96

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

2819
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالإخلاص و الرياء

جلسات المجموعة(3 جلسة)

التوضيح

في هذه المحاضرة الشريفة التي عقدها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه لشرح فقرة «وَإذَا اشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ، لَا يتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلَى الْمِراءِ وَالْمُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ»، تحدّث بدايةً عن مسألة الرياء، والدافع الكامن من ورائها، وكيفيّة حبطها للأعمال، ليُعرّج بعد ذلك على مسألة إظهار بعض الشخصيات بصورة غير واقعيّة، ودور مؤلّفي السير فيها، ثمّ تطرّق إلى ضرورة اشتغال الإنسان بأداء التكاليف من دون الالتفات إلى نتيجة أعماله أو موقف الناس منها، وألاّ يتعدّى اهتمامُه هذه التكاليف، وإلاّ سينقلب عمله إلى مراء ومباهاة، ليختم كلامه في الأخير بالحديث عن أهمّية الإخلاص قبل الشروع في العمل
/۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

  •  

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٩٦

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم 

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم 

  • الحمد لله ربّ العالمين 

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين 

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين 

  •  

  •  

  • قال إمامُنا الصّادقُ عَليه ‌السّلام لِعنوان البصريّ: «وَإذَا اشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ، لَا يتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلَى الْمِراءِ وَالْمُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ»؛ أي إذا عمل الإنسان بما فرضه الله تعالى عليه، واشتغل بالأوامر والنواهي الإلهيّة، فلن يتسنّى له تمضية وقته بالمباهاة والتفاخر على الناس، وبالجدال والنزاع.

  • فما هي العلاقة بين الاشتغال بالتكاليف الإلهيّة، وبين عدم المراء والجدال والمباهاة والفخر؟ وكيف يُمكن ألاّ تكون للإنسان ـ بسبب اشتغاله بالأوامر والتكاليف الإلهيّة ـ فرصة للتفاخر والتبختر على الناس، وإبراز وجوده، وكذاك النزاع والجدال والخصام والشجار؟ فما هي العلاقة بين هاتين المسألتين؟ 

  • ففي الفقرة السابقة، قال الإمام الصادق عليه السلام: «وَجُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ»، فينبغي للعبد أن يحصر اشتغاله وعمله بالأوامر والنواهي، ولا يتعدّى هذين الأمرين؛ وقد طرحنا في الجلسات السابقة بعض الأبحاث بخصوص هذه المسألة، وأنّه على الإنسان أن يلحظ في الأوامر والنواهي الإلهيّة جانب العبوديّة، وتأدية كافّة أعماله بالاتّكاء على هذا الجانب، حيث إنّ الأبحاث التي تحدّثنا عنها في هذه الجلسات ستُعيننا على فهم العلاقة بين تلك المسألتين.

  • يقول الإمام عليه السلام: إنّ الذي ينهمك في طاعة أوامر مولاه لا يبقى له أيّ مجال للتفاخر على الناس؛ ولماذا لا يلجأ الذي يشتغل بالطاعة وأداء التكليف إلى منازعة الناس في الأمور، والجدال معهم؟ فالمراء يعني الجدال والنزاع؛ أي الملاسنة حول موضوع معيّن، والسعي لسحب البساط من الطرف المقابل، والدخول في نزاع مع الآخرين لأجل بلوغ الهدف المنشود، وتحقيق المصالح الشخصيّة بواسطة هذا النزاع؛ فهذا الذي يُقال له المراء؛ والذي يعمل بأوامر مولاه لا يلجأ أبدًا إلى هكذا أعمال. والمسألة الأخرى التي يُشير إليها الإمام عليه السلام أنّ مثل هذا الإنسان لا يتفاخر على الناس، ولا يُباهيهم، ولا يتبجّح عليهم، ولا يقول: «أنا قمت بالعمل الفلانيّ، أنا أدّيت العمل العلاّني»، ولا يوجد في أفعاله: «أنا بهذا النحو، أنا بذلك النحو»، بل تراه منهمكًا في أعماله، بحيث لا تترك له تلك المسألتان [الأوامر والنواهي الإلهيّة] أيّة فرصة لشيء آخر.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

3
  • كيفيّة حبط الرياء للأعمال

  • ولإماطة اللثام عن هذا الموضوع، لا بدّ من الإشارة بدايةً إلى أنّ للمراء والمباهاة مراتب مختلفة، إحداها التي تحصل مع الناس، وهي هذه المباهاة المصطلحة والمتعارفة؛ وذلك بأن يقوم الإنسان بعمل ما، ويتبجّح به على الناس، حيث تطرّقت الآية القرآنيّة الكريمة إلى هذه المسألة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذَى}۱؛ بمعنى: يا أيّها الذي آمنوا، لا تقضوا على أعمالكم الحسنة، ولا تُبطلوها بواسطة منّكم على الآخرين وإيذاؤكم لهم، فتُصبح هذه الأعمال هباءً منثورًا؛ {كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ}؛ وذلك نظير الذي يُنفق أمواله رياءً أمام الناس، ولأجل السمعة والشهرة بينهم، فيكون هدفه من هذا الإنفاق هو حبّ الظهور وإبراز النفس؛ فما هو مَثل هؤلاء؟ {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً}؛ وهذا تشبيه عجيب جدًّا؛ إذ تقول الآية الشريفة: إنّ مثل هؤلاء كمثل حجر صلب لا يتوفّر على أيّة ميزة؛ فإذا حطّ عليه تراب، فإنّه وقبل أن يستقرّ عليه هذا التراب، تأتي الأمطار، وتغسله بأجمعه، ليبقى ذلك الحجر على صلابته وقسوته؛ {لا يَقْدِرُونَ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ مِمَّا كَسَبُوا}؛ فلا يُمكنهم المحافظة على ما جنوا، ولا يستطيعون إبقاء تلك الأعمال لأنفسهم.

  • أي: حينما يقوم الإنسان بعمل ما، فإنّ هذا العمل يكون في حكم مُدّخر، وفي حكم مادّة تأتي، وتستقرّ في قلب الإنسان، حيث يكون العمل بذاته حسنًا؛ فالإنفاق في سبيل الله حسن، وأداء العبادات عمل حسن، وخدمة الناس أمر حسن، وهكذا بالنسبة للإنفاق والصدقة وبرّ الوالدين وصلة الرحم؛ فتقوم كلّ هذه الأعمال بتغليف القلب بمادّة من الرحمة الإلهيّة، ثمّ تزداد هذه المادّة، وتزداد، إلى أن تُصبح الأرضيّة مستعدّة شيئًا فشيئًا لعمليّة التربية؛ لأنّه لا يُمكننا زرع أيّ شيء على الحجر الصلب، بل ينبغي وجود تربة، لكي يتسنّى للإنسان الانتفاع منها؛ لكن، ما إن تحطّ تلك المادّة [وذلك التراب] على قلب الإنسان، حتّى يأتي فجأة ذلك الرياء الذي ارتكبه الإنسان، وتلك المباهاة، وتلك النية التي قصدها في عمله، فيقوم مثل المطر بغسل ذلك التراب بأجمعه، ومحوه، ليبقى الحجر على ما كان عليه، وكأنّ الإنسان لم يؤدّ أيّ عمل؛ فمع أنّه أتعب نفسه، لكنّ تعبه ذهب هباءً منثورًا، ومع أنّه أنفق أمواله، إلاّ أنّ إنفاقه لا يُحسب له، ولو بمقدار فلس واحد، ومع أنّه تقدّم خطوة في الطريق، إلاّ أنّ خطوته لا يُعتدّ بها أبدًا؛ فصار، وكأنّه لم يُسجَّل في كتاب أعماله أيّ شيء، فيقول: إلهي، لقد أدّيت العمل الكذائيّ، فيُقال له: إنّك أدّيته من أجل إبراز نفسك، وقد كان هذا الإبراز هو الثواب الذي حصلت عليه في الدنيا، فما الذي تُريده منّا بعد ذلك؟ لقد قمت بالعمل الفلانيّ لكي تُري الناس أنّك قمت به؛ حسنًا، لقد علم الناس بذلك، وأثنوا عليك، فما الذي تُريده منّا بعد ذلك؟! فهذه المسألة عبارة عن رياء، وإبراز للنفس، ومباهاة للناس في الفعل والعمل.

    1. سورة البقرة، الآية ٢٦٤.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

4
  • الدافع الأساس للرياء

  • لكن، لماذا يُعدّ هذا الفعل قبيحًا؟ ولماذا يُقدم الإنسان عليه؟ وما هو الدافع الذي يُحرّكه نحوه؟ ينبغي على الرفقاء أن يُجيبوا عن ذلك بسرعة؛ إذ بالنظر إلى المسائل التي ذكرناها سابقًا، سيكون الجواب واضحًا جدًّا، حيث إنّ الأمر الذي لم يكن مطروحًا هنا هي مسألة العبوديّة ونفس القيام بالعمل الحسن، بل إنّ جذور ذلك العمل وعلّته عبارة عن إظهار الوجود، وإبراز الإنسان نفسَه أمام الناس، واستعراض وجوده وذاته والآثار الصادرة من هذا الوجود؛ فحينما أسعى إلى إبراز نفسي، فإنّني أقوم بإظهار الآثار التي أقدر على إيجادها، وتنال إعجاب الناس، حتّى أحصل على ثنائهم؛ وفي المقابل، فإنّني أطرد عن آثاري كلّ ما يُؤدّي إلى اشمئزاز الناس ونفورهم؛ في حين، أستعرض أمام الآخرين ما ينال استحسانهم وإعجابهم: لقد قال عنّي فلان كذا، لقد مدحني العالم الفلانيّ في اليوم الكذائيّ، لقد قال عنّي الوليّ الإلهيّ فلانٌ في الجلسة الفلانيّة: كذا، لقد قمت في اليوم الكذائيّ بالعمل الفلانيّ؛ لكن، إن جاء أحد الأيّام، وتحدّث عنّي نفس هذا الوليّ بعيب ما لغرض تربويّ، فإنّني أمنع الناس من سماع هذا الحديث؛ وإن تكلّم عنّي ذات يوم أحد العظماء بمثلبة معيّنة، فإنّني لا أُفصح عنها أبدًا؛ وإن قمت في اليوم الكذائيّ بعمل سيّء، فإنّني لا أخبر به الناس بتاتًا.

  • فنحن نتحدّث دائمًا في كلامنا مع الناس عن تلك الجهات التي يُؤدّي سماعهم إيّاها إلى الثناء علينا؛ بينما إذا تمكّنا من الحديث عن جهات الحُسن، وجهات النقص في الوقت ذاته، فإنّ هذا الأمر هو الذي سيكون له شأن كبير! هذا، مع أنّنا لا نريد هنا أن نرفع مستوى الكلام أكثر ونقول: «إنّنا حينئذ، لن نكون قد أفصحنا عن جهات الحسن فينا»؛ أي أنّنا سنكون قد تصرّفنا بنحو مقابل تمامًا لما يتوقّعه منّا جهاز الخلق والتكوين، حيث تقول الآية الشريفة: {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}۱؛ أي أنّ كافّة الخيرات التي تترشّح منكم، وجميع النعم التي تصل إليكم مصدرها الله؛ لأنّه تعالى مبدأ الحُسن، بحيث إنّ كلّ حُسن يظهر في قالب من قوالب هذا العالم ينتسب إليه هو، وليس إلى هذا القالب وهذا الأمر المتعيَّن.

    1. سورة النحل، الآية ٥٣.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

5
  • فبما أنّ كلّ جمال يتجلّى في العالم ينتسب إليه تعالى، وهو الذي يمنحه [أي أنّه جمال مُعار]، فإنّ هذا الجمال يتحوّل إلى قُبح عند أدنى حمّى، ويتغيّر إلى نفور عند أقلّ مرض، ويتبدّل إلى لاجمال مع مرور يومين من الزمان؛ فقارنوا بين صوركم في مرحلة الشباب، وصوركم في مرحلة الكهولة والشيخوخة؛ وحينئذ، ستكتشفون هذا الأمر بكلّ سهولة؛ وقارنوا بين فترة المرض والنقاهة، وفترة الصحّة، لكي تتّضح لكم هذه المسألة تمامًا؛ فأين هو ذلك الجمال وتلك الوسامة؟ وأين هو ذلك السحر والغنج؟ اعثروا عليه، وآتوا به، وامسكوا به؛ لقد كان مجرّد عارية مُنحت للإنسان من مالكها الأصليّ، وقد استرجعها هذا المالك في الغد، واستردّها صاحبها الحقيقيّ؛ فالمال مختصّ بالله تعالى، وهو يهبه لأحدهم، ولا يهبه لآخر؛ وحتّى الإنفاق الذي يتعلّق بهذا المال صادر منه هو؛ فالعناية الإلهيّة وملائكة الرحمة الإلهيّة هي التي تنفخ في القلب، فتُصيّره رؤوفًا ورحيمًا وعطوفًا؛ فتقوم سماحتكم بوضع أيديكم في جيبكم، وتتصدّقون؛ ولهذا، فإنّ الإنفاق أتى من هناك؛ وإلاّ، لو لم تأت تلك الملائكة، وتحلّ بهذا القلب، وتُصيّره عطوفًا ورحيمًا وعاطفيًّا تجاه أبناء جلدته، لما وضع الإنسان يده في جيبه من الآن إلى أن تمرّ ألف سنة؛ وبالتالي، فإنّ الجود منه هو، والجمال منه هو، والكمال منه هو، وكلّ حُسن يبرز نفسه في هذا العالم منه هو، وينبغي أن يرجع إليه هو؛ وأمّا أنا وأمثالي، فلا نمتلك القابليّة على إبراز الذات وإظهار الوجود، ولو بمقدار ذرّة؛ وإذا كان لنا علم، فقد أفيض من العليم، وإذا توفّرنا على بيان، فقد أفيض من ربّ العالمين {اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ}۱، وإذا حُزنا على كمال، فهو صادر منه سبحانه؛ هذا، وقد طرحنا سابقًا على الرفقاء والأحبّاء بعض المسائل بخصوص هذا الموضوع.

  • فمع أنّ الشرور وبُعدنا [عن الله].. كلّ ذلك يرجع إلينا نحن، وعلينا أن نسعى لكي نُظهره هو تعالى، وننسب إليه الخيرات والحسنات، فإنّنا نقوم بالعكس هنا، ونعمد إلى إذاعة الخيرات وما يرجع إليه هو، ونوصله إلى أسماع الناس، ونبرزه أمامهم؛ فنطبع كتابًا، ونضعه على مرأى من الجميع، ونقول: «انظروا إلى أسلوب الكتابة، والأبحاث المطروحة فيه»، لكن، إذا انتقده أحدٌ، تثور ثائرتنا، وننزعج، ونقول: «هل انتقدت هذا الكتاب أيّها السيّد؟!»؛ حسنًا، إن كنت ترغب في إبراز محاسنه، فعليك إظهار مساوئه أيضًا؛ وإذا اعتبرت أنّ محاسنه منك أنت، اعتبر أيضًا أنّ مساوئه منك أنت، وأنا لا أقول: «اعتبر محاسنه من الله تعالى»؛ لأنّه لا أحد يقوم بذلك؛ لكن، لنكن منصفين كحدّ أقلّ؛ فإذا أظهرنا المحاسن من أنفسنا، فلا ينبغي علينا الانزعاج حينما يصل الدور للمساوئ؛ فالله وحده العالم بالمخاطر التي تكتنف هذا الأمر، وكم هم الأشخاص الذين سقطوا في المهالك جرّاء عدم مراعاته، وكم هي المسائل التي حُرّفت عبر التاريخ بسببه، وما هي الحقائق التي بقيت طيّ الكتمان والخفاء والمسائل الواقعيّة التي ظلّت مختفية عن أنظار ذوي الاطّلاع بواسطته؛ لماذا؟ وما هي علّة ذلك؟ علّته هي هذا الأمر بذاته؛ أي أنّ النفس لا تُحبّ ـ بالنظر إلى مصالحها ـ أن تبرز ما يوجب النفور والاشمئزاز والتنبّه.

    1. سورة فصّلت، الآية ٢۱.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

6
  • ضرورة إبراز الشخصيات المؤثّرة بصورتها الواقعيّة

  • فعبر التاريخ، دائمًا ما كانت تُصنع للشخصيّات نُصب تذكاريّة وتماثيل، وتُستعرض سيرة هؤلاء في طيّات الكتب، ودائمًا ما سعى المؤلّفون والمؤرّخون إلى تدوين الحقائق اعتمادًا على تخيّلاتهم، واتّكاءًا على مصالحهم الشخصيّة؛ ويندر أن يتمّ طرح حادثة كما هي في الواقع، وأن يجري وضع شخصيّة أمام محكمة الآراء والضمائر كما هي في الواقع، بل الذي يسود كلّ ذلك هو البتر والقصّ؛ فيُحترز عن ذكر ما ينبغي ذكره، ويُقتصر على ما تنبغي الإشارة إليه، حتّى تظهر هذه الأسوة جميلةً أمام مرأى الناس، وتُعرض أمامهم بمظهر حسن وبهيّ؛ وأمّا إذا تقرّر أن تُذكر النقائص إلى جانب الفضائل، فإنّ رأي الناس بخصوص تلك الشخصيّة سيتغيّر، ولن يتبعها أحد، ولن يُصغي إليها أيّ واحد، ولن يعود بالإمكان إيجاد الذهنيّات التي تخضع بشكل كامل، وتُطيع بنحو محض؛ ولهذا، لا نجد أيّ مفرّ من تغطية القبائح، وإبراز المحاسن، لكي نستغفل العقول، ونسدّ طريق الوصول إلى الحقائق أمام الأنظار؛ وهذه خيانة للتاريخ، وخيانة للضمير الإنسانيّ، وخيانة لطريق الناس ومسير الذين يبحثون عن الحقيقة والوقع، ويُريدون العثور على طريقهم الخاصّ وسط هذه المسائل.

  • فحينما أرغب في الحديث عن إحدى الشخصيّات... هل التقيتم بالمرحوم العلاّمة أم لم تلتقوا به؟ فالعديد منكم لم ير المرحوم الوالد العلاّمة؛ وحينئذ، كيف سيتسنّى لكم أن تضعوا أنفسكم في طريقه ومساره وصراطه، وعلى خطى مبادئه بالضبط؟ أجل، قد توجد طرق خاصّة، وهدايات من نوع خاصّ؛ لكنّني لن أتحدّث هنا عن هذا الموضوع، بل مرادي هو البحث الظاهريّ والهداية الظاهريّة، حيث لا يوجد لدينا هنا أيّ طريق، سوى التنقيب وسط مؤلّفات هكذا شخصيّات، وما نقله الآخرون عنها؛ وفي هذه الحالة، إذا أردت ـ أنا المتحدّث ـ أن أمدحها وأثني عليها بطريقة لا أفصح فيها عن أيّة نقطة ضُعف، مع أنّ نقاط الضعف هذه يكون لها دور أساس في توجيه المخاطبين، فإنّني سأكون قد خنت هؤلاء المخاطبين؛ لماذا؟ لأنّ أسلوب مدحي وثنائي مصيريٌّ وحاسم بالنسبة للمخاطبين، إذ سيعملون على رسم صورة خاصّة عن تلك الشخصيّة اعتمادًا على مدحي وكلامي أنا؛ وبعد ذلك، متى ما حضرت هذه الشخصيّة، فإنّهم ينظرون إليها من خلف تلك الصورة.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

7
  • هل يجوز لمتحدّث ومؤرّخ وفرد يُريد أن يصنع شخصيّة للمجتمع والناس ولمخاطبيه أن يخونهم؟! وأن يمنح الوجود لغير الموجود، ويُعدم ما هو موجود؟! هذه خيانة! فإذا كنت أتوفّر على شيم خاصّة، وأفكار معيّنة، وشمائل وصفات محدّدة، فإنّ هذه الصفات تكون ـ بطبيعة الحال ـ معجونة بالمحاسن والمساوئ، ومخلوطة بما يستحقّ الثناء، ويوجب البعد والفراق؛ وإذا كان الأمر بهذا النحو، لا يحقّ للذين يُريدون تعريفي وتقديمي للناس في ظرف من الظروف أن ينحتوا لي شخصيّة من دون عيب ونقص، ومن غير أيّ نقطة ضعف، ويضعوني في درجة الكمال؛ لأنّ هذه خيانة.

  • المسؤولية الملقاة على عاتق المؤرّخين ومؤلّفي السير

  • فإذا كنت أنقل بعض المسائل عن المرحوم العلاّمة والعظماء، فلأنّني أراهم بلغوا درجة الكمال؛ لكن، إن أردت الحديث عن شخص آخر يحتلّ درجة أدنى، يجب أن تكون الكلمات والإشارات والدقائق واللطائف التي أعرضها، بنحوٍ لا يُفهم منها الإطلاق والخلوص؛ ويُمكنكم مشاهدة هذا الأمر في كتب المرحوم العلاّمة؛ فحينما يقوم بعقد مقارنة بين أساتذته، فإنّنا نجده يُبيّن تلك المسائل والمقاصد بنحو دقيق ولطيف جدًّا، وفي قالب مجموعة من اللطائف والدقائق؛ وإذا كان القارئ واعيًا وملتفتًا، سيتسنّى له فهم تلك المراتب التي يقصدها المؤلّف. فهل الشخصيّة التي نسعى نحتها للإنسان تقف على قدم المساواة مع الإمام المعصوم والشخصيّة المطلقة؟ وهل ما نسعى لتقديمه للمجتمع يُماثل الإمام عليه السلام؟ هل هو كذلك أم لا؟ فإن لم يكن كذلك، لماذا يتعيّن علينا أن نُقدّمه للناس بطريقة تُسقطهم في الجهل والضلال والانحراف من هذه الناحية، بحيث ينتبهون بعد مرور عدّة سنين إلى أنّ الأمر لم يكن كما قيل لهم؟ ومن المسؤول عن هذا كلّه؟ إنّ جميع ذلك يرجع إلى هذه المسألة.

  • ويكشف لنا الإمام الصادق عليه السلام سرّ هذا المسألة وحقيقتها، حيث يريد أن يقول: إن كان غاية سعيك أيّها الكاتب كتابة الحقّ، فلا حاجة لك حينئذ إلى التفاخر على الناس، وإبراز ذاتك، وصناعة الأساطير، ونحت الشخصيّات، اكتب الحقّ والسلام؛ ومن شاء فليقبل، ومن شاء فليرفض؛ ولتقتصر على نقل الواقع إلى المخاطبين كما ظهر لك، ولا علاقة ببقيّة الأمور.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

8
  • فما هو التكليف الملقى على عاتق المؤلّف؟ أن يكتب ما هو واقع، لا أن يختلق من نفسه، ولا أن يكتب أمرين، ويتغاضى عن أمر؛ ولا يخفى أنّ هذا لا يعني أن يقوم الإنسان بإفشاء عيوب الناس، فهذا خطأ، ويستدعي مجالاً آخر للبحث؛ لكن، إن كان عرضُنا لشخصيّة من الشخصيّات سيُساهم في نحت هذه الشخصيّة في ذهن الناس، وتحديد طريقهم، وتعيين مسار حياتهم وآخرتهم، والتأثير في موتهم وحياتهم، هل سيكون بوسعنا حينئذ أن نتلفّظ بأيّ كلام كيفما كان؟ وأن ننطق بكلّ ما يأتي على بالنا؟ هل الأمر بهذا النحو؟ هل إنّ سعادة الناس تافهة إلى هذا الحدّ؟! وهل وصل عدم الاهتمام بهذا المسألة إلى هذه الدرجة، بحيث تجدنا نتحدّث عن شخصيّة ما بكلّ ما نريد؟! هذا خطأ!

  • يقول الإمام عليه السلام: إن قام العبد بما أمره الله تعالى وكلّفه بأدائه أو الاحتراز عنه، لن تعود له أيّة حاجة للفخر والمباهاة ونحت الشخصيّة، ولن يحتاج بعدئذ لكي يأتي، ويُظهر نفسه أمام الناس بمظهر حسن، ولن يلزمه الخوض في المراء والجدال مع الناس بشأن المصالح الدنيويّة، والسعي إلى تنحية الآخرين، والجلوس في مكانهم؛ فتأتي جماعة، وتعمد إلى القضاء على جماعة أخرى لكي تحتلّ المنصب الكذائيّ؛ إذ لا معنى لهذا العمل إذا كان همّ كلّ إنسان هو أداء تكليفه الخاصّة؛ فما هو تكليفي أنا؟ تكليفي هو أن آتي، وأقول: هذا أنا، وهذه صفاتي وخصائصي، والسلام؛ فإن شئت، فلتخترني، وإن لم تشأ، الوداع؛ فإن جرى انتخابي، فهو تعالى الذي أراد ذلك، وإن لم يجر انتخابي، فهو أيضًا الذي أراد ذلك؛ فهذا الذي يُقال له التكليف.

  • وفي هذه الحالة، إذا قمت بتنحية الخصم بغية التقدّم إلى الأمام، فإنّ ذلك سيكون بمثابة عدم أداء التكليف؛ وإذا سعيت إلى إلصاق التهم لكي أحرز قصب السبق، فإنّ ذلك سيُعدّ عدم أداء للتكليف؛ وهكذا أيضًا إذا سعيت ـ لأجل الفوز ـ إلى المراء، والجدال، والنزاع، والشجار، والعراك، وتحطيم شخصيّة الآخرين، وسحق كافّة القيم الإنسانيّة، واستخدام اسم الله تعالى لتحقيق المنافع الدنيويّة؛ فيضع الإنسانُ اللهَ تعالى في الواجهة، ثمّ يقوم بعد ذلك بكلّ ما يحلو له متستّرًا بهذا الأمر؛ فنُسلّي أنفسنا بأنّه لدينا إله، ونضع أمامنا أداء أحد التكاليف كلافتة إعلان، وبعد ذلك، نقوم في الخلف بكلّ ما يحلو لنا، ونسعى لتنحية كلّ شخصيّة نريدها، وإبراز كلّ عيب ونقص مستتر عن أعين الناس، ونعرضه أمام المجتمع؛ فهل هذا هو طريق الله تعالى؟! وهل هذا هو سبيل المعصومين عليهم السلام؟! وهل هذا هو الطريق الذي أرشدونا إليه وأوصونا به؟! لا يا عزيزي!

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

9
  • ترسم نرسى به كعبه اى اعرابى‌***اين ره كه تو مى‌روى به تركستان است‌۱
  • [يقول: أخشى أن لا تصل إلى الكعبة أيُّها الأعرابيّ، فالطريق الذي تسلكه يؤدِّي إلى بلاد الترك].

  • لزوم اشتغال الإنسان بأداء التكليف من دون الاهتمام بنتيجة عمله أو موقف الناس منه

  • يقول الإمام الصادق: اذهب للصلاة في المسجد، سواءً صلّى خلفك أحد أم لا؛ وحينما يحلّ وقت الظهر، عليك أن تُؤدّي صلاتك، والسلام، ولا تهتمّ بالذي لم يأت؛ فقد جاء التجّار عند المرحوم العلاّمة، وقالوا له: «يا سيّدي، نرجو منك أن تُؤخّر البدء في صلاة المغرب قليلاً، حتّى ننتهي من التعاطي مع المشترين؛ لأنّنا نصل متأخّرين»، فقال لهم: «متى ما حلّ وقت الصلاة، فإنّني سأؤذّن، وأشرع في الصلاة، وعليكم أنتم رفض التعامل مع المشترين»؛ وقد حصل مرارًا وتكرارًا أن ذهبت معه للمسجد في وقت صلاة الظهر، فجاء للصلاة خلفه خمسة أشخاص، وكان يبلغ عدد المصلّين في صلاة العصر ثلاثون أو أربعون مصلّيًا، بينما كان يُؤدّي صلاة الظهر مع خمسة مأمومين؛ وهذا الذي يصير مخاطبًا من قبل الإمام الصادق عليه السلام بقوله: «وَإذَا اشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللَهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ»؛ فإذا صار بهذا النحو «لَايتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلَى الْمِرَاء»؛ فينهمك في أداء التكليف الإلهيّ، ولن يعود فكره وذهنه ووقته قادرًا على الجدال مع أحد، أو يقول: «لماذا تأخّرت أيّها السيّد؟»؛ فليتأخّر، فما علاقته بذلك؟! أو يقول: «لماذا لم تأت للصلاة خلفي؟ لماذا لم تسع إلى إضفاء البهاء على صلاة الجماعة؟»، وأمثال ذلك من الكلمات التي يعرفها الجميع وتخطف الأبصار؛ كأن يقول: «لماذا لم تُساهم في ملأ مجلس سيّد الشهداء؟ لماذا مثلاً لم تلتفت إلى هذه المسائل التي نتحدّث عنها؟ لماذا لم تدعُ الناس والجيران والأشخاص من هنا وهناك إلى هذا المجلس؟ لماذا لم تأت أنت؟ لماذا أتيت أنت؟ لماذا تأخّرت في المجيء»؛ فلتذهب جميع هذه الكلمات إلى حال سبيلها؛ وأمّا حقيقة المسألة، فهي: اهتمّ بأداء تكليفك، سواء جاء أحد أم لا يأت، والسلام.

  • فعليك القيام بواجبك، ولا تهتمّ بما سيقع في الخارج، وبردّة الفعل التي ستحصل في الواقع؛ ولا يوجد شيء غير هذا، وعلى كلّ واحد أن يعمل بهذه المسألة، لا أن نقول: «لقد حصلت خطبتي هذه الليلة على نجاح كبير، وحضرها العديد من الناس، وكان الحضور كبيرًا»، حتّى إذا لم يأت أحد في الغد، فإنّنا نُقطّب جبيننا، ولا نعُد قادرين على إلقاء الخطبة؛ فمع من نتحدّث؟ فعدد الحاضرين لا يتجاوز سبعة أو ثمانية أو عشرة أشخاص أو عشرين شخصًا! ونقول: «إنّ الناس لم يعودوا يُرحّبوا بهذا الكلام، فما الذي حصل؟ هذا آخر الزمان، وقد وصل العالم إلى نهايته!»، لا يا عزيزي، لم يبلغ العالم نهايته، بل أنت الذي بلغت نهايتك، والناس لم يبرحوا مكانهم، وهذا هو حالهم، حيث تجدهم يأتون يومًا، ولا يأتون يومًا آخر.

    1. أمثال وحكم دهخدا، ج ۱، ص ٥٤٤، نقلاً سعدي الشيرازي.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

10
  • جاء المرحوم الشيخ مطهّري في الأيّام الأخيرة من حياته عند المرحوم العلاّمة، حيث كان يريد السفر إلى قمّ للقاء المرحوم السيّد الخمينيّ، وقد كنت جالسًا في الغرفة، فكان المرحوم العلاّمة يطرح عليه مجموعة من المسائل، وهو يكتبها في ورقة، لكي يطرحها على السيّد الخمينيّ، ويتحدّث معه بشأنها؛ فكان من جملة كلامه: «قل للسيّد الخمينيّ أن يعمل في طريقه بما يُرضي الإله، ولا يهتمّ بدعم الناس أو عدم دعمهم له»؛ وهذه عين عبارة المرحوم العلاّمة التي أرى نفسي وكأنّني أنظر إليها الآن؛ فهذا هو حال الناس الذين إذا أقبلوا على الإنسان يومًا، فإنّهم يُدبرون عنه في يوم آخر؛ فتجدهم يأتون اليوم، ويرحلون في اليوم التالي، ويُثيرون اللغط في يوم آخر؛ وفي هذه الحالة، ما هو الواجب على الإنسان فعله؟ ألاّ يهتمّ بأيّ أحد؛ أجل، عليه في بداية الأمر أن يُقيّم الظروف بشكل صحيح، لا أن يُقدم عل العمل من دون حساب، ثمّ يقول: «لقد شاء الله تعالى ذلك»، لا! فلكلّ شيء حسابه الخاصّ، وعلى الإنسان أن يُقدّم في الغد جوابًا عن كلّ عمل من أعماله؛ ولهذا، عليه تقييم الظروف وتحديد المواقف؛ ومتى ما تبيّن له الحقّ، عليه في ذلك الحين ألاّ يلتفت إلى أيّ شيء آخر؛ فهذا هو شأن الحقّ، والحقّ أمر قويم، فلا ينبغي على الإنسان أن يُؤدّي أعماله بغية الحصول على إعجاب الناس أو عدم إعجابهم، بل عليه أداء ما هو مكلّف به.

  • نموذج عن مسألة استبدال الشخصيات الحقيقيّة بشخصيات مزيّفة

  • توجد مسألة لم أرغب بالحديث عنها، لكنّني تذكّرتها الآن، وقد تردّدت لمرّتين أو ثلاث مرّات في أن أذكرها أو لا، ثمّ حصل لي ترجيح في ذكرها، ولو أنّها مرتبطة بي أنا، والإفصاح عنها صعب؛ لكن، على أيّ تقدير، أردت أن أعرضها على الإخوان لكي تتّضح الأهمّية البالغة للموضوع الذي نتحدّث عنه.

  • بعد وفاة المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، كان من المفروض أن نسير وفق الأسلوب الذي يتوافق مع أوامره ومبادئه، وبالاعتماد على المواقف التي حدّدها، وأن يخضع الكلام، وتخضع المسائل للنهج ذاته؛ وفي الليلة الرابعة من ارتحاله، ارتأى الأحبّة أن أتحدّث هناك، حيث قلت بكلّ صراحة: «إنّ المرحوم العلاّمة والدنا ارتحل عن هذا العالم، لكنّ الله تعالى باق ولم يفن؛ والمسائل لم تفرق بالنسبة إليه؛ فإذا كان أيّ واحد من الرفقاء له اطّلاع على أمر آخر، أو على طريق مختلف، أو تمكّن من فهم مسألة ما، فليعمل بها، وإلاّ سيُسأل عن ذلك يوم القيامة»؛ لقد تحدّثت بهذا الكلام آنذاك، حيث لا ينبغي تصوّر أنّ كافّة مبادئ المرحوم العلاّمة قد انتهت برحليه؛ ولهذا، فإنّ مسألة الحاجة إلى الأستاذ الكامل ووليّ الله تعالى ـ باعتبارها تقع في رأس مبادئه وكافّة قواعده السلوكيّة ـ لا تزال بعد ارتحاله تحظى بنفس تلك الأهمّية البالغة، وكلّ من له علم بأمر ما عليه أن يتّبع علمه، وكلّ من له اطّلاع على مكان ما عليه أن يذهب إليه، وليُطلعنا نحن أيضًا عليه؛ وها أنا ذا أقول لكم هذا الكلام الآن أيضًا.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

11
  • لقد كانت هذه هي المسائل التي تحدّثت بها تلك الليلة، غاية الأمر أنّه علينا أن نسير وفق ذلك الطريق والمنهج الذي رسمه المرحوم العلاّمة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً؛ لكن، صارت تظهر بعض القضايا، وتتقلّب الأمور كثيرًا، حيث شعرت منذ البداية أنّ المسألة بدأت تخرج شيئًا فشيئًا عن مسارها الأساس، وتنحرف عن طريقها الخاصّ، وأنّ العبارات التي كانت تُستخدم قد تتبدّل في المستقبل إلى أزمة وعاصفة وضلال وهلاك؛ وهكذا بالنسبة لبقيّة الكلمات التي كانت تُطلق؛ إذ يأتي أحدهم ويطرح شيئًا، فيقوم آخر بنقله، ويُضيف إليه ثالث كلمتين؛ وهكذا، إلى أن يتحوّل ذلك إلى تيّار ومسألة بحدّ ذاتها. فالعناوين التي توضع للأشخاص لا توجد دفعةً واحدة منذ البداية، بل يأتي أحدهم، ويضع عنوانًا لآخر، ثمّ تقوم مجموعة باتّباع هذا العنوان، فيصير ذلك الشخص متلبّسًا به، حيث إنّ العديد من الموارد قد حصل فيها الأمر ذاته.

  • فرأيت أنّ جرس الإنذار قد رنّ، وعليّ أن أقف في وجه هذه المسائل؛ إذ إنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه كانت له شخصيّة متميّزة، ويتّسم بصفات خاصّة، وننظر إليه بعنوان الوليّ الكامل الذي سلك طريق الله تعالى، وبلغ مرتبة الفناء، ودرجة البقاء بالله بعد الفناء؛ وقد كنّا نتّبعه على هذا الأساس، وبمقتضى هذه الشخصيّة؛ هذا بغضّ النظر عن عملنا [بأوامره] أو عدم عملنا بها؛ فهذه مسألة أخرى؛ لكن، ما دفعنا للقبول عنه، والثبات والرسوخ والانقياد لهذا المحيط هو هذه الشخصيّة؛ لكن، رأيت ويا للعجب أنّ شخصيّة أخرى أصبحت تأخذ مكانه، وتقف في مقابله؛ وهذا لم يكن أمرًا مقبولاً بالنسبة إليّ؛ فلم أكن أرضى بتاتًا أن تُتجاهل تلك الخصائص، ويُتغاضى النظر بشكل تامّ عن تلك الشخصيّة، ويُغضّ الطرف عن تلك العظمة العلميّة، ولا تُؤخذ بعين الاعتبار تلك السعة الوجوديّة وذلك الاطّلاع على الأمور والمصالح والمضارّ والمنافع والإشراف على النفس وكافّة صفاتها، ويُقتصر على مجرّد بعض العبارات والمسائل، زيادة على بعض المنامات والتخيّلات وأمثال ذلك، لتتعرّض المسألة للدسّ والتزييف؛ وبعبارة أخرى: تمنح تلك الشخصيّة الحقيقيّة مكانها لشخصيّة مجازيّة؛ وهنا نهضت للوقوف بوجه هذا التيّار، وقمت بكلّ ما أستطيع فعله في هذا المجال.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

12
  • فقمت بالعديد من الأسفار، وتحدّثت كثيرًا، وما أكثر الأيّام التي كنت أسافر فيها صباحًا، وأرجع بعد ذلك عصرًا، وتحمّلت السهر عدّة ليالي من دون أن أنام حتّى الصباح، وتجشّمت الكثير من العناء؛ كلّ ذلك في سبيل عدم تحقّق ذلك الأمر، حيث يوجد الآن جميع الكلام والمسائل المطروحة في ذلك الحين؛ فكم هي المسائل التي أثيرت ضدّ ذلك الأمر؛ وفي المقابل، تمّ اللجوء إلى مجموعة من ردود الأفعال، وطَرَح بعضُ الجهلة عدّة مسائل، مع أنّه توجد أمور أخرى لا داعي لذكرها الآن.

  • كلّ ما يتجاوز أداء التكليف ينقلب إلى مراء ومباهاة

  • والنقطة الأساسيّة تكمن هنا؛ وهي أنّه بعد مرور سنتين، وبعد ظهر أحد الأيّام، رأيت المرحوم العلاّمة في المنام، فشاهدت صحراء شاسعة جدًّا يوجد فيها مستنقع عميق جدًّا وبالغ الخطورة، وأنا واقف إلى جانبه، والمرحوم العلاّمة واقف في الطرف المقابل، فأردت عبور هذا المستنقع، حيث وضعت رجلي قليلاً داخله، فوجدت أنّ المسألة لا مزاح فيها، وأنّ المستنقع يجرف الإنسان إلى الأسفل؛ لكن تقع إلى جانبه أرضٌ ترابيّة بمقدار متر واحد، فمشيت على هذه الأرض الصلبة والترابية، إلى أن وصلت إليه، فالتفت إليّ وقال: «هل جرّبت؟ هل جرّبت؟»، فقلت له: «أجل»؛ ولا يخفى أنّني لم أكن أتكلّم، بل كنّا نتبادل المعاني فقط؛ فهو لم يكن يتحدّث، وأنا بدوري لم أكن أتكلّم، بل كان هناك انتقال للمعاني فقط، حيث قال: «هل جرّبت؟»، فقلت له: «نعم»، قال: «كلامك الحقّ لا يفهمه أحد، وعليك من الآن فصاعدًا أن تلتزم الصمت». 

  • يعني: لقد انتهى الأمر؛ فقبل هذه اللحظة، كان من المفروض أن أتكلّم، لكن، من الآن فصاعدًا، لا توجد أيّة فائدة مرجوّة، وتمّ البحث عن: ما الذي سيحصل؟ وانتهى الكلام؛ فإذا كان من المقرّر أن يستوعب أحد الحقيقة، فقد استوعبها، وإذا كان المفروض ألاّ يستوعبها أحد، فذلك شأنه، وما علاقتي أنا بذلك؟ بل ومن أكون أنا؟! لقد بلغ الأمر درجة، بحيث كنت أقول: «إثنان زائد إثنان»، فكانوا يقولون: «خمسة»؛ وحينما يصير الأمر بهذا النحو، ماذا عسى الإنسان أن يقول؟ فقد صارت إثنان زائد إثنان خمسة! حيث يُقال أحيانًا ذلك؛ فإلى الآن، كانت أربعة، لكن، يتغيّر نظام العالم، فتصير خمسة، أو ستّة، ولا يهمّ، بل كلّما صارت أكثر، كان أفضل!! فما هو المشكلة في أن تصير إثنان زائد إثنان عشرة؟! وحينئذ، من هم هؤلاء الذين تُريد أن تتحدّث معهم وتُبيّن لهم المسائل؟ لقد أفصحت عن الأمور ووضّحتها، فهذا يكفي، وكلّ كلام بعد ذلك سيضحى مراءً، وجدالاً، ونزاعًا، وخصامًا، وشجارًا، ومباهاةً، وتفاخرًا، وإبرازًا للوجود، وسعيًا وراء المكانة.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

13
  • كم من مرّة جاء عندي البعض، وقالوا لي: «اعقد جلسة للمناظرة من أجل بيان كلامك، أ فهل يوجد إشكال في ذلك؟»، وكان الجميع يعلم كعلمهم بالشمس في رائعة النهار أنّ هكذا جلسة لن تطول أكثر من عشر دقائق، ولماذا عشر دقائق؟ بل خمس دقائق؛ فالجميع كان يعرف ذلك، لكنّني لم أقبل، ولماذا لم أقبل؟ أ فلم نُبيّن نحن تلك المسائل؟ أ فلم تصل إلى مسامع الجميع؟ أ فلم يلتفت إليها الكلّ؟ فإذن، لماذا نحتاج للمناظرة؟ وهل المناظرة [هنا] إلاّ سعيًا لسحق الخصم والتفوّق عليه، ولإبراز الذات؟! لا يوجد شيء آخر هنا غير ذلك؛ فإن كانت هناك مسألة تحتاج إلى بيان، فقد بيّناها؛ وإن كان من المفروض أن توجد أذن صاغية، فقد صغت؛ وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة: «يا فلان، لا تُنزّل كلامك إلى هذه الدرجة، بل تحدّث بنحو عامّ، وكلّ من يتعيّن عليه أن يفهمه، فإنّه سيفهمه»، فقلت له: «يا سيّدي، إذا لم أنزّل كلامي، فإنّ الناس سيؤوّلونه، ويُبرّرونه»، فقال لي: «تكلّم بنحو عامّ، والذي يُريد أن يفهم كلامك سيفهمه، وأمّا الذي لا يُريد أن يفهمه، فإنّه سيُؤوّله، ولو حدّدتَ له مصداقه ألف مرّة»؛ وبالمناسبة، هذا الذي حصل ووقع.

  • لقد نقلت عين هذه المسألة التي حدّثتكم عنها الآن إلى إحدى النسوة اللواتي سمع كافّة الأحبّة باسمها؛ ومرادي هنا أن أبيّن لكم أنّها لم تكن امرأة عامّية أو جاهلة أو غير متعلّمة أو ساذجة؛ فحكيت لها ذلك المنام لكي تتفطّن؛ لكن، هل تعلمون بماذا أجابتني؟ قالت لي: «أجل، إنّ الحقّ الذي يوجد هناك [في الطرف المقابل] هو الذي لا يحتاج إلى توضيح؛ ولهذا، لا ينبغي عليك ...»، قلت لها: «عن ماذا تتحدّثين؟ أنا أقول لكِ إنّه قال لي: إنّ كلامك الحقّ لا يستوعبه أحد»، فقالت: «أجل، لقد أخبرك في المنام بهذا الأمر، لكنّ مراده هو الحقّ الموجود في ذلك المكان؛ وهو الذي لا يحتاج إلى بيان، ولا ينبغي البحث أو الحديث عنه»، فكانت تلجأ للتغافل، حيث أخبرتكم أنّها لم تكن عامّية؛ ولهذا، كانت بذاتها مصداقًا لكلامي؛ فقلت لها: «أجل، كلامك صحيح، ولا اعتراض لي!!».

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

14
  • لقد جاؤوا وسلبوا الخلافة من أمير المؤمنين بكلّ وضوح؛ فماذا فعل عندئذ؟ ما الذي قام به أمير المؤمنين؟ هل سلّ سيفه؟ قال لهم: لقد استحوذتم على الخلافة.. إلى جهنّم! فأنا أطلب من الله تعالى أن أجلس في بيتي من دون أن يكون لي أيّ شغل بكم، فأنتم الذين خسرتم عليًّا حينما وضعتم ذاك على منبر رسول الله؛ فقام عليه السلام، وتحدّث إلى الناس في بضعة خطب لكي يُتمّ الحجّة عليهم، ثمّ استدعى أنس بن مالك في مسجد المدينة لأجل أداء الشهادة، وحينما استنكف عن ذلك، ولم يشهد، قال له: «إن كان كلامك، ورفضك للشهادة، وادّعاؤك النسيان وعدم القدرة على التذكّر كاذبًا، فإنّني أدعو الله تعالى أن يُعميك، ويُسلّط عليك البرص، بحيث لا تستطيع أن تخفيه»؛ فما إن قام من مكانه، حتّى عمي، واستولى البرص على كافّة جبهته، بحيث كان يُنزل عمامته إلى عينيه، ومع ذلك، كان البرص باديًا. فقام أمير المؤمنين بكلّ ذلك؛ لكن، حينما رأى أنّ الناس لا يقبلون، وأنّهم يقولون: «يا سيّدي، نحن نريد أبا بكر، فما عساك أن تقول؟ نحن نريد عمر هذا، ولا نريدك»، قال لهم: «في أمان الله تعالى، لكم شأنكم، ولي شأني، نفّعكم الله تعالى بأبي بكر، ونفّعه بكم، لقد تركته لكم، فمبارك لكم!!».

  • أنا كنت مكلّفًا إلى هذا الحدّ، وقد أدّيت تكليفي، وأمّا ما يزيد عن ذلك، فهو عبارة عن مباهاة، وإبراز للذات، واستعراض للنفس؛ وهنا يتدخّل الشيطان. فإلى هذا المستوى، كان الأمر صائبًا؛ ولهذا، فإنّ الواجب على الإنسان ـ وهذه هي الجهة الأولى المرتبطة بالناس ـ أن يرى في كلّ عمل لأجل من يقوم به، ومن هو الذي سيسأله عنه؛ فهذا هو الذي ينبغي علينا أن نأخذه بعين الاعتبار؛ وحينما يصير الأمر بهذا النحو، هل سيبقى أيّ معنى للتباهي على الناس؟ ولماذا سنسعى حينئذ لإبراز الذات؟ فإن كنتَ تقوم بالعمل الكذائيّ لأجل الله تعالى، فلا يهمّ، سواء علم بذلك الناس أم لم يعلموا؛ وحينئذ، هل سيأتي على بال الإنسان مثل هذه الأفكار؟ وهل سيخطر على ذهنك أن تضع اسمك على الأعمال التي تُؤدّيها؟ أو أن يعلم بها عدد من الناس أيضًا؟ أو أن تتباهى بها على هذا وذاك؟ لا؛ لأنّك ترى أنّ المحاسب على الأعمال جهة أخرى يستوي لديها الظاهر والمستور، وهي مطّلعة على الأعمال قبل أن ترغب بأدائها، وتُراقب هذه الأعمال حين إنجازها، وتحتفظ بها لديها بعد القيام بها؛ وحينئذ، من هذا الذي تُريد أن تُطلعه عليها؟ ومن الذي تُريد أن تُبرز ذاتك أمامه؟ ومن الذي ترغب أن تتباهى عليه؟ سيضحى هذا الكلام بأجمعه مدعاةً للضحك والسخريّة.

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

15
  • أهمّية إخلاص النية قبل الشروع في أيّ عمل

  • فهذه مسألة، والمسألة الأخرى التي بقي علينا الحديث عنها أنّ الإنسان لن يعود بمقدوره حينئذ العراك مع أيّ أحد، سواءً قام هو بذلك العمل، أم قام به غيره؛ وقد سمعت بطبع أحد الكتب جرى تحقيقه من قبل البعض، لكن، ما إن بدأ نشره حتّى اعترض البعض بقولهم: «لقد بذلنا جهدًا كبيرًا، وفعلنا وفعلنا، لكي نُحقّق هذا الكتاب، وننشره، غير أنّكم أتيتم، ونشرتموه باسمكم».

  • ـ حسنًا أيّها السيّد، اذهب، وحقّق كتابًا آخر؛

  • ـ لا، نُريد أن يُنشر هذا الكتاب باسمنا نحن، ويجب أن تخرج هذه الموسوعة ـ أو أيّ شيء آخر ـ إلى السوق باسم هذه المؤسّسة وهذه الشخصيّة وهذه الجماعة؛ في حين أنّكم هدّمتم بفعلكم عملنا نحن.

  • إنّ الشيطان يقف خلف هذه المسألة بكلّ دقّة وعلم ومعرفة؛ إذ مهما زاد علمنا نحن، فإنّ علمه أزيد؛ ولنطمأنّ إلى هذا الأمر، فقد تعلّم أكثر منّا، اللهمّ إلاّ في حالة واحدة: إلاّ [عباد الله] المخلَصين؛ أي حينما يضع الإنسان قدمه في مقام الإخلاص، ويُصفّي نيته، ويُطهّرها؛ ففي ذلك الحين، ترتفع آهات الشيطان، ويعجز عن الوصول إلى الإنسان؛ ولهذا كان العظماء يقولون دائمًا: قبل أن تشرع في أيّ عمل، عليك أن تُصفّي نيتك، ولا تتسرّع في القيام به، إلاّ حينما تصير نيّتك صافية وطاهرة. إذا كان الرفقاء يتذكّرون، فإنّني قلت لكم في معرض حديثي عن المسائل والقواعد الإسلاميّة السياسيّة: إنّ المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه حينما كان يعقد لقاءً في تلك الأيّام مع بعض الناس بخصوص هذه المسائل، وكانوا يرجعون إليه للانضمام إلى ذلك التيّار الذي ظهر في سنة ۱٣٤٢ هجري شمسي، والخوض في المسائل التي حصلت قبل تلك السنّة، فإنّ أوّل كلام كان يقوله لهم هو: «هل تعلم يا فلان أنّ هذه الطريق محفوف بآلاف القضايا والمصاعب والمشاكل والمحن، وقد تتعرّض فيه للسجن والأذى والتعسّف والتعذيب؛ فهذه المسألة مكتنفة بالآلاف من المكاره، وهم لا يُوزّعون فيها الحلوى؛ فأنت الآن عندما تريد أن تضع قدمك هنا، ما هو الهدف الذي ترنو إليه من وراء ذلك؟ وحينما أردت اتّخاذ أوّل خطوة، ما هي النية التي حرّكتك في سرّك وضميرك؟ وهل فكّرت في أنّه قد لا يصل العمل الذي تقوم به إلى النتيجة المرجوّة؟ فما هو التفكير الذي أعملته تجاه هذا الأمر؟ ولو فرضنا أنّك بلغت الهدف المنشود، فجاؤوا ونحوّك جانبًا، وقد تكون ذهبت إلى السجن، وقاسيت التعذيب، وعانيت من مجموعة من المصاعب والمكاره طيلة هذه الفترة، وبعدما أوتيت هذه المسألة ثمارها، وأثمرت شجرة الثورة، جاؤوا عندك، وقالوا لك: نشكرك كثيرًا على لطفك وعلى المشاقّ التي تحمّلتها، حيث كان لوجودك تأثير بالغ في النجاح طيلة هذه المدّة، لكنّنا لا نحتاج إليك الآن، فتفضّل للجلوس بمنزلك، إلى أن يحين الوقت المناسب، وسنُنادي عليك؛ فإمّا أن نستعين بك، أو أنّ هناك من يتحمّل عنك هذه المسؤوليّة، ولن نُحملّك من الآن فصاعدًا هذه المشقّة؛ ففي هذه الحالة، ما هو الحال الذي سيتملّكك؟ فإذا كان حالك في ذلك الحين هو أنّك ستتأثّر، فلا تأت من الآن، لا تأت من الآن!

العلاقة بين أداء التكاليف الإلهيّة والتحرّز عن المراء والمباهاة

16
  • ولهذا، فإنّ وليّ الله تعالى يرغب في ذلك الخلوص التامّ والنية الصافية والطاهرة في جميع الخطوات والتصرّفات؛ فإن جرى الأمر بهذا النحو، فإنّ الله تعالى سيكون حاضرًا دائمًا، وكذلك ملائكته حاضرة دائمًا، وستُعين الإنسان على الدوام، ومهما كان الموقف الذي يتواجد فيه؛ فإن كان في عُسر وضيق، فإنّ هذا العسر سيكون محفوفًا بالملائكة، لا بالهوى والشيطان والنزوات والنفس الأمّارة وأمثال ذلك؛ وإن كان في يُسر وسعة، فإنّ هذا اليسر سيكون مكتنفًا برحمة الملائكة ولطفها؛ وإن كان يعيش النصر، فإنّ هذا النصر سيكون مصحوبًا بالملائكة، وإن كان يعيش الهزيمة، فإنّ وجوده بكافّة أبعاده سيكون مكتنفًا في هذه الهزيمة بحضور الله تعالى وملائكته؛ وحينئذ، سيصير هذا الإنسان سالكًا، ويضحى إنسانًا يُخضع طريقه وفهمه وسلوكه بأجمعه للمبادئ والمعايير.

  • سنسعى إن شاء الله تعالى لتكملة الحديث عن هذه المسألة خصوصًا، لنتطرّق بعد ذلك للمسألة الأهمّ المتمثّلة في مباهاة الإنسان لنفسه؛ وهي مسألة مستقلّة، ولها حسابها الخاصّ، حيث تحدّثنا عن مباهاة الإنسان للناس وثنائهم عليه، بينما يبقى الحديث عن مباهاته لنفسه، فكيف سيتسنّى لهنا تجاوز هذه المسائل الدقيقة؟ وكيف يُمكننا التعامل معها؟ ميعادنا إن شاء الله تعالى في الجلسة القادمة.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.