المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةعيد الأضحى
التاريخ 1422/12/10
التوضيح
ما هي طهارة الباطن؟ وكيف السبيل إليها؟ وما هي آثارها؟
تجيب هذه المحاضرة بمستوى ما على هذه الأسئلة من خلال تفسير معنى تطهير البيت في قوله تعالى لإبراهيم وإسماعيل ﴿أَن طَهِّرَا بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَٰكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾
فما هو دور النبيّ إبراهيم والنبيّ إسماعيل في ذلك؟ ولماذا يعبّر الله عن بناء البيت بعبارة التطهير؟ وهل كانت هناك نجاسة لا بدّ أن يرفعاها؟! وأيّة طهارة هي تلك الطهارة؟! وأيّة مسؤوليّة هي تلك المسؤوليّة؟
هو العليم
طهارة الباطن وآثارها
خطبة عيد الأضحى لعام ۱٤٢٢ هـ
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بسم الله الرّحمن الرّحیم
الحمدللّه رب العالمین
اللهمّ صلّ علَی محمّدٍ عَبدِك و رَسولِك و أمینِك و صَفیّك و حَبیبِك و خیَرتِك مِن خَلقِك و] خاتَمِ رُسُلِك و حافظِ سِرّكَ و مُبلِّغِ رِسالاتكَ، الرّسولِ النّبیّ المکّیّ المدنیّ [الأبطحیّ] الأُمّی التّهامیّ القُرَشیّ، صاحبِ لِواءِ الحَمد و المَقامِ المَحمودِ، أبیالقاسمِ محمّدٍ الحَمیدِ المَحمودِ، و علَی أخیهِ و وَصیّه و وَزیرِه و صِهرِه و خَلیفَتِه مِن بَعدِه، قائِد الغُرّ المُحَجَّلینَ ویَعسوبِ الدّینِ و إمامِ المُتّقین علیِّ بنِ أبي طالبٍ أمیرالمؤمنین، و علَی ابْنَتِه الطّاهِرَة الحَوراءِ الإنسیَّة الشّفیعَةِ یَومَ الجَزاء فاطِمةَ الزّهراء سلامُ الله علیها، و علَی سِبطَیِ الرّحمَةِ و سیّدَی شَبابِ أهلِ الجَنّة الحسنِ و الحُسینِ. اللهمّ صلّ علَی أئمّةِ المُسلِمینَ علیِّ بنِ الحُسینِ و محمّدِ بنِ عَلیٍّ و جَعفَرِ بنِ محمّدٍ و موسَی بنِ جَعفَرٍ و عَلیِّ بنِ موسَی و محمّدِ بنِ عَلیٍّ و عَلیِّ بنِ محمّدٍ و الحَسَنِ بنِ عَلیّ و الحُجّةِ القائِمِ المُنتَظَرِ المَهدیّ، حُجَجِك عَلَی عِبادِكَ و أُمَنائِكَ فی بِلادِكَ. اللهمّ سَهِّل فَرَجَهُم و یَسِّر مَنهَجَهُم و اجعَلنا مِن شیعَتِهم و الذّابّینَ عَنهُم.
قالَ الله فی کتابِه:
﴿وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗى وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾.۱
لتعجيل فرج الإمام بقيّة الله أرواحنا فداه صلّوا على محمّد وآل محمّد!
يقول الله في هذه الآية لقد جعلت بيتي حرم أمن واجتماع لجميع الناس، مكانًا يشعر فيه الجميع بالأمن والسكينة، أمن الظاهر وأمن الباطن! وعهدت إلى إبراهيم وإسماعيل أن يجعلا بيتي مكان طهارة منزّهًا ومبرّأً من كلّ خبث ورجس لأجل الذين يطوفون حوله ويعتكفون فيه والذين يعبدون فيه.
ما معنى تطهير البيت؟
يمكن أن تبحث هذه الآية من جوانب مختلفة، ولكنّي سأشير من بين هذه الجوانب المختلفة إلى نقطة أشيرَ إليها في ختام الآية: ﴿أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ﴾ فما هو دور النبيّ إبراهيم والنبيّ إسماعيل في هذا الأمر؟ ولماذا يعبّر الله عن بناء البيت بعبارة التطهير؟ فالأرض أرض ولا تختلف، والبناء بناء، والحجر والطين والجصّ وسائر موادّ البناء وأدواته لا تختلف فما المقصود من ﴿طَهِّرَا﴾ إذن؟
تارة يقول الله: ابنيا هذا البيت، كما ورد في آيات أخرى: ﴿وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾؛۱
النبيّ إبراهيم والنبيّ إسماعيل يرفعان قواعد هذا البيت ويبنيان جدرانه ويقولان ربّنا تقبّل منّا هذا العمل. ولكنّ الله لم يكتف في هذه الآية بمجرّد بناء البيت، بل قال: ﴿طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾؛ أي ماذا على النبيّ إبراهيم أن يفعل هناك؟! هل هناك شيء قذر على النبيّ إبراهيم أن يطهّره؟! هل كان ذاك المكان غير طاهر؟! هل كانت هناك نجاسة على النبيّ إبراهيم أن يطهّرها؟! فإذن هذه الطهارة التي يكلّف الله بها النبيّين إبراهيم وإسماعيل أيّة طهارة هي؟! وهذه المسؤوليّة أيّة مسؤوليّة هي؟!
الطهارة والخلوص من خصوصيّات عالم التوحيد
لا شكّ أنّ عالم التوحيد هو عالم عدم التعيّن وعدم التغيّر وعالم الخلوص والإخلاص وعالم انعدام اللون وعالم انعدام التعلّق بجميع المظاهر والكثرات. والله تعالى يسمّي هذه المرحلة مرحلة التوحيد في جمع الأبعاد الوجوديّة: ﴿لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾.٢
حقيقة التوحيد حقيقة لا تعلّق فيها ولا تمايز. في عالم التوحيد حقيقة واحدة لا أكثر وهي عبارة عن وجود ذات الله المقدّس المنزّه والمجرّد من جميع متعلّقات الكثرة وعالم الدنيا المتنزّل الدنيّ في جميع مراتب الدنوّ وجميع مراتب الكثرة.
لا لون هناك ولا تعلّق ولا قرابة ولا أقارب ولا رفاقة وصداقة، هناك لا وجود للسفل والعلوّ، لا وجود للقلّة والنقص، لا وجود لهذه العلاقات والروابط، بل فقط وفقط توجد ذات الله المقدّسة وحدها، الذات المشرفة والمسيطرة على جميع الناس وعلى جميع المظاهر على السواء وبطريقة واحدة.
لا فرق هناك بين الصغير والكبير، لا فرق هناك بين القليل والكثير، لا سبيل هناك لهذه التعلّقات والميول والنظرات وأنحاء التفكير وهذا البعد والقرب، بل ليس هناك إلا ذات الله المقدّسة فقط لا غير، وجميع الخلائق هناك في مرتبة واحدة!
وكما يقول المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه:
لا يختلف عند الله خلق رسول الله عن خلق ذرّة، لأنّهما كلاهما مخلوقان لله، فلم يبذل الله تعالى جهدًا أكثر في خلق رسول الله من خلقه لخليّة واحدة، رغم موقع رسول الله ومقامه الذي تخضع لولايته فيه ولقدرته الروحيّة جميع عوالم الوجود، والجميع بدءًا وختمًا تحت ولايته، لم يسع أكثر ولم يتعب نفسه أكثر ولم يجهد أكثر. لا فرق بالنسبة إليه أبدًا.
لأنّ القلّة والحاجة والزيادة والنقصان هي من لوازم النقص ولا نقص في ذات الله، إنّه صمد وقد محا بصمديّته جميع النقصان والفقدان. ذات الله هي في فعليّة تامّة من دون أيّة جهة نقص، والقلّة والزيادة والجهد الأكثر والأقلّ ناشئة من النقص في الوجود، ولا نقصان هناك، بل فعليّة محضة.
نعم يمكن أن تكون الآثار الوجوديّة في مظهر أكثر منها في مظهر آخر، فكما أنّه ليس هناك موجودان ومخلوقان متساويان في العالم، فهذا أمر ولكن هو أمر آخر.
في ذات الله صفاء محض، وإخلاص محض، ورحمة محضة، ومحض انعدام اللون والتعيّن. فهذه حقيقة التوحيد، ولكن إذا جئنا إلى هذا العالم فإنّنا نترك مرتبة التوحيد ونلتفت إلى عالم التعلّقات وعالم الكثرات.
أرأيتم الأطفال عندما يولدون كم تكون لهم أرواح لطيفة؟! فلا تعلّق لهم، ويظنّون الجميع مثلهم، ولا يأخذون لأنفسهم شيئًا، نظرتهم إلى أمور الدنيا نظرة واسعة غير محدودة! لا يريدون الخير لأنفسهم فقط، ويحبّون الجميع، ليسوا مبتلين بتعلّقات الدنيا التي نحن مبتلون بها، فطفل الغنيّ مساو في طريقة تعامله لطفل الفقير والمستضعف ولا يختلفان أبدًا. لأنّ هذه الأمور لا سبيل لها إلى مرتبة التوحيد. وطفل العالم لا يختلف عن طفل الجاهل في تعاطيه! ولا وجود في عالم الطفولة للتعيّنات والكثرات التي نحن محصورون ومحدودون بها في الدنيا؛ لأنّ الطفل إذا ما نزل من ذاك العالم إلى هذا العالم فإنّه يأتي إلى هذه الدنيا مع حقيقة التوحيد بالصرافة تلك ومع الخلوص المحض والصفاء. ولازم ذلك الخلوص وذلك الصفاء عدم التعلّق وعدم الاهتمام بالتعلّقات التي نحن مبتلون بها.
معايير عالم الاعتبار
نحن الذين بنينا نظام حياتنا لا على أساس الحقائق بل على أساس الاعتبارات، نحن الذين نبني حياتنا على أساس الحواشي والأمور الخارجة عن حقيقة لا إله إلا الله، ونجعل علاقاتنا على أساس الجوانب، نحن الذين نجعل ذهابنا وإيابنا على أساس أمور خارجة عن دائرة وجودنا. اعتبارات من قبيل: لأنّني أنا صاحب هذه السمة فعليك أن تحترمني! لأنّ لي مكانة كهذه فعليك أن تلتفت إليّ! لأنّي أنا في وضع كهذا فعليك أن تأتي إلى منزلي! لأنّ ثروتي أكثر من ثروتك عليك أن تهتمّ بي.
يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: مَن أتى غَنیًّا فتواضع لِغِناهُ فَقَد ذهب ثلثا دينه [کَفَر]؛۱ لأنّه لم يأت بتلك الثروة من نفسه، بل الله هو الذي منّ عليه بها، ويمكن أن يأخذها منه في ليلة واحدة، فتوجيه الاهتمام إلى هذا الجانب هو ابتعاد عن حقيقة التوحيد وحقيقة لا إله إلا الله.
وهكذا من يعظّم عالمًا لأجل علمه وبغير التفات إلى منّة الله عليه، أو من يعظّم جميلاً دون أن ينظر إلى حقيقة الوجود ومبدأ هذه الأوصاف، هما كذلك! ومن يعظّم صاحب منصب دون أن يلتفت إلى تلك الحقيقة الأزليّة هو مثلهم، تلك الحقيقة التي ﴿تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ﴾؛٢ فهذا كلّه شرك بالله.
في عالم التوحيد فقط ذاته، وعلينا نحن في علاقاتنا أن نصحّح نظراتنا وأن نعيد النظر في أفكارنا! فالله تعالى هو الذي له عناية، ولو أنّه قطع عنايته عن أحد، حينها يعلم ماذا سيحلّ به.
شعار أمير المؤمنين عليه السلام التوحيدي کَفَی بي عِزًّا أن تَکونَ لی رَبًّا
لقد كان شعار أمير المؤمنين هكذا:
إلهی کَفَی بي عِزًّا أن تَکونَ لي رَبًّا، و کَفَی بی فَخرًا أن أکونَ لَك عَبدًا؛٣ هذا هو شعار أمير المؤمنين الذي ننتسب إليه، وأمير المؤمنين إذ يقول ذلك فقد وصل إلى حقيقة التوحيد، ولكن نحن لا نقول ذلك، ولن نقول ذلك أبدًا: «إلهی کَفَی بي عِزًّا أن أکونَ لَك عَبدًا، و کَفَی بی فَخرًا أن تَکونَ لي رَبًّا.٤
فهذا ليس كلامنا نحن، لأنّ فخرنا هو أنّ لدينا علمًا! افتخارنا هو أنّنا منتسبون إلى من! افتخارنا هو أنّ أبانا من يكون! افتخارنا هو أنّ لنا هذا المقدار من المال! افتخارنا هو أنّ لنا منصبًا وجاهًا! هذا بالنسبة لنا فخر، وهو يخرجنا من العبوديّة، والله يقول: مبارك عليكم افتخاركم هذا!
أمّا أمير المؤمنين الذي قال هذا الأمر فقد كان يقول حقًّا: إلهی کَفَی بي عِزًّا… إلهي هذه العزّة تكفيني أن أكون لك عبدًا، فأيّة عزّة هذه؟! وإذا ما وصل إنسان إلى هذه العزّة ماذا سيكون؟ هل يمكن خداعه؟! هل يمكن الاحتيال عليه؟! هل يمكن تهديده؟! هل يمكن تخويفه؟!
هذه المرتبة من العزّة هي المرتبة التي يقول الله عنها: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾.۱ إذا تحقّقت هذه العزّة والمنعة والرفعة والعلوّ وعدم الالتفات إلى جميع مظاهر الدنيا الباطلة والاعتباريّة في إنسان فقد حصل على إكسير لا يزول أبدًا، وقد وُضِعَ في وجوده كنز لا يفنى.
عزّة ميثم التمّار التوحيديّة
أرسل عبيد الله بن زياد إلى ميثم التمّار ليأتوا به وليحقّق معه.
ـ ألم تكن مريدًا لعليّ؟
ـ نعم كنت.
ـ هل تبيّن مناقب عليّ؟
ـ نعم أبيّنها.
ـ ألا تخاف منّي؟
ـ كلاّ لا أخاف منك.
ـ سأقضي عليك.
ـ اقض عليّ! كم هو جميل! نعيش في هذه الدنيا يومين أقلّ. ٢ هكذا بكلّ صراحة.
يقول أمير المؤمنين:
و لولا الأجَلُ الّذی کَتَبَ اللهُ عَلَیهِم لَم تَستَقِرَّ أرواحُهُم فی أجسادِهِم طَرفَةَ عَینٍ شَوقًا إلَی الثّوابِ و خَوفًا مِنَ العِقاب!٣
أي لو لم يكن هناك أجل عيّنه الله للمؤمنين وقدّره وكان أمر الموت والحياة بأيديهم، لما صبروا لحظة واحدة، ثمّ بعد ذلك يريد ابن زياد أن يقتل أصحاب أمير المؤمنين! يقول: هذا أفضل! ولو كان الأمر بيدي لما بقيت لحظة، ومع ذلك أنت تهدّدني بالموت؟! فلتقتلني الآن! لماذا تؤجّل الأمر إلى الغد؟! لماذا تريد أن تؤخّر الأمر؟" فهذه هي العزّة.
أرأيتم من ظفر بهذا الكنز ووصل إلى هذه المرتبة مرتبة العبوديّة فإنّه لا يخاف من شيء، يقولون له: نأخذ مالك.
ـ أفهل أنا بنفسي حصّلته حتّى تأخذه منّي؟ لقد جاء من مكان ولا بدّ أن يرجع من مكان ما.
ـ نخرجك من الموقع الذي أنت فيه!
ـ سيسقط عنّا التكليف ونستريح!
ـ سنلقي بك في السجن ونقضي عليك!
ـ سنجد في السجن مكانًا للخلوة بعيدًا عن هذا وذاك.
من خصائص مدرسة التوحيد عدم الاعتناء بالاعتباريات
جميع هذه الأمور التي يستعملها على مرّ التاريخ الزعماء الجاهلون والحكّام السفهاء كحربة ضدّ الناس الجهلاء لا وجود لها في مدرسة أمير المؤمنين ورسول الله عليهم الاسلام وفي مدرسة التوحيد. لأنّهم لا يعطون الرئاسة في هذه المدرسة، لا يعطون المال والمنال في هذه المدرسة، ولو أرادوا أن يعطوا فإنّهم يعطون ظاهرًا، العطاء في هذه المدرسة كالأخذ، والأخذ فيها كالعطاء، بل الأخذ أفضل بكثير من الأخذ، في هذه المدرسة العطاء والأخذ سيّان.
فسواء بالنسبة إلى مالك أمّره أمير المؤمنين عليه السلام على مصر أو لم يؤمّره عليها وسلب منه الحكومة وقال له اتركها وتعال، إنّه يقول: "كم هو أفضل! لقد استرحت!" لا تتصوّروا أنّ مالكًا الأشتر أقام احتفالاً ومهرجانًا لتولّي حكومة مصر، كلاّ بل وضع يديه على رأسه أن كيف سأقوم بواجبي تجاه هذا التكليف!
لا تتصوّروا أنّه عندما ولّى أمير المؤمنين محمّد بن أبي بكر أخذ يرقص جذلاً، كلا، بل بدأ بالبكاء على مسكنته وسوء حظّه وأنّه كيف سيقوم بهذا التكليف.
وكان هناك أعاظم إذا ما حصلت لهم مكانة ومسؤوليّة كانوا يضجّون ويبكون! فهكذا كان حالهم، نحن المبتلون بهذه التعلّقات وهذه الاعتبارات، أمّا هم فلم يكونوا هكذا.
حالة المرحوم العلاّمة الطهراني بالنسبة إلى قبول المسؤوليّات الاجتماعيّة
في أوائل الثورة اقترح على المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه أمر مهمّ جدًّا وعمل إداريّ وتنفيذيّ في هذا النظام، وكان يُتصوَّر أنّه أمر منتهٍ ومفروغٌ عنه. فقال لي:
عندما سمعت بهذا الأمر فارق النوم عينيّ ولم أنم ليومين! فهل التفتّم؟! كنت أقول: إلهيّ أيّ أمر هذا تريد أن تحقّقه لي؟! أيّ أمور هذه تريد أن تحدثها لي؟! إن لم أقم بها فأنا مسؤول أمامك، وإن قمت بها فكيف تنسجم مع الظروف؟ !
ثمّ قال:
كنت أسير في السيّارة قاصدًا مكانًا ما وأتحدّث مع بعض الأصدقاء، فقال لي ضمن كلامه: هل علمت أنّ الراديو أعلن أنّ فلانًا قد استلم تلك المسؤوليّة؟! فقلت له: حقًّا؟! فقال بلى. أنا سمعت بنفسي. فما إن سمعت بذلك قلت بغير اختيار منّي: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ﴾؛۱
لم يكن يتصنّع ولم يكن يتظاهر! في حين أنّنا جميعًا ندّعي العبوديّة لله، جميعنا ندّعي اتّباع تعاليم الإسلام، جميعنا ندّعي أنّنا نعمل، جميعنا ندّعي أنّنا خارجون من النفس، ندّعي أنّنا نعمل مخلصين، ندّعي أنّنا نعمل بالتكليف! قال:
میان ماه من تا ماه گردون | *** | تفاوت از زمین تا آسمان است |
خوش بود گر محک تجربه آید به میان | *** | تا سیه روی شود هر که در او غِش باشد٢ |
يقول: بين قمري والقمر الدوّار *** ما بين الأرض والسماء
حبّذا لو جاء زمان الامتحان *** ليسودّ وجه من كان فيه غشّ.
فالأمر يختلف كثيرًا، وعلى كلّ حال ذاك العالم هو عالم التوحيد، عالم الإخلاص!
عاقبة الغوص في الكثرات وتعلّقات عالم المادّة
وكما تقدّم، فإنّ الطفل في البداية لا تعلّق لديه، ولكن شيئًا فشيئًا يطلب لنفسه أشياء، ويلتفت إلى أمثاله، وتختلط تلك الرؤية والنظرة التوحيديّة التي جاء بها بداية من عالم الإخلاص بالأمور التي في هذه التعلّقات والتوجّهات إلى عالم الكثرة وكلّما كبر تضاءلت تلك الرتبة من الصفاء والإخلاص إلى أن يدخل لا قدّر الله إلى عالم الجهل والظلمة والتعلّقات، بحيث ﴿خَتَمَ ٱللَهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾.۱ فالله يختم على قلوبهم أي إنّ عالم التوجّه إلى الكثرات والمادّة و الدنيا الدنيّة ومحوريّة الذات والتفرعن والأنانية تسيطر على شراشر وجوده بحيث لا تدع مجالاً للهداية ولا تبقي نافذة لتنوير القلب.
وهنا يختم على قلبه، فلو قرأ كلام الله فإنّه لا يتجاوز صماخ الأذن! ومهما صرخت في أذنه فإنّه لا يشير إلا بحركات العين! وكلّ مسألة حق تقولها له يوجهّها ويؤوّلها بطريق ما يتناسب مع ختم النفس والقلب، لأنّ تلك الرؤية الواضحة والفكر الحرّ التي كان بإمكانهما أن يشاهدا الحقائق بداية من دون رؤى مختلفة قد سدّت، هذا العالم هو عالم الختم حيث يختم عليه.
تحقيق طهارة الباطن هي الهدف من المنظومة التربويّة للإنسان
إنّ حقيقة كون نظام عالم التكوين مستندًا إلى نظام الإخلاص وعلى أساس الصفاء، هي غاية وهدف الله تعالى من النظام التربويّ للإنسان، فكما أنّ ذات الله ذات توحيديّة ومبرّأة من كلّ عيب وشين فإنّ النظام التربويّ لعالم التشريع أيضًا لا بدّ أن يكون هكذا، لذلك فقد أمر الله النبيّين إبراهيم وإسماعيل على نبيّنا وآله وعليهما السلام ﴿أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ﴾ على الأرض، فما معنى ذلك؟ أفهل كانت أرض مكّة نجسة لكي يأتي إبراهيم ويطهّرها؟! أفهل كان ذلك المكان مشكوكًا ومشبوهًا؟!
المراد من التطهير في آية ﴿أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ﴾
المقصود من طهّرا التي أمر الله بها النبيّ إبراهيم هو أنّك تريد أن تبني بيتي، وأن تجعل هذا البيت مثابة ومحلّ اجتماع للناس ومحلّ أمن ظاهريّ وأمن باطنيّ، فعليك أولاً أن تطهّر مكان قلبك وظرف وجود قلبك، فأنتم أناس تريدون أن تبنوا بيتي، ولا يمكن لإنسان غير طاهر أن يبني بيتي! أنتم تريدون أن تجعلوا هذا المكان موضع طواف وتوجّه إلى الله وحرم أمن وأمان لله، فمن لم يصل بعد إلى مرتبة الإخلاص والطهارة الذاتيّة لا يمكنه أن يقوم بعمل كهذا!
فـ ﴿طَهِّرَا بَيۡتِيَ﴾ تعني طهّرا أنفسكما! لأنّه بواسطة هذه الطهارة التي في نفسَي النبيّين إبراهيم وإسماعيل وفي وجودهما المقدّس يمكنهما أن يعملا بالطين والحجارة ويبنيا البيت، وإلا فما معنى ﴿طَهِّرَا بَيۡتِيَ﴾؟ هل طهّرا بيتي ونظّفاه من النجاسة؟ هل كانت هناك نجاسة؟! أيّة نجاسة كانت هناك؟! حينها لم يكن أحد يسكن ذاك المكان، كانت هناك صحراء قاحلة لم تزرع حتّى إنّها لم تكن ممرًّا للقوافل أيضًا.
يقول الله إنّ هذا المكان لي وعلى الناس أن يطوفوا حوله، فلا بدّ أن يكون مكانًا طاهرًا ونظيفًا وليس في بنائه أيّ نوع من التفكير بالكثرة وأفكار الالتفات إلى عالم الدنيا، ليس في بنائه سوى الالتفات إلى التوحيد وإلى الله، يجب أن لا يكون هناك أيّ نقطة من الخلأ والنقصان في جميع زوايا النفس ومراتبها الوجوديّة، وإلا كان أثر تلك النقطة مشهودًا في ذلك المكان، وكان أثر تلك النافذة من النقصان وعدم الوصول إلى الفعليّة في الاستعدادات واضحًا في ذلك المكان، وكان أثر التعلّقات الظاهريّة معلومًا وإن كانت ذات صبغة إلهيّة.
تأثير الملكوت في الأزمان والأماكن وفي حال الإنسان
وهنا يتبيّن الأثر الملكوتيّ الذي تتركه النفس من حيث الباطن على كلّ مكان ترتبط به، وهنا تتّضح العلاقة بين الملكوت وبين الظاهر، ويبرز الملكوت الظاهر في البناء وفي الأماكن والأزمان. وهنا تصبح الأماكن ظلمانيّة أو نورانيّة بواسطة التعلّقات التي فيها، فالأماكن التي يدفن فيها إنسان من الأعاظم نورانيّة وروحانيّة، وإذا ما ذهبت إليها إن كنت متعبًا زال تعبك، وإن كان لديك انقباض زال، وإن كنت تشعر بأذى زال ذلك الأذى وإن كانت هناك كدورة عرضت على نفوسنا فبالدخول إلى ذلك المكان تتبدّل تلك الكدورة إلى روحانيّة وانبساط.
ولكنّنا نرى أنّ بعض الأماكن بواسطة العلاقة التي بينها وبين من دفن فيها تسيطر على محيطها الظلمة والكدورة والتعلّق بالكثرات! فإن كانت لديك حال جيّدة خسرتها إذا ما دخلت إلى هناك، وإن كانت لك نورانيّة عرض عليك الانقباض والكدورة، فلماذا ذلك؟ لأنّ ملكوت ذلك الإنسان ونفسه المنغمسة في الكثرات والأنانيّات هي على ارتباط وتماسّ بملكوت ذلك المكان.
فإذن علينا أن نلتفت إلى هذا الأمر وأن لا نختار أيّ مكان للذهاب إليه، ولا نطأ أيّ موضع كان، بل نذهب إلى الأماكن التي يؤدّي فيها الشعور بالنورانيّة إلى تغيير النفس وتبديلها.
فالمكان الذي يريد الله تعالى أن يجعله مطاف الملائكة وعلى جميع عباد الله أن يطوفوا حوله إلى يوم القيامة وعلى أولياء الله أن يقصدوه ويطوفوا حول الكعبة هذا المكان ينبغي أن يبنى على يد من؟
لدينا في الرواية أنّ الإمام المجتبى عليه السلام سافر إلى مكّة خمسًا وعشرين مرّة ومعظم هذه الأسفار كانت مشيًا على الأقدام۱، فهذا المكان مكان يريد حجّة الله والإمام بالحقّ أن يقصده ماشيًا لزيارته فبناء هذا المكان مع هذه الحالة التي هو عليها ينبغي أن يكون بيد أيّ إنسان؟! لذلك يقول: ﴿طَهِّرَا﴾؛ طهّرا نفسيكما، يجب أن تخرجا نفسيكما من كلّ تلوّث ومن كلّ تعلّق، فإذا صارت النفس زلالاً طاهرة وكالمرآة شفّافة وكالماء الزلال بحيث لا يبقى فيها منفذ من منافذ التعلّقات وإذا وصلت إلى مرتبة الطهارة حينها اعملوا على بناء بيت الله الحرام.
فإذن إنّها النفس الملكوتيّة للنبيّين إبراهيم وإسماعيل التي جعلت هذا المكان مطافًا لجميع الخلائق! أفيمكن لي أنا وأنت أن نبني بيت الله بعد ذلك؟ هل يمكن لأيّ إنسان أن يقوم بهذا العمل؟!
آینه شو وصال پریطلعتان طلب | *** | اول بروب خانه دگر میهمان طلب٢ |
يقول: كن مرآة ثمّ اطلب وصال أهل الجمال *** واكنس الدار أولاً ثمّ اطلب الضيوف
أثر الابتلاءات الإلهيّة للنبيّ إبراهيم على حصول طهارة باطنه
متى أمر الله النبيّ إبراهيم ببناء الكعبة؟ عندما أدّى جميع الامتحانات ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾.٣ لقد ابتلى الله إبراهيم بكلمات وموارد ومواقف من الامتحان أزال ومحا في كلّ واحد منها نوعًا من التعلّق ونحوًا من التوجّه إلى الكثرات.
متى جاء الله بهذه الامتحانات للنبيّ إبراهيم؟ عندما وصل إلى النبوّة والرسالة، فتلك الابتلاءات والامتحانات التي هي لأولياء الله في تلك المراتب كانت للنبيّ إبراهيم بعد الوصول إلى مرتبة الرسالة وبعد الوصول إلى مرتبة البلاغ والإبلاغ، فأمر طهارة السرّ وطهارة الباطن ليس بالأمر السهل بل هو أرفع بكثير من مقام الرسالة.
﴿فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗا﴾ عندما أنهى كلّ ذلك قال الله: أنا أريد أن أجعلك إمامًا للناس! ومتى كان ذلك؟ عندما أمِر بذبح ابنه إسماعيل!
امتحان إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل
تارة يموت أحد الأبناء بنفسه، والأمر هنا خارج عن اختيار الإنسان. ولكن أحيانًا يؤمر الإنسان بالقيام بهذا العمل! والآن السؤال هو أنّه ما محل هذا العمل من الناحية الشرعيّة؟ وهل يجوز القيام بذلك شرعًا؟ وهل كان الخطاب الذي خاطب به الله النبيّ إبراهيم مزاحًا؟!
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ﴾.۱
عندما وصل النبيّ إبراهيم إلى السعي قال لابنه إسماعيل: يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ
أنا أرى الآن ولا يقول: إنّي رأيت! بل يقول إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ
أي إنّ الأمر مستمرّ وأنا الآن أرى أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰ فماذا ترى أنت وما رأيك؟
من هذه الجهة يأخذه النبيّ إبراهيم إلى مذبح القرابين، فانظروا في المقابل ما هو جواب إسماعيل؟ يقول: يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ
فالأمر الإلهيّ ليس فيه مزاح ويجب عليك أن تعمل بما أمرت به!
قيمة فعل النبيّ إبراهيم في ابتلائه بذبح ابنه عدم علمه بكون الأمر امتحانيًّا
مع أيّة قاعدة من قواعد الشرع يتوافق هذا الأمر؟! أليس قتل النفس حرامًا؟! لو أنّ النبيّ إبراهيم كان يعلم أنّ هذا الأمر لا محتوى له، وعاقبته عدم قتل ابنه وعدم ذبحه وأن هذا الذبح لن يتحقّق لما كان له من فضل ولما كان عمله ذا بال! ولو كنّا نحن مكانه لفعلنا ما فعل ولأخذنا عشرة أبناء من أبنائنا بدلاً من واحد لأنّنا نعلم أنّ هذا السكّين في النهاية لن يقطع رأس الولد.
عندما وضع السكّين على رقبة ابنه مهما ضغط عليها كان يرى أنّها لا تقتل هذا الطفل ولا تقطع رأسه، فغضب وألقى بالسكّين على الأرض فتكلّمت السكّين قائلة: «الخَلیلُ یَأمُرُنی والجَلیلُ یَنهانی»۱
فلو كان النبيّ إبراهيم يعلم أنّ السكّين لن تقطع لما كان هناك فائدة! فإذن النبيّ إبراهيم لم يكن يعلم ومن وجهة نظر الظاهر وتوقّع النفس كان لديه اطمئنان بأنّ الأمر سيتحقّق. لأنّه يرى في المنام أنّه يقطع رأسه، لا أنّه رأى مجرّد تماسّ السكّين مع رقبته، أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ يعني أقوم بذبحك لذا فإنّ النبيّ إبراهيم جاء بنيّة الذبح!
وهنا تتّضح للإنسان حقيقة طهارة السرّ وطهارة الباطن في أعلى مراتبها، فطهارة السرّ وطهارة الباطن تعني ترك الدين [الخياليّ] والتخيّلات التي يظنّها الإنسان شريعة، وإلاّ فإنّ هذا الأمر حرام من حيث الظاهر، ولو رأى في منامه بدلاً من المرّة الواحدة مائة مرّة فعليه أن يقول إنّ قتل الطفل وقتل النفس المحترمة حرام.
وأمّا من وصل إلى مرتبة الطهارة وتجاوز تلك التخيّلات والدين الخياليّ فيمكنه أن يشعر أنّ هذا الحكم الجديد قد نزل من ذلك الموضع الذي هو مبدأ الحلال والحرام ومحلّ نزول الأحكام! فهذا ما لا نفهمه نحن، بل يفهمه من وصل إلى مرتبة الطهارة!
محاولات الشيطان المختلفة لصرف إبراهيم وإسماعيل وهاجر عن طاعة الله:
أولاً: عن طريق الأحاسيس
وهنا يأتي الشيطان بصور مختلفة: فتارة يأتي من طريق الإحساس، ويقصد النبيّ إبراهيم ويقصد النبيّ إسماعيل وهما يبعدانه من حيث الإحساس، فيأتي إلى السيّدة هاجر، لأنّ المرأة أقوى إحساسًا. فيحرّك مشاعرها لكي تأتي وتمنع زوجها أن ماذا تصنع؟! أتذبح ابني الفتى الناشئ؟! أيّ عاقل يفعل هذا؟!
هذه الأمور ليست مزاحًا ونحن ننقل حكاية! فإنّ السيّدة هاجر شريكة في بناء الكعبة وبناء هذا البيت الطاهر! امرأة ولكنّها شريكة! والله يريد أن يبيّن قدرته ويقول: هذا المكان لا يختصّ بالذكور والرجال! فنحن نحتاج لبناء هذا البيت إلى الرجل كما نحتاج إلى المرأة، فالرجل إبراهيم والفتى إسماعيل والمرأة هاجر!
ونحن إذ نسعى بين الصفا والمروة نتّبع فيه مدرسة السيّدة هاجر وهو لأجلها! من منّا يمكنه أن يقوم بذلك؟! طبعًا الطريق ليس مغلقًا ونحن أيضًا يمكننا بالتوسّل والتوكّل على عنايات الله أن نطوي الطريق الذي طواه أولئك العظام! فقد فتحوا لنا الطريق ونحن أيضًا يمكننا أن نصل!
ثانيًا: عن طريق الشرع والدين
لمّا يئس الشيطان من جميع هذه المراتب والمراحل ولم يتمكّن من الورود من طريق الأحاسيس والمشاعر، ورد من طريق الشرع والدين. فجاء إلى النبيّ إبراهيم وقال: أين هذا الأمر من الشرع؟! أليس قتل النفس محرّمًا؟! فكيف تفعل ذلك أنت إذن؟! فأجابه النبيّ إبراهيم جوابًا ببداهة اثنين في اثنين تساوي أربعة فقال: ألست تقول إنّه حرام؟! إنّ الذي قال إنّه حرام بعينه قال هو واجب الآن! ألست تقول إنّ هذا العمل معصية؟! فما هي المعصية؟! المعصية هي ما جاء تكليف من المولى بالنهي عنه، أمّا إذا جاء تكليف بالقيام بهذا العمل بعينه فإنّ هذه المعصية تتبدّل إلى طاعة.
لذا في هذه المرحلة داس النبيّ إبراهيم على ذلك الشرع الذي كان أساسَ النفس في الاعتياد عليه، وعندما رأى الشيطان أنّه لا يوجد منفذ من أيّ طريق وصل النبيّ إبراهيم إلى طهارة السرّ وبدأ بقطع رأس النبيّ إسماعيل والنبيّ إسماعيل سلم محض.۱
ما هو سرّ استدبار الكعبة عند رمي جمرة العقبة؟
فلذلك قال السيّد الحدّاد رضوان الله عليه هنا إنّ على السالك أن يستدبر الكعبة في جمرة العقبة. وطبعًا هذا حكم شرعيّ حيث يجب استقبال الكعبة في تلك الجمرتين، ولكن عندما نصل إلى جمرة العقبة علينا أن نستدبرها،٢ ولكن من ناحية فلسفة الحكم يعني أنّ يصل الإنسان إلى مرتبة ينحّي فيها حتّى ذلك الدين الذي كان حتّى هذه اللحظة يسير على أساسه ويتقدّم على أساسه وكان يسبّب له العروج ويسبّب له نفي التعلّقات، وطبعًا لا بمعنى أن يصل إلى اللاأباليّة والتي هي بنفسها تعيّن بل أسوأ التعيّنات ـ بل بمعنى أن يكون الدين هنا هو التوجّه إلى المحبوب فحسب! فيقول العبد: "ما كنت أقوم به إلى الآن واعتادت عليه نفسي وكنت أعدّه ذا قيمة، فإنّ تلك القيمة تتلخّص في التوجّه إليك." فهذه نهاية العشق ونهاية توجّه الإنسان حيث تتنحّى جميع التعلّقات ولا يبقى سوى المحبوب لا غير. وعندها لا يبقى "لماذا؟" وسؤال في الذهن مهما أمر هذا المحبوب!
اليوم يقول: قم بهذا العمل. وغدًا يقول: قم بذاك العمل، اليوم يقول: قم بهذا، وغدًا يقول: قم بما يخالف ذاك العمل. يعني إنّ العبد كان حتّى الآن يبحث عن الروايات ويتصفّح الأوراق، ويحقّق المسائل من هذه الجهة ومن تلك، وربّما عكف على هذه المسائل، ولكنّه الآن لا ينظر إلاّ إلى المحبوب وإلى أوامره.
السرّ في حجيّة أوامر وليّ الله
لقد أمر المرحوم العلاّمة فجأة أحد التلامذة الذين كانوا معه مدّة مديدة بأمر معيّن، وما إن أمره به حتّى شكّ ذلك التلميذ وقال: هل أمرك هذا موافق للشرع أم لا؟ وما إن قال ذلك قال العلاّمة: لا أبدًا لا تقم به أبدًا.
لماذا يقول ذاك الرجل ذلك؟ لأنّه يرى أنّ هذا الأمر مخالف للشرع الذي صنعه لنفسه! ولو توجّه هذا الأمر إلينا ربّما قلنا: كلا أين هو مخالف للشرع؟ وهو صحيح لأجل هذا الدليل! ولكن حيث إنّه كان يركّز على ذلك الشرع وقد اعتادت نفسه على تخيّلاته لم يتمكّن من هضم المسألة وابتعد.
اختصاص الزعامة والحكومة بأصحاب طهارة السرّ كالنبيّ إبراهيم والإمام الحسين
ومن هنا لا يمكن لأيّ إنسان أن يدّعي زعامة الحكومة! فـ ﴿طَهِّرَا بَيۡتِيَ﴾ واجعلا مكاني آمنًا وطاهرًا، تعني أنكما وحدكما يا من طهّرتما قلبيكما من كلّ صدأ وأخرجتما منه كلّ ما يسبّب النقصان والتعلّق بالكثرات، أنتما من يمكنه أن يبني بيتي، فهذا القلب صار مرآة وذلك البيت هو بيتي الذي لا تحكمه التعلّقات، بل الطهارة هي الحاكمة، هنا لا تحكم كلماتي أنا وأمثالي، وهنا لا يمكن لأمورنا ومسائلنا أن تؤثّر في رؤيتنا ولا يمكننا أن نجعل الأمور موافقة لميولنا وإرادتنا.
من هو الذي يقوم بذلك؟ إنّه سيّد الشهداء! سيد الشهداء الذي كان في كلّ سنة يوجّه رحاله نحو كعبة المقصود زائرًا مكّة، ولكن عندما يشعر أنّ وجوده في هذه الأيّام يسلب ذلك الأمن عن بيت الله وعن مكّة فإنّه يتركها.۱
لقد وصل سيّد الشهداء إلى مرتبة طهارة السرّ وحقيقة الشرع وأحكامه ومتن الواقع، ولكنّنا نحن لم نصل، فنحن جميعًا نطرح أمورًا في توجّهاتنا ومسائلنا، ونصبغ مسائلنا بصبغة الله وصبغة التوحيد ونظنّ أنّنا مكلّفون ومتّبعون للأوامر. ولكن إذا ما واجهنا المواضع الحسّاسة وتلك الجوانب الدقيقة المتعارضة مع نفس الإنسان وتخيّلاته وشؤونه، حينها يعلم كم كنّا صادقين في هذا الادّعاء وكم تقدّمنا!
الطريق إلى طهارة الباطن
وهنا ندرك أنّه لا بدّ لأجل الوصول إلى هذه المرتبة وهذه النقطة أن نتّبع أناسًا وصلوا إلى طهارة السرّ هذه، وبذلوا كامل وجودهم لأجل المعبود، وهؤلاء هم الإمام الحسين والنبيّ إبراهيم وليس أيّ إنسان على أيّ حال كان.
أنتم تظنّون أنّ واقعة كربلاء واقعة بسيطة ومتعارفة؟! كلاّ، لقد كان ظاهرها هكذا، ظاهرها المجيء والثورة تلبية لدعوة أهل الكوفة من أجل الإطاحة بحكومة الظلم والخروج من تحت ثقل البيعة لحكّام الجور والظلم، ولكنّ باطنها لم يكن هكذا، بل كان بنحو آخر! باطنها هو الأمر الذي حصل للنبيّ إبراهيم بعينه، غاية الأمر أنّه حصل له بصورة معيّنة، وحصل لسيّد الشهداء حتّى النهاية!
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ﴾.۱
عندما اقترح النبيّ إبراهيم قبل النبيّ إسماعيل، ولكن الأمر لم يتحقّق! يقول الله بعد هذه الآية: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ﴾؛٢ أي رغم أنّك خطوت في هذا الطريق وسلّمت إلينا ابنك، ولكنّنا نتمّم طريقك ومدرستك على يد إنسان آخر، وهو سيّد الشهداء، فما بيّناه نحن في عالم الرؤيا حقّقناه في عالم الواقع بواسطة هذا الإنسان.
تعبير المرحوم العلاّمة الطهراني عن منتهى تجاوز الأئمّة وإيثارهم
كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يتحدّث ذات يوم عن هذا الأمر فقال:
عندما ينظر الإنسان إلى أعمال هؤلاء الأعاظم: الإمام الحسين، موسى بن جعفر، الإمام السجّاد، أمير المؤمنين وسائر الأئمّة فإنّه يبهت واقعًا، أفيمكن أن يكون هناك إنسان يعمل إلى هذا الحدّ من أجلنا ومن أجل هدايتنا ومن أجل مساعدتنا؟
لماذا قدّم سيّد الشهداء ابنه عليًّا الأكبر؟ لكي نجتمع نحن هنا اليوم. هل هو لغير ذلك؟! لكي تصل إلى آذاننا كلمتان، لكي نخطو خطوة واحدة، هل يمكننا أصلاً أن نتصوّر أن يُخرج الإنسان نساءه وأبناءه وأصحابه ونفسه بتلك الكيفيّة لكي تطرق أسماعنا كلمتان؟! هذه نهاية الإيثار وأعلى مرتبة من الرحمة والعطف وأعلى مرتبة من ظهور الصفات الجماليّة لله يمكنها أن تظهر في إنسان.
نسأل الله المتعال أن يجعلنا شاكرين لتلك النعم والألطاف التي جاءنا بها الأعاظم وأولياء الدين وبذلوا من أجلها مهج قلوبهم وعانوا السجون والتشرّد، لماذا ألقوا بأجسادهم تحت حوافر الخيول وقطّعوها إربًا إربًا؟! لماذا أسروا وحبسوا وحوصروا؟ لأجلنا!
نسأل الله أن يجعلنا شاكرين وأن يوفّقنا هو لهذا الشكر، فهو الذي يجب أن يوفّق.
ووفّقنا الله لتحقيق مقاصدهم وأمنياتهم!
وحفظ الله الوجود المقدّس لإمام الزمان عليه السلام من جميع البلايا!
وجعلنا من المنتظرين الحقيقيّين له والذابّين عن حريمه.
ورحم الله أمواتنا جميعًا.
وأنزل على أرواح المؤمنين والمؤمنات من شيعة أمير المؤمنين شآبيب رحمته ولطفه!
وعجّل الله في فرح إمام الزمان عليه السلام! ولا حرمنا الله زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.