المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالطعام و التغذية
التاريخ 1430/12/03
التوضيح
أفاد (قدّس الله سّره) أنّ هناك طريقان؛ طريق مستقيم، وطريق غير مستقيم، والحدّ الفاصل بينهما ولاية محمّد وآل محمّد. وطريق الولاية هذا هو طريق وضع كلّ شيء في منصبه ومقامه الواقعيّ، وإعطاء كلّ شيء حقّه المطابق للواقع. وبالتالي فالطريق إلى الله طريق سهل ويسير، ولكن نحن مَن نعقّد المسائل نتيجة ميولنا الخاصّة، والحال أن كلّ ما هو مطلوب منك أن تسلّم الأمر لأهله، فدع نفسك وتعال، وإلّا لحاد الأمر عن مقامه فكان مصيره الانحراف ومسلكه غير مستقيم وعاقبته وخيمة، والعكس بالعكس. وقد عرض سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ في بيان ذلك مجموعة مِنَ الأمثلة الواقعيّة: كالاستعانة بالجنّ وحساب الرمل والمرتاضين، والتسليم للأولياء، وقصّة رجل مع النبيّ سليمان (على نبيّنا وآله وعليه السلام)، وقصّة أحد العلماء مع السيّد هاشم الحدّاد (قدّس الله نفسه العليّة)، وغصب الخلافة، وحادثة الغدير، والحركة الدستوريّة في إيران، وكتاب المثنويّ ومولانا جلال الدين الروميّ. ثمّ ختم بباقة توصيات تتعلّق بشهر ذي الحجّة الحرام، والّتي لم تخل مِن ارتباط بمضمون المحاضرة.
هو العليم
طريقُ الله بسيطٌ وسهل
شرح حديث عنوان البصريّ -۱۷٤
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
معنى الرياضة وأنواعها
ذكرنا في المجالس السابقة أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) أوصى عنوان [البصريّ] بأمورٍ تتعلّق بكيفيّة الرياضة الشرعيّة؛ يدور الأمر الأوّل منها حول كيفيّة التغذية. وقد تمّ تعريف الرياضة – كما يتذكّر الإخوة – بأنّها تمرين النفس على الاستقرار على منهج ثابت ومسلك خاصّ في جميع مجالات الحياة اليوميّة، الاجتماعيّة منها والشخصيّة. فالالتزام يجب أن يكون بمنهج وبرنامج ثابت وبشكل مستمرّ، لا أن يلتزم يومًا ويترك يومين، أو يلتزم ثلاثة أيّام ويترك يومين؛ فهذا نهج لا يصحّ إطلاق مصطلح الرياضة أو المراقبة عليه، بل على الإنسان أن يلتزم الطريق ويستقيم عليه.
فالطالب الّذي يلتزم بتحضير دروسه في ساعة معيّنة، وتهيئة البحث المطلوب منه في ساعة أخرى، وتحديد موعد نومه ويقظته في أوقات أخرى، وذلك وفقًا لبرنامج معدّ مسبقًا، فهو يتّبع نوعًا مِنَ الرياضة. فالرياضة هي الالتزام وديمومة السير وفقَ منهجٍ معيّن.
الرياضة على نوعين: الرياضة الموافقة للشريعة، وهي الرياضات الّتي أوصى الشارع بها وأمضاها ووافق عليها، فهذه الرياضة تساعد النفس في طريق تكاملها. والرياضة المخالفة للشريعة، وهي المداومة على الأعمال الشاقّة على النفس، فهذه الرياضة لمّا كانت مخالفة للشريعة وغير موصى بها، فمِنَ الممكن أن تحْرف الإنسان وتسدّ طريق هدايته، كالرياضة الّتي يقوم بها أرباب الرياضة في الفِرق المختلفة سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين.
فهنالك مَن يلتزم ببرنامج معيّن [مِن غير أهل العرفان]، مَثل ذلك الهنديّ الّذي يقضي عامين أو أربعة أعوام على شجرة دون أن ينزل عنها، فكم هو حجم المعاناة الّتي يعانيها جرّاء هكذا رياضة؟! أو مِثل الّذين يقومون ببعض التصرّفات الّتي لا تتلاءم مع الطبع البشريّ، بل تتنفّر النفس الإنسانيّة منه. على أنّ هؤلاء يتمكّنون أيضًا وبواسطة هذا النوع مِنَ الرياضات مِنَ الحصول على قدرات خارقة .. وهذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه الآن، لأنّه يُبعدنا عن موضوعنا الّذي نبحث فيه. ومِنَ المحتمل أن أتناول هذا الموضوع في خاتمة الحديث عن الرياضة، وذلك عند الكلام عن السكوت وأمثاله، حيث سيتّضح هناك كيف أنّ مخالفة هوى النفس في مِثل هذه الحالات يتسبّب في البعد عن الله، فلن تكون وارداته روحانيّة، بل ستكون صوريّة، وهذا ممّا يمكن أن يحصل لجميع الناس، إذ لا فرق بين فرد وآخر في هذا المجال؛ فكما لدينا جوارح وأعضاء ظاهريّة، لدينا أعضاء وجوانح باطنيّة أيضًا؛ وكما أنّه لا تفاوت بين الإنسان العاديّ وغيره مِن حيث رؤية الأشياء الظاهريّة والشعور بها، فكذا الأمر بالنسبة إلى رؤية الأمور الباطنيّة في حدّ مرتبة ما.
فالمتواجدون في هذا المكان يستطيعون رؤية الأشياء حولهم على ما هي عليه، ما لم يكن أحدهم يعاني مِن مشكلة بصريّة، فلا يختلف اثنان في معرفة عدد المتواجدين [هنا] ومعرفة شخصيّاتهم وألوانهم، سواء كان الرائي مسلمًا أو كافرًا، فلا يختلف الأمر في هذا المجال شيئًا. وكذلك الحال بالنسبة إلى رؤية بعض الصور البرزخيّة والمثاليّة؛ فكلّ مِنَ الصغير والكبير والمؤمن والكافر، يرى أحلامًا في منامه، فلا يختلفون عن بعضهم في شيء مِن هذه الناحية، ولعلّ بعض تلك المنامات تتعلّق بأمورٍ واقعيّةٍ ستحصل في المستقبل.
فالرؤيا الّتي رآها فرعون مصر في منامه عندما قال {إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ}۱، كان قد رآها إنسان كافر. فهذا نوع مِنَ الارتباط البرزخيّ والصوريّ، وقد كانت رؤياه صادقةً. فهذا ممكن الحصول، ولكنّ المهمّ هنا هو معرفة سلسلة العِلل المتعلّقة بهذا المنام، وهذا ما لا يتمكّن فرعون مِن معرفته وإدراكه. أمّا ذلك الّذي له إحاطة بالحيثيّة العِليّة، ويعلم كيف ترتّبت سلسلة مراتب عالَم الغيب حتّى وصل الأمر إلى هذه المرتبة، فهو إنّما يطّلع على إرادة ومشيئة الله في هذه الحالة [وهذا غير متاح لأيّ كان] .. قد نعود للحديث عن هذا الموضوع ثانيةً في هذا المجلس.
فالرياضة مِنَ النوع الثاني هي رياضة غير شرعيّة، بالرغم مِن أنّ الإنسان يستطيع بواسطتها أن يطّلع على بعض الأمور، غير أنّ المهمّ هنا ليس هو الاطّلاع على هذا الأمر أو ذاك، بل المهمّ هو أنّ الحقيقة الّتي تظهر للنفس وتتجلّى لها وتُهيمن عليها، هي عبارة عن حالة يرى الإنسانُ نفسه فيها ويرى أنّ لنفسِه دخلًا وتأثيراً في حصول هذه الرؤيا. وهذا أمر خطير، فيجب التركيز على هذا الجانب وليس على الرؤيا بذاتها.
الطريق الأسطوريّ والطريق الحقيقيّ
يُشاهَد اليوم العديد مِنَ الناس ممّن سلكوا طُرقًا متعدّدة ولم يُدركوا حقيقة الأمر، كانوا قد سلكوا طُرقًا أسطوريّة. فهُم، مِن أجل الوصول إلى الهدف، لم يبحثوا عن المسير الحقّ ومسلك التوحيد والعرفان، ولم يبحثوا عن المؤثّر الحقيقيّ ومُسبّب الأسباب، ولم يدرسوا الأمر مِن أُفق عالٍ. وهم، مع كلّ هذا، يدّعون أنّهم مؤمنون بالله ومسلمون وأنّهم يتّبعون منهج التوحيد، في الوقت الّذي لم يكن باطنهم مؤمن بهذه الأمور، بل كان باطنه يسعى وراء المسبّبات والآثار ويخوض في المسائل الخارقة للعادة، وينظّم الأمور الحياتيّة على أساس حسابات الرمل وتحضير الجنّ وما شاكل ذلك. فبدلًا مِن تفويضِ الأمر إلى الله، وطلبِ المدد منه، وسلوكِ طريق الصدق في أعمالهم، والتعاملِ بعدلٍ مع الآخرين، تراهم – ومِن أجل ترميم النقص الّذي يشعرون به وتأمين احتياجاتهم – يسلكون ذاك الطريق، فيستعينون بالجنّ في اتخاذ قراراتهم، وهم يجهلون أن الجنّ يعجز عن إدراك وقائع الأمور وعن معرفة المستقبل.
لقد ازداد التوجّه نحو هذه الأمور الّتي لا يُعرف صحيحها مِن سقيمها! إذ يُلاحظ كثرة الباحثين عن حلولٍ لمشاكلهم بواسطة هذا الطريق. فبدل أن يتوجّهوا إلى حقيقة مدبِّر العالَم وطلب المدد مِن مقام الولاية، أي الإمام (عليه السلام)، والالتزام بمبادئه، تراهم يسعون وراء تلك الأمور؛ فإن حصلت لهم مشكلة، يسعون لحلّها عن طريق الاتصال بالجنّ، وهم لا يعلمون أنّ الجنّ لا اطّلاع له على أخبار الغيب، بل كلّ ما يمكن أن يطلّع عليه الجنّ هي الأمور الّتي تحصل حولنا والبعيدة عن أنظارنا، أمّا اطّلاع الجنّ على المستقبل فهو أمر غير صحيح ولا أساس له.
وأكثر إخبارات الجنّ هي لخديعة الناس، فالجنّ يسعى لخداع الناس وجرّهم إلى المهلكة دائمًا.ولقد جاء في الآية الشريفة بشأن نبيّ الله سليمان عليه السلام {فَٰلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهينِ}۱، فكان سليمان (عليه السلام) متكأً على عصاه حين انتقل إلى رحمة الله وهو واقف، فلم يُعطه عزرائيل حتّى فرصة للجلوس، فقبض روحه وهو واقف.
يموت البعض وهو مُغمض العينين، ويموت البعض الآخر وهو مفتوح العينين، فهذا يعني أنَّه لم يُعطَ الفرصة لإغماض عينيه، فعندما تُقبض روحه في تلك اللحظة يتصلّب العصب على حاله، فلا يتمكّن مِنَ التقلّص حتّى تنطبق الأجفان على بعضها.
وهكذا توفي النبيّ سليمان وهو على تلك الحال، ولكي يعرف الآخرون أنّه مات، أتت حشرة العثّة لتأكل عصاه،{فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}، فدابة الأرض الّتي أكلت عصاه هي حشرة العثّة. {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهينِ}، فلمّا انكسرت عصاه سقط إلى الأرض، فعلِم الجنُّ عندها أنَّهم قد خُدعوا، فقد كانوا مشغولين خلال تلك الفترة بالبناء وهم لا يعلمون بموت سليمان حتّى سقط جسده على الأرض. فالآية القرآنيّة تصرّح بعدم عِلم الجنِّ بالغيب حيث تقول {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}، بل لم يكونوا يعلمون بالحاصل الحاضر [وهو موت سليمان] فما بالك بالغيب! فلم يكن لهم اطّلاع على واقع الأمر، إذ لم يعلموا إن كان النبيّ سليمان يتنفّس في تلك الفترة أم لا، فكيف بهم بعِلم الغيب! أي لم يعلموا أنَّ النبيّ سليمان الواقف أمامهم حيّ أم ميّت.
هذا في الوقت الّذي يبني بعض الناس أمورهم الحياتيّة على أساس الارتباط بالجنّ، بالرغم مِن كونه أمرًا باطلاً، وهو ما يتضّح لهم عادةً بعد مدة مِنَ الزمن، فيعلمون عندها أنَّ الأمر خلاف ما أُخبروا به، ويعلمون عندها مقدار الخديعة الّتي وقعوا ضحيّتها. أمّا لو كانوا قد نظّموا مسيرهم وحياتهم على أساس التوحيد والانقياد لمشيئة الله، ولو أنّهم وجّهوا قلوبهم نحو المبدأ بدلَ التوجّه نحو الجنّ وغيره، لاقتضى التقدير الإلهيّ لهم أمرًا آخر. فالأمر في غاية الأهميّة، ولكن بما أنّنا مِن أهل الدنيا والظاهر، وتجد في قلوبنا كلّ شيء سوى الله، وبما أنّ حياتنا مليئة بكلّ شيء ما عدا وليّ الحقّ أي إمام الزمان، لذا ألقينا بإمام الزمان في جزيرة معزولة لا يعلم بها أحد، وسيّجنا حوله بحيث لا يتمكّن أحد مِن لقائه والتعرّف عليه، إلى أن تتعلّق مشيئة الله بظهوره.
السير وفقَ هذا النهج يعني الانفصال عن مسير الإسلام والتشيّع، وإن كنّا ندّعي الانتماء إلى الإسلام والمذهب الشيعيّ، وإن كنّا نضع العمامة فوق رؤوسنا، غير أنّنا في واقع الأمر قد انفصلنا عن مسير الدين وسلكنا طريقًا آخر. فلا وجود لله في أنفسنا وإن كنّا نؤدّي الصلاة، ولا نسمح للإمام بالنفوذ إلى حياتنا وإن كنّا ندّعي الانتساب إليه. فكلّ هذا مِنَ الظواهر الفارغة الّتي لا قيمة لها، فمتى ما كان الباطن متوجّهًا سيختلف الأمر وستتغيّر تصرفاتنا تبعًا لذلك.
المعنى الحقيقيّ لوجود الإمام وغيبته
فنحن ندّعي الانتماء للإسلام، في الوقت الّذي تكون وجهتنا الحقيقيّة وجهة أخرى، فليس توجهنا في الحقيقة إلى المبدأ والمدرسة الّتي ندّعي الانتماء إليها.
لكلّ مدرسة علاماتها المميِّزة لها، وقوانينها وأحكامها الخاصّة بها. فالعمل طبقًا لهذه القوانين والأحكام يحتّم نوعًا مِنَ المعاملة، وفي غير هذه الصورة نكون فاقدين للمبنى وللبناء معًا؛ فالمبنى الّذي نتبنّاه يكون خاطئًا، وكذلك البناء الّذي شيّدناه على أساسه يكون في النتيجة غير محكم. فترانا ولأجل ترميم وإصلاح النقص نتّبع وسائل وأساليب باطلة ومنحرفة عن الحقّ.
الإمام حيٌّ، وكلمة (حيّ) مشتقّة مِنَ الحياة، والحياة تعني النمو والنشاط والحضور. فمَن ذا الّذي يدّعي أنّ الإمام غائب؟! ومَن ذا الّذي يدّعي أنّ إمام الزمان غير مطّلع على أحوال الناس؟! و[مَن ذا الّذي يدّعي] أنّ إرادة الله في إصلاح الدنيا تتعلّق بزمان معيّن لم يأت بعد؟! [فإن صحّ هذا] فهو يعني أنّ أعمار الّذين يعيشون في هذا العصر ضائعة، وأعمالهم هباء منثور وهم في ضلالة، وأنّ الهداية والنور والتكامل مختصّ فقط بذلك الزمان الّذي سيظهر فيه الإمام!! فإن كان الأمر كذلك، فلماذا خلق الله هذا الخلق الآن، ولم يؤجِّله إلى الزمان الّذي سيظهر فيه الإمام، أم أنّ الأرض ستضيق بهم حينئذ؟! فلماذا خُلقنا في هذا العصر؟! ولماذا تأخر ظهور إمام الزمان هذه السنوات الطوال البالغة حتّى الآن أكثر مِن ألف ومئة عام؛ إذ غيبة الإمام كانت في عام مئتين [وستين] للهجرة، ونحن الآن في [القرن الرابع عشر]، فيكون قد مضى ألف ومئة وخمسون أو ستون سنة على ذلك؟! ولماذا وُجد هذا الخلق خلال هذه المدة، وهل كان مجيئهم ومغادرتهم للدنيا عبثًا، أم كان ذلك مِن أجل ألّا تخلو الأرض مِن مخلوقات، وألّا تتعطّل أجهزة الخلق، حالها كحال الماكينة الّتي تصدأ إذا تُركت زمنًا، فلا بدّ أن تُحفظ مِنَ التلف بتزييتها وتشغيلها بين الحين والآخر؟!
يُقال أنّ الكثير مِن أجهزة الطائرة يجب استبدالها إن تُركت مدةً مِنَ الزمن دون تشغيل. وهكذا الأمر بالنسبة لجسم الإنسان، فإن لم يتم تحريك المفاصل لفترة طويلة ستفقد طراوتها ويتوقف إفراز المادّة اللزجة وسوف تتخشّب. [فهل المسألة عند الله بهذا الشكل أيضاً]، أي حتّى لا تتوقف الملائكة عن العمل، ولكي تستمرّ ماكينة الخلق في عملها، يكون الله مُجبرًا على إدامة الخلق باستمراريّة التوالد حتّى ظهور إمام الزمان، فيكون ذلك الزمان فقط هو زمان الرقيّ والتكامل!!أيّ كلام هذا!! [فإن كان الأمر كذلك] فكيف طوى العديد مِنَ العظماء – الّذين عاشوا خلال مئات السنين تلك – مراحل الكمال؟ ومَن الّذي أوصلهم إلى ما وصلوا إليه، ومَن هو الإمام المتكفّل بتكميل نفوسهم وإيصالهم إلى تلك الدرجة؟ فإمام الزمان غائب [بحسب أولئك] فكيف تمكّن هؤلاء مِنَ الوصول إلى الكمال إذًا؟! هذا النمط مِنَ التفكير خاطئ؛ فالإمام ليس غائبًا، بل نحن الّذين غيّبنا أنفسنا عن أنظاره، فالإمام (عليه السلام) حيّ وهو يعيش معنا جميعًا، وموجود معنا في جميع اللحظات.
أنا عندما أتكلّم معكم في هذه اللحظة، فإمام الزمان مشرف علَيّ في هذه اللحظة وفي كلّ لحظة، وهو مشرف على كلّ واحد منكم، فهو يتدخّل في عمليّة استماعكم لكلامي، فلولا إرادته لَمَا تمكنّتم مِنَ الاستماع، ولولا إرادته لغابت عن أبصاركم وأسماعكم مسألة ما، ولغفلتم عنها، ولولا إرادته لساء وانحرف فهمكم لتلك المسألة. فهو معنا في كلّ رمشة عين نرمشها .. فهل يكون الإمام والحال هذه غائباً؟! أهذا ما يُعلّمنا إيّاه ويربّينا عليه مذهب التشيّع. على أنّ هذا الأمر غير مختصّ بإمام الزمان وحده، بل يشمل تلميذه أيضًا؛ فعندما يسأل المرء أستاذه، [الّذي هو تلميذ الإمام]، عن المكان المناسب لسكناه، فيُجيبه الأستاذ: أنا مشرف على جميع أحوالك وإن اخترتَ السكن على سطح القمر. [فهذا حال تلميذ الإمام]، فكيف الحال مع إمام الزمان نفسه. إمام الزمان مشرف فعليّ، ويعمل على إشعار تلميذه بأنّه يعلم بتمام أحواله لا أنّه مجرد ادّعاء.
إنَّني أتعجّب كيف يفكر بعض الناس، وهو تفكير يستهزئ به مِن له أدنى معرفة .. فترى أقوالهم في موضوع علم الإمام، عبارة عن خزعبلات وخلط؛ فلا يعلمون إن كان الإمام يعلم الغيب أم لا، أو أنّه يعلم بالغيب فقط عندما يريد الله ذلك، أو أنّ علمه كعلم باقي الأفراد، وغيرها مِن أراجيف الأقوال!
لقد شهدتُ بنفسي خلال حياتي أمورًا تصدر مِمّن تذوّق اليسير مِن حلاوة طعام [السلوك]، وهم ليسوا مِنَ الأولياء، إلّا أنّها أمور تجعل الدخان يتصاعد مِن رأس الإنسان عند سماعها [لشدّة رُقيّها]، على أنّ ذلك لا يتعدّى كونه القليل القليل [ممّا لدى الأولياء]. فإن أردنا المقارنة بين هؤلاء وبين الأولياء، سيكون الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض. ثمّ إن قارنّا الأولياء مع إمام الزمان، [فهل سيبقى مكان لأبحاث أولئك القوم] حول كون الإمام يعلم بالغيب أم لا؟! فما الّذي يمكن قوله لأولئك القوم؟! لا نستطيع أن نقول شيئًا سوى أنَّهم بحاجة إلى بعض العقاقير لمعالجة أمراضهم.
سبب اللجوء إلى الباطل هو التخلّي عن الولاية الحقيقيّة
لقد تخلّينا عن حقيقة الولاية، تلك الحقيقة الحيّة، ولجأنا إلى الأمور الظاهريّة والخارقة للعادة وارتبطنا بهذا وذاك، وسافرنا إلى أمكان مختلفة لنرى ما لدى هذا وذاك مِن تلك المعلومات. هذا في الوقت الّذي يتواجد فيه إمام الزمان إلى جنبك يا مسكين، فلماذا تذهب هنا وهناك، تريد الاطّلاع على الأمور عن طريق الجنّ والرمل وقراءة الفنجان وغيرها ممّا ابتُلي به الناس حتّى صارت شغلهم الشاغل، فنسوا تلك الحقيقة الأصليّة! فأيّ طريق تسلك يا هذا! لا يوجد لدينا في الشريعة ما يُجوّز لك ذلك. أيّ رواية للإمام الصادق تدعونا للاستعانة بالجنّ، وأيّ رواية للأئمّة تدعونا للاستعانة بالرمل وتحضير الجنّ عند حصول مشكلة لنا!! فهل دعانا الأئمّة إلى ذلك، أو نصحوا أصحابهم بالذهاب إلى مَن يحضّر الجنّ، أو دعونا إلى مراجعة هؤلاء لحلّ مشاكلنا!!
إن هذه الأمور باطلة بأجمعها، وهي ناتجة عن الابتعاد عن نهج الإمام الصادق. فلجوؤنا إلى هذه الأمور هو بسبب ابتعادنا عن الإمام الصادق، وسعينا للتعويض عن جهلنا بهذه المسائل، هو نتيجة ابتعادنا عن إمام الزمان، ولمّا ابتعدنا عن إمام الزمان أوكلَنا الإمام إلى هؤلاء الأفراد، وفُسح لنا مجال اللجوء إلى مَن يحضّر الجنّ وإلى أولئك المرتاضين.
اذهب إلى بيئة هؤلاء وانظر بنفسك، فهل تستطيع أن تتحمّل البقاء فيها مدّة دقيقتين! إنّهم يعيشون وسط القاذورات .. وها نحن نترك إمام زماننا لنلجأ إلى هؤلاء في حلّ مشاكلنا، وهم الّذين لا تستطيع أن تبقى وتتنفّس الهواء في غرفهم لدقيقتين!
إنّ هذا هو الكفر والشرك والضلالة والجهالة، وإن كنّا نطلق على أنفسنا اسم الإسلام والتشيّع؛ فالّذي يقصد رجلًا مِن أولئك ويطلب حلًّا لمشكلته منه، فهو يسلك نفس مسلكه، وإن كان كلّ منهما يقطن في مكان، إذ لو لم يكن مِثله لَمَا ذهب إليه.
هنالك مَن كان على هذه الشاكلة في عهد المرحوم العلّامة، وأنا كنتُ على عِلم بما كان يحصل، فقد كنتُ أطّلع على ما يحصل. فلمّا كان مسير ونهج المرحوم العلّامة مسير خاصّ ومعلوم، إذ كان يدعو إلى التسليم للمشيئة الإلهيّة والرضا بقدر الله، وكان يقول: هذا هو طريقي الّذي أتّبعه. وكثيراً ما كان يتلو آية {قُلْ هذِهِ سَبيلي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى بَصيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني}۱. [فكان يقول:] هذا هو طريقي، حيث يوجد فيه الموت والحياة والمرض والعُسر والاقتراض، وفيه اليُسر والفرج أيضًا، فمَن يريد السير في هذا الطريق عليه أن يواجه ما يواجهه الآخرون دون زيادة أو نقصان. فكنتُ أرى بعض تلامذته – في حياته – عندما لا يحصلون على ما يتوقّعونه منه، يذهبون إلى مُحضّري الجنّ والمرتاضين بحثًا عن حلٍّ لمشاكلهم. هذا على الرغم مِنَ المكانة الّتي يتمتّع بها الرجل [يعني المرحوم العلّامة]، بل هل نستطيع أن نعثر على رجلٍ متميّز مثله في العالَم!
فتراهم يراجعونه في بعض مشاكلهم الحياتيّة اليوميّة، كالسرقة مثلًا .. فكان يدعو لهم لحلّ مشاكلهم، وإذ بهم يقولون: لقد جئنا إليه لحلّ مشاكلنا، وإذ بمشاكله أكثر مِن مشاكلنا. كانوا يقولون ذلك بالفعل، ثمّ يجدون مَن يرشدهم لمراجعة أولئك القوم [الّذين يتعاملون مع الجن وغيره] .. وربما وجدوا حلولًا لمشاكلهم عبر ذلك الطريق!
حصل أن سُرِقت سيارة أحدهم، فجاءني ذلك الشخص لأعرض الموضوع على المرحوم العلّامة، فقلتُ له: إنّ والدي ليس ممّن يحضّر الجنّ، ولا أعرف عنه أنّه يستعين بحساب الرمل لإيجاد السيارة المسروقة، فلا أعلم عنه حتّى الآن أنّه يقوم بهذا. فقال: ألا يمكن لكم عرض الموضوع عليه؟ فقلتُ: لا يمكن عرض هكذا مواضيع عليه، وأنا ابنه وأعلم مَن يكون، ومع ذلك سأنقل له الموضوع. فذهبتُ وعرضت عليه المشكلة، فقال: لا خبرة لي بتحضير الجنّ وأمثال ذلك. ثمّ ذهب هذا الرجل [الّذي سُرِق] إلى أولئك القوم [الّذين يتعاملون مع الجن وغيره] فعثروا له على سيارته في إحدى المدن، وقد فرِح كثيرًا بذلك. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنّه لم يغادر الدنيا إلّا بعد أن قُطعت علاقته بالمرحوم العلّامة. فهذا هو تقدير الله، وهذه الأمور تحصل كلّ يوم.
قصّة رجل طلب مِنَ النبيّ سليمان أن يعرّفه منطق الحيوان
لقد حكيتُ لكم قصّة نبيّ الله سليمان مع رجل جاء إليه [يومًا] .. فهذه قصص لا يجب قراءتها فقط [بل يجب التدبّر فيها أيضًا]. فعندما نؤكِّد كلّ ذلك التأكيد على قراءة كتاب (المثنويّ) لمولانا الروميّ رضوان الله عليه – ذلك الكتاب العرشيّ العظيم – وعلى التمعّن والتدبّر في أشعاره بيتًا بيتًا، فذلك لكي لا نقع في الورطة والجهالة. وإنّه لأمر عجيب حقًا أن نكون مِنَ القائلين بأنّ الحيّ القيوم هو مدير ومدبّر جميع ما يجري في العالَم، وفي الوقت نفسه نستعين بأولئك القوم [الّذين يتعاملون بالرمل ومع الجنّ وأمثال ذلك]. فكيف يمكن التوفيق بين الأمرين؟! ثمّ ما هو البلاء الّذي سيُصيبنا نتيجة لذلك؟ فعندما يصل العمر إلى آخره، سنجد أنفسنا مفلسين ولا حيلة لنا لتلافي ما فات ..
جاء الرجل إلى نبيّ الله سليمان ليُعلّمه لغة الحيوانات۱، فقال له سليمان: لأيّ شيء تريد أن تتعلّم ذلك؟ فقال: أريد الاطّلاع على ما يدور بين الدجاج والكلاب والغنم والخيل مِن كلام، فلهذه الحيوانات اطّلاع على عالَم البرزخ وعلى بعض الأمور الّتي ستحصل .. وذلك [يحصل] بواسطة عيونها البرزخيّة طبعًا، لا بواسطة حواسّها الظاهريّة، كعلم الحيوان بالزلزال قبل وقوعه، وبعضهم يُعزي ذلك إلى شعور الحيوان بالذبذبات الأرضيّة، ولكنّ هذا غلط، فالّذي يحصل أنّ النفس البرزخيّة للحيوان تطّلع على ذلك، على أنّ الحيوانات متفاوتة في هذه الصفة، والكثير مِن هذه الظواهر ليس لها مقدّمات فيزيائيّة، بل هي تحصل فجأةً.
فذلك الرجل قد علم أنّ الحيوانات تمتلك تلك الميزات، فأراد أن يستفيد منها، مَثله في ذلك مَثل الّذين يلجؤون إلى محضّري الجنّ وغيره. فقرّر أن يستفيد مِن هذه الصفة في معاملاته اليوميّة ليزداد ربحه، كمن يتعلّم خصائص الأعشاب لكي يستفيد منها في منع حصول الأمراض وما شاكل ذلك. فقال له سليمان: دعك مِن هذا، فلن يفيدك شيئًا، واسعَ لكسب قوتك بالوسائل الطبيعيّة، واشكر الله على نعمه. ولكنّ الرجل أصرّ على طلبه، فقال له سليمان: ما دمت مصرًّا على ذلك، فها قد تحقّق لك ما تريد. ولعلّ النبيّ قد أخذ منه تعهدًا على أن لا يُنكر أنّه أصرّ في طلب ذلك – هذا قولي أنا طبعًا – وعند عودة الرجل إلى المنزل وجد الكلب والديك يتنازعان حول الطعام، فقال الديك للكلب: لماذا تنازعني على الطعام، فذلك البغل المربوط في الحضيرة سيموت غدًا وسيكون مِن نصيبك وحدك، لأنّي لا آكل اللحوم. فقَبِل الكلب كلام الديك وقال: حسنًا. والحال أنّه قد خُدع في الواقع .. وعلى كلّ حال، عندما سمع الرجل ذلك قام ببيع البغل وعاد إلى المنزل فرحًا بما كسب مِن مال وهو يقول: كيف يقول لي النبيّ سليمان أنّ هذا الأمر لن يفيدني، فما حصل اليوم هو أوّل الغيث فقط!
وفي اليوم التالي، قال الكلب للديك معاتبًا: لقد وعدتني بالأمس بتحقّق أمنيتي، ولم يحصل ذلك، فقد قام الرجل ببيع البغل! فقال له الديك: لا تغتمّ، سيموت حصانه غدًا، والحصان أكبر مِنَ البغل، وهو أفضل لك. فقام الرجل بأخذ الحصان إلى السوق وباعه بثمن مضاعف وهو يقول: كيف يقول لي النبيّ سليمان أنّ هذا الأمر لا ينفعني! وفي اليوم التالي تجدّد عتاب الكلب للديك، فقال له الديك: سيموت الرجل نفسه غدًا، وسوف يتأمّن الطعام لكلينا لمدّة أسبوع، فسيكون هناك أرزّ وستُنحر الذبائح، وهي مناسبة مفرحة لنا. عندها تحيّر الرجل، فهل يبيع نفسه، ومَن الّذي سيشتريه! ففي اليوم الأوّل قام ببيع البغل، وفي اليوم الثاني باع الحصان، فما الّذي عليه فعله الآن؟! فرأى أن يذهب إلى النبيّ سليمان، فلا حلَّ لمشكلته إلّا عنده.
أدب التعامل مع العظماء؛ مولانا الروميّ وكتابه (المثنوي)
إنَّ مولانا الروميّ لم يأت هنا ليقول شعرًا، بل هو يطرح حقائق عالَم التكوين ومقدّرات العالَم بشكل شعر، فيجب علينا أن نعرف قدر وقيمة هذا الكتاب۱. ولكن للأسف الشديد، كم هو مقدار الضعف والتحجّر في عقول مَن وجّه تلك العبارات الوقحة والشنيعة جدًّا والمهينة لهؤلاء العظماء، وهي عبارات لا يُتوقّع صدورها حتّى مِن أوباش المجتمع!! فإن كان في كتاب [مولانا الروميّ] أبيات شعر قد قالها بحق أولئك الخلفاء تقيّةً، فلا تقرأها يا هذا، بل قُم بفصل تلك الصفحات مِنَ الكتاب واقرأ ما جاء في بقيّة صفحاته. فلماذا يتمّ التركيز على هذه الأمور، فيحرم المرء نفسه ممّا جاء في هذا الكتاب مِن فضائل، فهو يحرم نفسه حقًّا!
كنت أقرأ في كتابٍ عن أحد العظماء، والّذي كان مِن أهل الكرامات، وهو ذو مراتب علميّة عالية، إنّه مِن علماء قزوين ألا وهو المرحوم السيّد علِيّ القزوينيّ، الّذي له حاشية على كتاب (القوانين). ففي الوقت الّذي كنتُ أدرس فيه كتاب (القوانين) كان يُقال أنّ حاشية السيّد علِيّ متميِّزة عن غيرها. كما أنّ له كتاب في شرح (المعالم)، وهو مِنَ الكتب النفيسة جدًّا، وقد كتبه بأسلوب تحقيقيّ. ومِنَ المعلوم أنّه مِن أهل الحال والمعنى. ولقد استفدتُ كثيرًا مِن كتابه في شرح المعالم – الّذي طُبعت بعض أجزائه أخيرًا – في تأليفي لكتاب الإجماع٢. هو رجل عظيم ومتضلّع في العلم وخبير وعالِم نحرير.
فكان البعض يستشير السيّد علِيّ القزوينيّ في مطالعة كتاب (المثنوي)، وكان ينصحهم بعدم قراءته ويقول: ليس مِن مصلحتك قراءة هذا الكتاب. فبهذا كان يمنع الناس العاديّين مِن قراءته، هذا في الوقت الّذي كان ينقل في خطاباته المنبريّة للناس بعض المواضيع الواردة في (المثنوي) ولكن دون أن يُشير إلى اسم الكتاب. وصادف أن ذهب شخص في إحدى ليالي الشتاء الباردة إلى منزل السيّد علِيّ القزوينيّ لأمرٍ ما، بدون موعدٍ مسبقٍ منه، فوجده يجلس قرب المدفأة، وعندما دخل السيّد المنزل ليجلب الشاي أو الفاكهة، نظر هذا الرجل فلاحظ وجود كتاب (المثنوي) إلى جانب فراش السيّد، فعلِم عندها أنّه كان يقرأ كتاب (المثنوي). وعند عودته قال له: أنت تمنع الناس مِن قراءة كتاب (المثنوي) فكيف تقوم أنت بقراءته؟ فيقول له السيّد: إنّ المواضيع الواردة في هذا الكتاب مِنَ العلوّ والرفعة بحيث لا نستطيع السماح لأيٍّ كان بقراءتها، فلا بدَّ لي مِن مطالعته وهضم مواضيعه لأوضّحها للآخرين بما يتناسب وقابليّتهم على فهمها.
لا يعرف قدر وقيمة هذا الكتاب إلّا رجل كالشيخ البهائيّ، ذلك الشيخ الّذي هو على درجة مِنَ العظمة، بحيث يذكره الشيخ محمّد تقي المجلسيّ بعبارات عجيبة فيقول: الشيخ البهائيّ ركن الإسلام، ومفخرة الشيعة، وكذا وكذا.۱ على أنّ الشيخ محمّد تقي المجلسيّ هو والد الشيخ محمّد باقر المجلسي، والأوّل هو صاحب شرح على كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه) وهو مِن أهل المعنى وصاحب مكاشفات. هذا فيما يتعلّق بالأب، أمّا الابن فهو ليس كذلك على الرغم مِن كونه مِنَ العلماء الكبار ومِن أهل التقوى، وهو صاحب كتاب (بحار الأنوار). إلّا أنّ أبوه كان شيئًا آخر، فقد انفتحت له أبواب أخرى مِنَ المعرفة، وهو حائز على مراتب عالية منها، إضافة إلى خبرته في العلوم الظاهريّة المتعارف عليها، وذلك واضح مِن خلال كلماته وحديثه. فلاحظوا كيف أنّ هذا الرجل العظيم يمتدح الشيخ البهائيّ بهذا الشكل. وها نحن نجد الشيخ البهائيّ نفسه يقول عن كتاب (المثنوي):
من نمى گويم كه آن عالى جناب | *** | هست پيغمبر ولى دارد كتابمثنوى او چو قرآن مدلّهادى بعضى وبعضى را مضلّ |
[يقول: أنا لا أقول أنّ ذلك الرجل العظيم هو نبيٌّ، ولكن لديه كتاب (المثنوي) الّذي له خصوصيّة القرآن، فهو يهدي البعض ويُضلّ البعض].
ففي هذا الكتاب مطالب عالية المضامين، لا يستطيع أكثر الناس فهمها، وفيه مطالب على مستوى أقل، يستطيع سائر الناس الاستفادة منها.
فهل مِنَ الصحيح أن نتلفظ بكلّ ما يرد على ألسنتنا فأين هي الآداب والثقافة؟! فما معنى أن يضع البعض جميع القيَم والآداب جانبًا، ويستخدم تلك الكلمات غير المؤدّبة والشنيعة والوقحة والّتي لا تتماشى حتّى مع أخلاق الرجل العاديّ؟! فما الّذي تريدون أن تعكسوه للعالَم؟! هل تريدون أن تعكسوا للعالَم أدبكم وثقافتكم تلك!! فالداني والقاصي يعرف ميزان أدبكم ومدى إنصافكم وصدقكم، ولقد عرف جميع العالَم صدقنا فيما ندّعي، وتلك الإهانات [الّتي كِلتموها] قد عَمِلتْ على فضحكم. فهل تعتقدون أنّ الله سيتجاوز عن تلك الإهانات الّتي تُوجَّه إلى أولياء الله، بل إنّ غيرة الله ستحطّمكم. نعم، فإنّ إهانة أولياء الله وعدم رعاية الأدب معهم سيحطّم الإنسان.
يحصل كثيرًا أن يستشكل البعض على مطالب الآخرين، ولكن أيّ كلمات وعبارات يستعملون في التعبير عن وجهة نظرهم؟ فهل مِنَ الصواب أن يقوم شخص ذو مكانة معيّنة، والناس تنظر إليه بعين الاحترام، باستخدام كلمات – أخجلُ مِن ذكرها – بحقّ الفلاسفة والحكماء والعرفاء، فهل ذلك مِنَ الصواب؟! والحال أنّه ينتحل أيضًا صفةً ومسؤوليّةً متميّزة!! فإن كان الأمر كذلك، فمِمّن سيتعلّم الناس الآداب والأسلوب الصحيح في المحادثة؟! فهل مِنَ الصواب أن يطلق المرء العنان للسانه ليتلفّظ بالأباطيل والترّهات، ويوجّه الإهانة لأيّ كان؟! إنّ الله سيستدرج هؤلاء الناس، حتّى يتورّطوا في مسائل تفضحهم، وهذا ممّا لا شكّ فيه أبدًا!
لقد قام ذلك العظيم ببيان المبادئ الّتي يجري بموجبها التقدير في العالَم، وبيان الأساس الّذي قام عليه نظام العالَم. ولقد قام أيضًا بكتابة هذا الكتاب لي ولأمثالي، لكي نعلم واقع الحال، ونقوم بتصحيح مسيرنا ونتوجّه إلى الله بدل الاستعانة بالجنّ.
فهذه القصّة الّتي ذكرها مولانا تحكي عمّا يُبتلى به الناس هذه الأيّام، إذ تراهم يُقبلون على مَن يحضّر الجنّ ولديه علم بالرمل والمُخبرين عن الغيب، وعلى دكاكين العرفان والتصوّف المزيّف الّذين تعلّموا بعض كلامٍ مِن هنا وهناك [ليطرحوه على الناس خداعًا]، وقد راج بذلك سوقهم .. فما هو سبب إقبال الناس [على هؤلاء المحتالين]؟ إنَّ السبب في ذلك يعود إلى ابتعاد الناس عن الواقع.
عودة إلى قصّة ذاك الرجل مع النبيّ سليمان
[فلنعد إلى قصّة ذاك الرجل مع النبيّ سليمان؛] فرجع الرجل إلى نبيّ الله سليمان قائلًا: أنقذني ممّا وقعت فيه. فقال له سليمان: صبّحكم الله بالخير، أرجوا أن تكون سالمًا، فما الّذي جرى؟! قال الرجل: وأيّ سلامة هذه، فالديك يقول أنّ النوبة قد وصلت إليّ هذه المرّة، وذلك بعد أن أخبر بموت البغل والحصان! فقال له سليمان: أنت تستحقّ ذلك، فعندما يُقال لك شيء ما، عليك أن تفتح أذنيك وتستمع ولا تصرّ على ما تريد – هذا الكلام منّي طبعًا – ألم تعلم أيّها الأحمق أنّ نبيّ الله يريد ما فيه صلاح عباد الله.
فأنت لا تفهم شيئًا يا حمار! وتستحق أن تُدفن تحت الأرض بدلَ أن تعيش على ظهرها! أفلا تعلم أنّ وليّ الله يريد ما فيه صلاح عباد الله؟! [أفلا تعلم] أنّه إن قام بنصيحتك أم لم يقم فإنّ ذلك لن يُقِّدم له شيئًا ولن يُؤخِّر؟! فهل سينقص منه شيئًا إن لم يخبرك! [فلسان حال النبيّ سليمان يقول:] كنتُ أرى ما الّذي سيحصل معك اليوم، حينما قلتُ لك أنّ ذلك الأمر ليس في مصلحتك! ولكنَّك لمّا كنت أعمى، أصررتَ على ما أردتَ، فخُذها إذًا وهنيئًا لك!
كنت أشاهد عين هذه الأمور في عهد المرحوم الوالد، على أنّه كان يتصرّف معهم بشكل آخر، وكان ذلك يحصل في عهد المرحوم الحدّاد أيضًا؛ لقد كان هنالك مَن يصرّ على بعض الأمور، ولم يكن المرحوم الحدّاد ليستجيب له، لأنّ ذلك لم يكن في مصلحته، ومع هذا كان يزيد مِن إصراره إلى درجةٍ جعلت المرحوم الحدّاد يُجبَر على الموافقة على طلبه قائلًا: ما دمت تريد ذلك، فتفضّل إذًا وخذ. ولكن نتيجة ذلك كانت ما وصل إليه ذلك الرجل مِن وضع، وهو التمرّد. كنتُ قد شاهدتُ بنفسي بعضًا مِن إصرار هذا الرجل، وقد نقل المرحوم العلّامة البعض الآخر في كتاب (الروح المجرّد)، وقد ظهرت نتيجة ذلك الآن، فاذهبوا وشاهدوا ما الّذي ابتُلي به الرجل ..
فوليّ الله كان يرى ما سيحصل في هذا اليوم، لذا لم يكن يوافق؛ فعندما كان يطلب ذلك الرجل شيئًا ما، كان يرفض طلبه، وعندما يطلب توضيحًا لأمرٍ ما، كان يقول له: ليس مِنَ المصلحة بيان ذلك .. إلى أن وصل به الحدّ إلى تهديد أستاذه، بأنّه إن لم يُعطه ما يريد سيكشف سرًّا مِنَ الأسرار الّتي انكشفت له في ذلك الوقت. فهنا تتحرّك غيرة الله فيقول: إن كنتَ تريد إيذاء أحد أوليائي وتضغط عليه لتحصل على ما تريد، فخذها إذًا. ولم يكن ذلك الشخص قد حسب حسابًا لليوم الّذي سيطرده أستاذه بشكل نهائيّ، وها هو قد خسر الدنيا والآخرة بذلك.
فقال النبيّ سليمان لذاك الرجل: لا مفرّ مِن ذلك، ولا بدّ أن ترحل اليوم عن الدنيا، جزاء عدم طاعتك. فأخذ الرجل يتوسّل .. فقال سليمان له: أمامك طريق واحد قد يؤدّي إلى تغيير التقدير الإلهيّ، وهو أن تقصد الّذين بعتهم البغل والحصان، وتُرجِع لهم أموالهم، فقد قمتَ سابقًا بنقل ذلك البلاء المقدّر أن ينزل في بيتك إلى بيت آخر، فأعده إلى بيتك. فذهب الرجل إلى السوق وبحث عمّن باعه البغل حتّى وجده، فقال له: ماذا عن البغل الّذي بعتك إيّاه. قال: ما إن وصلت بيتي حتّى مات. فقال: نعم، لقد كان مريضًا، فخذ نقودك هذه، فها أنا أعيدها إليك. غير أنّ المشتري هذا كان ذكيّا، واكتشف سرّ المسألة.
فقد كان الرجل سيّئ الحظّ إذ قد باع البغل إلى رجل غير مناسب، فلو كان قد باعه إلى رجل جاهل، لقبل منه النقود [وانتهى الأمر]، ولكن كان كلا المشتريين [للبغل والحصان] ذكيّين ومطّلعَين على مجرى الأمور.
فقال الرجل للمشتري: كان مِنَ المقرّر أن ينزل بلاءٌ في بيتي، والله سيدفعه عنِّي بهذه الطريقة۱. ومهما أصرَّ عليه، لم يقبل منه ذلك. ثمّ ذهب الرجل إلى مَن باعه الحصان، وكان هو الآخر مِن أصحاب المعرفة، فكلّمه عن الحصان، فقال: لقد مات الحصان بمجرد وصولي إلى المنزل.
ينطبق على ذلك الحصان، قول سعدي الشيرازيّ، في شعره الّذي حفظته عندما كنتُ أدرس ديوان (گلستان):
شه بمن اسبي رهروى بخشيد | *** | كه چنان كس در جهان نه بديد |
او چنان تند بود در رفتن | *** | كه به يك دم بآخرت برسيد |
[يقول: أهداني الملك حصانًا سريعًا، لم ير أحد مثله في العالَم. إنّه يركض بالسرعة الّتي جعلته يصل الآخرة بنَفَسٍ واحد].
فقال ذاك المشتري: وعندما مات الحصان، بمجرد وصولي المنزل، علمتُ أنّ في القضيّةسرًّا، فلا بدّ أنّ مصيبةً كانت ستقع في هذا البيت، فأصابت هذا الحصان. وكلّما حاول الرجل أن يعيد له المال، لم تُجدِ محاولته نفعًا.
فعاد الرجل إلى نبيّ الله سليمان، فقال له النبيّ: لقد أخبرتك بما يجب أن أخبرك به، والآن لا مفرّ لك مِنَ الموت، فعزرائيل على الباب ينتظر أن يقبض روحك، وسأطلب منه مهلة ساعتين أو ثلاث لتُرتّب فيها أمورك وتستعدَّ للرحيل. فعاد الرجل إلى منزله، وما إن انتهى مِن ترتيب أموره حتّى وافاه الأجل وانتقل إلى رحمة الله.
فما الّذي أدّى إلى هذا؟ إنّه بسبب الابتعاد عن الحقّ، فحضورك لدى النبيّ سليمان يعني الحضور عند باب الله، فلماذا تستعيض عن نبيّ الله بأقوال الديك والدجاجة وبإرشادات الطُرق الأخرى؟! فسليمان نبيّ، وهو مكلّف مِنَ الله، ومسؤول عن إرشاد الأمّة إلى ما فيه صلاحها، فهو الّذي يعلم إن كان مِن مصلحتك أن تعرف لغة الحيوانات أم لا، أو أن تقوم بهذا العمل أو بذاك. فوليّ الله يُرشد كلّ واحد إلى الطريق الّذي يتناسب مع ظروفه وسعته وقدرته على الاستجابة. لذا لا يمكن لنا أن نقول: لماذا بعض الأفراد على حالٍ معيّن، ونحن لسنا كذلك؟ فإنّ أَمْرَ ذلك الفرد قد تمّ تنظيمه وفق خصوصيّاته الّتي لا تمتلكها أنت، فلا يمكن – والحال هذه – تغيير الأدوار، فإن تغيّرت الأدوار ستختلّ الأمور وينفلت الحبل مِن اليد، ولا يمكن حينئذ منْع الأوضاع مِنَ التدهور.
وهكذا هو الأمر في موضوعنا الّذي نتحدّث عنه، فسلوك تلك الطُرق عبارة عن الانفصال عن الولاية وعن إمام الزمان .. ألا ينزعج إمام الزمان ويغضب من هذا السلوك؟! ألم يقُل لك أن تُقبِل عليه؟! فهل لجأت إليه ولم يتولّ هدايتك، حتّى أجبرك ذلك على السعي وراء الجنّ وأولئك الناس المعلومي الحال؟! فأين كلّ تلك المعلومات الّتي نمتلكها عن الولاية؟! وما الّذي جرى حتّى لا نسلّم قلوبنا إلى صاحب الولاية، واكتفينا بظواهر الأمور فأصبحنا ننقل أحاديث الإمام الصادق وكأنّنا نقرأ جريدة، وأصبح القلب والفكر والمسير والمنهج في مكان آخر؟!
الطريق إلى الله سهل يسير ولكن نحن مَن يُعقّد الأمور
إنّ الموضوع الّذي تحدّثت عنه اليوم، والّذي جاء بشكل عفويّ، يصبّ في نفس اتجاه الموضوع الّذي بحثناه سابقًا، ولكنّني استشفّيتُ مِن بعض الأسئلة أن الموضوع لم يتّضح بالكامل بعدُ، لذا استأنفتُ الحديث عنه. ومِن تلك الأسئلة: ما هي الحاجة إلى الرياضة لمَن يريد سلوك هذا الطريق؟
إن كان الإخوة يتذكّرون فقد قمتُ بتوضيح بعض المسائل المتعلّقة بهذا الموضوع، منها أنّ الرياضة تعني السير وفق برنامجٍ محدّدٍ، وهذا غير ما نتصوّره مِن أنّ مَن يلتزم بالرياضة الشرعيّة يكون قد وضع نفسه في ضيق وحرج، ويكون قد فصل مسيره عن الآخرين، وهو يُصعِّب الأمور على نفسه، ويرتضي بضغوط المشاكل، ويَحرم نفسه مِنَ العيش الرغيد .. فهذا هو طريق السلوك إلى الله برأيه، ونتيجة لذلك يُستشكل بأنّه: هل يُفترض أن يقترن طريق السلوك إلى الله بالمشاكل، ألا يمكن طيّ الطريق بيُسْر؟!
ما أريد قوله هنا هو أنّ الطريق إلى الله سهلٌ يسير، ولكن نحن الّذين قمنا بتعسيره، فقد صعّب الناس الأمور على أنفسهم! فالطريق إلى الله هو أيسر ما يمكن للمرء طيّه في هذه الدنيا، والطريق إلى الله هو تسليم الأمور إلى وليِّ الله وتحرير النفس مِن مسؤوليّة تدبيرها، لا أن يتحمّل تدبيرها بنفسه، والطريق إلى الله هو وضع الأمور على عاتق الإمام (عليه السلام) وإراحة النفس منها. هذا هو طريق الله. لا أن يقوم المرء بحمل أثقاله بنفسه وتحمّل عبء المسؤوليّة.
فأبو بكر المسكين عندما اغتصب الخلافة مِن أمير المؤمنين، لم يكن يعلم أنّه يُحمّل نفسه الأثقال، وأنّ عليه أن يُجيب غدًا عن مسؤوليّة قيادة الأمّة. فعندما نصّب رسول الله أمير المؤمنين في يوم الغدير للخلافة مِن بعده، كان يقول للناس: يا أيّها الناس ألقوا بأثقالكم على عاتق أمير المؤمنين، فهو وحده القادر على حمل أمتعتكم، وهو وحده القادر على تأمين سعادتكم، وهو وحده القادر على الإجابة عن ذلك يوم القيامة، ولا يقدر على ذلك أحد منكم غيره. فأنت يا أبا بكر وأنت يا عمر ويا أيّها الناس، يا مَن تنظرون إليَّ الآن، لا يوجد منكم مَن يستطيع حمل أثقال المسؤوليّة، أي إنّكم لا تستطيعون تحمّل مسؤوليّة قيادة الناس وحفظ دمائهم وأعراضهم، فدعوا تلك المسؤوليّة لعلِيّ، فهو وحده – لا غيره – القادر على تحمّل مسؤوليّة حفظ أرواح وأموال وأعراض الناس.
ولكنّهم لم يستمعوا لذلك النداء، وقاموا بحمل تلك المسؤوليّة على أكتافهم، لتبدأ بذلك فصول القتل والتجاوز. لماذا حصل كلّ ذلك؟ حصل ذلك لأنّهم حملوا على أكتافهم تلك المسؤوليّة، ولم يُحمّلوها لأمير المؤمنين القادر وحده على حملها. فلمّا كنتَ عاجزًا عن حملها، ولمّا كنتَ غير عالِم بحقائق الأمور، ونفسك غير مُعدَّة لذلك وغير متحقّقة بالكمال والفعليّة، أراحك النبيّ مِن عبء تحمّل تلك المسؤوليّة، غير أنَّك لم ترضَ بذلك.
فهل الطريق إلى الله هوالشاقّ – والحال هذه – أم تلك الطُرق الّتي اختارها الآخرون؟! لو لم يقُم أبو بكر بما قام به، ألم يكن الوضع أفضل ممّا تشاهدونه اليوم بأنفسكم؟! ألم يعلم أولئك الّذين عزلوا أمير المؤمنين عن منصبه، أنّ فعلتهم هذه أراحت أمير المؤمنين؟! هل سمح لهم وجدانهم بتذوق طعم الراحة والسكينة عندها؟! فبغض النظر عمّا كانوا يظهرونه مِن تصرّفات بحضور الناس، ولكن ماذا كان يقول لهم ضميرهم عندما يضعون رؤوسهم على الوسادة ليلًا؟! هل يمكنهم التخلّص مِن تحمّل مسؤوليّة الجنايات الّتي وقعت في عهدهم، فهل يمكنهم إراحة ضمائرهم منها؟! وهل تمكنّوا مِن منع التأريخ من إدانتهم؟! كلّا وأبدًا ..
فطريق السلوك إلى الله يقول لك: ألقِ بمسؤوليّة دينك على عاتق وليّ الله. ومَن هو هذا الوليّ؟ إنَّه الوليّ الحيّ، ألا وهو الإمام عليه السلام. فأوكل إليه دينك وعرضك وشخصيّتك ودنياك وآخرتك وجميع شؤون حياتك، ولا تُحمّل نفسك شيئًا منها ولو بمقدار رأس إبرة. فأيّ مقدار ستتحمّله منها ستكون خسارتك بنفس ذلك المقدار. قُم بتحميله جميع أمورك، فهو وحده القادر على حَملها.
عندما سافر المرحوم السيّد الحدّاد إلى إيران، كان مِن جملة مَن حضر لزيارته شخص عنده الكثير مِنَ التلامذة، فحضر مع تلامذته، وكان يُرافق السيّد الحدّاد في سفره. وفي أحد المجالس، شرح للسيّد الحدّاد حالات تلامذته ودرجاتهم والمقامات الّتي وصلوا إليها، فكان يقول: أحد تلامذتي يتمتّع بهذه القابليّة، وآخر بتلك القابليّة وهكذا .. وهو لا يعلم أنّ الشخص الّذي يشرح له، ليس فقط مطّلعًا على أحوالهم بل ... فإلى مَن يشرح؟!
أنظروا كيف يهدي أولياء الله الآخرين، ولكن أين هي الأذن الصاغية!! فقد وصل الحال بذلك الشخص أن قال: تحصل لفلان حالات – مشيرًا إلى أحدهم الّذي ما زال على قيد الحياة – عندما يخبرني بها لأجيبه عنها، لا أستطيع الإجابة عنها! [أقول:] ما دمتَ لا تستطيع الإجابة، فلم تقبّلت تلك المسؤوليّة؟! أرأيتم كيف أنّ الموضوع واضح، فالمسألة عقليّة، فإن كنتَ لا تقدر فتنحّ جانبًا وانزل عن السرج وسلِّم عنان الحصان إلى غيرك، فلماذا لا تريد إراحة نفسك؟! أنظروا كيف يريد وليّ الله إراحته مِن حمل هذه الأثقال، فهو يقول له: ما دمتَ لا تستطيع، فلماذا تحمّلت تلك المسؤوليّة، ولماذا لا تُحمِّل هذه الأثقال للكتف الّتي تستطيع حَملها؟! فالق بهذا الحِمل على أكتافي، فأنا القادر على حمله. فإن أردتَ ذلك فافعل، ولك أن تسأل ما شئت [حتّى تتيقّن مِن دعواي] فأنت مِنَ العلماء، ومِن أهل الخبرة وأنت تختلف عن غيرك، إذ قد تعلّمتَ شيئًا مِن تلك المسائل المعنويّة، فتستطيع أن تعرف أن كنتُ صادقًا فيما أقول أم لا، وحينئذ قُم بإرسال تلامذتك إليَّ. ولكن هل قام بذلك؟ لا، لم يقم به. لماذا؟ لأنّ النفس لا تسمح بذلك!
هذه هي المواقف الّتي تسبّب توقّف الإنسان عن المسير. فما دام وليّ الله يقول لك أن تُلق بحملك هاهنا، فما الّذي تريده بعد ذلك!! فهل أنت سعيد بسيرك وأنت تحمل على أكتافك كيسًا ثقيلًا مِنَ الرقّي؟! فكم هو أحمق مَن يرضى لنفسه بذلك!! بل تراه يضيف إلى حِمله ذاك أكياسًا مِنَ الأرز وغيره، والحال أنّه عاجز عن حملها، وتراه يسقط أرضًا [جرّاء] ذلك. إنّ أقصى ما يمكن للإنسان حَمْله هو ثلاث كيلوغرامات في كلّ يد مثلًا، فعندما يقوم الشخص بحمل بعض الأثقال، سيصل إلى نقطة يعجز فيها عن الحمل.
فإن كنت لا تستطيع – يا هذا – إدراك السعة الوجوديّة ومقدار المعرفة ومراتب الكمال الّتي طواها أحدهم، فكيف تستطيع إرشاده وإعطاءه البرنامج السلوكيّ، وكيف ستتمكّن مِن تحذيره مِن بعض الأمور، وأنت لا تعلم المرتبة الّتي هو فيها؟! فكيف تقوم – والحال هذه – بإعطائه برنامجًا سلوكيًّا وتأمره وتنهاه؟! هذه واحدة مِنَ الأمور الّتي يجب علينا الانتباه لها .. هذا هو طريق الله.
العبرة المستخلصة مِنَ الحركة الدستوريّة في إيران
هل تعلمون مَن هم الّذين تولّوا قيادة الحركة المشروطة في إيران؟ إنّ الّذين تصدّوا لها كانوا على درجة مِن العلم وذوي موقع اجتماعيّ لا يُقارن بمِن جاء بعدهم: فأحد الّذين تصدّوا لذلك هو الآخوند الخراسانيّ، وأين نستطيع أن نجد نظيرًا له هذه الأيّام. وأيضًا المرحوم الحاجّ الميرزا محمّد حسين النائينيّ، الّذي لا تزال تقريرات دروسه تتردّد على ألسنة أهل العلم والفضل وحتّى المجتهدين. وكذلك الحاجّ الميرزا خليل، الّذي كان مِنَ العظماء ويُعدّ مِنَ النخبة العلميّة في ذلك الزمان. غير أنّ الموضوع لا يقتصر على الجانب العلميّ فقط، بل يتطلب أمورًا أخرى، كالفكر النيّر والخبرة والفهم الخاصّ. غير أنّ هذا الفهم وتلك الخبرة المطلوبين، لم يتحقّقا لهم طوال تلك السنين الّتي قضوها في الحوزة.
وعندما يراجع الإنسان تلك الأحداث يجد أنّ تلك الدروس الحوزويّة لم تسعفهم في تلك المواقف، إذ المسألة تدور في أفق أعلى مِن أفق تلك العلوم والمعارف الظاهريّة، فهي تتطلّب فهمًا ومعرفةً آخرَيْن لا تستطيع الحوزة توفيرهما. فماذا كانت النتيجة؟ فقد تحرّك الناس ونهضوا، وألّف المرحوم النائينيّ كتاب (تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة) ونشره، ليتّضح فيما بعد أنّ كلّ ما جرى كان وفق ما خطّط له البريطانيّون الّذين عملوا على خداعهم. فلو لم تكن قد خُدعت، فلماذا نشرتَ ذلك الكتاب؟! وإن كنتَ عالمًا [بهذه المسائل] فكيف خُدعت، ولم تعلم بما خُبّئ لك خلف الستار؟! فهذا الطرف كان يحرّض الناس على التحرّك، وفي المقابل هناك مَن أمر الناس باعتزال هذه القضيّة وعدم المشاركة فيها. فوقع الطرفان نتيجة ذلك في صراع فيما بينهم، وحصل ما حصل.
كان المرحوم السيّد جمال الدين الكلبيكانيّ مِنَ العظماء ومِن مراجع التقليد في النجف، وقد ذُكرتْ بحقّه بعض الحكايات المميّزة، كما أنّني كتبتُ عنه بعض الحكايات الّتي سمعتها مِنَ المرحوم الوالد، فلتُضَف إلى الحكايات الّتي كتبها المرحوم الوالد، والّتي عكف بعض الإخوة على جمعها وطباعتها. وأرجو أن يزيد الله في همّتهم في هذا المجال، وهو قد وهبهم الهمّة فعلًا. وقد اقتصرتُ على ذكر ما سمعته بنفسي مباشرة مِنَ المرحوم الوالد، دون أن أضيف إليها ولو مطلبًا واحدًا ممّا سمعته عنه بالواسطة. ويشتمل ذلك على بعض المطالب المتضمّنة للحكايات والمواعظ والكلمات الّتي سمعتها بنفسي، وذلك بمقدار ما يمكنني [نشره]. وأسأل الله التعجيل في طباعتها لتكون في متناول أيدي الإخوة. فكتاباته الخطيّة غنية بالمعلومات المفيدة، ولقد بقيَت مهملة خلال هذه المدّة، حتّى توفّق عدد مِنَ الإخوة فانبروا لجمعها.
يقول المرحوم العلّامة أنّه ذهب عصر أحد أيّام الصيف الحارّة لزيارة المرحوم السيّد جمال الدين الكلبايكانيّ، حيث كان في الطابق العلويّ مِن بيته، وجرى الحديث حينها عن الحركة المشروطة .. والمرحوم السيّد جمال يُعتبر رجلًا متميِّزًا في حوزة النجف، مضافًا إلى درجته العلميّة وكونه مِن مراجع التقليد وقتها، فقد كانت له حالات روحيّة ومشاهدات عالية، وقد ذكرتُ بعضها، وهي جديرةٌ بالاطّلاع، وسيطّلع عليها الإخوة إن شاء الله .. فقال السيّد الكلبايكانيّ: لقد كان المرحوم النائينيّ مِنَ المدافعين عن الحركة المشروطة، ولقد بذل جهودًا كبيرة بالتعاون مع المرحوم الآخوند الخراسانيّ، ولقد كتب كتابه (تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة) بأمر مِنَ الآخوند.
[أقول] بالرغم مِن أنّه كتاب جيّد، ويمكن الاستفادة منه، غير أنّ لكلِّ مقال مقام ولكلِّ حديث مكان، فلا يمكن للمرء أن يطرح كلّ كلام في أيّ مناسبة كانت، فلا بدّ مِن وزن الأمور ووضعها في مواضعها؛ فالسيف حادٌ بطبيعته، فلا تستطيع وضعه بيد كلّ أحد؛ فإن وضعت السيف بيد المجنون فأيّة مصيبة ستحصل عندها، وإن وضعته بيد العاقل فسيقوم بوضعه في غمده أحيانًا ويشهره عند اللزوم والحاجة إليه ويُقاتل به مَن يجب عليه مقاتلته. فيجب على المرء اختيار المكان المناسب لطرح الكلام الجيّد، حتّى لا يستغلّه المعاندون ويستعملوه كحربة ضدّ المتكلّم نفسه.
ففي هذه المواطن لا بدّ مِن وجود نور باطنيّ. فعلاوة على امتلاك المرء للمطالب العلميّة والظاهريّة وسعة الاطّلاع على الأمور، يلزمه مع ذلك أمر آخر وهو ما كان يفتقده المرحوم النائينيّ. لذا ترى أنّ أولئك المتخفّين وراء الستار انتفعوا بكتابه ذاك. وعندما تسارعت الأحداث وتتطوّرت الأمور، اتّضح أنّ البريطانيين هم مَن يقف وراء ما يحصل، وأنّ الباقين لم يكونوا سوى دمى تُحرَّك مِن قِبَلهم [دون أن يشعروا]. ثمّ انتهى كلّ شيء، فقبضوا على العلماء وأعدموا الشيخ فضل الله النوري – الّذي يعتبر عالِم طهران الأوّل في ذلك الوقت – في إحدى الساحات العامّة، ومَن حضر إعدامه كانوا على فئتين، منهم مَن كان فرحًا ومبتهجًا، ومنهم مَن كان يبكي ويلطم رأسه، ولكن بلا فائدة إذ لا يستطيعون عمل شيء. كان الشيخ فضل الله النوري رجلًا عظيمًا جدًّا، وله حالات روحيّة، ولقد أخبرني المرحوم الوالد ببعض مكاشفاته – والّتي لم أبُح بها حتّى الآن ولعلّني أذكرها مستقبلًا – ولكنّه أُعدم في تلك الساحة.
فما هو السبب الكامن وراء ما جرى؟ إنّ السبب هو عدم الاطّلاع، وهو أنّ مَن تحمّل المسؤوليّة لم يكن في الواقع مستعدًّا لحملها ولا لتأدية واجبها. لا بدّ مِن أخذ جانب الاحتياط في مثل هذه المسائل المهمّة والعميقة، فليس للمرء أن يقوم بأيّ عمل كان، بل يجب التوقّف في هذه الموارد.
يقول [السيّد الكلبايكاني]: اعتزل أولئك العلماء المجتمع نتيجة الهزيمة الّتي منوا بها، والّتي عرّضتهم للَوم وطعن الطرف المقابل، [فكانوا يقولون لهم:] انظروا إلى نتيجة عملكم هذا، أرايتم كيف أنّ كلّ ما حصل كان مِن تدبير البريطانيّين؟! هذا علاوة على ما حصل بعد ذلك، والّذي أدّى إلى مجيء رضا شاه [بهلوي] إلى الحكم، حيث اتّضح كلّ شيء حينئذ. فاعتزل المرحوم النائينيّ المجتمع، وتعطّلت دروسه لمدّة خمس سنوات، ولم يعره أحد مِنَ الطلّاب اهتمامًا في تلك الفترة، ولازم منزله خلال تلك السنوات.
يقول المرحوم السيّد جمال: قلتُ في نفسي حينها أنّه عليّ استثمار هذه الفرصة، فكنتُ أذهب خلال تلك المدّة إلى منزله وحدي، وأتباحث معه في الأصول، وقد غيّر المرحوم النائينيّ الكثير مِنَ المبادئ الّتي كنتُ أتبنّاها، كما جعلته يُغيِّر قسمًا مِن مبانيه أيضًا. نعم، لم يأت خلال تلك السنوات الخمس مِن طلبة العلوم الدينيّة أحد للتتلمذ على يديه، وكنتُ أنا الوحيد الّذي أذهب إلى بيته وأتباحث معه في الأصول، ولقد استفدت مِن ذلك كثيرًا.
وقال: بينما كنّا مشغولين بالبحث يومًا، إذ بالباب يُطرَق، حيث جاءه اثنان مِن طهران لزيارته وهما: المرحوم الشيخ محمّد علِيّ الطالقانيّ والمرحوم الشيخ حسين اليزديّ.
وكان المرحوم اليزديّ عالِمًا كبيرًا وصريح اللهجة وجريئًا. لقد ذكر المرحوم العلّامة شيئًا عنه في بعض مؤلفاته، لا أتذكّر الآن أين كان ذلك، ولكن يستطيع الإخوة العثور عليه، ولعلّ ذلك كان في مدوّناته الخطيّة۱ .. وكان مِن أصدقاء المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ، حيث كان ينزل عنده حين زياراته لمدينة قم. وأستاذنا المرحوم الشيخ مرتضى الحائريّ كان يمتدحه في حديثه. وكانت له أفكار خاصّة.
فدخل الاثنان وجلسا وبدءا بالحديث، وأثناء الحديث التفت المرحوم الشيخ حسين اليزديّ إلى الشيخ النائينيّ وقال له بلهجته اليزديّة: يا شيخ حسين – ولم يقل له يا شيخ محمد حسين – أتعلم ما هو رأي الناس فيما قمتَ به في الحركة المشروطة، إنّهم يقولون أنّه مصداق للمثل القائل «كار كردن خر وخوردن يابو» [وترجمته: العمل للحمار، وللحصان الأكل]٢ – فقد شبّهه بالحمار هنا – أيّ أنّك اشتركت في الحركة المشروطة ودعوت الناس للمشاركة، وذلك مِن أجل عزل المستبدّين والمتسلّطين، وعندما قمت بكلّ شيء وتمّ عزلهم واستتبّت الأمور، جاء البريطانيون وعزلوكم جميعًا واستولوا على الأمور. فأطرق الشيخ النائينيّ رأسه إلى الأرض ولم يتفوّه بشيء. يقول المرحوم السيّد جمال: لقد رأيت أن ذلك غير كافٍ، بل لا بدّ مِن التأكيد على المسألة، فالتفتُّ إلى الشيخ النائينيّ وقلتُ له: يا جناب الأستاذ، هل التفتّ إلى ما قاله لك؟ فقال: نعم، نعم، لقد التفتُّ.
لماذا يحصل كلّ هذا؟! ولماذا يتصدّى المرء لأمرٍ، فيجرّ وراءه كلّ هذه التبعات؟! ألا يجدر بالمرء بدل التصدّي لهذه الأمور، أن يتّبع مسير العظماء والأولياء؟ فلو كنتَ قد تبِعتهم وسألتهم عن رأيهم في الاشتراك وعدم الاشتراك في هذا الأمر، لقالوا لك: اجلس مكانك، فكلّ ما يجري هو مِن تدبير البريطانيين، فإن قمتَ بعمل ما، ستكون مسؤولًا عن كلّ قطرة دم تنزف مِن أنف كلّ واحد .. فكم مِنَ الدماء أُريقت مِنَ الطرفين في الحركة المشروطة تلك؟! على أنّ كلّ ذلك كان يتمّ باسم الإسلام، فالكلّ يدّعي أنّه يمثّل الإسلام، وقد وصل الأمر إلى درجة أنّهم أعدموا أحد مراجع التقليد للشيعة وهو الشيخ فضل الله النوري.
فماذا كان موقف المرحوم الشيخ النائينيّ في ذلك الوقت؟! ألم يكن يقول: يا للويل! نعم، ولذلك تقبّل ما قاله الشيخ اليزديّ في أنّ ما قام به مثله كـ (عمل الحمار وأكل الحصان)، وإلّا لردَّ عليه وبرّر عمله بأن يقول مثلًا أنّه عمل وفق التكليف الشرعيّ، وهو يمثّل القيام بالواجب، وأنّه غير نادم ولو سنحت الفرصة سيكرّر ما قام به! غير أنّه لم يقل شيئًا مِن هذا القبيل، بل علِم أنّه كان مُخطئًا. ولكن ما هو خطأه هنا؟ إنّ خطأه كان في تحمّل مسؤوليّة ما لا يطيق. فالعِلم [الظاهريّ] ومخزون المعلومات ليسا كافيين وحدهما، بل لا بدّ مِن توفّر أمور أخرى في هذا المجال، إذ الأمر في غاية الخطورة عندما يتعلّق بالدماء والأعراض.
فالطريق إلى الله – والحال هذه – هو عبارة عن إلقاء أثقال المرء على عاتق مَن يتمكّن مِن حملها. ألم يكن في ذلك الوقت مَن كان مؤهّلًا لحمل تلك المسؤوليّة على عاتقه؟ ألم يكن واجبًا الرجوع إليهم وسؤالهم عمّا ينبغي فعله، ليقوموا بتعيين تكليف المرء؛ فإن قالوا بالقيام فسيكون قيامًا بالحقّ، وإن قالوا بالقعود فسيكون قعودًا بالحقّ حينئذ، فكِلا الموقفين سيكونان حقًّا.
الحقُّ حقٌّ مهما كان والباطل باطل عمّن صدر
أمير المؤمنين إمام حيٌّ ولا بدَّ مِن اتّباعه، فمُخطئ مَن يقول له: أنا لست معك ولا عليك. فلمّا كنتَ تعلم أنّه أمير المؤمنين، فلا يحقّ لك والحال هذه أن تذهب إلى مكان آخر. نعم [كلامنا لا يشمل مَن] لم يكن يعلم أنّ عليًّا أميرُ المؤمنين، ومَن كان يظنّ أنّه إنسان مخطئ، [وهذا محتمل الحصول] لأنّ لكلّ إنسان طريقته في التفكير، فقد يُنظّم أفكاره على مقدّمات معيّنة، بحيث يتحيّر في الحكم في بعض الأمور ويشكّ في بعضها الآخر. وهناك مَن هم على هذه الشاكلة، فكان يحصل الشك لبعضهم، فيأتي إلى أمير المؤمنين ليُصحِّح له موارد الخطأ ويُخرجه مِنَ الشكّ. بل كلامنا مختصّ بالّذي يعلم أنَّ عليًّا هو أمير المؤمنين، ومع ذلك يقول: أنا لست معك ولا عليك. [فنقول له] بأيّ دليل تتخلّى عن أمير المؤمنين، فالحقّ هنا واضح ومشخّص، وحينئذٍ لا بدَّ للمرء مِن اتّباعه. وعليه، فإمّا أن يأمره بالتقدّم إلى الميدان والتضحية بحياته، أو يأمره بالجلوس، فلا فرق في ذلك حينئذٍ إذ الحقّ حقّ. وكذا الحال مع سيِّد الشهداء، فسيِّد الشهداء حقّ ومسيره هو القتل والشهادة، فلا بدّ للإنسان مِن اتّباعه. أمّا إن كان هناك رجل غير سيّد الشهداء مِمّن يدّعي مقامًا ويدعو الناس للقيام، وسينتهي الأمر بمقتل جميع مَن قام معه، فهل ينبغي اتّباع هذا الرجل؟! كلاّ، لا يجوز اتّباعه. لذا نرى الإمام الصادق يقول للرجل الّذي تباحث مع يحيى بن زيد: لقد أتممت عليه الحجّة .. فبأيّ حقّ تقوم يا يحيى، ألا يوجد مَن هو أعلم منك؟! فلمّا كنت تعلم بوجود مَن هو أعلم منك، ألا وهو الإمام جعفر بن محمّد الصادق، فلماذا لم تسأله ولم تُسلّم أمرك إليه؟! هل كان قيامك بأمرٍ مِنَ الإمام الصادق؟! كلّا، هذا لم يحصل، فقيامك لم يكن بأمرٍ مِنَ الإمام الصادق، وعليه ستتحمّل أنت مسؤوليّة نفسك ومَن قُتل معك. أمّا لو كان قيامك بأمرٍ مِنَ الإمام الصادق، لكنتَ في حِلٍّ مِن أمرك، وإن قُتل جميع مَن في الأرض معك، لأنّ الحقّ سيكون حينئذٍ مشخّصًا ويقينيًّا وجليًّا.
وعليه، عندما يكون الأمر غير يقينيّ وجليّ، نراهم يبرّرون أخطاءهم بأنَّهم قد خُدعوا بالمعلومات الكاذبة الّتي نُقِلت، وأنّهم لم يعلموا أنّ ما قيل لهم كان يخالف الواقع. [نقول:] إن كُنتَ مِمّن يمكن خداعه؛ فلماذا تتحمّل تلك المسؤوليّة؟! وما هو الفرق بينك وبين سائر الناس، إن كانت قراراتك تتغيّر وفق تلك المعلومات الخاطئة؟! فلماذا لم تتّخذ مسيرًا آخر، بدلاً مِن تحمّل ثِقل مسؤوليّة قيادة المجتمع؟! فهل قال أمير المؤمنين أو الإمام الحسن أو سيّد الشهداء أو أحد الأولياء يومًا أنّه قد خُدع؟! لم يحصل ذلك أبدًا، بل إن حاول أحدٌ خداعهم، فسيعلمون ذلك وهو في بيته قبل أن يصل إليهم، فإن جاء لن يسمحوا له بالكلام أبدًا، ولَمَا أعطوه دقيقة واحدة للحديث، فهم يعلمون أيّ شخص منافق ومخادع وغشّاش هو، لذا لا يسمحون له بالدخول، فكيف أن يتحدّث محاولًا خداعهم.
بناءً على ما ذُكر أعلاه؛ فأيّهما هو الشاقّ؛ طريق الله أم طريق سواه؟! وأيّهما الشاقّ؛ الرياضة [الروحيّة] أم ما سواها؟! ففي طريق الله عليك أن تُلقي حِملك على أكتاف مَن يستطيع حَملها، وهو سيتولى قيادتك، فيقول لك: افعل هذا ولا تفعل ذاك. وهذا ما سيبعث على راحتك وراحة ضميرك، فلا تبقى في صراع وملامة مع نفسك إلى آخر عمرك وأنت تقول: لماذا فعلتُ هذا، ويا ليتني سألتُ قبل أن أقدم على هذا العمل، ويا ليتني تصرّفت بشكل مغاير في ذلك الموقف! وعليه، لماذا يتّخذ الإنسان طريقًا يؤدّي به إلى ما لا تُحمد عقباه. هذا كلّه في الدنيا، فكيف به بحساب الآخرة!
كان هذا كلامًا مختصرًا [حول الموضوع]، ولعلّنا نتحدث بتفصيل أكثر في المستقبل.
توصيات تتعلّق بشهر ذي الحجّة الحرام
إنَّ الأيّام المقبلة أيّامٌ ينبغي اغتنامها، فهي الأيّام الّتي كان العظماء يؤكّدون على تشديد المراقبة فيها. هذا مِن جانب، ومِن جانب آخر، فإنّ الشيطان يسعى بكلّ جهده لحرمان الناس مِن فيض هذه الأيّام. فعلى المرء أن يزيد مِن اهتمامه بالمراقبة؛ فعليه أن لا يتكلّم أكثر مِنَ اللازم، وإن كان يستطيع صومها فذلك مستحسن جدًّا، وللعظماء توصيات متعلّقة بهذه الأيّام، ويوصون بالأذكار الخاصّة بهذه الأيّام كما يعلم الإخوة.
إنّ يوم عرفة مِنَ الأيّام المهمّة جدًّا، وعلينا أن نعرف أنَّ العظماء لم يكونوا ليتركوا أو يغفلوا عن قراءة دعاء عرفة بأيّ وجه مِنَ الوجوه، إلى درجة أنّهم قالوا: لو أنّ صيام ذلك اليوم يحول دون قراءة هذا الدعاء، فيُفضّل عدم صيامه. فهو دعاء على درجة كبيرة مِنَ الأهميّة، ويجب قراءته بحضور قلب، سواء منفردًا أو جماعةً، غير أنّه إن قُرئ جماعة فليقرأه شخص واحد، وعلى البقية متابعته سماعًا دون النظر إلى الدعاء في كتاب مفاتيح الجنان مثلًا، إذ المتابعة مع النظر في الكتاب يُقلِّل مِنَ الأثر المترتّب على قراءة الدعاء، فالمستحسن الاستماع والترديد مع القارئ في القلب ومتابعته في النفْس. فهذا النوع مِنَ القراءة يختلف عمّا إذا كان المرء يقرأ الدعاء بنفسه؛ فإن كان الإنسان يقرأ الدعاء لوحده، سيركّز حينئذٍ على مضمون الدعاء. وإن كان الإنسان يقرأ الدعاء وهناك مستمع يقرأ معه، فهذا سيُقلِّل مِنَ الأثر المترتّب على الدعاء، فينبغي في هذا المورد أن يقرأ أحدهم ويتابعه الآخرون بالقراءة في النفْس. ومَنْ لم يُرد ذلك فلْيكتفي بالاستماع حينئذٍ، فلا ضير مِن عدم القراءة.
أمّا فيما يتعلّق بعيد الأضحى، فلا بدَّ مِن أداء صلاة العيد، جماعةً أو فرادى. وليعلم الإخوة أنّ الأثر الّذي يحصل مِن أداء صلاة عيد الفطر، هو نفسه يحصل مِن أداء صلاة عيد الأضحى، فما يترتّب عليه يترتّب على عيد الفطر، وما ينتظره الناس ويتمنّونه مِن فيض كثير بعد صيام شهر رمضان وأداء صلاة العيد جماعة – وهذا واحد مِنَ الحقوق الشرعيّة للصائمين ولا يستطيع أحد منعهم مِنَ التمتّع بهذا الحقّ – هو ما يجب على الناس انتظاره وتمنّيه في عيد الأضحى أيضًا. فمَن استطاع أن يؤدّي الصلاة جماعةً فليؤدّها جماعة، ومَن لم يتمكّن فليُصلّها منفردًا، إذ سيناله ذلك الفيض.
إنّ كيفيّة الصلاة في كلا العيدين واحدة ولهما نفس الخصوصيّة، ولهذا السبب يُستحبّ صيام تلك الأيّام التسع [السابقة لعيد الأضحى]. فصيام تلك الأيّام سواء في مكّة أو في البيت، هو بمنزلة الاستعداد لاستقبال العيد الّذي جعله الله للحجّاج المتواجدين في مكّة ومِنَى، وحينئذٍ فإن ذلك الفيض الّذي ينزل على الحجّاج سيشمل الجميع. أي إنّ الفيض النازل في يوم عيد الأضحى ليس مختصًّا بفئة خاصّة دون غيرهم، بل يشمل جميع الناس أينما كانوا، لأنّه فيضٌ عامٌّ لا يختصّ بالحجاجّ مِن زائري بيت الله وبمَن يُؤدّي مناسك الحجّ.
كان ذلك فيما يتعلّق بعيد الأضحى، ثمّ يأتي بعد ذلك عيد الغدير، وهو عيد الولاية والحياة والسعادة، وعيد النجاة والفلاح. وفي هذا الموضوع الكثير ممّا يمكن أن يُطرح، وإن شاء الله نطرحه في المجالس القادمة، وإن لم يحالفني التوفيق لذلك فللإخوة اطّلاع عليه، وهم يعلمون أنّ تجليل وتعظيم هذه المناسبة الفريدة في التأريخ – وهي تنصيب أمير المؤمنين عليه السلام – له مِنَ الآثار والبركات الّتي يمكن أن تكون مِن نصيب الإنسان. بناءً على هذا، يجب أن لا يكون عيد الغدير مجرّد احتفال ظاهريّ، بل يجب أن يتمّ في هذه المجالس توضيح حقيقة الولاية ومسألة التبعيّة الحقيقيّة للإمام الحيّ، وعلى الخطيب أن يكون ذا اطّلاع كاف في هذا المجال، ويقوم بتوضيح منهج الأولياء والعظماء هنا.
كان المرحوم العلاّمة وبقيّة العظماء يؤكّدون على هذا الأمر بشكل كبير، فكانوا يُعظّمون عيد الغدير كثيرًا، وكان المرحوم القاضي يُقيم وليمة في هذه المناسبة، وكذا المرحوم الشيخ حسين قلي الهمدانيّ، والمرحوم الشيخ الميرزا جواد الملكي التبريزيّ، وتلامذتهم. فعيد الغدير ليس مجرّد مراسم واحتفالات تُقام، بل هو واقعة تكوينيّة، يستشعر بها الإنسان في تلك الأيّام، ويشعر أنّه حاضر في الواقعة الّتي حصلت في ذلك الوقت. هذه الواقعة الّتي شطرت الناس إلى قسمين في نظامين: نظام الحقّ والتوحيد، ونظام الكفر. فقد قام رسول الله بذلك برسم معالم كلّ مِن نظامَي التوحيد والكفر؛ فمَن كان مع علِيّ فقد فاز وأفلح، ومَن فصل مسيره عن مسير علِيّ فقد خسر الدنيا والآخرة وهو كافر ومشرك. فمَن وقف في ذلك الصفّ فهو المُفلح، وقد أوصل متاعه إلى المقصد المطلوب، وحقّق الهدف الّذي خُلق مِن أجله. أمَّا مَن وقف في الصفّ المقابل، فلم يتمكّن مِن إكمال مسيره، فغادر الدنيا دون أن يصل إلى مرحلة النُضْج، أو أنّه فسد قبل مغادرته الدنيا، كلٌّ بحسب درجته، لم يصل إلى النتيجة المطلوبة.
قضيّة الغدير قضيّة مصيريّة، فيوم الغدير هو اليوم الّذي يتحدّد فيه مصير بني آدم الدنيويّ والأخرويّ. لذا يُستحب أن يتصافح ويتعانق المؤمنون عند اللقاء في هذا اليوم، وأن يقولوا لبعضهم «الحَمْدُ لِلَّهِ الّذي جَعَلَنَا مِنَ المُتَمَسِّكِينَ بِوِلَايَةِ أميرِ المؤمِنِينَ وَالأئِمَّة عَلَيْهِمُ السَّلَام»۱، حيث وردت هذه الكلمات في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام، وروي عنه أيضًا أنّه يجب الاعتقاد والإقرار بهذا التمسّك وإظهاره، فلا يكون مجرد لقلقة لسان. فيجب أن يسير المرء في هذا المسير ويرى نفسه متمسّكًا حقًّا بولاية أمير المؤمنين، ولا يقبل بأيّ ولايةِ كفر وظلم.
وهذه الولاية اليوم متمثّلة ومتجسّدة بولاية الإمام الحيّ، إمام الزمان عليه السلام لا غير، فيجب أن يكون المرء سائرًا على هدي هذا الإمام والولي الحيّ، ونحن نعلم أنّه موجود بجنبنا، وأنّه محيط ومشرف على جميع شراشر وجودنا وخيالنا وأفكارنا وسرّنا وقلبنا أكثر مِن إشرافنا نحن على أنفسنا.
يجب علينا أن نُجسّد ولايتنا في يوم عيد الغدير، [وهذا يعني] تجسيد ولايتنا لأمير المؤمنين، يعني أن نضع النفْس تحت ولاية ابنه إمام الزمان، فهو الولي الحيّ اليوم، وهو الماسك بزمام كلّ عالَم الوجود.
نسأل الله أن يمنَّ علينا بالبقاء تحت هذه الولاية، وأن يجعلنا أكثر ثباتًا في هذا المسير، وأن يوسِّع لنا طريقنا ويزيد في همّتنا، وأن لا يحرمنا مِن لطف وعناية إمام الزمان في الدنيا والآخرة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد