5

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ

شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

6
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةشرح دعاء الافتتاح

التاريخ 1397/09/11

جلسات المجموعة(5 جلسة)

التوضيح

دارت المحاضرة حول الإذْن في قوله (اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي)، فوضّح سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قدّس الله سرّه) أنّ الأُذون ثلاثة: شرعيّ وعقليّ وفطريّ، وبسط الكلام فيها شرحًا وتفصيلًا وتمثيلًا؛ فعرّفها وذكر موارد تطابق واختلاف حكم الشرع والعقل والفطرة، وأنّ حكم الفطرة مُقدّم في مواردٍ. ثمّ تكلّم عن تطابق الأنْفُس، وكيف يحكم العقل بأن لا يطلب الإنسان ويبذل ماء وجهه لغير الله تعالى، وأنّ إذْن الله بدعائه هو إذْنٌ بالعبوديّة وموجب للشرف والكمال والعزّة، وأنّ حقيقة الإنسان هو الحاجة. ثمّ تحدّث عن دلالة الإقرارات العجيبة لأبي بكر وعُمر والمنقولة في صحيح البخاريّ ومقارنتها بأقوال أمير المؤمنين، وذكر سماحته علامة لتمييز الصواب مِنَ الخطأ.
/۱٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ

  •  

  • شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

  •  

  • محاضرة القاها

  • سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ 

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين

  • ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • الإذْن شرعيٌّ وعقليٌّ وفطريٌّ

  • «اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ وَمَسْأَلَتِكَ، فأَسْمَعْ يا سَمِيعُ مِدْحَتِي، وَأَجِبْ يا رَحِيمُ دَعْوَتِي، وَأَقِلْ يا غَفُورُ عَثْرَتِي»؛ علينا أن نعرف هنا ما هو نوع هذا الإذْن الّذي وهبه الله لنا، فهل هو إذنٌ شرعيٌّ أم عقليٌّ أم أنَّه إذنٌ فطريٌّ؟

  • [أمّا الإذن الشرعيّ:] قد تأذَن الشريعة للإنسان أن يطلب مِنَ الله شيئًا، كما هو حال بعض الشرائع الّتي تأْذَن لأتباعها بدعاء الله والطلب منه في أماكن أو أزمنة محدّدة، ولكنّها أممٌ لا تمتلك الإذْن الدائم بالدعاء والعبادة، بل هم مأذونون به في أوقات معيّنة فقط. أمّا الإذن العقليّ، فالعقل يقول: إن أراد الإنسان أن يطلب شيئًا، فعليه أن يطلبه مِنَ الله. وكذلك الأمر بالنسبة للإذن الوجدانيّ والفطريّ، ففطرة الإنسان وذاته وجِبلَّته تسبق مراحل العقل والشرع في دعوتها الإنسان ليطلب مِنَ الله كلّ ما يريده ويحتاج إليه.

  • موارد اجتماع حكم الفطرة والعقل والشرع

  • يلمس الإنسانُ في كثير مِنَ الموارد وجود هذه المراحل الثلاث مِنَ الحُكم، وهي: مرحلة الحكم الفطريّ والشرعيّ والعقليّ. فلو كان أحدهم يسير في صحراء – على سبيل المثال – وكان على وشك أن يهلك مِن شدّة العطش، وصادف ماءً صافيًا زلالًا، فالإنسان في موقفٍ كهذا، لا يحتاج إلى حكم العقل بأنّ الماء مفيدٌ ورافعٌ لخطر الموت، ولا يحتاج إلى حكم الشرع هنا في كونه يُجيز شُرب هذا الماء في مثل هذه الحال أم لا، بل سيُلقي هذا العطشان – قبل أن يُفكّر بأيّ شيء – بنفسه في الماء كيفما كان ويشرب منه، هذا ما يُقال له حكمٌ فطريٌّ؛ أي إنّ البحث عن الماء بالنسبة إلى ذلك العطشان هو حكمٌ ذاتيّ ووجدانيّ منبعث مِن حاقّ جِبلَّته ووجدانه، فهو يدرك هذا الحكم الفطريّ سواء سمح به العقل والشرع أم لا، على أنّ الشرع والعقل يحكمان وفقًا لحكم الفطرة في المواقف المماثلة للمثال الآنف الذكر، ثمّ إنّ حكمهما متأخّر عن حكم الفطرة، [وفي النتيجة] سيحكم العقل بوجوب أن يشرب ذاك العطشان الماءَ، وكذلك حكم الشرع.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

3
  • موارد اختلاف حكم العقل وحكم الفطرة

  • غير أنّ حكم الشرع والفطرة قد يختلفان عن حكم العقل في بعض الموارد. والمقصود مِنَ العقل هنا هو هذا العقل العادي لا العقل الواقعيّ. مثلًا، عندما ورد أبو الفضل عليه السلام على الشريعة لجلب الماء، فإنّ العقل يحكم هنا بوجوب أن يشرب الماء، لماذا؟ لأنّ العقل يقول له هنا: إن شربت الماء ستكتسب قوّةً تُمكّنك مِنَ الدفاع عن حُرم رسول الله وعن أخيك، فإن شربت أم لم تشرب فذلك لا يعني العدوّ شيئًا، غير أنّك إن شربت ستكتسب نشاطًا يُمكّنك مِنَ القتال بشكل أفضل. هذا هو حكم العقل، أمّا الوجدان والفطرة فيحكمان بضرورة عدم شرب الماء، لأنّه يوجد ذلك الاتحاد بين نفس [أبي الفضل] ونفس مولاه [الحسين عليه السلام]، وهذا لا يسمح له – بأيّ وجه مِنَ الوجوه – أن يشرب مِنَ الماء في الوقت الّذي يكون مولاه فيه عطشانًا۱.

  • جُلب وعاءٌ فيه حلوى لذيذة لأمير المؤمنين عليه السلام في أيّام خلافته، فغرس أمير المؤمنين إصبعه في الوعاء وما إن أوصله إلى فمه حتّى أعادها إلى الوعاء ومسح أصبعه بحافّته وقال: ما إن هممت بالأكل منها، حتّى تذكّرت أنّ رسول الله لم يأكل طيلة أيّام حياته مِن هذه الحلوى، فلا أستطيع أن آكل ممّا لم يأكل مثله رسول الله٢.

  • لنرى هنا ما الّذي يحكم به العقل؛ إنّ العقل في مثل هذا المورد يقول: كُلْ منه، فأنت تعيش في زمانٍ غير زمان رسول الله، ولم يكن قد جُلب لرسول الله في حياته مثل هذه الحلوى، وعلاوة على ذلك فأنت قد ضحيّت مِن أجل رسول الله في حياته وكنتَ عبدًا خادمًا مطيعًا له، ولم تتهاون بهذا الأمر في أيّ موقفٍ مِنَ المواقف، فالآن وقد بلغت الفاصلة الزمنيّة بينك وبينه ما يقرب الثلاثين عامًا، فإن لم تأكل مِن هذه الحلوى فهل سيعني ذلك شيئًا لرسول الله وهل سيؤثّر على ما يتمتّع ويلتذّ به؟! هذا ما يحكم به العقل إذن، أمّا الفطرة فتحكم بعدم إمكانيّة الأكل مِن هذه الحلوى، فالفطرة تقول هنا: ما دام رسول الله لم يأكل منها، فلا يمكنك أن تأكل منها أيضًا.

    1. مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف، ص ۱۷٩.
    2. المحاسن، ج٢، ص٤۱۰.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

4
  • لدينا الكثير مِن نظائر هذه الأحكام الفطريّة، وهذا ما نجده في أنفسنا أيضًا، فترى الواحد منّا يقول: أنا لا أستطيع أن أقوم بهذا العمل. وعندما يُسأل: لماذا لا تستطيع؟ يقول: لا أستطيع أن أفعله لكذا وكذا مِنَ الأسباب. وهذا حال تلك الأمّ الّتي يمرض طفلها، فهي لا تستطيع أن تتناول الأغذية الشهيّة، فتبقى جائعة، وكلّما قيل لها: لماذا لا تأكلين، عليك أن تأكلي لتتمكّني مِنَ السهر ورعاية الطفل والقيام بكذا وكذا مِنَ الأعمال. تراها تقول: أنا لا أدري لماذا لا أستطيع أن أتناول الطعام، فما دام طفلي مريضًا لا أستطيع أن أتناول الطعام. نعم، هكذا هو حكم الفطرة.

  • مزيد بيان في الإذْن الشرعيّ

  • يقول [المعصوم] في هذا الدعاء: «أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ»، [فنسأل:] أيُّ إذْن هو هذا؟ إنّه الإذن الشرعيّ أيضًا، إنّ حديث «جُعلت ليَ الأرضُ مسجِدًا وطَهورًا»۱ يعني عندما يحلّ موعد الظهر، ويكون الإنسان في مكان ليس فيه ماء، وبما أنّ الأرض طهورٌ، أي إنّها طاهرةٌ مُطهِّرةٌ، فيستطيع أن يتيمّم [بالأرض] ويصلِّي. نعم، إنّ هذا يصحّ بكلّ أجزاء سطح الأرض، فهو ليس مختصًّا بمكانٍ دون آخر أو بزمانٍ دون غيره، فيستطيع المرءُ وفقًا لهذا الحكم الشرعيّ أن يدعو الله بصورة مستمرّة، وأن يصلّي ويدعو ويطلب حاجته مِنَ الله في كلّ آنٍ مِنَ الآنات، فهو إذَن يستطيع أن يتكلّم مع الله ويسمع منه.

  • العقل يحكم بضرورة الطلب مِنَ الله دون سواه

  • إذا غضضنا الطرف عن الحكم الشرعيّ، سنجد العقل يحكم بذلك الإذْن أيضًا؛ فعندما يجلس الإنسان ويحاول أن يدرس موضوعًا ما ويحلّله عقلًا، سيجد أنّ العقل يأمره بضرورة أن يطلب حاجاته مِنَ الله، وذلك لكون الله عظيمًا، وعلى الإنسان أن يطلب حاجته مِنَ العظيم، كما أنّ عقل الإنسان يقول له: أنت صغيرٌ وحقيرٌ، وعلى الصغير أن يلجأ في طلب حاجاته إلى الكبير. ويقول له أيضًا: لا يوجد مَن هو أصغر منك، ولا وجود أكبر مِنَ الله، فكم هو مستحسن أن يطلب الإنسان حوائجه مِنَ الله، وأن يستغني عن غيره.

  • هناك وصيّة [كتبها] أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام في حاضرين، وهي منطقة تقع على مقربة مِن صفّين. وهذه الوصيّة شاملة تبلغ عشرة إلى خمسة عشر صفحة مِن صفحات كتاب نهج البلاغة٢، ومِن جملة ما جاء فيها: «وَأَكْرِمْ نَفْسكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً»٣، أي ارفع مِن مقام نفسك، واجعلها أرفع وأعزّ وأكرم مِنَ الخوض في الأفعال الدنيّة، ولا تقترب مِنَ العمل الدنيّ المنحطّ وإن كان سيوصلك إلى الرغائب والمقامات الدنيويّة العُليا، وإن كان أيضًا سيُكسبك أموالًا وثرواتٍ وعزّةً دنيويّةً، لأنّك إن طلبت تلك الأمانِي الدنيّة ستخسر نفسك في هذه الحالة، وإن فقدتها فلن تتمكّن أن تستعيض عنها بشيءٍ.

    1. مَن لا يحضره الفقيه، ج۱، ص٢٤۰.
    2. ترجم سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله سرّه) هذه الوصيّة إلى الفارسيّة وشرحها وعلّق عليها في كتاب وسَمَه بـ (حيات جاويد) أي (السعادة الأبديةّ). (م)
    3. نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص٤۰۱.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

5
  • فلا تطلب مِن زيدٍ وعمرو، وإن كان ذلك مجرّد طلبٍ، وإن كنتَ تعلم أنّه سيقضي لك حاجتك ويمنحك الملايين بمجرّد طلبك منه، فحتّى لو علمت أنّه بطلبك مِنه سيعطيك تاج السلطنة ويجعلك الآمر الناهي المطلق، وسيرفع عنك جميع مشاكلك وما تعاني منه، فمع كلّ هذا، لا تطلب منه، لأنّ هذا الطلب يُعتبر طلبًا دَنِيًّا وإن كان يستَتبع امتيازاتٍ، ولأنّك بطلبك هذا تبيع نفسك، فإن طلبت مِن أحدٍ شيئًا ستفقد ماء وجهك.

  • [قوله عليه السلام:] «فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً»، يعني: إنّ طلبك هذا لن تحصل منه على ما يساوي ويعادل ويوازي ما ستفقده مِن نفسك. إنّ النفس تعني الشخصيّة وتعني الاستقلال وتعني الوجود؛ وهي أمور تخصّ الله وحده، فلا يمكن التنازل عن شيء منها لغير الله كائنًا مَن يكون، فإن تنازلت عن شيءٍ ستكون قد بعت نفسك بالمجّان، وهو عمل دنيّ لا يُسمح لك به وإن كان سيوصلك إلى الرغائب، لأنّك إن فعلت ستفقد نفسك قِبال ما ستحصل عليه الآن، ولا يمكن بعدها بأيّ وجه مِنَ الوجوه أن تستعيض وتسترجع ما خسرته. إنّه لأمر عجيب حقًّا.. لا تذلّ نفسك بتواضعك هذا، فهذا النوع مِنَ التواضع ليس لله بل هو تواضع في مقابل الثروة والمال، فستكون قد أذللت نفسك إن أتيت به.

  • قال أمير المؤمنين في أيّام حكومته لأحد أتباعه: اعط فلانًا خمسة أوساق مِن تمر البُغيبغة أو تمر البقيعة كما جاء في بعض النسخ – يبلغ الوسْق عددًا مِنَ الأرطال، ويُقدّر الوسْق بنصف خروار۱ تقريبًا، أي نصف حِمل حمار، فمقدار خمسة أوساق يقارب حِملَي حمارٍ ونصف مِنَ التمر – فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إنّ مَن تُرسل إليه هذا المقدار مِنَ التمر هو ممّن يُرجى نوافله ويُؤمَّل نائلُه؛ أي إنّه صاحب شخصيّة ومُكنة، ولا نحتمل أن يكون فقيرًا، فهو ممّن يراجعه الناس ويطلبون منه. وبعبارة أخرى: هو رجل جواد كريم يُحسن إلى الناس ويبذل لهم المال، فلو أرسلت إليه وسْقًا واحدًا بدل خمسة أوساق لكفاه. فقال له أمير المؤمنين: لا كثّر الله في المؤمنين ضَرْبَك، أُعطي أنا وتبخل أنت. ثمّ لاحظوا ما قاله أمير المؤمنين بعد ذلك، وهو شاهدنا في هذه الحكاية، قال: إذا لا أُعطه إلّا عندما يصل به العُسر والشدّة حدًّا يضطرّه للطلب منّي، سأكون قد عرّضته لأن يبذل ماء وجهه الّذي ما كان ليبذله لغير الله في سجوده٢. إنَها لعبارة رصينة حقًّا.

    1. خروار: لفظ فارسيّ معناه حِمل حمار، ويستعمل كوحدة قياسِ وزنٍ مقداره حِمل حمار، والّذي يُقدّر بثلاثمائة كيلوغرامًا. (المترجم)
    2. الكافي، ج٤، ص٢٢؛ وجاء في كتاب (ولاية الفقيه) للعلّامة السيّد محمّد الحسين الطهرانيّ، ج٤، ص۱٩۰، ما يلي: إنّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عليه السلام بَعَثَ إلى رَجُلٍ بِخَمْسَةِ أوْسَاقٍ مِنْ تَمْرِ البُغَيْبِغَةِ – وَ في نُسْخَةٍ اخرى: البَقِيعَةِ – وَ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَرْجُو نَوَافِلَهُ وَ يُؤَمِّلُ نَائِلَهُ وَرَفْدَهُ؛ وَكَانَ لَا يَسْألُ عَلِيَّاً عليه السلام وَلَا غَيْرَهُ شَيْئَا. فَقَالَ رَجُلٌ لأمِيرِالمُؤْمِنِينَ عليه السلام: وَاللهِ مَا سَألَكَ فُلَانٌ؛ وَكَانَ يُجْزِيهِ مِنَ الخَمْسَةِ أوْسَاقٍ وَسْقٌ وَاحِدٌ! فَقَالَ لَهُ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عليه السلام: «لَا كَثَّرَ اللهُ في المُؤْمِنِينَ ضَرْبَكَ! أُعْطِي أنَا وَتَبْخَلُ أنْتَ ! لِلَّهِ أنْتَ ! إذَا أنَا لَمْ أعْطِ الّذي يَرْجُونِي إلَّا مِنْ بَعْدِ المَسْألَةِ، ثُمَّ أعْطَيْتُهُ بَعْدَ المَسْألَةِ، فَلَمْ أعْطِهِ إلَّا ثَمَنَ مَا أخَذْتُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لأنِّي عَرَّضْتُهُ أنْ يَبْذُلَ لي وَجْهَهُ الذي يَعْفِرُهُ في التُّرَابِ لِرَبِّي وَرَبِّهِ عِنْدَ تَعَبُّدِهِ لَهُ».

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

6
  • على سبيل المثال، يَبدو على كثير مِنَ الناس – بحسب الظاهر – أنّ أوضاعهم جيّدة ولا خلل في أمورهم، فيتسبّب هذا الأمر في حرمانهم مِنَ العطاء، ويستمر هذا الوضع حتّى يصل بهم العُسر والاحتياج درجة تضطرّهم لإظهار ما كانوا يتستّرون عليه. أتعلمون ما الّذي سيحصل إن فعلوا ذلك؟ سيضطرّ الإنسان حينها أن يبذل ماء وجهه بالطلب مِن إنسان مثله، وماء الوجه ذاك الّذي ما كان له أن يبذله إلّا لله عندما يخرّ له ساجدًا مُعفِّرًا جبهته بالتراب في مقام العبادة والتضرّع والدعاء. إنّ السجود يعني أن يَفديَ الإنسان نفسه لله، يعني: ها قد نَزلتُ على التراب قِبالك.

  • فأيّ ذنبٍ أعظم مِن سلب شخصيّة وكيان وأصالة الإنسان، تلك الشخصيّة الّتي ما كان له أن يهبها لغير الله، ولهذا السبب نرى أمير المؤمنين يقول لذلك الرجل: لا كثّر الله في المؤمنين ضَرْبَك. أي: مُت، أماتك الله، ولا كثّر الله في المؤمنين مِن أمثالك، أَأُعطي أنا وتبخل أنت! فأنا أرى شيئًا وأنت ترى شيئًا آخر!

  • حقيقة الإِذْن الإلهيّ وحقيقة العبوديّة وحقيقة الإنسان

  • إنّ هذا الإِذْن الّذي مُنح للإنسان في دعائه لله، هو عبارة عن إذن العبوديّة؛ فقد أجاز الله للإنسان أن يطلب منه هو فقط، فلا يطلب مِن غيره. ولا يستطيع الإنسان أن يقول هنا: لماذا علَيّ أن أطلب مِنَ الله، فأنا لا أريد أن أطلب حتّى مِنَ الله. نعم، يصحّ أن يستغني الله عن الطلب مِن نفسه، وذلك لأنّه غنيٌّ بالذات، أمّا نحن فذواتنا ذوات ممكنة، فهل يمكن أن يُنير هذا المصباح ما حوله دون أن يكون معلّقًا بالسقف أو مُثبّتًا على الجدار؟ لا يمكن ذلك، لأنّ طبيعته تتطلّب أن يكون مُعلّقًا، فلو فصلته عن السقف لسقط على الأرض، فطبيعته تقتضي أن يكون مُعلّقًا بالسقف. [وهكذا الأمر بالنسبة لنا] فنحن عبيدٌ في أصل وجودنا وضعفاء، لا تصدُق علينا عناوين القوّة والأصالة، ونحن في جميع مراحل وجودنا – مِن بدننا وبرزخنا وعقلنا وجميع أنحاء طبيعتنا ووجودنا – عبارة عن حدوثٍ واحتياجٍ وماهيّةٍ وإمكانٍ وفقرٍ، فكيف والحال هذه يمكن أن نكون غير متّصلين بالله؟! وكيف يمكننا أن نستغني عنه، وأن نستغني عن الطلب منه؟! إنّ طبيعتنا الإمكانيّة بحدّ ذاتها تعني الاحتياج.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

7
  • وليس المطلوب منّا أن نعترف بكون طبيعتنا إمكانيّة وأنّ نعترف بكوننا مُحتاجين، فحتّى لو لم نعترف بذلك، بل حتّى لو قلنا بأنّنا الله وأنّنا أغنياء بالذات وغير محتاجين، فإنّنا في واقع الحال محتاجون. إنّ مَثَل مَن يقول ذلك، كمَن يقف أمام غيره ويُنكر كونه إنسانًا، فيقول له: أنا لستُ إنسانًا. والحال أنّ مجرّد وقوفه أمام ذلك الرجل وتكلّمه معه، هو عبارة عن إثباتٍ لإنسانيّته، لأنّ الإنسان هو المخلوق الّذي يمتلك عقلًا وقابليّةً على النطق والتكلّم والمشي على رجلين؛ فإن كانت جميع هذه الصفات موجودة لديه، فهو إنسان لا محالة وإن أنكر إنسانيّته، وإن قال: أستطيع أن أُثبت بألف دليل ودليل أنّني مَلَكٌ أو جنٌّ أو حيوانٌ، فسيبقى إنسانًا وإن أنكر وجوده بالمرّة. فهل يمكن – والحال هذه – أن يُقبل منه ما يقول؟!

  • إنّ ذات الإنسان ومعدنه الأوّلي وأصل تركيبته هو الحاجة والإمكان، لذا فهو متّصل في حاقّ كينونته بالله، وهو يستمدّ منه قوّته، فهل يمكن [والحال هذه] أن يُنكر احتياجه لله، وأن يستغني عن الطلب منه؟! وهل يمكن أن يدّعي قابليّته على إغناء نفسه وإشباعها بنفسه، وأن يدّعي قدرته على شقّ طريقه في الحياة مستعينًا بقواه العقليّة؟! إنّ مَن يقول ذلك، مَثله كمَثَل هذا المصباح المُعلّق في هذا المكان، فهو يستمدّ طاقته بشكل مستمرٍ مِن محطّة التوليد الكهربائيّة، وضياؤه مِن ذلك، فلو قال هذا المصباح: إنّ هذا الكلام غير صحيح، بل إنّ هذا النور نوري، سنقوم حينئذٍ بقطع اتصال هذا المصباح بالمصدر للحظةٍ، ونقول له: إن كان ذلك النور منك، فعليك أن تستمرّ بالإنارة، فلماذا توقّفت عن إشعاع النور؟!

  • بناءً على هذا، إنّ طبيعة الذات الإنسانيّة عبارة عن الاحتياج إلى الله، سواء أوصت الشريعة بالدعاء أم لم توصِ به، وسواء أمر العقل بالطلب مِنَ الله أم لم يأمر بذلك، بل لا يمكن الامتثال لحكم الشريعة أو حكم العقل [على فرض أنّهما أَمَرَا بعدم الطلب مِنَ الله والدعاء له]، لأنّ هذا الحكم سيكون حينئذٍ مخالفًا لحكم الفطرة، ولا يمكن أن يكون الحكم المخالف للفطرة حكمًا صحيحًا، ولَمّا كانت الشريعة الإسلاميّة مبنيّة على أساس الفطرة والعقل، لذا نراها تقول: كلّما احتجت أن تطلب مِنَ الله شيئًا فاطلبه، وهكذا نرى الفطرة تحكم بما يحكم به العقل أيضًا.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

8
  • ولهذا السبب كان حكم النصارى باطلًا، في تحديد وقت معيّن للعبادة، وهو يوم الأحد، وفي حصر العبادة والدعاء داخل الكنيسة، بحيث لا تُقبل منهم العبادة والدعاء والطلب إن أتوا بها خارج الكنيسة، فلذلك هم لا يصلّون ولا يدعون خارج الكنيسة. فشريعتهم الّتي حكمت لهم بخلاف حكم الفطرة، قد سدّت عليهم الأبواب، فكان حكمها باطلًا.

  • نماذج قرآنيّة عن الإذْن الشرعيّ بالدعاء

  • «اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي»، أي إنّك أَذِنت لي في المراحل الثلاث وهي: أوّلًا مرحلة الفطرة، ثانيًا مرحلة العقل، وثالثًا مرحلة الشرع. وقد وردت آيات قرآنية عن الإذْن في مرحلة الشرع، كآية: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعًا﴾۱، فها هي الشريعة تدعو إلى التوبة والدعاء، [وكذلك] آية: ﴿ادْعُوني‌ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي‌ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾٢، أي إنّ الأمور الّتي ستُلقي بهم في جهنّم هي استكبارهم وأنانيّتهم وحبّهم لذواتهم، فهم غير مستعدّين للتذلّل لله الّذي هو أكثر أصالة وأقوى وأقوم وأكثر فائدة مِن أيّ شيء آخر.

  • الإذْن بالدعاء موجب للشرف والكمال

  • فدعاء الله، في مراحل الفطرة والعقل ثمّ الشرع، هو أحد الأشياء الّتي توجب الشرف والكمال، وهو ظهورٌ لعبوديّة الإنسان لله، وهو مُخرج لذات الإنسان مِن خلف الحُجب، وذلك لأنّ الإنسان في ذاته عبْدٌ فإن طلب مِنَ الله شيئًا سيكون هذا الطلب مصداقًا لعبوديّته.

  • ليس للعبد شيء، إنّ كلّ ما يملكه هو ملك للمولى، أمّا إن استنكف العبد عن دعاء الله، سيكون قد وضع غشاوة على عبوديّته الّتي لا يريد الإقرار بها، لذا: ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾، أي سيُلقى بالّذين يُنكرون عبوديّتهم في جهنّم، ليتمّ إحراق كِبَرهم وأنانيّتهم وحُبّهم لأنفسهم؛ ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾٣، أي ما مِن موجودٍ في السماوات والأرض إلّا سيُحضر أمام الله في حالة مِنَ العبوديّة، سواء أقرّ بعبوديّته في هذا العالَم أم لم يقرّ بها، وسواء كان مِن طائفة الملائكة المقرّبين الّذين أظهروا العبوديّة لله مِن أوّل الأمر، أو كان مِن طائفة الجنّ والإنس الّذين أقرّ بعضهم بالعبوديّة ولم يقرّ البعض الآخر، فالجميع سيحضر أمام الله مُقرِّين بالعبوديّة.

    1. سورة الزمر (٣٩)، جزء مِنَ الآية ٥٣.
    2. سورة غافر (٤۰)، جزء مِنَ الآية ٦۰.
    3. سورة مريم (۱٩)، الآيتين ٩٣ و٩٤.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

9
  • إن كان الله يتسامح بعض الشيء مع ما يُظهره الإنسان مِن أنانيّة واستكبار، فإنّ هذا التسامح لن يمسّ مقام ربوبيّته في شيء، وذلك لأنّه ربٌّ وأصيلٌ وقديمٌ وغنيٌّ بالذات وصمدٌ، ولا يمكن أن يُتصوّر حصول خلل أو تزلزل فيه، فذات الله تعني بطبيعتها الأصالة. فإن أردتَ أن تسلب عنه تلك الأصالة ستكون قد سلبته شيئًا مِن نفسه، وهذا مُحال؛ ولهذا لا بدّ أن تُظهر جميعُ الموجودات العبوديّةَ له، ومَن لا يفعل ذلك فـ ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾، أي يدخلونها وهم بحالة مِنَ الذلّة والمسكنة.

  • دلالة الإقرارات العجيبة للشيخين الواردة في صحيح البخاريّ

  • قرأتُ حكايةً عجيبةً جدًّا عن عُمر، والعجيب أنّها منقولة في (صحيح البخاريّ)، يقول: عندما طُعن عُمر، كان يُظهر الجزع والفزع الشديدين عند موته، فجاءه ابن عبّاس لعيادته وقال له: لم نكن نتوقّع منك هذا الجزع والفزع يا أمير المؤمنين، فهذا الجرح لا يعني لك الكثير، فلماذا كلّ هذا الجزع والفزع؟! فأنت قد صاحبت النبيّ وخدمته، وعندما ارتحل النبيّ عن الدنيا وجاء أبو بكرٍ بعده، خدمته أيضًا، وقد ارتحل عن الدنيا وهو عنك راضٍ، ثمّ عاشرت هؤلاء القوم مِن بعده وتعاملت معهم، والآن ستغادرهم وهم راضون عنك بأجمعهم، فها أنت تفارقهم وهم راضون عنك، فلِمَ كلّ هذا الجزع والفزع؟! فقال له عُمر: إنّما جزعي مِن أجلك ومِن أجل أصحابك. [أقول:] إنّه عنى أمير المؤمنين بكلمة (أصحابك)، لأنّ ابن عبّاس كان تلميذًا لأمير المؤمنين، قد تربّى على يديه، وكلّما أراد عمر الإشارة إلى أمير المؤمنين في حديثه مع ابن عبّاس كان يستخدم عبارة أصحابك فيقول: هذا فيما يتعلّق بأصحابك، أو أصحابك هم كذا وكذا، وقوله هنا: مِن أجلك ومِن أجل أصحابك.

  • ثمّ قال [عُمر]: فوالله لو أنّ لي طِلاعَ الأرض ذهبًا لافتديتُ به مِن عذاب الله عزّ وجلّ قبل أن ألقاه، لفعلتُ.۱

  • طِلاع تعني مِلء، فعندما يريد أحدهم أن يقول: املأ هذا الإناء ماءً، يقول: طِلاعه، فطِلاعَ الأرض ذهبًا تعني ملء الأرض ذهبًا. [فمعنى قوله:] لو كان لي مِنَ المال ملء الأرض ذهبًا لافتديت به مِن عذاب الله عزّ وجلّ الّذي سينال منّي لأجلك ولأجل أصحابك، [فلو كان لي ذلك] لفعلت قبل أن أُلاقي العذاب. [أقول:] ما دمتَ تعلم ذلك يا عُمر، لماذا لم تعترف بهذه الحقيقة إلّا في اللحظة الّتي طُعنت فيها بالخنجر؟! ومِنَ العجيب جدًّا أن تجد هذا مكتوبًا في (صحيح البخاريّ)!

    1. صحيح البخاري، ج٤، ص٢۰۱، مع شيء مِنَ الاختلاف.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

10
  • قارن بين هذا الكلام وبين ما قاله أمير المؤمنين عندما ضُرب بالسيف، قال: «فُزتُ وربّ الكعبة»۱. وكان يضحك ويمزح ولم يكن جزعًا، نعم، لم يَظهر عليه أيّ شكلٍ مِن أشكال الجزع والفزع، بل قال: «فُزتُ وربّ الكعبة». أمّا ذلك الرجل الخائن الّذي أمضى كلَّ عمره مستكبرًا وجعل بينه وبين الله حجابًا، واستبدل العبوديّة بالربوبيّة والتفرعُن، وبدّل التأريخ الإسلاميّ وأضاع كافّة جهود النبيّ الّتي بذلها طيلة ثلاثة وعشرين عامًا، والّذي أضرّ بالمسلمين والمؤمنين وبجميع سكّان العالَم إلى يوم القيامة، يأتي هذا الرجل الآن [بعد أن فعل كلّ ذلك] ليقول: لو كنتُ أملك وزن الأرض ذهبًا لافتديت به! إنّه يعلم جيّدًا ما قد فعله! أفلم يسمع حديث الغدير بنفسه؟! ألم يَقُل لأمير المؤمنين: بَخٍّ بَخٍّ لك يا أبا الحسن، لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة؟!٢)٣ ألم يَقُل كذا وكذا؟! هل كان عليه أن يعترف بما اعترف به فقط في هذه اللحظة الّتي طُعن فيها، وهو يرى نفسه على مشارف الهلاك، ويعلم ما ينتظره هناك؟!

  • هنالك رواية أخرى، في نفس (صحيح البخاريّ) هذا، قال فيها عُمر: تمنّيت لو أنّي كنتُ كبشَ أهلي، فربّوني وجعلوني سمينًا إلى حدٍّ ليس بعده حدّ، فجاءهم ضيوف أعزّة عليهم، فذبحوني وطبخوني وقطّعوني بعد الطبخ وأكلني الضيوف، فدخلت مَعِدَهم ثمّ أخرجوني عَذَرة، فليتني كنتُ تلك العذرة الّتي خُلِّفت مِن ذلك الكبش ولم أكن بشرًا.. هذه رواية موجودة في (صحيح البخاريّ) بلسان عُمر.٤

  • هنالك رواية أخرى عن أبي بكرٍ، والعجيب أنّها موجودةٌ في صحيح البخاريّ أيضًا، يقول: وقع نظر أبي بكرٍ يومًا على طائرٍ يحطُّ على غصنِ شجرةٍ، فقال للطائر: هنيئًا لك، فأنت تطير مِن غصنٍ وتحطّ على غصنٍ، فمنزلك الشجر وطعامك مِن ثمارها، وليس عليك حساب ولا كتاب، ولا تُسأل عن شيء، فليتني كنتُ مكانك لأتخلّص مِن حساب الله وعقابه٥.

  • مِنَ المعلوم هنا أنّ ذوات هؤلاء الأشخاص غير سليمة، لأنّ مَن يمتلك الحجّة لا يتكلّم بمثل هذا الكلام، فلا يتمنّى أن يكون طائرًا لكي يجتنب الحساب أو العقاب، بل سيكون كلامه مثل كلام أمير المؤمنين عندما خطب الناس قائلًا: يا أيّها الناس، كلّ ما أقوله لكم هو صحيح ولا يصحّ غيره، وكلّ مَن تَبعني سَعِد، ومَن أبى فقد ارتكب خطأً. إنّ هذا الكلام لم يأتي في رواية واحدة أو روايتين، ولم يقله أمير المؤمنين في مجلسٍ واحدٍ أو مجلسين، بل كان هذا كلام ومنطق أمير المؤمنين طيلة حياته.٦

    1. مناقب آل أبي طالب، ج٣، ص ٩٥.
    2. كنز الفوائد، ص ٢٣٢.
    3. لمزيد مِنَ الاطّلاع على المصادر الّتي ذكرت مسألة تهنئة الشيخين لأمير المؤمنين في يوم غدير خمّ، راجع كتاب (معرفة الإمامللعلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ، ج۸، ص۸۰. [المحقق]
    4. لم نعثر على هذه العبارة في النُّسخ الموجودة حاليًا مِن كتاب (صحيح البخاريّ)، غير أنَّها موجودة في المصادر التالية مع شيء مِنَ الاختلاف: شُعب الإيمان للبيهقي، ج۱، ص ٤۸٥؛ كنز العمال، ج۱٢، ص٦۱٩؛ حلية الأولياء، ج۱، ص٢۷؛ منهاج أهل السنّة، ج٦، ص٥.
    5. لم نعثر على هذه العبارة في النسخ الموجودة حاليّا مِن كتاب (صحيح البخاريّ)، غير أنَّها موجودة في المصادر التالية: شعب الإيمان للبيهقي، ج۱، ص ٤۸٥؛ كنز العمال، ج۱٢، ص٥٢۸ و ٥٢٩؛ المصنف لابن أبي شيبة، ج۸، ص۱٤٤.
    6. للاطّلاع على نماذج مِن هذا الكلام، يمكن مراجعة الكتب التالية: الاختصاص، ص۱٦٣؛ الاحتجاج، ج۱، الصفحات ۱٥٩ وما بعدها؛ أمالي الشيخ المفيد، ص٢۱٣؛ الفضائل، ص٣؛ الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسيّ، ص٦۷.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

11
  • علامة تمييز الفعل الصائب مِنَ الخاطئ

  • هنالك علامة لِمَن يكون على الصراط المستقيم، فمَن قام بعملٍ في ظرفٍ معيّنٍ وهو لا يدري إن كان عملًا صحيحًا أم لا، يمكنه أن يعرف ذلك عندما تتبدّل الظروف الّتي كان يعيشها، فإن ندم على ما فعله فهذا يدلّ على أنّ ذاك العمل لم يكن مبنيًّا على الإدراك واليقين، أمّا إن بقي على موقفه، مع تبدّل الظروف، فهذا يدلّ على أنّ عمله كان عن إدراك ويقين.

  • إنّ مَن تكون بيده الحكومة والسلطة والأمر والنهي، يفعل ما يحلو له، ولكن ما إن يفقد ذلك المركز تراه يندم على جميع أفعاله ويتوب عنها. أمّا بالنسبة إلى الإمام، فليس الأمر كذلك، لأنّه لا يفعل ما يستوجب التوبة، بل إنّ جميع أعماله صحيحة، سواء أمضى أيّامه في السجن أو في غيره، وسواء كان آمرًا أو مأمورًا، فهو لا يعرف الندم.

  • لم يندم أمير المؤمنين على جلوسه في البيت مدّة خمسة وعشرين عامًا، ولم يندم على أيّ شيء مطلقًا، وذلك لأنّ عمله مبنيٌّ على اليقين والنور، فهو على عكس مَن يحتلّ مكانةً في ظرفٍ معينٍ فيغلبه هوى نفسه في بعض الأفعال، ثمّ بعد أن يفقد تلك المكانة تراه يراجع أعماله ويقول: يا ويلتاه، ليتني لم أفعل ما فعلت.

  • لا طريق للندم والحسرة إلى أفعال النبيّ والإمام، لأنّ عملهم مبنيٌّ على اليقين، سواء كان يجلس على التراب أم يعيش في المجرّات أو كان في السماء السابعة، فعملهم مبنيٌّ على اليقين. وهكذا الحال في فِعل وقول كلّ مَن يكون على يقين، وهكذا حال حُجج الله، فهم أفراد قد حفظوا مقام العبوديّة في أنفسهم، سواء كانوا يأكلون خبز الشعير أو كانوا في السجن أو كانوا حبيسي بيوتهم أم كانوا أصحاب سلطة وبيدهم زمام الحكم، قد حُفِظَت العبوديّة في ذواتهم، فهم يلاقون الله دائمًا بالعبوديّة، فلا يمكنهم ولو لبرهة أن يغفلوا عن العبوديّة ويتلبّسوا بالربوبيّة فينجرّون إلى التفرعن ثمّ يُصابون بالمسكنة والذلّة والندامة. إنّ هذا الموضوع غايةٌ في الأهميّة.

  • عزّة الإنسان هي بعبوديّته لله

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

12
  • «اللّهُمَّ أَذِنْتَ لِي فِي دُعائِكَ»، قد عرفنا كم هو راقٍ ولطيفٍ هذا الإذن الّذي منحنا الله إيّاه، فجعلنا عبيدًا له. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إلهي كَفى بي عِزًّا أنْ أكُونَ لَكَ عَبْدًا، وَكَفى بي فَخْرًا أنْ تَكُونَ لي رَبًّا، أنتَ كَما أُحِبُّ، فاجْعَلْني كَما تُحبُّ»۱؛ فأنا عبدك لا عبد غيرك، فلو كنتُ عبد غيرك لكنتُ ذليلًا، ولكنّني الآن عبدك، وإن كان الإنسان عبدًا لله سيمنحه الله المزيد المزيد مِنَ العزّة.

  • يُقال إنّ ما كان يحظى به غلمان (عين الدولة) في سابق الأيّام مِنَ الاحترام، كان يفوق ما يحظى به حتّى الحكّام والرؤساء والولاة، ولم يكن ذلك للغلمان فقط، بل كان يشمل حتّى حمير (عين الدولة). إنّ (عين الدولة) هو ابن ناصر الدين شاه، كان له بيت في طهران في شارع عين الدولة الّذي يسمى الآن بشارع إيران، كان رجلًا جبّارًا ومستهترًا وله حكايات غريبة عجيبة. يُقال إنّه إن أراد أن يخرج، يتقدّم غلمانُه موكبَه ويصيحون بالناس: ابتعدوا، ابتعدوا. فكان على الناس أن يبتعدوا ويُغمضوا أعينهم، وإلّا ضُربوا بالعِصيّ على رؤوسهم وقيل لهم: لماذا تنظرون إلى جمال عين الدولة! وعندما كانوا يحملون الأسمدة الحيوانيّة على حمير عين الدولة ليوصلوها إلى حدائقه، كان على الناس، بما فيهم الوزير والشريف وكلّ مَن كان على طريقها، أن يبتعدوا ويُخلوا الطريق لها، فلا يمكن لأحد أن يقف في مسير حمير عين الدولة، وإلّا سيُصيبه ما كان يُصيبه. كان هذا شأن غلمان وحمير عين الدولة، فكانوا يمتلكون تلك العِزّة [الدنيويّة]، والّتي هي في الحقيقة عِزّة مجازيّة، فقد كان لهم مِنَ الشأن ما يفوق شأن الوزير، إذ كان على الوزير [أيضًا] أن يُخلي لهم الطريق.

  • إن كان الأمر كذلك، فكيف ستكون عِزّة الإنسان إن أصبح غلامًا لله؟! [هذا معنى] قول أمير المؤمنين: «إلهي كَفى بي عِزًّا أنْ أكُونَ لَكَ عَبْدًا»؛ فأنا لم أكن عبدًا لأيّ شيء، لا لمالٍ ولا لنساءٍ ولا لرئاسةٍ ولا لهوى ولا للتعالي، نعم أنا لم أكن عبدًا لأيٍّ مِن هذه الأشياء. عندما كان يعمل أمير المؤمنين في بستان ظهرت له الدنيا بصورة امرأة جميلة واقفة أمامه، ألم يضرب حينها الدنيا بالمجرفة، ألم يقُل حينها: «قد طلّقتُكِ ثلاثًا لا رجعة لي فيكِ»٢؛ المرأة الّتي تُطلّق ثلاثًا لا يمكن إرجاعها، هكذا كان حال وليّ المؤمنين وأمير المؤمنين – جاء في رواية صحيحة عن رسول الله أنّه قال باختصاص لقب أمير المؤمنين بعَلِيّ حيث قال: «ولا تحلّ إِمْرَة المؤمنين بعدي لأحد غيره»٣ – نعم هكذا كانت عبوديّة أمير المؤمنين الّذي قال: «كَفى بي عِزًّا أنْ أكُونَ لَكَ عَبْدًا، وَكَفى بي فَخْرًا أنْ تَكُونَ لي رَبًّا»، أي كم سأكون عزيزًا عندما أرى أنّني عبدك وأنّك ربّي.

    1. الخصال للشيخ الصدوق، ص٤٢۰؛ روضة الواعظين، ص ۱۰٩.
    2. غرر الأخبار، ص٤٦۷؛ نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص٤۸۰؛ مناقب آل أبي طالب، ج٢، ص ٣۷۰، مع شيءٍ مِنَ الاختلاف.
    3. روضة الواعظين، ص٩٤؛ الاحتجاج، ج۱، ص۷٦.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

13
  • إنّ أيّ موجودٍ يعبده الإنسان سيكون هو إلهه، بناءً على هذا، فما أكثر الآلهة في هذه الدنيا! على كلّ إنسان أن يتفحّص لبّ وسويداء قلبه، ليرى ما هو مقصده ومقصوده في حياته، فيكون ذلك هو إلهه؛ ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى‌ عِلْمٍ﴾۱. وجاء في وصف علامات آخر الزمان: «آلهتهم بطونهم، ونساؤهم قبلتهم، وشرفهم الدراهم والدنانير»٢، فتلك هي آلهتهم! إنّ كلّ مَن يطيعه الإنسان في قلبه سيكون هو إلهه، نعم، أيّ شيءٍ كان ذلك.

  • يقول أمير المؤمنين: «كَفى بي فَخْرًا أنْ تَكُونَ لي رَبًّا»، أي إنّه لفخرٌ لي أن تكون أنت ربِّي، ولا ربَّ لي سواك، وبهذا أكون قد حصلت على شيئين: أوّلهما العِزّة، وثانيهما الفخر. فقد نِلتُ العِزّة عندما أصبحتُ عبدًا لك، ونِلتُ الفخر إذ كنت أنت ربِّي. [ثمّ يقول:] «إلهي أنتَ كَما أُحِبُّ، فاجْعَلْني كَما تُحبُّ»، إنّه لكلام راقٍ جدًّا، ولو كنّا قد أعطينا هذا الكلام لصدر المتألّهين لألّف عليه كتابَ أسفارٍ، واستخرج منه مفهوم (الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة)، وهو مفهوم عجِز عن شرحه وبيانه – إلى يومنا هذا – عقلاءُ العالَم مِمّن يتغذّون على مائدة هذه المدرسة.

  • «إلهي أنتَ كَما أُحِبُّ» فأنا أحبّك يا إلهي إلى درجة جعلتني أفقد حبّ كلّ شيء غيرك، وجعلتَ جميع المقاصد والمعبودات والأهداف والأشياء الجميلة، تفقد جمالها وتكون بلا رونقٍ، فأنت محبوبي، ولقد اشتدّت محبّتك في قلبي إلى درجة جعلتني لا أرى في نفسي محبوبًا سواك. ما دام الأمر كذلك، فاجعلني يا ربِّ كما تُحبّ أنت لا كما أحبّ أنا، وها أنا أترك إليك أيضًا أمر الكيفيّة الّتي تريد أن تجعلني عليها، فأريد أن تختار لي الإرادة الّتي تحبّها وتصوغ لي بها شخصيّتي، فأنا كالشمع بين يديك. أنا لا أطلب منك أن تجعل منِّي عالِمًا أو زاهدًا أو شفيعًا أو كذا أو كذا، بل أنا أضع نفسي كشمعة بين يديك وأقول لك: اجعلني بالشكل الّذي تريده، فاجعلني كما تحبّ أنت وتريد، لا كما أريد أنا، اجْعَلْني كَما تُحبُّ.

    1. سورة الجاثية (٤٥)، جزء من الآية ٢٣.
    2. بحار الأنوار، ج٢٢، ص ٤٥٣؛ ولمزيد مِنَ الاطّلاع حول هذا الموضوع، يمكن الرجوع إلى كتاب (معرفة المعادللعلّامة السيّد محمّد الحسين الطهرانيّ، ج٢، ص۱٦۷.

إذْنُ اللهِ فطريٌّ وعقليٌّ وشرعيٌّ - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الخامسة

14
  •  

  • اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد