المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةنظرات عقائدية ومعرفية
التوضيح
في هذه المحاضرة، سعى سماحة آية الله العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه بدايةً إلى بيان أنّ الهداية إلى الصراط المستقيم تتوقّف على الاعتصام بالله وبرسوله في الوقت ذاته، وأنّ كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الكاشف عن أنّ وجود الإنسان رحمانيّ أو شيطانيّ، ثمّ استعرض بعض النماذج لانحراف بعض الصحابة عن جادّة الهداية، ليتحدّث بعد ذلك عن بطلان نظريّة مطلق عدالة الصحابة؛ مشيرًا إلى تراجع بعض علماء العامّة عن هذه النظريّة، وغرابة القول بعدالة الصحابة بمجرّد وفاة الرسول؛ وفي الأخير، تطرّق للحديث عن عدم وجود مكان لهذه النظريّة في عصر التحقيق والحريّة الفكريّة.
هو العليم
نظريّة عدالة مطلق الصحابة
في بوتقة النقد والتحقيق
نظرات عقائديّة ومعرفيّة – الجلسة السابعة
محاضرة ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم
بسم الله الرّحمٰن الرّحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين
توقّف الهداية على الاعتصام بالله ورسوله في الوقت ذاته
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.۱
أي أنّ الله تعالى يقول:
«فأنتم أيّها المسلمون مكلّفون من قبل الله تعالى بأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وتُسارعوا إلى الخيرات؛ وهذه هي الميزة الفريدة التي تفصلكم عن [كفّار العالم]؛ فاذكروا نعمة الله تعالى، حيث كنتم تُعادون بعضكم، فألقى الله تعالى الألفة بينكم، وأصبحتم بنعمته إخوانًا؛ وكنتم جالسين إلى جانب حفرة نيرانيّة، فأخذكم الحقّ عزّ وجلّ، وأنجاكم، وأنقذكم منها؛ فلا بدّ أن يوجد بينكم أفراد قائمون بالقسط يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ فحينئذ، سيتّجه مجتمعكم نحو الفلاح والرشاد؛ وحذار أن تسلكوا سبيل التفرقة والانقسام بعدما بلغتكم البيّنات والأدلّة والشواهد من الله تعالى؛ لأنّ هذه المسألة لها عواقب سيّئة، وعذابها عظيم».
وبعد ذلك، يُبيّن تعالى النتائج المترتّبة على هذا الاختلاف، ثمّ يقول:
«إنّ هذا العداء الذي يُضمره لكم اليهود النصارى راجع بأجمعه إلى منبع النفاق والأنانيّة السائد بينهم؛ لكن، ما دامت حركتكم قائمةً على الإيمان والإسلام، فلن يتمكّن أيّ موجود من إلحاق الضرر والأذى بكم.
ومن بين أهل الكتاب، هناك أفراد مؤمنون، ومنهمكون في العبادة آناءَ الليلِ والنهار؛٢ فهم ليسوا فاسدين بأجمعهم، بل إنّ البعض منهم مؤمنون؛ وهم الذين لديهم طينة طاهرة، ويوجد فيهم حسّ الانقياد والاعتراف بالحقّ، حيث تجد جماعة منهم يقومون وسط الليالي، ويؤدّون الصلاة، وأصحاب اعتقاد، ومن أهل السجود، وعندهم إيمان بالله تعالى ويوم القيامة؛ فهؤلاء أيضًا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويُسارعون في الخيرات.
فالأمر الذي يُحافظ عليكم هو عدم حمل كلام الآخرين على محمل السوء، وألاّ تلجؤوا للتفرقة والانقسام، ولا تختلفوا فيما بينكم، وأن تبنوا مجتمعكم وأمّتكم على أساس الوحدة، وأن تجتنبوا التفرقة؛ وإلاّ، فإنّ أعماركم وفوائدكم وواجباتكم وفضائلكم ستتحوّل بأجمعها إلى قبائح وسيّئات»؛ ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾.٣
ففي هذه الحالة، إذا اعتصم الإنسان بالله تعالى، واتّبع طريقه وسنّته، وعمل بآياته-أي ﴿ءَايَاتُ اللهِ﴾ـ، وسار على منهاج رسوله وأوامره، ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾،۱ حيث إنّ «قد» هنا تحقيقيّة وليست تقليليّة؛ لأنّها جاءت قبل الفعل الماضي.
ففي هذه الآية الكريمة، نجد أنّ الباري عزّ وجلّ يقول: إنّ الذي يُهدى إلى الصراط المستقيم هو الإنسان المعتصم بالله؛ والاعتصام به تعالى لا يحصل لأحد إلاّ إذا اتّبع آيات الله-أي القرآن ـ، وأوامر الرسول؛ لأنّ الآيات القرآنيّة لن تكون مفيدة لوحده، بل لا بدّ من أن يكون ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾؛ أي: أساسًا، كيف يُمكن تخيّل أن تصيروا كفّارًا؛ في حين أنّ كتاب الله وسنّة نبيّه موجودان بينكم؟! فكتاب الله ومبيّنه ومفسّره ومُجلّيه موجودان في الوقت ذاته!
وتُشير هذه الآية بكلّ وضوح إلى أنّ كتاب الله لا يكفي لوحده؛ فما دامت سنّة الرسول ونهجه غير موجودين، سيبقى ذلك الكتاب عبارةً عن مسائل كلّية يُفسّرها كلّ واحد طبقًا لمذاقه وأسلوبه الخاصّين، ويُقيّمها بأجمعها بواسطة نفسه؛ ليقبل بما يتطابق مع شهواته النفسيّة، ويردّ ما يتعارض معها.
فمن الواضح جدًّا أنّ القرآن لا يُمكنه أن يمدّ يد العون لوحده، ومن دون وجود مفسّر ومبيّن! وذلك لأنّه عبارة عن نور تنزّل من عند الله تعالى، وأتى بمجموعة من الأوامر العامّة؛ فـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ما هو تكليفكم؟ هنا، سنجد أنّ كلّ واحد سيقول: «أنا مؤمن؛ وبالتالي، فإنّ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ستشملني»؛ فالرسول هو الذي عليه أن يُحدّد، ويقول: «أنت مؤمن، وأنت غير مؤمن»؛ فيُصدر أوامره؛ وبعد ذلك، إذا عمل أحد طبقًا لهذه الأوامر، فإنّه يكون مؤمنًا؛ وإلاّ، سيكون كافرًا. كما أنّ الرسول هو الذي يقول: «عليكم أن تُحاربوا اليوم، أو تُصالحوا، أو تتحرّكوا»؛ مع أنّ الله تعالى يقول في القرآن المجيد: عليكم أن تتّبعوا الرسول! وبالتالي، فإنّ كلّ من يتّبعه يُصبح مؤمنًا، وكلّ من لا يتّبعه يصير كافرًا؛ وعليه، فإنّ الإيمان والكفر يكونان من دون الرسول ممزوجين ومختلطين ببعضهما، ولا يوجد بينهما أيّ فاصل!٢
تمامًا مثل الشيطان الذي كان قبل خطاب ﴿اسْجُدُوا﴾ يعيش بين الملائكة، ومتنكّرًا بهيئتهم؛ إذ لم يكن الامتحان والتمييز قد حلاّ بعدُ، لكن، حينما صدر الخطاب، فأطاع الملائكةُ، وتمرّد الشيطانُ، فإنّه انفصل عنهم؛ لكنّه لم يكن قبل الخطاب مستقلاًّ عنهم، بل كان داخلاً في زمرتهم.
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾؛۱
ومن هنا، يتبيّن أنّ إبليس كان من الملائكة؛ باعتبار أنّ الخطاب الموجّه إلى الملائكة قد تعلّق به هو أيضًا؛ أي خطاب: «أيّها الملائكة، اسجدوا»؛ فسجدوا هم، لكنّ إبليس لم يسجد؛ ولأنّه لم يسجد، فقد انفصل عنهم؛ غاية الأمر أنّ هذا الانفصال لم يُؤدّ إلى تغيّر ماهيته، وجنسه وفصله الوجوديّين، بل ساهم في إبراز ذاته وعصيانه بواسطة هذا التمرّد، وإظهار أنّ وجوده لم يكن معصومًا، بل هو وجود شيطانيّ ومتمرّد؛ ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾؛٢ ممّا يعني أنّه لم يكن في الأساس من الملائكة، بل كان من الجنّ. فالله تعالى خلق موجودات كالإنسان، وموجودات كالملائكة، وموجودات كالجنّ؛ وهي موجودات تختلف عن بعضها في أصل الوجود؛ غير أنّ الشيطان أظهر نفسه قبل الامتحان بهيئة الملائكة؛ ولهذا، شمله خطاب ﴿لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾؛ لكن بسبب عصيانه، ظهرت سريرته وذاته، وبرزت جنّيته و﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾، وانفصل حتّى ظاهريًّا عن طائفة الملائكة التي لم يكن ينتمي إليها حقيقةً. وعليه، لولا خطاب ﴿اسْجُدُوا﴾، ولولا تمرّد الشيطان، لما كانت في الأساس هناك جنّة، ولا نار، ولا إنسان، ولا سعادة، ولا شقاء، ولا أيّ شيء! فجميع هذه الأمور إنّما تحقّقت ببركة هذا الخطاب بعينه.
كلام الرسول هو الكاشف عن أنّ وجود الإنسان رحمانيّ أو شيطانيّ
والقرآن الكريم هو أيضًا على نفس هذه الشاكلة؛ فقد جاء لكلّ أفراد الإنسان، كما أنّ المسلمين برمّتهم يقولون: «لا شكّ في أنّنا نقبل بالقرآن»، لكنّ السؤال هو: ما هو القرآن؟ وما هي حقيقته؟ وبأيّ شيء يتمّ القبول به؟ إذا أصغى الإنسان إلى كلام ذلك الشخص الذي يكون دليلاً على القرآن، ومفسّرًا ومبيّنا له، فإنّه سيكون حينئذ قد عمل بمفاد هذا القرآن؛ وإلاّ، سنجده يقول: «إنّ كافّة الآيات القرآنيّة تنطبق في الأساس عليّ أنا؛ وكلّ من أصغى إلى كلامي، فقد أصغى إلى القرآن؛ وكلّ من لم يُصغ إلى كلامي، فإنّه لم يُصغ بتاتًا للقرآن».
فنرى وجود كلّ هذه الطوائف المختلفة في الإسلام، بحيث تقول كلّ واحدة منها: «رأيي حقّ، ورأي غيري باطل»؛ فيقول الشافعيّ: «نحن على حقّ، والحنفيّة على باطل»؛ ويقول الحنفيّ: «نحن على حقّ، والحنابلة على باطل»؛ وهؤلاء يقولون: «نحن على حقّ، والمالكيّة على باطل»؛ في حين أنّه لا يُمكن أن يكون كلاهما على باطل؛ إذ حينما يختلف اثنان بخصوص مبدأ ما، فإنّ أحدهما يكون على حقّ، والآخر على باطل.
ومن هنا، يتبيّن أنّه: إذا اعتبرنا أنّ معيار الحقّ هو الحقّ بذاته، سيكون بوسعنا تمييز الباطل؛ وإلاّ، إذا جعلنا معيار الحقّ يدور حول تصوّر الأفراد وتشخيصهم، فإنّ كلّ واحد سيقول: «إنّ الحقّ ينطبق عليّ أنا، وأنا بدوري أنطبق على الحقّ؛ وكلّ موجود لا يتطابق معي باطل».
إنّ رسول الله تعالى هو الذي يُعيّن الحقّ. ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾؛ أي: كيف يُمكنكم أن تكفروا، ورسول الله تعالى موجود بينكم؟ فلو لم يكن رسول الله، ولم تكن سنّته، ولم يكن أمره ولا نهيه، لقمتم بتطبيق الآيات القرآنيّة على أنفسكم، وسلك كلّ واحد منكم طريقه الخاصّ، ومضى؛ لكن، إن كان النبيّ الأكرم قد جاء، وأصدر أوامره فيكم، فكيف يُمكنكم أن تُطبّقوا آيات القرآن على أنفسكم؛ مع أنّه أمركم، فعصيتموه؛ وأمَرَ الآخر، فأطاعه.
وعليه، فإنّ شأن رسول الله شأن تلك الشرارة الكهربائيّة التي يُضرب بها الماء، فيتحوّل بسبب ذلك إلى غازي أكسجين وهيدروجين، حيث إنّ هذا الماء المتوفّر لدينا عبارة عن غازين؛ فإذا جمعنا بينهما، نحصل على ماء. فلو أنّ هذا الماء ظلّ على حاله لمدّة ألف سنّة، لما تحوّل إلى هذين الغازين؛ لكن، إذا قمنا بتحليله عن طريق شرارة كهربائيّة، فإنّ كافّة مياه العالم الموجودة في الأنهار والوديان والمحيطات، بل وفي كلّ مكان ووعاء، ستتحوّل مباشرةً إلى غازين ينتشران في الهواء؛ ثمّ إذا جُمع هذا الغاز من الهواء، وأحضروه، وسلّطوا عليه شرارة كهربائيّة، فإنّه سيتبدّل إلى ماء؛ فينبغي أن توجد الشرارة، حتّى يتحوّل الماء إلى ذلك الغازين، وإلاّ، فلا.
إنّ الشرارة التي تكشف عن أصل وجود الإنسان، وهل هو شيطانيّ أم رحمانيّ، وهل هو مطيع أم متمرّد هو كلام رسول الله.
ففي زمان النبيّ، كان أصحابه يبدون بأجمعهم على هيئة الأصحاب؛ فكانوا برمّتهم يُصلّون، ويقولون: «نحن من المطيعين و...»؛ لكن، حينما كان يصدر أمر رسول الله، كان المطيع له يُعدّ من المؤمنين؛ وإلاّ، كان يُحسب من زمرة المنافقين والمتمرّدين.
نماذج من انحراف بعض الصحابة عن جادّة الهداية
ومن بين هؤلاء الصحابة، كان هناك الوليد بن عقبة الذي ورد في حقّه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾،۱ حيث جاء في القرآن: إنّه فاسق!٢ فإذا أتتكم أخبار كاذبة، فلا تنساقوا ولا تصغوا إليها، ولا تعملوا بمفادها، بل اذهبوا وتحقّقوا وتأكّدوا منها، وافحصوها، لتروا هل لها واقعيّة أم لا؛ فإن كانت واقعيّة، فاعملوا بها، وإلاّ، فلا؛ فلا ينبغي عليكم الانسياق وراء خبر الفاسق من دون تحقيق وتفحّص؛ وإلاّ، لو وثقتم بكلامه، لأشعلتم الحرب مع القبيلة التي أتاكم ذلك الفاسق بأخبارها كذبًا، وقتلتموهم، ﴿فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.٣
فنراهم يقولون: كان الوليد بن عقبة من صحابة رسول الله؛ وبما أنّه من الصحابة، فإنّه معصوم؛ لأنّ كلّ صحابيّ يُطلق عليه هذا الاسم كلامُه حجّة؛ سواءً صاحب النبيّ، أو رآه، ولو بنظرة واحدة؛ بل حتّى لو كان طفلاً عمره سنتان، وشاهد الرسول مرّة واحدة، فإنّه يكون صحابيًّا؛ فلا يُمكن بتاتًا الكلام عن الصحابة؛ وكلّ من صدق عليه أنّه صحابيُّ رسولِ الله لا يجوز الحديث عنه أبدًا! فلا يصحّ الحديث عن العقبة بن الوليد، ولا عن عائشة، ولا عن عبد الرحمن بن عوف، ولا عن الحَكَم أبو مروان، و...؛ لأنّ هؤلاء بأجمعهم صحابة؛ والصحابة-برأي هؤلاء-أفراد رأوا النبيّ، وهم مؤمنون، ولم يموتوا عن ارتدادٍ ورجوعٍ عن الإسلام؛ فكلام هؤلاء برمّتهم حجّة، وكلّ ما نقلوه عن الرسول حجّة أيضًا٤!٥
وفي هذه الحالة، نجد أنّ هؤلاء قد جاؤوا، وجلسوا على أريكة الحكم، ولجؤوا إلى وضع روايات عن الرسول، وملؤوا المجاميع الروائيّة لأهل السنّة بالروايات الموضوعة؛ ومع أنّها كانت مخالفة للواقع بأجمعها؛ لكن، بما أنّ الذي نقلها صحابيّ، فإنّ كلامه حجّة؛ في حين أنّ هذا الأمر معارض للقرآن بذاته؛ إذ جاء فيه: «إنّ الوليد فاسق!»؛ فحينما يُخبرنا القرآن عن فسق الوليد، فكيف يتسنّى لنا أن نقول عنه إنّه عادل؟
وأخبرنا القرآن بأنّ رسول الله أصدر أمرَه في غزوة تبوك، وقال: «تحرّكوا، وسيروا»، فجاءت جماعة-لم تكن تضمّ واحدًا أو اثنين فقط، بل بلغ تعدادها بضعًا وثمانين رجلاً ـ، وقالت: «يا رسول الله، إنّ لدينا عذرًا، وكذا، وكذا، ولا يُمكننا المجيئ معك»، مع أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر الجميع بالتحرّك،۱ كما أنّ عبد الله بن أبيّ وجماعته تراجعوا في وسط الطريق؛ وهم بضع وثلاثمائة رجل؛ فنقص هذا العدد من ألف وبضعة رجال من صحابة الرسول؛٢ هذا كلّه، ونجدهم يقولون: إنّ كلام هؤلاء بأجمعهم حجّة؛ وبما أنّهم صحابة، فلا يجوز أن نتعرّض لهم، ولا أن نتكلّم عنهم، مهما قاموا به من فعل!
فلا ينبغي الحديث أبدًا عن مروان رغم كلّ ما ارتكبه من جرائم؛٣ لأنّه صحابيّ،٤ ولو قتل طلحة في معركة الجمل! هذا، مع أنّ طلحة هو بنفسه من قتل عثمان الذي كان والدًا لزوجة مروان، ومن الصحابة! [يقول مروان:] «صحيح أنّنا أتينا معًا لمحاربة عليّ، لكنّني أعلم أنّك تكذب»؛ فطلحة الذي جاء لقتال عليّ بعنوان الثأر لعثمان هو بنفسه من قتله!
ولهذا، فقد استلّ مروان سهمه، وأطلقه باتّجاه طلحة؛ مع أنّهما كانا معًا من قادة نفس الجيش الخصم، حيث قال: «رأيت أنّه لا توجد فرصة أفضل من الآن، لكي آخذ ثأري من هذا الرجل! لأنّ طلحة هو قاتل عثمان الذي كان من بني أمّية؛ وأنا أيضًا من الأمويّين، ويتوجّب عليّ الأخذ بثأري؛ فأيّة فرصة أفضل من هذه مكّنتني من الظفر بطلحة، ورميه، وقتله من دون أن يطّلع على ذلك أيّ أحد؟!»، وقال: «رأيت أنّه لا توجد أيّة فرصة أفضل من هذه، لكي أرمي بسهمي!»؛ فرمى بسهمه الذي انطلق من تلك الناحية من ساحة المعركة، وأصاب فَخِذَ طلحة في ناحيتها الأخرى، فشقّه، فتدفّق منه الدم، واستمرّ في التدفّق إلى أن مات؛ فكان طلحة يصيح باستمرار، ويتحسّر، ويقول: «لقد ضاعت دنياي وآخرتي معًا (فلا صرت رئيسًا، ولا حصلت على رئاسة، ولا نصر، ولا حرب! ولقد سقنا كافّة هؤلاء الناس، وأتينا بهم إلى هنا؛ وفي نهاية المطاف، أموت بهذه الطريقة، وبسبب سهم أُطلق من مجهول، وأصابني!)».٥
فأحيانًا، يذهب الإنسان للحرب، فيضرب بسيفه، ويُنازل خصمه، ثمّ يُقتل؛ لكنّ ذلك لم يحصل له هو؛ إذ بدون أن يُقاتل، جاء سهم، فأصابه، وسال الدم من فخذه إلى أن مات؛ مع أنّه يتحمّل في الوقت ذاته وزر كلّ تلك الجماعة البالغ تعدادها اثني عشرة ألف نسمة! هذا، ومروان يتفرّج عليه في الناحية المقابلة، في حين أنّه هو الذي قتله!
بطلان نظريّة عدالة مطلق الصحابة
وهنا، نراهم يقولون: «كان كلٌّ من طلحة والزبير ومروان صلحاء وطاهرون بأجمعهم، ولا ينبغي أن نتحدّث عنهم بتاتًا؛ لأنّهم صحابة»؛ وهو كلام مجانب للصواب.
وحينئذ، يأتي هؤلاء الصحابة، وينقلون عن الرسول أحاديث تتعارض مع العلم، والكتب المتقدّمة، حيث يروي أبو هريرة حديثًا عن النبيّ الأكرم-سنده [برأيهم] صحيح وجميع رواته عدول وثقاة-يقول فيه ما مفاده:
"إنّ الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستّة أيّام، بل خلقها في سبعة أيّام؛ فأخذ رسول الله بيدي، وبدأ يعدّ: في اليوم الأوّل، فعل كذا؛ وفي يوم الأحد، فعل كذا؛ وهكذا، في يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، إلى أن وصل إلى عصر الجمعة، حيث انتهى من خلق السماء والأرض قبل ساعة واحدة من الغروب".۱
وجميع الرواة الواقعين في سلسلة رواة هذا الحديث-إلى أن تصل إلى أبي هريرة-ثقاة!
وهذا مخالف لنصّ القرآن الذي يقول إنّ الله تعالى خلق السماوت والأرض في ستّة أيّام،٢ حيث نجدهم قد حاروا في كيفيّة التعامل مع هذه الرواية؛ فإن قالوا إنّها صحيحة؛ لأنّ سندها صحيح، فإنّها ستتعارض مع القرآن؛ وحينئذ، كيف يُمكنهم الردّ على اليهود والنصارى الذين سيُشكلون على المسلمين، ويقولون: «إن كنتم تقولون إنّ قرآنكم حقّ؛ فها هو بنفسه يُصرّح بأنّ الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام؛ فكيف يكون حقًّا، ورسولكم يقول بخلقها في سبعة أيّام؟»؛ وإن قالوا إنّ الرواية باطلة؛ فبما أنّ سندها-بجميع رواته-صحيح، تعيّن عليهم القول: «إنّ أبا هريرة يقع في آخر هذا السند، وقد نقلها عن الرسول كذبًا»؛ وهم لا يودّون الاعتراف بهذا الأمر؛٣ وذلك لأنّ أبا هريرة كان زعيمًا وقائدًا لسنين متمادية، وكان يدعو الناس إلى خلافة معاوية، ووَضَع العديدَ من الروايات المعارضة لأمير المؤمنين؛ فإذا رُفعت يد أبي هريرة عن الأحاديث، ضاع نصف روايات أهل السنّة، وفقههم.
وعلاوةً على هذا كلّه، يقول أبو هريرة ما مفاده:
رُوي أنّ رسول الله قال: حينما خلق الله تعالى العرش، جلس عليه، فرأى أنّه لوحده؛ وحينئذ، رفع الرسول من هنا إلى الأعلى، وأجلسه إلى جانبه عن يمينه، وأقعده على الكرسيّ؛ ولهذا، كلّ من يذهب يوم القيامة إلى الموقف، سيرى الرسول جالسًا على الكرسيّ إلى جانب الله تعالى.۱
وهذا يُضاهي كلام النصارى الذين يقولون: إنّ الله تعالى رفع نبيّ الله عيسى فوق السماوات، وأجلسه إلى جنبه على العرش؛ في حين أنّ المسلمين يُشكلون عليهم بأنّه عزّ وجلّ ليس جسمًا، وبأنّ عيسى ليس هو الله، ولا ابنٌ لله، وأنّ الباري لا يجلس على الكرسيّ والعرش، بل إنّ العرش عبارة عن قدرته تعالى وإحاطته الوجوديّة، وأنّ الاستواء على هذا العرش يعني هيمنة قدرة الله وإرادته على كافّة العوالم؛ فهو تعالى ليس بجسم؛ وحينئذ، كيف تقولون إنّ الله رفع عيسى، وأقعده جنبه؟ ففي الجواب، سيقول هؤلاء: إنّكم أيّها المسلمون تتفوّهون بنفس هذا الكلام! أ لا توجد لديكم رواية مفادها أنّ الله تعالى خلق النبيّ، ثمّ رفعه إلى الأعلى، وأجلسه إلى جانب عرشه؟
ففي هذه الحالة، سيعجزون عن الإجابة على هذه الإشكالات، ويقولون: ما الذي علينا فعله؟! هل نقول إنّ أبا هريرة يكذب؟ إن قلنا ذلك، علينا قراءة الفاتحة على جميع روايات البخاريّ ومسلم وأمثالها! وإن قلنا إنّه صادق، كيف سيتسنّى لنا جواب هؤلاء الأعداء واليهود والنصارى والملحدين وبعض المسلمين الذين يُشكلون علينا بقولهم: «أجيبونا عن هذه الأخبار التي لديكم، والمعارضة لكتاب الله!»؟٢
كان الحَكَم٣ من أعجب الفضلاء وأغربهم، ومن الطبقة الأولى من العلماء في عصر الشافعيّ؛ لكنّه أراد أن يحتلّ مجلس الشافعيّ بعد وفاته، ويحوز على تلك الرئاسة، وذلك المجلس والدرس والبحث و... ؛ وحينما توفّي الشافعيّ بمصر، جاء لكي يُدير هذا الكرسيّ العلميّ، فقيل له إنّ الشافعيّ قال: «أحقّ الناس بمجلسي ربيع»؛٤ فلم يُعجبه ذلك، والتحق بالمذهب المالكيّ، وصار مالكيًّا،٥ وألّف كتابًا في الردّ على الشافعيّ، ذكر فيه جميع آراء الشافعيّ وأفكاره التي تتعارض مع الكتاب والسنّة.٦
وهذا أمر جيّد؛ كما أنّ نظائره لا تقتصر على مورد واحد أو موردين، أو ثلاثة أو أربعة! وهل تعلمون سبب حصول ذلك؟ لأنّهم فصلوا ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ عن القرآن، وقالوا: يكفينا كتاب الله؛ إذ قال عمر: «كفانا كتابُ الله»؛۱ فتوقّفوا عند هذه المسألة.٢
تراجع بعض علماء العامّة عن القبول بنظريّة عدالة الصحابة
كان أحمد أمين المصريّ من مخالفي الشيعة، وأصدر في حقّهم مجموعة من الاتّهامات العجيبة والغريبة، لكنّه ألّف في أواخر حياته كتابًا اسمه "يوم الإسلام" ذكر فيه ما مفاده:
ومن الخطأ أن يُقالُ: حسبُنا كتابُ الله؛٣ فهل يستطيع أحد الاكتفاء بكتاب الله تعالى؛ في حين أنّ الرسول هو حاميه وحارسه ومراقبه ومفسّره ومبيّنه؟
وهكذا، نجدهم يتراجعون عن كافّة الاتّهامات التي ألصقوها بالشيعة، الواحد تلو الآخر.٤
كتب عالم مصريّ اسمه الشيخ محمود أبو ريّة كتابًا تحت عنوان: "أضواء على السنّة المحمّدية"، وكتابًا آخر اسمه "شيخ المضيرة أبو هريرة"؛ وهما كتابان ممتعان، ويتحتّم على طلبة العلوم الدينيّة الاطّلاع عليهما، لا سيّما كتاب الأضواء الذي يشتمل على أربعمائة صفحة، وينتقد من بدايته إلى آخره كافّة آراء أهل السنّة من الأحناف والحنابلة والمالكيّة و... واحدًا واحدًا، ويُثبت أنّ هؤلاء كانوا بأجمعهم عبدة للهوى، وأنّهم انساقوا وراء الأهواء، وتركوا كتاب الله؛ وقد استدلّ على ذلك بأسلوب خاصّ، بحيث لو طالعه أيّ سنّي لما استطاع الإشكال عليه؛ إذ لم يأت فيه على ذكر اسم أيّ واحد من الأئمّة، بل استعان في استدلاله بنفس كتبهم وكلماتهم؛ فبيّن فيه مجموعة من التعارضات والاختلافات العجيبة جدًّا، وجعل كافّة هذه الكتب بأجمعها هباءً منثورًا.
ففي الكلمة التي كتبها الدكتور طه حسين في الكتاب، نجده يطرح بعض الانتقادات بخصوصه، لكنّه في الوقت ذاته يقول ما مفاده:
قد قرأت الكتاب مرّتين؛ وهو كتاب موسّع؛ فإذا انتشر البحث المطروح فيه، فإنّه سيعمل على تغيير الأوضاع، والتاريخ؛ وذلك باعتبار عمقه الكبير؛ فبواسطة هذا الكتاب، سيتغيّر العالم؛ وهو كتاب كذا وكذا!٥
هذا، مع أنّ الدكتور طه حسين كان من الأفراد المعروفين، ومن الطبقة الأولى من الكتّاب والعلماء في مصر، وكان أبو ريّة بدوره يُجلّه كثيرًا.٦
لقد كانت الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب واضحةً للغاية، كما جاء فيه الحديثُ عن السيّد مرتضى العسكريّ-سلّمه الله تعالى- وكتابه "عبد الله بن سبأ"، ومدحه؛۱ وذُكرت فيه أيضًا كتب مثل الشيخ كاشف الغطاء، ومدحه؛٢ مع أنّ الشيخ أبو ريّة لم يكن قد تشيّع! وقال السيّد مرتضى العسكريّ قبل اثنين أو خمسة وعشرين سنة: "سافرت إلى مصر، وكان أبو ريّة مريضًا آنذاك؛ فذهبت لعيادته بالمستشفى، حيث توفّي بعد بضعة أيّام من ذلك؛ وقد كان غاضبًا على عائشة بشدّة، إلى درجة أنّه كان يلعنها بكلّ صراحة!"
فمع أنّه كان سنّيًا، إلاّ أنّه كان يلعن عائشة؛ وهل تعلمون ما هي القيمة التي كانت تحظى بها عائشة عند أهل السنّة؟! كانت بالنسبة إليهم أعلى امرأة مقدّسة وملكوتيّة! ولو أنّ أحدًا خطرت بباله مسألة عنها، لكفّروه، وقطّعوه إربًا، واحتفظوا بكلّ قطعة من بدنه للبركة! فكان السيّد العسكريّ يقول: «لقد كان يلعنها صراحةً، كما كان حانقًا بشدّة على عمر وأبي بكر»؛ فسألته: «هل تشيّع أم لا؟»؛ فقال لي: «لا أعلم، ولا أدري هل تعرّض في آخر حياته إلى لعن عمر وأبي بكر أيضًا أم لا»؛ وعلى أيّ تقدير، قال لي: «باعتقادي أنّه كان مردّدًا بشأنهما، ووافاه الأجل على هذا الحال».٣
وقد تطرّق في كتابه "أبو هريرة" إلى نقد أبي هريرة؛ وأمّا معاوية، فاعتبره بكلّ وضوح جرثومةَ الفساد الوحيدة، وعدَّه معارضًا للإسلام، وهادمًا للحكومة الإسلاميّة، ومستبدلاً للحكومة الحقيقيّة والنبوّة والخلافة بالسلطنة وعبادة الأهواء؛٤ وبحقّ، فإنّ العبارات التي كان يتحدّث فيها عن أمير المؤمنين عليه السلام كان يوردها بكلّ احترام؛ فكنت أطالع إحدى هذه الموارد، فوجدته يتحدّث لصفحة واحدة أو صفحتين، ويسترسل في الحديث، ثمّ يقول في الأخير:
لَكَ اللهُ يا عليُّ ما أنصفوك في شيء؛٥ أي: «ليكن الله معك، وليُعِنك الله تعالى يا عليّ! فأينما حدّقتُ بعينيّ، رأيت أنّهم ظلموك في كلّ شيء: ما أنصفوك في شيء»
وهذا كلام رجل سنّي أ وهل تعلمون ما الذي يعنيه «لَكَ اللهُ»؟ يعني أنّه لا يستطيع أيّ موجود أن يأتي ليُعينك، ويُمدّك بالقوّة في مقابل هذا الظلم الذي ألحقوه بك؛ فالله لوحده هو من يقدر على إعانتك وإمدادك بالقوّة! وأجرُك عليه تعالى في مقابل كافّة هذه المسائل٦
ويقول في هذا الكتاب صراحةً ما مفاده:
لقد تصرّمت أعمارُنا، وعشنا لفترة مديدة، وقضينا حياتنا في هذه المسائل، بيد أنّه ينبغي تغيير هذا التاريخ بأجمعه، وتبديل هذه المذاهب برمّتها؛ إذ ما هو الداعي لكي نتّبع علماءَنا في الأخطاء التي ارتكبوها؟
ويقول جهارًا ما مضمونه:
صحابة الرسول مثل بقيّة الناس؛ لهم أيضًا جلد ولحم وأهواء نفسانيّة؛ وكلّ من سلك منهم سبيل الطاعة سيذهب إلى الجنّة؛ وكلّ من اختار طريق العصيان سيدخل النار۱.٢
غرابة القول بعدالة الصحابة بمجرّد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
فما الذي يعنيه أنّ كلام جميع الصحابة حجّة، وأنّ وجودهم صار ملكوتيًّا بمجرّد رؤيتهم للنبيّ؟! فإذا كانت السور والآيات التي تختصّ بالمنافقين ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾٣ قد وردت في حقّهم، فكيف يتسنّى لنا القول: ما إن تُوفّي الرسول، حتّى صار كافّة الصحابة المنافقين والأعداء والمتمرّدين عدولاً فجأةً؟!
يقولون: صحيح أنّ هذه المسائل بدرت من صحابة النبيّ ونسائه؛ كما جاء حديثٌ عنها في الآيات القرآنيّة؛ لكن، ما إن توفّي صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتّى صاروا برمّتهم عدولاً٤ يا للعجب! وإنّه لأمر في غاية الإعجاز، بل وأعلى من إعجاز النبيّ! لأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم حينما أراد تربية الناس، كم قاسى من المصاعب، وكم قُذف بالحجارة، وكم اتّهم بالسحر! لكن ما إن وافته المنيّة، حتّى صار كلام جميع أهل المدينة ومكّة-ومن ضمنهم الطلقاء-حجّة! فأبو سفيان من الصحابة، ومعاوية من الصحابة؛ وهؤلاء كلّهم مسلمون كانوا مع النبيّ ومع الإسلام، وكلامهم حجّة! ويقولون أيضًا: على الإنسان أن يغضّ النظر عن سوابقهم مهما كانت، ولا ينظر إلى ما مضى؛ فكل هؤلاء عدول، بل ويتّصفون بما هو أعلى من العدالة؛ فهم معصومون، وكلامهم لا يُردّ؛ وبالتالي، لا يجوز لنا التحقيق في ما نُقل عن هؤلاء الصحابة.
وهذا مسألة مجانبة للصواب ومخالفة للواقع كثيرًا؛ لأنّهم: أوّلاً، يعدّون الصحابة برمّتهم معصومين ويحتلّون المرتبة الأولى [في الكمال]؛ وعصمةُ الصحابة وعدالتُهم تستدعيان القول بحجّية كافّة الروايات المنقولة عنهم؛ وحينئذ، فإنّ الاختلاف الذي وقع بين المذاهب وجميع ذلك سيكون نابعًا من هذه الفكرة الباطلة؛ أي: بما أنّنا اعتبرنا الصحابة عدول، فإنّه علينا القول: إنّ هذه المذاهب [المختلفة] قد ظهرت بسبب ذلك؛ لكن، إذا لجأنا للنقد، وقلنا إنّ الصحابة كانوا كذا، فإنّ الأمر سينتهي، وستُقرأ الفاتحة على كافّة هذه المذاهب.٥
عدم وجود مكان لنظريّة عدالة الصحابة في عصر التحقيق والحريّة الفكريّة
والمشكلة هنا أنّكم تعلمون بأنّ الأبحاث صارت في هذا العصر عميقة ومبنيّة على التحقيق؛ يعني: إذا جلستُ-من باب المثال- أنا في مشهد، وأردت الدفاع عن التشيّع باعتبار أنّ اسمي محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ، وأنّ هذا المذهب هو مذهب والدي وجدّي و...، وكتبت بعض المسائل في هذا الخصوص، فإنّ كلامي هذا لن يعتني به أيّ أحد في العالم! فكلّ من يسعى للذود عن مذهبه-اعتمادًا على كونه يُمثّله شخصيّته ورأيه الخاصّ-لن يجد من يقبل بكلامه، وسيُعمل على استخراج ألف إشكال من كلّ عبارة من عباراته، وليس من قِبل الشيعة أو السنّة، بل من قِبل المسيحيّين، واليهود، والأفراد الذين لديهم اطّلاع على مذهبنا أكثر منّا!
ذكر أبو ريّة في كتابه هذا عبارةً جميلة جدًّا، جاء فيها ما معناه:
لا ينبغي لبعض هؤلاء الشيوخ والمحدّثين والحشويّة والأخباريّين السنّة-الذين يُسيؤون إليّ كثيرًا-أن يظنّوا بأنّني أسعى من خلال الكلام الذي أوردته هنا إلى تعليم الأجانب والمستشرقين بعض المسائل ليطّلعوا عليها؛ كلاّ يا سيّدي! فهم متقدّمون علينا، وقد توصّلوا بأنفسهم إليها، حيث عملوا قبلنا على التدقيق في كافّة كتبنا، واستخراج الإشكالات منها؛ بل أنا أريد أن أبيّن لهم أنّنا أيضًا نقتفي أثر كلامهم، وأنّا توصّلنا كذلك إلى شيء ممّا توصّلوا إليه۱
هذا، وقد جرى تأليف دائرة معارف إسلاميّة على يد هؤلاء الإفرنجيّين الذين سعوا إلى إجراء دراسات وتحقيقات بشأن الإسلام؛ ولربّما لم تُؤلّف عندنا دائرة معارف بهذا الشمول والرصانة والصدق.٢
وحينئذ، لو عمدتُ إلى نقل مسألة عن الإمام جعفر الصادق لمجرّد كونه إمامي، لجاء ألفٌ من الناس، وعملوا على التدقيق فيها؛ ولطالعوا هذه الكتب واحدًا واحدًا باللغة الأرديّة والسنسكريتيّة٣ ولغة السارتيّين٤ ولغة ...، واكتشفوا أنّ كلّ كلامي لا يوجد له أيّ مستند؛ فلو أنّ كتابًا نقل مسائل من هذا القبيل، لسقط من أصله عن درجة الاعتبار.
فحينما صارت التحقيقات في العالم المعاصر بهذا النحو، لم يعُد بوسعنا عندئذ تأليفُ الكتب اعتمادًا على أمورنا الشخصيّة، بل صار واجبًا على الإنسان أن يُخضع كتابه للحقّ، ويُرفِق فهمه وإدراكه بالدليل والبرهان؛ كأن نقول مثلاً: «إنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول كذا لهذا الدليل وهذا الدليل وهذا الدليل»؛ مع أنّ المراد من الدليل هنا ليس الذي نختلقه لأنفسنا، بل الدليل الذي يكون حقًّا عندنا وعند الآخرين، ولا يُمكن إنكاره؛ آنذاك، سيصير هذا الكتاب ذا قيمة؛ وفي هذه الحالة، سيأتي هؤلاء، ويُطالعونه؛ وليس ذلك فقط، بل سيستفيدون منه؛ ومن الممكن أن يصير هذا الكتاب مستندًا لكلامهم؛ إذ حينما يتصفّحونه، سيرون أنّ هذه المسألة موجودة في الموضع الفلاني، والمسألة الأخرى موجودة أيضًا في الموضع الكذائيّ، ويجدون أنّ أدلّته قويّة ومعتبرة لديهم، ولا يُمكن إنكارها؛ وحينئذ، لن يعود الإمام الصادق معروفًا بكونه رئيسًا لمذهبنا ومختصّنا بنا نحن فقط، بل سيشتهر باعتباره إمام حقّ بنحوٍ مطلق؛ وآنذاك، سيضحى عليه السلام معروفًا في كلّ العالم؛ وبتبعه، سيُعرف التشيّع، ويضمحلّ التسنّن، وتُقرأ الفاتحة على أبي بكر وعمر!
ففي هذا العصر، لم يعُد أهل السنّة يحظون بالاحترام بين أهل العلم، حيث نجد أصحاب الفكر المستنير يقولون بكلّ صراحة: لا نستطيع القول: «فلنتوقّف عن السعي نحو الفهم، ولنرضخ لبعض المذاهب تقليدًا، ولنتحرّز عن الاجتهاد، ودعونا نتّبع مجتهدًا آخر كان يعيش قبل ألف سنة أو أكثر»، ولا يُمكننا تلقين أنفسنا هذا الأمر، أو دعوة الآخرين إليه.
فإذا كان الله تعالى هو الذي وهبنا التفكير، وقال لنا: بوسعكم التأمّل في القرآن، فلا يُمكننا أن نقول: «كلاّ، لا يحقّ لنا أن نُعمل فكرنا في كتاب الله، بل علينا إغلاقه، كما يتعيّن علينا أيضًا وضع السنّة النبويّة جانبًا، واتّباع أبي حنيفة، وتقليده في كلّ ما يقول»؛ ولهذا، فإنّ مسألة انحصار المذاهب [في الأربعة] قد انتهت.
فها هو أحمد أمين يقول بكلّ صراحة ما مفاده: «إنّ الضربة الكبرى التي تلقّاها الإسلام جاءت عن طريق سدّ باب الاجتهاد».۱
فهذا الرجل الذي كان لأمد قريب يسخر من الشيعة، ويُثير ضدّهم اتّهامات عجيبة وغريبة-حيث إنّ الكتب المتضمّنة لهذه الاتّهامات متوفّرة لدينا حاليًّا-، نجده قد جاء الآن، وندم على ذلك؛ أي: بسبب مطالعته ومراجعته، ونتيجةً لإرشادات علمائنا العظام وتوجيهاتهم، فقد صار يقول: «إنّ الضربة الكبرى التي تلقّاها الإسلام حدثت عن طريق سدّ باب الاجتهاد».
فالإسلام دين التفكير والتعقّل والتأمّل؛ وكما هو عليه الحال، يُمكن للإنسان أن يصير مجتهدًا، وبوسع كلّ واحد أن يسلك سبيل الاجتهاد؛ وأمّا مسألة «إنّك لا تستطيع أن تكون مجتهدًا بتاتًا، ولو فُقت أبا حنيفة في العلم؛ كما أنّه عليك اتّباع الشافعيّ، ولو أضحى علمُك أكبر من علمه»، فإنّها مسألة خاطئة، حيث صار يُقال بكلّ صراحة: «إنّ هذا خطأ!»؛ فكأنّ طلائع هذه المعاني أصبحت تظهر وتبرز، وصار يتّضح مكر العامّة وخداعهم.
ويرجع هذا الأمر إلى أنّهم [أي الأجانب والمستشرقون] يشتغلون بجدّ، ويُؤلّفون دوائر المعارف، وينشرون الكرّاسات، ويُثيرون الإشكالات ضدّ الإسلام في الجرائد؛ ممّا يفرض على المسلمين تقديم إجابات؛ هذا، مع أنّ هذه الإشكالات لا تقتصر على واحد أو اثنين، بل إنّ الهجوم يأتي من كافّة الجهات؛ فنجدهم يوجّهون حملاتهم من كافّة أنحاء العالم؛ فيتعيّن على المسلمين التصدّي للجواب؛ ويا ليتهم استيقظوا مبكّرًا؛ وإلاّ، لما بلغ بنا الحال إلى ما نحن عليه.
يقول أمير المؤمنين: «الله الله في القرآن لا يسبقنَّكُم بِالعَمَلِ به غيرُكُم»؛۱ فالقرآن الكريم ليس كتابًا أنزله الله تعالى علينا لأنّه ينحاز إلينا؛ إذ لا يوجد أيّ فارق بيننا وبين بقيّة أفراد الإنسان من حيث المخلوقيّة، والله تعالى إلهُ الجميع، كما أنّ القرآن جاء لجميع البشر؛ فكلّ من أقبل عليه بقلبه جنى منه الفائدة المرجوّة، وكلّ من أعرض عنه تعرّض للعقوبة والتأديب.
وها نحن الآن نُعاقب، إذ إنّ كافّة الأحداث التي ذكرتها آنفًا هي بمثابة عقاب على عدم العمل بالقرآن، بحيث يتعيّن على الكفّار أن يأتوا، ويأخذوا القرآن، ويُطالعوه، ويعملوا [به]؛ وبعد ذلك، يُشكلون علينا بقولهم: «إنّ المسألة الفلانيّة الموجودة في مذهبكم تتعارض مع القرآن، فتعالوا، وأجيبونا عن ذلك!»؛ وحينئذ، [ما هو جواب] هؤلاء الذين يصرخون منذ ألف عام، ويقولون: «كلّ الصحابة عدول، ولا يجوز لكم بتاتًا أن تحدّثونا عن غير الصحابة، فلا تتكلّموا عن الشيعة؛ لأنّهم زنادقة، ويهود، وزرادشتيّين، و...؛ فالتشيّع يعني في الأساس حكم بني العبّاس على خلاف العروبة والإسلام وكذا وكذا...»، فكم قتلوا من الشيعة! وكم اتّهموهم! وكم سجنوهم! ولم يقتصر الأمر على الإمام الحسين عليه السلام، بل إنّهم يسعون إلى حدّ الآن إلى سحق التشيّع؛ وإلى هذا الحين، بوسعك أن تُشاهد أنّ الشيعيّ لا يُمكنه الذهاب إلى أيّ مكان يريده، ويتحدّث بما يعتقده؛ فلو ذهبتَ الآن إلى مسجد المدينة، وذكرتَ اسم عليّ، وقلتَ: «أشهدُ أنّ عليًّا وليُّ الله»، وليس حتّى في الأذان، لقطّعوك إربًا في نفس المسجد، وما تركوك تخرج منه! وهكذا الشأن أيضًا إذا ذكرت اسم السيّدة فاطمة الزهراء بنوع من التقديس؛ وأمّا اسم عائشة، فاذكره إلى ما شاء الله؛ وكذلك اسم فلان! فهذا كلّه كذب واختلاق، حيث نجد معاوية قد أبقى الناس متمسّكين بهذه الاختلاقات لمدّة ألف سنة وأكثر؛ فهذه هي سنّة معاوية والوليد بن عقبة ومروان وأنصارهم.
وهنا، نرى أنّ هؤلاء [الأجانب والمستشرقين] يدرسون هذه المسائل ويُحقّقونها؛ فدعهم يُصوّبون أسهمهم تجاه ذلك الكلام؛ فجزاء الناس الذين يسلكون سبيل العصيان هو الرمي بالسهام.
اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد