المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالإنفاق و الإيثار
التاريخ 1424/05/12
التوضيح
كيف يمكن للإنسان أن يسهّل على نفسه إنفاق المال؟ ما هي مراتب الإنفاق؟ لماذا كان الأخذ من مال الأخ دون إذنه دليلا ًعلى الإيمان؟ لماذا يزداد تعلق الإنسان بالمال مع ازدياد عمره؟ أسئلة أجاب عليها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه، بالإضافة إلى ذكر نماذج من التعلق بالمال كقصة قارون، والإشارة إلى أن ما جرى في عصر أمير المؤمنين عليه السلام وأنّه يمكن أن يجري علينا أيضاً، كما أشار إلى أنّ معالجة الأولياء للمشاكل تختلف عن معالجة الآخرين، وأن ولاية الإمام هي عين ولاية الله تعالى، بالإضافة إلى كلامه عن أنّ الخطوة الأساس في السلوك هي العبور عن النفس، وأنّ العشق من دون تعقّل يتنافى مع السلوك، خاتماً بأنّ إطاعة الإمام واجبة في السلم والحرب وفي كل حال.
هو العليم
مراتب الإنفاق في الطريق إلى الله تعالى
شرح حديث عنوان البصريّ -۸٩
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
بعد بيانه للفقرات السابقة شرع الإمام الصادق عليه السلام ببيان مسألة تفويض الأمور لله تعالى وتحقّق مراتب العبودية، والآن يبيّن الإمام نتائج تلك الأمور ضمن مسائل.
عطاء الله للعبد تفضّل وتمنّن لا استحقاق
المسألة الأولى هي مسألة الإنفاق، وأنّ العبد ينبغي أن لا يشعر بملكية ما جعله الله تعالى في يده، وعندما تتحقّق هذه المسألة فستكون نتيجتها هي: فإن لم يرَ العَبدُ لِنَفسِهِ فيما خَوَّلَهُ الله مِلكاً.. هان عليه الإنفاق فيما أمره الله أن ينفق فيه، فنتيجة هذا المطلب هو أنّه إذا لم يعد العبد يرى الملكية فيما أعطاه ووهبه.. التفتوا جيداً، فالله لم يقل فإذا لم ير العبد فيما اكتسبه وحصّله ملكاً، بل قال فيما خوّله وأعطاه ووهبه، ولا بد من الالتفات إلى هذه النكات المهمة؛ فإن ما يحصل عليه الإنسان ويصير في يده ليس بسبب استعداد القابل ولا بسبب الاستعداد الذاتي الذي لدينا، ولا بسبب أننا مستحقّون هذا الإعطاء، بل بسبب رأفة الله وفضله وعطاء الفاعل والمعطي. فالله تعالى إنما يفيض هذه الأمور على الإنسان بفضله ومنّه، ويتلطّف بهذه الهبة على هذا الشخص.
الشعور بعدم ملكية المال هو الذي يسهّل على الإنسان الإنفاق
على كل حال، فإن شعر الإنسان بهذا المطلب فلن يعود الإنفاق صعباً عليه، بل سوف ينفق بسهولة ويعطي براحة. طبعاً، فيما إذا كان الانفاق في محلّه.. وسوف نتحدّث حول هذه المسألة المهمّة والدقيقة، ولا بد من بحث هذه النكتة الأساسية، وإذا أسعفنا الوقت سوف نتحدّث عنها في آخر المسألة، وأنه في أي حالة وفي أي شروط ينبغي أن يكون الإنفاق.
فإذا وصل الإنسان إلى حالة العبودية فسوف يكون الإنفاق سهلاً عليه، فيعطي بسرعة ولا يعود يفكّر في هذا العطاء والإنفاق، ويشغل باله في هذا المورد، وبعبارة أخرى، إذا أنفق بيده اليمنى لا تعلم اليسرى بها.
لماذا هناك مشكلة في الإنفاق بالنسبة إلى الإنسان؟ ولماذا يصير الإنفاق سهلاً عليه بسبب هذه المسألة؟
اتخاذ الطريق السهل أفضل عند العقل من الطريق الصعب
المسألة الأولى في المقام وقبل الوصول إلى الإنفاق وموارده المختلفة، لا بد من الالتفات إلى هذا الأصل العقلائي، وهو أنّ القيام بأي فعل بسهولة أرجح عقلاً من القيام به بحالة من الصعوبة والتعب وصرف الكثير من الوقت والطاقة وإتلاف الأعصاب وما يستتبعه من غير ذلك.
مثلاً يمكنك أن تختار مساراً للوصول إلى منزلك؛ كأن تريد الذهاب من هذا المكان إلى مكان آخر محدّد، ففي البداية تسأل ما هي أقرب نقطة للوصول إلى ذاك المكان؟
حتماً قرأتم قصّة القاعدة الحمارية، يقال بأنّ الحمار إذا وضع في مكان ووجد أمامه عشباً، فلن يصل إلى ذاك العشب بالالتفاف نحوه، بل سوف يأخذ بالمسير ضمن أقرب فاصلة! وهذه القاعدة معروفة باسم القاعدة الحمارية؛ وهي أنّ أقرب مسافة بين نقطتين هي وضع خط مستقيم بينهما، لا أن يمشي الإنسان بشكل دائري ليصل إلى النقطة الأخرى.. حسناً فعندما تريد الذهاب إلى مكان تسأل عن أقرب الطرق لكي تحافظ على وقتك وجهدك وصرفك للوقود، ولكي تصل بسرعة إلى مرادك بأقل تلف للأعصاب. هذه الأمور قواعد عقلائية، ويستخدمها الناس في معاملاتهم. وهي من موارد ترجيح العقل؛ حيث يقول بأنّ ذاك المسير أصعب، بينما هذا أسهل ويوصل إلى المراد بأقل مؤونة.
وهذا المطلب هو الثابت عند العقلاء، باستثناء بعض الموارد الخاصّة التي لها محلّها الخاص، والتي سوف نذكرها لاحقاً، وهي ما تكون مشمولة لقوله عليه السلام "أفضل العبادة أحمزها"۱، أي ما يكون فيها مشقّة وتعب للنفس.. لقد ذكرت لكم بأنّ البحث اليوم دقيق جداً، ولعل الكلام الذي يجري في هذه الأيام حول بعض المطالب هو مشمول لبحثنا هذا.. حسناً، فمسألة الصعوبة مرتبطة ببعض الموارد الخاصّة الذي ذكرناها، وسوف نذكر في الجلسة القادمة ما يتناسب مع الوضعية المناسبة للمسألة. لكن الإنسان إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا بد أن يختار الأسهل والأسرع للوصول إلى المراد.
كيف يجعل الإنسان الإنفاق سهلاً عليه
الإمام عليه السلام يقول طبقاً لهذه القاعدة بأنّه إذا أراد الإنسان أن ينفق فينبغي أن يكون الإنفاق أسهل عليه وأيسر، وبطبيعة الحال، فإنّ ذلك أفضل من كون الإنفاق صعباً عليه. وبالتالي إذا كان الإنفاق عليه صعباً فلن يمكنه الإنفاق بسهولة، وإذا أراد الإنفاق فسوف يقابل بألف تعليل وتمنّي وتسويف ومنع، وعندما يصل إلى عملية الإنفاق يكون وكأنّ روحه تنتزع من بدنه.
عندما يريد أن يخطو خطوة نحو الله يكون وكأنّه ينتزع منه تمام رأسماله! لماذا يحصل ذلك؟ إنّ السبب في ذلك والأساس فيه يعود إلى كيفية نظرة الإنسان وكيفية تطلّعه إلى هذه الأمور، وهل هي على أساس تعلّق النفس وعدم تعلّقها. المشكلة ليست في مسألة الدفع والإنفاق، وليست المشكلة في المسير والخطوة، فالإنسان قد يقدم على هذه الخطوة، لكن المشكلة تكمن في النفس! فإذا كسرت رجل ابني، فبسهولة أدفع مليونين لكي أجبرها وأعالجها، ولا أشعر بأي صعوبة في المقام، بينما إذا حصل لنا مورد بحاجة إلى مقدار خمسين ألفاً فلا أستطيع أن أنفق فيه! لماذا؟ لأنّه في الحالة الأولى لا تعلّق، فوجود الولد بما أنّه امتداد لوجود الأب، وينظر إليه الأب على أنّه وجود لنفسه، فلا يشعر بأي مشكلة أو صعوبة في الدفع والإنفاق، فحتى لو كان أكثر من هذا المبلغ وكان مقدوراً عليه فسوف يدفعه، إلا أن لا يكون لديه مال أصلاً. بينما إذا قيل له يوجد شخص بحاجة إلى خمسين ألفاً، يقول لنذهب ونحقّق في المسألة؛ هل هو بحاجة فعلاً إلى هذا المبلغ؟ وألا يمكن أن ندفع نصفه والنصف الآخر يدفعه غيري؟ والحال أنّه في كلتا الحالتين الدفع من مال موجود، وفي كلتا المسألتين سوف يدفع من جيبه مباشرة ومن ماله الموجود في البنك. لكن في هذه الصورة يمكنه أن يدفع بسهولة ويسر ويدفع أكثر من ذلك، بينما في الصورة الثانية يدفع بصعوبة بالغة.
أضرب لكم مثالاً آخر، الشخص الذي تحبّه وتشعر بأنّه قريب منك، مهما كان هذا الشخص صديقك أو رفيقك أو من أرحامك أو أي شخص آخر [سوف تعطيه مباشرة].. المسألة مرتبطة بمراتب الأنس والمحبّة التي تكنّها لهذا الشخص.. انظروا! نحن نقترب أكثر من المطلب.. وإذا كانت كذلك صار الإنفاق ودفع المال أسهل وأيسر.
مثلاً يوجد رفيق جديد تعرّفت عليه اليوم، وتريد أن تكرمه، فإذا أردت أن تزيد من احترامه وتبرز له محبّتك إياه تدعوه إلى منزلك أو إلى مكان آخر، وتنفق عليه ألف أو ألفين أو خمسة آلاف تومان لا أكثر، بينما إذا كان لديك صديق حميم جداً، وهذه الصداقة بلغت حداً لم تعد ترى أي حاجز بينك وبينه، فما إن يخبرك عن حاجته لا تسأله كم يحتاج، بل تقول له خذ ما تريد، واكتب في الشك المبلغ الذي تحتاج!
ما سبب الاختلاف في هذين التعاملين؟ لا يوجد إلا سبب واحد وهو تعلّق النفس! فهنا يوجد تعلّق فلا يمكنه أن يدفع، بينما هناك لا تعلّق، لذا يعطيه دفتر الشيكات ويقول له اكتب ما تريد، واذهب وأنفق أنت لا حاجة إلى مراجعتي في ذلك.
أخذ المؤمن ما يحتاجه من أخيه المؤمن بدون استئذان منه
لقد شاهدت بعض الأشخاص في السابق الذين كانوا من تلامذة المرحوم السيد الحداد رضوان الله عليه لم تكن هذه المسائل لديهم أصلاً، بل بلغوا في علاقتهم في المسائل المالية حداً بحيث إذا أخذ أحدهم مالاً من جيب أحدهم لا يقول له لقد أخذت هذا المقدار من جيبك! بل كان الشخص الآخر يرى فجأة أنّ جيبه صار خالياً [ضحك]، أو يرى أنّ ماله نقص عمّا كان لديه! فلا يسأله متى أخذت من جيبي؟ وكم أخذت؟ هكذا كانوا!
يوجد رواية أنّه في زمان حضور الإمام بقية الله أرواحنا فداه وعجل الله تعالى فرجه الشريف سيكون الأمر كذلك. يعني أن يذهب شخص إلى دكان أحدهم ويأخذ ما يحتاجه إلى منزله.. وصاحب الدكان أيضاً يفعل كذلك.. لكن لا يتجاوز في ذلك أو يأخذ غير حاجته؛ فلا يأخذ بدلاً من سماور عشراً، وإذا كان بحاجة إلى سماور لخمسة أشخاص يأخذ واحداً لخمسة أشخاص لا لأكثر من ذلك، وإذا كان بحاجة إلى واحد لثلاثة أشخاص لا يأخذ أكثر من حاجته. في ذلك الوقت سوف نرى حكومة المدينة الفاضلة والمجتمع الموعود التوحيدي الذي وعدنا به، وسوف نرى إلى أي مستوى سيصل المجتمع؟ وبأي كيفية سيكون؟ وعندئذٍ سوف تخرج مسألة التقتير في الصرف ومسألة الادّخار والجمع عن دائرة فكر الإنسان نهائياً. وهذه المسألة سوف تتحقّق في ذلك الزمان، لكن لا نقول بأنّه لا يمكن أن تتحقّق الآن! فذاك السباق وهذا الميدان.
فكّرت في هكذا أمر في زمان المرحوم العلامة رضوان الله عليه، وكنت أكثر شباباً، هذا لا يعني أنّي صرت الآن كبيراً.. [ضحك].. فخطر في بالي أنّه لماذا لا يحصل هكذا أمر ويحصل بين الرفقاء هكذا حالة؟! أذكر أنّنا تشرّفنا مرة بالذهاب إلى قم في عهد الشاه، وحينما كنا في السيارة في طريق العودة طرحت هذا الأمر عليه، بأنّه سيدنا لماذا لا يحصل... ما إن ذكرت له ذلك حتى قال لي لا تتحدّث بهذا الموضوع أساساً، وإلا سوف تندم! والحال أنّ نفس المرحوم العلامة كان كذلك مع بعض أصدقائه ورفقائه. على كل حال فالمسألة هي ما ذكرناه.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: إذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة من العبودية هان عليه الإنفاق وسهل عليه. فلا يعود يحسب حساباً له، طبعاً لا بد أن يكون الإنفاق في محلّه، لا في غير محلّه ـ وهذا هو الأمر المهم الذي ينبغي أن نصل إليه اليوم ـ على الإنسان أن ينفق ماله في محلّه، لكن دون أن يحسب له حساباً، أو يعطيه اعتباراً، بل ينفق ولا يعود يفكّر فيما أنفقه أبداً، ولا يقول أني أنفقت في السنة الماضية هذا المبلغ في المكان الفلاني.. ولا يسأل ماذا حصل في هذا المال، فلا يعود يسأل عنه! لماذا يفعل ذلك؟ لأنّ الإمام بيّن بأنّ تمام التصرّفات والأعمال في جميع الظروف ـ ومنها الإنفاق ـ ينبغي أن تكون على أساس تعلّق النفس. بمعنى أنّه عندما يكون للنفس تعلّق ترى ذاتها هي المحور والمركز، وعندما لا يكون هناك تعلّق فلن يكون الأمر كذلك. عندما يكون للنفس تعلّق فلا يمكن للإنسان الخروج من محدودية ذاته الخاصّة والآثار الوجودية المرتبطة بها، بل سوف يبقى أسيراً لنفسه، وسيبقى عالقاً بخيوط عنكبوت نفسه. كل ذلك بسبب أنّه [أولاً] يعتبر ما أعطاه الله إياه هو منه ومن ماله هو، وثانياً: يرى أنّه هو المالك لهذا المال، وثالثاً: يكون قد نسي نفسه ووضعه. يا عزيزي أنت ووجودك وذاتك من غيرك.. ومع ذلك تأتي وتعتمد على العوارض المترتبة على وجودك؟!
وبحسب قول المرحوم العلامة ـ عندما شاهد لوحة إعلانات كهربائية يعرض عليها بعض الدعايات ـ قال: لا وجود لهذا المعروض في نفسه، إذ حركة هذا العرض مرتبط بلوحة الإعلانات، ولا تحقّق له في نفسه ولا حركة له في نفسه، فهو وذاته متعلّق بمبدأ مغاير له ومنشأ مختلف عنه، فكيف يمكن أن يكون لها آثار وجودية مستقلة عن ذاك المبدأ وذاك المنشأ؟ عندما لا يرى العبد في مقام العبودية أي وجود له فلا شك أنّه لا يرى ما في يده أنّه منه فعلاً، كما أنّه سينظر ويتعامل مع ما أعطاه الله إياه على أنّه مستند إليه تعالى، وبالتالي سوف ينفق في الموارد التي أرادها الحق تعالى منه وأمره بها، يعني أنّ الإمام عليه السلام يبيّن هذه المسألة ويقول بأنّه لا ينبغي أن ينفق الإنسان من تلقاء نفسه وكيفما يريد، لا يمكنه أن يشتري بماله ما يشاء، بل عليه أن ينظر ماذا يريد الله منه؛ أين ينفق ماله وبأي نوع وبأي كيفية من المصاريف يريدها.. ويعمل بها. ففي هذا المورد ينفق كثيراً، وفي ذاك بشكل متوسط، وأما ذلك المورد فلا! حتى لو كان لديك توقّع في أن تنفق في ذلك المورد فعليك أن لا تنفق شيئاً؛ إذ من الممكن أن يبتلى الإنسان بهذا الأمر، بأن يكون هناك شخصٌ يتوقّع منه أن يعطيه مالاً! فلا ينبغي أن يعطيه، وليذهب توقّعه هباء، فقد لا يكون من الصلاح أن ينفق الإنسان ماله في هذا المورد، أصلاً لا ينبغي أن يتوقع منه أساساً، وفي موارد أخرى لا يكون للإنسان أي توقّع في أن يعطيه من ماله، والحال أنّه ينبغي أن ينفق ماله في هذا المورد.
لا قيمة للإنفاق حياء أو في غير محلّه
في الكثير من الموارد قد يكون الشخص في حالة من الحياء أو في حالة اجتماعية غير مناسبة تجعله ينفق، لكن هذا الانفاق في هذا المورد لا قيمة له! يقال له مثلاً: نريد أن نبني هنا حسينية، وبما أنّك صاحب مقام ورجل وجيه فقد أتيناك لتساهم معنا بالمبلغ الكذائي، فيرى أنّ جميع الجيران قد اجتمعوا إليه ولا يناسب أن لا يعطي في هذه الحالة؛ ومن المعيب به ذلك، حيث يقال لم يعطنا فلان شيئاً! فيعطيهم مبلغاً من المال.. لكن هذا المبلغ لا قيمة له ولا يكتب بحسابك منه شيء ولا فلس واحد. أو مثلاً يأتي بعضهم ويسألك هل تعطونا إجازة في أن نضع هذا المبلغ من الخمس في بناء حسينية أو مسجد؟ كلا لا نجيز! فالخمس لا ينبغي أن ينفق في بناء الحسينيات والمساجد إلا في بعض الموارد الخاصة.
لكن هذا الشخص لا يريد أن ينفق من ماله الخاص في بناء الحسينية، يأتي وينفق من مال الإمام صاحب الزمان عليه السلام، كلا! فمال إمام الزمان له موارده الخاصة للصرف.. فالمال الذي تريد أن تنفقه في هذا المورد، بإجازة مَنْ تنفقه في هذا المورد؟ إذا كنت تريد أن يكون لك موقعية معيّنة في المقام، فلتنفق من جيبك الخاص لا إشكال في ذلك، فلماذا تأتي إلى مال الإمام والذي أمر أن ينفق في موارد خاصة، وتنفقه أنت في هذا المورد! وفي النتيجة لا يحسب ما أنفقته لا في حسابك ولا في حساب ذاك.
"فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه" أي في أي مورد أمر الله به، وفي أي مورد كان هناك تكليف أن ينفق فيه. وينبغي أن ينفق في المورد الذي يكون موضع رضا المولى.. "هان عليه الإنفاق"
أنواع الإنفاق: الإنفاق المالي والإنفاق الشأني والنفسي
كما ذكرنا سابقاً حول هذه المسألة، فإنّ توضيحها موكول إلى هذا المجلس والمجالس القادمة، وهو أنّ ظاهر العبارة وإن كانت مسألة اقتصادية، وظاهر مراد الإمام عليه السلام من الإنفاق هو الجانب المالي، لكن مع الالتفات إلى سائر الفقرات وحقيقة الفقه وفقه الحديث لهذه الرواية الشريفة يمكننا أن نقول بأنّ مراد الإمام الصادق عليه السلام من مسألة الإنفاق يعود إلى مراتب أوسع بكثير من الجانب الاقتصادي. مرتبة من مراتب الإنفاق هي الجانب المالي، والجانب الاقتصادي؛ مثل مساعدة الناس المحتاجين الذين لديهم عزّة نفس وكرامة، فالله تعالى حثّنا على الإنفاق عليهم؛ سواء وجوباً أو استحباباً، وهذا الإنفاق في المسائل المالية.
لكن هناك إنفاق في الجانب الروحي، ومن الإنفاق في الجانب الشأني والشخصية، وأعلى منها هو الإنفاق في الجانب النفسي والآثار الذاتية لنفس الوجود. لنرى في هذا المجلس إلى أين يمكننا أن نصل في البحث.
نفس الإنسان التي خلقها الله تعالى، هذه النفس بواسطة ابتعادها عن المسائل الربوبية وانشغالها بأمور الدنيا وتعلّقها بها، وخروجها عن جهات اتصالها بالله وارتباطها بنشأتها، وللأسف هذه الجهات كلما مضى الزمان عليها أكثر كلما صارت أشدّ وأرسخ، وكلما عمّر الإنسان أكثر كلّما صعب عليه إخراج هذه الصفات من نفسه.
تعلقات الإنسان تشتدّ كلّما تقدم به العمر
مثلاً التعلّقات التي تكون لدى الطفل الصغير تكون أسهل بكثير وأبسط من التعلّقات التي تكون لدى الشاب، وكذا تعلقات الشاب يسهل القضاء عليها قياساً لمن يكون رجلاً، وتعلقات الرجل أسهل من تعلقات الكبير في السن ومن يصل إلى سنّ الكهولة والشيخوخة. طبعاً إذا لم يكن الإنسان في مورد تهذيب نفسه، فالأمر مشكل عليه جداً. وأيضاً ليس المراد التعلّق المادي فقط، بل كل تعلّق النفس في كل مرتبة وفي كل شأن من شؤونها. فالتعلقات النفسانية التي تكون لدى الرجل المسنّ والتي صارت جزءً منه، وعلى امتداد سنوات متمادية صارت مترسّخة في وجوده ونفسه هي أصعب بكثير وأشدّ متانة لديه قياساً إلى تعلّقات شاب بنفس هذه المسائل. لذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام في حكمه: "عليكم بالأحداث"، يعني فيما يرتبط بتربية الناس عليكم أن تبدأوا بالشباب والأحداث؛ لأنّ الشاب ليس لديه تعلّق، فيمكنه أن يبقل الأمر سريعاً وبشكل سهل. ولو فرضنا أنّ شخصاً مسنّاً مضى عليه سنوات متمادية في تعلّقه بهذه الأمور النفسانية وأنانيته والعقد التي أحكم إثباتها في نفسه، بحيث سلبته القدرة على الحركة، بل حتى على التنفس، بحيث أنّك قد تحدّثه عشرين أو ثلاثين ساعة حتى يتخلّى عن عقدة من هذه العقد، لكن دون جدوى، والحال أنّه يمكن أن تنحلّ هذه العقدة عند الشاب بالحديث معه لمدة ربع ساعة فقط؛ لأنّه لم يصل بعد إلى هذه المرتبة. لذا على الشباب أن يلتفتوا إل هذه المسألة المهمة جداً، وهي أنّ هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم في هذه السنين بحيث جعلهم يلتفتون إلى إدراك الحقائق والواقعيات، مما يوجب سرعة حركتهم وانتقالهم وعبورهم هذه العوالم، وهذه المسألة ليست موجودة في الأكبر سنّاً منهم. وهذه المسألة مهمة جداً.
لذا كان المرحوم العلامة عندما يرى في المجالس شباباً أو غير شباب بحيث يكون لديهم استعداد، فكان يهتم بهم بما أنّهم كانوا على استعداد ويخاطبهم ويتحدّث إليهم، وكان يلقي إليهم المطالب الدقيقة ضمن مطالب أخرى؛ لأنّ نفوسهم لديها استعداد أكبر.
نموذج من تعلّق الإنسان التعلّق بالمال
هناك مورد ـ وأنا على اطلاع به ـ كان شخص غني جداً، وقد انتقل حتماً إلى رحمة الله، وكان رجلاً ثرياً جداً، وربما لو ذكر بعض خصوصياته لعرفه بعض الإخوة الحاضرين.. كان المرحوم العلامة قد تحدّث إليه بالنسبة إلى المسجد، وأنا أذكر تماماً عندما كان يهمّ بالخروج من المسجد ناداه وتحدّث معه حول سجاد المسجد فقال له إنّ سجاد المسجد صار بالياً وقديماً وينبغي أن يغيّر، فإن كان بإمكانك ذلك فجيد أن تقوم به.. وكان ذلك الشخص قد طلب من العلامة بأنّه إذا كان هناك موارد للإنفاق؛ سواء أشخاص أو مصارف أو أي شيء آخر فأنت بنفسك أخبرني.. وعلى ما أذكر أنّ المبلغ الذي دفعه في ذلك الوقت لم يتجاوز عشرون ألف تومان أو ثلاثون ألفاً، في حين أنّ المطلوب كان أكثر من ذلك بكثير. والحال أنّ هذا المبلغ بالنسبة إلى هذا الشخص مثل تومان واحد بالنسبة إلى الأفراد العاديين! لماذا كان الأمر كذلك؟! مع أنّه يأتي إلى المسجد ويصلّي ويقرأ الدعاء، ويرتدي عباءة أثناء الصلاة، ويقرأ القرآن وأدعية مفاتيح الجنان، ويحمل في يده مسبحة دائماً، وكان في ليالي الثلاثاء يتأخّر في المسجد ويستمع إلى المطالب [التي يلقيها المرحوم العلامة].. لكن لماذا حصل له ذلك؟! لأنّه لم يقرأ رواية عنوان البصري.. ولو قرأ هذه الرواية قراءة واعية لا قراءة عابرة كما يقرأ القصص والمجلات، لما حصل لديه أي إشكال في الدفع أكثر. والحال أنّ المرحوم العلامة لم يقل له أي شيء! بينما هو ليس بحاجة إلى مال منك، بل يريد أن ينقلك مما أنت فيه ويكمّلك، فلماذا لا تريد؟ ولماذا ألقيت نفسك في هذه العقدة؟ فشمس عمرك الآن مائلة إلى الغروب، وصرت على أبواب الموت، وتعلم بأنّ هذه الحالة لن تدوم، فالسيد بعد سنتين سوف يترك المسجد ويذهب إلى مشهد، ولن يرتبط به بشيء أبداً، إلى درجة أننا كنّا أحياناً نريد أن ننقل له بعض الأخبار عن المسجد أو ما يجري فيه، كان يقول لا أريد أن أسمع شيئاً عن المسجد، ولو اسم المسجد!
قصة قارون وتعلّقه بالمال
هذا التعلّق يمنع الإنسان من أن يتحرّك.. فقارون لم يكن كذلك من أول أمره، قارون كان في البداية من أصحاب النبي موسى، وكان ابن عمّه ومحباً له. وقد طلب من النبي موسى أن يدعو الله تعالى أن يرزقه ملكاً كبيراً، فقال له النبي موسى بأنّه ليس من صالحك ذلك.. لكنه بعد الإصرار دعا له النبي، فحصل شيئاً فشيئاً على الملك والمال إلى أن وصل لحدّ يضرب به المثل، وقد وصفه القرآن: {وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة}، يعني أن مفاتح خزائنه كانت بحاجة إلى رجال لتحملها، والمفاتيح التي كانت في ذلك العصر وإن كانت أكبر من الآن، فكانت بحجم ۱٥ سم، ويوجد منها الآن.. لكن كم كان يملك من الكنوز بحيث أنّ مفاتيح هذه الكنوز والأماكن المتعدّدة التي تحتوي على الأموال والمجوهرات الثمينة، بحيث أن الرجال الأقوياء يصعب عليهم حمل هذه المفاتيح.. وقد وصل الحال بقارون ـ لكي يحفظ هذا الوضع لنفسه ـ بأن يقوم بأقبح الأعمال؛ وهو الافتراء على نبي زمانه واتهامه بأعمال سيئة!! يعني هذا الإنسان كان من جملة الأشخاص الذين يضحّون بأنفسهم لحفظ النبي موسى، وكان رفيقه ومشاركه في الحروب، وصاحبه في السفر والحضر، لكن إلى أين أوصله التعلّق؟! وهذا التعلّق موجود عند الجميع، ألا نرى نحن في أنفسنا هذا التعلّق؟ يصل الأمر بالإنسان لكي لا ينفق من ماله ولكي لا يتخلّى عن شخصيته وموقعيته [أن يفعل أي شيء]..
قال لي أحدهم: كنت في مجلس، ولم يقتصر الكلام فيه على الغيبة، بل كان هناك افتراء واتهام مباشر، وكان المفتري امرأة، فقلت لها: هل هذا هو ممشى العظماء وطريقة الأولياء؟ فحتى لو كان الكلام صحيحاً ولم يكن افتراء، فهل الغيبة من جملة الدستورات التي أمرتم بها؟ فأجابت: إذا كان الأمر للإرشاد والهداية فلا بأس به!
انظروا! يعني أنّ هذا الممشى الذي يريد أن يجعل قوامه على أساس الغيبة والافتراء.. فعلى الإسلام السلام.
عندما كان الإمام الحسين عليه السلام يمشي في بعض أزقّة المدينة وأتاه شخص ونقل له مجريات الأمور فقال الإمام عليه السلام عندئذٍ: "لو بليت الرعية براع مثل يزيد، فعلى الإسلام السلام". هل فكّرنا بشكل جاد في هذه القضية؟ أنا لم أفكّر بشكل جدّي.. انظروا! كيف يمكن للناس أن يحصل لهم حتى يصدر منهم ذلك.. حسناً أنتم لم تروا النبي، لكنكم سمعتم بصفاته وخصوصياته.. ومع ذلك رأيتم يزيد الذي كان يشرب الخمر ويلعب بالقرود ويفعل جميع المعاصي على منبر رسول الله ويخطب فيهم خطبة الجمعة، يعني يقول لهم أنا خليفة رسول الله؛ كلامي كلامه وأمري أمره، وأمري مطاع.. فهذه الأمور كلّها كانت في زمن النبي، الصلاة كانت منذ زمن النبي والخطاب والمنبر.. وكأنّه يقول لهم انظروا إليّ فكأنّكم تنظرون إلى النبي، هذا معنى كلامه وفعله.
الأحداث العجيبة التي جرت على أمير المؤمنين هي دروس لنا
منذ أيام تشرّفت بزيارة النبي صلى الله عليه وآله، وكنت أبقى في الليالي في مسجده، وأجلس مفكّراً لساعات حول هذه المسألة؛ وهي كيف يمكن للإنسان أن يجعل نفسه في موقع.. يعني في نفس هذا المكان، في هذه الأسطوانات؛ أسطوانة حنانة وأسطوانة التوبة.. ورجعت بفكري إلى ما قبل ألف وأربعمائة سنة، فقلت كيف يمكن في تلك الأيام وفي هذا المكان أن يفعلوا بأمير المؤمنين عليه السلام ما فعلوا به من الإلزام بالبيعة لفلان وما جرى عليه من أمور.. ففهمت أنّه ويا للعجب ماذا كان قد جرى! إذ كيف يمكن أن يفعل ذلك بأمير المؤمنين، يقول لماذا تفعلون ذلك بي؟! هل هذا مرجعي؟ وهل هو والدي حتى يلزمني بأمور كما يلزم الوالد ولده؟ هل هو نبي، أو لديه وصية مكتوبة من النبي؟! ليس لديه شيء من ذلك!!
لقد أتاه اليهودي وسأله أين الله؟ فقال له الله موجود على العرش!
فقال اليهودي: إذن يعني أنّه لا وجود له في الأرض! فأمر بإخراجه وإهانته!
هذا هو علم الرجل، ومع ذلك قالوا لأمير المؤمنين ينبغي أن تبايع هذا الرجل! ولا بد أن تبايع! هل التفتم؟! لقد حدثت هذه الأمور فعلاً في الإسلام، وهذه الأمور لأجلنا نحن اليوم؛ فلا ينبغي أن نتغاضى عن ذلك ولا نأكل العشب بدلاً عن الطعام.
هذه الأحداث لأجل أن نستفيد منها هذه الأيام، فلا نضع أيدينا في يد أي إنسان، ولا نسلم زمام أمور دنيانا وآخرتنا لأي إنسان غير لائق.. هذا معنى تلك الأحداث وتطبيقها في هذه الأيام!
لقد جاؤوا بالإمام السجاد إلى نفس هذا المسجد وقال له مسلم بن عقبة بايع يزيد، وإلا نضرب عنقك! وهذا الأمر هو الذي جعل البعض ينكر هذا الحدث أساساً؛ كالشيخ عباس القمي، وقال بأنّ مثل هذه الحادثة لم تقع أساساً! فهل يعقل أن يأتي الإمام السجاد ويبايع يزيد؟! كلا يا عزيزي، بل وقعت حتماً وبايع الإمام حتى لا تضرب عنقه.. ولم يكن يزيد يتورّع عن شيء أبداً؛ فقد أباح مال المدينة وعرضها ثلاثة أيام لجيشه! هل التفتم ماذا حصل؟ لقد حصل ذلك واقعاً.
وقد نقل بأنّ الدماء وصلت بالقرب من مسجد الرسول إلى حدّ ركب الخيل! إلى هذا المقدار كانوا قد قُتل من الناس!
كل هذه المسائل كانت قد حصلت فعلاً وحصل نظائرها أيضاً؛ بأنّه ينبغي أن يحصل هذا الأمر دون غيره.. لماذا وما السبب وما المنطق لذلك؟ لا يوجد سبب ولا منطق، بل ينبغي أن يحصل هذا وفقط.
هذا ما كان قد حصل سابقاً، لكن ماذا بالنسبة إلينا؟ فهل نحن مثل الآخرين أم لا؟ الله تعالى يتعامل مع كل شخص على أساس ظرفيته الفكرية والنفسية ومدركاته العلمية، لكن نحن لا يمكننا أن نعتبر ذلك عذراً موجّهاً لنا؛ لأنّنا التفتنا إلى ذلك، وبما أنّنا التفتنا إلى ذلك، لا يمكننا أن نتمسّك به، بل ينبغي علينا أن نعمل جيداً وبشكل صحيح؛ فلا يمكنك أن تضع قدمك في أي مكان، ولا يمكنك أن تذهب إلى أي مكان، وتتمسّك بأنّك لم تكن تعلم وليس لديك خبر.. فإنّ ذلك غير مقبول منك! فكل شخص لديه ملفّه الخاص به، ولا يوجد شخصان ملفهما واحد يوم القيامة، بل كل واحد له ملفّه الخاص به وإن قاما بفعل واحد؛ فكل منهما فعله ينطلق من أمور وذهنيات مختلفة عن الآخر، وكذا استعداداته مختلفة عنه. وهذا الأسلوب هو أسلوب قارون، أما أولياء الله فأسلوبهم مختلف..
أسلوب الأولياء في معالجة الأمور
قال لي أحد أصدقائنا ـ ربما ذكرت هذه القصة سابقاً لكن تكرارها غير خال عن الفائدة ـ وفقه الله تعالى وهو من أقاربنا أيضاً، قال ذهبت يوماً إلى المرحوم العلامة، وكان للعلامة علاقة جميلة به، وكان عليّ دين لبعض الأشخاص، فقلت له عليّ دين لبعض الأشخاص بهذا المقدار، اقترضته منه وصرفته بهذا الشكل.
فسألني ماذا تملك؟ فقلت له لديّ منزل ـ وكان مدرّساً ـ وليس لديه شيء آخر أبداً.
فقال له: هل أجيبك بحسب المقاييس الشرعية، أم بما أريد أنا؟
قال: بل بما تريد أنت!
فقال له: إن كنت درويشاً بعْ بيتك وسدّد قرضك! طبعاً الشرع الظاهر الموجود في توضيح المسائل يقول بأنّه لا يجب عليه أن يبيع بيته، بل يقول بأنّه إذا صار الإنسان محجوراً عليه ومفلساً يترك له ثلاثة أمور: بيته، ومركبه، وأثاث منزله. وأما باقي أمواله فيأخذها الحاكم ويقسّمها بين الغرماء بنسبة ما لكل منهم من المال.
هذا الشرع الذي تذكره الرسالة العملية، لكن هناك شرع آخر وهو شرع أمير المؤمنين؛ وهو الدين الذي يحبّه أمير المؤمنين، لكنّه لم يكن يوصي به جميع الناس؛ لأنّه لا يمكن أن يقبل به أي أحد، لم يوص به لا أنّه لم يبيّنه لأحد.. لذا كان الناس يعملون بهذا الظاهر؛ وهو أنّ المعسر ينبغي أن يعيش حياته ولا يلاحقه الناس بأفكارهم؛ فحينما ينام لا ينبغي أن ينام وهو يفكّر في ملاحقة الناس له، بل يقول له: نم وأنت مرتاح البال دون تفكير بتلك الأمور..
لقد مضى إلى الآن ثمانية أعوام على ارتحال المرحوم العلامة، وكنا نتحدّث [مع ذلك الرجل المعسر] من أسبوعين أو ثلاثة، فقال لي: هل تعلم ما الذي أوصلني إلى ما أنا عليه؟! كلام والدك هو الذي أوصلني حينما قال لي إذا كنت درويشاً فبع منزلك.. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّه "هان عليه الإنفاق"، فلن تبقى في الشارع، فلا بد أن يأخذك أحد لتنام في مكان، ولا بد أن يعطف الإمام قلب أحد عليك ويؤمّن لك مأوى. وعندئذٍ سوف تتغيّر المسائل ولن تبقى كما هي. هذا الأمر المرتبط بالإنفاق، وأعتقد بأنّه قد اتضح المطلب للرفقاء فلا داعي للإطالة أكثر، بل ننتقل إلى مطلب آخر.. كم الساعة الآن؟ لا أقل ينبغي أن يكون في منزل الدكتور ساعة..[ضحك] آه يوجد ساعة في تلك الزاوية لكن أنا لا أراها يمنعني من الرؤية المصباح.. إذن ينبغي أن نضع الساعة في المقابل حتى لا نظلم الرفقاء ونأخذ من وقتهم أكثر، بل ننتهي في الوقت المقرّر.
النوع الثاني: إنفاق النفس
المسألة الثانية مسألة الإنفاق في النفس، وهنا سوف أطرح هذه المسألة ونترك الحديث حول المسائل الأخرى للجلسات القادمة.. فالرفقاء حتماً تعبوا من الجلسة، وعلينا أن لا نطيل..
مسألة الإنفاق في النفس، عندما منح الله تعالى هذه النفس للإنسان ومنحه هذه الحياة، فقد وضع هذه الحياة للإنسان على أساس قوانين وعلى أساس برنامج، فإن عمل الإنسان في هذه الحياة على طبق البرنامج المقرّر له فسوف يكون شخصاً موفقاً وصالحاً، وأما إذا لم يعمل على طبقه فليس فقط لن ينتفع في هذه الحياة، بل سواء كانت حياته ستون سنة أو ستمائة سنة أو ستة آلاف سنة فلن يكون هناك فرق في ذلك طالت المدة أو قصرت.. وعندئذٍ لن تكون حياته ذات أثر، وليس هذا فحسب، بل ستكون هذه الحياة موجبة للنكبة والوبال عليه، هذه الروح بيد الله تعالى..
يقول الإمام عليه السلام في مسألة التعلّق بالنفس بأنّه ينبغي أن ترفع يدك وتترك التعلّق بالنفس، بأن ترى أنّ هذه الروح والحياة ليست منك، وترى أنّ حياتك ليست من نفسك، بل عليك أن ترى أنّك موجود مخلوق من قبل الله، وأنّه سيأتي يوم وتعود فيه إليه. ولا شك في هذه المسألة.
لذا عليك أن توكل إلى الله أمر حياتك ما بين خلقك وبين عودتك إليه! فعليك أن تقوم بأي عمل يريده هو منك، وعليك أن تنفق في أي مورد يطلبه منك. لا أن تكون بحيث إذا أتاك أمر بأن تنفق حياتك في طريق الله تتثاقل وتعمل على ترجيح حياتك الدنيا على السعادة الأبدية، ففي زمان النبي كان المنافقون عندما تنزل آية توجب عليهم الجهاد.. كانوا يرجّحون الحياة الدنيا على السعادة الأبدية، وبعبارة أخرى كانوا يعملون على ترجيح العوارض والمجاز على الحقيقة والذات، وكانوا يأتون إلى النبي ويتذرّعون له، فهذا يقول زوجتي مريضة، وذاك يقول رأسي يؤلمني، والآخر يقول لديّ هذا الابتلاء، وغيره يقول لدي غرماء يطلبوني مالاً.. وكان النبي يقول لهم أنتم أعلم بتكليفكم الشرعي. وهذا الأمر بعينه كان قد حصل مع أمير المؤمنين عليه السلام، فبعد مسألة الخلافة أتى بعض الأشخاص إلى أمير المؤمنين وكان فيهم العباس عم النبي وابن عباس وأبو سفيان وآخرون، وقالوا له لماذا لا تقوم وتطالب بحقك والحال أنّك الأولى بهذا المقام؟
عند ذلك قال لهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: حسناً لا بأس غداً إن شاء الله أنهض وأطالب بحقّي، لكن أطلب منكم أن تأتوني غداً محلّقين، وفي اليوم التالي لم يأته محلّقاً كما طلب إلا أربعة أو خمسة أشخاص لا أكثر كما ورد في الروايات!
انظروا! المسألة لا تعدو كونها كلاماً فقط! فعندما يرى الناس أنّ المسألة جديّة يختلف حالهم.
ويمكن للإنسان أن يمتحن نفسه في هذه المسألة ويختبرها، ويرى إلى أي حدّ يمكنه أن يثبت على كلامه؟
عدم تجاوز الإنفاق فيما أمره الله تعالى به
هذا الأمر كله أحد جانبي المسألة، أما الجانب الآخر للمسألة وهو أمر مهم جداً، هو أن لا يقع في الجانب الآخر، يعني عندما يرى أنّ لديه استعداداً للإيثار والإنفاق، فعليه أن لا يكون هذا الاستعداد موجباً للخروج عن دائرة التكاليف التي حُدّدت لنا في الإنفاق، فلا ينفق في غير ما أمر الله ورسوله ووليّه، فهذا أيضاً خطأ وباطل، فكلا الأمرين خلاف ما يريده الله منّا.
لذا يقول الإمام عليه السلام بأنّك لا تملك نفسك وأن المالك لها هو غيرك، فعليك أن تراعي في الإنفاق وفي الإقتار حال المالك، لا حالك. فعندما لا تكون أنت مالك نفسك، بل المالك لك هو الله فلا يمكنك أن تقول أريد أن أبذل نفسي في هذا المورد، فهذا الكلام لا يحق لك! ولا يحق لك التصرّف في ملكه تعالى، هذا الذي يقوله العرفاء.. انظروا كم تختلف المسألة؟! بعضهم يقول اذهب واستشهد وغير ذلك.. بينما بعضهم الآخر يقول لا ينبغي أن ترى الأمور من تلقاء نفسك، بل عليك أن ترى في أي وضعية أنت؟ فهل المولى أمرك في هذا الأمر أم لم يأمرك؟ وهل مولاك قال لك أنفق نفسك في هذا المورد، أو قال لك اصبر وتوقّف في هذا المورد؟! أين تظهر النتيجة؟ النتيجة تظهر عندما تحصل مسألة معيّنة؛ يقول: فلنذهب ونقوم بهذا العمل، لنذهب ونقوم بذاك العمل، نذهب ونسكت هذا الشخص! نذهب ونجلس ذاك في مكانه، و...
الاعتراض على الإمام عليه السلام أحد نماذج التجاوز
ألم يكن هذا الأمر في زمن النبي؟ ألم يحصل ذلك في زمن الإمام المجتبى عليه السلام؟ هل تظنون بأنّه في زمان الإمام الحسن عليه السلام كانوا من العصاة والفاسقين؟ كلا بل كان الكثير منهم من الأشخاص المنزّهين والسالكين ومن أهل الحال والمراقبة، لكنّهم لم يدركوا حقيقة الأمر.
فعندما تكون تحت راية الإمام الحسن المجتبى فبأي حقّ تقول له افعل هذا الفعل، اذهب وقاتل معاوية واعزله وتول الأمر مكانه؟! فالإمام يقول لا أريد أن أفعل ذلك، فعندما تكون تحت راية الإمام المجتبى عليه السلام لا يحق لك أن تتجاوز ولو بخطوة واحدة التكليف الذي أمرك به الإمام، فالتقدّم بخطوة واحدة يعتبر تصرّفاً بملكية الإمام؛ باعتبار أنّ الإمام مالكٌ لنا، والإمام صاحب الزمان عليه السلام الآن مالك لرقاب الجميع! يعني الآن لسنا نحن المالكين لأنفسنا، المالك لنا هو الإمام عليه السلام.. طبعاً ليس له جهة استقلال في ذلك، بل هو المالك لنا باعتبار كونه تجلّي الولاية الإلهية، وإلا فهو في نفسه مقابل الله ليس بشيء، بل هو صفر محض.
معنى أنّ الإمام عليه السلام هو تجلّي الولاية الكليّة الإلهيّة
عندما تتجلّى الولاية الكلية على شخص تكون الولاية هي المالك، لا ذاك الظهور والمظهر المتحقّق الآن.. التفتوا جيداً..
فالإمام صاحب الزمان من دون التحلّي بمقام الولاية هو صفر لا قيمة له، ولا يفرق حاله عن أي شخص آخر يمشي في الشارع.
إمام الزمان يعني هو من تتحقّق وتظهر من خلال نفسه الولايةُ الكلية الإلهية، لا بمعنى أنه صار موضعاً للاعتناء به فقط، بمعنى أن الله تعالى قد أخرج ولايته من يده وسلبها من نفسه ووضعها في يد الإمام.. لا ليس الأمر كما يتوهمّه الكثير من الناس، لا ليس كذلك، فهذا شرك وثنوية. بل ولاية الإمام عليه السلام هي عين ولاية الله، لا يمكن أن يتصوّر فيها الإثنينية أبداً، وهذه الولاية التي أعطاه الله إياها يمكن أن يعطيها لشخص آخر، والإمام صاحب الزمان لا ينسب الأمر إلى نفسه ولو بمقدار رأس إبرة، فلا يقول الله أعطاني هذا، بل مجرّد أن ينسب الأمر إلى نفسه يأخذه الله منه ويصير مثله مثل سائر الناس!
الإمام عليه السلام ـ خلافاً لما نحن عليه ـ لم يخطر في تمام عمره ولو لثانية واحدة أني أنا الآن صاحب مقام الولاية.. نتجرأ على الإمام عليه السلام ونقول ذلك.. نستغفر الله [ضحك] لكن الإمام يجيز لنا الكلام بهذا المقدار إن شاء الله، يجيز لنا أن نتجاسر ونتجرأ عليه بهذا المقدار للتوضيح..
تمام فكر إمام الزمان عليه السلام الآن في أنّ الله تعالى هو الذي له الولاية، صحيح أنه يقوم بالعمل، لكنه يقول بأن الله هو الذي يفعله، لا يقول ذلك تصنّعاً وتواضعاً، بل يقولها واقعاً وحقيقة.. فلو كان لدينا واقعية في هذه الدنيا فهي الواقعية التي تصدر من نفس الإمام عليه السلام.
الإمام يتصرّف في عالم الكون، لكنّه يقول هو تعالى الذي يتصرّف ويدبّر الكون لا أنا، يرجع الضمير إليه هو لا إلى الأنا.
لقد شقّ رسول الله القمر إلى نصفين، لكنه قال هو الذي شقّه، وكان يحيي الموتى، لكن يقول هو الذي أحياه.. أما نحن فننسب الأمر إلى أنفسنا، ومن هنا تنشأ المشكلة! فجميع المشكلات في هذه الدنيا تنشأ من (أنا لا هو)، ولو وضعنا مكان ضمير أنا ضمير هو [انحلّت المشكلات كلها].. بسهولة.. طبعاً ليست المسألة بهذه البساطة...
الخطوة الأساس للوصول هي العبور عن النفس
كنّا مع المرحوم العلامة يوماً في جلسة من الجلسات ـ وكنّا نمازحه أحياناً ـ فقال لنا: بعضهم قسّم المنازل إلى أربعين طريقاً؛ مثل الخواجة عبد الله الأنصاري، وبعضهم قسّمها إلى سبعة، وبعضهم إلى مائة وغير ذلك.. لكن بعضهم قصّروا الطريق كثيراً، وهو قصير فعلاً، وسنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله، لكن من البعيد أن نوضحها في هذه الجلسة، فالرفقاء سوف يعترضون على إطالة الجلسة بهذا المقدار، إذ علينا أن نبيّن بقية المسائل الأخرى، لكن سوف نحاول أن لا نطيل أكثر من هذا الحد، طبعاً ليس بسببي أنا فأنا مرتاح، لكن بسبب الجالسين..
على كل حال، قال: بعضهم قصّر المنازل وجعلها منزلاً واحداً وخطوة واحدة لا أكثر، وهي العبور عن النفس.
فقلت له: سيدنا! هذه الخطوة هي التي أتعبتنا! [ضحك].. ولا فرق بينها وبين تلك المائة منزل، فهذه الخطوة لا تختلف عن المائة خطوة تلك.. لكن على كل حال الإنسان يمكنه ذلك، فقد أعطاه الله القدرة على ذلك، وبيّن له الطريق، والإنسان يمكنه أن يجعل هذه الخطوة سهلة عليه، ويمكنه أن يسّهلها على نفسه.. فقط عليه أن يحقّق المسألة ويعمل بها، وشيئاً فشيئاً يرى أنّ المسألة اليوم صارت أسهل من الأمس، وعندما يخرج من هذه الجلسة يرى أنّ المسألة صارت عليه أسهل، وعندما يفكّر في نفسه يرى أنّه يستطيع، وهذا يحصل بالتكرار. لكن ينبغي أن يكون ذلك مبنياً على أسس، لا أن تأخذنا الإحساسات ونعمل على أساسها، فهذه لا قيمة لها، في الأمور الإلهية لا مكان للإحساسات، في الأمور الإلهية لا يختلف الحبّ والعشق عن العقل والمنطق.. [وإذا اختلفت] فهي خيالات لا قيمة لها.
العشق من دون عقل ومنطق يتنافى مع السلوك
يقول أحدهم أنا عاشق فما هذا الكلام الذي تقوله؟! يا عزيزي نحن بحاجة هنا إلى عاقل لا إلى عاشق.
أتى أحدهم إلى المرحوم العلامة وقال: كنت في حرم الإمام الرضا عليه السلام، فأتى أحدهم وقال كلاماً غريباً، فلعل عشقه للإمام الرضا عليه السلام سلبه عقله، فقال العلامة: عشق الإمام الرضا يجعل الإنسان عاقلاً، أما المجنون فمكانه مستشفى المجانين!
من قال بأنّ عشق الإمام الرضا يجعل الإنسان مجنوناً؟ ومن قال بأنّ عشق الإمام عليه السلام يخرج الإنسان عن المباني المنطقية؟ ومن قال بأن عشق الإمام عليه السلام يجعله في دائرة الإحساسات، ويجعله يقوم بأعمال مبنية على أساس المحبّة الإفراطية وغير المنطقية؟ كلاً، فجميع هذه الأمور تتنافى مع مراتب السلوك.
نفس هذا الإمام عليه السلام يقول لك في موضع ابذل نفسك، وفي موضع آخر يقول لا تبذل نفسك! يقول لك في موضع عليك أن تذهب، وفي موضع آخر يقول لا تذهب! فزيارة الإمام عليه السلام التي ورد فيها هذا المقدار من التوصية والاهتمام، إذا كانت هذه الزيارة خطرة فلن تكون مطلوبة، فعندما يذهب الإنسان إلى الزيارة عليه أن يطمئن إلى أنّ الطريق آمن، ولا يذهب من تلقاء نفسه دون التحقّق من ذلك، وإلا فلن يصل إلى المطلوب من هذه الزيارة.
نفس الإمام سيد الشهداء الذي دعا الناس في يوم عاشوراء إلى الجهاد والإنفاق، قد جعل لبعض الموارد الأخرى حداً، وعليه فعدم الالتفات إلى هذه المسائل سوف تقلّل من قيمة زيارة الإنسان.
زيارة الإمام عليه السلام ينبغي أن تكون عقلائية ومنطقية لا إحساساتية
أذكر بأنّه عندما أتى بعض المخالفين للسيد الحداد إلى كربلاء للزيارة، وبعد مضي عشرين يوماً تقريباً من زيارتهم ذهبوا لملاقاة السيد الحداد ـ لم أكن شخصياً في تلك الجلسة، بل نفس السيد الحداد نقلها لنا ـ وعندما جاؤوه قال لأحدهم: أنت أتيت إلى الزيارة لكن هل تعلم ماذا حصل لزوجتك وأطفالك؟ وهل تعرف في أي وضع هم؟! أم أنّك تركتهم هكذا وأتيت؟ والحاصل أنّه أخبره بما جرى بشكل دقيق.
فقال أحد الأشخاص الحاضرين ـ والذي كان من المعاندين الواضحين للسيد الحداد، والذي لم يذكر اسمه المرحوم العلامة في الروح المجرّد، وكان سيداً هندياً مخالفاً ومعانداً للسيد الحداد ولطريق العرفان، وكان من تلامذة أحد الزهّاد في كربلاء والمعروف بالزهد وبعض الكرامات، وقد توفي هذا السيد منذ سنتين أو ثلاثة ـ قال للسيد الحداد: ما شأنك بهذه الأمور، فعشقه للإمام الحسين هو الذي أتى به للزيارة!
فأجابه السيد الحداد: هل طلب منك الإمام أن تأتي للزيارة وتترك زوجتك وأبناءك في هذه الظروف التي هم فيها فعلاً!
يعني عندما يريد العارف أن ينظر إلى الأمور ينظر بواقعية، لا أن تكون نظرته لا قدّر الله منطلقة من الإحساسات فيستبدل المنطق والحقائق بالإحساسات. كلا! فزيارة سيد الشهداء عليه السلام ينبغي أن تكون زيارة عقلائية ومنطقية، وينبغي أن يكون الطريق إلى الزيارة آمناً، وأما في مثل هذه الأجواء التي تكون الأمور مبهمة وغير واضحة فمن غير المعلوم أن تكون هذه الزيارة ذات أهمية. نعم في بعض الشروط الخاصة وضمن تكاليف خاصة قد يحصل مثل هذا الأمر، لكن ليس دائماً.
ضرورة اهتمام المسؤولين بتسهيل الزيارة أمام الناس
طبعاً، ينبغي على المسؤولين والمتصدّين لهذه الأمور أن يلاحظوا هذا العشق والمحبّة الكبيرة التي لدى الناس بأولياء الدين، وعليهم أن يهيّؤوا الأمور ويرفعوا الموانع ويسّهلوا الطريق أمام الذين يريدون زيارة الأماكن المتبرّكة. فنحن ليس لدينا غير الأئمة عليهم السلام، فإذا تم رفع هؤلاء الأئمّة من حياتنا نصير مثل السنّة دون أي اختلاف! فهل للشيعة مائز غير الأئمة وزيارتهم؟!
لو لم يكن الإمام الرضا عليه السلام في إيران، فماذا كان بوسعنا أن نفعل؟! ماذا لدينا في إيران غير الإمام الرضا؟! فتمام ملجئ الناس هنا هو زيارة الإمام الرضا؛ فإن كان لديهم غمّ وحزن زاروا الإمام الرضا، وإن كان لديهم حسرة أو ألم ذهبوا للزيارة، وإن كان لديهم حاجة ذهبوا إلى الإمام الرضا عليه السلام، وإذا ضاقت صدورهم ذهبوا إلى الإمام الرضا، فماذا لدينا غير الإمام؟
لكن التسامح والتساهل ـ لا سمح الله ـ في هذه المسألة ستكون موجبة للغيرة الإلهية، فتبرز لذلك صفة القهارية، لذا ينبغي أن يكون الطريق متاحاً دائماً لعاشقي الولاية، وينبغي أن تبقى الطريق مفتوحة لكل من يريد الذهاب إلى الزيارة، ولا ينبغي أن يغلق الطريق أمام الزيارة، لا يمكن لأحد أن يمنع الزيارة.
ضرورة مراعاة الناس لشروط الزيارة
لكن مع ذلك على الناس أن يراعوا هذه المسائل، وعليهم أن يلتفتوا إلى أنّ الزيارة المطلوبة هي التي تراعي الموازين التي يبيّنها هؤلاء القائمون على الأمن والتنظيم! فهل إزهاق الروح هباء يعتبر عملاً عظيماً؟! إذا كان الأمر كذلك فليلقِ الإنسان نفسه من السطح، فهل هذا العمل جيد؟! الزيارة المطلوبة هي الزيارة التي تكون على طبق المباني والدستور، فالزيارة التي تؤدّي إلى كسر قلب أحد لا فائدة فيها، والزيارة التي تسبّب مشاكل للبعض لا فائدة فيها، والزيارة التي تكون مخالفة لرضا الوالدين لا نتيجة منها، والزيارة التي تكون على أساس تحريك الإحساسات فلا أثر لها! أما الزيارة التي تكون منطلقة من العشق والمحبّة وعلى أساس المنطق ومقام العبودية هي الزيارة المفيدة، وهي التي لا تقدّر بثمن أبداً! وهذا ما ذكره النبي الأكرم حينما قال: من زار ولدي في كربلاء فله أجر ألف حجة وعمرة، وهي الزيارة التي تكون على طبق الموازين؛ فإن قيل لك اذهب فاذهب وإن قيل لك لا تذهب فلا تذهب!
إطاعة الإمام واجبة في كل حال في الحرب والسلم
أمير المؤمنين عليه السلام إذا قال لك اذهب وسط العسكر! فعليك أن تذهب، فالحرب لا يوجد فيها شراب وحلاوة، بل فيها ضرب السيوف وطعن الرماح. لكن نفس أمير المؤمنين يقول لك في موطن آخر لا تُقدِم على الحرب، يقول لك لا تقتل عثمان! والحال أنّه لم يكن هناك أسوأ من عثمان في وقته.. يقول لك أنا إمامك وأقول لك لا تقتله! لكن مع ذلك يأتي البعض ويقول أمير المؤمنين يمازحنا في ذلك! أو يقول إنّه في الظاهر ينهى ولكنّه في الباطن يحرّض عليه.. كلا يا عزيزي ما هذا الكلام؟! لماذا تفترون على أمير المؤمنين؟ ولماذا تكذبون عليه؟! يقول لك الإمام لا تقتله، فعليك أن لا تقتله! فلو فرضنا أنّك لم تقتل عثمان، فهل سيقول لك الله يوم القيامة لماذا لم تقتله؟ فهل ستجيبه بأنّ أمير المؤمنين احتال عليّ في ذلك؟! يا عزيزي لقد طلب منك أمير المؤمنين عدم القتل، فمن الطبيعي أن الله لن يحاسبك على ذلك!
أما إذا قتلته مع نهي الإمام عن قتله، فماذا ستقول لله يوم القيامة؟ هل ستقول بأنّ النهي هو الحكم الظاهري، بينما الواقع كان شيئاً آخر؟! يقول الإمام بلسانه شيئاً، لكن باطنه يقول اقتله! فعند ذلك سيقول لك الله سأعلّمك متى تستعمل الظاهر والباطن، ألقوه في جهنّم! وعندما تقول آخ احترقت، يقال لك لم تحترق إنّك تكذب! هذا الظاهر أما باطنك فلم يحترق [ضحك].. فالله تعالى يعلم كيف يفهمنا وهو أقدر منا على إيصالنا إلى مقام العبودية، بأن لا نعود نشعر في أنفسنا بشيء، أن نعتبر أن روحنا إنّما هي من وجود آخر، وهذا الأمر يغير كثيراً من وضع الإنسان، يغيره بشكل كبير؛ مثلاً اذهب إلى الزيارة بهذا الشكل، واذهب بذاك الشكل الآخر، وسترى كم هو الاختلاف بينهما! صل ركعتين بهذا الشكل وركعتين بذاك الشكل وانظر إلى الفرق بينهما. وكذا الحال في مسألة الإنفاق، وأي خطوة تخطوها هي كذلك.. يعني أن حياة الإنسان تصير خارج اختياره، ومتعلقة باختيار الله تعالى، صحيح! هذا الانفاق في المقام والروح، ولا زال بحاجة إلى توضيح أكثر، لكن برأيي أنه يكفي هذا المقدار في هذه الجلسة، ونترك الحديث في الموارد الأخرى للإنفاق في المسائل الشخصية والمقامية وكيفية تعامل الإنسان مع الموارد التي تحصل له ومع الموارد الأخرى إلى الجلسات القادمة إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد