أهميّة الاستقامة في مسير الحقّ

هو العليم

أهميّة الاستقامة في مسير الحقّ

محاضرة عيد الغدير لعام ۱٤٢٣ هـ ق

محاضرة ألقاها

آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

قدس الله سره

أعوذُ بِالله مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم

بسم الله الرّحمن الرّحیم

و صلّی اللَه علَی سیّدنا و نبیّنا أبی‌القاسم محمّدٍ

و علَی آله الطّیبین الطّاهرین و اللّعنةُ علَی أعدائِهم أجمعین

«الحمدُ لله الّذی جَعلَنا مِن المُتَمسّکینَ بوِلایةِ أمیر المؤمنینَ والأئمّةِ المَعصومینَ علیهم السّلام.»^۱ 

﴿ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾.^٢

الذين قالوا إنّ ربّنا ومربّينا وراعي أرواحنا وأجسامنا هو الله، والذين استقاموا على ذلك وكانوا ثابتين ولم يفرّوا من الميدان، ولم ينسوا ذلك التعهّد وتلك المسؤوليّة بسبب أحداث المدّ والجزر الاجتماعيّة، فإنّ ملائكة الرحمة تتنزّل عليهم دائمًا وتُنزّل على قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم أن لا تفسحوا المجال للخوف أن يتسرّب إليكم! ولا تقلقوا على عواقب تبليغ الرسالة الإلهيّة! ولا تحزنوا لما يحدث! ولا تتأثّروا بالكلام الذي يقال وللقلّة والنقص! وفي النهاية والنتيجة أبشروا بالجنّة والنعم الإلهيّة التي وعدتم بها. 

هل يوم الغدير يوم عيد للإمام أم يوم مصيبة عليه؟

اليوم هو يوم عيد الغدير، وقد روي عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: 

یَومُ غَدیرِ خُمّ أفضَلُ أعیادِ أُمّتي^٣ فأفضل أعياد الأمّة والذي ينبغي أن يحسب له حساب ويُحترم هو عيد الغدير، فلماذا هو هكذا؟ ما هي خصوصيّة يوم عيد الغدير وما الفرق بينه وبين سائر الأعياد؟ أفهل نصب النبيّ أمير المؤمنين بالخلافة يستحقّ أن يتّخذ عيدًا؟

لقد نصب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمير المؤمنين عليه السلام بالولاية على أرواح وأموال وأعراض المسلمين وتمام شراشر وجودهم، وكما نصّت الآية الشريفة فإنّ لرسول الله أولويّة علينا واختياره مقدّم على اختيارنا: 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ﴾^٤

ليس لأيّ مؤمن ومؤمنة الحقّ إذا حكم الله ورسوله عليه بحكم وأمروه بأمر أن يكون لهم اختيار في المخالفة. 

ما هي حدود ولاية النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم؟

وبمناسبة بيان هذه المسألة فقد تذكّرت الآن هذا الأمر، فقد كنت يومًا بخدمة المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه في إحدى أسفاره إلى مشهد، فجاءه أحد العلماء من الذين يدرّسون بحث الخارج والمدّعين أنّ لديهم تلامذة كثيرين يشاركون في درسه، وكنت أنا حاضرًا في ذلك المجلس، وجرى الحديث حول هذه المسألة وأنّه هل لرسول الله والأئمّة عليهم السلام الحقّ أن يكلّفونا بأمور ومسائل لا نرضاها ولا نحبّها؟ كأن يأمروا أحدنا مثلاً بأن طلّق زوجتك! أو بع دارك وامض إلى الصحراء وعش في خيمة! أو يأمروا بإنفاق جميع أموالنا في سبيل الله! فهل يمكنهم أن يأمروا بذلك؟

كان ذلك الرجل يقول: 

يا سيّد هذا الأمر واضح البطلان إلى درجة يجعله مستغنيًا عن الاستدلال وبطلانه بديهيّ! فالإمام لا حقّ له أن يقول للإنسان طلّق زوجتك! لا حقّ له أن يقول للإنسان بع منزلك وأنفق ماله في سبيل الله! ليس له الحقّ أن يقول للإنسان أعدم نفسك! ليس له الحقّ أن يقول للإنسان أزل نفسك من الوجود! ولا حاجة إلى إبطال ذلك، وقد طرح هذا الأمر عندما كنّا في النجف وكنّا نشارك في درس فلان، فقال فلان والذي هو من العلماء: هذه المسألة واضحة البطلان حتّى إنّ بائع الألبان في زقاقنا يعرف ذلك! 

لم يقل المرحوم العلاّمة شيئًا. وعندما غادر ذلك الرجل التفت إليّ وقال: كم هو مستوى معرفة هؤلاء بالولاية وبأوامر ونواهي معرفة الإمامة؟! 

أإلى هذا الحدّ لم يلتفت هؤلاء إلى أنّ لدينا في الأخبار^۱ وفي الآيات^٢ صراحة في هذا الأمر؟! فهذا لا يحتاج إلى معرفة الإمام! ألم يأمر رسول الله ذلك الأنصاريّ ـ رغم مخالفته لزواج ابنته من ذلك الشابّ الفقير ـ أن زوّج ابنتك من ذلك الشابّ؟!^٣ أولم تنزل الآية حول زينب ابنة عمّة النبيّ رغم عدم رغبتها بالزواج من زيد: 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ﴾؛^٤

وأنّه ليس للمؤمن ولا للمؤمنة أمام أحكام الله ورسوله حقّ في الاختيار! 

فالتفتت زينب إلى النبيّ وقالت: يا رسول الله أنت تقول ذلك من عندك أم من عند الله؟

فأخبرها النبيّ بأني لا أقول من نفسي في مورد من الموارد!^٥

فهذا يعني أنّ الله تعالى من حيث سلسلة مراتب العليّة هو في أعلى مرتبة بلحاظ خلق الإنسان وعالم الخلق، ولذلك فهو أقرب إلينا وأولى بنا في القرار حول أعمالنا، وهذا الأمر بعينه ينتهي إلى رسول الله وأولاده بواسطة سلسلة مراتب العليّة. 

فالآن إمام الزمان عليه السلام له علينا عين تلك الولاية التي هي لله علينا بدون أيّة ذرّة من الزيادة أو النقصان، ولا يختلف الأمر أبدًا، فإمام الزمان له بالنسبة إلينا عين تلك الحيثيّة التي هي لله، غاية الأمر أنّه لا يأمر ولا ينهى الآن أن افعل كذا، لأنّ الناس لا يحتملون، ولربّما لا يقبلون، لذلك فإنّه يراعي ذلك. 

نحن علينا أن نقرع في وجودنا أجراس الإنذار حول هذا الأمر، ونصل إلى هذه النقطة وأنّه إذا لم يأمر إمام الزمان عليه السلام أفلا يجب علينا نحن أن نسعى إلى رضاه وإلى تحقيق نيّته وعلينا فقط أن ننتظر صدور الأمر أو النهي من عنده؟! 

انتقال ولاية رسول الله إلى أمير المؤمنين يوم الغدير 

لقد نقل النبيّ وببيان بليغ وصريح تلك الولاية بعينها التي كانت له على المؤمنين في أيّام حياته إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فقال: 

«ألَستُ أولیٰ بکُم مِن أنفُسکُم؟!»^۱ 

فهذه كانت إقرارات انتزعها النبيّ منهم! 

أنتم الآن لكم الخيار في أن تخرجوا من هذا المجلس أو لا تخرجوا، وهذا الأمر بيدكم! ولكن لو أنّ رسول الله كان هنا وكان يقول: يجب أن تجلسوا هنا، لصار الخروج من هنا محرّمًا! أنتم لديكم الخيار في أن تأكلوا هذه الورقة أو لا تأكلوها! ولكن لو أنّ رسول الله كان يقول عليكم أن لا تأكلوا هذه الورقة لصار أكلها حرامًا، ولا موضع هناك للسؤال بـ "لماذا" وأنّه لماذا علينا أن لا نأكلها؟! نحن لنا الخيار في أن نقوم بهذا الزواج أو لا نقوم به، ولكن لو أنّ رسول الله قال تزوّج هذا الزواج، فإنّ عدم القيام به حرام، أو إذا قال لا تتزوّج فإنّ القيام به سيكون حرامًا! وعندما يقول رسول الله والإمام: قم بهذه المعاملة أو لا تقم بها! قم بهذا العمل ولا تقم بذاك! فلا معنى للتدخّل الفضوليّ في شأن النبيّ والإمام! 

هذه المسألة هي مسألة الولاية، الولاية التي هي لرسول الله هي من هذا النوع، وفي يوم الغدير وردت هذه الولاية على أمير المؤمنين. قال النبيّ: ألست أولى بكم من أنفسكم؟! وقال الجميع: بلى.

تغيّر حال الناس بعد مرور سبعين يومًا من واقعة الغدير

وأنا متعجّب جدًّا من هؤلاء الناس الذين يبلغ عددهم على الأقلّ ثلاثة آلاف نسمة سمعوا كلام رسول الله وأقرّوا بأولويّة ولاية رسول الله على أنفسهم، ولكن وقبل أن يغادر رسول الله الدنيا حيكت المؤامرة على النبيّ نفسه وعلى مبادئه! فكم كان من الوقت الفاصل بين حادثة الغدير وشهادة النبيّ الأكرم في الثامن والعشرين من صفر؟ كان سبعين يومًا! 

إن لم تقبلوا بولاية النبيّ فلماذا تقولون: بلى نقبل بها؟! وإن كنتم تقبلون بها فماذا تريدون أصرح من ذلك وأن يأتي النبيّ ويأخذ بيد أمير المؤمنين إلى جانبه ويرفعها ويقول: هذا عليّ. لا أحد المسمّين بعليّ. فلو أنّ النبيّ قال: فعليّ مولاه! لكان أهل السنّة الآن يكتبون أنّ النبيّ قال: عليّ، فهل هو عليّ بن أدهم أم علي بن خالد أم عليّ بن زيد؟ ولاخترعوا في النهاية عليًّا من عند أنفسهم وقالوا هذا أيضًا إنسان جيّد وله هذه الخصوصيّات، ولكنّه قال: هذا عليّ مولاه. يعني عليّ هذا الذي هو إلى جانبي هو مولاكم. 

لقد أحكم النبيّ الأمر بحيث إنّه إذا أراد أيّ عالم عديم الدين والإنصاف من أهل السنّة أن ينكر الأمر فهو مجبور أن ينكر حادثة الغدير من أصلها، فالنبيّ لم يترك مجالاً! ولو أنّ النبيّ قال: عليّ، لقالوا: مراده عليّ بن زيد! هؤلاء الذين ينكرون بكلّ سهولة حادثة حضرها على الأقل ثلاثة آلاف حاجّ من الحجّاج، لو كان بيدهم تفسير وتأويل فماذا كانوا سيصنعون؟! لذلك فإنّ النبيّ لم يترك مجالاً لأيّ تأويل فقال: هذا عليّ. عليّ هذا الذي ترونه إلى جانبي هو مولاكم، وقد قبل الجميع ورضوا وبايعوا، ولكن لم تمض سبعون يومًا حتّى تخلّوا عن تلك البيعة! 

تقول الآية: 

﴿ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ﴾؛^۱ 

حتّى إنّ النبيّ قبل شهادته تحدّث وقال للنّاس صريحًا: «إنّی تارِك فیکُم الثّقلَینِ؛ کتابَ اللَه وعِترتی!»^٢ فقد قال ذلك صريحًا، ولكن نحن نرى أنّ الناس قد تراخوا ولم يهتمّوا كما ينبغي بالمبادئ التي قبلوا بها. يقولون: "فلننظر الآن ماذا سيحدث! حسنًا فنحن من المحبّين له! من غير المعلوم ما هي حقيقة الأمر! الله كبير ومن لديه اطّلاع عن غده؟!" إنّ هذا الدين وهذا التعهّد لا فائدة منهما. 

اختيار السنن والتقاليد غير الإسلاميّة بدلاً من الغدير 

لماذا يجب أن يكون عيد الغدير أفضل أعياد الأمّة؟ قرّت عين النبيّ إذا نظر إلى هذه الأمّة التي ليست فقط لا تعدّ عيد الغدير أفضل أعيادها، بل التي تجعل عيد النيروز الذي هو عيد المجوس والزردشتيين عيدًا لها، والتي تخوض في الاحتفال والرقص ويبارك بعضها لبعض باخضرار العلف في المروج، ولكن إذا سألنا اثنين من أطفال المسلمين أن ماذا جرى في يوم الغدير وماذا حدث؟ لقالا: لا ندري! 

قبل بضعة أيّام دخلت إلى أحد المتاجر في السوق لأشتري شيئًا، وكان صاحب المتجر رجلاً كبيرًا في السنّ ذا نفس طيّبة وقلب طاهر، وعندما دفعت له ثمن ما اشتريت، أخرجت مالاً آخر وقلت له: هذه هديّة عيد الغدير الذي سيكون بعد يومين أو ثلاثة. فشكرني كثيرًا وابتهج وقال: نعم يا سيّد عيد النيروز أيضًا قادم! فقلت: كلاّ إنّ عيد النيروز عيد المجوس، ونحن لا نقبل به! 

فقال: إنّ الشيخ عبّاس القمّي كتب عنه في مفاتيح الجنان! 

قلت: لقد أخطأ إذ كتب عنه! إنّ إمامنا ليس الشيخ عبّاس القمّي صاحب مفاتيح الجنان! 

رواية موسى بن جعفر عليهما السلام في عدم مشروعيّة النيروز

عندما أقام المنصور الدوانيقيّ احتفالاً عامًّا بالنيروز في المدينة ودعا إمامنا موسى بن جعفر أن احضر أنت أيضًا في هذا الاحتفال العامّ، قال الإمام في جوابه: 

«إنّی قد فَتَّشتُ الأخبارَ عن جَدّی رسول اللَه فَلَم أجِد لِهذا خَبرًا و إنّهُ سُنّةٌ لِلفُرسِ (وهناك عادة للزردشتيين في اتّخاذ اليوم الأوّل من النيروز حتّى الثالث عشر الذي هو يوم نحس عيدًا وتاريخ ذلك مفصّل)^۱و مَحاها الإسلامُ و مَعاذَ اللَه أن نُحییَ ما مَحاهُ الإسلام»!^٢ 

وهناك في الرواية الموضوعة الواردة في المفاتيح أمور إذا أراد إنسان أن يراجع الرواية بنفسها لاكتشف كونها موضوعة وكاذبة: ففي هذا اليوم رست سفينة نوح، وفيه حصل كذا وكذا… وهناك مسائل أخرى في هذا المقام.^٣

لماذا كان الغدير أعظم الأعياد؟

إنّ هذا العيد هو أعظم وأهمّ عيد؛ لأنّ أهمّ وأعظم مسألة للإنسان في عالم الخلق هي سعادته وكماله. أفهل لدينا ما هو أرفع من هذه المسألة؟! 

فمن باب المثال عندما ننظر إلى بدننا وجسمنا نرى بالوجدان هذا الأمر، فالله أعطانا أعضاء، يدًا وأصابع وأظافر وشعرًا وجلدًا، ورجلين وقلبًا وأمعاء ورئة ودماغًا و… فهذه أعضاء وهبنا الله إياها وبواسطة هذه الأعضاء يتحقّق جسم الإنسان. 

إنّ أوضح وأبده مسألة هي أنّه إن كان لا بدّ من أن يحافظ الإنسان على هذه الأعضاء ودار الأمر بين أن يحافظ على بعضها دون بعض، فإنّه يحافظ على تلك الأعضاء الرئيسيّة، لأنّ بقاء بدن الإنسان إنّما هو بها. فمثلاً لو دار الأمر بين أن يقطعوا إصبع الإنسان أو يده، فمن الواضح جدًّا أنّ الإنسان يقطع إصبعه! أو لو حصل مرض في سنّه يضرّ أيضًا بالعين ودار الأمر بين اقتلاع السنّ أو العين فهل يقتلع الإنسان عينه أم سنّه؟ أو لو حدث مرض ودار الأمر بين أن يقطع مقدار من الأمعاء أو تقتلع المعدة، فهل يقتلع الإنسان معدته أم ذلك المقدار من الأمعاء ويلقي به جانبًا كالزائدة مثلاً؟ 

هذا الأمر واضح وبديهيّ والإنسان يلتفت دائمًا إلى الأشرف والأهمّ من أعضاء بدنه. وأهمّ أعضاء البدن هو الدماغ، فدماغ الإنسان هو الذي يجب أن يحافظ عليه الإنسان ويهتمّ به أكثر. 

تفوّق جانب الباطن على الظاهر في الأهميّة

هذا الأمر الذي ذكرته لكم يرتبط بالجانب الظاهريّ من الإنسان، أمّا الجانب الواقعيّ للإنسان والذي هو الإنسان والنفس، والوجود الذي يبقى حيًّا بعد هذا وله استقرار بعد هذا، ويستمرّ في الحياة بعد هذا ويتكامل! فكلّما مرّ الزمان على هذا البدن عجز وضعف وزالت الخلايا حتّى يقال له: تفضّل بسم الله. لقد انتهى سجلّ هذا البدن! أمّا سجلّ ذاك البدن وتلك النفس فهو مفتوح، ولا طريق هناك للعجز، لأنّ خلايا روحنا ونفسنا لا تفسد في وقت من الأوقات، وإن كانت تفسد فهي تفسد بطريقة أخرى. فعندما خلقنا الله ختم علينا بخاتم الأبديّة، فنحن موجودون، وأمّا قبل أن يخلقنا فلم نكن موجودين، ولكن ما إن خلقنا فإنّ سجلّنا قد فتح ولن يغلق أبدًا. أمّا ماذا نكتب نحن في هذا السجلّ فهذا أمر آخر. هل نكتب فيه الكذب والخداع والسرقة والخيانة، أم نكتب فيه العبادة ورضا الله، فهذا بأيدينا نحن، ولكن السجلّ لن يغلق من الآن فصاعدًا، بخلاف سجلّ جسم الإنسان فإنّه يغلق. 

الآن إذ أتكلّم معكم كم من الناس قد ماتوا في المستشفيات؟ انظروا كم إنسانًا يموت خلال ساعة حتّى الظهر في طهران، في إيران، في المستشفيات، في المنازل، وفي سائر الأماكن؟ سترون فجأة أنّ ألف إنسان قد ماتوا حتّى الظهر ولكن الذي مات هو أجسام هؤلاء الألف، أمّا نفوسهم فلم تمت! كان الجسم لباسًا خلعوه وألقوه جانبًا، ولكنّهم هم لهم وجود ولهم حياة وقد فتح سجلّهم للتوّ ويقال لهم: ماذا صنعتم في هذه الدنيا؟ تفضّلوا وادفعوا حسابكم! ماذا صنعتم في هذه الستين سنة والخمسين سنة وكيف قضيتموها؟ إذا نظر إلى بدنه رأى أنّ العائلة والزوجة والأطفال والأولاد والأصدقاء والشركاء يأتون ليحملوا بدنه، ولكنّهم لا يحملونه هو! هو ينظر هكذا! وكم هو جميل ويا لها من سعادة أن ينظر الإنسان في تلك الحال فيجد نفسه في موضع رضى الله. 

كان المرحوم العلاّمة يقول: 

في إحدى رحلاتي إلى كربلاء جاء أحد الأصدقاء وقال: يا سيّد فلان، عندما كنت أذهب الآن إلى حرم سيّد الشهداء رأيت الناس يحملون جنازة وقد جلس عليها كلب قويّ وأسود اللون ولكنّ الناس لا يرونه، وهم مشغولون بقول: لا إله إلا الله هكذا. وعندما وصلت الجنازة إلى باب صحن سيّد الشهداء عليه السلام رأيت هذا الكلب قد نزل عن الجنازة ووقف هناك وأدخل الناس ذاك البدن إلى الداخل.^۱

هذا الكلب هو السجلّ المفتوح دائمًا. وعليك الآن أن تقول ماذا صنعت في هذه الدنيا ولماذا جعلت نفسك على شكل كلب؟ إنّ جسمك هو هذا الذي حملوه وطافوا به مرّتين حول الضريح ولا فائدة منه ثمّ يجعلونه في التراب ويلقون على وجهك مقدار مرفشين من التراب ولكنّك تبقى في الكلب! أفهل يمكن أن يدفنوك أنت أيضًا ويعدموك؟! 

بناء على ذلك، ونظرًا إلى الرفعة الكائنة بين نفس الإنسان وبدنه، فإنّ الاشتغال بالنفس لا يقبل المقارنة مع الاشتغال بالبدن والأسنان والعين والرأس والدماغ والأيدي والأرجل، لأنّ هذه ستزول غدًا، سواء زال بنفسه أو أزالوه كأن يلقوا على رأسه قطعة من الآجرّ، أو يقع حادث سير في الشارع فيموت بكلّ سهولة! والآن حوادث السير سهلة للغاية! فإذن علينا أن نبحث عن ذلك الشيء الذي سجلّه باق إلى الأبد! 

علّة أفضليّة عيد الغدير على سائر الأعياد

فهل التفتنا الآن لماذا عيد الغدير هو أفضل أعياد الأمّة؟ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام في عيد الغدير يستلم الولاية على الروح والنفس ليربّيها نحو الكمال ويغدو مربّي النفوس والقلوب نحو الكمالات. المسألة هي هذه! حتّى الآن كان النبيّ، لقد بذل الجهود مدّة ثلاث وعشرين سنة، فبلّغ وبيّن الحقائق، عاش الشدائد والصعاب، والآن يريد أن يعهد بهذه المسؤوليّة إلى أمير المؤمنين. 

عندما كنت حاضرًا في المجلس كنت أستمع جيّدًا إلى العبارات التي يقرأها السيّد المكرّم من كتاب المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، فرأيت أنّ هذه العبارات وحيٌ، فإذا ذهب الرفقاء إلى المنزل وفتحوا الكتاب وطالعوه بدقّة سيلتفتون إلى ما أقول. 

لقد فكّرت في كلّ جملة وجملة ممّا قرأ، فرأيت أنّ هذه المعاني لا يمكن أن تصدر إلا عن وليّ هو يحسّ بنفسه بما أحسّ به أمير المؤمنين يوم عيد الغدير، وإلاّ لما أمكنه أن يبيّن الأمر هكذا. إنّه إحساس المسؤوليّة بعينه، وإحساس التعهّد بعينه. 

دقّقوا في كيفيّة عباراته وماذا استعمل وكيف بيّن؟ إنّه يريد أن يقول إنّ أمير المؤمنين لم يتوّج نفسه في يوم الغدير بتاج الرسالة وتاج الصدارة ولم يحتفل بسبب الوصول إلى مقام رئاسة الولاية العامّة هذا، ولم يكن له أمر ونهي وسرور ورقص وأمثال ذلك، بل بدأت مصيبة أمير المؤمنين للتوّ في ذلك اليوم، المصيبة عينها التي أصابت رسول الله بعد حادثة البعثة. 

حال رسول الله عند البعثة والمهمّة الصعبة

لقد اختلى النبيّ بالله لسنوات ولم يكن له شأن بأحد من الناس، وكان لا يُعرف بين الناس إلا بعنوان محمّد الأمين. فلم يكن لأحد شأن بالنبيّ ولا كان للنبيّ شأن بأحد، وفقط كان يسافر برفقة عمّه أحيانًا. ثمّ تزوّج وكان يقضي حياته الهادئة مع خديجة. وكان يخرج لأيّام وأسابيع وأحيانًا لأربعين يومًا من مكّة ويترك مكّة يختلي بربّه وحيدًا في غار حراء. وكانت السيّدة خديجة تأتيه كلّ يومين بالطعام والماء لأنّه لم يكن هناك ماء ولا طعام، فليس هناك سوى صخرتين كبيرتين إحداهما إلى جانب الأخرى مشكّلتين شبه غار بمقدار خيمة لإنسان واحد فلا يمكن أن يكون فيها اثنان أيضًا. 

لقد قصد النبيّ ذلك المكان وهو يناجي ربّه ويدعوه، سكران في أنوار جمال الله، لا يعرف ليلاً ولا نهارًا، ولا حرًّا ولا قرًّا، وكما يقول جناب حافظ: 

يقول: أنا الذي كنتُ أتكدّر بأنفاس الملائكة، صرتُ أتجرّع لأجلك عَذْلَ الخلائق!».

فالنبيّ هناك لا شأن له بالملائكة أصلاً وهو فقط ممحوّ في الجمال الإلهيّ وفجأة يأتيه الأمر: اذهب بالرسالة بين الناس، وأيّ أناس؟! واقعًا كانوا تحفة! من جميع الجهات كانوا تحفة! من حيث التوغّل في الكثرات والتخيّلات والأنانيّات والاعتبارات! اذهب وأخرج كلّ هذه الاعتبارات والأنانيّات والتخيّلات والتصوّرات الواحدة تلو الأخرى بالمعول والمطرقة والإزميل والفأس من أذهان هؤلاء! 

يا ويلتاه! يا إلهي أيّ ذنب ارتكبت أنا حتّى تطردني من قربك ومقامك؟! لقد كنت مأنوسًا حتّى هذه اللحظة ولم يكن لديّ غمّ ولم يكن لأحد بي شأن. 

أتعلمون ماذا أريد أن أقول؟ اليوم هو يوم تعمّم سادتنا الكرام، وأنا أقول لهم هذا الكلام، فالتفتوا! إلى الآن لم يكن لأحد شغل معنا، لم يكن أحد يقول لنا إلى أين ذاهب ومن أين أنت آت؟ كنّا نسير بين الناس بارتياح ولم يكن ينظر إلينا أحد بحدّة، لم يكن أحد يتفل في وجوهنا، ولم نكن سببًا لنفور أحد، كنّا نذهب ونرجع مرتاحين، ونسير في المجتمع كسائر الناس، وكنّا نستمتع من النعم الاجتماعيّة بحمد الله ببال فارغ وحريّة كاملة، والآن فجأة يقولون قم واذهب إلى أبي سفيان وأبي جهل! قم واذهب إلى الوليد وعتبة! قم وامض إليهم وقل لهم أن يهجروا جميع الأنانيّات! يجب أن تتركوا سجداتكم وعباداتكم! يجب أن تتركوا تخيّلاتكم وترفضوا كلّ ذلك! يجب أن تتركوا الرئاسات والمكانات وأنّكم من قريش فممن أنت؟ يجب أن تتركوا المولويّة والعبوديّة! يجب أن تخرجوا جميع الأمور التي ترسّخت في أذهانكم وشراشر وجودكم والتي تحجّرت وصارت كالفولاذ شديدة ومحكمة، يجب أن تقولوا أنا كذلك الغلام، وذلك الغلام مثلي وليس هناك فرق بين العبد والمولى! يجب أن تقولوا أنا كالمرأة والمرأة مثلي ولا فرق بين المرأة والرجل! يجب أن تقولوا وتقرّوا أنّ الآمر والناهي في عالم الوجود هو الله المتعال! 

أفهل يقبل أحد؟! لماذا يقبل؟! لأنّ راحتهم كانت في ذلك وعاشوا سنوات كثيرة على تلك الحال. ومن هو الذي يكره أن لا يضغط على نفسه؟! من هو الذي يكره أن يكون مرتاحًا؟! من هو الذي يكره أن يسير في المجتمع هكذا كما يسير الآخرون؟! إن كانوا يقولون صوابًا، فإنّهم يكونون مثلهم حتّى يتبيّن الحال! لقد حصلت هذه البعثة فجأة في السابع والعشرين من رجب. 

عبارة المرحوم العلاّمة هكذا كانت عندما نزل الوحي على النبيّ وأنّه عليك أن تقوم فقد انتهت هذه الخلوات، فقد شرعت أوّل مصيبة للنبيّ! حتّى الآن كان هناك أنس وسكر وسرور وخلوة مع المحبوب وأمثال ذلك، والآن ما حصّلته فعليك أن تبذله في المجتمع! يأخذونك ويقيّدونك ويضربونك ويلقون بك في السجن و….

فهذا هارون يلقي موسى بن جعفر أربع سنوات في السجن! والشمر ويزيد يقطعان رأس الإمام الحسين ويدوسان بدنه بحوافر الخيل ويسيرون بنسائه وأبنائه من مكان إلى مكان! يأسرون الإمام السجّاد، ويأخذون الإمام الصادق، ويأخذون الإمام الباقر، ويلقون بالإمام عليّ النقيّ في السجن، ويسمّمون الإمام الحسن! فهل هذا راحة؟! 

هل كان موسى بن جعفر يحتفل ستّ سنوات في السجن؟! وهل كان يحتفل الإمام السجّاد في تلك الأغلال والزناجير والتي لدينا في الرواية أنّ الإمام الباقر عندما كان يغسّل بدنه كانت آثارها لا تزال موجودة^۱؟! هل لهذه الرئاسات احتفال؟ هل لهذه الرئاسات فرح وسرور؟ هل لهذه الولاية وهذه الإمامة التي وصل إليها الأئمّة رقص وتصفيق؟! هل فيها اتّهام لهذا وذاك وإراقة ماء وجه الإسلام؟! 

فأيّ رئاسة وأيّ ولاية هي ولاية الله؟ تلك الولاية والرئاسة التي تتقبّل المسؤوليّة، لا التي تتخلّى عن المسؤوليّة! إن كنت صادقًا فتفضّل وامش في الشارع، لا تسر في السيّارات المصفّحة من المنزل إلى المكتب ومن المكتب إلى المنزل بعيدًا عن مرأى الناس إلا في بعض الأوقات! هي تلك الرئاسة والمسؤوليّة التي إذا خرج من غار حراء للقيام بها لحق به الأطفال والأوباش يرمونه بالحجارة ويجرحون أقدامه ويفدغون رأسه ويشعلون الحرب عليه!^٢ وفي معركة أحد وحدها أصيب أمير المؤمنين عليه السلام بتسعين جراحة.^٣ فهل الوصول إلى هذه الرئاسة يستحقّ الرقص؟ 

اذهبوا ودقّقوا في عبارات المرحوم العلاّمة هذه لتروا أيّ ألم كان يعاني وماذا كان يريد أن يقول، وعن أيّ حقيقة كان يودّ كشف الستار! ومن أراد أن يتقدّم لتحصيل رضا الله فليتفضّل بسم الله فهذا الطريق مفتوح أمامه!

هذه هي قضيّة عيد الغدير، اتّخاذ عيد الغدير عيدًا هو لأجل أنّنا اليوم حصلنا هذه النعمة الإلهيّة العظمى، وهي أنّه إن لم يدم بدننا لأكثر من يومين أو ثلاثة وإن لم يستمرّ جسمنا أكثر من خمسين أو ستّين سنة في هذه الدنيا، فإنّ الله جعل لنا مربّيًا بحيث أنّا إن كنّا شاكرين ومتّبعين ومتابعين فإنّ ذلك المرّبي محيي نفوسنا إلى أبد الآباد! ذلك المربّي هو أمير المؤمنين وأبناؤه حتّى إمام الزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء اليوم. 

وبناء على ذلك فإنّ هذا العيد ليس لإمام الزمان بل هو لنا نحن! هذا العيد لم يكن لأمير المؤمنين لكي يأتي ويعلن السرور فيه، بل هو بالنسبة إليه مصيبة ومشكلة! 

مصائب أمير المؤمنين بعد الولاية

ألم تكن هناك مصائب؟! لقد حصل أوّل محكّ وتجربة بعد شهادة رسول الله، وبخلافة أبي بكر! 

ـ يا علي ألا تبايع أبا بكر؟ 

ـ ماذا لو لم أبايع؟

ـ يأتون ويحرقون باب دارك ويقطّعون زوجتك إربًا إربًا ويضربونها ثمّ يجعلون العمامة حول رقبتك وتقاد كما يقاد الجمل المخشوش^۱ إلى المسجد ويهينونك ألف إهانة ويشتمونك وأنت عليك أن تسكت.^٢

تفضّل فهذه البداية! فهل هذا يستحقّ الاحتفال؟ ثمّ تتوالى الأحداث الثاني والثالث وهكذا…! وعندما وصل أمير المؤمنين إلى الخلافة بدأت المعارك في اليوم التالي مباشرة، فللشيطان وسوسة جاهزة، وقد وضعها في الكيس. لا بدّ أن يكون طلحة والزبير لأجل هذا اليوم. هذان اللذان لم يكونا يقولان شيئًا حتّى هذه اللحظة ويعدّان نفسيهما كذبًا أنصارًا لأمير المؤمنين، يجب الآن أن يكشف الستار عن نفسيهما، لقد كنتَ إلى الآن ناصرًا لكي يصل عليّ إلى الخلافة، والآن إذ وصل عليّ إلى الخلافة تريد حقّك؟ يقول أمير المؤمنين: لقد وصلتُ إلى الخلافة فما شأنك أنت؟! أنت واحد من الناس فماذا تريد؟ امض واسع في وظيفتك الخاصّة! فأنا أعيّن للحكم من أشاء وأترك من أشاء. 

ـ يا عليّ نحن لم نبايع أبا بكر وعمر وعثمان مدّة خمس وعشرين عامًا! 

ـ حسنًا لم تبايعا، إن كنتما بذلك قد قمتما بواجبكما فماذا تريدان منّي؟ وإن لم تكونا قمتما بوظيفتكما فقد أخطأتما، كان بإمكانكما أن تبايعا!^٣

أمير المؤمنين لا يمازح أحدًا. يقول: إن كنت فعلت ذلك لأجل الله فلماذا تطالبني أنا بحقّك؟! وإن لم يكن لله فقد أخطأت! لقد خُدعت، كان بإمكانك أن تبايع ليجعلوك واليًا على مكان ما. لأنّهم كانوا يبحثون عن طلحة والزبير. 

ولكنّهما أوقدا نار الحرب! قالا: يا عليّ إمّا أن تعطينا حقّنا أو نتّهمك بقتل عثمان! 

يا عديم المروءة هل قتل عليٌّ عثمان؟! من تتّهم أنت؟! لا دليل لأحد! هل يمكن لأحد أن يتّهم عليًّا؟! هل يمكن لأحد أن يأتي بدليل ضدّ عليّ؟! عليّ طاهر وصافٍ ولا غلّ ولا غشّ لديه! عليّ لا غبار عليه، ولكن أنت عليك غبار وأنت لديك غلّ وغشّ وأنت تريد أن تتعامل مع عليّ بهذا النحو. لذلك تتّهم وتقول: "يا أيّها الناس لقد قتل عليّ عثمان، فتعالوا لنقتله!" وأوقدوا نار الحرب عليه. 

طلحة نفسه في معركة الجمل كان دائمًا يصرخ ويحرّض الناس، يرميه ابن أخته بسهم في رجله ويقول: يا عديم الدين إن كان الجميع لا يعلمون فأنا أعلم أنّ كلّ هذا الكلام الذي تقوله باطل، أنت تعرف عليًّا أكثر من الأخرين!؟"فوقع طلحة يضرب على رأسه ويقول: صرت ممّن خسر الدنيا والآخرة.^۱

ولاية وهداية أمير المؤمنين حتّى في أيّام العزلة والقعود في الدار

أمّا من كان مع أمير المؤمنين فليس ممّن خسر الدنيا والآخرة. آخرته معلومة، لأنّ الحكومة في الآخرة بيد أمير المؤمنين. نعم أنتم تمكّنتم في الدنيا أن تجعلوا عليًّا جليس بيته ليومين. حسنًا فهذا لصالح عليّ أيّها الحمقى! فمن ينحّي درًّا كهذا ويجعله جليس بيته خمسًا وعشرين عامًا؟! حسنًا، إنّ أمير المؤمنين لم يجلس هكذا، بل كان يقوم بعمله، كان يزرع، انتخب تلامذته واحدًا واحدًا وكان يربّيهم. كان يذهب إليهم ويجلس معهم ويسلّم عليهم ويحادثهم ويمازحهم وكان يجذب إليه هؤلاء الشباب طيّبي النفوس ويبدأ بالحديث معهم. 

أفهل خرج أصحاب أمير المؤمنين فجأة ذات صباح من البيضة هكذا؟! كلا يا عزيزي، بل كان أمير المؤمنين يذهب إلى هؤلاء الأطفال واحدًا واحدًا ويزرع محبّته في قلوبهم، حتّى إذا ما شبّوا صاروا أصحاب سيّد الشهداء، وأصحاب الإمام المجتبى، وأصحاب الإمام السجّاد! 

لم يكن أمير المؤمنين يجلس عاطلاً، بل كان يربّي هؤلاء الشباب واحدًا واحدًا ويهيّئهم لتلقّي الولاية وقبولها! حسنًا، لقد قمتم أنتم بذلك ونحّيتم عليًّا خمسًا وعشرين عامًا وجعلتموه جليس الدار، وكان عليّ في المقابل يقضي منتهى مظلوميّته بأمر الله، ولكن هل الحكومة هناك هي بيد جناب عمر وجناب أبي بكر؟! أيّها الأحمق ماذا ستفعل هناك؟ لقد فعلت هذا مدّة خمس وعشرين سنة ولم ينبس عليّ ببنت شفة، ولكن أمير المؤمنين يقول: إنّ الحكومة هناك هي بيدي أنا.

يا حار همدان، كلّ إنسان يموت فإنّ سجلّه يصل للتوّ إلى يدي، سواء كان مؤمنًا أو منافقًا، سواء السابقون أو اللاحقون، فلا فرق في ذلك! ويبدو أنّ سجلّ جميع الأنبياء قد وصل إلى أمير المؤمنين، لأنّه يقول: قبلا. والأمر هو كذلك، ولدينا رواية أنّ كلّ نبيّ له من الأجر عند الله بمقدار قربه من ولاية أمير المؤمنين.^٣

وعند الاحتضار وفي القبر ستراني، وهكذا عند العبور عن الصراط، أي حيث جهنّم ولهيب النار والذين عاشوا في هذه الدنيا وصنعوا ما يحلو لهم فإنّ عليهم الآن أن يأتوا وينظروا إلى الجنّة والرضوان الإلهيّ. فإنّي سآتي وستراني وتعرفني! فإن كنت على ولايتي فلا تخف خطأ ولا زلّة. 

لقد كان الحارث الهمداني من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان مريضًا في فراشه، وكان الإمام قد قصده لعيادته فمات حينها. يقول الإمام: أنت يا من يوالينا لا تخف من شيء! أنا بنفسي آتي وأعبر بك كالبرق وأدخلك في الجنّة وأجعلك جليسًا لي.^۱

فأيّ من ذلك هو الولاية؟ وهل يستحقّ في هذه الدنيا احتفالاً؟! فقول النبيّ عيد الغدير أفضل أعياد الأمّة هو لأنّه أعطى حكومة الآخرة وحكومة ذاك العالم لأمير المؤمنين، أمّا حكومة هذا العالم فإنّها تأتي وتزول! 

يا أبا بكر، في النهاية لن تكون خليفة لأكثر من سنتين، أفهل يستحقّ ذلك هذه الأعمال؟! أمّا عمر فإنّه كان خليفة لمدّ عشر سنوات على الأقلّ.^٢ لقد كان كلّ ذلك الضرب والقتل وإسقاط الأجنّة وقتل مالك بن نويرة والزنا بزوجته^٣ و… لأجلي سنتين فقط؟!^٤ فهل تستحقّ السنتان كلّ ذلك؟! والناس لا يعرفون أنّ عليًّا قد جاء عند احتضار أبي بكر إلى جانبه يقول له: ماذا صنعت؟! لذلك هو يلطم على رأسه ويقول: يا ويلتاه على غصبي الخلافة. أمير المؤمنين في بيته والناس لا يرونه، ولكنّ أبا بكر عند احتضاره يرى عليًّا عند رأسه يقول له: لماذا غصبت الخلافة؟! لماذا فعلت ذلك؟! ولو كشف الغطاء عن أعين المحيطين بأبي بكر لأدركوا أنّ الحكومة بيد من هي! ولكن أمير المؤمنين يسدل الستار أمام أعينهم ويقول ابقوا في جهلكم لكي يأتي يومكم غدًا! غدًا سآتي إلى كلّ واحد منكم واحدًا بعد الآخر! لقد ذهب إلى عمر، وذهب إلى عثمان، وذهب إلى عبد الرحمن بن عوف، وذهب إلى الوليد، وذهب إلى خالد، لقد ذهب إلى جميع هؤلاء وسيأتي إلينا! وطبعًا إن شاء الله سيأتي أمير المؤمنين إلينا بالروح والريحان ومن البعيد عن كرمه أن يكون على غير ذلك. 

عيد الغدير عيد البشريّة الأعظم ويوم البيعة لإمام الزمان

ليس الأمر مختصًّا بالشيعة، بل هذا العيد هو عيد البشريّة الأعظم، العيد الذي يطمئنّ فيه الإنسان على كماله الروحيّ، ولكن هنا استثناء، وهو أنّنا إذا سلّمنا أنفسنا للولاية! فهنا الاستثناء، يقول الله ألست تريد أن تصل إلى الكمال؟! حسنًا، فأنا أعددت لك طريق ذلك وقد جعل النبيّ في يوم الغدير عليًّا لأجل الكمال! ألم تكن تريد ذلك؟! فإن مضى عليّ فالحسن؟ فإن مضى فسيّد الشهداء، ثمّ الإمام السجّاد، وهكذا حتّى إمام الزمان عليه السلام. 

فإذن اليوم مرتبط بإمام الزمان عليه السلام، وكوننا نحتفل في هذا اليوم فهذا يعني في الحقيقة أنّنا نبايع إمام الزمان عليه السلام! هذا هو مقصودنا. إنّ أمير المؤمنين كان قبل ألف وأربعمائة عام وصاحب ولاية الأئمّة هو أمير المؤمنين عليه السلام، وهذه الولاية ما انفكّت تنتقل حتّى يومنا هذا وهي اليوم لإمام الزمان. 

علينا في يوم الغدير أن نبايع إمام الزمان، نبايعه على أن نتعهّد ونقوم من الآن فصاعدًا بما يريده الإمام! لا نخادع أنفسنا وندسّ رؤوسنا في الرمال، بل ما نعلم أنّ الإمام لو كان لأمرنا به فعلينا أن نلتزم به. 

يقول الإمام الصادق عليه السلام: رحم الله شيعتنا الذين يحيون أمرنا. لا أنّهم فقط يجلسون ويأكلون المكسّرات والحلوى ثمّ يخرجون ويقولون: الحمد لله لقد عيّدنا هذا اليوم. بل شيعتنا هم الذين يريدون أن يعرفوا ما حقيقة الأمر ويريدون أن يعرفوا ماذا قال الإمام الصادق ليعملوا به. فهذا هو إحياء الأمر!

إن كنّا نقيم مجالس سيّد الشهداء لكي نخوض في الأمور المرتكزة إلى المشاعر فلا فائدة من ذلك! بل علينا أن نلاحظ أيّ إنسان كان الإمام الحسين وماذا فعل وماذا حدث ولو كنّا نحن في ذاك الزمان ماذا كنّا صنعنا مع الإمام الحسين، والآن علينا أيضًا أن نطبّق ذلك بعينه! 

بماذا يختلف الإمام الحسين عن إمام الزمان؟! إمام الزمان هو ابن الإمام الحسين، فلنقم الآن بما أراده الإمام الحسين ولنفعل ما لم يفعله الآخرون! 

رواية الإمام الباقر حول صفات المتابعين الحقيقيّين للأنبياء

هذا العيد هو العيد الذي إذا التفت فيه الإنسان أمكنه أن يستفيد في هذا الأمر إلى أقصى الحدود، يقول الإمام الباقر عليه السلام: 

«إنّ اللَه عزّ وجلّ جَعلَ في کُلٍّ مِن الرُّسُلِ بَقایا مِن أهلِ العِلمِ یَدعونَ مَن ضَلَّ إلَی الهدَی و یَصبِرونَ مَعَهُم عَلَی الأذَی یُجیبونَ داعي اللَهِ و یَدعونَ إلَی اللَهِ فَأبصِرهُم رَحِمَك اللَهُ فَإنّهُم في مَنزِلَةٍ رَفیعَةٍ و إن أصابَتهُم في الدُّنیا وَضیعَةٌ، إنّهُم یُحیونَ بِکِتابِ اللَهِ المَوتَى.»^۱

يقول الإمام إنّ الله جعل مع كلّ نبيّ بقايا من الناس والمتابعين يتابعون بعد ذلك النبيّ طريقه بنفس ذاك الصفاء وتلك اللطافة وتلك الدقّة ولا يميلون إلى هنا وهناك! يمكن لكثيرين أن يأتوا ويدّعوا المتابعة والدعوة والتبليغ، ولكن أيّة دعوة وأيّ تبليغ؟ الدعوة والتبليغ لهوى النفس تحت ستار متابعة الرسول! ولكنّ الإمام الباقر يقول إنّ الله جعل لكلّ نبيّ أفرادًا من شيعته ومتابعيه يتابعون من بعده طريقه بالأسلوب نفسه ولا يزيدون ولا ينقصون ولا يقلّبون الأمر نحو الأعلى والأسفل بما يناسب اليوم والغد، ولا يوجّهون الأمور بما يطابق المصالح، فهؤلاء هم الذين يأخذون بأيدي الضالّين، ويتحمّلون في أنفسهم وفي طريقهم عين الأذى الذي كان للأنبياء، ويصبرون معهم على الأذى والمزعجات. وهؤلاء أناس يحيون الموتى بواسطة كتاب الله. 

فهل التفتنا الآن كم هي مهمّة تلك الرسالة وذلك التعهّد الملقى على عاتق أهل العلم وأهل الدين؟! أهل العلم وأهل الدين هم الذين يتابعون مسيرة النبيّ، ويسيرون سيرته في التبليغ والمعاشرة ويحتملون الأذى. 

أهميّة وقيمة ارتداء لباس النبيّ

هؤلاء الذين يلبسون في هذا الزمان بالخصوص لباس العلم وكسوته ويأخذون على عاتقهم رسالة النبيّ والأئمّة جهارًا وفي العلن، لم يكونوا من الذين فرّوا من البيوت ولجأوا إلى الحوزة! لم يكونوا من المطرودين والذين لم تتح لهم الفرصة في مكان، فلو لم يكن استعدادهم أكثر من الذين في سائر الأماكن العلميّة والجامعيّة فإنّه ليس بأقلّ منهم. إنّهم أناس يتحمّلون في هذا الزمان آلاف الآلام، آلامًا لم يكن لها أثر في سالف الزمان أيضًا، على هؤلاء أن لا يتصوّروا والحال هذه أنّ الناس سيستقبلونهم بالورود وأقواس النصر! إنّهم أناس يتحمّلون الصعاب، يجرّون على أنفسهم النظرات البغيضة من المجتمع والتي لم تكن حتّى في العهود السابقة، ويتحمّلون الآن هذه الشدائد، ويغضّون الطرف عن تلك الحريّة التي هي حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان في المجتمع، ويلبسون لباس رسول الله فقط وفقط من أجل رضا الله، اللباس الذي ألقاه رسول الله في يوم الغدير على قامة أمير المؤمنين عليه السلام! يعني يا عليّ إنّي حيث نصّبتك في الولاية فيجب أن تكون من حيث الظاهر بهذا اللباس أيضًا! ألبسه النبيّ في ذلك اليوم بيده تلك العمامة الخضراء والتي تسمّى السحاب^٢ يعني إنّ هذا اللباس وحده هو الذي يليق بالتبليغ، لا أن ندرس العلوم الحوزويّة ثمّ نسير بين الناس بالقميص والبنطال، فهذه ليست مهارة ولا فخرًا، بل الفخر هو للذين يظهرون أنفسهم أمام المجتمع بشكل رسول الله وبلباسه رغم كلّ المزعجات والنظرات الضيّقة والأمور غير المناسبة التي سبّبها الآخرون، كلّ ذلك كي لا ينسى الناس هذا اللباس!

ألسنا نسمع من المخالفين للدين وللإسلام أنّهم يقولون: سيأتي يوم نصنع فيه بالإسلام صنعًا نجعل الطلاّب يمتنعون عن المشي في الشوارع؟! أنتم لا تعلمون أيّ خطط نفّذت وبأيدي من؟ وماذا هي الخطط التي تنتظر؟! ألم يسمع المتصدّون أم لا يريدون أن يسمعوا أيّ خطط ودسائس تتحقّق لإراقة ماء وجه الإسلام؟! 

هل فقط الذين يلبسون لباس الروحانيين في هذا الزمان وحدهم لا يشعرون والآخرون يشعرون؟ ألا يحبّ هؤلاء حريّة التردّد في المجتمع وفقط الآخرون يحبّونها؟ إن كنتم أقوياء فالبسوا أنتم أيضًا هذا اللباس! 

حقًّا يمكن أن يقال إنّ هؤلاء اليوم يعدّون من مفاخر الشعب الإيرانيّ، الذين هم رغم كلّ التضييقات والإيذاءات يقدمون على الدخول في سلك طلاّب العلوم الدينيّة، الإيذاءات والتضييقات التي سيطرت وللأسف على مجتمعنا، والتي سيطرت أيضًا ومع ألف أسف علينا نحن وعلى المؤمنين وأسرهم، حتّى إذا ذكر اسم طالب العلم أظهروا النفور والتقزز وتغيّرت أحوالهم!

حسنًا فلو لم يكن هناك طالب علم لكانت زوجتك عليك محرّمة! لو لم يكن هناك طالب علم من أين كان يمكنك أن تصلّي وتصوم؟ لو لم يكن هناك طالب علم فمن الذي كان سيبيّن مبادئ الدين الإسلاميّ؟ هل الذين رؤوسهم في أعمالهم فحسب؟! 

طريقة الدفاع عن الإسلام في العصر الحاضر

إنّ الدفاع عن الإسلام اليوم لم يعد يحصل بالرسائل العمليّة، بل يحتاج هذا الدفاع اليوم إلى جهاد، إلى مطالعة، إلى دخول في المباني والأسس، إلى دراسة، إلى أخلاق عمليّة، إلى عمل طبق الموازين!

إنّ الطالب الذي يلبس العمامة في هذا الزمان ويعلن للناس أنّني متّبع للنبيّ لَيقوم حقًّا بمنتهى الفداء بنفسه ولا بدّ أن يشكر ويثنى عليه، وإلاّ فإنّه من المريح حتّى لي أنا أن أنزع العمامة عن رأسي وأكون كواحد من الناس وأرتدي قميصًا وبنطالاً وأمشي في الشارع ثمّ أجعل من نفسي أستاذًا في الجامعة وأبدأ بالكلام ولا يصيبني شيء! 

مؤامرة القضاء على لباس النبيّ من المجتمع بواسطة الإنكليز

كان هناك اثنان نزعا العمامة عن رؤوس الناس بأمر من الإنكليز: أحدهما رضاشاه في إيران، والآخر أتاترك في تركيا، فكلّ منهما كان خادمًا مطيعًا للإنكليز ولا تزال يد الإنكليز في الأمر كما كانت. 

في زمان رضاشاه الملعون كان جدّنا يقول: أمشي بدون عمامة ـ لأنّهم كانوا قد منعوا العمامة ـ وبقلنسوة وصاية أو جبّة من مستديرة بهارستان في طهران إلى مستديرة مخبر الدولة، ثمّ أرجع من جديد. فكانوا يقولون له: لماذا تفعل ذلك؟ فكان يقول: 

إن كانوا قد نزعوا هذه العمامة عن رأسي فإنّي سأسير هكذا كي يراني الناس ولا ينسوا لباس رسول الله ذاك. ^۱

هذا ما يسمّى بالحميّة الدينيّة! ولكن كان هناك جماعة بدون همّة وبدون غيرة لم يتمكّنوا من تحمّل هذا الجوّ فنزعوا العمائم بأنفسهم. كانوا يقولون: "الناس يسيئون إلينا، فلنكن مثل الناس إذن!" أنت أصلاً لا تليق بالعمامة وليست لديك القابليّة لأن ترتدي لباس رسول الله الذي قال: العمائم تيجان الملائكة^٢ يعني إنّ تنزّل ذلك البعد من النور إلى عالم الظاهر الذي يجعل الملائكة في كسوة البهاء والبهجة هو بصورة العمامة، لذلك من المستحبّ أن يرتدي جميع الناس العمائم على رؤوسهم، ويستحبّ في الصلاة ارتداء العمامة^٣ وطبعًا ليست هذه العمامة التي نلبسها نحن، بل عمامة أصغر بيضاء اللون أو صفراء، وليلبس السادة عمامة خضراء فإنّ ثواب الصلاة بالعمامة يفوق ثواب الصلاة بغيرها سبعين مرّة.^٤

وهذا هو العمل الذي قام به رضا شاه وتبعته السخرية والاستهزاء والهراء، وانصبّ حقد المعاندين على الإسلام والعلماء الروحانيّين، وكان هؤلاء المعاندين حينها من رؤساء وزعماء الحركة الدستوريّة وكانت أعمالهم تصدر عن سجلّات الإنكليز. ولكنّ جماعة في المقابل صبرت وتحمّلت هذه الأمور والمشقّات وتآلفت مع الأذى لتوصل هذه الرسالة إلى الآخرين ولا تتخلّى عن المسؤوليّة. 

شيوع الثقافة القوميّة ومحاربة العربيّة

من الأعمال الأخرى التي قاموا بها في العصور السابقة بثّ الثقافة القوميّة وأنتم تعلمون أنّ هذه الثقافة القوميّة قد جرّتهم إلى أيّة فضائح! الاحتفال بالنوروز وما قبله وما بعده ولواحقه وسوابقه والتي حقًّا يضحك الأطفال فيها من أعمال كبارهم! 

وقد غيّروا اللغة العربيّة التي هي لغة الدين تحت شعار المحافظة على اللغة والقوميّة واللغة الرسميّة واللغة الفارسيّة والدفاع عنها. فمسألة تغيير اللغة لا تعود إلى هذا الزمان، بل إلى الزمان السابق، فقد كانت يد الإنكليز والاستعمار والماسونيّة في هذا الأمر ولا تزال. 

ونحن شعرنا أم لم نشعر نتابع تلك الطريقة والمدرسة، فلماذا يجب أن تزال الألفاظ العربيّة من لغتنا؟! أليست اللغة العربيّة أفضل لغات الدنيا؟! إنّ أكثر اللغات إتقانًا هي اللغة العربيّة! صلاتنا عربيّة، قرآننا عربيّ، رواياتنا عربيّة كلّ ذلك عربيّ!^۱ ولدينا في الرواية: لسان أهل الجنّة العربيّة.^٢ وقد قضوا على هذه اللغة، فقالوا نحن نلغي اللغة الأجنبيّة، فيا عديم الإنصاف هل ألغيت في الواقع اللغة الإنكليزيّة أيضًا؟ 

هؤلاء يعلمون أنّ الناس يهتمّون باللغة الإنكليزيّة فلماذا يقولون إنّنا نلغي الجميع؟ فإذن هم يريدون إلغاء اللغة العربيّة! يزيلون بضع كلمات إنكليزيّة وفرنسيّة ثمّ يقولون نحن ننظر إلى الجميع بعين واحدة وهدفنا إزالة الألفاظ الأجنبيّة من الثقافة الفارسيّة. 

أنتم تحذفون العربيّة وحدها ثمّ تبثّون في تلفزيون الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة فيلمًا يطرح فيه (جبّار باغچه بان) عديم الدين والذي كان يقول: عندما أسمع: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾^٣ أتذكّر صوت الماعز^٤، كمعلّم عطوف! فكم هي عظيمة مصيبتنا! 

إنّ جبّار باغچه بان هو أحد عديمي الدين وعديمي الإنصاف الذين وقفوا برفقة جماعتهم أمثال پور داوود وسعيد نفيسي وفروزانفر عديم الدين في وجه الإسلام والإيمان والمؤسّسة الدينيّة المعنويّة وعملوا على هدم الدين والمعنويّة والعلم! ثمّ بعد ذلك يجب أن يقدّم هذا الرجل للأطفال في الدولة الإسلاميّة على أنّه معلّم رقيق القلب.^٥ فهل التفتّم الآن أيّة أيدٍ تعمل وأيّ أمور تدسّ؟

لقد كانت أحوال المرحوم العلاّمة في السنة الأخيرة من عمره على غير ما يرام، وكان مريضًا، وأذكر أنّه عندما تشرّفت بالسفر إلى مشهد في يوم عيد الغدير حيث كان يريد أن يعمّم بعض الأصدقاء قال: 

إنّني أرى بعيني كما أرى النهار أنّ الأيدي الماسونيّة التي جعلت رضا شاه حاكمًا على هذا الشعب فنزع العمائم هي بعينها تعمل الآن بيننا.^٦ 

والمصيبة الأعظم من ذلك هي أنّ حوزتنا العلميّة أيضًا مبتلاة بهذا الداء وهذه المصيبة! فهم يسمّون "جلسهء بحث" أي جلسة البحث والحوار "كانون گفتمان دینی"! فما معنى "كانون"؟! وما معنى "گفتمان"؟! 

يا سيّدي العزيز في النهاية لكلّ شيء حدّ! لماذا أنتم تقومون بذلك؟! فلتقولوا: "جلسهء بحث"! فما المشكلة في "جلسهء بحث" حتّى استبدلتموها؟! لماذا علينا أن نجعل أنفسنا منسجمين ومـتآلفين مع جماعة جاهلين؟ فلنقل "جلسهء بحث راجع به مسائل دينى" أي جلسة بحث حول المسائل الدينيّة!

ففي المدرسة الفيضيّة^۱ هذه يقولون بدلاً من "اجتماع" "گردهمایی"! فما المشكلة في كلمة اجتماع؟! وما هي "گردهمایی"؟! وما هي "گفتمان"؟! وأمّا الألفاظ الركيكة الأخرى التي استبدلت مكان الألفاظ العربيّة فأنتم بعرفونها جيّدًا!^٢ 

لذلك فإنّها لوظيفتنا نحن أن نجاهد ونسعى في إحياء الثقافة الإسلاميّة. يجب أن نتكلّم بالعربيّة داخل الأسرة. ابدؤوا اليوم وتكلّموا مع أطفالكم باللغة العربيّة لكي يتعلّموا العربيّة من صغرهم ويتمكّنوا من الإحساس بأنّ اللغة العربيّة كلغتهم الأمّ في وجودهم.^٣ إنّ اللغة العربيّة هي لغة ديننا وقرآننا، أمّا اللغات الأخرى فماذا؟! يا سيّدي العزيز كلّ ذلك مخطّط له!^٤

وظائف طلاّب العلوم الدينيّة في الظروف الراهنة 

ما هو وظيفة طالب العلم اليوم هو التالي: 

أولاً: أن يجهّز نفسه بكامل الجهد والدقّة وبدون إتلاف للوقت لكي يدافع عن مبادئ الإسلام وأصوله بالدليل وليس فقط بالشعار! وما أقوله هو واقع، فإذا أراد طالب العلم أن يدرس دروسه فإنّ الأربع والعشرين ساعة قليلة جدًّا! 

وكما قلت، فإنّ الإشكالات والمسائل الموجّهة إلى الدين في هذا العصر جانب يسير منها يرجع إلى الأحكام الفقهيّة، ومعظمها يرجع إلى الأحكام العقائديّة! ويجب أن يتصدّى أناس مثل العلاّمة الطباطبائي والمرحوم العلاّمة رضوان الله عليهما ويجعلوا بين أيدي الناس الدين كما هو في الواقع بدون أيّ نوع من الخلط والمزج، والأمر بعد ذلك إلى الناس، إن أرادوا أن يصغوا أو لا يصغوا، وإن أرادوا أن يعملوا أو لا يعملوا! 

ثانيًا: أن يعمل بالمبادئ الأخلاقيّة والسلوكيّة التي لدينا عن أئمّة الدين وأولياء الدين! وهذا الأمر أصعب من الأوّل ويستحقّ الاهتمام كثيرًا.

فمن يراجع طبيبًا لأجل مرضه فإنّه لا يسأل هل هذا الطبيب يصلّي صلاة الليل أم لا؟ ولا يسأله الطبيب أيضًا هل صلّيت اليوم صلاة الصبح أم فاتتك؟ ولو سأله ربّما سخر منه، بل يقول له: ما شأني بذلك، أنت أعطني دواء ليسكن الألم الذي في بطني. 

ولكنّ توقّع الناس من طالب العلم الدينيّ هو أبعد من هذا الكلام، وهذا التوقّع هو عبارة عن كيفيّة سلوكهم الذي يقرّبهم من الدين. 

إنّ الشعب الإيرانيّ وسائر شعوب العالم يتوقّعون منّا نحن أهل العلم أمرين اثنين: 

الأوّل: التخصّص في المسائل الدينيّة. 

والثاني: التعهّد والالتزام بهذا التخصّص. 

فكم استطعنا نحن الآن أن نكون بمستوى هذا التوقّع؟

وهنا ندرك أنّ وظيفة الذين يلبسون لباس أهل العلم في هذا الزمان هي أن يحقّقوا هذا التوقّع الثاني للنّاس رغم جميع المشاكل والأذى. والقيام بذلك أهمّ من الأمر الأوّل بكثير، وتحقيق هذا التوقّع يحتاج إلى عمل وسعي وتجاوز عن النفس والدوس على الكثير من الآمال والطموحات والراحة.^۱

أهميّة ارتداء لباس رسول الله وتوصية العلامة الطهراني به 

هذا اللباس هو اللباس الذي يختاره النبيّ لمبلّغيه، يقول بعضهم: "سيّدنا نحن نكون طلاّبًا ولكن لا نلبس هذا اللباس، لأنّه هكذا يمكن أن نبلّغ بشكل أفضل!" ما شأنك أنت في أنّه سيكون التبليغ أفضل أم لن يكون؟! هل قال الله البسه أم قال افعل ما تقوله أنت؟! هل يحترق قلبك على التبليغ أم على نفسك؟! 

لقد قال المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه لأحد الذين درسوا إلى حدّ ما علوم الإلهيّات هذه: أنت يجب أن تكون على هيئة الطلاّب وتلبس لباسهم. ولكنّه بدأ بالجزع والفزع وأنّ المجتمع يا سيّدنا كذا وكذا، والجامعة كذا، فهم لا يقبلون الآن! 

حتّى أنّي أذكر أنّي كنت يومًا مع المرحوم الوالد في السنوات الأخيرة من عمره فجرى الحديث حول هذا الأمر فقال: إنّ فلانًا يجب أن يلبس لباس الطلاّب! ولكنّ ذلك الرجل لم يرتّب أثرًا وحتّى الآن أيضًا لم يرتّب أثرًا. 

وذات يوم تحدّث ذلك الرجل معي وكان يقول: المجتمع الآن هكذا وأنا الآن من دون لباس العلماء يمكنني أن أخدم بشكل أفضل! فقلت: عزيزي اثنان زائد اثنين تساوي أربعة، هل تريد أن تخدم لأجل الله أم لأجل نفسك؟! فإن كنت لأجل الله فإنّ السيّد الطهراني هذا سيأتي يوم القيامة ويقول: أنا قلت له أن يلبس العمامة وزيّ الطلاّب! أفلا تقبل بالمرحوم الوالد بهذا المستوى وأن يأتي ويدافع عنك يوم القيامة أم تقبله بهذا المستوى؟ فيا عزيزي لا تكن ملوكيًّا أكثر من الملك وتجعل الأمر لأجل الدين والتبليغ! أرح نفسك وقل أنا لا أستطيع! فبهت فجأة وبقي ساكتًا وقال: نعم هناك أيضًا مسائل نفسيّة! فقلت: قاتلك الله، فلتقل من البداية لقد أتعبتني عبثًا. 

الطلاّب والمعمّمون من مفاخر إيران والعالم الإسلاميّ

لذلك فأنا أقول وللسبب نفسه الذي لم يتعمّم من أجله ذلك الرجل: إنّ أصدقاءنا الذين يتعمّمون في هذا اليوم وفي هذا العصر هم من مفاخر إيران والعالم الإسلاميّ. 

وطبعًا لا بدّ أن ننظر ما هو أجر ذلك وكم هي نتيجته وكيف يتعاطى إمام الزمان عليه السلام مع هذا العمل وكيف يلطف بصاحبه ويعطف عليه؟ فهذه أمور خارجة عن قدرتنا وترتبط بمقام صاحب الولاية!^۱ ونحن فقط بيّنا الأمر لنقول للرفقاء: هذا الميدان متاح فمن شاء فليتفضّل بسم الله. 

وطبعًا هذا لا يعني أن يترك الجميع العمل والكسب! ففي النهاية الدخول في مسائل الدين يتطلّب استعدادًا وهمّة وقد قسّم الله الأعمال. 

وعلى كلّ حال، على كلّ إنسان في أيّ رتبة كان أن ينظر رضا إمام الزمان في أيّ شيء هو؟ فإن كان تاجرًا فليفعل ذلك، وإن كان طبيبًا فكذلك، وإن كان مهندسًا فكذلك، وإن كان إداريًّا فكذلك! يجب أن يكون سلوكه مع الناس بما يرضي إمام الزمان عليه السلام. 

وهكذا لسان حال الطلاّب والذين جاؤوا وتخلّوا عن أنفسهم وجعلوا أنفسهم جنودًا لإمام الزمان^٢ 

يا إمام الزمان يا من هو وراء ستار الغيبة ولم يحن بعد زمان ظهورك، وهؤلاء الناس أيضًا يحتاجون إلى الدين والمعرفة والهداية، ها نحن أتينا بقدر ما نستطيع وبقدر ما يتأتّى منّا، والآن الأمر في عهدتك أنت لتوفّقنا وتأخذ بأيدينا وتهدينا إلى ما تراه صلاحًا. 

هنيئًا لهؤلاء الأصدقاء والرفقاء الذين يلبسون لباس النبيّ ويظهرون بالمظهر الذي يرضاه رسول الله في هذا اليوم الذي هو يوم عيد الغدير واليوم الذي وضع فيه رسول الله العمامة على رأس ابن عمّه وصهره وصاحب مقام الولاية الكبرى أمير المؤمنين عليه السلام، وفي النتيجة فإنّ هؤلاء الطلاّب قد اكتسبوا السعادة والسلامة وعافية الدنيا والآخرة.

نسأل الله المتعال أن يوفّقهم جميعًا ويوفّقنا جميعًا للعمل بما هو رضا لأوليائه رضا لأئمّته رضا له، وأن لا نخاف من أحداث المدّ والجزر والأمور الجانبيّة وكلّ ما هو غير مرغوب في أعين الناس، وأن لا يخرجنا عن ذلك الصراط الذي جعله لنا. 

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.