المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةمحاضرات عيد الغدير
التاريخ 1430/12/18
التوضيح
لماذا نحتفل بيوم الغدير ولماذا نقيم مجالس الحسين عليه السلام في أيّام العزاء؟ هل هذه الاحتفالات مجرّد تقليد ولمجرّد إحياء الشعائر من دون التفات إلى حقيقة الأمر وكنهه؟!
هل حادثة الغدير حادثة تاريخيّة انتهت أم أنّ التنصيب يتجدّد كل عام؟
ما معنى (اليوم أكملت لكم دينكم) وأنّ الغدير هو يوم الولاية؟ فهل كان الدين ناقصًا قبله؟ أولم يكن النبيّ قد بيّن كامل التشريعات؟!
ما المعيار في كون الإنسان إمامًا وكيف نعرف ذلك؟ وماذا فعل الإمام زين العابدين لإثبات إمامته لمحمّد بن الحنفيّة؟ وما معنى لا يقاس بنا أحد؟
ما معنى العصمة؟ وهل هي مطابقة الفعل للواقع أم كونه عين الواقع؟
ما هي وظائف المبلّغين تجاه أنفسهم وتجاه الناس؟
هل يزار مع الإمام أحد ولماذا؟
تجيب هذه المحاضرة على هذه الأسئلة مستفيدة من العديد من الآيات والروايات ووصايا الأولياء.
هو العليم
علاقة الغدير بالتعقّل و ظهور الولاية
محاضرة عيد الغدير لعام ۱٤٣۰ هـ ق
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بسم الله الرّحمن الرّحیم
و صلّى اللَه علّى سيّدنا ونبیّنا
أبي القاسم محمّد و أهل بيته الطاهرین
و اللعنة على أعدائهم أجمعین إلی یوم الدین
ما الهدف من إقامة مجالس أهل البیت؟
هناك آية واردة في خصوص اليوم ومختصّة به وهي الآية الشريفة التي تقول: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾۱
نحن نحتفل اليوم ونفرح ونعيش السرور، ولكن يجب أن ندرك لماذا نقوم بذلك؟ هل هذا الاحتفال هو احتفال تقليديّ ولأجل مجرّد إحياء الشعائر وإظهارها من دون التفات إلى حقيقة الأمر وكنهه؟! طبعًا هذا ما لا يمكن أن يكون ذا فائدة مرجوّة.
المقصود من كلام الإمام الصادق عليه السلام حين يقول: رحم الله من أحيا أمرنا. ٢ ليس مجرّد إقامة مجلس والكلام فيه والفرح أو الألم والمصيبة وذكر مصائب أهل البيت، إنّ مصائب أهل البيت مصائب كانت قبل ألف وأربعمائة سنة وانتهت. وقد مضى حتّى الآن ألف ومائتا سنة أو أقل عن زمان الغيبة الكبرى، أما أن نأتي ونجلس دائمًا ونتحدّث بما جرى على أهل البيت في ذلك الزمان من مصائب فقد انقضت في النهاية وانتهى الأمر، ماذا علينا أن نصنع الآن؟
ما هي الغاية من إقامة ذكر ومجالس سيّد الشهداء في أيّام العزاء؟ هل هي مجرّد ذكر أنّه كان ابنًا لأحد الأنبياء قبل ألف وأربعمائة سنة وجرت عليه هذه المصائب؟! نعم لقد جرت عليه وانتهى الأمر في النهاية، لقد مضت في النهاية، ومرور الزمان على هذا الأمر لا يحييه، ولا يجدّد تلك الأحداث. كلّ فاجعة حدثت في ذلك الزمان فقد حدثت؛ فما الفائدة والنتيجة من الحديث عنها بعد ذلك؟! وكذلك هو الحال في تنصيب رسول الله يوم الغدير وبأمر من الله أمير المؤمنين للولاية والخلافة والحكومة بلا فصل والإمامة بلا بديل وبلا نظير… وليلتفت الرفقاء إلى هذه الكلمة كثيرًا، لم يكن هناك بديل لإمامة أمير المؤمنين سوى شخص رسول الله وأبنائه حتّى الحادي عشر منهم وانتهى الأمر بعد ذلك!٣ والآن تلك الإمامة وتلك الولاية مختصّة فقط وفقط ببقيّة الله أرواحنا فداه وتلك الحكومة على أساس الولاية والإمامة مختصّة ببقيّة الله.
هل هناك من هو أرأف من النبيّ بالناس كافّة؟
لقد أعلن النبيّ هذا الأمر في يوم الغدير للجميع وبتلك الحالة التي يعلمها الجميع وذلك المكان الذي كان حينها، فأوضح للناس هذا الأمر وقال: هل رأيتم من هو أرأف منّي بكم؟! فأيّ نبيّ كان قد تحمّل كلّ هذا الأذى والعذاب؟! فمتى كان لدينا في هذه الدنيا إنسان يخرج من مكّة إلى الطائف وتنهال عليه تلك المصائب ليجعل إنسانًا واحدًا مسلمًا ثمّ يرجع؟!۱
فلننظر نحن إلى أنفسنا، فنحن مبلّغون وأتباع لذلك النبيّ مثلاً، وبحسب الظاهر نريد أن نجعل أنفسنا في ذلك المكان بنسبة مئوية معيّنة، فهل نفعل ذلك واقعًا؟! فلو أردنا أن نقوم بهذه المسؤوليّة التي نشعر بها وندركها فهل نفعل ذلك؟! لا نفعل ذلك، نقول: من هم الناس؟! سواء أسلموا أم لم يسلموا فما علاقتي أنا بذلك حتّى أسير كلّ هذا الطريق ثمّ أرشق بكلّ هذه الحجارة ويفدغ رأسي وتكسر رجلاي ثمّ أجد العداسيّ وألفت نظره إلى حقيقة التوحيد وأجعله مسلمًا، وأجعل ذلك ثمرة لهذا السفر بالمشقّة والصعوبة والمرارة وأكون كثير الشكر لله أن الحمد لله وفّقني الله حتّى أسلم إنسان في هذه الرحلة. نحن لا نفعل ذلك ولا مزاح في الأمر، نحن لا نقوم حتّى بعملنا وفق الظاهر والعادة، ودائمًا نرجع الأمر في هذا المجال إلى تقدير الله ونحيله عليه.
ولكن نرى أنّ رسول الله فعل ذلك، رشقوه بالحجارة على رأسه ورجليه فسال الدم منهما، فرّ إلى جبل أبي قبيس فلحقوا به، لقد أرسلوا إليه هؤلاء الأوباش و… الذين يتواجدون بحمد الله بوفرة في كلّ زمان، وحرّكوا إليه الصبيان أن اذهبوا وارموه بالحجارة، فقد خرج علينا وعلى أصنامنا وديننا، فاذهبوا وارشقوه بالحجارة واضغطوا عليه عسى أن يتراجع عن كلامه!
وبينما النبيّ جالس هناك يأتي جبرائيل ويقول:
لقد جعلت الأمر في اختيارك، وجعلت الزلازل في اختيارك، وجعلت الرياح في اختيارك وجعلت الصواعق في اختيارك، وجعلت الخسف في اختيارك، وجعلت كلّ شيء في اختيارك فادع والعن هؤلاء الناس.
فقال النبيّ:
كيف أدعو عليهم وقد أرسلت لهدايتهم؟!٢
انظروا هذا هو الفرق بين رسول الله وغير رسول الله! هذه هي حقيقة الأمر. ففي النهاية لا يصبح الإنسان نبيًّا هكذا عبثًا، فالنبوّة ليست أمرًا عديم الأهميّة، النبوّة لا تحصل بالمنصب والرئاسة و…! يشنّون الحروب ويقودون المعارك، يقودون معركة أحد فيأتون ويصنعون ما صنعوا، ويكسرون جبهة النبيّ۱ بحيث تدخل فيها الخوذة. ويكسرون رباعيّة النبيّ، ويبقى حول النبيّ إلى النهاية ثمانية ويفرّ الآخرون، وهؤلاء الخلفاء الذين جاؤوا لاحقًا٢ وتفانوا من أجل الإسلام ويتصوّر الناس أنّه لولاهم لما كان للإسلام اسم! ألا يقال هذا الكلام الآن؟! ألا يقال: لولا سقيفة بني ساعدة لما بقي للإسلام اسم؟!٣ الحمد لله نسمع من كلّ شيء، فسقيفة بني ساعدة كانت متقوّمة بهولاء الذين فرّوا من المدينة ثلاثة أيّام في معركة أحد ولم يظهر لهم أثر! فهذا ما يقوله أهل السنّة أنفسهم لا أنا.٤ فهؤلاء هم الذين يقوم الإسلام بهم! من الذي كان مع النبيّ؟ كان أمير المؤمنين وأبو دجانة الأنصاريّ وطلحة والزبير، فقد كان هذان الرجلان صالحين حينها ومن الذين بقوا حول النبيّ. لقد كان حول النبيّ ثمانية في حين فرّ الباقون وقالوا: انتهى الأمر! فنزل جبرائيل وقال يا رسول الله ادع عليهم. فقال النبيّ: الَلهمّ اهد قومي فإنَّهم لا یعلمون!»٥من في الدنيا يمكنه أن يكون هكذا؟! وأيّ قلب يمكن أن تكون له هذه السعة؟! أيّ نفس وروح يمكنها أن تكون لها سعة كهذه؟! متى يمكننا أن نقارن أنفسنا بهم؟! أين نحن وأين هم؟ أين الثريّا وأين الثرى؟! فما هذا الكلام؟!
إنّ منصب الولاية والرسالة اللذين تحلّى بهما رسول الله إنّما كانا لأجل ذلك، لأجل هذه السعة وهذه القدرة على التحمّل ولأجل أنّ النبيّ لم يكن يميّز بين القريب والبعيد، بين الكافر وغير الكافر وكان ينظر إلى الجميع بعين التوحيد ويريد أن يهديهم جميعًا. لا أنّه كان إذا وصل الكفّار يقول: اقتلوهم جميعًا إنّهم كافرون! كلاّ بل كان يقول: يجب أن يصبح الكافر مسلمًا، وينبغي أن يُستجلب ويسلم من خلال الطريقة والأخلاق الخاصّة بالنبيّ، لا أنّه يتنازع معه، لا أنّه يواجه بوجه عبوس قمطرير، لا أن يعذّب بحجّة أنّك كافر!
أفهل المسلمون الذين أسلموا في زمان النبيّ ولدوا من بطون أمّهاتهم مسلمين؟! لقد كان هؤلاء كفّارًا أيضًا في النهاية، كان أبوهم كافرًا، وكانت أمّهم كافرة. أفهل ولد عمّار بن ياسر مسلمًا من البداية؟ هل ولد ياسر مسلمًا من البداية؟! هل كان زيد بن حارثة مسلمًا من البداية؟! لقد كان جميع هؤلاء كفّارًا، لقد رأوا أخلاق رسول الله وسعته الوجوديّة وروحيّته فاستيقظت نفوسهم وفطرتهم، أمّا لو كان من المقرّر أن نعمل كما أعمل أنا فإنّ المسلم سيرتدّ ويكفر! إن كان من المقرّر أن أدعو بأخلاقي الخاصّة إنسانًا ما فإنّ المسلم سيرتدّ ويكفر! أمّا الكافر فاتركه ولا كلام لنا عنه. إنّها السعة والقدرة الوجوديّة وتلك النفس هي التي حوّلت ذلك الكافر الذي لا يعرف الله وصاحب الأهواء الشيطانيّة والأفكار الجاهليّة إلى مسلم يفتخر به رسول الله في زمان حياته! إنّها هذه الأخلاق وهذا السلوك.
ونحن نشاهد هذه الأخلاق وهذا السلوك في الأولياء والعرفاء، لأنّهم هم أيضًا هكذا. هذه الأخلاق هي الأخلاق التي نراها في الإمام الصادق، هذه الأخلاق هي الأخلاق التي نراها في الإمام الحسن والإمام الحسين وفي الأئمّة وبلا مجاملة لا نراها في أماكن أخرى. لذا فإنّ الذين يقوم بهم الإسلام والتشيّع هم المتّصلون بذلك المبدأ ويأخذون منه ويأخذون من تلك الروح والسعة الوجوديّة فتكون النتيجة هكذا. وكلّ إنسان يكون في المقابل وإن كان يقول أنا شيعيّ، فلا فائدة، وإن قال أنا مسلم فلا يساوي فلسًا، وإن قال أنا متّبع للولاية وللتشيّع ولعليّ، فإنّه يوم القيامة يلقى في قعر جهنّم بيد عليّ نفسه! لا يوكل بذلك خازنَ جهنّم بل يلقيه بيده في وسط جهنّم.۱ ﴿يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد﴾٢ يعني أحضروه من بين هؤلاء الذين يدّعون متابعة عليّ والتشيّع لعليّ وقصموا ظهر عليّ بسلوكهم ومنهجهم وأراقوا ماء وجه أمير المؤمنين والتشيع في كلّ مكان! فهؤلاء سيكونون بيد أمير المؤمنين في ذلك العمق وإلى جانب تلك الجماعة التي تمضي إلى هناك وتدفّئ المكان وتعدّه لاستضافة هؤلاء.٣
ما معنى ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ﴾ وأنّ الغدير هو يوم الولاية؟
اليوم يوم الولاية، تقول الآية الشريفة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ﴾۱ اليوم هو اليوم الذي أكملت فيه دينكم، ألم يؤدّ النبيّ الصلاة والحجّ والزكاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! لقد بيّن النبيّ الأحكام في النهاية فلماذا نحتاج إلى أمير المؤمنين؟ اليوم نصّب النبيّ أمير المؤمنين لكي تُفتح أعيننا، هذا معنى﴿أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ﴾ اليوم هو اليوم الذي ينبغي أن تفتح فيه الأعين والآذان والعقول. اليوم هو يوم تفتّح العقول، اليوم يوم استعمال العقول، لا يوم القضاء على العقل وخنقه وإسكاته والحكم عليه بحكم التقليد وجعله مقيّدًا وأسيرًا للتقليد! اليوم يوم التحرّر من البند، اليوم الذي يقول فيه النبيّ للنّاس: أيّها الناس تعالوا وأعملوا عقولكم، فأنا لا أريد مسلمًا عديم الفهم، أريد مسلمًا يستعمل عقله بمقدار ما ويعي ما يحيط به، هذا ما أريده. فاليوم هو هذا اليوم.
اليوم يوم الولاية تعني أنّ اليوم هو اليوم الذي يقول فيه النبيّ للنّاس: تعالوا وضعوا أيديكم بيد إنسان هو عقلكم المنفصل والعقل الكليّ. تعالوا واختاروا لأنفسكم طريق السعادة والفلاح. لا تضعوا أيديكم بيد أيّ قرد مشعوذ! ولا تسلّموا رؤوسكم لكلّ متظاهر! ولا تدعوها تطحن بين يديه! ولا تغترّوا بأيّ إنسان حسن المظهر! ولا تسيروا خلف كلّ مدّع بغير تحقيق! هذا هو معنى أن اليوم هو يوم الولاية.
لماذا نجتمع اليوم ونحتفل ونبحث عن السرور ونعدّ أنفسنا لهذا اليوم؟ فقبل ألف وأربعمائة سنة جاء النبيّ وتجاوز عن منطقة غدير خم فجاءه جبرائيل وقال: نصّب عليًّا للخلافة. وفي أمان الله. والآن نحن نصفّق ونقرأ الشعر والأناشيد والأراجيز وما شابه وينتهي الأمر، ولكن نعود في السنة القادمة ونكرّر ذلك من جديد ونقوم بأعمالنا نفسها خلال العام ولا يختلف الأمر لدينا فنحن عين ذلك الأحمق السابق، وعديم الفهم السابق الذي يقوم بكلّ ما يريد، فإذن أين إحياء الذكر في هذا الأمر؟! أين هو تبلور الولاية في الأمر؟ أين هي الإشارة إلى أهداف الولاية في الأمر؟!
لقد جاء النبيّ ليقول لهم يا أعزّائي كما أنّي جئت أنا من عند الله بسبب الخصوصيّات التي هي أرفع من خصوصيّات الإنسان المتعارف (لا أنّ الإنسان لا يصل إليها، الإنسان نفسه يصل إلى حيث تفتح عين قلبه ويصبح ذا بصيرة ويعرف الحقائق ويعيها ولا يتمكّن بعد ذلك أحد من خداعه، ولو أنّهم أقسموا أمامه ألف قسم يرى أنّ الأمر شيء آخر). وكما أنّي بخصوصيّاتي الخارقة كنت معكم خلال هذه المدّة ودعوتكم إليه وأعلنت كلمة التوحيد وبيّنت المباني الربوبيّة الرفيعة في المجتمع وأصلحت الفرد، فإنّي أعيّن مكاني إنسانًا بتلك الخصوصيّات وتلك الحالة وتلك السعة الوجوديّة وذلك الإدراك والبصيرة، لا أجعل مكاني عمّارًا؛ لأنّ عمّارًا ناقص، التفتوا، عمّار الذي قال عنه رسول الله: "عمّار جلدة ما بین عینيّ" ٢ يعني ليس هناك حجاب بيني وبين عمّار. ولا أجعل مكاني أبا ذرّ رغم كلّ صدقه والخصوصيّات التي لديه، فإنّه ناقص. التفتوا ناقص، ولا أجعل المقداد؛ فإنّه ناقص. إنّهم أناس جيّدون للغاية ومن الذين كانوا مع أمير المؤمنين خلال تلك الفتنة التي وقعت بعد رسول الله.٣ كانت لهم بصيرة،
ولكن لم تكن لديهم السعة الوجوديّة للقيادة، ولم تكن لديهم السعة الوجوديّة للإمامة والولاية. إنّهم أناس جيّدون، ولكن من كانت له حقيقة مماثلة ومشابهة لحقيقتي وهو عيني أنا هو رجل واحد في الأمّة وهو عليّ بن أبي طالب، وليس هناك سواه! أي إنّ تلك الحقائق التي كنت أبيّنها حتّى هذه اللحظة اسمعوها منه من دون حرف واو زائد أو ناقص. وكلّ خلق وسلوك كان لديّ طوال هذه الثلاث والعشرين سنة والأساليب الاجتماعيّة التي طبّقتها وسرت مع الناس على أساسها وبها اتّبعني الكفّار والمشركون، فلتجدوها من بعدي في عليّ فقط، وذلك الاتّصال بالغيب والاطّلاع على ملكوت السماوات والأرض وجميع حقائق الأسماء والصفات الإلهيّة التي صحبتكم بها، فلتجدوها في عليّ وحده، ولتجدوا فيه أيضًا جميع تلك المعجزات التي كنت أصنعها وأشقّ لكم القمر و… وقد رأيتموها جميعكم ونقلها الجميع أيضًا.۱ فانظروا هل يستطيع هو أيضًا أن يشقّ القمر ويوقف الشمس ويردّها وتشهد الحصى له أم لا؟!٢
ما هو المعيار في كون الإنسان إمامًا؟ (قصّة محمّد بن الحنفيّة مع الإمام زين العابدين)
ماذا فعل الإمام زين العابدين؟ لقد ادّعى محمّد بن الحنفيّة الإمامة وظنّ أنّ الإمامة هي الأخرى هكذا أيضًا يكفي فيها أن تكون ابن إمام! لقد كان محمّد بن الحنفيّة فقيهًا كبيرًا وابن إمام وكان له شأن بين الناس ومقام وشخصيّة؛ فظنّ أنّ الأمر قد انتهى وتمّ له. وهناك من يقول إنّه إنّما تكلّم بذلك لأجل النّاس [ليبيّن لهم حقّانية الإمام زين العابدين لا أنّه كان يعتقد ذلك لنفسه]. كلاّ يا عزيزي لا صحة لهذا الكلام، بل اشتبه الأمر عليه؛ فأبناء الأئمّة ليسوا بمستوى واحد، أرأيتم ماذا صنع بعض أبناء الأئمّة؟! أرأيتم ماذا صنع إخوة الإمام الرضا؟! أرأيتم ماذا صنع أعمام الإمام الرضا؟!٣ وهكذا اشتبه الأمر على محمّد بن الحنفيّة فقال: أنا إمام. فقال له الإمام إنّ الإمام هو الذي يخضع له ولإرادته عالم التكوين كلّه، فقم إلى الحجر الأسود ومره أن يشهد بإمامتك، وأنا آمره أيضًا، فمن رأيناه يشهد له فنحن نسلّم له.
فأقبل محمّد بن الحنفيّة ومهما دعا ومهما فعل لم يصدر من الحجر الأسود أيّ صوت! لا أدري لماذا فعل ذلك؟! الحاصل أنّه يجب أن يعلم أنّ الأمر ليس هكذا! وربّما حصل له حينها التفات ولكن أراد أن يدرك الناس ذلك أيضًا، فهذا ليس بعيدًا. ولكن ما إن طلب الإمام السجّاد من الحجر الأسود أقرّ بصوت عال بإمامته ووصايته وسمعه كلّ الناس.۱ فإذن هذه المسألة ليست مزاحًا، وهذا هو الإمام. وما دام هذا هو الإمام فنحن نختلف عنه إذن؛ فما هذه الأعمال التي نقوم بها؟! لا بدّ من رعاية الحدود!
لماذا كتب المرحوم العلاّمة المجلّد الثامن عشر من معرفة الإمام؟! وما مرتبته في الأهميّة؟
لماذا كتب المرحوم العلاّمة المجلّد الثامن عشر من معرفة الإمام؟! وقد سألت المرحوم العلاّمة أن ما هو أفضل كتاب ألّفته؟ فقال: أفضل كتاب لمعات الحسين، والذي هو كلمات سيّد الشهداء عليه السلام وليس فوق كلام الإمام كلام، طبعًا سوى القرآن الذي يختلف أمره، ومرادنا هو من كلام المربوبين والمخلوقين. ثمّ قلت له: ثمّ أيّ كتاب؟ فقال: معرفة الإمام. قال: "لقد رأيت أنّ مقام الإمام عليه السلام ومقام الأئمّة مجهول بين الناس وقد سار الناس في طريق خاطئ في تفكيرهم حول الولاية والإمامة وهم يتصوّرون أنّ الإمام كغيره من الناس، نعم أرفع منهم بقليل وبدرجة واحدة، فكتبت معرفة الإمام وأنّه لا يمكن أن يقاس بالإمام أحد."
فليس الأمر أنّه أعلى أو أدنى فالإمام في مرتبةِ "لا يقاس بنا أحد".٢ لا يقاس بنا أحد من هؤلاء الناس، وهذا هو الشاهد على ذلك. إلا أن يأتي الإنسان وينكر الحقائق فهنا لا يبقى شيء، وهذا أمر آخر. لقد أنكروا القرآن أيضًا وقالوا كلّه سحر وكلّه باطل! ثمّ قال: "نتيجة معرفة الإمام ذاك هو المجلّد الثامن عشر الذي كتبته."
ما معنى لا يقاس بنا أحد؟
إنّ كامل السلسلة المؤلّفة من ثمانية عشر جزءًا هي لأجل هذا الجزء الثامن عشر وهي نتيجته. نتيجته هي أنّ إمام الزمان عليه السلام في مرتبةٍ لا يقاس به أحد معها. علينا أن لا نقول إنّ الإمام عليه السلام أرفع، فما معنى أرفع؟! تمامًا كما لو أخذتم لونًا أسود ولونًا أبيض ثمّ قلتم: البياض أفضل بقليل. والحال أنّهما في نقطتين متقابلتين. علومنا علوم بشريّة وحصوليّة وعلوم الإمام علوم شهوديّة ووجدانيّة، وبين هذين اختلاف جوهريّ وماهويّ.
اليوم هو اليوم الذي جاء فيه رسول الله وقال: أيّها الناس تعالوا واعثروا على وجودي الباقي في عليّ، فأنا أدلّكم على الطريق، عليّ هو هذا وهو الذي يهدي. ليس هناك من يمكنه أن يهدي مثلي ومثل عليّ، فغيره يمكن أن يكون مصيبًا ويمكن أن يكون مخطئًا، يمكن أن يقول صوابًا ويمكن أن يقول خطأ. هذه هي حقيقة الأمر. وأمّا هداية عليّ وإرشاده فلا معنى للخطأ فيهما، فعندما يقول أمير المؤمنين: افعل هذا. يجب أن لا تفكّر في أنّه هل سيكون مثمرًا أم لا؟! هل هو خطأ أم صواب؟ فلأذهب مرّة أخرى وأسأل! إن لم أتمكّن من هذا العمل فماذا أفعل؟ إن يقل: "اذهب وافعل هذا"، فقد انتهى الأمر. إن يقل: "لا تفعل هذا"، فقد انتهى الأمر. هذا معناه، لأنّه إمام معصوم.
ما معنى العصمة؟
العصمة تعني الاتّحاد بالواقع وأن يكون الإنسان عين الواقع، فكما أنّ الكلام الإلهيّ معصوم، وكما أنّ إرادة الله معصومة، وكما أنّ مشيئة الله معصومة، بحيث لا يمكننا أن نتصوّر الخطأ في مشيئة الله، لأنّها عين الوجود وأصل الوجود ومنبع الوجود [فكذلك حال الإمام]. فالعصمة إذن ناتجة ومنتزعة من هذه الحقيقة، لا أنّ هذه الحقيقة مطابقة للعصمة، فنحن ننتزع العصمة من إرادة الله ومشيئته، فهكذا يقول رسول الله: من الآن فصاعدًا عليكم أن تنتزعوا العصمة من فعل عليّ وقوله، لا أنّ كلام أمير المؤمنين مطابق للعصمة!۱ فأين نحن من ذلك؟!
فكلام عليّ علّة ومنشأ لانتزاعنا العقلانيّ، لا أنّ لدينا في عالمنا تصوّرًا، ونتصوّر في أذهاننا حقيقة ما ثمّ ننظر إلى أمير المؤمنين ونقيسه عليها لنرى أنّه صحيح أم غير صحيح، هذا لنا نحن، ويرتبط بأعمالنا نحن. نعم لا يمكن أن ندّعي العصمة لأعمال أحد، وادّعاء العصمة لكلّ من هو غير الإمام المعصوم هو كفر وشرك وخلود في النار، كلّ إنسان مهما كان عليه أن يقيس أعماله بميزان الشرع ليعلم أنّها صحيحة أم لا، إن كانت صحيحة فعلى العين، وإن لم تكن صحيحة فمردودة وباطلة. هذا هو الواجب الذي أمرنا به. أمّا بالنسبة إلى إمام العصر أرواحنا فداه فماذا؟ وبالنسبة إلى الإمام الهادي والعسكري ماذا؟ وبالنسبة إلى الإمام الجواد والإمام الرضا والأئمّة الآخرين ماذا؟ كلاّ فنحن ننتزع العصمة من هؤلاء، لا نجعل شيئًا في الذهن ثمّ نقيس عليه كلامهم وسلوكهم! كلاّ فنحن نأخذ كلام الإمام المعصوم عليه السلام ثمّ نقيس أنفسنا عليه، ماذا قال الإمام الصادق؟ فعليّ أنا أن أقوم به! ولا معنى للسؤال: هل كلام الإمام الصادق هذا كان صحيحًا أم لم يكن صحيحًا؟
فانظروا إذن الحدود تختلف بشكل كامل وهي متفاوتة والفرق بينها جوهريّ، لا بالكمّ والكيف والشدّة الوجوديّة، بل جوهر الفعل يختلف بين فعل وتقرير وكلام المعصوم عليه السلام وسائر الناس، وهناك اختلاف ماهويّ. فإذن لكلٍّ حكمه الخاصّ.
معنى إكمال الدين
يقول رسول الله: أيّها الناس لقد نزلت اليوم آية أنّي أكملت في هذه اللحظة الدين. فالأحكام قد بيّنت، غاية الأمر أنّ القوّة المديرة و المدبّرة وحقيقة الإدارة والتربية والزعامة التي هي عبارة عن التدبير التكويني للنفوس نحو مراتب الرشد والكمال قد تحقّقت اليوم. وأنا سأفارقكم بعد شهرين، فانظروا كم أنا بكم رحيم! هل لديكم من هو أرحم منّي؟! أتخالون أنّ عليًّا هذا الذي رفعت يده الآن أمامكم يبحث عن الرئاسة؟! أتخالون أنّ عليًّا هذا يسعى إلى الحكومة؟! أتخالون أنّ عليًّا هذا يسعى إلى الإمامة؟! أتخالون أنّ عليًّا هذا يسعى إلى التسليم عليه والقيام من أجله ورفع الصلوات؟! أتخالون أنّه يسعى إلى تعليق اللافتات والترحيبات به هنا وهناك؟! أنتم بأنفسكم رأيتم عليًّا مدّة ثلاث وعشرين عامًا، أنتم كنتم معه، فمن يلقي بنفسه في المخاطر أكثر منه؟! في معركة الخندق عندما ﴿بَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ﴾۱
وبلغت أنفاسكم إلى حلاقيمكم وعلقت هناك وكدتم تختنقون، عندما جاء جناب عمرو بن عبد ودّ بهيكله الضخم لم يصدر عن أحد منكم جواب، فمن الذي وقف في وجهه؟! ومن الذي وقعت ضربة عمر بن عبد ودّ على فرقه؟!٢ هذا ما رأيتموه بأنفسكم!
وفي معركة خيبر أيّكم تقدّم لجدال وقتال مرحب؟!٣ وهناك أنتم رأيتم بأنفسكم.
وفي معركة أحد أيّ إنسان يقف جانبًا ثمّ يصاب بتسعين ضربة بالسيف…؟٤ فهل عليّ هذا كان يبحث عن اللافتات وهذه الألعاب؟! هل عليّ هذا يبحث عن الولاية؟! هل يبحث عن الإمامة؟! هل يبحث عن الإرشاد والهداية؟!
فإذن لماذا أقوم أنا بإحضاره؟ اعلموا أنّ اليوم هو أشدّ يوم في عمر هذا الذي آتي به وأنصّبه اليوم! أشقّ يوم في عمر أمير المؤمنين هو اليوم الذي نصّبه فيه النبيّ. أتخالون أنّ أمير المؤمنين جلس وفرح وقال: ما شاء الله انظروا لقد نصّبني النبيّ إمامًا…؟! هذا لنا نحن، نعم لو أنّ النبيّ فعل ذلك بنا لطرنا فرحًا وأعلنا السرور والاحتفال وأمثال هذه الألعاب التي نراها! أمّا بالنسبة إلى أمير المؤمنين فهو أصعب يوم.
معنى شيّبتني سورة هود
أشدّ يوم على النبيّ هو اليوم الذي نزل فيه الوحي عليه في غار حراء كما قال المرحوم العلاّمة:
ليست هناك ساعة أشدّ على النبيّ من تلك الساعة التي نزلت فيه آية ﴿بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ، ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾۱
وما حدث بعد ذلك لرسول الله هو من شدّة تلك البوارق والواردات التي أحسّ بها حينها وأصابته حمّى ورجفة٢ فنزلت ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ، قُمۡ فَأَنذِرۡ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ﴾٣ وكانت حول كيفيّة نزول هذا الأمر العظيم على النبيّ.٤ كما أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول هناك رواية أخرى عن رسول الله يقول فيها: شيّبتني سورة هود.٥ وفي رواية أخرى: لمكان هذه الآية ﴿فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾٦ لا تتراجع على الفور، ولا تقل على الفور: هؤلاء الناس لا يهتدون في النهاية، فإذن في أمان الله! فلأذهب إلى هذا العدد اليسير من الأصحاب المحيطين بي وأتابع معهم! ﴿فاسْتَقِمْ…﴾ قال رسول الله هذه الآية شيّبتني.۷
أتدرون لماذا شيّبت رسول الله؟ لأنّ تلك المسؤوليّة التي كان يشعر بها في قلبه ليس لها وجود في قلوبنا بمقدار رأس إبرة. لو أنّا أحسسنا بتلك المسؤوليّة ـ وطبعًا ليست كاملة بل بمقدار عقلة إصبع ـ لشبنا نحن أيضًا. لو أنّنا نشعر بذلك الإحساس الذي كان لديه وتلك الأبوّة التي كان يشعر بها والإحساس الأبويّ الذي كان لديه لقلنا نحن أيضًا: شيّبتني سورة هود. ولكنّ الله يعلم ماذا يعطي من السعة لكلّ إنسان.
عيد الغدير نقطة انطلاق العقل والحريّة
اليوم هو اليوم الذي أمر فيه رسول الله أن استعملوا من اليوم فصاعدًا عقولكم ولا تبحثوا عن الظاهر إلى هذا الحدّ، ولا تبحثوا عن الكثرة إلى هذا الحدّ، ولا تتّبعوا الشائعات إلى هذا الحدّ و… استعملوا عقولكم وأفهامكم وانظروا ماذا تحصلون؟ لقد بحث الأئمّة عن هذا الأمر، لقد جاء الأئمّة وقالوا نحن وصلنا إلى تلك المرتبة من العقل المتكامل، فماذا يقتضي العقل؟ يقول العقل: على الإنسان أن يتّبع هذا الأمر. فإذن في عيد الغدير لم يقم رسول الله بتحديدنا وتقييدنا وجعلنا في الأغلال، ولم يأخذ منّا مبدأ الديمقراطيّة المتعارف، ويجعلنا مقلّدين لعليّ بن أبي طالب، ويجعلنا مقلّدين وتابعين له قائلاً: الأمر هكذا ولا يوجد غيره وكلّ من لم يفعل ذلك فالويل له وسينتقم الله من آبائه! كلاّ بل قال رسول الله ـ في يوم الغدير وطبعًا هذه أمور لم يقلها بل هي حقيقة الأمرـ : أيّها الناس أنا ماض بعد شهرين، فإن كانت لكم أنتم عقول فاحكموا بأنفسكم وانظروا. والحمد لله ليس لأحد منكم عقل. ولا أقصدكم أنتم أيها الحاضرون بل أقصد هؤلاء الذين مضوا وعقدوا سقيفة بني ساعدة ورأيتم ماذا صنعوا، وهؤلاء الذين يؤيّدون هذه الحادثة.
اتّباع الأعلم حكم عقليّ فطريّ
فأنا أسألكم سؤالاً: إن كنتم مرضى وبحاجة إلى الطبيب فبماذا تحكم عقولكم في ذلك؟ ألا تراجعون الأعلم؟! ألا تقولون هنا إنّ العقل نفسه يأمر بذلك؟! فالعقل بمساعدة الفطرة يهتدي إلى حقائق الوجود، وفي حقائق الوجود هذه أنّ النظام هو النظام الأحسن، ومقام التربية والتزكية والإرشاد أيضًا هو على هذا النسق ولا يختلف عن نظام التكوين؛ لذا فإنّ حكم الشرع يجب أن لا يكون منافيًا لحكم التكوين، وإن كانت هناك منافاة فهذا تناقض. فالعقل نفسه يقول: إن كان هناك مرض وذهب الإنسان إلى طبيب قليل العلم فهو أحمق ومجنون ولا عقل له ولا منطق.
الإمام الجواد يطرح هذا الأمر بعينه على عمّه، فعمّه عبد الله ادّعى الإمامة بكلّ سهولة بعد الإمام الرضا عليه السلام، ويبدو أنّ هذا الأمر كان أيضًا سهلاً وشائعًا ورائجًا سابقًا، يقول الإمام: «یا عَمِّ! إنَّهُ عَظیمٌ عندَ اللَهِ أن تَقِفَ غَدًا بَینَ یَدَیهِ فَیَقولَ لَك: لِمَ تُفتی [تُفتِ] عِبادي بِما لَم تَعلَم و في الأُمَّةِ مَن هو أعلَمُ مِنك؟!۱
هذا الأمر أمر عقليّ ولم يكن هناك حاجة أن يبيّنه الإمام الجواد، غاية الأمر أنّ الإمام ليس أمامه سبيل سوى أن يبيّن هذه الأحكام العقليّة بهذه الكيفيّة، لعلّها تكون تنبيهًا فيقول إنّ نظام الإمامة ونظام التربية والتزكية على أساس هذا العقل، أفهل ترى نفسك أعلم الناس؟! تفضّل إذن بسم الله! وإن كنت لا ترى نفسك أعلم الناس فلماذا تثقل على نفسك؟! لماذا تجعل نفسك مستوجبة للعقاب الإلهيّ؟! هذه هي المسألة.
هل حادثة الغدير حادثة تاريخيّة انتهت أم أنّ التنصيب يتجدّد كل عام؟
يوم عيد الغدير الذي كان قبل ألف وأربعمائة سنة مستمر إلى يوم القيامة، اليوم هو اليوم الذي نصب فيه رسول الله أمير المؤمنين إمامًا. يعني في هذه اللحظة بعينها الساعة التاسعة والربع التي أتحدّث فيها معكم جاء النبيّ وصنع ذلك، وفي السنة القادمة أيضًا سيفعل ذلك، لا أنّه فعل ذلك قبل ألف وأربعمائة عام، بل النبيّ يفعل ذلك في كلّ عام، فهل نحن ملتفتون ما هو هدف النبيّ من ذلك؟! فالنبيّ ينصّب أمير المؤمنين في كلّ عام، هذا هو معنى إحياء الذكر. فلنفهم إذن ولننزع هذه القطنة من آذاننا ولنستعمل هذا الذهن قليلاً ولندقّق قليلاً في القضايا والأمور، ولا نعمّم كلّ حكم إلى أيّ مكان، ولنقبل للناس حدودهم الخاصّة لا أكثر ولا أقلّ، لأنّ لكلّ إنسان حدّه الخاص، ولنقس جميع الأمور بميزان العقل وميزان الشرع: هل هذا يسنجم مع ميزان الشرع أم لا؟ فإن كان ينسجم نقبله وإلا لا نقبله، من أيّ إنسان صدر! هذا هو بلاغ ورسالة رسول الله اليوم بأن نعمل بهذا.
الإمام الصادق عليه السلام قدوة لنا، الإمام الباقر عليه السلام قدوة لنا، الأئمّة كلّ واحد منهم قدوة لنا، وكلّ واحد منهم بيّن لنا في برهة خاصّة من حياته ما هو لازم ومقتضى زمانه، هذه هي المسألة التي يجب الالتفات إليها اليوم.
فالإمام الصادق والإمام الباقر عليهما السلام كانا في مرحلة تمكّنا فيها بسبب الاختلافات الحاصلة وانتقال الحكومة من جماعة إلى أخرى أن يبيّنا للنّاس رسالة الغدير هذه ومغزاه، فأحييا تلك المبادئ وأحييا ما يجب أن يبيّن للنّاس لأجل الوصول إلى السعادة بدرجة مائة في المائة وبنحو الفعليّة التامّة. طبعًا لقد بيّن هذان الإمامان البيان الأوفى وسائر الأئمّة بسبب المحاذير التي كانت لديهم لم يتمكّنوا من بيان هذا الأمر للنّاس وتفسيره كما هو حقّه. وتلك هي الحقيقة التي بيّنها رسول الله بالإجمال في يوم عيد الغدير فقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. وجعل يد الأمّة في يد أمير المؤمنين؛ فسحبت جماعة يدها وهي نفسها التي خسرت.
بيان مولانا جلال الدين الرومي لحقيقة الغدير
يقول مولانا في هذا المجال:
زین سبب پیغمبر با اجتهاد | *** | نام خود و آن علی مولا نهاد |
يقول: لهذا فقد جعل النبيّ صاحب الاجتهاد نفسه وعليّا مولى
زین سبب پیغمبر با اجتهاد | *** | ... |
فالنبيّ عندما قال هذا الكلام فإنّما قاله عن اجتهاد وفهم، لا عن تقليد وأنّ الله قاله. فانظروا مولانا نفسه يبيّن هنا أنّ الجانب العقلاني قد روعي هنا.
... | *** | نام خود و آن علی مولا نهاد |
هو مولى كما أنّ عليًّا مولى.
ثمّ يوضّح:
کیست مولا آن که آزادت کند | *** | بند رقّیت زپایت بَرکَنَد۱ |
يقول: من هو المولى؟ إنّه الذي يحرّرك ويفكّ قيد الرقّ من رجلك.
کیست مولا آن که آزادت کند | *** | ... |
يحرّرك من الجاهليّة، يحرّرك من إغلاق العين والأذن، يحرّرك من السير في طريق ضالّ، يحرّرك من السقوط في الهاوية، يحرّرك من التوجّه إلى هنا وهناك اتّباعًا للشائعات، ويحرّرك من التقليد الأعمى. وهذا الاتّباع هو عين الحريّة وهذه التبعيّة هي عين الحريّة والوعي والفهم.
... | *** | بند رقّیت زپایت بَرکَنَد |
لقد عقدت في رجلك قيدًا حتّى الآن، قيد الأقارب والأرحام، قيد الزوجة والأولاد، قيد الجيران، قيد الشريك، قيد الرئاسة، قيد المال والمقام: آه لو لم أفعل هذا فمن أين سآتي بالخبز؟! آه إن لم أقل هذا الكلام فسيقطع عنّي الخبز! يعزلونني من العمل! جاء أمير المؤمنين ففكّ جميع هذه العبوديّات فقال: يا عزيزي لمن تجعل نفسك عبدًا لمن هو أسوأ حالاً منك ومن كان في منتهى الفقر؟! لا خبر لديه عن الساعة اللاحقة هل سيكون حيًّا فيها أم ميّتًا؟! أنت تطأطئ رأسك أمامه تعظيمًا؟! ممّ تخاف؟! يقطع راتبك الشهريّ؟! فليقطع! فأين ذهبت إنسانيّتك في النهاية؟! أين ذهبت حريّتك في النهاية؟! أين ذهب شرفك؟! أنت إنسان، أنت خليفة الله، تجعل نفسك عبدًا لهم كالحيوان، لقد ألقوا حول عنقك حبلاً كما يلقونه في أعناق الأغنام والأبقار وهم يجرّونك خلف ميولهم إلى هنا وهناك، وأنت مطأطئ رأسك ولا ترفعه ولا تلتفت إلى مكانتك الخاصّة وأنّك أيّ إنسان أنت!
هذا ما يقوله مولانا، واقعًا رحمة الله عليه ورضوان الله عليه وواقعًا أسكنه الله بحبوحة الجنان مع أمير المؤمنين على سفرة أمير المؤمنين كم يقول جميلًا ورائعًا:
... | *** | بند رقيّت زپایت بگلسد |
يفكّ قيد الرقّ من رجلك. أيّها التعيس الحظّ من تتّبع أنت؟! تقيم سقيفة بني ساعدة لتجعل واحدًا على المنبر لا يدري أخمس أصابع في يده أم ستّ؟! أتتّبع هذا؟! يأتي ويسأله: أين الله؟
﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾۱ الله في الأعلى.
ـ فإذن الأرض ليس فيها إله!
ـ خذوه واضربوه.٢
هل لا بدّ من هذا لأنّه لا يستطيع أن يجيب ويوفّي السؤال حقّه؟ اضربوه وأخرجوه؟! لو تمكّن من الإجابة لما قال اضربوه وأخرجوه! أمّا أمير المؤمنين فإنّه أوّلاً لم يعجز عن سؤال، متى عجز أمير المؤمنين عن سؤال فيما نقل عنه؟! ثمّ هل كان دأبه إذا سئل هل الله في الأعلى أم في الأسفل أن يقول: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾ فيجيبه السائل: فإذن العرش فيه رحمن أمّا في الأسفل فلا رحمن فماذا عن الأرض؟ فيقول: اضربوه؟ عجيب ما شاء الله! شكرًا! واقعًا خسارةٌ هذا النبيّ وخسارة أمير المؤمنين هذا! أنا أقول: خسارة أن يأتي أمير المؤمنين ويؤمّ هؤلاء!
لقد كان الجميع أفضل من هذا الرجل…! ماذا يقول الإنسان؟! فهذا كلّه يدلّ على أنّه لا بدّ من الاستعاذة بالله! ففي النهاية كان من أمثال هؤلاء، فهؤلاء ولدوا من صلب آدم، ولم تكن لهم أربعة أيد وأربعة أرجل وكانوا بشرًا في النهاية، ولكنّ الحقيقة أنّ هذه النفس وهذه التعلّقات النفسيّة تأتي وتحجب وتطفئ إنارة العقل هذه، وحينها یصبح الإنسان هكذا.
نظرة إلى انحرافات إنسان القرن العشرين
انظروا الآن إلى الناس الذين هم في هذه الدنيا في أيّة حال هم! إنسان القرن العشرين ماذا يفعل وبأيّ فجائع يقوم؟! يخرج إلى الشارع عاريًا كما ولدته أمّه، ليس من الضروريّ أن [تكون هكذا] إن كان هناك كلام فيمكن أن تتكلّم بتلك الكيفيّة، ولا ضرورة لأن تعرض متاعك في السوق أمام جميع الخلائق! هذا الإنسان هو إنسان القرن العشرين، هذا الإنسان هو الإنسان المتنوّر وصاحب الفكر المتنوّر! لقد ذكرت في كتاب أفق وحي حول هذا الأمر أنّ الذين يعترضون على رسول الله ويرون هذا الوحي مختصًّا بذاك الزمان عليهم أن ينظروا، ألف رحمة على إنسان ذاك الزمان، على الأقل لم يكونوا يعترضون هكذا يريدون بهذا الشكل أن [يعبّروا…]۱ فماذا حصل حتّى سقط الإنسان في هذه الحالة؟! هذا من الناحية الأخلاقيّة. وأما من ناحية قسوة القلب، فهناك إنسان يجيز لنفسه أن يضرب على رأس آخر بغير ذنب بحيث يسيل دماغه على الأرض، فكيف يمكن أن يكون أمر كهذا في مخيّلة إنسان؟! عجيب، أيحتمل أيضًا في حقّ هذا الإنسان أمر كهذا؟! فذاك نموذج من الأمور الأخلاقيّة، وهذا من ناحية قسوة القلب والسبعيّة والبربريّة والوحشيّة بحيث يترحّم الإنسان ألف رحمة على النمور والفهود والثعالب، فأين أقدمت على أعمال كهذه في الدنيا؟! يرسل بسلاح فيقضي على النساء والرجال ويسوّي منطقة كاملة بالتراب ويغطّيها بالدماء. الطائرة التي تغير وتجعل مائة ومائتين وثلاثمائة من الأطفال الرضّع والشيوخ والأبرياء أشلاءً وهي تعلم ماذا تحتها! فكيف يمكن هذا؟! عجيب جدًّا أن يصل الإنسان إلى هذه النقطة من الحيوانيّة! أين فعلت النمور والفهود مثل هذه الأفعال؟! هذا بسبب الابتعاد عن الحقيقة.
لا بدّ من اتّباع مدرسة أهل البيت، لا بدّ من الرجوع إلى ما يقوله الأئمّة، لا بدّ من الرجوع إلى ما يقوله الإمام الصادق، لا بدّ من الرجوع، لا بدّ من تغيير المسير، لا بدّ من القيام بذلك. لقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام رسالة الغدير. لقد بين الإمام الباقر والإمام الصادق هذان الأب والابن رسالة الغدير، الرسالة التي قالها النبيّ قبل ألف و مائتي سنة في يوم الغدير، بيّنوا للنّاس أن يا أيّها الناس كونوا كذا، ولتكن صلاتكم هكذا، وليكن صومكم هكذا، ولتكن آدابكم الاجتماعيّة هكذا، تحدّثوا مع الناس بهذا النحو، تكلّموا مع زوجاتكم وأطفالكم هكذا! ولتكن أعمالكم الشخصيّة ضمن هذه الحدود، ولتكن أعمالكم الاجتماعيّة بهذه الصورة، وليكن لكم حساب ودقّة… هذا ما قاله الإمام الباقر والصادق. فالإمام الصادق لم يقتصر على بيان الأحكام، ثمانون بالمائة من مبادئنا وتعاليمنا سواء الأخلاقيّ منها أم السلوكيّ أم الاعتقاديّ يرجع إلى الإمام الصادق والإمام الباقر.
وظائف المبلّغين في أنفسهم وتجاه الناس
فوظيفة المبلّغين والمتّبعين والذين يقتفون أثر أهل البيت وجعل الله نصيبهم اتّباعهم وهم يدعون إلى هذه المدرسة وهذه العقيدة هي التالي:
أولاً: أن ننظر فقط وفقط إلى الإمام الصادق لا غير، فقد انتهى الأمر. ماذا يقول الإمام الصادق؟ فلا معنى بعد ذلك لمعرفة ماذا قال فلان والعالم فلان و… فمعرفة ما كانوا عليه لا يفيدنا. لو كان في قلبنا عند رؤيتنا لكلام الإمام المعصوم عليه السلام ولو شيء يسير من هذا الكلام وأنّه: لقد كان فلان يفعل كذا فلننظر لماذا كان كذلك، فقد انتهى الأمر، وقد خسرنا بهذا المقدار، وذاك النور الذي يسطع في القلب بسبب قراءة رواية الإمام الصادق ويجعل هذا الكلام محفورًا في القلب ويجول بالإنسان ويرجعه ويجعله في ذاك العالم، ذاك النور سيضعف، ويخسر فاعليّته. عندما تفتحون أصول الكافي تريدون القراءة، فعليكم أن تعلموا أنّ كلّ ما لدينا هو كلام الإمام الصادق لا غير! فإذا فهمنا كلام الإمام الصادق ووصلنا إلى أساسه حسب سعتنا الوجوديّة، حينها نذهب إلى الآخرين على ضوء ذلك الأساس لنرى كم هم قريبون وكم جعلوا أنفسهم منسجمة معه!
قبل بضعة أيّام وأثناء مباحثتنا مع الرفقاء والأصدقاء كنت أقول إنّ معيارنا ليس هو الناس والأعاظم؛ معيارنا هو الإمام المعصوم.
قصّة عن الميرزا القمّي
أحد هؤلاء الأعاظم والذي هو رجل رفيع الشأن وعالم جليل الميرزا القمّي رحمه الله. فالميرزا القمّي رحمة الله عليه رجل عظيم كثير العلم جليل جدًّا. وأنا بنفسي درست كتاب القوانين حتّى بحث العام والخاص، وقد كان هذا الكتاب ولا يزال من الكتب الدراسيّة. وكتبه وخصوصًا كتاب جامع الشتات مفيدة جدًّا، وكان المرحوم العلاّمة يوصي أن يقرأه الفضلاء والمجتهدون فإنّه مفيد جدًّا ويساعد كثيرًا في كيفيّة تفريع الفروع. والأمر الذي أريد أن أنقله عنه ربّما بدّل رأيه فيه آخر عمره، ولكن عندما حدث هذا الأمر كان عالمًا وكبيرًا وكان يعدّ في عهد فتح علي شاه المجتهد الأوّل بين الناس والمجتهد الأوّل في إيران، حتّى يقال إنّ فتح علي شاه كان يقلّده.
فعندما كان في كربلاء كان أستاذه البهبهاني رحمه الله يهتمّ به كثيرًا، ويقال إنّ البهبهاني كان يؤجّر نفسه للصلاة والصيام النيابيّين ويعطيه أجرتهما لتكون له حياة جيّدة مع أسرته ويتمكّن من الدراسة بنحو أفضل، فالأستاذ كان يصلّي صلاة الاستئجار ولا يقول له إنّه يفعل ذلك! وطبعًا يثيبه الله ثوابًا عظيمًا، وقد فعل عملاً كبيرًا وآثر، فمن الناحية الأخلاقيّة والقيم الأخلاقيّة يستحقّ هذا العمل الاهتمام كثيرًا. نعم ليس من الضروريّ أن يقوم الإنسان بذلك، هناك أعمال مختلفة ويمكن للإنسان أن يقوم بأمثال هذه الأمور بطرق أخرى.
وبعد وفاة الوحيد البهبهاني بسنوات يطّلع على أنّ هذا الراتب أو الشهريّة التي كانت له من الأستاذ كانت عن هذا الطريق، فيتأثّر كثيرًا ويشعر بدَين كبير في عنقه.
التفتوا! وقد تقدّم أنّي أريد أن أقول هذا: لماذا لم يعيّن النبيّ عمّارًا يوم الغدير؟ لماذا لم يعيّن أبا ذرّ؟ لماذا لم يعيّن المقداد؟ هذا الموضوع موضوع يجب الاهتمام به، هؤلاء كلّهم من أصحاب الدرجة الأولى، كلّهم جيّدون، ولكن البحث بحث زعامة أمّة، بحث ولاية أمّة، فأمرها يختلف عن أمر أبي ذرّ و… أمرها يختلف عن أمر عمّار، يختلف ما بين السماء والأرض!
ينقل أنّ الميرزا القمّي عندما دخل برفقة أصحابه إلى كربلاء وفي أوّل سفر له إلى العتبات المقدّسة وقبل أن يتوجّه إلى زيارة سيّد الشهداء قال لمن حوله:
"إنّ الأدب يقتضي أن أذهب أوّلاً لتقبيل عتبة بيت أستاذي الوحيد البهبهاني ثمّ آتي لزيارة سيّد الشهداء!"
فانظروا هذا غلط وباطل! الوحيد البهبهاني أستاذك، وعمله الذي قام به في حقّك له شأنه وقدره، والله يؤاجره عليه ويهبه مقامًا، وإن شاء الله هو مأجور وأنت أيضًا عليك أن تحترمه وعليك أن تطلب له المغفرة، ولكن لماذا تتوجّه إلى بيته أوّلاً؟! ماذا يقتضي الأدب؟! هل الأدب يقتضي أن يصبح وليَّ نعمتك هذا الإنسانُ الذي أخذ لبضع سنوات الصلاة والصيام الاستيجاريين ليعطيك المال؟! أم سيّد الشهداء الذي جميع عالم الوجود يقتات على فتات مائدته؟! إنّما يدرك ذلك من أدرك حقيقة الولاية، أيّهما له المنّة عليك؟! رسول الله له المنّة حيث جاء وبسط هذه المائدة أم الوحيد البهبهاني؟! لولا الإمام الحسين أين كان الوحيد البهبهاني ومن هو أعلى منه؟! هؤلاء أناس كغيرهم يبيعون الخيار والشمندر في الشارع! فما هذا الكلام؟! الإمام الحسين هو الذي صنع من الوحيد وحيدًا، الإمام هو الذي صنع من الميرزا القمّي الميرزا القمّي، الإمام الحسين هو الذي بدّل الدنيا كلّها، الإمام الحسين هو الذي فتح أعين الجميع، الإمام الحسين هو الذي بسط هذه المائدة ودعا الجميع إلى التوحيد ورفع لواء الشفاعة الكبرى! فمن أكون أنا؟! ومن الوحيد؟! ما هذا الكلام؟! انظروا إن كان لا بدّ أن يكون واحد من هذين الميرزا القمّي وسيّد الشهداء إمامًا فمن الذي لا بدّ أن يكون؟! قولوا على الفور: الإمام الحسين هو الإمام، لا الميرزا، ولا الوحيد ولا أنا ولا غيري، الإمام هو الإمام، هو صاحب مقام الولاية وعلى الإنسان أن يفتح عينه ويعلم أين هو.
وهنا يجب أن نقول إنّه علينا أن لا ننظر إلى غير الإمام الصادق، وإذا أردنا أن ننظر إلى ذاك الرجل العظيم فسنكون قد تهنا وضللنا وكفرنا بالنعمة. ولكن عندما ننظر إلى مدرسة الإمام الصادق هناك نعلم أين يجب أن نطأطئ الرؤوس. نعم ندعو لأساتذتنا ونطلب المغفرة ونصلّي ونقرأ القرآن.
هل يزار مع الإمام الرضا عليه السلام أحد؟
إذا ذهبتم أيّها الرفقاء إلى مشهد… فهل أدركتم ما أقول؟! لقد سمعت أحدهم يقول: لقد ذهبت لزيارة الإمام ولزيارة حضرة والدكم أيضًا. فقلت: ماذا؟! لزيارة الإمام وحضرة الوالد؟! لماذا أتيت بحضرة الوالد إلى جانب الإمام الرضا؟! ليس هناك إلا الإمام الرضا فحسب.
لا يقاس بنا أحد تذهب لزيارة الإمام الرضا ولا حقّ لك أن تجعل في مخيّلتك أنّي سأذهب لزيارة هذا الرجل العظيم بعد زيارة الإمام الرضا، كلاّ، فهذا يغدو جعل ندّ وقرين، لا بدّ أن تكون زيارة الإمام الرضا وحدها. نعم إذا زار الإنسان الإمام الرضا واتّفق أن كان طريقه من هناك فجيّد جدًّا أن يأتي ويزور أولياء الله، أو أنّه قبل أن يغادر المكان يأتي فلا إشكال في ذلك. فليكن في هذا السياق لا أنّه يزور الإمام الرضا و[غيره].
وقبل بضع ليال عندما كنت متشرّفًا بالكون في مشهد، كنت أتوجّه نحو الحرم للتشرّف بالزيارة، فرأيت اثنين يبدو أنّهما يذهبان إلى الحرم ويتحدّثان ويقول أحدهما للآخر: إذا ذهبت للزيارة فلا تنس الشيخ حسن علي النخودكي! فرجعت وقلت: لماذا تخسر ثواب زيارة الإمام الرضا يا عزيزي؟! لماذا تفعل هذا؟! الشيخ حسن علي النخودكي رحمة الله عليه رجل كبير الشأن، ولكنّه تلميذ وعبد من عبيد الإمام الرضا عليه السلام، عليك أن لا تجعل العبد إلى جانب المولى، عليك أن تقصد زيارة الإمام الرضا فقط! نعم بعد أن تزور الإمام الرضا فإن أردت أن تذهب إلى هناك وتقرأ الفاتحة فلا إشكال.
انظروا ماذا كان المرحوم العلاّمة آنذاك يقول، لقد كان يوصينا دائمًا: إذا أردتم أن تتشرّفوا بالذهاب إلى مشهد فاذهبوا من الطريق السفليّ۱. وأمّا في العودة فالأمر إليكم، فقد دفن في هذا الطريق كثير من الأعاظم والأولياء، ففي شاهرود بعض الأعاظم كالسيّد محمّد بن الإمام الصادق عليه السلام على بعد فراسخ منها، وقد دفن عند عتبته جناب بايزيد البسطامي أحد الأولياء والأعاظم، وفي نيشابور فريد الدين العطّار النيشابوري والذي هو في مقام وموقع عظيمين جدًّا! ولكن المرحوم العلاّمة كان يقول:
من أراد أن يتشرّف بالذهاب إلى مشهد فيجب أن يكون فكره فقط في زيارة الإمام الرضا!
فإذا خطر في بالنا أثناء الطريق أن نذهب لزيارة هذا الرجل العظيم أو ذاك فقد انتهى الأمر وحدث عيب فيه، لقد اهتزّ ذلك القلب الذي يجب أن يكون متوجّهًا إلى الإمام فقط وإن كان [غيره] من الأولياء أيضًا.
السبب في عدم زيارة غير الإمام في طريق الزيارة
وهل تعرفون سبب ذلك؟ ليس هناك فرق بين الأولياء والإمام فلا تأت شبهة إلى الأذهان! بل نحن ليس لدينا القابليّة لأن نقيم هذا الاتّحاد. ولذلك يقولون: لا تذهبوا! لو أنّنا كنّا وصلنا إلى مرحلة نتمكّن فيها من إقامة هذا الاتّحاد فحينها لن يكون هناك فرق، فجميعهم تحت ظلّ الإمام الرضا وجميعهم على سفرة واحدة، ولكن نحن لا يمكن أن نحمل بطّيختين في يد واحدة، ولا يمكننا أن نجعل كلّ إنسان في مكانه الخاص. فإذا ذهب التفكير إلى مكان آخر انتقص من ذلك الأصل، أمّا لو لم ينتقص من ذلك الأصل لما كانت هناك مشكلة. ولكن حيث إنّنا نحن لا نتمكّن فإنّ واجبنا هو أن ننظر إلى الإمام وحده ولا ننظر إلى غيره. نعم عند العودة يمكن للإنسان أن يزور هؤلاء الأعاظم.
هذه المدرسة هي مدرسة التوحيد، هذه المدرسة هي مدرسة الولاية، هذه المدرسة هي المدرسة التي يجب أن تكتب ثمانية عشر مجلّدًا في معرفة الإمام. وهذا الرجل هو الذي يجب أن يكتب في معرفة الإمام وهذا الرجل يجب أن يكتب المجلّد الثامن عشر من معرفة الإمام ليقول: إطلاق الإمام على غير الإمام المعصوم فيه إشكال.۱ لأنّ هذا الرجل يعرف من هو الإمام المعصوم، هذا الرجل يعرف أنّه "لا يقاس بنا أحد" هذا الرجل يعلم أنّ الاختلاف اختلاف جوهريّ وماهويّ وهناك شيئان مختلفان. وقد نال ذلك في ظلّ اتّباع كلام الإمام الصادق، فإذا أردنا أن ننظر إلى كلام الإمام الصادق علينا أن نلتفت إلى هذا الأمر فإنّه هو الحقّ لا سواه، علينا أن نبحث عن هذا الأمر.
فوظيفتنا جميعًا والأخلاّء الروحانيّين والإخوة في الإيمان الذي يوفّقون اليوم للتزيّي بزيّ الأنبياء والتتوّج بتيجان الملائكة، هي أن يدقّقوا في هذا الأمر بهذا النحو، وطبعًا الأمر هو كذلك عندهم، وإنّما أتكلّم من باب أنّه في النهاية لا بدّ من الكلام والتحقيق في طريقنا بأريحيّة كاملة. فمن يلبس هذا اللباس لا بدّ أن يكون أمام عينيه الإمام الصادق فحسب وينتهي الأمر بذلك، لا يكون أمام عينه إلا إمام الزمان.
لقد قال الخطيب اليوم إنّ عليكم أن تستشعروا بأمير المؤمنين إلى جانبكم. هذا الكلام كلام طبيعيّ وليس مزاحًا. فأينما ذهبت يجب أن يكون أمير المؤمنين إلى جانبك، الكلام الذي تقوله التفت إليه، لأنّ أمير المؤمنين واقف إلى جانبك، إذا أردت أن تذهب إلى مكان ما وتطلب حاجة ما فانظر إلى أمير المؤمنين إلى جانبك يراقب ماذا تريد أن تصنع. إذا أردت أن تتكلّم بكلام ما فانظر إلى أمير المؤمنين إلى جانبك، لتقول: يا ويلي إلى أين ذهبت؟!
لو كنّا نعمل بهذه الأمور ونرتّب عليها أثرًا كيف كانت حالنا؟! الأمر ليس بالكلام يا عزيزي! فالإنسان لا يقول كلّ ما يخطر في باله من الجمل الجميلة والرفيعة والمتواضعة، ثمّ ينتهي الأمر ويمضي و…! كلاّ يا عزيزي، إنّهم يحاسبوننا على كلّ كلمة كلمة من هذه الأمور التي نقولها، والله إنّ هذين الملكين اللذين ﴿عن اليمين وعن الشمال قعيد﴾۱ يكتبان، يكتبان كلّ كلمة، ويسجّلان كلّ خيال وكلّ خطور يخطر وغدًا يجعلانه أمام الإنسان أن تفضّل فقد تكلّمت بهذا!
نسأل الله أن يوفّقنا جميعًا وخصوصًا الذين هيّئوا أنفسهم لتبليغ هذه المدرسة وهذا الهدف للناس. واعلموا أنّ المسؤوليّة خطيرة جدًّا في هذا التبيلغ. ففي المرحلة الأولى المسؤوليّة متوجّهة إلينا نحن أن لا نبدّل شيئًا لا سمح الله مما فهمناه ولا نحرّف ولا نزيد وننقص من أجل المصالح المعاصرة والمصالح الشخصيّة والاجتماعيّة، فإنّ ضرر ذلك سيكون علينا في البداية. وضرره هو أنّ الله سيسدّ نافذة الفهم من عنده، فإن استطعت بعد ذلك فافتحها! نقرأ رواية فلا نعود نفهمها، ونفهم شيئًا آخر، نقرأ كلام الأعاظم فنفهم شيئًا آخر، يبدو في نظرنا شيء فنفهم منه شيئًا آخر لأنّ النافذة قد سدّت. إن شاء الله لم يحدث ذلك لنا حتّى الآن ولكنّه حدث للبعض، وهم أنفسهم نقلوا لي: "كلّ يوم كان يصدر منّا فيه خطأ أو ذنب أو زلّة فإنّنا حين المطالعة في الليل ندرك أنّنا اختلف مستوانا عن الليلة السابقة". لأنّ النافذة قد سدّت من هناك.
رحم الله العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه هو نفسه قال لي، وطبعًا كان هناك عدد آخر من الحاضرين:
"في كلّ يوم تكون مراقبتي أكثر ودقّتي أكثر وأعمل أكثر بما أدركته فإنّ مكاشفاتي ومشاهداتي في الليل تكون أدقّ أعمق وألطف وأرقّ".
هذه حقيقة في النهاية وهي حقيقة تكوينيّة، ولهذا لا بدّ أن يكون نظام التكوين موافقًا لنظام التشريع.
من هنا فإنّ وظيفتنا في المرحلة الأولى أن نكون ملتفتين أن ضرر هذا الأمر ينتهي إلينا وأنّ النافذة ستغلق، وبعد ذلك لن نتمكّن من فهم الحقائق. هذا الأمر يرتبط بنا نحن، أمّا ما نقوله للناس فماذا؟
وظيفتنا تجاه الناس
نعوذ بالله أن يقول الإنسان للناس خلاف ما انتهى إليه! الناس الذين ينتظرون ما يقوله الإنسان ويثقون به ويعتمدون عليه ويصدّقونه، وبين الناس أفراد مستعدّون إذا قال الإنسان حقيقة الأمر سمعوا منه. فأيّ عذر لنا أمام الله أن نرتكب خيانة في أداء الأمانة ونحرّف ونزيد وننقص ما قاله الإمام الصادق قبل ألف وثلاثمائة عام ثمّ نقوله للنّاس، أليست هذه خيانة في الأمانة؟! فما هي إذن؟! لذلك فإنّ المسؤوليّة عظيمة جدًّا.
ومن جهة أخرى فإنّ النعمة نعمة لا حدّ لها؛ فمن أراد أن يتّبع الإمام ومذهب الإمام ويريد أن يتّبع واقعًا تلك المدرسة فإنّه كما يقول المرحوم العلاّمة: لو أعطي الدنيا والآخرة فلن يكون أجرًا لهذا الاتّباع.
فإذن علينا أن نعلم واقعًا أيّ نعمة أنعم الله علينا حيث أدخلَنا في هذا المسير، مهّد الطريق وبسط لنا المائدة! وليست مائدة خبز وجبن، بل هي تلك الحقائق التي جعلها الأعاظم بين أيدينا وتلك الروايات التي وصلتنا من الأئمّة. فماذا نريد بعد ذلك؟! وكلام الأعاظم والعرفاء والأولياء والعلماء بالله الذين عرفوا الإمام وبيّنوا لنا حقائق الإمام بواسطة النافذة المتّصلة منهم بالإمام. المائدة هي كتب المرحوم العلاّمة هذه، فلو لم تكن لدينا هذه الكتب ماذا كنّا سنصنع؟! لو لم يكن لنا عِشرة مع هؤلاء الأعاظم فكيف كان لنا أن نعرف الإمام؟!
أريد أن تنظروا إلى أنّ المائدة بيد من ينبغي أن تبسط. لقد حدّثتكم بقصّة الميرزا القمّي، فاسمعوا قصّة شبيهة لها:
مستوى فهم بعض العلماء عن التوحيد والولاية
فقد كنت في قم هذه في أحد المجالس، وكنت عندما سمعت بهذا الأمر أدرس المطوّل واللمعة. كان هناك رجل هو الآن في رحمة الله ومن الناس المعروفين وكان يقول مفاخرًا مباهيًا:
نعم، في تلك الحادثة التي جرت (حيث كانت هناك فتنة أو اختلافات ولا أدري ماذا كانت) قلت لفلان حين أراد أن يتشرّف بزيارة مشهد: إذا ذهبت إلى حرم الإمام الرضا عليه السلام فاطلب منه أن يأتي ويساعد أخته هنا، فربّما لن تتمكّن من القضاء على هذه الفتنة والأحداث التي وقعت. فاطلب من الإمام أن يأتي ويساعد أخته ويمدّها بالعون لحلّ هذه الأمور!
فانظر إلى هذا الرجل في سنّ السبعين أو الثمانين كم يفهم عن الإمامة؟! تفضّل! رحمه الله، أنا لا أريد أن أنتقص، أريد أن نصحّح أنفسنا ونعتبر. هل يدرك هذا الرجل شيئًا عن السيّدة المعصومة؟! هل يدرك شيئًا عن الإمام الرضا؟! هل يدرك شيئًا عن إمام الزمان؟! ماذا يدرك واقعًا؟! هذا لأنّنا لم نتّبع مدرسة الإمام الصادق، منذ أن فتحنا أعيننا لم نضع أمامها سوى الفقه والأصول، فقط قواعد وأصول عمليّة وأصول غير عمليّة ومباحث الألفاظ والشبهة النردبانية لفلان و… ولكنّنا لم نبحث عن حقيقة الدين ما هي والواقع ما هو؟!
رحم الله أحد أساتذتي المرحوم آية الله الغروي رحمة الله عليه فقد كان يقول:
ذهبت في النجف إلى مجلس علميّ يحضره مراجع النجف. فكان أحد أعاظم النجف يستدلّ بالآية القرآنيّة: ﴿يَدُ ٱللَهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡ﴾۱ على أنّ لله يدًا مثلنا، غاية الأمر أنّ يده ورجله أطول وكلّ مجرّة هي يد! وظهور الآيات يدلّ على ذلك واليد غير مرئيّة لنا فكان يقول: "يمكن أن يكون جسمًا لطيفًا".
فالجسم ليس من الضروريّ أن يكون شمندرًا وكوسى! فانظروا هذه هي نتيجة الاعتراضات التي تقول ماذا يفيد العرفان؟! هذه هي نتيجة ما يقولون من أنّه ماذا تفيد كلّ هذه الروايات عن أهل البيت حول الأخلاق و…؟ ما يفيدنا فقط هو أحكام الصلاة والصيام والدماء الثلاثة! فنتيجة هذا التفكير هي إثبات اليد وإثبات الرجل وإثبات الرأس والأنف والحاجبين وسائر الأعضاء! نعم ليس لدينا آية في القرآن تفيد أنّ لله حاجبين وإلا لأثبتها له. له يد ورجل: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَهِ مَغۡلُولَةٌ﴾٢
نحن لم نعرف الإمام ولم نعرف الولاية ولم نعرف التوحيد. وهذا ما يجب أن يعرّفناه الإمام الصادق. بسم الله هذه المائدة مبسوطة والأعاظم والأولياء يأتون ويوضّحون ويشرحون. حسنًا فأيّ نعمة هي أعظم من ذلك؟!
وهذا هو الذي ينبغي أن نشكر الله عليه ونقرأ جميعًا ومن صميم قلوبنا هذا الدعاء:
«الحمدُ لله الّذی جَعَلَنا مِنَ المُتمَسِّکینَ بِولایةَ أمیرالمؤمنین و الأئمّةِ المعصومین علیهم السّلام»۱
نسأله أن يتحقّق فينا أمر التمسّك هذا أي الإغماض عن كلّ الأماكن والتركيز على مكان واحد وهو المعصومون الأربعة عشر، هذا هو فقط. هذا ما يجب أن يتركّز فينا وحينها سنرى بركاته إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.