المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء الافتتاح
التاريخ 1397/09/10
التوضيح
دارت المحاضرة حول فقرة «اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ»؛ فقال سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ أنّ هذه الفقرة تدلّ على شدّة رحمة الله بعباده بأن أَذِن لهم بدعائه، ولولا إذن الله هذا لما استطعنا إليه سبيلًا. وفنّد الإذن على نحوين؛ إذن تشريعيّ، ويمكننا اختصار مطالبه النفيسة بالعنوان التالي: دين الإسلام دينُ الغاية في السماحة والسهولة والرحابة. وإذن تكوينيّ، وتتلخّص مطالبه السامية في أنّ الحاجة هي حقيقة كلّ المخلوق، فلولا أن أَذِن الله بالنِّعَم لتقطّعت بنا السُبُل.
هو العليم
الإذن الإلهيّ تكوينيّ وتشريعيّ
شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الرابعة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين مِنَ الآن إلى قيامِ يوم الدين
«وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النّكالِ وَالنَّقِمَةِ، وَأَعْظَمُ المُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ»۱، أي يا إلهي، إنّما وقفتُ بين يديك وذكرتك بهذه الصفات وحمدتك وأَثنيت عليك بصفاتك الجماليّة والجلاليّة، لكي أطلب منك بعض الطلبات؛ «اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ وَمَسْأَلَتِكَ، فأَسْمَعْ يا سَمِيعُ مِدْحَتِي، وَأَجِبْ يا رَحِيمُ دَعْوَتِي وَأَقِلْ يا غَفُورُ عَثْرَتِي، فَكَمْ يا إِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها، وَهُمُومٍ قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَها، وَرَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاءٍ قَدْ فَكَكْتَها»٢، أي ما دمت قد أذنت لي في دعائك ومسألتك يا ربِّ، فاسمع يا سميع مدحتي، وأجب يا رحيم دعوتي الّتي أدعوك بها، وتجاوز يا غفورٌ عن ذنوبي وزلّاتي، تلك الذنوب الّتي ارتكبتها، والزلّات الّتي صدرت منّي، والخَطَرات الّتي خَطَرَت على بالي. فقد شَمَلْتني برحمتك الرحيميّة، وخلّصتَني ممّا أحاط بي مِن هموم وغموم، وبلاء محيط بي مِن كلّ جانب، فتجاوزتَ عن جميع ذنوبي، ونجّيتني عن جميع تلك الزلّات والمخاطر، وأخذت بيدي في تلك المنعطفات والمواقف الخطرة. على أنّ كلّ ذلك ليس بالأمر الجديد، بل هو معهود منك دائمًا يا ربِّ؛ فلمّا كانت هذه طريقتك في التعامل مع عبادك، فها أنا أتوجه إليك بِطَلِبَتِي هذه أيضًا، وأنا أرجو أن تُجيبني فيها وأن تقبل منِّي مدحي وأن تستجيب لي ما أنا بصدد أن أطلبه منك.
لولا إذْن الله لما استطعنا إليه سبيلًا
«اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ وَمَسْأَلَتِكَ»، فلو لم يعطني الله الإذن في دعائه ومسألته، فما الّذي كان سيحصل؟ لا شكّ أنّ الإنسان حينئذٍ لن يكون قادرًا على الدعاء، فهو عبدٌ والله مولى، [وبِيَد] المولى أن لا يعطي عبدَه هذا الإذن، [وحينئذ] لن يقول له: تعال واعرض على جناب قدسي حاجتك، بل سيقول: سأتركك وأنانيّتك ونفسك، ولن أسمح لك بالوصول إليّ، فأنت عبدٌ وأنا مولى، فأين العبد مِنَ المولى، وأين التراب مِنَ الشمس، وأين التراب وربّ الأرباب٣؟!
إنّك خلقتنا مِن أحطِّ الأشياء يا ربِّ، ألا وهو التراب، أمّا أنت، فأنت ربّ الأرباب، وأنت أعلى مِن جميع الأرباب، وربوبيّتك أعظم مِن ربوبيّة كافّة الأرباب. بناءً على كلّ هذا، فإن لم تأذن لنا بدعائك، لكان ذلك عين الواقع، والإذن الّذي دعيناك وسألناك بموجبه هو ليس حقًّا مِن حقوقنا، كلّا، ليس لنا مثل هذا الحقّ أبدًا. ولكن رحمتك ولطفك هما اللذان دعاك لأن تمنحنا مِثل هذا الإذن. ولهذا الإذن مرحلتان: مرحلة تكوينيّة، ومرحلة تشريعيّة. وقد سمحتَ لنا أن نناديك ونقول (يا الله) في أيّ وقت شئنا، إذ إنّك لم تحدّد لذلك زمانًا أو مكانًا معيّنين، ولا كيفيّةً أو وضعيّةً خاصّتين.
يستطيع الإنسان أن يخاطب الله في منتصف الليل أو في وضح النهار، فيقول (يا الله)، فلم يحدّد الله لذلك وقتًا معيّنًا. ويستطيع الإنسان أن ينادي الله وهو في حال الحركة أو السكون، فيقول (يا الله). ويستطيع أن يقول (يا الله) سواء كان في مشهد أو طهران أو مكّة أو في أفغانستان، وسواء كان في الطائرة أو على ظهر سفينة، في المشرق كان أو في المغرب. نعم، يستطيع أن يخاطب الله قائلًا (يا الله).
إنّه لأمر عجيب أن يأذن الله لنا بدعائه في أيّ مكان كنّا فيه، وأن يسمعنا في جميع الأحوال، عجبًا لمثل هذا الرادار أو التلغراف أو اللاسلكيّ، فهو يسمعنا فور أن نقول: يا الله، في أيّ وقت حصل وفي أيّ زمان كان، بل ويجيب نداءنا بالإيجاب. على أنّ هذا الأمر ليس خاصًّا بنا، بل هو يشمل جميع الناس، وليس مختصًّا بأبناء الجنس البشريّ، بل يشمل جميع الحيوانات وكافّة أفراد الجنّ والإنس والأسماك في أعماق البحار والطيور في جوّ السماء، إذ جميع تلك المخلوقات متصلّة بالله في أصل سرّها ووجودها، وكلٌّ يطلب مِنَ الله في حدود إنيّته وماهيّته، والله يفيض عليها.
الإذن الموهوب في مقام التشريع
سرّ المقادير في الصلوات الواجبة والمستحبّة
فالإذن يكون في كلٍّ مِن مرحلتَي التشريع والتكوين: أمّا في مرحلة التشريع، فقد أَذِن الله لنا أن نناديه دائمًا ونقول: يا الله. وأَذِن لنا أن نصلّي في أيّ وقتٍ شئنا، فليس للصلاة [عدا الواجب منها] زمان خاصّ.
شُّرعت الصلاة الواجبة على الإنسان بلحاظ أضعف المأمومين، فقد جاء في الرواية أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إنّ الله جعل الواجب مِنَ الصلاة سبع عشرة ركعةً، لأجل ضعاف الناس وعلى قدر أضعف المأمومين؛ فلا يوجد بين الناس رجل أو امرأة، قويّاً كان أو ضعيفا، مَن يعجز عن الإتيان بسبع عشرة ركعةً، فلمّا كان الأمر كذلك أوجبها الله. أمّا بالنسبة للّذين يستطيعون المُضيّ أكثر في طيّ الطريق، فمِنَ المستحبّ المؤكّد أن يأتوا بالنوافل الّتي تبلغ ضعف ذاك العدد۱. على أنّ النوافل مهمّةٌ جدًّا، فهي مكتوبة، مَثَلُها مَثَلُ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾٢، و ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ ... الْوَصِيَّةُ﴾٣، فتُسمى هذه النوافل بالنوافل المكتوبة، أي هي ممّا يجب أن يُؤتى به.
هنالك رواية عن الإمام الصادق عليه السلام تقول: قال له أحدهم: ماذا عن النوافل الّتي فاتتني يا بن رسول الله، فقال له الإمام: «عليك أن تقضيها». قال: ولكنّها كثيرة، ولا أستطيع أن أقضيها، فماذا أفعل؟ قال له الإمام: «عليك أن تقضيها». فأعاد السؤال على الإمام قائلًا: ماذا أفعل؟ فقال الإمام: «عليك أن تقضيها. فقال: إن لم أستطع أن أقضيها، فهل أتصدّق عنها وأكفِّر. فقال له الإمام: فافعل»٤.
ولهذا السبب نرى المؤمنين وأصحاب المراقبة لا يفرّقون بين الصلاة الواجبة والنافلة المكتوبة، فهم يؤدُّون الواحد والخمسين ركعة كجزء مِنَ الصلوات الواجب أدائها.
ولكنّ الله جعل تلك الصلوات مستحبّة، فلِمَ لم يوجبها على العباد؟ إنّ السبب في عدم إيجابها يعود إلى كون النبيّ قد جاء رحمة للعالمين، وأنّ التكاليف الّتي يأمر بها مبنيّة على أساس الحكمة، وأنّ الشريعة الّتي جاء بها هي شريعةٌ سهلة سمِحة؛ فلو أوجب الله الواحد والخمسين ركعة تلك، لوجبت على الفتاة الّتي بلغت سنَّ التكليف للتّو، وعلى الشيخ الهرم وعلى المريض. إلّا أنّه ليس أمرًا مستحيلًا، فلو لم يكن بالإمكان الإتيان بها لَمَا كُلّفنا بها، وقد رُفع التكليف عن الأمّة في الأمور الشاقّة والمتعسّرة؛ ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنَا بِهِ﴾٥و٦ كان هذا دعاءً دعا به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة المعراج، وقد استُجيب له، فجُعلت تلك الصلوات مستحبّة، وإلّا لو لم يكن الرسول قد طلب مِنَ الله ذلك لكانت واجبةً۷، كما هو حال الأمم السابقة، الّذين فُرضت عليها تكاليفٌ أشقّ مِنَ التكاليف الّتي فُرضت علينا.
على سبيل المثال: عندما عاد النبيّ موسى مِن جبل طور، كان قومه قد بدؤوا بعبادة العجل، فلم يأمرهم اللهُ حينها بالتوجّه إلى بيت المقدس والتضرّع بالدعاء حتّى تُقبل توبتهم، بل جعل كفّارة ذنبهم أن يُشهروا سيوفهم بوجه بعضهم البعض ويُوقعوا ببعضهم ويقتلوا أنفسهم؛ فما دمتم قد ارتكبتم ذلك الذنب، فلا بدّ أن تقتلوا أنفسَكم وتُزهقوا أرواحَكم. نَعم، هذا ما أمرهم الله به، فلا يمكن أن تُقبل توبتهم ما لم يقتلوا أنفسهم؛ فخرج سبعون ألفًا منهم إلى صحراء واسعة، وأوقع بعضهم السيف ببعض، هذا يقتل ذاك، وذاك يقتل هذا، وتمّ ذلك في جوٍّ مِنَ الضجيج والبكاء والتضرّع والعويل، حتّى قُبلت توبتهم ورُفع عنهم هذا الأمر؛ جاء في هذه الآية مِن سورة البقرة: ﴿فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾۱و٢
أمّا نحن، فلم يكلّفنا الله بمثل ذلك التكليف، فلم يقل: إن ارتكبتم الذنب الكذائيّ، فعليكم أن تقتلوا أنفسكم. وذلك ببركة النفس النفيسة لرسول الله الّذي خفّف عن أمّته المشاقّ.
طِبق شريعة النبيّ فإنّ فريضة الحجّ فريضة سهلة ويسيرة
عندما حجّ الناس مع رسول الله حِجّة الوداع، كان كلّ مَن يأتي النبيّ ويقول له: لقد أخطأت في موردِ كذا وكذا، كان النبيّ يقول له: امضِ ولا حرج٣. إنّ فقهاءنا يرتكبون الكثير مِنَ الأخطاء في الوقت الحاضر، ويأمرون بأشياء خاطئة مِثل كيفيّة الوقوف في عرفات، حيث يقولون بوجوب الوقوف بالكيفيّة الكذائيّة، والحال أنّه لم يكن هناك وجود لمثل هذا الشيء في السابق، بل كان الوجوب يتمثّل في الحضور في عرفات مِنَ الظهر حتّى غروب الشمس. وفي زمن النبيّ لم يتمكّن بعض المسلمين مِنَ الوصول إلى عرفات ظهرًا، فوصلوها قبل غروب يوم الوقوف بساعة، فقال لهم النبيّ: لا حرج. والبعض لم يتمكّن مِنَ الوصول قبل الغروب، فوصلوها ليلًا وأدركوا المشعر فقط، وعندما سألوا النبيّ عن ذلك، قال النبيّ: لا حرج.
فلولا قول رسول الله (لا حرج) لكان التكليف يقتضي وجوب الوصول إلى عرفات أوّل الظهر، [وعليه] فإن تأخّر أحدٌ عن هذا الوقت ولو بخمس دقائق بطُل حجّه، وتوجب عليه إعادة الحجّ مرّة أخرى، فحّتى لو لم يُدرك الوقوف الاختياريّ أو الاضطراريّ في عرفة ووصل المشعر ليلًا، لقلنا ببطلان حجّه. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الكثير الكثير مِنَ المسائل المتعلّقة بأبواب الصلاة والزكاة والحجّ والصيام، والّتي كان رسول الله يقول بشأنها دائمًا: لا حرج، لا حرج. فلو كان لله علينا حرج في شأنها، مَن كان سيتمكّن مِنَ السير والحركة.
ولهذا نرى رسول الله يأخذ بأيدينا ويُسيّرنا في طريق مستقيم ومنير، ويجمع تلك المخلّفات ويزيل الأشواك عن دربنا باستمرار، ودأب على أن يدلّنا على الطريق، وكان يتصبّب عرقًا مِن أجلنا؛ فتراه يدعو لنا في ليلة المعراج وفي منتصف الليالي، ويصلّي الصلوات الطويلة ويتحمّل المشاقّ ليُبيّن لنا الطريق الصحيح ولِيأتينا بدين سهل وسمح، وهو أمر لا يمكننا أن نعرف قدره، ولذا نحن مدينون لرسول الله في كوننا مِنَ المسلمين ومِنَ الشيعة وكوننا كذا وكذا. يا لها مِن نعمة عظيمة أن يكون الدين الإسلاميّ دينًا سهلًا وسمحًا.
الصلاة في أوّل وقتها رضوان وفي آخره غفران
تجب الصلاة في أوّل وقتها، إذ «أوّل الوقت رضوان الله، وآخر الوقت غفران الله»۱، أي مَن يصلّي صلاته في آخر وقتها المقرّر لها، سيكون بمثابة مَن ارتكب ذنبًا، فيكون عليه أن يصلّيها ليغفر الله له الذنب. نعم، إنّ الصلاة في آخر وقتها أو في وقت متأخّر لن تكون رضوانًا، إلّا أنّ الله لم يوجبها عند حلول وقتها فقط، بل قال: إن لم تستطع أن تصلّيها لوقتها، فلك أن تصلّيها في آخر الوقت، لكي تكسب شيئًا منها.
[مَثَل ذلك:] كمَن مدّ مائدة ودعا الناس إليها، فمَن أراد أن يأكل مِن جميع أصناف طعامها ويشبع عليه أن يحضر في أوّل الوقت، فإن تكاسل أحدهم وتأخّر عن الحضور فلن يجد سوى ما تبقّى في قعر القِدر أو ما تبقّى مِنَ الخبز والجبن والخلّ، فيُقال له هنا: لا بأس عليك، تعال وكُل ما دامت المائدة قد مُدّت، فلا ترجع عنها خائبًا.
هذا حال مَن يُفرّط في حقّ الصلاة، بتأجيلها وعدم أدائها في وقتها، فلن ينال حينئذ مِن تلك الجوائز الراقية، بل كلّ ما سيترتّب على صلاته هو حكم الغفران؛ إن كنت تقول إنّك مسلم، فعليك أن تتناول مِن هذه المائدة.. ولهذا السبب لم يُجِز النبيّ قَتْل مَن أشهر إسلامه وأقام الصلاة [إن أخطأ]، بل ينبّهه على خطئه، فعندما كان البعض يرتكب أعمالًا قبيحةً، فيستأذن بعضُ أصحاب النبيّ لقتله، كان النبيّ يقول لهم: لست مأذونًا في قتله، لأنّه يُصلِّي.
الاكتفاء بالحدّ الأدنى مِنَ العقوبة
كان في المدينة ثلاثة مِنَ المُخنّثين المعروفين، وكان واحدٌ منهم يجلس في نفس الخيمة الّتي يجلس فيها النبيّ وعلى مقربة منه، وكان يتحدّث إلى أحد الرجال قائلًا: عندما تفتحون الطائف، عليك أن تأخذ الفتاة الفلانيّة الّتي تتمتّع بقامة حسنة وشعر جميل، وأخذ يشرح له كافّة تفاصيل بدنها، فتأذّى النبيّ مِن كلامه كثيرًا وقال: يا للعجب! فأيّ كلامٍ بذيءٍ يتكلّم به هذا الخبيث. فطرده النبيّ مِنَ المدينة وأمره أن يخرج منها ويسكن في مكانٍ بين مكّة والمدينة۱. ولمّا كان ذلك المُخنّث غلامًا مملوكًا لا يمتلك صفات الرجال، قال النبيّ عنه: إنّ في وجوده هنا خطر، وإن حضر بين نساء بني عبد المطّلب سيكون خطرًا عليهنَّ، فهو رجل خبيث.
وأصرّ أصحاب النبيّ عليه بأنّ يأذن لهم بقتله، فلم يوافقهم، وكان يقول: لست مأمورًا بقتله. هكذا كان النبيّ، فقد كان يكتفي بالحدّ الأدنى مِنَ العقوبة؛ فإن كان الرجل بذلك الحال، فيمكن أن يُستبعد إلى مكان بعيد لكي لا يُفسد المجتمع، ولا يُبتلى الرجال والنساء بأفكاره الباطلة. وعلى هذا، لا يمكن قتله، ويكون محترمًا بسبب إقامته الصلاة؛ تلك هي الشريعة السهلة والسمِحة.
رحابة الإسلام وضيق النصرانيّة
إنّها لَنعمة عظيمة قد مَنَّ بها اللهُ على الإنسان، إذ سمح له أن يتكلّم معه تعالى، وإلّا فلو عُيِّن للصلاة يوم معيّن [ماذا كنّا سنفعل!]، كما هو حال النصارى الّذين حُدّد لهم يوم الأحد مِن كلّ أسبوعٍ للصلاة، تلك الصلاة الّتي لا تجوز إلّا داخل الكنيسة؛ فالنصارى لا يستطيعون الصلاة خارج الكنيسة، وإلّا تُعتبر صلاتهم باطلة، وإن أتوا بها في يوم السبت تبطل [أيضًا]؛ ففي واقع الحال، ليس لهم عبادة، إذ عبادتهم لا تكون إلّا يوم الأحد، ويجب أن تكون داخل الكنيسة، وأن يتّجهوا فيها نحو المشرق، وأن يتلفّظوا باسم الأرباب الثلاثة: الأب والابن وروح القدس.
قال العلّامة الطباطبائيّ: قلتُ لهنري كوربن الفرنسيّ: إنّ طريقة عبادة النصارى الّتي تقتضي أن لا يُؤتى بالعبادة إلّا في الكنيسة، وفي وقت محدّد، تُعتبر سدًّا لطريق البشريّة إلى الله، فمَن يريد أن يختليَ بالله ويناجيه ويصلّي له، يُقال له: اصبر حتّى يأتي يوم الأحد فتذهب إلى الكنيسة وتدعو الله فيها، هذا في الوقت الّذي يكون فيه المرء بحاجة إلى الاختلاء بالله في هذه اللحظة بالذات؛ ألا يُعتبر هذا الأمر نقصًا في دينكم؟! فقال: نعم، إنّه نقص، وأنا اعترف بذلك. وقلتُ له: يقول الإسلام إنّ لله أسماءً حُسنى: ﴿وللهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾٢، فإن كانت لك حاجة فقل (يا الله يا رحمن)، وإن وقف عدوٌ على رأسك يريد قتلك فقل (يا منتقم، ادفع شرّ هذا العدو عنِّي)، وإن شعرت بالعجز فقل (يا قادر أعِنِّي)، وإن كنت جاهلًا فقل (يا عليم)، هذه هي أسماء الله، ونحن ندعو الله بها، أمّا النصارى، فليس لله عندهم أسماءٌ، بل كلّ ما لديهم أرباب ثلاثة: الأب والابن وروح القدس الذّي هو جبرائيل، فليس لديهم اسم العليم ولا الحكيم ولا الرحمن ولا الرحيم ولا غيرها مِنَ الأسماء. إنّ عند اليهود اسم الرحمن والرحيم على الأقلّ، وكنتَ قد قرأتها في بعض أدعيتهم٣، أمّا النصارى فليس لديهم مثل ذلك. فإن أراد أحد أن يطلب الماء مِنَ الله، فبأيّ اسم سيدعوه، إن لم يكن الله ساقيًا وسميعًا وعليمًا وغير ذلك. فقال: أنا أعترف بوجود هذا النقص أيضًا في الشريعة النصرانيّة. فقلتُ له: ما الّذي تفعله إن أردت أن تدعو الله؟ قال: كلّما أردتُ أن أناجي الله في قلبي، كنتُ أفتح الصحيفة السجّادية وأقرأ منها وأبكي٤.
فهو يعترف هنا بنقص شريعتهم، وبلزوم اللجوء إلى حضن الشريعة الإسلاميّة مِن أجل الاتصال بالله.
إنّ الشريعة الإسلاميّة زادت مِن ثواب العبادة في المسجد والكعبة والأماكن الأخرى، احترامًا لتلك الأماكن ونظرًا لطهارتها، ولكن هذا لا يعني حصر العبادة فيها، وبطلان عبادة المرء إن أتى بها في بيته، بل يستطيع كلّ واحد أن يعبد الله في بيته، وفي أيّ وقت شاء. إذن فعبارة «اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ» تدلّ على شدّة رحمة الله بعباده لأنّه أَذِن لهم بدعائه.
يستطيع الإنسان، فضلًا عن تلك الواحد والخمسين ركعة، أن يأتي بأكثر مِنها، فهو يستطيع أن يأتي بمائة أو مائتين أو ألف ركعة في اليوم، ويستطيع أن يصلّي ابتداءً مِن طلوع الشمس، عدا الأوقات الّتي تُكره فيها الصلاة طبعًا۱ – وإن كانت لا تحرُم – وهي أوقات طلوع الشمس وقبل الغروب بقليل وبعد العصر ووقت الضحى حين ترتفع الشمس في السماء، ففي هذه الأوقات تُكره الصلاة، أمّا فيما سوى ذلك يستطيع الإنسان أن يصلّي ليلًا ونهارًا، فيمكنه أن يصلي ركعتين ركعتين، وهي غير صلوات الحاجة والتوبة والزيارة، ويكون الإنسان بذلك قد أتى بعمل جيّد، وهي صلوات مستحبّة لأنّها عبادة، ولا تكون العبادة عبادةً إن لم تكن مستحبّةً.
الصلاة خير موضوع فمَن شاء استقلّ ومَن شاء استكثر
«الصلاةُ خيرُ موضوعٍ، فمَن شاءَ استقلَّ، ومَن شاءَ استكثَر»٢، أي: يا عبدي الّذي قد صلّيت واحدًا وخمسين ركعة، فإن كنتَ ترغب بالمزيد فلك أن تصلي ما شئت، فالطريق ليس مسدودًا في وجهك، أمّا وجوب السبع عشرة ركعة فهي [مراعاة] لأضعف المأمومين، كما يُستحبّ أن يراعي الإمام حال المأمومين في صلاته؛ فإن كانوا مِنَ الشباب والنشيطين، يستطيع أن يقرأ الإمام السور الطوال مِن القرآن في صلاته، وإلّا فعليه أن يُقلّل ويُقلّل، فإن كان بينهم امرأةٌ عجوز لا تستطيع الركوع، فعليه الاقتصار على ذكرٍ واحد في الركوع، أو على ذكرٍ قصيرٍ في السجود، وعليه الامتناع عن قراءة السور الطوال، بل يكتفي بقراءة آيتين مِنَ القرآن أو سورة قصيرة٣.
كان النبيّ يُرسل إلى الأقوام الّذين أسلموا حديثًا رجالًا يعلّمونهم الصلاة والقرآن، وكان يوصيهم أن يراعوا حال أضعف المأمومين، وهذا ما كان يفعله النبيّ نفسه. نعم، لم تكن صلوات النبيّ قصيرة دائمًا، ففي بعض الأحيان عندما يكون المأمومون يتمتّعون بالقوّة والنشاط ويستطيعون مماشاة النبيّ في قراءته للسور الطوال، كان النبيّ يطيل في صلاته، أمّا إن كان بينهم رجل ضعيف، فلم يكن يأخذ بعين الاعتبار الآخرين، بل كان يراعي حال أضعف المأمومين٤.
بناءً على هذا، يكون الله قد راعى في وجوب السبع عشرة ركعة – كما هو الحال في صلاة الجماعة تمامًا – حال أضعف الناس، أمّا بالنسبة إلى ما سواهم، فيستطيعون أن يأتوا بالمزيد مِنَ الصلوات. إذن فالصلاة هي أفضل موضوع.
القرآن هو كلام الله معك وكلامك مع الله
قيل لأحد العرفاء: كيف تعبد الله؟ قال: «كلّما أردتُ أن أتكلّم مع الله كنتُ أصلِّي، وكلّما أردت أن يتكلّم معي الله كنتُ أقرأ القرآن». كم هو جميل هذا الكلام؛ فالإنسان عندما يقف بين يدي الله للصلاة، فهو يتكلّم مع الله، فإن أراد الإنسان أن يحمد الله [بعباراته هو]، فإنّ عباراته لن تتجاوز قوله: إلهي، يا صاحب الشكل كذا والقامة كذا والابتسامة كذا! [لذا علَّمنا الله كيف نحمده] على نحوٍ أتمّ وأعلى فنقول: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحيمِ﴾۱. وعندما يريد الإنسان مِنَ الله أن يتكلّم معه، وأن يستقرّ كلامه في نفسه وروحه، فعليه [بقراءة] القرآن.
معنى كون الصلاة ذكرًا ودعاءً وقرآنًا
إنّ صلاتنا ذِكرٌ ودعاءٌ وقرآنٌ٢، أي إنّ الصلاة عبارة عن مزيج مِنَ الذِّكر والدعاء والقرآن. يقول البعض هنا: إن أتى أحد بالذِّكر الكذائيّ في صلاته، فإنّ ذلك سيمسّ بصورة الصلاة؛ فلو أراد المرء أن يأتي بذكر (لا إله إلا الله) مائة مرّة بعد قراءة الحمد والسورة وقبل ركوعه، أو أن يستغفر الله ألف مرّة في ركوعه، فسيُقال هنا: إنّ صورة الصلاة قد تشوّهت، وعليك أن تحافظ على صورة الصلاة. [أقول] مِن أين جاءت صورة الصلاة هذه [الّتي تمنع مِنَ الإتيان بالذكر فيها]، ومَن هو الّذي رسمها، وما هي الآية أو الرواية الّتي حدّدتها [بهذا الشكل] حتّى نسعى لتطبيقها؟! الحقيقة أنّ صورة الصلاة تتمثّل في أن يتوجّه الإنسان إلى الله، وأن يعمل وفق الرواية القائلة: إنّ صلاتنا ذكرٌ ودعاءٌ وقرآنٌ. ففي أيّ جزء مِنَ الصلاة أردتم أن تقرؤوا القرآن أو تأتوا بذكر أو دعاء [فلكم ذلك]، وسيُعدّ ذلك جزء مِنَ الصلاة.
بناءً على هذا، فإن قرأ أحدكم الحمد وسورة، وأتى بعدها بذكر (لا إله إلّا الله) مائة مرّة، ثمّ ركع واستغفر الله في ركوعه ألف مرّة أو قال فيه (سبحان الله) ألف مرّة، ثمّ استقام مِنَ الركوع وقال (لا إله إلّا الله) مائة مرّة، ثمّ سجد وقال في سجوده (سبحان ربّي الأعلى وبحمده) ألف مرّة، ثمّ رفع رأسه بعدها، فسيكون كلّ ذلك مِنَ الصلاة، فالقول بأن لا يتجاوز وقتُ الصلاة مِن أولها إلى آخرها خمسَ دقائق ليس قولًا صحيحًا، بل فلتطل الصلاة ساعتين وثلاث أو أربع ساعات.
كان أصحاب النبيّ يقرؤون السور الطوال في صلواتهم، كسورة مريم وسورة الكهف وسورة البقرة، كما كانوا يختمون القرآن في صلاتهم في ليالي شهر رمضان۱، فليس مِنَ الصحيح أن تقتصر قراءة القرآن في غير أوقات الصلاة، بل على المسلم أن يقرأ القرآن في الصلاة أيضًا، إنّ قراءة القرآن جُعِلت لتكون في الصلاة أساسًا، فعندما كان المسلم في زمن النبيّ يقول لصاحبه: اِقرأ القرآن، كان يعني في قوله هذا: قم إلى الصلاة. فقراءة القرآن تعني الصلاة.
عندما يصلّي الإنسان، فهو يحمد الله ويسلّم عليه في كلّ ركعة، ويتمثّل ذلك بقراءته لسورة الحمد وسُوَرٍ أخرى بعدها، ثمّ يدعو في سجوده مرّتين، وبعدها يقوم ليحمد الله ويسلّم عليه بقراءة سورة الفاتحة مرّة أخرى – الّتي نزلت على النبيّ مرّتين ولذلك سُمّيت بالسبع المثاني٢، ولا بدّ مِن قراءة سورة الفاتحة في الصلاة إذ «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»٣ – وبقراءة ما يشاء بعدها مِن القرآن بمقدار جزء أو جزئين وكلّ ما يخطر على قلبه مِن آيات قرآنيّة.
قال الله تعالى في الآية المباركة: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾٤، أي أقِم الصلاة ابتداءً مِن أوّل الظهر إلى منتصف الليل، الليل يعني حلول الظلام، وهذا التعبير كناية عن إقامة الصلوات: صلاة الظهر (وهي عند زوال الشمس)، وصلاة العصر والمغرب والعشاء، ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْر﴾، أي صلاة الصبح؛ نلاحظ هنا أنّ صلاة الصبح عُبِّر عنها في القرآن بـ ﴿قُرْآنَ الْفَجْرِ﴾، أي القرآن الّذي يُقرأ في الفجر، وهذه القراءة يشهد عليها كلٌّ مِن ملائكة الليل الّذين يهمّون بالصعود إلى الأعلى وملائكة النهار الّذين يريدون النزول إلى الأرض، فهاتان المجموعتان مِنَ الملائكة ترافقان المؤمن في قراءته لقرآن الفجر عند أذان الصبح٥. إذن فقد جاءت الصلاة في القرآن باسم (قرآن الفجر).
نصيبك مِنَ القرآن يكون بمقدار ما تحفظ منه
لاحظوا كم نبتعد عن القافلة عندما نقتصر في صلواتنا على قراءة: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، ونترك باقي القرآن، في الوقت الّذي علينا أن نقرأ القرآن في صلواتنا، وذلك بقراءة سُوَرٍ مختلفة منه؛ قال الإمام الرضا عليه السلام: «أُمِر النّاس بالقراءةِ في الصلاة لئَلّا يكونَ القرآنُ مهجورًا»٦، هذا يعني أنّه على كلّ واحدٍ منّا أن يحفظ القرآن عن ظَهر قلب. فلو رُفعت المصاحف عن وجه الأرض الآن، فكم سيكون لدينا مِنَ القرآن [محفوظًا]؟ لن يكون لدينا شيءٌ، لأنّ قراءتنا للقرآن لا تتعدّى قراءة سورة الحمد و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وأقصاه أن نضيف إليها ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ﴾۷ وبعض السور الأخرى لا غير. المقصود مِن قولنا (كم سيبقى لدينا مِنَ القرآن) ليس القرآن المطبوع، بل [المقصود هو] القرآن المحفوظ في الصدور: ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾۸.
إنّ المقدار الّذي يحفظه المرء مِنَ القرآن عن ظَهر قلب، هو مقدار نصيبه مِنَ القرآن، وإلّا ليس له أيُّ نصيبٍ منه. عندما كان يُقال في عهد النبيّ: لدى فلان سورة البقرة، فذلك يعني أنّه كان يستطيع قراءة سورة البقرة [عن ظهر قلب]، وهكذا الأمر بالنسبة لِمَن كان يحفظ جزأين مِنَ القرآن أو سورة مريم أو سورة يس أو كلّ القرآن.
لم يحفظ القرآن في زمن النبيّ إلّا القليل مِنَ المسلمين، وهم أمير المؤمنين۱ وابن مسعود وأُبيّ بن كعب لا غير، هؤلاء كانوا الطراز الأوّل مِنَ المسلمين، ولم يحفظ جميع القرآن أحدٌ غيرهم.. بعد أن أصبح عُمر خليفة للمسلمين كان لزامًا عليه أن يقرأ القرآن في صلواته، وهو لم يتمكّن مِن حفظ سورة البقرة إلّا في عشر سنين٢، وقد حسبوا المدّة اللازمة ليحفظ جميع القرآن، فكانت مائة وخمسون سنة، فهو لم يتمكّن مِن حفظ سورة البقرة إلّا في عشر سنين.
لنعد إلى صلب الموضوع؛ على الإنسان أن يقرأ سورًا مختلفةً مِن أيّ جزء أراد مِنَ القرآن، فإن لم يكن يحفظها فله أن يقرأها مِنَ المصحف، ولا إشكال في ذلك، فصلاته صحيحة سواء كانت صلاةً واجبة أو نافلة، وهذا خير له مِن أن يقتصر على قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، فإنّ الاكتفاء بقراءة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ هو بمثابة تركٍ للقرآن، ومَن يفعل ذلك سيكون كمَن رمى القرآن جانبًا وهجره.
جاء في الرواية أنّه لا يجوز ترك قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ في اليوم الواحد، فعلى المسلم أن يقرأها مرّة أو مرتين في اليوم٣، سواء في صلاته الواجبة أو المستحبّة، أمّا إن وصل الأمر بنا إلى هجران القرآن بسبب فضيلة قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، ففي ذلك إشكال، بل إشكال قويّ جدًّا، وفي هذا الأمر بحثٌ مفصّل، سنتطرق إليه في أجزاء كتاب (نور ملكوت القرآن) إن شاء الله، وقد ذكرنا منه [هناك] مقدار ما سمح به المجال٤.
إنّ القرآن كلام الله، فعندما تلتقي بالمحبوب سترغب بالكلام معه، وبعد تُنهي كلامك سترغب أن تسمع منه؛ فمَن كان يريد أن يتكلّم مع المحبوب المطلق عليه أن يصلّي، ومَن كان يريد مِنَ المحبوب المطلق أن يتكلّم معه فعليه أن يقرأ القرآن؛ فالمسألة في الحقيقة بهذا الشكل.
عشق حقيقى است مجازى مگير | *** | اين دم شير است به بازى نگير |
[يقول: ذلك هو العشق الحقيقيّ، فلا تتعامل معه بالمجاز، واعلم بأنّه كذيل الأسد، فلا تحاول أن تلعب به.]
الإذن الموهوب في مقام التكوين
«اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ وَمَسْأَلَتِكَ»؛ بعد أن عرفنا معنى الإذن التشريعيّ، [حان الوقت لشرح الإذن التكوينيّ]: إنّ الإذن التكوينيّ يعني أنّ الله قد جعل أصل وجودنا الحاجة إليه، فجميع خلايا أجسامنا وشراشر وجودنا وأنفسنا وأرواحنا، هي عبارة عن احتياج.
معنى نِعْمَة الهواء
ما الّذي سيحصل لو قُطِع عنّا هذا الهواء الّذي نتنفّسه؟ رحم الله الحاجّ هادي الأبهريّ – ها نحن في شهر رمضان ومِن الحَسن أن نذكره فيه – فقد قال: كنت أنوي الذهاب إلى مدينة أبهر، فركبت شاحنةً، وجلست إلى جنب مساعد السائق، وكان أحد أفراد الشرطة يجلس إلى جانبي أيضًا، وعندما وصلنا قرب منطقة (كرج) انقلبت الشاحنة، وسقط بعضنا على بعض وانقطعت أنفاسنا، وكنَّا على وشك الاختناق، وكان أمرنا قد انتهى في الواقع. يقول الحاجّ هادي: لقد عرفتُ في تلك اللحظة فقط ما الّذي يعنيه نسيم الهواء، وأيّ نِعمة هو، فلو لم يصلنا الهواء لدقائق أخرى ولم يُخرجونا مِنَ الشاحنة، لكنَّا مِتنا اختناقًا، فأنا الآن عرفت ما الّذي يعنيه الهواء، وأيّة نعمة حياتيّة هو! يقول: كان الشرطيّ الجالس إلى جانبي يصيح ويردّد (يا أيّها الناس، أنا مِنَ الشرطة) فكان يُعرِّف نفسه بهذا الشكل، فقلتُ له: لن ينفعك الآن كونك مِنَ الشرطة. نعم، لقد كان الحاجّ هادي يقول: لقد عرفت في ذلك الحادث ما الّذي يعنيه الهواء.
معنى نِعْمَة الإدرار
قلتُ لأحد الأطباء يومًا: هل تعرف شيئًا عن نِعْمَة الإدرار؟ فضحك وقال: ما الّذي تقوله يا سيّد؟! قلتُ له: نحن لا نعتبر الإدرار الّذي يحصل لنا باستمرار نِعْمَةً أبدًا، فلو قيل لأحدهم اذهب للإدرار، لقال: وما في ذلك! فنحن لا ننظر إلى هذا الإدرار – الّذي يحصل لنا ولأقربائنا – على أنَّه نعمةٌ. لو قيل لنا: عُدُّو نِعَم الله، [فجلسنا] نعدّها مدّة عشر سنوات، فهل سنعُدّ منها الإدرار ونعتبره نعمة؟ كلّا، لن نعدّه نعمة أبدًا، والحال أنّه لو حصل تورّم في غدّة البروستات وانقطع طريق خروج البول، واستمرّت الكلية في طرح الماء الزائد، سيتجمّع هذا الماء في المثانة ويزداد الضغط عليها تدريجيًّا حتّى يبدأ الألم بالظهور، فما الّذي يستطيع هذا المريض المسكين أن يفعله والحال هذه؟ ولمّا كان الرجل طبيبًا فقد فهم مقولتي.
قلتُ له: أيّ أَلَم سيعاني منه ذلك المريض؟! إنّ مَن يتعرّض لمثل هذا البلاء، سيدور في الغرفة مِن جانب إلى آخر، ويضرب نفسه بالجدار كالعصفور، فيضرب رأسه بالجدار، ويُمسك بالحجر ويضرب به رأسه، ويضرب بطنه مِن شدّة الألم. فمَن الّذي ينظر إلى الإدرار على أنّه نعمة؟ إنّه الّذي ابتُلي بهذا البلاء، أمّا نحن فلا ننظر إليه على أنّه نعمة لأنّا لم نُبتل بهذا البلاء.
أتعلمون ما الّذي يعنيه الإدرار؟ إنّ الإدرار يعني خروج الفضلات والمواد الزائدة عن الحاجة والسموم مِنَ البدن، فلو نظرنا إلى مشكلة انحصار البول وعدم القدرة على إخراجه مِن جهة بقاء السموم في الجسم، فإنّ السموم وحدها كفيلة بتسميم كامل الجسم، إذ البول سامٌّ.
إنّ الله يُبقي المواد المفيدة الّتي يأكلها الإنسان، ويُخرج الفضلات والمواد الضارّة والسموم مِنَ البدن، فما الّذي سيحصل إن لم تخرج تلك السموم بواسطة الإدرار؟ وما الّذي سيحصل إن لم يخرج الغائط مِنَ جسم الإنسان؟ إنّ مَن يُبتلى بمرض سرطان الأمعاء، ولا يتمكّن مِن طرح الغائط مِن جسمه، فهو يتمنّى الموت في كلّ لحظة، فما لم يَخرج الغائط مِنَ الجسم لن تخرج تلك السموم منه، وما لم يخرج البول منه لن تخرج السموم مِنَ الجسم أيضًا. أتعلمون معنى ذلك؟ إنّ ذلك يعني ما قاله الصادق عليه السلام: عندما تدخل بيت الخلاء، ويقع نظرك على الغائط أو البول فقل: «الحمّد لله الّذي أماط عنِّي الأذى، وهنَّأني طعامي وشرابي وعافاني مِنَ البلوى»۱. كم هو جميل كلام هذا الرجل المطّلع على سرّ المسألة وعلى جميع الأسرار.
قال عليه السلام: «الحمّد لله الّذي أماط عنِّي الأذى»، يا له مِن تعبير لطيف إذ عبّر عنه بالأذى، فهو لم يصفه بالقذارة ولا بالنجاسة ولا بالسّمّ، بل وصفه بأنّه الشيء الّذي يُسبّب الأذى، وما يُسبّب الأذى يُسبّب الخمول والاضطراب وعدم الراحة، لقد عبّر الإمام بكلمة جامعة عن جميع هذه المعاني.. ما الّذي سيحصل لو لم يخرج هذا الأذى؟ فكّروا في الأمر، نعم فكّروا فيه جيّدًا.
[وقال]: «وهنَّأني طعامي وشرابي»؛ ما هو مصدر القاذورات الّتي تخرج مِنَ الجسم؟ إنّ مصدرها الطعام والشراب الّذي يتناوله الإنسان، فهو إمّا أن يكون طعامًا أو يكون شرابًا، وقد هنّأني تعالى بهذا الطعام والشراب بأن يصير عصارةً جوهريّة للبدن، ويتحوّل إلى فكرٍ ومعرفةٍ وعلمٍ ورُقِيٍّ وكمالٍ.
[وقال:] «وعافاني مِنَ البلوى»، فقد جعل تلك المواد جزءً مِن جسمي، وأخرج السموم منه، فيكون بذلك قد عافاني مِنَ الأمراض والعوارض، ويكون قد ألبسني لباس العافية. فما الّذي كان سيحصل لو أنّ الله هنَّأني طعامي وشرابي وابتلاني في نفس الوقت؟ وما الّذي كان سيحصل لو أنّه ابتلاني ولم يُهنّئني بذلك؟ فلا بدّ للإنسان إذن أن يذكر الله حتّى وهو في بيت الخلاء.