذا، مع أنّني كنتُ أُشير في نفس ذلك الحين إلى هذه الاختلافات، وكنت أنبّه في زمان حياته إلى أنّ الفهم الذي فهمه الشخص الفلانيّ للمسألة الفلانيّة التي ذكرها [المرحوم العلاّمة] آنذاك خاطئ، وأنّ حقيقة المسألة هي بالنحو الكذائيّ، وكان يتّضح أنّ الأمر هو كذلك حقًّا. والآن، وبعد أن رحل عنّا، فإنّ المجال لنقل أيّ قول أصبح أكثر ملاءمةً، ولا يوجد في قبال ذلك أيّ رادع أو مانع.

  • على كلّ حال، فإنّ هذه المسألة كانت بهذا النحو حتّى الآن، وستكون كذلك إن شاء الله من الآن فصاعدًا، فنسأل الله أن يأخذ بأيدينا، ويحفظنا من الوقوع في الوساوس والمَهالك والأمور النفسانيّة، حيث إنّ هذا الأمر موجود في مختلف المسائل، خصوصًا الاجتماعيّة والسياسيّة التي فيها مجال أوسع لطرح الآراء الشخصية استنادًا إلى أقوال العظماء؛ إذ يوجد فيها مجال واسع حقًّا لإبداء الرأي وإظهار الأذواق الخاصّة.

  • حقيقة النور والظلمات 

  • أمّا المسألة التي من شأنها أن تحظى بالأهمّية بالنسبة لنا في مثل هذه القضايا المختلفة والمسائل المُبهمة والمشبوهة، فهي مسألة الاتّكاء على مدرسة الأولياء والاستمداد من تلك النفوس المطهّرة والمقدّسة، وكيف أنّ هذه المسائل تؤدّي إلى وضع ذهن الإنسان وطريقه ومنهجه في المسار الصحيح. توجد آية قرآنيّة عجيبة حقًّا، ولها موارد مشابهة، وتقع في مطلع سورة إبراهيم، حيث جاء فيها: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ ۱؛ أي أنّنا أرسلنا موسى إلى قومه بآياتنا ومبادئنا وقواعدنا وقوانيننا، وتلك المسائل الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وتلك الأحكام والاعتقادات: ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ بأن تُخرج قومك بواسطة هذه الآيات والمبادئ من الظلمات إلى النور: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾؛ والأيّام تعني تلك الظروف والمواقف التي تكون فيها العناية الإلهية الخاصّة تجاه العباد بنحوٍ يكون فيه انجذاب النفوس والأرواح نحو عالم القدس وعالم النور أقوى وأشدّ وأكثر جاذبيّة، وهذه مسألة تتوفّر بحدّ ذاتها على مجال واسع، ولا يُمكننا الحديث عنها الآن.

    1. سورة إبراهيم (۱٤) الآية ٥.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

4
  • ويبقى الكلام عن الجزء الأوّل من هذه الآية الشريفة، وكيف يتسنّى للإنسان الخروج من الظلمات إلى النور؟ وما هي حقيقة هذه الظلمات وهذا النور؟ وما هو أثرها على الإنسان؟ وما هو تأثيرها في سلوك الإنسان وحياته؟ وما هي ثمرتها بالنسبة لأعمال الإنسان وفيما يرتبط بسعادته وشقائه وصلاحه وفساده؟ فعندما نسمع مثلاً أنّ فلانًا غارق في الظلمات، فما الذي يعنيه ذلك؟ وماذا يعني أنّ فلانًا نورانيّ؟ وما المقصود بالنورانيّة؟ وماذا تعني الظلمانيّة؟ وما المراد من أظلم العوالم؟ وما هو عالم الظلمات؟ وما المقصود بعالم الأنوار؟ وما هو الهدف الذي تسعى إليه هذه الآية الشريفة؟ وما هو الغرض الذي يُستنبط منها؟ فهل المقصود من الدخول في عالم النور هو الاشتغال بالصلاة والصوم والخمس والزكاة؟ هل هذا هو المقصود؟! هل معنى أن يكون الإنسان في الظلمات هو عدم مراعاة الأحكام الشرعيّة؟ أو أنّه الدخول في الإسلام مثلاً، بحيث يكون عالم الظلمات في المقابل هو الانضواء تحت لواء الكفر والشرك والأديان المختلفة كالمسيحيّة واليهودية؟ أم أنّ هذه القضية هي قضيّة أوسع، وذات مفهوم أعلى من الدخول في الدين والخروج منه، والاشتغال بالأحكام وعدم الاشتغال بها؟

  • لاحظوا معي، عندما ننظر في الآيات والروايات ـ وحتّى بناءً على المبادئ الفلسفيّة بشكل عامّ ـ ، فإنّنا نجد أنّ أصل الوجود عبارة عن نور، حيث يُطلق على الوجود في اصطلاح الفلاسفة اسم النور. وباعتبار أنّ الله تعالى هو حقيقة الوجود ومبدؤه وأصله، وأنّ كلّ الموجودات ناشئة من وجوده، فإنّ اسم النور يُطلق عليه أيضًا، مثلما جاء في القرآن الكريم: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ﴾ ۱، كما أنّ هذه المسألة وردت أيضًا في الأدعية، حيث جاءت فيها عبارات أُطلق فيها النور على ذات الحقّ تعالى؛ وهي حقيقة قيل عنها: إنّها تُظهر نفسها، وتكون سببًا في إظهار الأشياء.٢

  • حينما تنظرون الآن إلى هذا المصباح الذي في الأعلى، تجدون أنّ النور المنبعث منه مُعرِّفٌ لنفسه بنفسه، بحيث إذا أردنا إدراك هذا النور، فإنّنا ـ وبغضّ النظر عن الأشياء التي حولنا ـ لا نحتاج إلى مصباح آخر؛ فهذا المصباح بذاته يُظهر نفسه. إضافة إلى ذلك، فإنّكم ترون هنا خشبًا وشرفة ومصباحًا ودرجًا ولوحة، حيث تتّضح هذه الأشياء التي حولنا بواسطة هذا النور؛ فالنور إذن يُظهر نفسه ويُظهر الأشياء التي يسطع عليها؛ ولو أطفأتم هذا المصباح للحظة واحدة، لما تعرّفتم على مَن يجلس بجانبكم، وسيعمّ الظلام المطلق، ولن تعلموا أيّ شيء.

    1. سورة النور (٢٤) الآية ٣٥.
    2. راجع كتابي معرفة الله وتفسير آية النور.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

5
  • فمن هذه الناحية، يُطلق على الله تعالى اسم النور؛ لأنّ ذاته لا تحتاج إلى معرفة، وذلك بأن نكون بحاجة ـ حينما نريد أن نعرف ذات الله ـ إلى رؤية الأشجار، والجبال، والسماء، والبحار، والحيوانات، حتّى نُدرك أنّ هناك إلهًا! فوجود الله بحدّ ذاته لا يحتاج إلى معرفة، ووجوده لنفسه بنفسه هو عين المعرفة.

  • علاوةً على ذلك، فإنّ حقيقة التجلّي [النوريّ] التي تتعلّق بالماهيات الإمكانيّة تجعل هذه الماهيات تكتسب بذاتها ظهورًا عينيًّا وخارجيًّا ببركة نور الوجود؛ أي بسبب تجلّي الحقّ تعالى ومشيئته وإرادته التي هي نفس وجوده من دون أن يستعير الوجود من مكان آخر، ومن دون أن يأتي بالوجود من مكان آخر، سواءً من جيب الخالة أو العمّة، بل من ذاته نفسها؛ ولهذا، متى ما تعلّقت إرادته تعالى بتشكّل هذا الوجود، فإنّ جميع ما في العوالم المختلفة يتعيّن ويظهر. فالوجود الذي تتوفّر عليه الأشياء الآن لا يُعدّ وجودًا منفصلاً عن الله؛ إذ لا معنى لأن يكون هناك وجود منفصل عنه تعالى، ولا معنى لوجود حقيقة مستقلّة عنه سبحانه؛ وذلك بأن يكون لله وجود لنفسه، ويكون هناك وجود آخر بجانبه، فيأخذ تعالى من هذا الوجود الذي بجانبه قالبًا فيصير شجرة صنوبر! ويأخذ قالبًا ثانيًا فيصير شجرة دلب! ويأخذ قالبًا ثالثًا فيصير أسدًا! ويأخذ قالبًا رابعًا فيصير نمرًا! كلاّ، فالأمر ليس بهذا النحو.

  • ليس هناك شيء سوى وجود الله، حتّى يسعى تعالى لأن يخلق منه هذه العوالم. فذاته بنفسها ـ التي هي حقيقة النور ـ عندما تريد أن تتعيّن خارجًا، فإنّها تُظهر ذاتها بصور مختلفة، وفي عوالم مختلفة، سواء كانت عوالم مجرّدة أو عوالم مادّية؛ وبالتالي، فإنّنا مجرّد مظاهر لوجود الله، لا أنّنا موجودون بجانبه تعالى، بحيث يكون قد وضع لنفسه حدًّا إلى هذا الموضع، نظير الحدّ الموضوع لهذا الكأس، والموضوع لهذا الإبريق والذي فصله عن ذلك الكأس؛ ولهذا، فإنّكم لا تسمّون الإبريق كأسًا، ولا تسمّون الكأس إبريقًا؛ فهذا هو حدّ الكأس، وهذا هو حدّ الإبريق، وهذا هو حدّ الصينية، وهكذا أيضًا بالنسبة للسجادة وغيرها من الأشياء التي يتوفّر كلّ واحد منها على حدود وجوديّة مختلفة تُسمّى بالحدود الماهويّة، وليس الهوهويّة.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

6
  • والمراد من [الحدود] الماهويّة نفس الماهيّة والشكل.. ذلك الشكل والقالب والمظهر الذي لا يكون خارجًا أيضًا عن الوجود؛ لأنّه بذاته عبارة عن حقيقة وليس أمرًا وهميًّا، بل هو حقيقة خارجيّة خارجة عن الاعتبار؛ وعليه، فإنّ ذات الحقّ تعالى نور، وهي بنفسها مُظهرة ومُبيّنة للأعيان الخارجيّة.

  • علاقة النور بالصفات الإلهيّة

  • فإذن، هذا هو معنى حقيقة النور؛ لكن على ماذا يُطلق عالم النور؟ يُطلق على تلك الحقيقة التي لها اتّصال بالذات الإلهيّة، وبالذات الربوبيّة، وبعالم الأسماء والصفات، حيث يُطلق على ما يتّصل بهذا العالم ويستند إليه وينشأ من الصفات الإلهيّة نفسُ العنوان النوريّ الذي يُطلق على ذات الحقّ تعالى. فالله تعالى يتّصف بالرحمانيّة والرحيميّة، وله صفة الخلق والرزق والإنفاق والجود والغفّارية والفضل والكرم والعدل؛ فإذا كانت هذه الصفات مستندةً إلى الله ومُنزِلة لنور ذاته تعالى على جميع عوالم الوجود، فهل بوسعنا حينئذ أن نقول إنّه ظالم وليس بعادل؟ هل الله ظالم؟ كلاّ! هل يمكن أن نقول إنّ الله كاذب، وأنّه يكذب في الوعود التي يقطعها؟ هل وعده في القرآن بالجنّة والنار كلّه كذب؟ هل وعده بأنّ كلّ من يعمل عملاً صحيحًا فجزاؤه كذا، هو كذب؟ هل الله يكذب؟! في حين أنّه تعالى صادق، بل أصدق الصادقين، بحيث إن كان هناك صادق واحد في الدنيا ـ وقولنا "الدنيا" خاطئ بل مرادنا عالم الوجود ـ فسيكون هو الله؛ ثمّ إنّ صدقه تعالى يتنزّل ويستقرّ في الأنبياء والأئمّة والأولياء. إنّ الله رازق، فهل نستطيع القول إنّه تعالى بخيل؟ حسنًا، لا معنى لهذا الأمر، وهو خلاف الواقع. الله مثلاً عفوّ، فهل يُمكننا أن نقول: كلاّ، إنّه لا يعفو، بل ينتقم، فينتقم مئة مرّة في مقابل عمل واحد!

  • والله أمين؛ فهو تعالى أمين في إيصال رسالة الهداية، فيقوم بذلك، ويُوصل الحقّ إلى صاحبه؛ وحينئذ، هل نستطيع أن نقول: إنّ الله خائن؟ حسنًا، فهذه صفاتٌ تقع في مقابل الصفات الإلهيّة، وتُضادّها، وتتعارض مع مسألة الانتساب والاستناد إلى الحقّ تعالى؛ فكلّ ما يستند إليه تعالى هو عبارة عن الصدق والصفاء والعفو والغفّارية والرزّاقية والأمانة والعدل والفضل والكرم والجود والتجاوز. لاحظوا، فهذه هي الصفات التي تستند إلى الله؛ وبالتالي، فإنّها تقع في ضمن عوالم النور، وذلك بسبب استنادها إليه تعالى. أمّا الصفات الواقعة في مقابل هذه الصفات، فهي صفات مقابلة، وكلّ ما يُقابل النور يكون ظلمة. وعليه، فإنّ من يرتكب الظلم بدلاً من مراعاة العدل، فيقوم بمسألة ما أو يُمارس علمًا معيّنًا في مقابل ذلك الوصف الذي يستند إلى الله، يُصبح شيطانًا ونفسًا [أمّارة] وفِسقًا وكفرًا وظُلمة.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

7
  • نماذج عمليّة للظلمات في السلوك المهنيّ والدينيّ والإعلاميّ 

  • ومن هنا، فإنّ المهمّة التي كلّف الله بها نبيّه موسى ـ وكذلك الشأن بالنسبة لبقيّة الأنبياء الذين توجد لدينا عنهم آيات قرآنيّة عديدة ـ هي أن يُخرج الناس من عوالم الظلمة إلى عوالم النور، ويُخلّصهم من الصفات التي يتعاملون بها فيما بينهم، ويعيشون بواسطتها، فيغشّون في المعاملات، ويحتالون على الزبون، أو يحتال الزبون عليهم، ويقولون كذبًا: «اشترِ هذا الآن، وإلّا سيرتفع سعره!»، في حين أنّ ذلك لا يكون له أيّ أساس من الصحّة، ويكذبون قائلين: «لا تشترِ هذا الآن»، بينما لا يكون في صالحه أن يفعل ذلك الآن؛ فيكذبون على بعضهم البعض، ويغشّون في المعاملة، ويشهدون الزور عند إقامة الدعاوي والمطالبة بالحقوق، ويقولون: «نعم، لقد شاهدنا هكذا مسألة، وقد حصل مثل هذا الشيء، وهذا هو توقيعه!»، في حين أنّ كلّ ذلك كذب، بما فيه الأصل والفرع والكتابة والتوقيع والختم.. كلّ شيء فيه كذب، ويعملون بما لا يعلمون، ويتمسّكون بخلاف علمهم.

  • فلو فرضنا أنّ هناك طبيبًا، فإنّنا نجده يقول للمريض: «يجب أن تجري العمليّة حتمًا»، مع أنّه يعلم أنّ فيها خطر على هذا المريض، وأنّها سمّ.. ذلك كلّه حتّى يتمكّن من تحقيق رغبة من الرغبات الدنيويّة، ونجده يصف دواءً من دون علم، فيتسبّب في إلحاق الضرر والأذى. وهكذا أيضًا، إذا كان هناك رجل دين، فإنّه يأتي ويقول ما لا يعلمه، ويتحدّث إلى الناس بخلاف ما يفهمه، وإذ ا طرح ما يراه صلاحًا للمجتمع، فإنّما يطرحه لتحقيق مصالحه ومنافعه الدنيويّة.

  • وإنّه لعجيبٌ جدًّا، عجيبٌ جدًّا، عجيبٌ حقًّا! حسنًا، منذ فترة، طرحتُ رسالةً حول مسألةِ الأربعين،۱ وهي موجودة عند الرفقاء؛ فالأربعينَ مختصّة بسيّد الشّهداءِ، حيث أوردت هناكَ مجموعة من الأدلّة، وطرحت ثلّة من المسائلَ. ثمّ سمعت بنفسي إحدى الشخصيات المشهورة ـ و لا أذكرُ اسمَهُ الآنَ ـ يتحدّث في الراديو أو التلفزة ـ لا أعلمُ ولعلّه كان في الراديو ـ ، حيث سُئل عن الأربعين، فقالَ: «كلاّ، كانت الأربعينُ موجودة في زمنِ الأئمّةِ!»؛ انظروا، كم المسؤوليّةُ صعبةٌ! وكم هي مسؤوليّةٌ خطيرة! حسنًا يا عزيزي، لقد اطّلعنا على هذه المسائلَ، وشاهدناها نحنُ أيضًا، ولم نؤلّفها من وحيِ الخيالِ، بل هي مسائل مدروسة جرى العمل عليها والتحدّث حولها. قالَ: «كلاّ! كان هذا الأمر موجودًا في عصر الأئمّةِ». وحتّى أنّ الحديثَ دارَ حولَ كتابٍ كُتبَ عن الأربعينِ وفيهِ... طبعًا، لم يذكر السائلُ اسمي، فقال ذلك الشخص: «كلاّ، هذهِ الأربعينُ كانت سائدة في زمنِ الأئمّةِ، غير أنّها اندثرت بأجمعها، ولم يبقَ منها سوى أربعينُ سيّد الشّهداءِ!». ما معنى ذلك؟ وكيفَ لم نصادف نحن حتّى الآنَ مثلَ هذهِ القضيّةِ؟ ففي نهاية المطاف، إذا كانَ من المقرّرِ أن يُوحى إلى أحدٍ، فهذهِ مسألةٌ أخرى، لكن، يبدو أنّ الوحيَ قد خُتمَ برسولِ اللهِ. وإذا كانَ هذا الأمر مذكورًا في كتاب، فها هي الكتبُ موجودةٌ في جميعِ المكتباتِ وفي كافّة المنازلِ؛ هذا، وقد تطرّق ذلك الشخص إلى هذهِ المسألة في ضمن مصنّفاته، وهي موجودة فيها الآن.

    1. الأربعين في التراث الشيعيّ.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

8
  • أرسلتُ أحدَ الرفقاءِ إلى ذلك الشخص، وبعثتُ إليه أيضًا برسالة، قلت فيها بطريقة مؤدّبة جدًّا: «أطلبُ من سماحتكم ذكرَ دليل هذهِ المسألةِ، حتّى نأخذها بعين الاعتبار عند إعادةِ طبعِ الكتاب». وقد ذهبَ ذلك الرفيق واطّلع على الأمور، وعندما سمعَ ذلكَ الشخصُ اسمي، أبدى تجاهي محبّةً جمّةً، وبعث إليّ بالسّلامَ، وراعى الأدبَ وما إلى ذلكَ، ثمّ قدّمَ إليه الرفيق الرسالةَ، وقالَ له: «إنّه ذكر هكذا أمر»، فقال: «حسن جدًّا، سوف أتابع هذهِ المسألةَ»، ولا أريد الآن أن أفصّل الحديث أكثرَ؛ إذ لا ينبغي على الإنسانِ ـ على كلِّ حالٍ ـ أن [يُركّز على] هذهِ المسائلِ كثيرًا... وخلاصةُ القول، فقد تبيّن أنّ المسألةَ لا تتوفّر في الأساس على أيّ دليل، ولا أيّ شيءَ! فتجدنا نُلقي الكلام على عواهنه، ويطرح علينا أحدُهم سؤالاً، فنجيبُه بشيءٍ ما كيفما كان! يا عزيزي، لا ينبغي التحدّثُ مع الناسِ بهذه الطريقة، فنحنُ مسؤولونَ عمّا نقولُه لهم.

  • فإذا كانت الأربعينُ مختصّة بالإمامِ الحسينِ، بأيّ معيارٍ تقولونَ إنّها كانت شاملة للجميعِ؟! فهذا الكلام في الأساس باعث على الضحك! حسنًا، كان أميرُ المؤمنينَ أعلى من الإمامِ الحسينِ، فكيفَ اندثرت أربعينه، ولم تَندثر أربعين الإمامِ الحسينِ؟! وكان النبيُّ أعلى أيضًا من الإمامِ الحسينِ، أ فهل كانَ النبيُّ أعلى، أم الإمامُ الحسينُ؟ وهل يمكنُ لمثلِ هذا الشيءِ أن يحدثَ على مدى ألفٍ وأربعمائةِ عامٍ؟ فلأيّهما نولي أهميّةً أكبرَ في الفضاءِ التبليغيِّ للدينِ: رسول الله أم الإمامِ الحسينِ؟ إنّ الإمام الحسين حفيدُ النبيِّ، وهو إمامٌ، وهذا كلّه صحيحٌ، لكنّ ذاك رسول الله؛ فهو الأصلُ، ثمّ يأتي بعده أميرُ المؤمنينَ، ثمّ الإمامُ الحسينُ وبقيّةُ الأئمّةِ، ولكلِّ واحدٍ منهم مكانتُه الخاصّة. أ فمن الممكن لشيعيٍّ أن يأتي، فيُزيلَ أربعينَ النبيِّ، ويُبقيَ على أربعين الإمامِ الحسينِ؟ فهل يمكنُ لمثلِ هذا الشيءِ أن يحدثَ في الأساس؟

  • وحينئذ، إلى ماذا ستؤول هذه القضيّةِ؟ ألن تدفعنا هذهِ المسألةُ إلى التفكيرِ بضرورة مراعاة المزيد من الدقّة، فحينما نكون جاهلين بمسألة ما، لماذا نأتي ونتحدّث عنها؟ لماذا؟ حسنًا، الآنَ وقد تبيّنَت لك حقيقة الأمر بعدما تابعت الأمرَ، تعالَ يا سيّدي، وتراجع عن كلامكَ، إذ ما هي المشكلةُ في أن يقولَ: «يا سيّدي، إنّ الكلامَ الذي ذكرتُه خاطئٌ؛ أجل، لا إشكالَ في الأربعين بالنسبة للأمواتِ، وهذا هو الدليل على ذلك!»؛ حسن جدًّا، سأقول لك حينئذ: «هذا يختصّ بك لوحدك أيضًا»، لكن، لماذا تأتي، وتستندُ في هذه المسألة إلى التاريخِ، وتقولُ: «إنّها مسألة تاريخيّةٌ، وتتمتّع بالواقعيّة»؟! يجبُ على الإنسانِ أن يشعرَ بالمسؤوليّةِ تجاهِ ما يطرحه!

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

9
  • حسنًا، لقد جاء النبيُّ والأئمّةُ والأنبياءُ ليُخرجوا الناسَ من الظلماتِ؛ فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني: لا تكذب على الناسِ، واصدقهم القولَ، ولا تطرح عليهم ما تراهُ في مصلحتك أنت، بل اطرح عليهم ما يقع في مصلحتهم هم.

  • لقد حدثت قضيّةٌ كنتُ مطّلعًا عليها بنفسي، فلاحظوا معي أيّها السّادةُ: إنّ هذهِ الدنيا ليست بلا حسابٍ، وليست بلا قانون، فحينما ننظر إلى الذين يدّعونَ الآنَ أنّهُ قد وقعَ ظلمٌ وما إلى ذلك، وأنّ الحقَّ والباطلَ قد اختلطا وأمثال ذلك، فهل نجد أنّهم كانوا يسعون بأنفسهم إلى مراعاة هذهِ المسائلَ عندما حصلت لهم بعض الظروف؟ كان هناك أحدُ هؤلاءِ، وأتذكّرُ أنّهُ كان رئيسَ تحريرٍ لجريدةٍ، أو مديرًا مسؤولاً فيها ـ لا أعلم ـ ، وباختصار، فإنّ الله يُقدّرُ للإنسانِ هكذا أمور في هذهِ الدنيا نفسها، وأمّا حسابُ الآخرةِ، فموجود في مكانه؛ أي أنّه تعالى يُبيّن للإنسان في هذه الدنيا بعينها مكانته وموضعه. ففي تلكَ الجريدةِ، هُتِكَت حُرمة رجلٍ محترمٍ كان يعيش في أصفهانَ، وكان شيخًا طاعنًا في السنِّ، وكنتُ أعرفهُ إلى حدٍّ ما. ثمّ جاءَ أحدُ الأشخاصِ ممّنْ أعرفُهم، وذهبَ ليتحدّثَ إليهم، وقال لهم: «أيّها السادة، إنّ الأمر ليس بهذا النحو، فلماذا أُهينَ هذا الرجلُ؟ إنّهُ رجلٌ محترمٌ وعالمٌ، وكانَ أحد مشايخ المنطقةِ الفلانيّة من أصفهانَ، وقد توفّيَ، فلماذا جرى ذلك؟»، فقالوا له: «كلاّ، فالمسائلُ التي ينقلُها مراسلُنا ليست بهذا النحو، ونحنُ لا نُلقي الكلام على عواهنه، بل كلامنا خاضع لحسابات خاصّة، وجريدتُنا لها قيمتُها واعتبارُها، ولا ننقلُ كلَّ شيءٍ هكذا!». قالَ: «حسن جدًّا، فلننهض نحنُ الاثنانِ، ونذهبُ إلى هناكَ، ونتحقّقُ، ثمّ نُعلن نتيجةَ التحقيقِ، فالأمر لا يتطلّب جهدًا كبيرًا!»، قالوا: «حسن جدًّا». قام اثنانِ أو ثلاثةٌ، وذهبوا إلى هناكَ ليتحقّقوا، فاكتشفوا أنّ القضيّةِ في أساسها كانَت كذبًا، فعادوا. وعندما رجعوا، قال لهم ذلك الشخص: «حسنًا يا سيّدي، الآنَ وقد تبيّنَ كذبُ المسألة، واتّضحتِ القضيّةُ، فتعالوا وتراجعوا عن كلامكم!»، قالوا: «لا، إذا تراجعنا عن كلامَنا، فإنّ ذلكَ سيُلحقُ الضررَ بهيبةِ جريدتِنا واعتبارِها!»؛ فهذا ما قاله ذلك الشخصُ بنفسهُ! انظروا، فالله تعالى يأتي بالإنسان تدريجيًّا، ثمّ يقول له في اللحظة المناسبة: «تفضّل الآن، بسم الله!». وقد كانت هذه مجرّد قضيّة واحدة، وإلاّ، فإنّ هناك قضايا أخرى متعدّدة، فهذهِ قضيّةٌ كنت على علمٍ بها.. أَ كرامةُ المؤمنِ أثمنُ، أم كرامةُ جريدتِكم؟! انظروا إلى هذا النوع من التفكير، فهل يمكنُ أن نقولَ عنه: إنّهُ تفكير نيّرٌ؟! هل يمكنُ أن نقولَ ذلك؟! لا بأسَ أن تذهب كرامةُ أحدهم، المهمّ ألاّ تتأثّر جريدتُنا، ولا تتأثّر كرامتُنا؛ ففي نهاية المطاف، ينبغي ملاحظة المكانة والجاه والاعتبار و... .

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

10
  • حينئذ، سيقول الله تعالى: «لقد ارتكبتَ في ذلك الحين ظلمًا، فسنُريكَ في هذه الدنيا كم الظلمُ سيّئٌ». فأنت تدّعي الآن أنّه وقع ظلمٌ [في مكان آخر]، وتدّعى بنفسك أنّ شيئًا ما قد حدث، حسنًا، مهما يكن الأمر الآن، فلا نريد الذهاب أبعد من هذه المسألة، ولا نريد أن نرى مَن هو على حقٍّ هنا وهناك، لكنّ الله تعالى سيُظهر لك في هذه الدنيا بنفسها حقيقة الظلم.. هل رأيت الآن؟ لقد حلّ بك أنت أيضًا! فذلك يكون ظلمةً، وهذا يكون نورًا. يقول [الله تعالى]: «اخرج من الظلمات، فأنت تتحرّك في أَسرِ هذه الأفكار والأنانيّة ومكانة الجريدة ورئاسة التحرير، وأسرِ هذا التفكير الحاكم الآن على الكلّ والسائد في كلّ مكان وفي كلّ العالم، ساعيًا للحفاظ على هذا وذاك، والباقي على الله!

  • تصلّب القلب بالإصرار على الظلمات

  • فهذا التفكير هو الذي يُقال عنه تفكير الظلمات! يقول نبيّ الله موسى: «اخرج من هذا التفكير، اخرج»، لقد تبيّن لك أنّ ظلمًا قد وقع، فأعلن في جريدتك: «يا قوم، هذا كذبٌ وباطلٌ، فهذا الشخص كذا وكذا». فإن قلتَ ذلك، ستخرج [من الظلمات]، وإلاّ، ستبقى تراوح مكانك، وتتوقّف وتستقرّ فيه، ويصير هذا المكان ثابتًا بالنسبة إليك؛ وحينئذ، حينما تطرأ حالة ثانية، تفعل نفس الشيء، وهكذا في الحالة الثالثة... لماذا؟ لأنّه عندما تصبح الفكرة حقيقةً بالنسبة الإنسان ـ والحقيقة هنا ليست بمعنى الواقعيّة، بل بمعنى التعيُّن والتحقّق الخارجيّ ـ، فإنّ ذلك سيجعل النفس تتّخذ موقفًا أكثر رسوخًا تجاه ذلك الأمر، وتتصلّب أكثر في منهجها. فحينما يُسكب الماء على الإسمنت، ويتمّ تحضيره، فإنّهم يقولون: «استمرّوا في إضافة الماء إليه؛ إذ كلّما أضفتم الماء أصبح الإسمنت أصلب»؛ ولهذا، عندما تريد في اليوم الأوّل أن تدقّ مسمارًا في هذا الإسمنت، فإنّك تقول: «لقد دخل هذا المسمار إلى النهاية بضربة واحدة»، لكن، إذا أضفت إليه الماء، وأردت أن تدقّه في اليوم الثاني، ستجده قد تصلّب وصار صلبًا، وهكذا في اليوم الثالث، حيث يُقال أنّه حتّى ثمانية وعشرين يومًا... وحينئذ، مهما دققتم المسمار، فلن يطرأ أيّ شيء للإسمنت، بل سيعوّج ذلك المسمار.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

11
  • فلم يعُد يدخل أيّ شيء في هذا القلب، وحتّى لو سعيت أن تغرس فيه شيئًا بمثقابٍ، فلن يتمكّن من اختراقه؛ لأنّه تصلّب، ومرّت ثمانية وعشرون يومًا على هذا الإسمنت، وهم يُضيفون إليه الماء باستمرار، ويزيدونه صلابةً بكلّ إتقان، إلى أن يصل [إلى أقصى درجة]. فتطرأ مجموعة من الظروف والمسائل والأحداث، لتزيد من صلابته، وتزيد من صلابته، فيصبح هذا القلب أصلب فأصلب، إلى أن يصل إلى مستوى، بحيث يحمل الإنسان قوسًا، ويصوّب سهمه نحو طفل رضيع في أحضان والده! أجل، يصل إلى هنا؛ فأيّ نوع من البشر هذا؟! وحقًّا، أيّ نوع من البشر هو؟!

  • رأيتُ ذات مرّة مقطع فيديو صُوّر فيه نمرٌ يا سادة، كان قد أمسك بأنثى قردٍ يريد أن يقتلها ليأكلها، وكانت هذه الأنثى حاملاً، فأسقطت وليدها، فترك النمر الأمّ، ولا أعلم هل ماتت الأمّ أم لا، فحمل الوليد وأخذه ليرعاه ويحميه؛ مع أنّه حيوانٌ مفترس! انظروا إلى قدرة الله تعالى، فهذا الحيوان يشعر بمظلوميّة ذلك الوليد والجنين؛ وخلاصة القول، فإنّه يشعر ببراءته ووحدته وعجزه.

  • لكن، انظروا إلى أيّ مستوى يُمكن أن يصل إليه هذا الإنسان! فيصل إلى درجة، بحيث يأتي الأب، ويحضر طفله، ويقول: «يا قوم، اسقوه ماءً، فخذوه أنتم واسقوه ماءً؛ فإن كنتم تعتقدون أنّني أريد أن أجد لنفسي مسوّغًا بواسطة هذه المسألة، فخذوه، واسقوه الماء بأنفسكم!»؛ حسنًا، كان عليهم أن يأخذونه، ويسقونه الماء، ولم يكن سيحصل آنذاك شيء ذو بال؛ لكن، انظروا إلى أيّ مستوى يجب أن تصل هذه القسوة؟! فنحن رأينا مثل هذه الوحشيّة والضراوة في النمر، ورأيناها في الأسد؛ لكن، عندما يُقال إنّ هذا الإنسان يُصبح أسوأ من الحيوان، فإنّه يصل إلى درجة بحيث يأتي ويحمل القوس، ويأخذ السهم، وهو يعلم أنّه لا يخطئ، وأنّ سهمه لن يرتفع ولن ينخفض، وأنّ رميه ليس بسبب الخوف من الأب، فيُصوّب بدقّة ـ حيث كان من الرماة المهرة ـ، ويُصيب وسط حلق ذلك الرضيع البريء الذي لا علاقة له بالحرب بتاتًا. حسنًا، إنّ حربك مع أبيه، فاذهب وحاربه هو؛ ففي نهاية المطاف، مهما يكُن الذي معه الحقّ، فإنّها حربٌ، ولا يُوزّعون هناك الحلوى، فإمّا هذا يضرب، وإمّا ذاك يضرب، وإمّا يقتل وإمّا يُقتل. وإذا كانت لديكم مشكلة مع عمّه حضرة أبي الفضل، فاذهبوا إليه، فهو أيضًا رجلٌ يقدر على الحرب، فافعلوا معه كلّ ما يحلو لكم، لكنّ هذا رضيع ذو ستّة أشهر! إنّ هذا الرضيع هو الدليل على حقّانية كربلاء، حيث قلت في أحد المجالس السابقة: إنّ حضرة عليّ الأصغر هو بنفسه دليل على حقّانية كربلاء. يا سيّدي، إنّ هذا الفعل لا يرتكبه حتّى الحيوان! مع أنّ ذلك كان عن علمٍ، ولهذا أمر عمر بن سعد بارتكابه؛ فقد حدثت ضجّةٌ، حيث لم يكن جميع الناس في جيش عمر بن سعد سواسيةً، ولم يكونوا كلّهم مثل الشمر، بل كانت لديهم مراتب مختلفة، فقالوا: «إنّه يقول الحقّ، فخذوا الطفل، واسقوه». وحينئذ، خاف عمر بن سعد.. خاف من أن تُحدث قضيّةُ هذا الرضيع ذي الستّة أشهر هزّةً في هؤلاء الأفراد، وأن تُشكّل صدمةً لهم، فقال: «أسرعوا بإنهاء هذه المشكلة لكي لا يرى الناس أكثر من هذا، ولكي لا يبقى ذلك على مرأى من أعينهم»، وقال لحرملة: «ارمه بالسهم، وأنهِ هذه المسألة، فهو الآن يخلق لنا مشكلةً، وهذه القضيّة تُسبّب لنا المشاكل».

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

12
  • حسنًا، يجب أن نقول بحقّ: إنّ حرملة كان أسوأ حتّى من الشمر؛ فحينما أقدم على قطع رأس الإمام الحسين، فإنّ هذا الأخير كان رجلاً، في حين أنّ ذاك طفلٌ رضيعٌ؛ ولهذا، علينا أن نقول إنّه أسوأ حتّى من الشمر ويزيد؛ إذ كم يجب أن يكون المرء...! حسنًا، فحرملة هذا لم يصل إلى هذه الدرجة دفعةً واحدةً، بل تدريجيًّا، وشيئًا فشيئًا، لكن، بدلاً من أن يخرج من الظلمات إلى النور، فإنّه كان ينتقل من النور إلى الظلمات! فعندما يولد الطفل، يكون في عالم النور، فلا تسمع منه أيّ كذبة.. هل تسمع منه ذلك؟! فالطفل الصغير لا يقول إلاّ الحقّ، ولا يستطيع أن يكذب أبدًا؛ أجل، قد يعلّمه الوالدان والناس من حوله هكذا أمور، فتلك مسألة أخرى؛ لكن، عندما يولد الطفل، ويكبر، وتسأله: «ما الذي يوجد في يدك؟»، فإنّه يقول: «شوكولاتة»، مع أنّ ذلك قد يكون سيّئًا! فرغم كونه يعلم أنّ أباه سيأخذ منه ذلك، فإنّه يقول: «شوكولاتة»؛ لأنّه لا يستطيع أن يكذب، ونحن الذين نلقّنه: لا تقل، لا تقل هذا، قل ذاك! ولذلك، فإنّه يتعجّب، وتجده ينظر إلينا بنظرةٍ خاصّةٍ، حسنًا، هذه شوكولاتة، فلماذا يقول لي: قل إنّها ليست شوكولاتة! فليس من شأن الطفل الصغير ارتكاب الخطايا، ولا يمكنه ممارسة التمييز؛ فحينما تعطيه شيئًا، فإنّه يأخذه ويعطيه لأحد آخر. فلنفرض أنّ لدينا ولدًا ثريًّا، وولدًا لشخصٍ متوسّط الحال، فحينما يأتيان للعب، فإنّكم ترونهما قد بدآ باللعب معًا، من دون أن يقول أحدهما: «إنّ أبي صاحب منصب كذا، ومنزلنا كذا، وأنت كذا، فإذن ليس لي أيّ شأن بك»؛ كلاّ! فالوالدان هما اللذان يعلّمانه بألاّ يلعب مع ذلك، ولا يلعب مع هذا؛ وأمّا هو، فلا.. لماذا؟ لأنّه بريء، وقد أتى من ذلك العالم النورانيّ، ولم يتلوّث بعدُ في هذه الدنيا، وعندما تعطيه شيئًا ما، فإنّه يعطي بعضًا منه لذلك الآخر أيضًا.

  • قرأتُ قضيّةً قبل أيّامٍ، وكانت مثيرةً للاهتمام حقًّا بالنسبة لي.. مثيرةً للاهتمام جدًّا! حيثُ قرأتُ في مكانٍ ما أنَّ مُعلِّمًا في بلدٍ إفريقيٍّ وضعَ سلّةَ فاكهةٍ أو شيئًا من هذا القبيل جانبًا، وقال لمجموعة من الأطفال: «مَن يتمكّن من الوصول أوّلاً إلى هذه السلّة، فله كلّ هذه الفواكه!»؛ فإذا بهؤلاء الأطفال جميعًا قد أمسكوا بأيدي بعضِهم البعض وركضوا سويًّا نحو تلك الشَّجرة وجلسوا، فقال المعلّم: «لماذا لم يذهبْ كلُّ واحدٍ منكم بمفرده؟» قالوا: «لم نُحبّ مشاهدة أحد أصدقائنا حزينًا»؛ وكان هذا اصطلاحًا إفريقيًّا خاصًّا بهم. لاحظوا، في ذلك... فأيَّ فهمٍ يجبُ أن يمتلكَهُ هؤلاء الأطفال!

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

13
  • نظرة أولياء الله تعالى للمسابقات الرياضيّة

  • وإذا تذكرون، تحدَّثنا قبل عدّة ليالٍ في مجالس [شرح] دعاء أبي حمزةَ عن هذه القضيّة، وكيف أنَّه عندما تُجرى هذه المسابقاتُ السائدة الآن في العالم، وتفوزُ فيها دولةٌ على دولةٍ أُخرى ـ فيضربونَ الكرةَ بهذا الاتّجاه وذاك الاتّجاه ـ ، فإنّ الدولة الفائزة تكون في حالة كبيرة من الفرحِ والابتهاجِ وما إلى ذلك، بحيث لا تسعُها الدُّنيا من السرور. حسنًا، أنتَ الذي لا تسعُكَ الدُّنيا فرحًا، أتُفكّرُ أنَّه بمقدارِ فرحتِكَ هذه، فإنَّ أفرادَ الدَّولةِ الأخرى هم الآن حزانى ويبكونَ، وأطفالُهم وأوضاعُهم وما شابهَ ذلك في حالة سيّئة، فكيفَ يُطاوعُكَ قلبُكَ أن تفرح؟! أليسوا بشرًا مثلَك؟! وحتّى لو كانوا مسيحيِّين، حسنًا، فليكنوا مسيحيِّين، ما الإشكالُ في ذلك؟ أليسوا هم أيضًا بشرًا؟ وحتّى لو كانوا مسيحيّين، أليس لديهم أطفالٌ؟ هل يجبُ على الأطفالِ أيضًا أن يتألّموا لغمومِ وأحزانِ كبارِهم؟ هل فكَّرتم في هذا حتّى الآن؟

  • أنا لم يحدُثْ لي حتّى الآن [أن فرحتُ] عندما أقيمت هكذا ألعاب وجرى الفوز فيها، فعلى أيّ حال، قد حدثَ ذلك الآن، وهذه القضايا تسعون بالمئةِ منها حظٌّ. حسنًا، لماذا؟ لأنّني أقولُ في نفسي: «إذا نظرنا الآن إلى أفراد الدَّولةُ الأُخرى ـ سواءٌ كانت يهوديّةً أم مسيحيّةً أم بوذيّةً أم لا دينَ لها بتاتًا ـ، فهل هم بشر أم لا؟». ففي نهاية المطاف، هل هم بشرٌ أم لا؟ فإذن، أينَ ذهبتْ مبادئنا الإنسانيّةُ؟! وما الذي حلَّ بقواعدنا الفطريّة؟! وهي التي يقول عنها سعدي:

  • بسیط زمین سفره عام اوست‌***بر این خوان یغما چه دشمن چه دوست‌
  • [وَوَجْهُ الثَّرى مائدةٌ لِلْجَمِيعْ *** فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدُوِّ والصَّدِيق؟]

  • فاللهُ تعالى يهب رزقه للجميعِ، ويرزقُ جميعَ عبادِه؛ أجل، يبقى أنّ هناك رزقٌ خاصٌّ يمنحه للمؤمنينَ ولبعض الأفرادِ، حسنًا، فهذا أمر خاصٌّ ومختلفٌ ولا نقاشَ فيه، ولكنَّ الجميعَ هم الآن عبادُ اللهِ، وقد جلس الكلُّ صغارًا وكبارًا على مائدتِه، فهل يختلفونَ عن بعضِهم البعض، لكي نأتي نحن الآن، ونفترضْ...؟ سيقولُ الله تعالى حينئذ: «حسنًا، لقد انتابك الفرح الآن، وسُررتَ كثيرًا، فأصدرَ هذا بيانًا، وأصدرَ ذاك بيانًا، وأصدرَ ذاك إعلانًا، حسنًا، احتفِظ الآن بهذه الفرحة، غير أنّك ستدفع ثمنها غدًا ليلاً أو بعد غدٍ ليلاً، بنحوٍ تنسى معه كلّ ما مرّ!»، لماذا؟! لقد جرت الأمور الآن، بحيثُ ضربتَ الكرةَ وفُزتَ، لكن، ما الذي حصل حتّى تريد أن تُمزِّقُ نفسَك [من الفرح]؟! حينئذ، سيأتي اللهُ تعالى بخفاء، ويعاقبك، فتأتي دولةٌ مسيحيّةٌ، وتمحي كلَّ المسائلِ الماضيةِ، وتتقدَّم إلى الأمام بكلّ إتقان، حسنًا، هل أصبحَ الأمرُ جيِّدًا الآن؟ افرحوا الآن أيضًا، فلماذا تبكونَ؟! أنتم الذين كنتمْ آنذاك بتلك الحالة، لماذا تبكونَ الآن؟ حيث رأيتُ بنفسي رجلاً يزن مائة وثمانين كيلوغرامًا يبكي! حسنًا، لماذا تبكي؟ أ فهل يُقال عنك أيضًا إنّك رجل!

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

14
  • لماذا صارت الأمور بهذا النحو؟ مع أنّني لا أقولُ ألّا يفرحَ الإنسانُ، حسنًا، فليفرحْ! فقد سجَّلَ هدفًا وهو فَرِحٌ الآن؛ هذا، مع أنّني لا أريد الدخول الآن في هذه المسائلِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ، كي لا أُصبحَ موضعَ اعتراضِ الكثيرينَ بأنَّ هذا السيّد يُعارضُ ـ في الأساس ـ كلّ هذه الأشياءِ! فأنا لستُ معارضًا للرِّياضةِ، بل إنّني أعارض مثلِ هذه القضايا التي لا يُعرفُ ما وراءَها، وأيُّ أيادٍ تقفُ خلفَها من أجل تسليةِ النّاسِ؛ فهذه هي الأمور التي أعارضها، وإلاّ، فلا يوجد أيّ إشكال في أصل مسألة الرياضة.

  • اشتراك جميع أفراد الإنسان في المبادئ الفطريّة

  • حسنًا، مَن الذي وضعَ هذه المبادئ الإنسانيّة والفطريّة؟ إذا كان اللهُ هو الذي وضعَها، فإنَّه وضعَها في الجميعِ، فوضعَ هذه المبادئ في الكلّ، ووضعَ هذه الفِطرةَ في الجميعِ، لأنّ الفِطرة لا تقتصر عليّ أنا المسلمَ فقط، بل هي مكنونة في كلِّ مكانٍ، أي حتّى في ذلك اليهوديِّ. فهل كان الأفراد الذين أدخلهم النبيُّ في الإسلام مسلمينَ منذُ البدايةِ؟ ألم يكونوا بأنفسهم مشركينَ؟! ألم يكن هؤلاءِ هم المشركينَ أنفسَهم الذين آمنوا عندما أدركوا بفِطرتِهم حقّانيّةَ النبيِّ؟ فهم لم يُولَدوا مسلمينَ وشيعةً من بطونِ أُمّهاتِهم منذُ البدايةِ، بل وُلِدوا مُشركينَ، لكنَّهم لم يفقدوا فِطرتَهم، ولم يُضيّعوا مبادئهم الفِطريّةَ، ولم يخسروا ذلك الصدق والصَّفاء والأمانة والالتفات إلى الحقِّ ومراعاته والسَّعي وراءَه وكراهية الظُّلمِ والكذبِ والخطيئة والغشِّ والإجرام؛ ولهذا، حينما كانوا يرونَ النّبيَّ يطرح هكذا مسائلَ، كانوا ينجذبونَ إليه؛ لكن، مَن كان يقفُ مقابلِ هؤلاءِ؟ كان يقفُ أمامهم أمثالُ أبي سفيانَ وأبي لهبٍ وعُتبةَ وشَيبةَ وخالدٍ والوليدِ بنِ عُتبةَ، فهؤلاءِ كانوا يقفونَ أمامهم؛ لكن، ليسَ لأنَّهم لا يفهمونَ أنَّ الكذبَ سيِّئٌ، كلاّ! وليسَ لأنَّهم لا يعرفون مَن هو النّبيُّ: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ ۱، فكانوا يعلمونَ أنَّ النّبيَّ حقٌّ مثل معرفتهم بأبنائهم، ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾. أ فهل يُعقل ألاّ يتعرّف الأب على ابنه؟! ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾.

  • انقسام الناس من حيث موقفهم من الظلمات والنور إلى طائفتين

  • فلماذا لم يقبلوا؟ ولماذا حاربوا؟ ولماذا واجهوا؟ ولماذا حرَّضوا الناسَ؟ ولماذا رموا جبينَ النبيِّ بالحجارةِ؟ لماذا حاصروا هؤلاءِ جميعًا ثلاثَ سنينَ في شِعْبِ أبي طالبٍ، حتّى فَقَدَ النبيُّ هناكَ حضرةَ خديجةَ وحضرةَ أبي طالبٍ، ودُفِنَ الكثيرُ من المؤمنينَ هناك؟ فلأيِّ سببٍ كان كلُّ هذا؟ حتّى نَبْقَى نحن! لأنّه إذا قَبِلنا، فلن نعودَ نحن الرُّؤساءَ؛ فيجب أن نبقى نحن، وتبقى مصلحتُنا، ويبقى نظامُنا؛ وأمّا إذا قَبِلنا، فلن نعودَ رؤساءَ، ولن يركع لنا ويُعظّمنا أيّ أحد، ولن نظلّ نتمتّع بالخيرات الفلانية، كما قد تقلّ منافعنا الدنيويّةُ، أو تُؤخذُ منّا هذه المنافع. فهؤلاءِ جاءوا وأبقوا أنفسهم في ظُلُماتِهم، وأولئكَ جاءوا وخرجوا منها، واعتنقوا [الإسلامَ]، وانحازوا إليه قائلين: «يا رسولَ اللهِ! إنَّ ما تقوله صحيحٌ، وما تنطق به حقٌّ!»، في حين أنّ الآخرين وقفوا في مواجهةِ هذه المسألة. إنَّ كلَّ نظامٍ تكامُليٍّ وتربويٍّ للأديانِ قائمٌ على أساسِ هذه القضيّةِ: الخروجُ من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، والخروجُ من النُّورِ إلى الظُّلُماتِ.

    1. سورة البقرة (٢) الآية ١٤٦.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

15
  • فعندما يولد الأطفالُ، يكونونَ في البداية معصومينَ وطاهرين، حيث تجدون فيهم الصدق والصفاء والأمانة وجميع الأوصافِ التي ننسبُها إلى اللهِ؛ لكن، عندما يكبرونَ ويبلغونَ سنَّ الشَّبابِ وهذه [المراحلَ]، تطرأُ عليهم مسائلُ مختلفةٌ، وتحدثُ لهم مصالحُ دُنيويّةٌ متنوِّعةٌ، وتواجههم نوازع دُنيويّةٌ من قبيلِ الأموالَ والمُلْكَ والزَّواجَ وبقيّة المسائلِ الأُخرى؛ فنرى أنّ تلك الحالاتِ البدويّة تزولُ تدريجيًّا وشيئًا فشيئًا، لتحلُّ محلَّها حالاتٌ أُخرى، حيث تكون هذه الحالاتُ الثانيةُ عبارة عن الظلمة التي تحلّ، إلى أن يبقى الإنسان ـ في نهايةِ المطاف ـ غارقًا فيها. وحينئذ، يأتي الأنبياءُ فيُحدِثونَ تنبيهًا، ويأتي الأولياءُ فيُحدِثونَ تنبيهًا: لماذا بقيتَ في الظلماتِ؟ لماذا تخلّيت عن العدل، واستبدلته بالظلم؟ ولماذا طرحتَ الصدقَ وعوّضته بالكذب؟ لماذا فارقتَ الأمانةَ وجلبتَ الغِشَّ والخِيانةَ مكانَها؟ ولماذا أهملت المودّة، واستعضتَ عنها بالقَسوة؟ لماذا؟ إذا مُتَّ على هذه الحالِ، فما الذي سيحدثُ، وأيُّ مُستقبَلٍ سينتظرُكَ؟ إذن، تعالَ واخرُج! فإلى الآن كنتَ بهذا النحو، وإلى الآن كنت تتحدَّثُ مع النّاسِ بهذه الطريقة، وإلى الآن كنتَ تتصرَّفُ بهذا الأسلوب، وإلى الآن كنتَ ترتكب في حقّ نفسَكَ هذا الظُّلم ـ والظلمة تُشتَقُّ من الظلمِ أيضًا ـ، فتعالَ الآن إلى هذا الاتّجاهِ، تعالَ، وغَيّر موضع هذه [الصِّفاتِ].

  • فأنت كنتَ تكذِبُ حتّى الآن، لكن، اعتبارًا من الغدِ، اعقِدِ العزمَ مع نفسِكَ على قولِ الصدقِ، ولو كان في ذلك ضررٌ عليكَ. فهذه هي بنفسها المراقبةُ التي يأمرُ بها أولياءُ اللهِ السّالكين؛ أي: الخروجُ من الظُّلُماتِ نحو النُّورِ، فهذه هي المراقبةُ، حيث تجد أنَّه عليك في أحد المواقف أن تصدرَ حُكمًا، ويكون هذا الحُكمُ مرتبطًا بمسألةٍ واقعة بين رفيقٍ وبين شخصٍ غريبٍ، ويكون الحقُّ هنا مع هذا الغريبِ وليس مع الرَّفيقِ، فيحصل لديك تردّد؛ لأنّه يكون بوسعك تغيير الحكم وتبديله. وهذا نظير ذلك الشَّيخِ الذي كان يعيش في عصر "أمير كبير"، وأرسلَ إلى هذا الأخير شخصًا ليقول له: «جاءَ اليومَ ابنُ أُختِكم فلانٌ، حيث أحضره إلينا أحدهم، فبماذا يأمرُ حضرةُ الأمير؟»، فقال له [أمير كبير]: «يا عديم الحياء، أتنتظرُ أمري؟ أ فهل هذه هي محكمةُ العدلِ؟ وهل هذه الحكومةُ حكومةُ عدلٍ؟»؛ فأزاحَهُ عن منصبِهِ، ووضعَ أحدَ عُلماءِ قُم مكانَهُ.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

16
  • فإلى الآن، كنت تتبعُ حضرةَ الأميرِ، [وتسألُ]: بماذا يأمرُ حضرةُ الأمير؟ لكن، اعتبارًا من الغدِ، تعالَ وضعْ حضرةَ الأميرِ جانبًا، وانظُرْ إلى حضرةِ الأميرِ الحقيقيِّ، وهو عليُّ بنُ أبي طالبٍ، لكي ترى ما الذي يقولُه لكَ هو، وبماذا يحكُمُ عليكَ هو. وأمّا هؤلاءِ الأمراء الظاهريّينَ، فلا يدومونَ ـ يا سيِّدي ـ أكثرَ من يومَينِ، وسيكونون غدًا مُرْتَهنين بشؤونهم وعاجزينَ؛ اتبعْ حضرةَ الأميرِ الذي يستطيعُ أن يأخذَ بيدِكَ في العالم الآخرِ؛ لأنّ الحُكمُ هناكَ بيده، فاتبعْهُ هو، ولا تهتمّ بهذينِ اليومَينِ من الدُّنيا ودراهمِها المعدودة؛ فهذا الذي يُقال عنه: خروج من الظلماتِ إلى النورِ.

  • وبناءً على ذلك، على الإنسان ـ في مسألةِ الخروجِ من الظلماتِ ـ أن يُحلَّ الصفاتِ المُستنِدةَ إلى الصفاتِ الربوبيّةِ محلَّ الصفاتِ التي تُقابِلُها؛ فهذا الذي يُقال عنه: خروج من الظلماتِ إلى النُّورِ.

  • فلا قدّر اللهُ تعالى أن يأتي ذلك اليومِ الذي يكونُ فيه الأمر بالعكس؛ أي أن يكونَ الإنسانُ في عَوالِمِ النورِ والبَهجةِ، ثمَّ يأتي الشَّيطانُ شيئًا فشيئًا، وتأتي التعلّقاتُ، ويأتي هذا وذاك، وتأتي المسائلُ المختلفةُ والحاجاتُ الدنيويّةُ، فتُغمض عينَيه، ويبدأُ تدريجيًّا في التبريرِ والتمادي، ويُنكر الحقائقَ ويمحوها بأجمعها، ويكونُ بصَدَدِ التبريرِ والتأويلِ وترسيخ المسائلِ [الباطلةِ]؛ فهذا هو الخروجُ من النُّورِ [إلى الظلُماتِ].

  • ولاية الله تعالى في مسألة الهداية إلى النور أو الظلمات

  • ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾۱ ففي آيةِ الكرسيِّ، ورد أنّ الله وليُّ أولئكَ الذينَ يُخرجُهم وليُّهم هذا من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ؛ أي أنّه تعالى يقولُ: «أنا أُسانِدُ هؤلاءِ، وأرعاهم». فإذا كان الإنسان يُريد الخروج من الظلماتِ إلى النورِ، فإنَّ اللهَ تعالى يُلقي في ذهنه حتّى الفكرةَ التي يجبُ أن يُفكِّرَ فيها، ويقول له: «فكِّرْ بهذا الأمر، أقدِمْ على هذا الفعل هنا، ولا تُقدِمْ على ذلك الفعل هناك، اذهبْ، وأدلِ بهذا الرأيِ هنا، ولا تُدلِ بذلك الرأيِ هناك!». فمَن الذي يُلقي هذهِ الأفكارَ في الذهن؟ اللهُ تعالى هو الذي يُلقيها. فنجد أحدهم يقول: «إلهي، لقد فَوَّضْتُ أمري إليكَ، فأنا لا أفقه شيئًا؛ ولهذا، فَوَّضْتُ أمري إليكَ، فالمسألةُ مُشتبهةٌ عليَّ، وهي مُبهَمةٌ بالنسبة إليّ.. يا إلهي!»، فيرى فجأةً أنَّه تعالى قد وضعَ شخصًا في طريقِه، كأن يذهب ليشتريَ جُبنًا من مَحلِّ ألبانٍ، فيرى شخصًا هناكَ، فيقول له: «السلام عليك، كيفَ حالُك؟ بالمناسبة، ألم تسمع ما جرى في القضيّةِ الفُلانيّةِ؟»، فيُجيبه: «عجيب! لا، لم أسمع شيئًا كهذا»، فيقول له: «ولكن، حدثتْ مسألةٌ كهذه...»؛ فمَن الذي ألقى بباله هذا الأمر؟ اللهُ تعالى هو الذي ألقاهُ، وقال له: «يجبُ عليكَ الآن أن تذهبَ لتشتريَ جُبْنًا»، وهو الذي أيضًا أتى بذلك الشخص إلى هنا، ليقولَ لكَ هذا الكلام، ثمَّ تذهبَ من دون أن تراهُ بعد ذلك ولا هو يراكَ، فقد أوصلَ إليك الرِّسالةَ وذهبَ، مع أنّه قد لا يكونُ بنفسه مُدْرِكًا لذلك بتاتًا. لكن، بعد أن تلقَّيتَ هذه المسألة، يجبُ أن تذهبَ وتُفكِّرَ فيها، لترى إن كانت صحيحة فتقوم بمتابعتها؛ إذ لو رأيتَ أنَّ لها حقيقة، فلن تستطيعَ بعد ذلك أن تُغمِضَ عينيكَ؛ لأنّ الله تعالى هو الذي ألقاها إليك.

    1. سورة البقرة (٢) الآية ٢٥٧.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

17
  • أو يتَّصل بكَ شخصٌ بالهاتفِ، ويقول لك: «بالمناسبةِ، هل لديكَ علمٌ بالقضيّةِ الفُلانيّةِ؟ القضيّةُ هي كذا وكذا»، فتقول: «يا للعجب! بما أنَّ الأمرَ كذلك، فلا يجبُ عليَّ أن أقومَ بالعملِ الفلانيّ». أو يأتي شخصٌ مثلاً ليوجّهكم نحو هذا الطريق، أو ذلك الطريق، إذ للهِ تعالى ألفُ وسيلةٍ، فترونَ اليومَ أنَّ فكرَكم كان مُنصبًّا حتّى الآن على اتّجاه واحدٍ؛ لكن، حينما تعقِدونَ العزمَ على الالتزام بالمراقبة وإخراجِ أنفسكم من الظلماتِ إلى النورِ، يأتي الغدُ، فتكتشفون أنّ ميلكم نحو ذلك الاتّجاه قد خبا، ومن دون أن تكونوا قد سمعتم أو شاهدتم أو طالعتم أيّ شيء، ومن غير أن يقول لكم أحدٌ شيئًا، فتجدون أنَّكم الآن لا تميلون إليه بتاتًا، بل وترونَ في اليومِ الثّاني أنَّ لديكم نُفورًا منه؛ فمن أينَ نشأتْ هذه القضيّةُ؟: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم...﴾ اللهُ هو الذي يقف خلفها؛ ولهذا، عندما يرى تعالى أنَّ هذا الشخص قد ثَبَتَ على الأمرِ، فجاءَ وقالَ: «إنَّني جادٌّ»، فإنّه تعالى يمحو عنه مَيلاً، ويستبدله بميل آخر، ويُزيل عنه تفكيرًا، ويُحلّ محلّه تفكيرًا آخر، ويُذهب عنه رفيقًا مُفْسِدًا يكون شيطانًا بالنسبةِ إليه، ويأتي بآخرَ مكانَهُ، ليملأ هذا المكان.

  • انظروا، فإنّ النظامِ بأسره يتحرَّكُ هكذا باستمرارٍ و... فحينما يرتكبُ الإنسان خطَأً، فإنّه يُصلِحُ خطَأَهُ قائلاً: «كلاّ، المسألةُ ليست بهذا النحو!»، ثمَّ يذهبُ، فيُصلح الأمر، ويجبر خطأه، هذا من ناحية؛ لكن، من ناحية أخرى، إذا أغمضَ المرءُ عينيهِ، فإنّ الشيطانَ يأتي، ويأخذ مكانَ اللهِ تعالى؛ لأنّه بدوره مطّلع على الأمور جيّدًا، ويَعرفُ جميع البراغي والصواميلِ، ويعلم البرغيّ المناسب والصمولة المناسبة ومكانهما المناسب، وفي أيّ موضع يشدّ، وفي أيّ موضع يُرخي، وهو يمتلكُ مفتاحَ الرَّبطِ ومفكَّ البراغي وغيرَ ذلكَ وكلَّ هذه الأشياءِ والأدواتَ والوسائلَ، فيتعاملُ مع كلِّ أحدٍ وكلّ طائفة وكلِّ شخصٍ مهما كانت منزلته، وسواءً كان جاهلاً أو عالمًا، وسواءً كان مُعمّمًا أو غير مُعمّم، فيُسَيِّرُ كلَّ واحدٍ منهم ببراعةٍ في طريقهِ ومنهجه الخاصِّ، ويقول له: «اُدخل من هنا، لا ينبغي لكَ أن تقولَ هذا الكلامَ، من واجبك الآنَ أن تقومُ بهذا العمل!». فإلى الآن، كانَ يقولُ: «كلاّ، هذه ليستْ وظيفتي، ما علاقتي بهذا الأمر...؟!»، لكنّه صار يقول: «كلاّ، إنّ هذه المسألة تخصّني، ويجبُ عليَّ أن أتّخذ إجراءً تجاهَها، فماذا عساي أن أفعل حِيال ذلك!». فلماذا لم يكنْ الأمر بهذا النحو حتّى الآنَ، في حين أنّه أصبحَ كذلكَ الآن؟! أنت الذي غيَّرتَ نفسَك؛ وحينئذ، سيقول اللهُ تعالى أيضًا: حسنًا، بما أنَّكَ عزمتَ الآنَ على أن تسلُكَ طريقًا منفصلاً، فأنا أيضًا سأضعُ تحتَ تصرّفك الوسائل اللازمة لذلك، وأنت تُحبّ أن تسلُكَ المسارَ المعاكس؛ حسنًا، سأُعطيكَ وقودًا، فالسيَّارةُ تحتاجُ إلى وقودٍ؛ ولهذا، سأُعطيكَ وقودًا، وأُبدّل لكَ ماءَ المُبرّد وزيتَ المحرّك وأمثال ذلك، و[أساعدك] في كلّ ما يرتبط بالصّيانة والكهرباء وغير ذلك، وأضبط لكَ المُحرّك، وأُجهّز السيّارة بأسرها، ولن أُعطيكَ سيّارةً مُعطّلةً، بل ستكون عجلاتها جديدةٌ وتلمعُ قد أُخرجت للتوِّ من الشَّركةِ، حتّى لا تنثقبَ هذه العجلات في الطَّريقِ فجأةً حينما تسيرُ بسرعةِ مائتي كيلومترٍ، وأصبُّ لكَ وقودًا ممتازًا، كوقودِ الصّواريخِ والطّائرات، لكي تصل سُرعتك إلى الضعف؛ ولهذا، حينما تُريد أن تسلُكَ طريق الانحراف، فإنّني سأساعدك؛ فلا تظننّ أنّني سأتركك، بل سأضعُ كلَّ الأسبابَ والوسائلَ تحتَ تصرُّفِكَ.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

18
  • فمثلما أتعاملُ مع شخصٍ يُريد أن يتركَ طريقَ الضَّلالِ ويأتيَ إليَّ، حيث أضعُ نفسي بكلِّ قُدرتي تحتَ تصرّفهِ، فأُغيّر فكرَه وبرامجه وحياتَه وأخلاقَه وتفكيرَه ورفقاءَه وعلاقاتِهِ، وأُوجّه ذلك بأجمعه في سبيلِ الوصولِ إليّ، فإنّني سأتعامل بنفس الطريقة مع الذي يُريد أن يسلكَ هذا الطريق؛ إذ سأجعل الرفيقَ الذي كانَ حتّى الأمسِ عدوًّا لدودًا له، يُصبح الآنَ من أقربائه: «يا للرّوعةِ، سلامٌ عليكم!»، ماذا؟! أنتما اللذان لو وجدتما ـ حتّى الأمسِ ـ سكّينًا، لَبقرتُما أحشاءَ بعضِكما البعضِ، كيفَ أصبحتما الآنَ من الأقاربَ؟! فيقول له: «شرّفنا يا سيّدي بالمجيء إلى المنزلِ، تفضّل»، فيدخلُ قائلاً: «السلام عليكم، كيفَ الحالُ؟ ما الأخبارُ؟»، ثمّ يأتي ثالث لم تكن له به ـ على سبيل المثال ـ أيّة علاقة بتاتًا، فيُصبح بدوره من أقربائه، قائلًا: «يا للرَّوعةِ! يا للرَّوعةِ!»، وأمثال هذه الكلمات. ثمّ يكون جالسًا في البيتِ، وإذا بهاتفه يرنّ فجأةً، [ويتّصل به أحدهم]، والحالُ أنّهما لم يتّصلا ببعضِهما منذُ عشرِ سنواتٍ: «السلام عليكم، لقد جئتَ على بالي اليومَ يا سيِّدي، ولا أدري لماذا اشتقتُ اليومَ للحديثِ معك!»، لكن، مَن الذي ألقى هذا الشّوقَ في قلبِهِ؟ إنّه حضرةُ الشَيطانِ. أجل! فهو أيضًا جالسٌ هناك يقول: «كمَا أنَّ للهِ جنودَه وأعوانَه، فأنا أيضًا لديَّ جنودي وأعواني»، حيث جاء على لسانه في القرآن الكريم۱ أنّه قال: سأستخدم جميع الوسائل للتسلّل إليه، وآتيهِ عن يسارِهِ وعن يمينِهِ، ومن فوقِ ومن تحتِ ومن كلِّ الجوانبِ، فآتي لأُمسكَ بِهِ، وأسخِّرُ لهُ جميعَ الناس، وأضعُ في طريقهِ الرفيقَ الذي ينفعهُ، وأرتّب له العلاقةَ التي تصلح لهذا الأمر، فالآنَ وقد تقرَّرَ أن يسلكَ طريقَ الضلالِ، سأرتّبُ لهُ هذه العلاقةَ، وأفعلُ كذا وكذا، وأسلّط عليه رفيقَ السوءِ ليأخذهُ ويسقطهُ! لا قدّرَ اللهُ ذلكَ للإنسانِ! وعلى المرء أن يلتجئ إلى اللهِ فقط، ويستعيذ به تعالى وحسب، وأن يطلبَ منه أن يتولاّه بنفسه في كلِّ الأحوالِ.

  • فإذا نظرتم إلى معظم الأفرادِ الذين تعرّفوا على هذا المنهج وهذه المدرسةِ وهذه المبادئِ، فكيفَ هيّأ الله تعالى لهم وسائلَ التوفيقِ؟ وكيفَ حدثَ ذلكَ في الأساس؟ كان أحدهم جالسًا، فقالَ: «يا إلهي! أريدُ أن أُصلح طريقي، فقد تُهتُ، وأصبحتُ كذا!»، فيذهبُ في الغد إلى الإدارة الفلانية، ويكون جالسًا في الغرفةِ، وإذا به يرى فجأةً على طاولةِ زميلِه كتابَ المرحومِ العلاّمة، والحالُ أنَّ هذا الكتابَ كانَ في بيتِ هذا الزميل، واليومَ خطرَ ببالهِ أن يأخذَه ويأتيَ بهِ ويضعهُ هنا، فيقول له: «هل يمكنُ أن تعيرني الكتابَ لآخذهُ معي الآنَ وأقرأه». فيأخذ الكتابَ ويقرؤهُ، فتكون هذا القراءة هي السبب لكي يتّضح له كلّ شيء!

    1. من الآيات القرآنيّة العجيبة التي وردت بخصوص هذا الموضوع: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ سورة الأعراف (۷) الآية ۱۷، ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ سورة الأعراف (۷) الآية ٢۷، ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾، سورة الإسراء (۱۷) الآية ٦٤.

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

19
  • ويكون ذاكَ جالسًا يتحدّث، وإذا به يرى فجأةً شخصينِ يتهامسان معًا، فينظر، فيسمعهما يقولان إنّ هناك شخصًا بالنحو الفلاني ومسألة بالطريقة الفلانيّة، وأنّ هناك شريطًا كهذا مثلاً للمرحوم العلاّمةِ، فيُصبح فجأةً فضوليًّا، ويقولُ: «حسنًا، هل يمكنني أن [أستعيره] منك». كانَ أحدُ الرفقاءِ والأصدقاءِ يحكي أنَّ شخصًا محترمًا ذهبَ إلى جوار الجامعة ليشتريَ لابنهِ شريطًا من أجل تعلّم اللغةِ الإنجليزيةِ، فرأى بجانبِ هذا الشريط شريطًا للمرحومِ العلاّمة، حيث كان يجب عليه تعلّم هذه اللغة من أجل تقديم اختبار للجامعة، فقالَ: «لأقتنِ هذا الشريط، وأرى عن ماذا يتحدّث»، وما إن استمع لأوّل محاضرةٍ للمرحومِ العلاّمةِ، حتّى انتهى أمره، وقُرئت فاتحتهُ!! حسنًا، ما حقيقة هذا الأمر؟ يعني هل نستطيعُ أن نقولَ عن هذهِ المسائل: إنّها بأجمعها عبثٌ، وإنّها حوادثُ تقعُ هكذا صدفةً وعشوائيًّا؟! بل هي خاضعة بأسرها للحساب!

  • فبما أنّه وضعَ قلبهُ في هذا الطريقِ، فإنّ الله تعالى يقول له: «حينما تريدُ أن تذهبَ لاقتناء شريطَ اللغةِ الإنجليزيّةِ، ستقعُ عينكَ على هذا أيضًا، وتقولُ: حسنًا، سوف آخذه معي أيضًا!». هذا، مع أنّ نظير هذه القضايا كثيرة جدًّا، وهي بأجمعها مصداق لـ ﴿يُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾، حيث يعمل اللهُ تعالى بدوره على تهيئة وسائله، لكن، من ناحية أخرى أيضًا.. حسنًا، دعنا لا نتحدّث الآنَ كثيرًا عن الجانبِ الآخرِ، ولنتكلّم عن هذا الجانبِ فقط؛ لأنّ ذلكَ الجانب ليسَ جيّدًا جدًّا، كما أنّ الأطبّاء نصحونا أيضًا بقولهم: «لا تذهبوا كثيرًا إلى ذلكَ الجانبِ، ففيهِ ضررٌ عليكم، هو مضرٌّ بالنسبة إليكم!»، فليأخذِ اللهُ تعالى بأيدينا، فما عسانا أن نفعل!

  • وهذه المسألةُ هي حقًّا مسألةٌ بالغة الأهمّية، حيث متى ما وصلَ الإنسانُ إلى مثلِ هذهِ الحالةِ، فإنّه يرى نفسَه ـ شاءَ أم أبى ـ يتماهى مع مسلكِ العظماءِ ومبادئِهم، ويستقرُّ هناكَ دونَ أن يشاءَ أو يأبى، فتصبح أفكاره مختلفةً، وميوله مغايرةً، وذوقه أيضًا ذوقًا آخر، بل سيُدرك بنفسه ـ شاءَ أم أبى ـ مثلَ هذهِ المسائلِ، ويعيها.

  • تركيز المرحوم العلاّمة على تطوّر الفهم والتفكير لدى السالك

  • وهذه المسألةُ هي نفسُها التي كانَ المرحومُ العلامَةُ يُركّز عليها كثيرًا، بحيث إنّه في معظم الأوقاتِ التي كانَ يراني فيها، ويطلبُ منّي أن أحدّثه عن أحوال الرفقاءِ، فإنّه كانَ يقول: «كم تطوّر تفكيرهم بالنسبةِ للمسائلِ التوحيديَّةِ والسلوكيَّةِ، وكم نمَى فهمُهم بالنسبةِ لهذهِ القضيةِ؟»، حتّى إنّهُ قالَ لي مرَّةً: «أنا لا شأنَ لي بحالِ هؤلاءِ، ولا شأنَ لي بحالِ أولئكَ، لكن، كم تطوّر فهمهم وفكرهم بالنسبةِ للمبادئِ؟».

التربية في الأديان وعلاقتها بثنائية النور والظلمات

20
  • نأملُ أن يجعلَ اللهُ تعالى فهمنا وإدراكنا بالنسبةِ لمبادئِ العظماءِ وأولياءِ اللهِ أكثرَ رصانةً وقوَّةً، ويجبُ على الإنسان ـ حقًّا ـ أن يلتجئ إلى اللهِ؛ إذ حينما أرى أفرادًا كانوا يحضرون لسنوات متمادية عندَ العظماءِ، سواءٌ تعلّق الأمر بنفس المرحوم العلاّمة أو أساتذته، لكنّهم ـ باختصار ـ لم ينالوا النصيبَ الذي كانَ عليهم أن يظفروا به، ولم يحصلوا على الحظَّ الذي كانَ يجبُ أن يحصلوا عليهِ، أُصبح ظنينًا بنفسي كثيرًا، وأطلبُ من اللهِ قائلاً: «إلهي، لقد كان هؤلاءِ أيضًا متواجدين [في هذا الطريق]، وإن كانت تظهر منهم بعض المسائل في ذلكَ الوقتِ، ولكن على أيِّ حالٍ كانوا...»، فلا قدَّرَ اللهُ ذلكَ اليومَ للإنسانِ الذي تقصرُ فيهِ يدهُ عن المبادئِ، ويحدثُ انحرافٌ في طريقهِ عمّا رسمهُ العظماءُ، فعلى الإنسانِ أن يلتجئ إلى اللهِ تعالى وحسب.

  • لقد أشرت في الجزء الثاني من "أسرار الملكوت" إلى مجموعة من المسائل والتي اطّلع عليها الرفقاءُ، حيث كانَ هناكَ العديد من الأشخاص الذين لم يكنْ ينقصهم شيءٌ من الناحيةِ العلميةِ، ومن ناحيةِ إدراك هذه المسائلِ، ولكن، ما هي حقيقة هذا الأمر؟ ولماذا حصل لديهم انحرافٌ في نهاية المطاف؟ ولماذا يحدثُ انحرافٌ للإنسانِ في طريقهِ وفي مسارهِ، فلا ينالُ ـ باختصار ـ الحظَّ الذي يجبُ أن ينالهُ، أو أنّه على الأقلِّ ينالُ حظًّا أدنى؛ أجل، يبقى أنّ مسألة نيل الحظِّ الأدنى مرتبطة بالجميع؛ لأنّ الجميع كما أشرت آنفًا ليسوا سواءً، وكلُّ واحد يتحمّل المسؤولية بمقدارِ مستوى الفهمِ الذي لديهِ، وبهذا المقدار سوف يحاسبهُ اللهُ تعالى.

  • نرجو من العليّ القدير ـ إن شاءَ تعالى ـ أن يأخذ بأيدنا جميعًا، وأن يُثبّتَ الجميعَ على خطى العظماءِ والأولياءِ، وأن يمنحَنا الفهمَ والإدراك، ويكونَ هو حامينا وسندنا في مواقفِ ومواطن الذلَّةِ والخطأِ والزلَلِ.

  •  

  • اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ