المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةنظرات عقائدية ومعرفية
التوضيح
لماذا لا يعرض التزلزل والاضطراب على أهل البيت عليهم السلام، ويعرضان على بقيّة الناس؟ وهل يُمكن للإنسان بلوغ المقامات التي وصلوا إليها عليهم السلام؟ أيّة حكمة في تعرّض الإنسان للابتلاءات؟ وما هي الميزة الأساسيّة التي افترق بها أهل البيت عليهم السلام عن غيرهم؟ وأخيرًا، ما هو الطريق الذي يتعيّن على الإنسان سلوكه لكي يكون في مأمن من التزلزل والاضطراب؟ هي أسئلة في ضمن أسئلة أخرى سعى سماحة آية الله العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة الشريفة.
هو العليم
أهل البيت عليهم السلام سبيل اتّصال البشريّة بالله تعالى
نظرات عقائديّة ومعرفيّة في بعض أصول الإسلام والتشيّع - المحاضرة السابعة
محاضرة ألقاها
سماحة آية الله العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ
وَصلّى اللهُ عَلَى محمّدٍ وَآلِهِ الطّاهِرين
ولعنةُ الله على أعدائِهِم أجمَعين
أشعار في مدح أهل البيت عليهم السلام
۱ـ بِآلِ مُحمّدٍ عُرِفَ الصوَابُ | *** | وفي أبياتِهم نَزَلَ الكتابُ |
٢ـ وهُم حُجَجُ الإلَهِ على البَرايَا | *** | بِهِم وبِجَدِّهِم لا يُستَراب۱و٢ |
«۱ـ لا يُعرف الطريق المستقيم والسبيل القويم إلاّ بآل محمّد؛ وفي بيوتهم هبط الكتاب، ونزل القرآن.
٢ـ وهم لوحدهم أسوةٌ لكافّة الناس على الأرض في طريقهم إلى الله تعالى؛ وبواسطتهم وواسطة جدّهم فقط يُمكن بلوغ ذلك المحلّ والمركز الذي لا يتسلّل إليه الشكّ والارتياب؛ فلا يكون الإنسان هناك عُرضة للتوقّف، ولا للضرر».
لكنّ بقيّة المواضع والأمكنة تكون محفوفة بالشكّ والتردّد والارتياب، بحيث أينما وضع الإنسان قدمه، يتعرّض للتزلزل؛ خلافًا لمحلّ هؤلاء؛ فالمحلّ الذي يضع فيه الإنسان قدمه، ويكون صلبًا، ومصونًا من كافّة الأخطار، هو محلّ هؤلاء. فهذا الكلام هو كلام صحيح؛ أي أنّ الكلام الذي نطق به هذا الشاعر صائب.
ويمتلك الشافعيّ أشعارًا كثيرة في الإقرار والاعتراف بالولاء لآل محمّد، وهي أشعار ذات مضامين قويّة؛ ولهذا، عدّ البعضُ الشافعيَّ شيعيًّا في الأساس؛ والسبب الوحيد في افتراقه عن الشيعة يتمثّل في أنّ مدارك فتاواه هي بعينها مدارك أهل السنّة؛ شأنه في ذلك شأن أبي حنيفة، وسفيان الثوريّ، والحسن البصريّ، وأمثالهم؛ ولو أنّه كان بنفسه على خلافٍ مع أبي حنيفة؛٣ لكن، إذا غضضنا النظر عن هذا الأمر، فإنّ له أشعارًا صادحة جدًّا بحصره للولاية في الولاء لأهل البيت، إلى درجة أنّه يقول أحيانًا:
إذا كان الرفض يعني أن يتّبع الإنسانُ محمّدًا وآل محمّد، ويُحبّهم، فليشهد جميع الجنّ والإنس أنّني رافضيّ!٤
سبب عدم عروض التزلزل على أهل البيت وطروّه على بقيّة أفراد الإنسان
وحينئذ، يأتي السؤال هنا: لماذا «بِهِم وبِجَدِّهم لا يُسترابُ»؟ فلماذا انحصر عدم التزلزل بهذا الموضع؟ ولماذا لا يكون الإنسان قد تمسّك بالعُروة الوثقى مهما كان الموضع الذي وضع فيه يده؟ ولماذا يكون عُرضةً للتزلزل والاضطراب أينما وضع قدمه؟ فإذا كانت عروة الله الوُثقى منحصرة فيهم فقط، حيث يكون التمسّك بالحلقة المتينة والحبل القويم، فلماذا يضع الإنسان قدمه أينما كان؟! إذ من الممكن أن توجد هناك حفرة، فيسقط فيها الإنسان، ويقع في الظلمات؛ وأمّا هذا المكان، فهو مكان إذا وضع الإنسان فيه قدمه، فإنّه يجده مستحكمًا وصلبًا ومفعمًا بالنور والقدرة.
بِآلِ محمّدٍ عُرف الصوابُ | *** | وفي أبياتهم نزل الكتابُ |
وهم حجج الإله على البرايا | *** | بهم وبجدّهم لا يُسترابُ |
طعامُ سيوفهم مُهج الأعادي | *** | وفيضُ دمِ الرقاب لها شرابُ |
ولا سيّما أبا حسنٍ عليًّا | *** | له في العلم مرتبة تُهابُ |
إذا نادت صوارمُهُ نفوسًا | *** | فليس لها سوى نعمٍ جوابُ |
وبين سنانه والدرع صُلحٌ | *** | وبين البيض والبيض اصطحابُ |
هو النبأ العظيم وفلك نوح | *** | وباب الله وانقطع الخطابُ |
عليّ الدُّرُّ والذهب المصفّى | *** | وباقي الناس كلّهم ترابُ |
هو البكّاء في المحراب ليلاً | *** | هو الضحّاك إذا اشتدّ الضرابُ |
بآل محمّد عُرفَ الصوابُ | *** | وفي أبياتهم نزل الكتابُ |
كأنّ سنان ذابله ضميرٌ | *** | فليس عن القلوب له ذهابُ |
وصارمه كبيعته بخُمٍّ | *** | معاقده من القوم الرقابُ |
إن كَانَ رَفْضًا حُبُ آلِ مُحَمَّدٍ | *** | فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أنّي رَافِضِي |
أنَا عَبْدٌ لِفَتَى أنْزِلَ فِيهِ هَل أتَى | *** | إلى مَتَى أكْتُمُهُ إلى مَتَى إلى مَتَى؟ |
لَو أنَّ المرتضى أبْدَى مَحَلَّهْ | *** | لَخَرَّ النَّاسُ طُرًّا سُجَّدًا لَهْ |
وَمَاتَ الشَّافِعيّ لَيْسَ يَدْرِي | *** | عَلِيّ رَبُّهُ أمْ رَبُّهُ الله |
إذَا في مَجْلِسٍ ذَكَرُوا عَلِيًّا | *** | وَشِبْلَيْهِ وفَاطِمَةَ الزَّكِيّهْ |
يُقَالُ: تَجَاوَزُوا يَا قَوْمِ عَنْهُ | *** | فَهَذا مِنْ حَدِيثِ الرَّافِضِيَّهْ |
بَرِئتُ إلى المُهَيْمِنِ مِنْ أُنَاسٍ | *** | يَرَوْنَ الرَّفْضَ حُبَّ الفَاطِمِيَّهْ |
عَلَى آلِ الرَّسُولِ صَلَاةُ رَبِّي | *** | وَلَعْنَتُهُ لِتِلْكَ الجَاهِلِيَّة |
إنّ ذلك يرجع كلّه إلى سبب واحد وحسب؛ وهو أنّ الإنسان قد خُلق بنحوٍ لا يستطيع معه التخلّص من الهوى والظنّ والقوّة الواهمة والقوّة المتخيّلة في جميع المراحل التي يقطعها في حياته، رغم طولها وامتدادها؛ وخلاصة القول أنّ أبا علي ابن سينا له بحث يُشير فيه إلى أنّ الإنسان مجرّد؛۱ ليأتي بعد ذلك الملاّ صدرا، ويقول: إنّ تجرّده أمر مسلّم، لكنّ الكلام كلّ الكلام في من يتسنّى له الوصول إلى هذا التجرّد؛٢ فقد نتمكّن من إثبات تجرّد قوّة الخيال ـ كما يُستفاد من بعض كلمات أبي علي ابن سينا٣ ـ ، إلاّ أنّ الكلام هنا هو: أنّه لا أحد يُحيط بقوّته الخياليّة والمتخيّلة حتّى يحصل على هذا التجرّد؛ ولهذا، نجد الناس يتحدّثون عن التجرّد من دون أن يكونوا قد صاروا مجرّدين.
ومن هنا، حينما أُطلق على الإنسان اسم الإنسان، فإنّ البعض قالوا إنّ أصل هذه الكلمة من مادّة النسيان؛٤ وفي الأساس، يُقال له إنسان لأنّه ينسى كثيرًا؛ فما إن يصل إلى حقّ ما، ويستوعبه، حتّى ينساه في الغد بسرعة؛ وإذا أحسن أحدٌ إليه، فإنّه ينسى ذلك بسرعة؛ وإن واجه حقًّا معيّنًا، فإنّه ينساه؛ وهكذا، إذا اعترف بأمرٍ ما، وأقرّ به، فإنّه ينساه. وذكر البعض أنّ الإنسان مشتقّ من مادّة «الأنس»،٥ لكنّ البعض الآخر قال إنّه مشتقّ من «النسيان». وعلى أيّ تقدير، حينما يتطرّق القرآن الكريم لبيان حال الإنسان، فإنّنا نجده يُمضي هذا المعنى، وأنّ هذا الإنسان قد خُلق بطريقة، بحيث يتراجع بسرعة إلى مكانه الأوّل؛ شأنه شأن مجموعة أطفال أتوا بهم إلى الصفّ، ليُدرّسوهم، فيكون المعلّم واقفًا يُراقبهم، قد كتب الدرس على اللوحة، حيث يظنّون أنّهم أطفال مهذّبون، غير أنّهم في الحقيقة قد كبحوا جماح أنفسهم، وخضعوا للنظام والترتيب خوفًا من المعلّم؛ ولهذا، ما إن يفتحوا باب الصفّ الدراسي، ويذهب المعلّم لقضاء بعض حوائجه، حتّى يجري هؤلاء الأطفال إلى الساحة لأجل اللعب، ويذهب كلّ واحد منهم إلى جهة منها؛ وحينما يرجع المعلّم المسكين، لا يجدهم في الصفّ؛ وفي الحقيقة، فإنّ الأستاذ هو الذي جمعهم بتلك الطريقة، وجعلهم مهذّبين؛ ولهذا، إن تُرك الطفل لحاله، فلن يأتي أبدًا للجلوس في الصفّ؛ ومن هنا، نجد الأطفال دائمًا يُحبّون العُطلة أكثر من محبّتهم للدراسة؛ وذلك لأنّ طباعهم تميل إلى التفرقة و... .
فالإنسان هو بهذا النحو؛ إذ ما إن يُذكّر بأنّ المسألة هي هكذا: «اثنان ضرب اثنان يُساوي أربعة؛ وأربعة ضرب خمسة يُساوي عشرين؛ وإذا وضعتَ عشرين داخل قوسين، وجعلتم ثمانية خارجهما، فإنّ النتيجة تصير مائة وستّين؛ وهو أمر واضح؛ وهكذا»، فإنّه سيُنكر ذلك في الغد، ويرفضه تمامًا! ولهذا، يتعيّن على الإنسان أن يأتي، ويقول مرّة أخرى: «يا عزيزي، إنّك تقبل بنتيجة ضرب اثنين في اثنين؛ ثمّ إذا ضربناها في خمسة، فإنّك تقبل أنّها تصير عشرين؛ إلى آخره.
وفي هذه الحالة، إذا أخذ الله تعالى بيد الإنسان قبل وفاته، فارتحل عن هذا العالم بإيمان وإقرار، فبها ونعمت؛ غير أنّ الإنسان يلجأ إلى الإنكار حتّى في ذلك العالم! أي أنّ الإنسان هو على درجة من العناد، بحيث نجده يركل بسرعة ذلك اللبن الذي حلبوه من البقرة، وبذلوا جهدًا مضنيًا لفترة طويلة حتّى يحلبوه منها، ويقضي على كلّ ذلك بركلة واحدة! وقد جاء في القرآن الكريم:
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً﴾.۱
أي: حينما نهب الإنسان نعمةً، فإنّه يغوص في هذه النعمة ويغرق فيها، وينسى كلّ شيء؛ فينساني أنا، وينسى كافّة الأمور الإيجابيّة، وينسى الحقائق برمّتها؛ لأنّه ينغمس في هوى تلك النعمة، وفي أشعّة أمواج الذهب والجواهر، وفي الخيالات التي ملأت ذهنه؛ فتجذبه هذه الأمور، إلى درجة أنّها لا تسمح لعين بصيرته بتجاوز هذا الحدّ؛ ﴿أَعْرَضَ﴾: فيُعرض بنحو مطلق؛ ﴿وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ﴾: ويتكّئ على جانبه، ويقول: ليس هناك من إله، ولا ...! ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾: لكن، إذا أصابته بليّة، وتعرّض لعقوبة، ولحقه أذى، ﴿كَانَ يَئُوسًا﴾؛ فمع أنّ هذا الإله هو الذي كان يلجأ إليه سابقًا بنحو عامّ، باعتباره هو المعتمَد والمستنَد، غير أنّنا نراه لا يتوجّه إليه حين إصابته بهذه الضرّاء لكي يأخذ بيده؛ فييأس منه مرّة أخرى.
أي: مع أنّه يكون في نعمة، غير أنّ معرفته بالله تعالى لا تكون معرفة [حقيقيّة]؛ ففي حالة إصابته بالشرّ والضرّاء، لا يعتمد على مسألة الالتجاء إلى الحقّ تعالى والتمسّك به؛ فنجد هنا أنّ الضرّاء والخير في الدرجة ذاتها والمرتبة ذاتها؛ شأنهما شأن الطاعة والمعصية. فلو أنّ الناس ارتفعوا عن مستوى هذه الطاعات العادية، وبلغوا مرتبة الطاعات المجرّدة والنورانيّة، لكان الأمر جيّدًا جدًّا؛ لكن، ما داموا لم يبلغوا هذه المرتبة، فإنّهم سيرتكبون اليوم معصية، ويلجؤون في الغد إلى الطاعة، ويعودون بعد غد إلى المعصية، ثمّ يُطيعون مرّة أخرى، حيث تكون هذه الطاعات والمعاصي كلّها متشابهة؛ فيكون الإنسان جالسًا، فيأتي على باله أن يقوم بفعل حسن، فيقوم به؛ ثمّ يخطر بذهنه أن يرتكب عملاً سيّئًا، فيرتكبه، حيث نجد هنا أنّ كلاًّ من هذه الطاعة وتلك المعصية وليدة للخيال.
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ﴾؛ أي: قل يا أيّها الرسول، إنّ كافّة هؤلاء الناس يعملون طبقًا لشاكلتهم، وبالاعتماد على تلك المادّة الأوّلية وذلك المعدن الأساسيّ وذلك القالب الذي تمّت صياغتهم على أساسه.
إمكانيّة بلوغ الإنسان للمقامات التي بلغها أهل البيت عليهم السلام
فنجد أحدهم في هذا القالب، والآخر في ذلك القالب؛ والأوّل في هذا المحيط، والآخر في ذلك المحيط؛ وأمّا الذي تمكّن من الخروج من كلّ هذه الأمور، وتحرّك في الصراط المستقيم، فإنّ الله تعالى عالم به، ومطّلع عليه، وسيهديه بأفضل هداية في هذا السبيل؛ ولا يخفى أنّ هذا الطريق مفتوح للجميع؛ لكنّ ذلك يتوقّف على شرط مفاده: أنّ الإنسان وبعدما عثر على الطريق، فإنّ عليه أن يعمد طبقًا لتلك الشاكلة إلى تجاوز ذلك النسيان، وذلك الطريق الطويل الذي انشغل فيه بالأفكار والخيالات، وأن يتحقّق بالحقّ؛ فلا ينحصر هذا الطريق بأيّ أحد، ولا حتّى بمحمّد وآل محمّد، وذلك بأن يُقال: «إنّ الله تعالى سيخلقهم يوم القيامة، أو أنّه خلقهم منذ الأزل نورانيّين وعلى شكل جواهر نورانيّة مجرّدة، وأنّه جنّبهم كافّة المعاصي، ولم يجعل فيهم القوّتين الشهويّة والغضبيّة، ولا الغريزة المادّية؛ فهم عبارة عن موجودات متلألئة ونورانيّة وطاهرة، وحسابهم منفصل عن الجميع!»؛ فهذا كلام خاطئ؛ لأنّهم يُماثلوننا من جميع الجهات: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛۱ ﴿مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾؛٢ أي: أنا أعيش في بيوتكم، وأنا أيضًا أتزوّج، وآكل؛ هذا وحسب! غاية الأمر أنّهم تمكّنوا بواسطة مثابرتهم وجهادهم من عبور هذا المسار الإنسانيّ الطويل، ووصلوا إلى موضع لم يعودوا مبتلين فيه بالنسيان؛ وهذا هو معنى ما جاء في الروايات من أنّ الله تعالى خلقهم بهذا النحو؛ أي أنّهم وصلوا في نهاية المطاف إلى المستوى الأخير من غرض الخلق؛ فخَلَق الله تعالى لأجلهم العالَم؛٣ وإلاّ، لو كان من المقرّر أن يختلفوا عنّا في أصل الوجود والخلقة، فأيّة مزيّة ستكون لهم؟! إذ سيكون الله تعالى قد خلقهم صالحين ذاتًا، وخلقنا نحن سيّئين ذاتًا؛ ويكون حسابهم منفصلاً عن حسابنا نحن؛ وبالتالي، لن يكونوا أئمّة، ولن نكون مأمومين؛ ويلزم ألاّ يُعانوا هم من أيّ خلل، كما يلزم ألاّ نتوفّر نحن على أيّ نقص أو دناءة! فدناءتنا تكمن في أنّنا نشترك معهم في نفس السنخ والأصل، غير أنّنا كسالى، وهم أهل عمل؛ وهنا يكمن بيت القصيد! فقد أصغوا للكلام؛ شأنهم شأن أطفال ذهبوا إلى الصفّ، وجلسوا هناك؛ وحينما حلّ الليل، طالعوا الدروس، ولم ينشغلوا بمشاهدة التلفاز، أو الاستماع للمذياع، أو اللعب؛ وعند الامتحان، تكون كرّاساتهم ودروسهم كلّها منظّمة، فيحصلون على درجة القبول؛ وأمّا بالنسبة إلينا نحن، فالأمر مختلف، حيث أشغلنا يومَنا وغدنا، وألهينا أنفسنا بمادّة النسيان التي منها وجودُنا ـ وليس ذلك المبدأ الأصيل الذي يتعيّن علينا الوصول إليه ـ ، كما ألهى معظم الناس وعامّتهم أنفسهم؛ ففاتتنا القافلة؛ وبقينا حينئذ نتفرّج من بعيد؛ وهذا بعينه الذي سيبعث فينا الشعور بالحسرة والندم.
وهذه مسألة مهمّة جدًّا تتمثّل في أنّه على الإنسان أن يعلم جيّدًا أنّ الأنبياء والمعصومين والأولياء لا يختلفون ـ طبقًا للآيات القرآنيّة والأخبار و... ـ عن جميع أفراد البشر من حيث الإنسانيّة؛ فكلّهم بشر، وقلمُ التكليف كُتب على الجميع؛ غاية الأمر أنّهم ساروا، ووصلوا، في حين أنّ البقيّة تخلّفوا.
يقول الله تعالى في الآية المباركة من سورة الإسراء:
﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾.۱
فقد كان هؤلاء يقولون للنبيّ: لن نؤمن لك حتّى تفعل كذا وكذا:
﴿حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾؛٢ أي: لن نؤمن بك أبدًا حتّى تُجري لنا عينًا على الأرض، ونرى بأعيننا أنّ هذه العين جارية.
﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾؛٣ أي أن يكون لك بستان من عنب، ومن تمر، وتجري في وسطه الأنهار، بحيث يكون هذا البستان ناتجًا عن عملك الإعجازيّ.
﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾؛٤ أو أن تُنزّل هذه السماء فجأة لعدّة سنتمترات، وتُهبط الشمس والقمر والنجوم، وتنزّل حجرًا كبيرًا من السماء إلى الأرض، فنتفرّج عليه؛ أو أن تُهبط الله تعالى مع جميع ملائكته إلى الأرض؛ وحينئذ، سنؤمن بك، ويكون إيماننا بك حقيقيًّا.
﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ﴾؛٥ أو يكون منزلك من ذهب، وتكون حيطانه من ذهب؛ وعندئذ، سنؤمن بك.
﴿أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ﴾؛٦ أو أن تعرج إلى السماء، ونراك ترقى إلى هناك، من دون أيّ كذب؛ ومع ذلك، فإنّ هذا لن يكون كافيًا.
﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾؛۷ فلن نؤمن بك، حتّى نراك عرجت إلى السماء، وأخذت كتابًا من عند الله، وحلّقت، إلى أن وصلت إلى الأرض، وقرأت علينا هذا الكتاب؛ ففي ذلك الحين فقط، سنُؤمن بك.
﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾.۸
يا أيّها الرسول، قل لهؤلاء الناس: إنّكم مخطئون تمامًا! وكلامكم هذا بأجمعه لا يستند إلى أيّ أساس؛ لأنّ الله تعالى ليس له موضع خاصّ بالسماء، وليس له محلّ؛ كما أنّ الكتاب الذي أُعطيتُه تنزَّلَ على قلبي عن طريق الوحي، وليس كتابًا خارجيًّا وأمثال ذلك؛ فكيف لي أن آتيكم بالله تعالى، وبملائكته؟! فحقيقة الوجود الإلهيّ تختلف عن حقيقة وجود الإنسان والبشر والشجر؛ كما أنّ الملائكة لا تمتلك ـ كالإنسان والشجر ـ هيكلاً مادّيًا.
ويقول بعد ذلك:
﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾؛۱ أجل، لو كان هناك على الأرض ملائكةٌ عوضًا عن جميع هؤلاء الناس الذين يمشون على الأرض، لأتينا حينئذ بنبيّ من الملائكة.
لكن، بما أنّ كلّهم بشر، فإنّ نبيّهم يجب أن يكون أيضًا من البشر؛ ولهذا، يتعيّن بالضرورة أن يكون النبيّ إنسانًا، وأن يُختار من بينهم؛ غاية الأمر أنّه تخطّى عالم النسيان، ووصل إلى الحقيقة والواقع والمعنى، ووصل إلى المبدأ؛ ولم يعُد حاله مثل النابض الذي يتمّ جمعه، فيبقى على هذه الحالة بسبب قوّة الفعل المسلّطة عليه؛ ثمّ يرفعون أيديهم عنه، فيرجع إلى حالته الأولى؛ لا ليس كذلك؛ لأنّه فقد تلك الحالة من الانعطاف، وصار ثابتًا ومستقرًّا؛ فهؤلاء صاروا ثابتين ومستقرّين؛ في حين أنّ الإنسان يفتقر إلى هذا الثبات والاستقرار، حيث يقول الله تعالى في عدّة مواضع من نفس هذه السورة المباركة عن هذا الإنسان الذي يعيش على الأرض:
﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾.٢
فحينما نذهب بكم إلى البحر، ونُركبكم السفينة، وتُصيبكم بليّة، ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾، ففي ذلك الحين، تنسون كافّة الأسباب والعلل والعُرى، وتلجؤون إلى الله تعالى وتتمسّكون به؛ لكن، عندما نأتي بكم إلى الساحل، فإنّه متى ما نزلتم عن السفينة، ابتليتم مرّة أخرى بالنسيان.
﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً﴾.٣
فما إن نأتي بكم إلى البرّ وجانب البحر، ونُنجيكم من الغرق (وهذا أمر واضح؛ لأنّ الإنسان لا يغرق في اليابسة؛ أ فهل يغرق فيها؟ كلاّ، فالإنسان لا يغرق في البرّ)،...؛ لكن، هل تأمنون الآن، وأنتم واقفون على اليابسة، أن يأتي ذلك الإله ـ الذي ابتلاكم وسط البحر بالعاصفة ـ بخسفٍ، فتنشقّ الأرض، وتبتلع مدينة بأكملها، وتُهلكها في باطنها، ثمّ تلتئم مرّة أخرى؟! فهل تأمنون ذاك؟!
الحكمة من تعرّض الإنسان للابتلاءات
فالخُسُف التي حدثت، والزلازل التي وقعت، فاختفت بسببها العديدُ من المدن، أ لم تكن بهذا النحو؟! فمن الذي قام بذلك كلّه؟ وهل يوجد فارق في البين؟ فالله تعالى الموجود في البحر، هو بذاته الموجود هنا؛ وهل بوسعنا القول: حينما كان الإنسان وسط البحر، فإنّ الله تعالى كان هناك؛ لكن، عندما جاء إلى الساحل، ونزل من السفينة، فإنّ الله تعالى هلك، أو ضاع، أو مات، أو انقضت حياته؟! كلاّ؛ فخيالنا هو الذي تغيّر، وخيالنا هو الخاطئ؛ وإلاّ، فإنّ الله تعالى ثابت حتّى في ذلك الحين.
فعلى الإنسان أن يصل إلى مقامٍ، بحيث يرى الله تعالى ـ حينما يدعوه ـ ثابتًا؛ فيكون هناك مع الله، وهنا أيضًا معه تعالى؛ [يقول الله تعالى:] لقد أتينا بكم الآن إلى جانب الساحل، ولم نخسف بكم الأرض، فظللتم واقفين، وإذا بحاصب يأتي فجأة، حيث يُقال الحاصب للريح التي تحمل الحصباء؛ والحصباء هي الحصى الصغيرة.۱ فإذا هبّت ريح، وألقت بالحصباء على رأس الإنسان، فإنّ أمره سينتهي، بحيث نجدها تُدمّر مدينة بأكملها في مدّة عشرة دقائق؛ وقد شوهد نظير ذلك. فهل بمجرّد أنّكم أتيتم إلى جانب الساحل، صرتم آمنين من وقوع هذا الأمر، أم لا؟ وحتّى إذا لم نقم بهذا الفعل، فإنّنا سنُرجعكم مرّة أخرى إلى داخل البحر:
﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ۙ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾.٢
فالله تعالى أتى بكم إلى جانب الساحل، فكفرتم بنعمته، ونسيتموه؛ فجاء بكم مرّة أخرى إلى داخل البحر؛ وهو ليس بالأمر المهمّ جدًّا؛ لأنّ سفر الإنسان عن طريق البحر لا يقتصر على مرّة واحدة؛ وكما أنّ الذين يركبون الطائرة قد يركبونها مرّة أخرى، فإنّ الذين يستقلّون السفينة قد يستقلّونها أيضًا مرّة ثانية؛ وحينما يأتي بكم إلى البحر، يُغرقكم فيه جزاءً لكفرانكم؛ وحتّى إذا لم يُغرقكم، فإنّه قد يُرسل عليكم قاصفًا من الرياح التي تضرب تلك السفينة، فتُحطّمها وتُهشّمها؛ وحينئذ، من الذي بمقدوره أن يأتي، ويُمسك بخناق الله تعالى، ويُدينه، ويقول: إلهي، لماذا أغرقت هؤلاء؟! أ فلم يكونوا عبادك؟! أ فلم يكونوا مسلمين؟! أ فلم يكونوا كذا وكذا؟! فأنت الذي تقول عن نفسك إنّك أرحم الراحمين و...، فإن كنت تُريد إهلاكهم، فلماذا خلقتهم؟! فأنت إله الرحمة!
فحينما أنزل الله تعالى عذابه، وأتى بذلك القاصف من الريح، وضرب تلك السفينة، فحطّمها، أو أتى بأمر آخر كان في الواقع عذابًا، هل كان له تبيعٌ؟ حيث يُراد من التبيع الذي يُتابع العمل؛ أي ذلك المحامي والوكيل الذي عيّنه الإنسان لكي يُتابع العمل ويُنهيه، ويلجأ للمحاكمة، فيُدين الله تعالى.. كلاّ، لا مجال لهذا الكلام هنا!
أيّها الإنسان، إنّ الهدف من كافّة هذه البلايا والشدائد هو تنبيهك وإيقاظك وتوعيتك وزيادة فهمك؛ ولكي تخرج من عالم الوهم، وتضع قدميك في موضع ثابت ومستحكم، حيث وضع محمّد وآل محمّد أقدامهم.
الميزة الأساسيّة لأهل البيت عليهم السلام عن غيرهم
فمعنى «بِآلِ مُحمّدٍ عُرِفَ الصوَابُ» هو أنّهم عليهم السلام ساروا في هذه الدنيا، ووصلوا إلى مقام استوى فيه بالنسبة إليهم وجودُ السفينة وعدمُها، ووجود البحر وعدمه، ووجود الطوفان وعدمه؛ وسواءً كان هناك زلزال، أو جوع، أو خسف، أو راحة، أو بستان، فإنّ ذلك سيّان بالنسبة إليهم؛ لأنّهم دائمًا مع الله تعالى؛ وهذه المسألة هي التي جعلت من الإمام الصادق عليه السلام ما كان عليه؛ ومعنى ذلك أنّ الإنسان ـ لو قلنا إنّه مشتقّ من النسيان ـ قد تخطّى هذا الأمر، ووصل إلى مقام صار فيه من المستثنيات، لا من المستثنى منه، حيث لدينا في القرآن الكريم:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾.۱
فحينما خلقنا الإنسان، فإنّنا خلقناه هلوعًا، حيث يُراد من الهلوع الجبان والوجِل والخَنوع، والذي يرغب في كلّ ما رأت عيناه، ويخاف بسرعة من الأشياء؛ فهكذا هو حال الإنسان. ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾؛ فما إن يُصبه ضرّ وبليّة، حتّى يرتفع صوته بالصراخ. ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾؛ وإذا ناله خير ما، حمله بسرعة، وأخفاه.
فالآن وقد نالك هذا الخير، لماذا تلجأ إلى إخفائه؟! خذه، واعمل على تقسيمه! فالخير الذي أتاك إنّما أتاك من الله تعالى؛ فلماذا تسعى والحال هذه إلى كتمانه؟! ولماذا تريد حظره؟!
﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾.٢
﴿لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ﴾، وليست خزينة واحدة، بل خزائن الرحمة برمّتها! فلا يتعلّق الأمر بخزينة الذهب والفضّة والفيروز و...، بل لو كانت جميع خزائن الرحمة مملوكة لكم، وقيل لكم: «أنفقوا»، لما فعلتم؛ لأنّك أنت هو أنت! فقد كنت غارقًا في هذه الأنا التي تملكها الآن؛ وأمّا إذا استطعت الخروج منها، فإنّك ستلجأ للإنفاق؛ لكن، ما دمت أنت هو أنت، فحتّى لو منحوك الخزائن، فستبقى أنتَ: ﴿إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾، وستخشى من أنّك إذا أنفقت منها، فإنّها ستنقص.
فأنت الآن خائف من أن تُنفق فينقص مالُك، وتتذرّع بقولك: «أنا لا أملك شيئًا!»؛ غير أنّ سبب ذلك لا يرجع إلى عدم امتلاكك لأيّ شيء، بل إلى أنّ نفسك تُعاني من مشكلة؛ أ فهل إنّ جميع الذي يُنفقون هم من أصحاب الأموال؟! ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾ فمن طبيعة الإنسان ومعدنه أنّه قتور، بحيث نجده يجمع كلّ ما يُعطى له؛ فهكذا هو الإنسان؛ وأمّا محمّد وآل محمّد الذين قيل في حقّهم:
بِآلِ مُحمّدٍ عُرِفَ الصوَابُ | *** | وفي أبياتِهم نَزَلَ الكتابُ |
فهم ليسوا قتورين، ولا ينطبق عليهم ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾، ولا ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾؛ فماذا ينطبق عليهم إذن؟ ينطبق عليهم ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾؛۱ لأنّ الله تعالى يقول: لقد خلقنا الإنسان بهذا النحو؛ لكن، يوجد هنا استثناء: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾، حيث وضع تعالى استثناءات صغيرة على تلك العبارة: «إلاّ الذين هم من المصلّين»؛ وعندئذ، نجده تعالى يُبيّن لنا بنفسه من يكون هؤلاء المصلّون:
﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّين...﴾.٢
فيُبيّن لنا كافّة هذه الخصائص حتّى لا نظنّ أنّه إذا صلّينا ركعتين، فإنّه يجب أن ننتظر نزول الوحي علينا؛ فليس المراد من ذلك هذه الصلوات، بل المراد تلك الصلوات؛ فهي التي تُخرج الإنسان من ذلك المـُستثنى منه الذي يتّصف بالعموميّة، ويشمل أفراد الإنسان برمّتهم، ويستثني ثلّة منهم؛ ألا وهم: محمّد وآل محمّد؛ ولهذا: «بِهِم وبِجَدِّهِم لا يُستَرابُ»؛ فلماذا هم بهذا النحو؟ فجميع الناس والمدارس والاتّجاهات والكتب والفلاسفة والمذاهب وأمثال ذلك يأتون، ويرحلون؛ فهم بأجمعهم يُسترابون؛ أي أنّهم محل ريب وشبهة؛٣ في حين أنّهم عليهم السلام لا يُكتنفون بأيّة شبهة؛ أي أنّهم بلغوا مقامًا، بحيث لو صدق عليهم ﴿تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾، لأنفقوا؛ هذا، مع أنّهم وصلوا فعلاً للخزائن، وأنفقوا.. أ فمن المعقول ألاّ يكون الذي بلغ مقام التوحيد الإلهيّ، قد وصل إلى خزائنه تعالى؟!
فماذا كان إنفاقهم؟ ففي هذه اللحظة، يجري الإنفاق في العالم بأجمعه؛ لكن، ما الذي يجري إنفاقه؟ وبكلّ يُسر وسهولة! هذا، مع أنّ إنفاقهم ليس بأن يحملوا القمح والشعير، ويسكبونه في أكياس على الميزان، ثمّ يحملون هذه الأكياس، ويُنفقونها؛ كلاّ! فهم يُنفقون الآن على كافّة عالم الوجود؛ وأقسم بالله تعالى أنّ أنفاسنا وحياتنا وإدراكنا ووجودنا وكلّ خليّة من أبداننا هي تحت الإشراف المباشر للإمام؛ وأنا لا أقصد هنا فقط مسألة الإشراف؛ لأنّ هذا مجرّد تعبير وحسب؛ بل إنّ وجودنا مندكّ في وجودهم، حيث إنّ الإمام محيط بكلّ ذرّة من علمنا، وحياتنا، ورزقنا، وحركات أيدينا، وهزّات رؤوسنا، وأوزاننا، وأفكارنا، وآرائنا، وحركاتنا، ومقاصدنا، وأهدافنا؛ كما أنّه عليه السلام مهيمن وجوديًّا على كلّ ذرّة من هذه الشجرة التي تهتزّ، وهذا الماء الموجود في داخل الإناء، وهذا الإدراك المكنون في باطن السادة المحترمين، وهذا العالم بأجمعه الذي يُعمل على إدارته، وهذه الجبال الصلبة والقاسية، وهذه الغيوم التي تسبح في السماء؛ فهذا هو الذي يُقال عنه إنّه إنفاق؛ فالمراد من الإنفاق هنا إيجادُ عالم الكثرة، والإنفاقُ تدريجيًّا في عالم المحو الإثبات من اللوح المحفوظ وأمّ الكتاب، حيث يظهر لدينا هذا الإنفاق عن طريق الأمور اليوميّة.
الطريق اللازم سلوكه للنجاة من التزلزل والاضطراب
والمقصود هنا أنّ هذا المقام غير محظور على الإنسان؛ فهذا الإنسان أعجوبة أعجب من كافّة الأعاجيب! إذ تجده أحيانًا ينحطّ إلى أسفل سافلين؛ وأحيانًا أخرى، يعرج إلى أعلى عليّين؛ فلو قمت بإطلاق حمامة، لرأيتها تارةً تُحلّق، وتنزل إلى قعر البئر، وتحبس نفسها هناك وسط القاذورات والظلمات؛ وتارةً أخرى، تُحلّق إلى أعلى السماء، وتصل إلى مكان لا يقدر الإنسان على رؤيته بتاتًا، حيث نجد أنّ الذي يصنع الفارق بين هذه الحالة وتلك هو الفكر والاختيار والهمّة.
﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.۱
أي: إننّا خلقنا الإنسان، وجعلناه سميعًا وبصيرًا، وجعلناه مصبًّا للتكليف؛ فهذا هو الإنسان! وحينئذ، إن اختار هذا الطريق، فإنّه سيمشي، وينمحي ويفنى في محمّد وآل محمّد، ويصير من «بِهِم وبِجَدِّهم لا يُسترابُ»؛ وأمّا إن تخلّى عن هذا الطريق، فإنّه سيصل إلى موضع يكون فيه أكثر اضطرابًا من جميع البهائم، وأقبح من كلّ قبيح، وأسوء من كلّ سيّئ، وأكثر دناءة ممّا يُمكن تخيّله؛ وعليه، فإنّ الإشكال الأساسيّ الذي يواجه عمل الإنسان أنّ هذه الإنسان موجود مبهم ومعقّد، بحيث مهما قام به من فعل، فإنّه لا يتمّكن ـ مع ذلك ـ من بلوغ المقام الذي تصل فيه كافّة قواه واستعداداته إلى الفعليّة من جميع الجهات.
طالعتُ كتابًا مملوءًا بالأفكار الإلحاديّة، وجرى فيه إنكار كلّ شيء؛ ولا يخفى أنّه يُقال قد جُلب من الخارج، حيث عدّ فيه الرسول رجلاً ساحرًا، ونُسبت فيه الآيات القرآنيّة والأحاديث وجميع كلمات الرسول إلى السحر؛ فقلت: إنّ هذا المسكين لم يفقه أيّ شيء! فنحن نقبل بالنبيّ بالمعنى الذي لا يكون فيه يملك أيّ شيء من نفسه، ويكون كلّ ما يملكه من الله، وتكون كلّ كلمة من كلماته نابعةً منه تعالى؛ فهذا هو النبيّ الذي نعتبره معجزةً؛ هذا، مع أنّه لو لم تكن هذه الأمور من الله تعالى، وكانت من النبيّ نفسه، لكانت عظمة هذا النبيّ أكبر بآلاف المرّات! أ لم تلتفتوا لمرادي من هذا الكلام؟! فلنأخذ من باب المثال عصفورًا، وننظر إليه، حيث تجدنا نقول: إنّ هذا العصفور عجيب جدًّا؛ إذ يتوفّر على عينين، وأذنين، ولسان، وإدراك، وإحساس، وقوّة مغذّية، وكذا، وكذا، ونقول: ما أعجب صنع الله تعالى! وهي مسألة مهمّة جدًّا؛ لكن، لو أنّ جميع هذه الأمور كانت صادرة من العصفور بذاته، ونابعة حقيقةً منه، أ لن يكون ذلك أعجب؟! سيكون هو الإله إذن! فالذي يقول: «إنّ رسول الله كان ساحرًا وكذّابًا، وقد أتى بهذا القرآن من عنده»، سيكون قد اعترف بأنّ كلّ آية من القرآن معجزة.. حسنًا، فاءتنا أنت بآية قرآنيّة واحدة!٢ وعليه، سيكون هذا الساحر قد أتى في كلّ آية قرآنيّة بمعجزة، وعلى الإنسان حينئذ أن يتعجّب أكثر؛ لكن، على أيّ تقدير، لا يُمكن للإنسان أن يرفع يديه عن مسألة الإعجاز؛ كما أنّ الذين سعوا إلى تقديم معنى مختلف عن النبيّ إنّما فعلوا ذلك بسبب جحودهم، وإلاّ، فإنّ المعجزة واضحة فيه.
«وبِهِم وبِجَدِّهم لا يُسترابُ»؛ ففي جميع الأحوال، ما دام الإنسان لم يحظَ بعدُ بموضع راسخ، ولم يتمسّك بحبل وثيق، فلن يكون بمأمن من التزلزل والخواطر والهواجس والاضطرابات، ولن يسلم من ذلك؛ فما لم يضع قدميه في مكان ثابت ومستحكم، [لن يتمكّن من بلوغ حقيقة هذه المسألة].. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾؛۱ هل سبق لكم أن شاهدتم نهرًا كبيرًا؟ توجد بعض الأنهار التي يحفُر ماؤها الشاطئَ، فيعبر جزء من النهر من تحت الأرض، ويكون التراب فوق الماء؛ فإذا مرّ الإنسان من هناك، هوى؛ وذلك لأنّ الأرض تكون قد برزت من الأسفل.. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: في السابق، كنتم تبنون بيوتكم فوق هذه الأرض التي ليس لها قعر ولا أساس؛ ﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾.٢ فجاء النبيّ، وأنقذكم، وبنى لكم بيتًا على درجة كبيرة من الاستحكام، بحيث حفر إلى عمق خمسين أو مائة متر، ووضع هناك الإسمنت، وجعل أساسه هناك؛ هذا، مع أنّه حينما ذهب إلى هناك، لم يحصل له اطمئنان، فقال: «لعلّ تحته ماء و...»؛ وخلاصة القول أنّه ذهب وضرب بالمعول في موضع لا يوجد ما هو أكثر استحكامًا منه؛ فذهب إلى جبل أو حجر لا يوجد ما هو أصلب منه، ورفع القواعد من هناك، وبيّن لنا هذا الدين والشريعة والقاموس.
وعليه، إذا تحرّكنا، فإنّنا سنصل ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى عين تلك المسائل التي وصل إليها الإمام الصادق عليه السلام، ونبلغ مقام ذلك الإنسان الكامل الذي ذكر في حقّه أحد الشعراء شعرًا حينما كان يسيرون بجنازته عليه السلام في يوم الخامس والعشرين من شهر شوّال، وأرادوا دفنه بالمدينة، حيث يُقال أنّ ذلك اليوم عُطّلت المدينة بأجمعها، وقصّته مفصّلة جدًّا؛ فيقول ذلك الشاعر:
أنا لا أعلم حقيقةً هل إنّ الجسد الذي تُريدون أن تواروه التراب هو جسد هذا الموارى، أم أنّ العالم بأجمعه سيُدفن تحت التراب مع هذا الجسد.٣
وهو على حقّ؛ لأنّه لم يكن مجرّد بدن؛ أي أنّ الإمام الصادق عليه السلام لم يكن في الدنيا مجرّد بدن، بل ارتقى، ووصل إلى الموضع الذي يُفاض منه الوجود والقدرة و[الحياة] من الله تعالى إلى عالم الوجود بأسره؛ وعلى هذا، حينما تُشيّع تلك النفس، فإنّ بدنها ليس هو الذي يوارى التراب، بل إنّ جبالاً تُدفن تحت هذا التراب!
۱ـ أَقُولُ وَقَدْ رَاحُوا بِهِ يَحْمِلُونَهُ | *** | عَلَى كَاهِلٍ مِنْ حَامِلِيهِ وَعَاتِقِ |
٢ـ أَتَدْرُونَ مَاذَا تَحْمِلُونَ إِلَى الثَّرَى | *** | ثَبِيرًا ثَوَى مِنْ رَأْسِ عَلْيَاءَ شَاهِقِ |
٣ـ غَدَاةَ حَثَا الحَاثُونَ فَوْقَ ضَرِيحِهِ | *** | تُرَابًا وَأَوْلَى كَانَ فَوْقَ المَفَارِقِ» |
فعن طريق التوجّه إلى الباري عزّ وجلّ، والمثابرة في الطريق، والاستعانة بالتوسّل والتبتّل، وإظهار الفقر والحاجة، على الإنسان أن يسعى ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى أن يفعل شيئًا يتمكّن بواسطته من الخروج من المـُستثنى منه، والدخول في المـُستثنى.
ما استَثْنَتِ الاَّ مع تَمامٍ يَنْتَصِبْ | *** | وبعدَ نفيٍ أو كنفيٍ انْتُخِبْ |
إتْبَاعُ ما اتَّصَلَ وانْصِبْ ما انْقَطَعْ | *** | وعن تَميمٍ فيه إبدالٌ وَقَعْ۱ |
ففي الاستثناء المتّصل، يتعيّن دائمًا نصب المستثنى في الجملة الموجبة؛ وأمّا في الاستثناء المنفيّ [المنقطع]، فقد اختلف أهل الحجاز وبنو تميم، حيث قال الحجازيّون بالنصب، والتميميّون بالإبدال.
وعلى أيّ تقدير، فلنبيّن هذه المسألة: على الإنسان أن يسعى للدخول في المستثنى؛ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾، فنجد أنّ الله تعالى "قرأ الفاتحة على الجميع"؛٢ ﴿إِلاَّ المـُصَلِّينَ﴾؛ فلماذا لا نسعى لكي نكون من المصلّين؟! هذا، مع أنّه لدينا مثل هذه الاستثناءات في مواضع عديدة من القرآن الكريم؛ وهي مسألة عجيبة جدًّا! حيث نراه قد اتّخذ حكمًا عامًّا؛ نظير:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.٣
فأنتم لا تعلمون ما الذي فعله الله تعالى في خلقة الإنسان حينما أبدعه؛ فقد أتى به من الأعلى، وأنزله إلى الأسفل؛ ثمّ استثنى من ذلك ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، حيث إنّ هؤلاء لا يبقون في ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، بل يتجاوزون هذه الدرجة؛ أي أنّه تعالى لا يسمح بتاتًا بأن يصلوا إلى أسفل سافلين، ويبقوا هناك؛ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛٤ بمعنى أنّ معاملتهم تكون مع الله تعالى؛ فلا يوجد هناك من يمتنّ عليهم؛ إذ لا إثنينيّة، ولا انفصال في البين! فهذا هو الأجر الذي يحصلون عليه من الله تعالى.
ندعو العليّ العظيم أن يجعلنا ـ إن شاء تعالى ـ من شيعة الأئمّة عليهم السلام، وأن يوثق على الدوام تمسّكنا بهذه العائلة الكريمة، ويُرسّخ أقدامنا، ويجعل كلاًّ من نيّاتنا وأفكارنا وصراطنا ونهجنا قويمًا ومستقيمًا؛ ويخرجنا ـ بحوله وقوّته ـ من المستثنى منه، ويُدخلنا في المستثنى.. إن شاء الله تعالى!
اللهم صل على محمد وآل محمد