المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحاجة السلوك إلى التوفيق الإلهي
التوضيح
محور البحث هو قوله عليه السلام «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ» أي إنَّ التوفيق للقيام بالخير يأتي مِنَ الله تعالى، فلولا ذلك ما تمكّنا مِنْ فعل شيء. فتنبّه آية الله السيد محمد محسن الطهراني قدس سره للخطر الكامن في عدم ملاحظة ذلك والاعتقاد به وعدم جعله محور أفعالنا وأقوالنا وأفكارنا وخواطرنا، فانبرى لتنبيهنا على مواطن الخطر آخذًا بتعدادها، معتمدًا في ذلك على مبانٍ عرفانيّة وتوحيديّة ومستعينًا بأمثلة وقصص واقعيّة مستشهدًا بأشعار وأفعال الأولياء والعرفاء الشيعة. وهذا كلّه في الجنْبة الربوبيّة للمسألة والّتي اقتصرت عليها هذه المحاضرة.
هو العليم
الجنبة الربوبيّة لقوله «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ»
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٤۷
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
بعد أن طلب عنوان البصريّ مِنَ الإمام وصيّةً يعمل بموجبها ويستفيد منها في حياته اليوميّة، قال له الإمام الصادق عليه السلام: «أوصِيكَ بِتِسْعَةِ أشْيَاء ... وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ». ولقد بيّنتُ للإخوة بعض المطالب المتعلّقة بهذه الفقرة، على أنَّ الأمر المهمّ هنا هو ضرورة إعطاء هذه المواضيع أهميّتها المطلوبة، وإلّا فمجرد الاستماع إليها أو قراءتها لن يغني الإنسان شيئًا.
قبل الخوض في الوصايا التسع – الحيويّة والأساسيّة والّتي يجب على الإنسان مراعاتها في تعامله مع المجتمع وفي علاقاته الشخصيّة مِنْ أجل تحقيق سعادته في حياته – للإمام الصادق عليه السلام، علينا التركيز على تلك النكتة الّتي وردت في كلام الإمام عليه السلام حيث قال: «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ».
إنَّ كلام الإمام الصادق هذا يمكن أن يُدرس مِنْ جانبين: جانبه الأول يتمثّل في نسبة التوفيق – للعمل بتلك الوصايا – إلى الله تعالى، إذ يقول الإمام هنا أنَّ التوفيق يأتي مِنْ جانب الله. فإن وضع أحدهم قدمه في هذا الطريق وتوفّق للقيام ببعض الأعمال ورأى أنَّه مهتمّ بأمر الطريق وعمل على فصل مسيره عن مسير سائر الناس، فكلّ ذلك إنَّما يتمّ لأنّ رعاية الله وتوفيقه قد شمله، وهذا ما نلاحظه في أنفسنا بكلّ وضوح، ولقد حصل مثل ذلك – بكلّ تأكيد – لكلّ واحد منَّا بشكل أو بآخر في حياته، وقد اتضح لنا أنَّ حصول ذلك إنّما كان بتوفيقٍ مِنَ الله.
ميزة مدرسة العرفان أنّها ترى بعين الباطن والحقيقة
بينما كنتُ أنا وصديقي القدير والعزيز في طريقنا إلى هنا، قال لي أمرًا لطيفًا جدّا وهو أنّه: علينا – فيما أعطانا الله مِنْ عمر – أن نكون شاكرين لأنّ المرحوم السيِّد الحدّاد كان قد أمر المرحوم العلّامة بالذهاب إلى إيران، حيث قال له: تستطيع أن تصل هناك إلى ما يمكن أن تصل إليه. ويبدو أنَّ المرحوم العلاّمة ذكر هذا الأمر في كتاب «الروح المجرد» باختصار۱. فلو أنّ المرحوم العلّامة بقي في النجف، فمِنْ غير المعلوم إن كانت هذه المواضيع ستصبح في متناول أيدينا، إذ لعلّ الظروف كانت ستختلف حينها، ولعلّ الأمر كان سيأخذ شكلًا آخر، فلا أَقَل أنّنا حصلنا بقدومه إلى هنا على هذه الفائدة الّتي نشهدها الآن. فقدومه ونشره لهذه الثقافة هو الّذي جعلنا نَنْهَلُ الآن مِنْ نبع فيض الأنوار الإلهيّة. فعلينا أن نشكر الله لأنّه مَنَّ علينا ووضع هذه المطالب في متناول أيدينا.
وها نحن نلمس بكلّ وجودنا الفرق بين هذه المدرسة وسائر المدارس والفِرَق الأخرى، فهذا الفرق هو فرق ماهويّ أي فرق جوهريّ .. ما الّذي يعنيه الفرق الجوهريّ ؟ إنَّه يعني [أن الفرق بين هذه المدرسة وغيرها] كالفرق بين الحجر العادي وحجر الزمرّد؛ فإنّك لن تشتري طنّا مِنَ الحجر العادي ولو بخمسة دنانير، أمّا تلك القطعة الصغيرة مِنَ الزُمرّد أو حجر الماس، فإنّها لا تقدّر بثمن في بعض الأحيان .. هذا هو معنى الاختلاف الماهويّ .. إنَّه يعني الاختلاف الجوهريّ والاختلاف في الأصل والأساس.
[فالفرق بين هذه المدرسة وغيرها] يعود إلى الاختلاف في طبيعة الرؤية. وسبب اختلاف الرؤية يعود إلى تلك المطالب الّتي قرأها الإخوة في الجزء الثاني مِنْ كتاب أسرار الملكوت۱؛ وهي أنّ قلب العارف وضميره متّصل بمصدر الإرادة والمشيئة، حيث تكون النَّفْس خارجة بشكل كامل عن الطور البشريّ، فلا الأفكار البشريّة ولا الخيالات والأوهام العاديّة قادرة على إغوائه، وقد أضحى مسيره واضحًا ومبيّنًا ببرهانٍ مِنْ نور الله.
فأين هذا الرجل مِنْ ذاك الّذي تستند أفكاره على تخيّلات مبنيّة على ما يصله مِنْ معلوماتٍ منها الصحيح ومنها السقيم. إنّ الإدراكات الّتي يحصّلها الإنسان بعينه وأذنه، وبشكل عام فإنّ إدراكاته الظاهريّة كلّها قد تكون خاطئة أحيانًا ومصيبة أحيانًا أخرى. فقد يجلس أمامك رجل ذو هيئةٍ أنيقة ومرتّبة وبمظهر لا يمكنك معه أن تتوقع أنّه يقوم بعمل خاطئ أو محرّم، ولا ترى منه أيَّ تصرّف غير لائق، ولا تسمع منه أيّ كلام باطل، وعندما تتكلّم معه وترافقه تجده رجلًا رزينًا، غير أنَّك لا تستطيع أن تعرف أيّ شيء عن باطنه وعمّا يخفيه ويفعله في خلواته. فعينك وأذنك حينئذ هما مصدر جميع تصوّراتك عنه، [فجميع تصوّراتك عنه] تعتمد على ما تشاهده منه، وبناء على ذلك تحكم بتقواه وعدالته .. حتّى إذا مرّت السنين الطوال وتمكّنَ مِنْ تحقيق هدفه النحس والمقيت، فستعرف عندها أيّ نوع مِنَ الرجال كان.
لزوم الحيطة والحذر؛ قصة الطالب الجاسوس والرئيس المنحرف
كنتُ قد ذهبت يومًا، وذلك قبل عشر أو اثني عشر عامًا، لزيارة أحد العظماء، وكان ذلك قبل وفاته بأيام، وهو رجل قدير للغاية وله إلمام ببعض العلوم وله حالاتٌ [معنويّة] جيّدة، فالرجل كان يختلف عن غيره مِنَ الناس. ودار الحديث عن لزوم الحيطة والحذر في بعض المواقف، فقال الرجل: عندما كنتُ في النجف، كان هنالك طالب معروف بين الآخرين بكثرة علمه وحدّة ذكائه، وكان صاحب ذوق سليم وقابليّة لفهم الأمور، وكان مِنْ أبرز المستشكلين في دروس المرحوم الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ وغيره مِنْ عظماء النجف، وكانت تربطني به علاقة صداقة، فعندما نلتقي كنَّا نتبادل التحيّة والاستفسار عن أحوال بعضنا البعض، واسمه الشيخ علِيّ .. كما كان الرجل مَضْرَبًا للأمثال في زهده وتقواه وصلاحه وحسن خلقه وخصاله في مدينة النجف، فإن أراد أحدهم أن يضرب مثلًا في التهجّد وإحياء الليل والزهد والاعراض عن الدنيا كان يَذكر الشيخ علِيّ كمصداق، وإن كان أحدهم يريد الحديث عن حدّة الذكاء وقابليّة الفهم كان يستشهد بالشيخ علِيّ – إنَّ لهذا الرجل قصّة طويلة لا أدري إن كنتُ قد حكيتها للإخوة أم لا – ثمّ يقول هذا الرجل القدير: وبعد الحرب مع الانكليز واحتلالهم للعراق قاموا باعتقال العلماء الّذين شاركوا في تلك الحرب وأبعدوهم إلى أماكن مختلفة، وكان أحد أصدقائي مِنْ ضمن المُبعدين إلى إحدى الدول – وهي الهند على ما يبدو – فقال لي هذا الصديق: بينما كنتُ جالسًا يومًا في معسكر احتُجِزْنا فيه في منطقة نائية، جاءني رجل وجلس إلى جانبي وأخذ يحاورني، فوجدته يمتلك نصيبًا مِنَ العلم وعنده اطّلاع على علم الفقه. ثمّ استرسلنا في الحديث فورد في ميدان البحث العلمي بكلّ كفاءة واتقان. ثمّ استوقفتني نبرة صوته، فقلت له: ألستَ الشيخ علِيّ ؟! فقال: نعم .. إلّا أنَّه كان ذا لحية وعلى رأسه عمامة في ذلك الوقت [عندما كان في النجف]، أمّا الآن [في المعسكر] فهو حليق اللحية وعلى رأسه قبعة بدلًا عن العمامة .. كما أنَّه كان يمسك عصًا بيده، وها قد استبدلها بشيء آخر. وقد تبيّن بعد مدّة أنَّ ذلك الرجل الّذي كان يتمتّع بكلّ تلك الصفات لم يكن سوى جاسوس إنكليزيّ.
فمَنْ اكتشف هذا الأمر في ذلك الزمان ؟ لم يكتشفه حتّى رجل واحد في ذلك الوقت. أترون كم هو أمر عجيب، وكم هو الاستعمار قويّ، وكيف يعمل بشكل منظّم ومدروس ودقيق ومبرمج ! فهل تتصوّرون أنَّهم عندما يريدون أن يزرعوا طالبًا في مدارسنا العلميّة سيرسلون طالبًا حليق اللحيّة ومعه أدوات لهوه ولعبه .. كلّا، لأنَّهم إن فعلوا ذلك سيُكتشف أمرهم فورًا.
ولماذا [يتّبعون هذه الأساليب] ؟ إنَّهم يقومون بذلك لأنَّ الأمور تجري وفقاً لأسبابها الظاهريّة .. فهل يمكن أن يحقّقوا هدفهم الّذي يبغونه إن رتّبوا الأسباب الظاهريّة بخلاف الهدف، كلّا لا يمكن أن يتمّ ذلك، لذا تراهم يجلبون طالبًا ذا مظهرٍ وقور يفوق بوقاره وقار الآخرين، ويؤدِّي صلاته أفضل مِنَ الآخرين، ويمدّ كلمة {ولا الضالين} في صلاته، ويُخرج حرف العين في {إيّاك نعبد} مِنْ قعر الحلق وكأنَّها تخرج مِنْ بطنه .. نعم، إنَّهم يتصرفون بهذا الشكل في المجتمع، وينخرطون فيه، ويتعلّمون كلّ شيء عن المذهب ويطّلعون على أسراره، ويتعرّفون على الأفراد. وكذلك هي الحال في هذه الأيّام أيضًا، فلم يختلف الأمر شيئًا .. فهم يقومون كلّ يوم بوضع الخطط والبرامج بأشكال مختلفة وفي المجالات المختلفة.
وهذا ما شاهدناه بأنفسنا، فرأينا كيف جاء أناس مِنْ هذا القبيل واستغلّوا دماء المضحّين بأنفسهم في هذا البلد مِنْ أجل الإسلام، الّذين قارعوا نظام الحكم الطاغوتيّ واستشهدوا مِنْ أجل رفع راية الإسلام على هذه الأرض. ثمّ رأينا أيّ نوع مِنَ الناس جاء وجلس على هذه المائدة، وأيّ بلاء صُبّ على رأس هذه الأمّة، فتظاهروا باعتناق عقيدة هذه الأمّة وانتهاج نهج زعمائها. ولقد رأينا بأنفسنا أيّة خيانة قد ارتكبوا بحقّ الأمّة، وأيّ مصائب أنزلوها، [وأيّة خسارة تسبّبوا بها، تلك الخسارة] الّتي قال عنها المرحوم العلّامة أنَّها لا تُجبر؛ وذلك عندما أشار إلى صورة ذلك الرجل المنشورة في إحدى الجرائد، ولا أدري إن كان لا يزال حيّا أم لا، [وأقصد بذلك] تلك الحادثة الّتي كنتُ قد حدثتكم عنها حيث حصل أن كنَّا عائدين مِنَ المسجد فأشار العلّامة إلى الصورة بعصاه وقال لي: من هذا ؟ قلتُ له: إنَّ اسمه كذا، وقد ظهر على الساحة مؤخّرًا – فهو لم يكن معروفًا قبل ذلك الوقت، وهو الّذي أصبح رئيسًا للجمهوريّة فيما بعد – فنظر إلى الصورة نظرة ثمّ قال: سينزل على الأمّة بسبب هذا الرجل بلاء غير قابل للجبر. فمَنْ كان يعلم ما الّذي سيحصل .. ومَنْ كان يعرف هذا الرجل المنحرف الّذي أمضى سنوات مِنْ عمره بين طلاب الحوزة العلميّة في النجف .. ومِنْ قِبَل مَنْ قد أُرسل ؟ لا يمكننا أن نعرف ذلك، لأنَّنا نطّلع على الأمور مِنْ خلال ظواهرها؛ فإن كان ظاهر الرجل مرتّبًا فمَنْ ذا الّذي يستطيع أن يعلم شيئًا عمّا يجري في باطنه ؟ وإن كان ظاهره مضلِّلًا فمِنْ أين للمرء أن يعرف حقيقته ؟
فهل يمكننا أن نطّلع على الباطن بمجرد مطالعة الكتب ! فلو كان الأمر كذلك لافتُضح أمر أولئك الناس على رؤوس الأشهاد منذ يومهم الأوّل، لا بعد مرور السنوات وظهور الفتن وانقضاء الأمر وتبيان الخديعة الّتي انخدعت بها الناس. نعم لو كان الأمر يتمّ بمجرد الاستماع إلى الخطب ومطالعة الروايات والتاريخ [لما حصل ما حصل]. إلّا أنَّ كلّ ذلك يساعد الإنسان على نضوجه الفكريّ وعلى أخذ جانب الحيطة والحذر.
ومثال [النضوج الفكريّ] هو ما حصل لكم الآن، إذ عندما طرحت عليكم هذا الموضوع، فإنَّ رؤيةً جديدةً ونظرةً أخرى للأمور قد حصلت لكم. فهي رؤية؛ ستجعلكم تتريّثون وتتأمّلون قليلًا في كلّ أمر يُطرح عليكم وتجهلونه. فلا تتسرّعوا في اتخاذ القرار بشأن ما تجهلونه ما لم تقوموا بالتحقيق اللازم. وستجعلكم مِمّن لا يسلّم أمره لأحد لمجرد كونه يجيد الخطابة ويستخدم ألفاظًا جذّابة في كلامه، بل ستتأمّلون جيّدًا فيما يقوله وتزنون كلامه بدقّة أكبر [مِنْ ذي قَبْل] وتقومون بالمقارنة المطلوبة قبل أن تحكموا على الموضوع.
فإن كان لهذا المقدار مِنَ التأمّل عبرة للإنسان ففيه الكفاية .. فلم يدّعي أحد أنَّ الله لا يرضى مِنْ عباده مستوىً أقلّ مِنْ معرفة الغيب والاطّلاع على النفوس؛ فإن كان البعض يمتلك هذه القابليّة إلّا أنّ الآخرين لا يمتلكونها .. فقد يَمُنّ الله على البعض بهذا اللطف وهذه العناية، ويحجبها عن الآخرين، فإن كان الله قد حجبها عن البعض إلّا أنّه أوجد لهم بديلًا [وهو التفكير] ..
فأين ذهب العقل والتفكير والتأمّل ؟ وما هو دور تلك المباني الّتي سطّرها العظماء مِنْ قديم الزمان في كتبهم وطرحوها في أحاديثهم ؟ لقد كان كلّ ذلك مِنْ أجل أن يقتدر كلٌّ منّا على التمييز بين الواقع والمجاز في القضايا الّتي نواجهها. فهل كانت تلك الكتب حتّى تُوضع في المكاتب ويتجمّع عليها الغبار، أم كانت مِنْ أجل أن يستفيد منها المرء في حياته؟!
لزوم الحيطة والحذر؛ خطورة الاتّكاء على المكاشفة والمنام
لقد حصلت مثل هذه القضايا معي شخصيّا بعد ارتحال المرحوم العلّامة. فكم سمعنا مِنَ المرحوم العلّامة ضرورة عدم الاعتناء بالمنامات، وذلك لأنّ المنامات على نوعين منها الرحمانيّ ومنها الشيطانيّ. نعم، كم سمعنا منه كلامًا حول هذا الموضوع، ولعلّه واحد مِنَ المواضيع القلائل الّتي كرّر إنذار تلامذته مِنْ خطرها وحذّرهم مِنَ الوقوع في شباكها المهلكة. كان قد حذّر مِنْ خطر المنامات والمكاشفات، على أنَّ خطر المكاشفات أكبر مِنْ خطر المنامات؛ فمَنْ يرى منامًا يعلم أنّه منامٌ، لأنّه يكون في حالة نوم [فيرى شيئًا] ثمّ يستيقظ، فيدلّه هذا على أنَّ الّذي رآه كان منامًا، فلا يُعوّل عليه كثيرًا لأنَّه يحتمل بطلانه. أمّا المكاشفة فأمرها يختلف عن المنام، إذ النفس تتعلّق بما تراه بشكل أكبر، وذلك لأنَّه عندما ينكشف لأحدنا أمرٌ فهو يشاهد ما يقع أمامه بشكلٍ ملموسٍ ووجدانيٍّ، فهو يشبه رؤيتنا لبعضنا نحن الجالسون الآن في هذا المجلس، فهذا هو الكشف والشهود الّذي يحصل في نفس وضمير الإنسان، فهو يجعل الإنسان يتعلّق بما يراه ويحسبه أمرًا واقعيّا قد حصل في عالم الواقع الخارجيّ، فكيف له حينئذ أن يحتمل بطلان ما كان قد رآه ؟
فكم تحدّث المرحوم العلّامة عن هذا الموضوع في حياته .. غير أنَّه ما إن توسّد الأرض حتّى ابْتُلي الآخرون بما كان قد حذّر منه في حياته؛ فجاء أحدهم وقال أنّه قد رأى منامًا .. وقال الثاني شيئًا آخر .. ولعلّهم كانوا صادقين ولم يتعمّدوا الكذب، غير أنَّ بعض ما كان يُنقل كان كذبًا وافتراءً. وكنتُ قد أشرت إلى بعضٍ منها، وذكرتُ عدة نماذج، لا بنيّة بيان الجزئيّات – فذلك لا يتناسب مع شأن الكتاب الّذي ذكرتهم فيه۱ – بل ذكرتُ اضطرارًا مصداقين أو ثلاثة منها لأثبتَ براءة هذه المدرسة مِنْ تلك الانحرافات والأباطيل الّتي حصلت فيها، ولكي أُبيّن الأسباب الحقيقيّة لحصول الانحرافات، ولكي أكشف طبيعة الناس الّذين تسبّبوا في حصولها، وإلّا فلا شأن لي بأصحاب الخزعبلات والتُّرّهات وبمَنْ يتكلّم بالتفاهات والحماقات والأباطيل، فأمثال هذه الأشياء موجودة منذ زمن آدم إلى زماننا الحاضر، وستستمرّ على ما هي عليه في المستقبل، إلى أن يتبدّل العالم إلى عالم صدقٍ وتتجّه النفوس نحو الإخلاص وتتّبع الضمائر طريق الحق بدلًا عن طريق الانحراف .. نعم، سيكون الكثير مِنْ هذه الترّهات والأمور الباطلة [حتّى ذلك الحين]، فنرى مَنْ يحكي عن منام رآه بحق شخص، ثمّ يحكي في الغد عن منام رآه بحق آخر، والحال أنّه ليس معلومًا إن كانت تلك المنامات صادقة أم كاذبة.
كنتُ في مجلسٍ يحضره الكثير مِنَ الناس، كان منهم طلبة العلوم الدينيّة وغيرهم، فحكى أحد الحاضرين منامًا قد رآه بحق شخص، يبيّن فيه عظمة شأن ذلك الرجل ومكانته، وقد نال هذا المنام إعجاب واستحسان جميع الحاضرين. ثمّ تمّ نقل المنام إلى الآخرين. وفيما بعد عرفتُ أنَّ المنام كان كاذبًا ولا أساس له مِنَ الصحّة. أتلاحظون كيف تجري الأمور .. فعندما يأتي أحدهم ويقول أنَّه رأى منامًا، فمِنْ أين لك أن تَعرف صحّة ذلك المنام مِنْ سُقمه، خاصّة مع وجود كلّ هذه الأكاذيب الّتي نسمعها مِنَ الآخرين كلّ يوم، فيستطيع ذلك الكذّاب الّذي يكذّب في القضايا اليوميّة أن يكذّب في نقله لمنامٍ أيضًا.
قال لي أحدهم، وهو الرجل نفسه الّذي أخبرني أنّه اخترع هذه المسألة، قال: ذهبتُ إلى فلان – وذكر لي اسمه، وهو رجل يسكن إحدى المدن ولا يزال على قيد الحياة – وذكرتُ له مكاشفةً مِنْ تلك المكاشفات ... ومِنَ الواضح أنَّ هذا الناقل كان على علم بمسائل المكاشفات، وكان ذا خبرة واطّلاع في هذا المجال، يعني أنه لم يكن أجنبيًا عن هذه المطالب ... ثمّ يقول: والمكاشفة هي أنّني كنتُ في حرم الإمام الرضا عليه السلام في أحد الأيّام مشغولًا بقراءة الزيارة وأداء بعض الأعمال، فتغيّر حالي وحصلت لي مكاشفة، فرأيتك بهيئة خاصّة [وسمعت] توصية بحقّك. ففرح الرجل وابتهج كثيرًا وضحك بملئ فمه حتّى بدت نواجذه، وقال: نعم نعم، لا بدّ وأن يكون الأمر كذلك!
ثم جاءني ناقل المكاشفة هذا لينتقد ذلك الرجل ويقول لي: لقد كانت مكاشفةً كاذبة، فأنا لم أرَ مكاشفة واحدة طوال عمري لكي تكون هذه مكاشفتي الثانية حتّى، بل لا أعرف شيئًا عن طبيعة المكاشفات وكيف تكون، بل لم أرَ حتّى منامًا في حياتي إلّا ما ندر.
أتلاحظون كم الأمر عجيب ! فلماذا خُدع ذلك الرجل ؟ خُدع لأنَّه رأى أمامه رجلًا ذا مظهر مناسب لا يحتمل منه الكذب. هذا مِنْ جهة، ومِنْ جهة أخرى أنَّ المكاشفة كانت وفق مراده، وهذا هو الأمر المهمّ في القضيّة؛ فلو أنَّ هذا الرجل الناقل قد حكى له مكاشفة لغير صالحه كيف ستكون ردّة فعله حينها ؟! لا شكّ أنَّه سينفعل ويتجهّم وجهه ويطرده ويقول له: إنّها مكاشفة شيطانيّة، فلا تعد لمثل هذا الشيء، ولا يخدعنّك الشيطان، وعليك أن تترك هذه الأمور.
ذات يوم جاءتني إحدى النساء المحترمات للغاية – وهي امرأة مؤمنة ومتديّنة أسألُ الله أن يحفظها ويطيل في عمرها – وقالت لي أنّها رأتْ أمرًا ما، وحكت لي عن ذلك الأمر. فقلتُ لها: لا تخبري أحدًا بما رأيتِ. فقالتْ: لا بدّ لي مِنْ نقل هذا الأمر. قلتُ لها: لا تذكري ذلك لأنَّه لن يجدي نفعًا، فالأمر واضح بالنسبة لي، وها أنا أخبرك عن نتيجته مسبقًا بأنّ نقله لن يُجدي نفعًا ولن تحققي ما تريدينه [إن نقلتيه]، بل سيكون له تأثير سلبيّ – وإنّه لأمر عجيب حقّا أن يكون له تأثيرٌ سلبيٌّ – فلم تستجب المرأة لما قلته لها، وذهبتْ إلى مَنْ كانتْ ترجو منه خيرًا ! ونقلتْ له الحكاية. فأجابها ذلك الرجل: لا يمكن التعويل على المشاهدات والمكاشفات لأنَّها قد تكون شيطانيّة، وعليكِ أن تعرفي أنَّ الشيطان قد يتجلّى للإنسان في المنام أو المشاهدات حتّى على هيئة الإمام عليه السلام، وقد ذكر العظماء ذلك، فالأخذ [بالمكاشفة والمنام] باطل، وإن قمتِ بنقله إلى الآخرين سيحصل لك كذا وكذا. فعندما عادت إليَّ، قلتُ لها: هنيئًا لك، أكان ذلك أحسن لك ؟!
المؤمن ينظر بنور الله وغيرهم ينظرون بأوهامهم
أرأيتم على أيّ أساس نقوم ببناء أفكارنا، إنَّنا نبنيها على أساس الخيالات والأوهام، نعم، على أساس تلك الأوهام الّتي تروق لنا وتعود علينا باللذّة النفسيّة. فالصحيح بنظرنا هو الشيء الّذي يقوّي نفوسنا لا الّذي يرميها أرضًا، والسقيم بنظرنا هو الشيء الّذي يخدش شخصيتنا، وأنّ الأمر الحقيقيّ والواقعيّ بالنسبة لنا هو ما يؤدّي إلى رفع مكانتنا بين الآخرين. وكما قال الشاعر سعدي الشيرازيّ:
از صحبت دوستي برنجم | *** | كاخلاق بدم حسن نمايد |
عيبم هنر و كمال بيند | *** | خارم گل و ياسمن نمايد۱ |
[يقول: إنَّني أتأذّى مِنْ مصاحبة الصديق الّذي يُظهر أخلاقي السيّئة على أنَّها حسنة، والّذي يرى عيوبي أنَّها فضل وكمال، ويُظهر أشواكي على أنَّها ورد الياسمين]
فهو يقول: أنا أتأذّى بما يمتدحني به هذا الصديق الّذي يعدّ أخلاقي القبيحة حسنة، ويعمل على تبرير عيوبي بل ويحسبها كمالًا لي، فأنا أتأذّى وأعاني مِنْ هكذا صديق.
فتلك هي رؤية الناس للأمور، وتلك هي طبيعة علومهم الّتي حصّلوها مِنْ ارتباطهم بذلك النوع مِنَ الناس، وتلك هي مدارسهم وأفكارهم ومدركاتهم الّتي تبلورت وحصلت لهم مِنْ جرّاء تلك المعاملات والرؤى.
جاءني أحدهم يومًا وقال لي: لقد رأيتك في المنام بهذه الكيفيّة. فقلتُ له: أنت الّذي رأيتني في المنام، أمّا أنا فلم أرَ شيئًا ممّا قلتَه، فمتى ما رأيتُ مثلما رأيتَ يمكننا الارتباط بعلاقة أخوّة وصداقة. قال: فما معنى ما رأيتُه في المنام ؟ قلتُ له: إنَّ أمره لا يعنيني في شيء، أنت الّذي رأيتَ المنام فالأمر يتعلّق بك أنت لا بي، وهو لا يوجب عليّ القيام بأيّ تكليف، نعم، متى ما رأيتُ منامًا يتطابق مع منامك سأنظر عندها ما الّذي يتوجّب عليّ فعله.
على المرء أن يكون يقظاً وألّا يُخدع مِنَ الآخرين، وعليه ألّا يغترّ بكلام الناس عنه؛ فأذواق الناس مختلفة وأغراضهم متنوعة، فلا يمكن أن تكون جميع تلك الأغراض رحمانيّة بل يوجد بينها ما هو شيطانيّ أيضًا. أتعلم لأيّ غرض هو يمتدحك الآن، إنَّ غرضه إن لم يكن شيطانيّاً فهو غرض مبنيّ على الهوى والسذاجة والخيالات والأوهام .. فتسعة وتسعون بالمائة مِنْ تلك الأغراض مبنيّة على الخيال والوهم وما إلى ذلك مِنْ أمور.
وهنا يأتي قوله عليه السلام: المؤمن ينظر بنور الله۱. فالمؤمن هو الرجل الّذي فتح الله له عينيه ومنحه بصيرة في قلبه، لا كلّ مَنْ قرأ كتابًا ولا كلّ مَنْ لَبِسَ زيّا خاصّا. كلّا يا أعزّائي، فنحن قد نُخدع وتنطلي علينا خدع الآخرين وتغمرنا حتّى أخمص أقدامنا ! أيّها السادة، إنَّ المؤمن هو الرجل المشبّع بالإيمان والّذي لا يعتني بالمظهر الخارجيّ المرتّب للآخرين، بل هو ينظر إلى باطن الآخر وقلبه ونيّته المبيّتة فيه. هذا هو معنى أنّه ينظر بنور الله. فكما أنّ الله لا يمكن أن يخطئ فكذلك مَنْ ينظر بنوره. إنّ المؤمن يعلم إن كان مَنْ يتكلّم معه يقصد خداعه، وإن كان مَنْ يمتدحه يبيّت في نفسه غرضًا، وإن كان مَنْ يعدّد له حسناته يهدف إلى شيء مِنْ وراء ذلك. إنَّ المؤمن يعلم ما يخفيه الطرف المقابل في نفسه، لذا تراه ينظر إلى وجه الطرف المقابل حتّى إذا انتهى مِنْ كلامه صرف وجهه عنه .. فترى الرجل يقول حينئذ: ها قد مدحتك أيّها السيِّد ! فيقول له: لقد سمعتُ مدحتك، فإنّك مدحتني بكذا وكذا، ولقد قبلتُ منك هذا المدح، فانصرف الآن في حال سبيلك. أجل، مثل هذا ينظر بنور الله، فهو يرى حقائق الأمور.
لا يمكن فعل الخير إلّا بتوفيق من الله
ولهذا السبب نرى الإمام الصادق عليه السلام يقول لعنوان: «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ». فإنَّ التوفيق للقيام بالخير يأتي مِنَ الله، فهل تعتقد أنَّك تستطيع بنفسك أن تمتنع عن الأمور الّتي ترغب فيها وتتوق إليها ؟! وهل تعتقد أنَّك تستطيع بنفسك أن تبتعد خطوةً واحدةً عمّا يتعارض مع ميولك وأهوائك النفسيّة، لتتفاخر وتقول: الحمد لله أنّني لم أرتكب عملًا محرّمًا هذا اليوم ؟! كلّا، وإنّما تمّ كلّ ذلك بتوفيق مِنَ الله، فلو شاء الله أن يسلبك ذلك التوفيق لَما تمكّنت مِنَ الامتناع عن الحرام مهما حاولت وبذلت مِنْ جهد؛ وحينئذٍ [ماذا ستقول]، أفلم تكن الرجل الّذي كان يدّعي كلّ تلك الادّعاءات، فما بالك إذن قد عجزت عن مقاومة الحرام، وما الّذي حصل لتتصرّف كطفل ذي سنتين فاقد للإرادة والاختيار أمام هذه الأمور، لتقع في مثل تلك الورطة ؟! حسناً، تفضل الآن واخرج من هذه الورطة بنفسك، ألم تدّعِ أنك تقدر على ذلك بنفسك، فتفضل إذن ؟! إنّ هذا يدعو الإنسان إلى التعجّب والقول: كيف كانت طبيعة تفكيري حتّى الآن، فكنتُ أرى نفسي قادرًا على تجنّب ذلك الأمر، فكيف يمكن تفسير ما حصل ؟!
لقد سمعتُ مِنْ أحد تلامذة المرحوم العلّامة في ذلك الزمان عبارة ارتعدتْ لها فرائصي حيث قال: إنَّني أرى نفسي – مِنْ بين جميع تلامذة العلّامة – مالكًا للّياقة والقابليّة اللازمتين للوصول إلى أعلى الدرجات والفوز بذلك المقام. فقلتُ: يا للهول ! إنَّ وضعك هذا ينذر بالخطر. فاستاء منِّي كثيرًا. وقلتُ له: تُب عن كلامك هذا واستغفر الله منه، واسجد لله وابكِ على نفسك بكاءً شديدًا، فما هذا الكلام الّذي تقوله، أترى نفسك قادرة ومستعدة ؟! غير أنَّه لم يستمع إلى كلامي، واستمرّ على ذلك النهج حتّى تضخّمت أنانيّته وكبرتْ نفسه، فوصل به الحدّ إلى الوقوف بوجه أستاذه، ممّا أدَّى إلى طرده، ثمّ وصل به المقام بعد ذلك إلى أن يكتب رسائل إلى المرحوم العلّامة في أواخر حياته، تلك الرسائل الّتي كان جبيني يتصبّب منها عرقًا خجلاً ممّا كنتُ أقرؤه فيها مِنْ ألفاظ، فكنتُ أقول وأنا أقرؤها: هل يكون الرجل هو مَنْ كتب هذه الرسائل بالفعل، أم أنّ كاتبها رجل آخر.
فإنَّ الأمر جادٌّ ولا يحتمل المزاح، فما معنى أن تقول: إنَّني أرى في نفسي الاستعداد والقابليّة ! أيّها الأحمق فلو أنّك بدل أن تفوّه بهذه الكلمات كنتَ قد قرأت عبارات الإمام الصادق عليه السلام في حديث عنوان البصريّ، وتمعنّت فيها جيّدًا، لَما جاءك ذلك اليوم الّذي حلّ عليك فيه البؤس والهلاك فـ {خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبينُ}۱ .. هذه هي عاقبته.
ولهذا السبب نرى الإمام الصادق عليه السلام يقول: عليك أن تعرف أوّلًا – وقبل كلّ شيء – أنَّ التوفيق لفعل الخير يأتي مِنَ الله. وها أنا أقول لكم أيّها الإخوة؛ إن جاءكم يومٌ شعرتم فيه أنَّ ما تقومون به مِنْ خير وما تخطّونه في طريق الخير قد تمّ بواسطتكم [وقدرتكم الخاصّة]، فاعلموا أنَّ هذا الشعور هو جرس إنذار لكم .. وإن حلّ اليوم واللحظة الّتي ترون فيها أنَّ ما قمتم به مِنْ خير لم يأت مِنْ ناحيتكم، بل كان بتوفيق مِنَ الله، وكان مِنَ الممكن أن يمنحه لغيركم ولكنّه خصّكم به دون سواكم، عليكم أن تشكروا الله على هذه النعمة، كما كان المرحوم الحاجّ هادي الأبهريّ رحمه الله يقول: (إلهي إن مننت علينا بالخير فبيتك عامر، وإن لم تفعل فنحن عبيدك). نعم، هذا ما كان يقوله؛ فالله هو الّذي منحنا التوفيق وبيته عامر .. [فإن شعرنا بهذا] سنعلم حينها أنَّ الأمور تجري على ما يرام وأنّنا نسلك طريق التكامل.
ولكنَّ الخطر يكمن هنا – وها أنا أعود وأكرّر ما قلته – وهو أن ننسب إلى أنفسنا أيّ فعلِ خيرٍ أو نيّة خيّرة أو عمل يتوافق مع رضا الله تعالى. ولهذا السبب نرى العظماء يوصون تلامذتهم بالمحاسبة والاستغفار في الليل حيث قالوا: على السالك – قبل أن يخلد إلى النوم – أن يراجع تصرفاته الّتي أقدم عليها منذ نهوضه مِنَ النوم صباحًا حتّى المساء. وذلك ليرى ما الّذي فعله طوال يومه؛ فإن كان عمله متوافقًا مع ما يرتضيه الله، فعليه أن يحمد الله ويشكره ويتوجّه إليه قائلًا: إلهي أنت الّذي وفقتني لأخطو خطوة في طريق الخير، فجعلتني أكتب صفحة أو أنقل للآخرين موضوعًا أو أُصلح ذاتِ بينٍ أو أُوَفِّق بين متخاصمين أو أضع حدّاً لغائلة .. فأنت الّذي وفقتني لذلك يا ربِّ، فلك الحمد على ذلك، فلولا ما منحتنيه مِنْ توفيق لَما كان لكلامي أثر عليهم ولو تكلّمت لعشر ساعات بدل النصف ساعة تلك. فعلينا أن نستحضر كلّ ذلك في أذهاننا ومِنْ ثَمَّ نخلد إلى النوم. لا أن نتفوّه بكلمات كـ (الحمد لك يا ربِّ على ما وفقّتني إليه) باللسان فقط، فهذا ليس إقرارًا واقعيًّا بالتوفيق ، بل هو إقرار شكليّ ونفاقيّ وقول مزوّر يُراد به خِداع الله. إنَّ الشكر الواقعيّ هو في إرجاع كلّ ما يستحقّ الحمد إلى صاحب الحمد الحقيقيّ، فيُنسب إليه ويُعْزى له، ثمّ نخلد إلى النوم على هذا الحال، وحينئذ يكون هذا النوم نوم الأنبياء. كما علينا أن نستغفر الله على كلّ عمل خاطئ صدر منّا وارتكبناه في يومنا.
الخطر الكامن في عمل الخير أكبر منه في الذنب
إلّا أنَّ الخطر الكامن في عمل الخير أكبر منه في الذنب، فارتكاب الذنب لا خطر كبير فيه [بالقياس إلى فعل الخير]، ولهذا يقول الله للعبد المذنب: إن استغفرتني سأعفو عنك سريعًا. كما أنَّ مرتكب الخطأ يعرف أنَّه قد أخطأ، فيخجل ويواجه الله وهو مستحٍ ممّا صدر منه.
نعم، إنَّ الخطر [الأكبر] يكمن في فعل الخير لا في فعل المعصية .. فإنَّه يكمن في ذلك الموقف الّذي يرى فيه الإنسان؛ أنّ حديثه هو الّذي جمع شمل أولئك وأزال الخلاف الّذي كان بينهم، أو أنّ موقفه هو الّذي ساعد الفقير، أو أنّ إنجازه هو الّذي أدَّى إلى شفاء المريض، أو أنَّ قائمة الدواء الّتي كتبها هي الّتي شفتْ .. ففعله للخير هو الّذي ساعد الآخرين.
وعليه، فإن جاء مريض إلى الطبيب وشكره على شفائه، فعلى الطبيب ألّا يرى نفسه صاحب التأثير، وألّا ينسب هذا الفعل إلى نفسه. لماذا ؟ لأنَّه يتوجّب علينا أن نتذكّر في الحال أنَّ الإمام الصادق قد علّمنا أنَّ الله قد جعل الشفاء في إرادته، فإن أراد لهذا الدواء أن يشفي المريض فسيشفيه، وإلّا فلا. [وإن لم يُرد الله شفاءه] فلو أنّ الطبيب أعطى المريض ملء خزّانٍ مِنَ الأدوية بدلًا مِنْ تلك القطرة، لَما شُفي المريض. ومِنْ جانب آخر فلو أنَّ الطبيب أعطى المريض الماءَ بدل قطرة الدواء، سيُشفى المريض بذلك الماء [إن أراد الله شفاءه].
ففي أيّ شيء قد جعل الله الشفاء ؟ إنَّه قد جعله في إرادته، ثمّ إن تعلّقت إرادته بأمر [سيكون هذا الأمر وسيلةً للشفاء].
وفي أيّ شيء قد جعل الله العلم ؟ إنَّه قد جعله في ظهور اسم العليم وتجليه .. أمّا لو جلستَ تفكّر ألف ساعة في مطلب ما لَما اهتديت لكتابته .. فهل جاءتك تلك الفكرة الّتي كتبتها من عندك، وهل كانت تلك المواضيع والأسرار الّتي أودعتَها في كتابك هي مِنْ عندك ؟ فإن كان ذلك مِنْ عندك، فلماذا لم تكن تعلم عنها أيّ شيء مِنْ قَبْل ؟! ومِنْ أين حصلت على قدرة إنفاذ الكلام في قلوب الآخرين، ألم يكن الله هو الّذي أجرى ذلك الكلام على لسانك فاستفاد منه الآخرون الآن ؟! أذلك مِنْ عندك أم أنَّه هو المتكلّم والمُلقي {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى}۱.
كل ما لدينا هو من الله وليس من أنفسنا شيئ
رحم الله مولانا الروميّ، فما الّذي قاله في هذا المجال .. سمعتُ بأنَّه قد تمّ عقد مؤتمر حول مولانا الروميّ، وقد اعترض البعض على انعقاده، والحال أنّه لو أقام هذا البلد ثلاثمائة وستين مؤتمرًا في السنة لمولانا لَمَ وُفِّيَ بحقّه .. فأين يمكننا العثور على المعارف، فهل نستطيع العثور عليها في الكتب المتضمّنة لأحكام الحيض والنفاس، أم أنَّنا سنجدها في كلمات هؤلاء العظماء .. فهم وحدهم الّذين أوفوا الموضوع حقّه .. نعم، لقد أدَّى أمير المؤمنين المطلب حقّه، كما أدّاه هؤلاء العظماء مِنْ تلامذته [عليه السلام]. [أيعترضون على اتعقاد مؤتمر لمولانا] في الوقت الّذي يعقدون مجلسًا لفلان الّذي رحل عن الدنيا، ويسردون فيه ما قام به مِنْ أعمال قائلين: لقد بنى فلان بناية في مكان كذا، وبنى مستشفىً في مكان كذا. [وعلينا أن نتساءل هنا:] ما هو مصدر الأموال الّتي بنى بها تلك المشاريع، وأيّ بستان مِنْ بساتينه باع مِنْ أجل تمويلها، هل كان قد عمل في بيع الخضار فجمع مالًا موّل به تلك المشاريع ؟! لا شكّ أنَّه استفاد مِنْ أموال إمام الزمان، فاستثمرها في تمويل تلك المشاريع .. وهو عمل جيّد أن يقوم ببناء مدرسة وأن يقدّم مساعدات للأيتام، فكلّ ذلك عمل جيّد، إذ الناس قد أعطوه أموالًا فاستثمرها في بناء هذه المشاريع، فجزاه الله خيرًا على ما قام به غير أنَّ الأمر لا يستحق الكلام عنه.
لا شكّ أنّ بعض الناس يدركون حقيقة الأمر، فليست المسألة بالشكل الّذي يغفل عنه الجميع، فكان هنالك مِنَ العظماء مَنْ أدرك الحقيقة.
كنتُ في مدينة مشهد في محضر المرحوم العلّامة يومًا حين زاره أحد الفضلاء مِنْ سكّان مدينة قم – ولا يزال على قيد الحياة وهو متقدّم الآن في السنّ كثيرًا، وهو إمّا شارك المرحوم العلّامة الغرفة أيّام الدراسة أو أنَّه كان زميلًا له في البحث – فقال: لقد شهدتُ الساعات الأخيرة مِنْ حياة المرحوم آية الله البروجرديّ رحمه الله – كان المرحوم البروجرديّ رجلًا عظيمًا جدّا وكان مِنْ أهل الإخلاص، لا أستطيع أن أقول أنَّه بلغ تلك الدرجات العليا، فذلك ممّا لا علم لي به، إلّا أنَّني عندما أقرأ سيرته وأحواله الشخصيّة أجده يختلف عن الكثير ممّن أعرفهم – ثمّ قال الزائر: فكان ممدّدًا على فراشه يبكي. فقلتُ له: لماذا تبكي ؟ فردّ عليّ بهذه العبارة: أبكي على عمري الّذي ضاع وانقضى وأنا لا أمتلك متاعًا وزادًا لرحلتي القادمة.
لا شكّ أنّ المزاح ينتفي في مثل هذا الموقف، إذ هي الساعات الأخيرة مِنْ عمر الإنسان، فهنا يتوقف تردّد الآخرين على الرجل ومدحهم له ورفْع أصواتهم بالصلوات عند قدوم آية الله فلان .. فإن كان الناس لا يعتقدون بذلك، فعبد الله هذا الّذي على وشك المغادرة يُدركه جيّدًا ويصدّقه تمامًا؛ فهو يعلم الآن أنَّ لقب آية الله وحضرة فلان يعود إلى الأيّام السالفة الّتي انتهت الآن، وحان وقت جناب عزرائيل الّذي سيأتي بعد ثلاث ساعات ليطرق الباب وهو يقول: لقد انتهى العهد الّذي كنتَ فيه تُلقّب بآية الله أو الدكتور أو الطبيب أو المخترع أو المكتشف أو التاجر أو الكاسب أو المهندس. فسينتهي أمرك سواء كنتَ رجلًا عاديّا أم عالمًا، شيخًا كبيرًا كنتَ أم شابّا أم صبيّا. نعم، لقد انتهى ذلك العهد، وها قد جاء دوري، فها أنا أدخل عليك الغرفة ودون أن يتمكّن أحدٌ مِنْ منعي، حتّى لو أحضرتَ كافّة أنواع أسلحة العالم وأحطت بها بيتك، بل حتّى إن استعملت القنابل الذريّة – الّتي يجري حولها نقاش شديد هذه الأيّام – فلن تنفعك في شيء. نعم لن ينفعك إحاطة بيتك بالدبّابات والسفن والطائرات الحربيّة للوقوف في وجه عزرائيل، فهو سيأتي بكلّ بساطة ويطرق الباب ويسلّم عليك ويقول لك: لقد تجاوزتُ جميع تلك الموانع وها قد وصلت إليك وأنت وحيد، فماذا لديك الآن ؟! فالدبّابة والصاروخ والسفينة لا يعنونني في شيء. أترون في أيّ تخيلات يغرق الناس. فعندما أستمع أحيانًا إلى كلمات حكّام الدنيا وهم يهدّدون ويتوعّدون، أقول بجديّة: تعالوا هنا يا عباد الله واقرؤوا رواية عنوان البصريّ، وإن كنتم لا تجيدون العربيّة سأقوم بترجمتها لكم إلى اللغة الإنكليزيّة، فدعوا عنكم هذا الكلام وهذه الألاعيب وهذا التهديد. يقول عزرائيل: ها قد جئتُ وطرقت عليك الباب، فلا تستطيع الدبّابة والصاروخ إيذائي، ولا تتمكّن القنبلة النوويّة أو الهيدروجينيّة مِنَ الوقوف بوجهي أبدًا.
يقول ذلك الزائر: عندما وجدت المرحوم السيِّد البروجرديّ يبكي قلتُ له: لقد قمتَ ببناء المساجد. [فقال:] لن تنفعني في شيء – فالرجل كان يرى، نعم كان يرى بنفسه عدم فائدة ذلك – [قلتُ:] لقد بنيتَ كلّ هذه المدارس. [قال:] لن تنفعني في شيء. [قلتُ:] لقد قمتَ بمساعدة الطلّاب، ونشرتَ العلم. [قال:] لن تنفعني في شيء. [قلتُ:] لقد قمتَ بمساعدة الفقراء والمحتاجين – إنَّه يرى يده خالية مِنْ كلّ ما يمكن أن يُتمسّك به – ثمّ يقول الرجل: فقلت له عندها: هل تؤمن برواية المعصوم الّتي يقول فيها: مداد العلماء أفضل مِنْ دماء الشهداء۱ ؟ فقال: نعم، وأنا واقع في سلسلة سند هذه الرواية، وقد قمتُ بنقلها للآخرين. فقلت: أفلا تنفعك تلك الكتب الّتي ألّفتها – إذ كان المرحوم البروجرديّ قد ألّف كتباً، بمعنى أنّه أشرف على المشروع لا أنَّه كتبه بيده، وأعني بذلك كتاب «جامع أحاديث الشيعة» المعروف – فقال عندها: لعلّ ذلك ينفعني لأنّني نقلتُ فيه الروايات الواردة عن الأئمّة.
[أقول] لو كنتُ مكانه لقلتُ: وهذا أيضًا لن ينفعني. [اعلموا] أنّي لستُ بعارف، غير أنَّ العظماء علّمونا، لقد علمونا أنَّ الإنسان إن قام بعمل خير فلماذا ينسبه إلى نفسه، هذا مع حفظ كون الرجل عظيمًا للغاية غير أنَّ العرفاء علّمونا السعي لبلوغ ما هو أعلى مِنْ ذلك. فلدى الإمام الصادق ما هو أعلى مِنْ ذلك، ولقد صعد الإمام إلى تلك القمّة الّتي لا تعلوها قمّة. إنَّ أولئك الرجال كانوا عظامًا، وكانوا يتمتّعون بدرجات رفيعة، [غير أنَّها متنوّعة] فهنالك درجاتٌ بارتفاع مترٍ واحدٍ – وهي درجة يتوجّب أن نترحّم على صاحبها مائة مرّة أكثر مِنْ صاحب درجة العشر سنتيمترات – ودرجاتٌ بارتفاعِ مترينِ وثلاثةِ، غير أنَّ الإمام الصادق يضع قدمه على تلك الدرجة الّتي لا تعلوها درجة. فما هي تلك الدرجة ؟ إنَّها مقام العبوديّة، المقام الّذي يُقال فيه كن عبدًا، أي كن صفرًا لا تمتلك لنفسك شيئًا.
كنتُ يومًا في محضر أحد العظماء – الّذي انتقل إلى رحمة الله، والله أسأل أن يرفع مِنْ مقامه فله حقّ كبير في عنقي – فقال لي: يا فلان، لقد خاطبتُ الله يومًا فقلتُ له: إلهي لقد اشتغلتُ بالتدريس والتأليف ونشر مباني الدين، وقمتُ بأعمال في شهر رمضان وصليتُ بالناس وأرشدتهم – لقد كان هذا الرجل عظيماً حقّا مُعرضًا عن الدنيا وهو يختلف عن غيره وهذا ممّا لا شكّ فيه، غير أنَّ هناك أمرًا يفوق هذا الشيء – إلّا أنّه يا إلهي ليس لديّ إلّا أمرًا واحدًا لأقدّمه لك وهي الأشهر الستة المتوالية، الّتي لم يتخلّلها توقف ولو ليوم واحد، والّتي أمضيتُ لياليها مستيقظًا حتّى الصباح ونهارها صائمًا إلى الليل. فلْيكن هذا هو العمل الوحيد الّذي قمتُ به مِن أجلك ولا عمل غيره.
وعند خروجنا مِنْ بيته، التفتُّ إلى أحد الأصدقاء الّذي كان معي، وقلتُ له: لو كنتُ مكانه لَما قلتُ حتّى هذا الكلام، إذ مَن وفّقك لإحياء الليل إلى الصباح .. فلو أنَّ الله كان قد أغمض عينيك [في إحدى تلك الليالي]؛ أفما كان صوتك سيرتفع بالبكاء والعويل قائلًا: ها قد نمت ساعة مِنَ الليل. وللطمتَ رأسك وقلتَ: يا للويل فقد فسد كلّ شيء، فلم أوفّق [للمواظبة على البرنامج] إلّا لثلاثة أشهر فقط، وقد فسُد الآن بسبب الساعة أو الساعتين الّتي نمتها. [أقول] إن كنتَ قد نمتَ فقد نمتَ، فهذا لا يوجب الحسرة ... يجب عَلَيّ من باب الأدب أن لا أذكر بعض الأمور، والأخوة يعرفون الحال.
شحْذ الهمّة وخلوص النيّة من المباني التوحيديّة
لا ينبغي أن يتخلّل عملنا أيّة شائبةٍ وتعلّقٍ نفسانيّ؛ فما المشكلة في أن يغلب النومُ على الإنسان في وقت مِنَ الأوقات، أو أن ينام قليلًا عند شعوره بالتعب، فهل أوجب الله علينا عدم النوم عند الشعور بالتعب ؟! كلاّ، بل يمكننا أن ننام لساعة أو ساعتين ثُمّ ننهض [للعبادة]، غير أنَّنا نحن الّذين نريد أن نبقى مستيقظين طوال الليل حتّى الصباح، وذلك لكي نقول أنَّنا قد قمنا بعمل متميّز. هذا أمر لا يقرّه منهج العرفان، فالمنهج المبنيّ على التوحيد يقول: عليك أن تشحذ همّتك وتُخْلِص نيّتك، فإن تمكّنت أن تبقى يقظًا فقد حصل المطلوب، أمّا إن غلبك النوم فلا ضير في ذلك. حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم. فلأيّ شيء جعل الله النوم ؟! إنَّ الجهاز العصبيّ للإنسان يحتاج إلى النوم والراحة، فيستطيع المرء أن ينام لساعتين ثمّ يقوم لأداء أوراده وأذكاره بحضور قلب .. أذلك خير أم أن يؤدّي الأوراد وهو متعب فتأخذه الغفوة حينًا بعد حين ويتمايل رأسه ذات اليمين وذات الشمال، فأيّ الحالتين أفضل ؟!
ألم يكن النبيّ ينام، متى بقي النبيّ مستيقظًا طوال الليل لستّة أشهر متوالية ؟ بل إنَّ طريقة تهجّد النبيّ كانت بأن ينام لساعتين ثمّ ينهض ويصلِّي أربع ركعات، ثمّ ينام مرّة أخرى لساعة فينهض بعدها ليصلِّي أربع ركعات أخرى، ثمّ يصلِّي الركعات الثلاث المتبقيّة إلى أن يطْلُع الفجر فيصلّي حينئذٍ صلاة الصبح. وقد أوصانا المرحوم العلّامة بأداء صلاة الليل على هذا النحو. ومَنْ لا يتمكّن مِنْ أدائها بهذا الشكل يستطيع النهوض قبل آذان الصبح بساعة [لأدائها]، غير أنَّ كيفيّة صلاة الليل في الأساس هي بالشكل الّذي ذكرناه أولًا. نعم، لقد كان النبيّ ينام أيضًا، فهل كان يرتكب خطأ بنومه ؟! ألم يكن أمير المؤمنين والإمام الصادق والإمام الرضا ينامون أيضًا ؟! نعم، كانوا ينامون ثمّ ينهضون للصلاة. فما الضير في ذلك ؟! فنحن مِنَ النوع البشريّ ولسنا مِنَ الملائكة. على أنَّ مَنْ يتمكّن مِنَ استيقاظ الليل كلّه لمدة ستة أشهر، فهو رجل حقّا.. هذا في الوقت الّذي شاهدتُ بنفسي مَنْ لا ينهض لصلاة الصبح ما لم يُوقظه أحد، فإن لم يوقظه أحدهم كان يؤدِّي صلاته قضاءً. وعليه فإن قام رجل بذلك العمل وبتلك الكيفيّة، فلا يمكننا أن ننظر إلى عمله هذا على أنَّه عمل عاديّ وهَيّن.
الهداية تشمل الجميع مع اختلاف في الكيفيّة
علينا أن نعرف هنا النهج الّذي كان ينتهجه أمير المؤمنين؛ إنَّ أمير المؤمنين قد وضع قدمه على أعلى القمّة، وبشكلٍ لم يسبقه إليه أحد، فهو يقول: أنا عبد، فكلّ مَنْ يريد سلوك الطريق الّذي سلكته عليه أن يكون عبدًا، فعندما تصلِّي أو تصوم عليك أن لا ترى نفسك أنّك أنت المصلِّي أو الصائم، وعندما تُنفق فعليك أن تقول: مَنْ أكون حتّى أتمكّن مِنَ الإنفاق. وإن رأيت نفسك عالمًا فعليك أن تقول: مَنْ أنا حتّى أكون عالمًا، ألّا ترى كيف يخاطب الله نبيّه بالقول {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى}۱، فما هو الفرق بيننا وبين النبيّ مِنْ هذه الناحية.
فإمّا أن نقول أنَّ هذه الآية كاذبة وأنَّ الله يمزح معنا – والعياذ بالله مِنْ هذا القول – أو أن نقول أنّه ذكر ذلك مِنْ أجل تعليمنا أمّا مقام النبيّ فهو أعلى مِنْ ذلك، وهذا يعني أنّ ما ذكره كان فيلمًا تمثيليّا وأنّ الله أراد أن يخبرنا بضلالنا وأنّه أرسل إلينا نبيّه لهدايتنا. كلّا أيّها السادة [فليس هذا صحيحًا ولا ذاك] بل إنّ هدايتنا والّتي تتمّ بواسطة أولياء الله والأئمّة وعلى رأسهم رسول الله صلّى الله عليه وآله، هي نفسها الهداية الّتي تتعلّق بالنبيّ والأئمّة مع اختلاف في كيفيّتها وشكلها وطريقتها فقط. فالهداية واحدة وهي مستندة إلى ذات الله تعالى وهي خاصّة بذات الله فقط، إلّا أنّها تصل إلينا بشكل معين وتكون لهم بشكل آخر، وتنتهي [في الحالين] إلى مصدر واحد لا إلى مصدرين، وهذا ما علّمنا إيّاه أمير المؤمنين والإمام الصادق عليهما السلام.
العارف لا يرى في نفسه ولنفسه شيئا
قد أتى أمير المؤمنين مِنَ المدينة إلى المدائن وكتب بأصبعه على قبر سلمان. وهل نعرف أحدًا مِنْ أصحاب النبيّ أو أصحاب أمير المؤمنين مَنْ هو أعلى درجة مِنْ سلمان .. لا يوجد مَنْ هو أعلى درجة مِنْ سلمان. فمع ما لسلمان مِنْ مقام، وما له مِنْ فضائل لم تخف على أحد وهي أظهر مِنَ الشمس، نرى الإمام يكتب تلك الكلمات على قبره. نعم، لقد كتب الإمام شيئًا غير [ما يُكتب اليوم على القبور مثل:] جناب السيِّد الفلاني وكذا وكذا.
كانت الكتب الّتي تُألّف في عهد الملك ناصر الدين شاه ومظفر الدين شاه، يُكتب فيها مِن الألقاب ما يعادل مقداره جزءً مِنَ القرآن، مثل: خاقان۱ الدولة وسلطان السلاطين، والخاقان ابن الخاقان ابن الخاقان .. فما الّذي يجري يا هذا .. فكم يبلغ وزنك حتّى يكتبوا لك كلّ هذا العدد مِنَ الألقاب كـ الخاقان ابن الخاقان ابن الخاقان والسلطان ابن السلطان ابن السلطان ؟! إذ لا ميز بين عدمٍ وعدم، فالأعدام لا تختلف عن بعضها، فسواء كان اللقب هو هذا أو ذاك، فلا فرق بينها؛ إذ ليست إلا أوهامًا وتخيّلات. إنَّ أمير المؤمنين تخلّص مِنْ كلّ ذلك وأراح بما كتبه. فإن كنتَ تريد أن يُكتب على حَجَرِ قبرك شيئًا، فيمكنك أن تكتب [ما كتبه × على قبر سلمان]:
وفدت على الكريم بغيرِ زادٍ | *** | مِنَ الحسناتِ والقلبِ السليمِ |
فحَمْل الزادِ أقبح | *** | كلّ شيءٍإذا كان الوفود على الكريم |
أي ها قد وفدتُ على عظيم ويداي خاليتين، فلم أجلب معي أيّة هديّة تليق بمقامِ العظيمِ الّذي وفدتُ عليه.
أتعلمون كم عَمَّرَ سلمان ؟ إنَّ أقلّ ما جاء في الروايات عن عمر سلمان هو مائتان وعشرون عامًا، وجاء في بعض الكتب أنَّه عمّر ثلاثمائة وثمانين عامًا. ولم أرَ في الكتب مَنْ ذكر أقلّ مِنْ مائتين وعشرين عامًا. نعم، لقد عمَّر سلمان طويلًا، وكان قد التقى بالكثير مِنَ العظماء وأولياء الله، وقصّته معروفة .. وكان قد أُسِرَ وجرى عليه ما جرى إلى أن وصل إلى النبيّ أخيرًا، ومِنْ هناك وصل إلى مقام «سلمان منَّا أهل البيت»٢، وقال فيه الإمام الصادق أنّه قد حاز على درجات الإيمان العشر كلّها٣. ونادرًا ما نجد كلامًا مثل هذا الكلام صادر بحقّ أحد أصحاب الأئمّة. نعم، يوجد مَنْ صدر بحقهم مثل هذا الكلام إلّا أنّ عددهم كان قليلًا – ثلاثة أو أربعة – كجابر بن يزيد الجعفيّ وحبيب بن مظاهر.
يقول أمير المؤمنين [في تلك الأبيات] أنّ سبب نيل سلمان ذلك المقام مكتوبٌ في الشعر الّذي حفرته على قبره، وهذا الشعر يحكي عن ذلك المقام، وذلك حيث يقول: «وفدت على الكريم بغير زاد»، إنَّ الوفود يعني الحلول والنزول، أي ها قد وفدت على كريمٍ وأنا بدون زاد أو متاع مِنَ الحسنات، فليس لديّ أيّة حسنة لا ظاهرةٍ ولا باطنةٍ؛ فمِنْ حيث الظاهر فلم يكن عملي الظاهريّ صالحًا، ومِنْ حيث الباطن فلم أتمكّن مِنْ تحصيل قلب وضمير سليمين وصالحين لكي أعرضهما على ربي ..
فلم أجلب معي عملًا ظاهريّا صالحًا ولا نيّةً باطنيّةً صالحةً، وأنا افتخر بذلك .. وما هو وجه الافتخار في هذا ؟ إنَّ وجه الافتخار يتمثّل فيما يلي: لو أنَّ رجلًا كريمًا دعاك إلى بيته لتناول طعام الغداء مثلًا، فهل مِنَ اللائق أن تجلب طعامك معك إلى منزله .. ألا يُعدُّ هذا التصرّف إهانة لذلك الكريم ؟! بل إنَّ تصرّفًا كهذا يمثّل أكبر إهانة يمكن توجيهها لشخص .. لذا نراه يفتخر [أنّه لا يحمل زادًا] فحَمْلُ الزاد أقبح كلّ شيء، نعم إنَّه أقبح مِنْ توجيه ألف إهانة إذا كان الوفود على الكريم والدخول في كنف حمايته ومحلّ إكرامه.
فأيّة مدرسة هذه ؟ إنَّها مدرسة أمير المؤمنين، وهي مدرسة العرفان. وهكذا نرى تلميذ هذه المدرسة يقول في شعره نفس ذاك الكلام، فلا يتفاخر بأنّه بنى هذه البناية وتلك، وأنّ عنده عددَ كذا مِنَ التلاميذ، وأنّه عمل على تربية وإعداد هذا العدد مِنَ الناس وعلى إرشادهم وهدايتهم، إلى أن ينادي تعال يا علِيّ وانظر ما الّذي قمتُ به .. كلّا، بل نرى هذا التلميذ يقول:
ذَهَبَ الْعُمْرُ ضِياعًا وانْقَضى | *** | بَاطِلًا إذْ لَمْ أفُزْ مِنْكُمْ بشيْ۱ |
هذا ما قاله العارف المصريّ ابن الفارض، الّذين يدّعون أنَّه سنيّ المذهب، فانظر ما الّذي يقوله، إنَّه يقول: «ذَهَبَ الْعُمْرُ ضِياعًا وانْقَضى» أي لقد ذهب عمري وضاع بالبطالة، فلم أتمكّن مِنْ استثماره للوصول إلى هدفي في غمار هذا البحر العظيم .. فها هو البحر أمامي بعظمته إلّا أنّني عطشان، فأين أنا مِنْ هذا المقام العظيم، وأين أنا مِنْ هذا العالَم وهذه النِعَم، فكلّ ما حصلت عليه هو:
غَيْرَ مَا أوليتُ مِنْ عَقْدِ وَلَا | *** | عِتْرَةِ الْمَبْعُوثِ مِنْ آلِ قُصَي٢ |
يقول: إنَّني أمتلك شيئًا واحدًا فقط وقد مُنحته منحًا – فهو هنا لا يقول أنّه يمتلكه بل قد مُنِحَه – وهو الشيء الوحيد الّذي ابتهج لحيازته ألا وهو حبِّي لأهل البيت وعِقد الولاء لأهل البيت الموجود في قلبي والذي مُنحته مِنْ صاحب الولاية وأهل البيت. فهو يقول: لقد شملتني الرعاية بأن مُنِحْتُ عِقد الولاء هذا والّذي تعلّق به قلبي، فولاية أهل البيت هو الشيء الوحيد الّذي يمكن لي أن أفتخر به. فمَنْ الّذي يقول هذا الكلام ؟ إنَّ قائله عارفٌ وتلميذ هذه المدرسة، هُم الّذين جاؤوا مِنْ أجل بيان هذه الأمور لنا.
به هوش باش كه هنگام باد استغنا | *** | هزار خرمن تقوى به نيم جو ننهند۱ |
[يقول: كن حذرًا واعلم أنَّه إن هبّت ريح الاستغناء فلن يكون لألف بيدر مِنَ التقوى قيمةَ نِصفِ حبّة مِنَ الشعير].
أي متى ما هبّت ريح الاستغناء وتجلّى مقام جلال الله وعظمته، فما الّذي سيبقى للإنسان عندها لكي يستطيع أن يستعرضه أمام الله، فهل يستعرض تقواه أمام الله ويتباهى به، فهل سيقف أمام الله قائلًا: كنتُ تقيّا وعملتُ صالحًا طوال مدة حياتي .. [فإن قال ذلك سيُجاب] لو أنَّنا جمعنا ألف بيدر مِنَ التقوى لنستعرضه أمام الله، لأتتْ عليه تلك الريح العاتية وجعلت مِنْ ذلك البيدر هباءً منثورًا ولتناثر في الهواء بالشكل الّذي لا يبقى على الأرض منه حبّة حنطة أو شعير واحدة يمكن لأحدنا أن يتباهى بها.
كم هو عجيب ذلك الشعر الّذي أنشده مولانا الروميّ قائلًا:
ما چو ناييم و نوا در ما ز تست | *** | ما چو كوهيم و صدا در ما ز تست٢ |
[يقول: إنَّ مثلنا كمثل الناي، وهذه النغمة الّتي تصدر منَّا إنَّما هي صادرة منك في واقع الأمر. ومثلنا كمثل الجبل، وهذا الصدى الّذي يتردّد فينا إنَّما هو صدى صوتك].
أي مَنْ يدّعي أنَّه يستطيع القيام بعمل خير في هذه الدنيا، فليس هو [في الحقيقة] مصدراً لعمل الخير، بل يتمّ ذلك بتوفيق منك يا ربِّ، فأنت الّذي قمتَ بعمل الخير وبتوفيقك لنا حصل، ولو لم تشأ ذلك لَمَا تمكّنا مِنَ القيام به، ولَمَا تمكّنا مِنَ الحضور هنا؛
ما كهايم اندر جهان پيچ پيچ | *** | چون الف از خود ندارد هيچ هيچ |
ما همه شيران ولى شير علم | *** | حمله مان از باد باشد دم به دم |
حمله مان از باد و ناپيداست باد | *** | جان فداى آن كه ناپيداست باد٣ |
[يقول: مَنْ نكون وما هو موقعنا في هذه الدنيا الشديدة التعقيد. فلسنا فيها إلّا كحرف الألف المجرّد الّذي لا يمتلك لنفسه شيئًا.
كلّنا يدّعي أنَّه أسد، غير أنَّنا لا نتعدّى كوننا صورة الأسد المرسومة على عَلَم. فهجوم تلك الصورة ليس هجومًا حقيقيّا، بل حركتها الّتي تبدو هجومًا ناتجة عن تحريك الريح للعلم آناً فآن.
نعم، إنَّ هجومنا المجازيّ هذا إنَّما يكون بفعل الريح. غير أنَّ تلك الريح لا تُرى، فروحي فداء لذلك الّذي لا يُرى].
عمّن صدر هذا الكلام .. إنَّه صدر عن ذلك الرجل .. فأين يمكننا أن نعثر على مثل هذا الكلام .. هكذا هي مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام، وهكذا تكون مدرسة العبوديّة، وهكذا هو مذهب التشيّع.
المعارف الإلهيّة فخرنا لا نتنازل عنها قيد أنملة
أيكون سنيّا ذلك الّذي يقول شعرًا كهذا ؟! كيف لمولانا۱ أن يحترم أبا بكرٍ وعمر، فهو لا يعطيهم منزلة ... وهذا الرجل هو الّذي قال في حقّ أمير المؤمنين:
رومــي نشد از سرّ علي كس آگاه | *** | زيـــرا كــه نشد كس آگه از سِرّ إله٢ |
[يقول: لم يتمكّن أحدٌ مِنَ الاطّلاع على السّر المكنون في عَلِيّ، كما لم يتمكّن أحد مِنَ الاطّلاع على سرّ الإله].
أيكون سنيّا هذا الّذي [يشبّه سرّ عليّ] بسرّ الله .. [ويقول أيضًا]:
يك ممكن و اين همه صفات واجب | *** | لا حَــــــوْلَ وَ لا قُــــــوَّةَ إلّا بالله٣ |
[يقول: صحيح أنَّه ممكن الوجود، غير أنَّه يحمل جميع تلك الصفات المختصّة بالواجب، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله].
فمَنْ يطّلع على شعر مولانا هذا ويقول عنه أنَّه سنيّ، عليه أن يجدد النظر في معتقداته. [وانظر أيضًا] حيث يقول:
از علِى آموز اخلاص عمل | *** | شير حق را دان منزه از دغل٤ |
[يقول: تعلّم مِنْ عَلِيّ الإخلاص في العمل، واعلم أنَّ عليّا هو أسد الله المنزّه عن كلّ دَغَلٍ٥]
هذا مضافًا إلى أشعاره الأخرى .. فهل يمكن أن تَصدر مثل هذه الأشعار عن رجل سنيِّ المذهب ؟! إنَّ مولانا هو ذلك الرجل الّذي يفتخر به الإسلام، بل يفتخر به جميع أهل العالَم.
علينا ألّا نفتخر باشتغالنا بالأحكام الشرعيّة الظاهريّة فقط وببيانها للآخرين، بل يجب أن نفتخر بتلك المعارف الّتي تمّ بيانها مِنْ قِبَل أولياء الله والّتي اسْتَقُوْها مِنْ مذهب أهل البيت عليهم السلام. وهي تلك المعارف الّتي استقرّت على قمم المعرفة العالية وهي آخذة بالانتشار الآن وبالنفوذ [في النفوس]. نعم، يجب أن تكون هي موضع فخرنا، لا تلك المسائل والأحكام الظاهريّة أمثال مسألة موضع اليدين أثناء الصلاة إسبالًا أم تكتّفًا.
فهل يمكن أن يُعتبر شيعيّ ذلك الّذي ينكر صدور زيارة عاشوراء عن الإمام المعصوم، ويكون مولانا [الروميّ] هو السنّي ؟! وهل يمكن أن يكون [شيعيّ] ذلك الّذي ينكر حديث القلم والقرطاس، وهي الحادثة الّتي مَنَعَ فيها عمر أن يُحضروا القلم والقرطاس اللذين طلبهما النبيّ ليَكتب في ساعاته الأخيرة كتابًا لن يضلّوا مِنْ بعده أبدًا، عندما قال عمر: إنَّ الرجل ليهجر – نعوذ بالله مِنْ قوله هذا – أيمكن أن يكون شيعيّا هذا الّذي ينكر ما صدر عن عمر، ويكون مولانا هو السنِّي؟! أويمكن أن يكون شيعيّا ذلك الّذي يُنكر أنّ عمر ضرب بنت النبيّ وقطّع جسدها الطاهر، ويكون هؤلاء [أي مولانا وأمثاله] مِنَ السنّة ؟! أوَيمكن أن يكون شيعيّ ذلك الّذي يرى الإمام في مستوى عامّة الناس لا اطّلاع له على عالم الغيب، ويرى أنّ طريقة تفكير الإمام وعلمه كطُرق تفكيرنا وعلومنا، سوى ما يمنَّ الله عليه أحيانًا فيمكّنه مِنْ بيان حكم أو مسألة ما، ويرى أنّ الإمام لا اطّلاع له على ما سيجري في الغد أو بعده ولا على ما يجري في نفوس الآخرين ولا في أيّ شيء آخر، أيمكن أن يكون هذا الرجل شيعيّا، ويكون مولانا الروميّ سنيّا ؟!
تعريف معنى التبعيّة لأهل البيت
كيف يمكن تعريف معنى التبعيّة لمذهب أهل البيت ؟ فهل يكفي أن نعمل بما جاء في روايات الأئمّة عليهم السلام، وأن نجعلها مبنانا الفقهيّ [لكي تصدق علينا التبعيّة لهم] ؟ إنَّ مَنْ يرى أنّ الإمام الصادق عليه السلام لا يتجاوز كونه رجلًا عاديّا، فما الفرق عنده حينئذ فيما إذا أخذ رواياته الفقهيّة عن الإمام الصادق عليه السلام أو أخذها عن أبي حنيفة .. ثمّ إنّ نفس الروايات المرويّة عن الإمام الصادق عليه السلام تختلف وجهات النظر فيها، وكذلك الروايات المرويّة عن بقيّة الأئمّة، فنرى البعض يفتي بنجاسة شيء والآخر يحكم بطهارته ! فهل يمكن أن يكون الإمام قد تكلّم بكلامين مختلفين ؟! [لا يمكن ذلك لأنَّ] الشيء الخارجيّ إمّا أن يكون طاهرًا أو نجسًا.
إنَّ الأساس الّذي يبتني عليه المذهب الشيعيّ هو ولاية الشيعة لأئمّتهم، لا عملهم بالأحكام الظاهريّة، على أنَّ تلك الأحكام ستصلهم طبعًا وذلك تبعًا لإيمانهم بتلك الولاية. فالشيعيّ الّذي يؤمن بولاية الإمام الصادق عليه السلام ويعتبره وليّ أمره ويسلّم جميع أموره إليه، سيأخذ أحكامه بكلّ تأكيد عن الإمام، فلا معنى لأن يتابع أبا حنيفة فيها.
وهذا نفس ما ذكرته في الجزء الأول أو الثاني [مِنْ كتاب أسرار الملكوت] وذلك عند الحديث الّذي دار بين المرحوم العلّامة [الطهرانيّ] والمرحوم العلّامة الطباطبائيّ حول تلامذة المرحوم القاضي، [حيث قال العلّامة الطهرانيّ:] كيف يمكن لمن يؤمن بقدرة ولي الله على الإرشاد والهداية أن يأخذ أحكامه عن مرجع آخر ؟! على الإخوة قراءة هذا الموضوع، ففيه مطلب دقيق.۱
إنَّ مَنْ يؤمن بولاية أهل البيت، مِنَ الطبيعيّ أن يأخذ أحكامه عنهم، لا عن مالك وأحمد بن حنبل أو أبي حنيفة، وهذا أمر طبيعيّ. غير أنَّ السؤال الذي يُطرح هنا: هل يقتصر الانتماء إلى المذهب الشيعيّ على أخذ الأحكام عن أهل البيت ؟ كلاّ، بل إنَّ ذلك لا يتجاوز خمس بالمائة مِنَ القضية، أمّا الخمس والتسعون منها يتمثّل في الإيمان بولاية وإمامة الإمام عليه السلام وبالإيمان بأحقيّة وأصالة المذهب المستند إلى ولاية الأئمّة عليهم السلام. فلولا هذا الأمر لن يكون هنالك تفاوت كبير؛ بين إسبال اليدين في الصلاة وبين التكتّف، وكذا بين السجود على التربة وبين السجود على الزجاج أو الآجُرّ٢ أو الخشب مثلًا .. نعم، لن يكون هناك فرق كبير.
وكنتُ قد ذكرتُ لكم أنّه: هل فُهمت الروايات الفقهيّة المأخوذة عن الأئمّة عليهم السلام طوال تاريخنا الفقهيّ بنفس الكيفيّة وعلى مفهوم ومعنى واحد ؟ كلّا، بل تبدّل فهمها ألف مرّة، فأفتى كلّ واحد مِنَ الفقهاء بفتوى معيّنة، فهذا أفتى بالنجاسة والآخر بالوجوب.
خذوا مثلًا موضوع صلاة الجمعة؛ كان قد كتب المرحوم العلّامة رسالة عنها، والّتي تمّت أخيرًا بتوفيق مِنَ الله وهمّة الأخوة والأصدقاء طباعتها باللغة العربيّة، وهو كتاب قيّم ومهمّ فعلى أهل العلم الاستفادة منه، وكنتُ قد استفدتُ منه كثيرًا. فانظروا كيف أفتى أحدهم بوجوب صلاة الجمعة وأفتى الآخر باستحبابها وأفتى ثالث بحرمتها في ظروف معيّنة، وأفتى آخر باستحسان الإتيان بها، هذا في الوقت الّذي قال فيه البعض أنّها كانت واجبًا تخييريّا حتّى في زمان رسول الله. ولا بأس في كلّ ذلك [التعدّد في الفتوى]، لماذا ؟ لأنَّنا لسنا معصومين، بل نحن نأخذ الروايات عن أهل البيت ونتعامل معها وفقَ مستوانا الفكريّ ووفق ما تعلّمناه وحفظناه وجمعناه في ذاكرتنا مِنْ مسائل وقرائن وشواهد مختلفة، وفي النهاية سيكون أحد الحُكمين هو الصحيح، إذ لا يتعدى الحكم الوجوب والحرمة.
وهذا ما يفعله السنّة أيضًا، فهم إمّا أن يحكموا على مسألة معيّنة بالوجوب أو الحرمة؛ ففي هذه الحالة ما هو الفرق بيننا وبينهم ؟ فلنأخذ موضوع الماء المضاف مثلًا، فنحن إمّا أن نحكم بأنّه يتأثّر وينفعل ويتنجّس، أو أن نحكم – كما يرى بعض الفقهاء – بأنّه لا ينفعل بالنجاسة، وهذا الأمر موجود عند فقهاء أهل السنّة أيضًا. وهكذا هو الأمر في الكثير مِنَ المسائل الفقهيّة؛ فهي إمّا أن تكون بهذا الشكل أو بالشكل المخالف [سواء عندنا أو عند السنّة]، فما الفرق الواقعيّ والعمليّ [بيننا وبينهم مِنْ هذه الجهة]، إنَّنا نعمل بنفس الشكل الّذي يعمل به [السنّة]، غير أنَّنا نرجع في أحكامنا إلى الأئمّة عليهم السلام أمّا هم فيأخذونها عن أبي حنيفة، ولكن التطبيق الخارجيّ واحد.
كما أنَّ بيانات الأئمّة عليهم السلام للأحكام لم تصلنا بصورة مباشرة، بل الإمام بيّن الحكم لأحدهم فقام هذا الأخير بنقله إلى غيره [وهكذا إلى أن وصلت إلينا]، ونحن لا نعلم إن كانت الرواية قد حُرّفت خلال نقلها [مِنْ شخص لآخر]، كما أنّنا لا نعلم شيئًا عن وثاقة أفراد سلسلة السند؛ فعلينا أن نعمل ونبذل الجهد اللازم في إجراء التحقيقات المطلوبة في هذا المجال مِنْ أجل الوصول إلى الرأي الأقرب إلى الصحّة، ومِن غير المعلوم أن يكون هو الرأي الصحيح بالفعل.
بناءً على ذلك، فأساس المذهب الشيعيّ لا يبتني على العمل الظاهريّ وفقًا للأحكام الشرعيّة وما جاء في الروايات، بل هو مبنيّ على الإيمان بولاية الأئمّة وكونهم الوسائط بين الله وخلقه، ومبنيّ على الإيمان بإمامة الأئمّة عليهم السلام وبخصائصهم وصفاتهم وآثارهم الوجوديّة؛ وهذا الاعتقاد هو الّذي يجعلنا في مقام العمل نتّبع روايات الإمام الصادق عليه السلام حصرًا، إذْ لا معنى لأنْ نعتقد بولاية الإمام ثمّ نأخذ بروايات غيره.
ثمّ إنّ السنّة ينقلون الكثير مِنَ الروايات عن الإمام الصادق. لماذا ؟ لأنَّهم يعتقدون أنَّه واحد مِنَ الفقهاء، فهل يمكننا أن نعتبرهم مِنَ الشيعة بسبب أنّهم يأخذون بتلك الروايات ؟ كلاّ، لا يمكننا ذلك. لماذا ؟ لأنَّهم لا يؤمنون بالولاية.
إنّ مذهب التشيّع قائمٌ على الاعتقاد بالولاية، ومِنْ آثار هذا الاعتقاد هو العمل وِفْقَ ما يَرِدُ عن مصدر الولاية، لا عمّا يُنقل عن أبي حنيفة ومالك وكلّ مخالف للأئمّة، ولا عمّن اتخذ مذهبًا مقابلًا لمذهبهم [عليهم السلام] .. ولِمَاذا كلّ هذه «اللاءات»؟ إنَّها تعود لِمَا أسلفنا [من أنّ الأساس هو الاعتقاد بولاية الإمام والعمل تابع لهذا الاعتقاد].
هذه هي حقيقة التشيّع، إنّ حقيقة التشيّع لا تعني مجرد العمل بالروايات والأحكام الظاهريّة، ولا علاقة لها بعدد الروايات الفقهيّة الّتي ينقلها فلان عن الأئمّة عليهم السلام، بل حقيقة التشيّع تعني الالتزام بنهج الأئمّة ومتابعتهم واقتفاء أثر الإمام عليه السلام. هذه هي حقيقة المذهب الشيعيّ.
علينا أن نتحرك ضمن نطاق اختصاصيّ وفي حدود سعتنا الوجوديّة
وعليه، تعالوا الآن وانظروا إلى ما يقوله بعض العلماء الّذين يُقال عنهم أنّهم مِنْ مفاخر عالم التشيّع !! ..
مِنَ الطبيعيّ أنَّه كلّما ازدادت مكانة المرء الاجتماعيّة ومقامه، ازدادت معه مسؤوليّته عن كلامه الصادر منه، فعلينا أن ننتبه إلى ذلك؛ فلا نعتمد على مكانتنا الاجتماعيّة لنقول كلامًا لا يقبله قاطبة أهل العِلم والفكر السليم فيؤدّي إلى الحطّ مِنْ أنفسنا ومِنْ تلك المكانة الاجتماعيّة الّتي اكتسبناها و [يؤدّي إلى] تشويه سمعتنا. وعلينا في هذا العصر – الّذي نُبذ فيه التعبّد الأعمى وفرْض الرأي بالقوّة، وحلّ محلّهما تحكيم العقل والتفكّر والتأمّل والتفكير السليم في المطالب الحقّة – ألاّ نطرح أمورًا تتناقض وتتعارض مع هذه المبادئ وهذا الطريق، فنعمل بذلك على الحطّ مِنْ مكانتنا وعلى تشويه سمعتنا بأنفسنا، وبالتالي نشوّه – لا سمح الله – سمعة الساحة المقدّسة لمذهب أهل البيت عليهم السلام.
فعلينا أن نتجنّب الخوض في المواضيع الّتي لا علم لنا بها، أو الّتي لنا اطّلاع محدود عليها .. فما المانع أن يتصدّى كلّ واحد منَّا لجزء مِنْ أجزاء تلك المعارف .. فلماذا أقوم بإبداء وجهة نظري في مواضيع لا علم لي بها .. فأنا لا علم لي بالمواضيع المختصّة بالعلوم الهندسيّة أو الطبيّة مثلًا، فإن قمت بإبداء وجهة نظري فيها سأسبّب لنفسي الإحراج والنقْد؛ فلذا، عليّ أن أتحرك ضمن نطاق اختصاصي وفي حدود سعتي الوجوديّة.
زرتُ أحدَ الرجال العظام يومًا، وهو رجل معروف وصالح، غير أنَّه يفتقد إلى العلم في الكثير مِنَ المسائل، فالتفتَ إليّ قائلًا: لقد تأسّفتُ كثيرًا على ما كتبه والدكم في مؤلفاته عن محيّ الدين بن عربي حيث اعتبره شيعيّا، فأنا كنتُ أحترم والدكم كثيرًا، غير أنَّه وبطرحه لهذا الموضوع قد أنزل مِنْ مكانته العلميّة.
فقلتُ له: وأنا أيضًا اعتقد أنّ محيّ الدين شيعيّا، وأوردتُ الأدلّة على ذلك .. ثمّ قلتُ له: لقد ذكر محيّ الدين ما يتنافى مع مباني المذهب الشيعيّ تقيّةً، ثم إنَّ بعض تلك الأمور المخالفة [للمذهب] محرّفة وذكرتُ الأدلة على ذلك. نعم، لقد كان سنيّا وهذا ممّا لا شكّ فيه، غير أنَّه قد أصبح شيعيّا بعد أن انكشفت له حقيقة الأمر. فها أنا أعتقد بنفس اعتقاد والدي، فإن شئتَ هلُمّ بنا نتناقش حول الموضوع .. فحاول أن يجيب ويثبت مدّعاه بكلامٍ، إلّا أنّه [بعد ردّي] وجد أنّ الأمر قد ضاق عليه أكثر .. وكان ابنه حاضرًا أيضًا، فقلتُ له: إن كان لديك ما تريد أن تقوله بهذا الشأن، فأنا مستعدّ للبحث والمناقشة. فلم يقل عندها شيئًا، واكتفى بقول: حسنًا، حسنًا.
ما الّذي يضطرنا إلى إبداء وجهة نظرٍ في مواضيع ليس لنا اطّلاع كافٍ عليها ؟! فيا عزيزي، هل كنتَ قد قرأتَ سطرين مِن المواضيع المتعلقة بالكلام الّذي قُلتَه قبل أن تتكلم ؟! علينا أن نعرف هنا أنَّ الإنسان سيدفع ثمن كلامه هذا، وأنّ الله سيحاسب على ذلك، وسيتعامل الله معهم بقهّاريته ..
خلوص التوجّه إلى صاحب الولاية
قال الله تعالى: «أوليائي تحت قِبابي لا يعلمهم غيري»۱. إنَّ الكثير مِنْ أولياء الله يطرحون المواضيع الّتي يريدون طرحها بشكل خفيّ ويلوّحون إليها بهيئة الألغاز لمن يستطيع أن يفهمها. فهل يمكن لمولانا [جلال الدين الروميّ] مع ما هو عليه مِنْ مقام شامخ وعظمة أن يتّبع أبا بكر وعمر ؟! ... .
كنتُ أقول لأخوتي أنّه عندما يعزمون على زيارة المدينة [المنوّرة]، ويدخلون حرم النبيّ عليهم أن لا تنصرف أذهانهم إلى المدفونين بجنب النبيّ، إذ مَنْ يكون ذلكما الرجلين [المدفونين جنب النبيّ] !! بل يجب أن يركّزوا توجهاتهم نحو النبيّ والسيِّدة فاطمة الزهراء المتواجدَين في هذا المكان. فليس مِنَ الصحيح التفكير بأمر هذين الرجلين الّذين لا يُعلم حقّا إن كانا متواجدين بالفعل أم لا، قد كانا موجودين في صدر الإسلام فقط ثمّ أهلكهما الله ومحاهما عن الوجود .. أليس مؤسفًا أن يجلس أحدنا في مسجد المدينة ويشغل وقته بالتفكير بموضوع دفن هذين الرجلين في هذا المكان، ويحرم نفسه مِنْ تلك النِعم ومِنْ التوجّه القلبيّ نحو صاحب النبوّة والولاية.
كنت أقف إلى جنب قبر النبيّ يومًا إذ جاءني طبيبان تركيان يسألانني عن مكان قبور الأول والثاني، فقلت لهما: تعالا معي، فلي معكما كلام. فذهبنا جانبًا وجلسنا، فقلتُ لهما: هل جئتما مِنْ تركيا إلى هنا لزيارة قبرَي أبي بكر وعمر ؟! فضحكا، فقلتُ لهما: أرجوا ألّا تنزعجا مِنْ كلامي، فالنبيّ هو كلّ شيء في ديننا. ثمّ قلتُ لهما: أتعلمان مَنْ يكون عمر؟! إنَّ عمرَ هذا هو الّذي قتل بنت النبيّ. فقالا: يا للعجب ! هل أنت جادّ فيما تقول ؟! قلتُ لهما: ألم تسمعا بهذا مِنْ قبل ؟ قالا: لا، لم نسمع به. قلتُ لهما: فاذهبا وطالعا كتبكم، وستجدان أنَّ عمرَ هو الّذي أحرق باب بيت صهر النبيّ [الّذي هو بحسب اعتقادكم] الخليفة الرابع أمير المؤمنين، ثمّ ضرب زوجته بنت النبيّ وطرحها أرضًا وأسقط جنينها، ثمّ تُوفّيتْ على إثر ذلك بعد شهرين مِنْ هذه الحادثة .. وبعد كلّ هذا تأتيان لتسألا عن قبره ! ... فأدركا خطأهما وغيّرا موقفهما في نفس المجلس تجاه أبي بكر وعمر.
أجل لا ينبغي أن تأتيا للبحث عن قبريهما بل يجب أن يكون قدومنا إلى هذا المكان مِنْ أجل النبيّ ومِنْ أجل الاستفادة مِنْ مقامه ومقام السيِّدة فاطمة الزهراء، أمِنَ الصواب أن نتركهما ونبحث عن غيرهما ؟!
كانتْ نيّتي الحديث عن الجزء الثاني مِنْ كلام الإمام الصادق عليه السلام، ولكنّ الحديث فيه يحتاج إلى وقت أكبر [ممّا هو متاح الآن]، ويبدو أنَّ التقدير شاء أن يقتصر الكلام على الجزء الأول من [كلامه ×] وهو أن يعلم الإنسان أنَّه لا يستطيع القيام بأيّ عمل ما لم يحظَ بالتوفيق الإلهيّ.۱ وها قد استنفذنا وقت هذا المجلس في الحديث عن هذا الجزء، وسنتكلّم في المجلس القادم عن الجزء الثاني مِنْ كلام الإمام إن شاء الله.
اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد